سُورَةُ الْبَقَرَةِ مَدَنِيَّةٌ

وَهِيَ مِائَتَانِ وَسِتٌّ وَثَمَانُونَ آيَةً

مدنيّة اخرج البخاري عن عائشة قالت ما نزلت سورة البقرة و النّساء الّا و انا عنده و هى مائتان و سبع «١» و ثمانون اية و ستة الف و مائة و احدى و عشرون كلمة و حروفها خمسة و عشرون الف و خمسمائة حرف

(١) عند اهل البصرة اما عند اهل الكوفة فمائتان و ست و ثمان اية- ابو محمد عفا اللّه عنه

_________________________________

بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١

الم (١) قيل في المقطعات في أوائل السور انها اسماء السور-

و قيل هى مزيدة للتنبيه على انقطاع كلام و استيناف كلام اخر-

و قيل هى اشارة الى كلمات منها اقتصرت عليها اقتصار الشاعر فقلت لها قفى فقالت لى قاف- اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم عن ابى العالية- الالف آلاء اللّه- و اللام لطفه- و الميم ملكه-

و اخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم عنه الر و حم و ن مجموعها الرحمن-

و عن ابن عباس ان الم معناه انا اللّه اعلم-

و

قال البغوي روى سعيد بن جبير عن ابن عباس المص انا اللّه اعلم و افصل و الر انا اللّه ارى و المر انا اللّه اعلم و ارى-

و قيل اشارة الى مدد أقوام و آجال بحساب الجمل-

روى البخاري في تاريخه و ابن جرير من طريق ضعيف انه صلى اللّه عليه و سلم لما اناه اليهود تلا عليهم الم البقرة فحسبوا فقالوا كيف ندخل في دين مدته احدى و سبعون سنة- فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالوا فهل غيره فقال المص و الر- و المر- فقالوا خلطت علينا فلا ندرى بايها نأخذ-

ورد هذه الأقوال بان كونها اسماء السور مستلزم لوقوع الاشتراك في الاعلام من واضع واحد و ذلك ينافى المقصود بالعلمية- و ايضا التسمية بثلاثة اسماء فصاعدا مستنكر و ايضا تسمية بعض السور دون بعض بعيد-

و بان هذه الألفاظ لم تعهد مزيدة للدلالة على الفصل و الاستيناف- و ان كان كذلك كانت على كل سورة- و بان الاقتصار على بعض حروف الكلمة غير مستعمل و اما الشعر فشاذ على ان في الشعر قوله قفى في السؤال قرينة على ان قولها قاف من وقفت بخلاف أوائل السور إذ لا قرينة هناك على ان الالف من الآء اللّه- و اللام لطفه و نحو ذلك-

و ما روى عن بعض الصحابة و التابعين فمصروف عن الظاهر و الا فهى اقوال متعارضة- و تخصيص حرف بكلمة من الكلمات المشتملة على تلك الحروف دون غيرها ترجيح بلا مرجح و بان تبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على فهم اليهودي- الظاهر انه صلى اللّه عليه و سلم تعجب على جهله-

و قيل انه مقسم بها لشرفها من حيث انها بسائط اسماء اللّه تعالى-

و مادة خطابه و هذا التأويل يحوج الى إضمار أشياء لا دليل عليها و اختار البيضاوي ان حروف التهجي لما كانت عنصر الكلام و بسائطه التي يتركب منها افتتحت السور بطائفة منها إيقاظا لمن يتحدى بالقران و تنبيها على ان المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون منه كلامهم فلو كان من عند غير اللّه لما عجزوا عن الإتيان بمثله و ليكون أول ما يقرع الاسماع مستقلا بنوع من الاعجاز- فان النطق بأسماء الحروف من الأمي معجزة كالكتابة سيما و قد روعى في ذلك ما يعجز عنه الأديب الفائق في فنه حيث أورد اربعة عشر اسماء نصف عدد أسامي الحروف في تسع و عشرين سورة بعدد الحروف مشتملة على انصاف جميع أنواعها من المهموسة و المجهورة و الشديدة و الرخوة و غيرها كما ذكر تفصيله- و ايضا الكلام غالبا يتركب من تلك الحروف الاربعة عشر دون البواقي-

