٣٠ وَ اذكر إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ- تعداد لنعمة ثالثة- فان خلق آدم و تفضيله على الملائكة نعمة تعم ذريته و فيه حث على الإتيان باوامره تعالى- و الانتهاء عن مناهيه قال البغوي خلق اللّه السماء و الأرض و الملائكة و الجن و اسكن الملائكة السماء- و الجن الأرض- فمكثوا زمانا طويلا في الأرض- ثم ظهر فيهم الحسد و البغي فافسدوا و اقتتلوا- فبعث اللّه إليهم جندا من الملائكة يقالهم الجن و هم خزان الجنان اشتق لهم اسما من الجنة رأسهم إبليس فكان رئيسهم و مرشدهم و أكثرهم علما- فهبطوا الى الأرض و طردوا الجن الى شعوب الجبال و جزائر البحور و سكنوا الأرض و خفف اللّه عنهم العبادة- و اعطى اللّه إبليس ملك الأرض و ملك سماء الدنيا و خزانة الجنة فكان يعبد اللّه تارة في الأرض و تارة في السماء و تارة في الجنة فدخله العجب فقال في نفسه ما أعطاني اللّه هذا الملك الا لانى أكرم الملائكة عليه فقال اللّه تعالى له و لجنده إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً- و مما ذكر البغوي يظهران إبليس كان من الملائكة كما يدل عليه ظاهر الاستثناء- فان قيل روى مسلم عن ابى هريرة قال- أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بيدي فقال خلق اللّه التربة يوم السبت و خلق فيها الجبال يوم الأحد و خلق الشجر يوم الاثنين و خلق المكروه يوم الثلثاء و خلق النور يوم الأربعاء و بث فيها الدواب يوم الخميس- و خلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في اخر الخلق و اخر ساعة من النهار فيما بين العصر الى الليل- و هذا الحديث يدل على ان خلق آدم بعد خلق الأرض يوم سابعة فكيف يتصور مكث الجن زمانا طويلا في الأرض ثم طردهم الى شعوب الجبال و سكونة إبليس و جنوده من الملائكة زمانا طويلا- ثم قوله تعالى لهم إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً- قلت لا دليل في الحديث على ان المراد بالجمعة التي خلق فيها آدم أول جمعة بعد خلق الأرض لعل ذلك الجمعة بعد مضى الدهور- و لو لا هذا التأويل لزم خلق السموات و الأرض في سبعة ايام و الثابت بالقران خلق السموات و الأرض في ستة ايام و اللّه اعلم- و المراد بالخليفة آدم عليه السلام فانه خليفة اللّه في ارضه لاقامة أحكامه و تنفيذ قضاياه و هداية عباده و جذبهم الى اللّه و اعطائهم مراتب قربه تعالى و ذلك لا لاحتياج من اللّه تعالى الى الخليفة بل لقصور المستخلف عليهم عن قبول فيضه و تلقى امره بغير وسط- و كذلك كل نبى بعده خليفة اللّه قالُوا تعجبا و استخبارا عن مراشد أمرهم لا اعتراضا و حسدا فانهم عباد مكرمون أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ- و هم ذرية آدم- و انما عرفوا ذلك بأخبار من اللّه تعالى وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ حال مقررة لجهة الاشكال و المعنى أ تستخلف العصاة و نحن معصومون احقّاء بالخلافة- و التسبيح تبعيد اللّه عن السوء من سبح في الأرض و الماء اى بعد- و بحمدك في موضع الحال اى متلبسين «١» بحمدك على ما وفقتنا لتسبيحك (١) فى الأصل ملتبسون- وَ نُقَدِّسُ لَكَ- و التقديس ايضا بمعنى التسبيح و يقال قدس إذا طهر اى بعد عن الاقذار- و اللام زائدة اى نقدسك- او المعنى نقدس اى نطهر أنفسنا عن الذنوب لاجلك- كانهم قابلوا الفساد المفسر بالشرك بالتسبيح و سفك الدماء بالتقديس- سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اى الكلام أفضل قال ما اصطفى اللّه لملائكته سبحان اللّه و بحمده- رواه مسلم في صحيحه من حديث ابى ذر- و هو صلوة الخلق و عليها يرزقون رواه ابن ابى شيبة عن جابر و البغوي عن الحسن قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) قرا نافع و ابن كثير و ابو عمر و انّى بفتح الياء و الباقون بالسكون- ان الملائكة كانوا يعلمون بأخبار من اللّه تعالى ان من البشر صالحين و عصاة و كفارا فلا جرم زعموا ان الملائكة أفضل منهم لكونهم كلهم معصومين لا يَعْصُونَ اللّه ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ فاستخلافهم اولى و استخلاف البشر موجب للفساد كما وقع من شرارهم- و لم يعلموا ان اللّه تعالى يستودع في قلوب بعضهم- محبة ذاتية منه تعالى موجبة للمعية الذاتية و المحبوبية الصرفة كما نطق به رأس المحبوبين- المرء مع من أحب- رواه الشيخان من حديث ابن مسعود و انس و ابن حبان عن انس و في الحديث القدسي- لا يزال عبدى يتقرب الى بالنوافل حتى أحببته فاذا أجبته كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به الحديث- و يكون لهم قرب و منزلة من اللّه تعالى لا يتصور لغيرهم- بحيث يكون التقرب الى عباد اللّه الصالحين موجبا للتقرب اليه تعالى روى مسلم عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- ان اللّه تعالى يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدنى قال يا رب كيف أعودك و أنت رب العالمين قال اما علمت ان عبدى فلانا مرض فلم تعده اما علمت انك لوعدته لوجدتنى عنده- يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمنى الحديث- اعلم انه قد تقرر عند الأكابر من الصوفية ان ضوء الشمس كما يتحملها الأرض لكثافتها دون غيرها من عناصر الخلق كذلك التجلي الذاتي لا يتحملها الا عنصر التراب و اما غيرها من العناصر فلنوع من الكثافة التي فيها يتحمل التجليات الصفاتية دون الذاتية و اما لطائف عالم الأمر فلا نصيب لها الا من التجليات الظلية- و الإنسان لما كان مركبا من اللطائف العشرة التي هى اجزاء العالم الكبير و لم يجتمع في شى ء من افرادها الا بعضها كان هو أهلا للخلافة و حاملا للامانة التي عرضها اللّه تعالى عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً على نفسه بتحمل ما لم يتحمله غيره جهولا لعظمة المحمول و مسمى بالعالم الصغير صورة و اكبر من الكبير معنى- حيث قال اللّه تعالى لا يسعنى ارضى و لا سمائى و لكن يسعنى قلب عبدى المؤمن- فخلق اللّه تعالى آدم من أديم الأرض اى وجهها بان قبض من جميع ألوانها و عجنت بالمياه المختلفة و سواه و نفخ فيه الروح اخرج احمد و ابو داود و الترمذي و صححه و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردوية و الحاكم و صححه و البيهقي عن ابى موسى الأشعري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنوا آدم منهم الأحمر و الأبيض و بين ذلك- و السهل و الحزن- و الخبيث و الطيب- قلت و الحكمة فيه استجماع استعداده- قال البغوي- لمّا قال اللّه تعالى إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالت الملائكة- ليخلق ربنا ما يشاء فلن يخلق خلقا أكرم منا عليه- و ان كان فنحن اعلم منه لانا خلقنا قبله و راينا ما لم يره- فاظهر اللّه تعالى فضله عليهم. |
﴿ ٣٠ ﴾