قال و المعنى ان هذا المتحدى به مؤلف من جنس هذه الحروف-

و الحق عندى انها من المتشابهات «١» و هى اسرار بين اللّه تعالى و بين رسوله صلى اللّه عليه و سلم لم يقصد بها إفهام العامة بل إفهام الرسول صلى اللّه عليه و سلم و من شاء افهامه من كمل اتباعه

قال البغوي قال ابو بكر الصديق رضى اللّه عنه في كل كتاب سر و سر اللّه تعالى في القران أوائل السور-

(١) المتشابه فيه قولان

أحدهما انه يرجى نيل المراد منه بضرب من التأويل و التأمل

و الثاني انه لا يرجى نيل المراد منه فعلى القول الاول الرسول و غيره في ذلك سواء و الادلة التي ذكرت هاهنا يؤيد هذا القول

و على القول الثاني هو مختار الحنفية رحمهم اللّه ايضا الرسول و غيره سواء و الادلة المذكورة مخدوشة عندهم فينبغى تفصيل المذهبين و كذا دليل كل من الفريقين مع الجواب عن دليل المخالف حتى ينتظم الكلام-

و قال علىّ رضى اللّه عنه ان لكل كتاب صفوة و صفوة هذا الكتاب حروف التهجي- و حكاه الثعلبي عن ابى بكر و عن علىّ و كثير-

و حكاه السمرقندي عن عمرو و عثمان و ابن مسعود رضى اللّه عنهم أجمعين و حكاه القرطبي عن سفيان الثوري- و الربيع بن خثعم- و ابى بكر ابن الأنباري- و ابن ابى حاتم و جماعة من المحدثين- قال السجاوندى المروي عن الصدر الاول في الحروف التهجي انها سر بين اللّه و بين نبيه صلى اللّه عليه و سلم- و قد يجرى بين المحرمين كلمات معميات يشير الى اسرار بينهما-

و قيل انّ اللّه تعالى استأثر بعلم المقطعات و المتشابهات ما فهمه النبي صلى اللّه عليه و سلم و لا أحد من اتباعه- و هذا بعيد جدّا فان الخطاب للافهام فلو لم يكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل او الخطاب بالهندي مع العربي- و لم يكن القران باسره بيانا و هدى- و يلزم ايضا الخلف في الوعد بقوله تعالى- ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ- فانه يقتضى ان بيان القران محكمه و متشابهه من اللّه تعالى للنبى صلى اللّه عليه و سلم واجب ضرورى-

و روى عن ابن عباس انا من الراسخين في العلم و انا ممن يعلم تأويله-

و كذا قلت المتشابه التي يشتبه على السامع العارف باللغة المراد بحيث لا يدرك بالطلب و لا بالتأمل الا بعد بيان من الشارع فان بينه النبي صلى اللّه عليه و سلم حتى ظهر المراد منه سميت مجملا على اصطلاح الأصوليين كالصلوة و الزكوة و الحج و العمرة و اية الربوا و نحو ذلك و ان لم يوجد البيان و التعليم من النبي صلى اللّه عليه و سلم سميت متشابها على اصطلاحهم-

و المتشابه بهذا المعنى أخص من المتشابه بالمعنى المذكور سابقا فالمقطعات و اليد و الوجه و الاستواء على العرش من هذا القبيل-

و اختلف كلام العلماء في هذا النوع فقيل يمكن تأويله

و قيل لا يمكن تأويله بل يجب الايمان به و تفويض المراد منه الى اللّه سبحانه فقيل استأثر اللّه سبحانه بعلمه ما فهم النبي صلى اللّه عليه و سلم مراده و لا أحد من اتباعه و به قال اكثر العلماء

و قيل بل فهمه النبي صلى اللّه عليه و سلم و من شاء افهامه من اتباعه و هو سر بين اللّه و بين رسوله صلى اللّه عليه و سلم و هو المختار عندى و ما يدل على هذا من اقوال الصحابة مذكور في الكتاب- منه برد اللّه مضجعه عن مجاهد و ادعى المجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه (من الامة المرحومة التي لا يدرى أولها خير أم آخرها و لعل آخرها فوجا هى اعرضها عرضا و أعمقها عمقا و أحسنها حسنا) ان اللّه تعالى اظهر عليه تأويل المقطعات و اسرارها لكنها مما لا يمكن بيانها للعامة فانه ينافى كونها سرّا من اسرار اللّه تعالى و اللّه تعالى اعلم-

و قيل انها اسماء اللّه تعالى أخرجه ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابن مردوية في الأسماء و الصفات عن ابن عباس و سنده صحيح-

و روى ابن ماجة عن على رضى اللّه عنه انه كان يقول يا كهيعص اغفر لى- و عن الربيع بن انس كهيعص معناه من يجير و لا يجار عليه-

و قيل انها اسماء القران أخرجه عبد الرزاق عن قتادة قالوا و لذلك اخبر عنها بالكتاب و القران قلت ان كانت اسماء للّه تعالى كانت دالة على بعض صفاته تعالى- كسائر اسماء الصفات- و كذا ان كانت اسماء للقران كانت دالة على بعض صفات القران كما ان لفظ القران و الفرقان و النور و الحيوة و الروح و الذكر و الكتاب تدل على صفة من صفاته- و على كلا التقديرين فدلالة تلك الألفاظ ليست مما يفهمه العامة بل هى مختصة بفهم المخاطب و من شاء اللّه تعالى تفهيمه- و الحكم بانها من اسماء اللّه تعالى لا يتصور الا بعد فهم معناها- فهذان القولان على تقدير صحتهما راجعان الى ما حققناه انها اسرار بين اللّه تعالى و بين رسوله صلى اللّه عليه و سلم لا يفهمه غيره الا من شاء اللّه من كمل اتباعه و كذلك قوله تعالى- يَدُ اللّه فَوْقَ أَيْدِيهِمْ- و قوله تعالى- الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى - و هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّه فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ- و نحو ذلك مما يستحيل حملها على ظواهرها التي تتبعها الذين في قلوبهم زيغ من المجسمة- فان كلا منها تدل على صفة من صفات اللّه تعالى بحيث فهمها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و بعض الكمل من اتباعه- و توضيح ذلك ان للّه تعالى صفاتا غير متناهية «١»

(١)

قال البغوي انه قال ابن عباس قالت اليهود أ تزعم انا قد أوتينا الحكمة و في كتابك وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ثم تقول وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فانزل اللّه هذه الاية يعنى كلمات علمه و حكمته تعالى غير متناهية و من هاهنا قال العلماء معلومات اللّه تعالى غير متناهية و كما ان علومه تعالى غير متناهية و ان كان ذلك اللاتناهى بعدم تناهى تعلقاتها- فكذلك جزئيات سائر صفاته تعالى غير متناهية و ايضا حصر الصفات فيما يعلمه الناس ممنوع كيف و ما ذكر فى المتن من الحديث الصحيح يدل على ان من أسمائه تعالى ما استأثر بعلمه لم يعلّمه أحدا من خلقه فمن الجائز ان يعلم اللّه سبحانه رسوله من أسمائه و صفاته بالمقطعات ما لم يعلمه قبله غيره- عدم تناهى الصفات انما هو بمعنى عدم تناهى تعلقاتها و حمل الكلمات على الصفات مستبعد كل البعد و لا يجب وضع اللفظ بإزاء كل تعلق تعلق حيث يقدح تناهيها في ادراك الصفات بل اللفظ انما يوضع بإزاء معنى كلى تنطبق على جزئيات غير متناهية- ثم عدم وضع اللفظ بإزاء معنى من المعاني لا يوجب عدم درا ذلك المعنى لجواز ان يتصور المعنى من غير توسط اللفظ و لا امتناع التصور بالكنه يوجب عدم اللفظ إذ التصور بالوجه كاف- ان كان استفادة العلم الضروري بهذه الحروف بطريق الدلالة الوضعية عاد الاشكال بأصله إذ تلك الدلالة ليست موجودة لانها ليست بوضع العرب مع ان القران عربى و ان كان لا بطريق الدلالة الوضعية بل بمجرد المقابلة و لزوم الروية يلزم الدرك من الحروف ما لها وضع و كلا الشقين محال قلت واضع الأسماء و اللغات كلها هو اللّه سبحانه دون الناس- و كان ابتداء التعليم من اللّه سبحانه بالإلهام او البيان و الا يلزم التسلسل فعلى هذا يمكن ان يكون هذه الحروف المقطعات في علم اللّه تعالى موضوعة للمعانى دالة عليها بالوضع فالهم اللّه سبحانه نبيه صلى اللّه عليه و سلم معنى تلك الحروف و صفتها كما الهم آدم عليه السلام معانى سائر الأسماء- منه رحمه اللّه [.....]

حيث قال اللّه تعالى- لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي-

و قال عز من قائل- وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّه- و لا شك ان الألفاظ الموضوعة بإزاء المعاني متناهية- و العقول قاصرة عن درك كنه ذات اللّه تعالى و كنه صفاته- و انما يتصور دركه بنوع من المعية الذاتية او الصفاتية الغير المتكيفة- هيهات هيهات عن فهم العوام بل الخواص مع دركهم لا يدركون ذلك الدرك في مرتبة الذات حيث قال رئيس الصديقين شعر- العجز عن درك الإدراك ادراك- و البحث عن سر الذات اشراك- غير ان بعض صفاته تعالى لما شارك صفات الممكنات في الغايات او بعض وجوه المشاكلات عبر عنها بالأسماء التي تدل على صفات في المخلوقات كالحيوة و العلم و السمع و البصر و الارادة و الرحمة و القهر و غيرها فزعم البشر انه فهمها و في الحقيقة لم يفهم الا بعض وجوهها- و بعضها ليست بهذا المثابة- فمنها ما استأثر اللّه تعالى بعلمه- و منها ما افهمه الخواص من خلقه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في دعائه اللّهم انى أسئلك بكل اسم هو لك سميت به نفسك او أنزلته في كتابك او علمته أحدا من خلقك او استأثرت به في علم الغيب عندك- رواه ابن حبان فى صحيحه- و الحاكم في المستدرك و احمد- و ابو يعلى في حديث ابن مسعود لمن أصابه هم-

و الطبراني فى حديث ابى موسى فلعل اللّه سبحانه من ذلك الأسماء الخفية عن العامة التي لم يوضع بإذائها ألفاظ في لغاتهم علّم و الهم بعضها لنبيه صلى اللّه عليه و سلم و من شاء من اتباعه بهذه الحروف و خلق فيهم علما ضروريا مستفادا من هذه الحروف كما علم آدم الأسماء و خلق فيه علما ضروريا من غير سبق علمه بوضع ذلك اللفظ لذلك المعنى كيلا يلزم التسلسل- و يتجلى تلك الأسماء و الصفات على النبي صلى اللّه عليه و سلم بتلاوة هذه الحروف- قال شيخى و امامى قدسنا اللّه بسره السامي انه يظهر بنظر الكشف القران كله كانه بحر ذخار للبركات الالهية و يظهر تلك الحروف في ذلك البحر كانها عيون فوارات تفور و يخرج منها البحر- فعلى هذه المكاشفة لا يبعد ان يجعل هذه الحروف اسماء للقران كانّ القران تفصيل لذلك الإجمال و اللّه اعلم بمراده- و هذا التوجيه لا ينافى ما اختاره البيضاوي فان القران لكل اية منها ظهر و بطن و لكل حد مطلع-

و يروى لكل حرف حد و لكل حد مطلع رواه البغوي من حديث ابن مسعود فكما ان هذه الحروف في الظاهر عنصر للقران و بسائطه و غالب ما يتركب منه- و فيه لطائف الإيراد و وجوه الاعجاز- كذلك المراد من تلك الحروف إجمال للقران و عيون فوارات و اسرار بين اللّه و بين رسوله لا يطلع عليه أحد الا المخاطب او من في معناه و اللّه سبحانه اعلم-.

﴿ ١