٢٢٥

لا يُؤاخِذُكُمُ اللّه بالعقاب في الاخرة و هو المراد بالمؤاخذة هاهنا في كلا الكلمتين و كذا في المائدة لا كما قيل ان المراد فى المائدة و المؤاخذة الدنيوية بالكفارة او أعم منهما- لان الكفارة كالزكوة خالص حق اللّه تعالى لا مؤاخذة به في الدنيا و لهذا من مات و عليه الزكوة او الكفارة و لم يوص لا يمنعان من تعلق حق الورثة بخلاف ديون العباد و العشر و الخراج و ايضا لا يجب الكفارة بنفس اليمين بل بالحنث بعد اليمين فلا يتصور تعليق المؤاخذة بالكفارة بعقد اليمين- فالمراد بالمؤاخذة هو العقاب و الكفارة شرعت لرفع ذلك المؤاخذة

بِاللَّغْوِ الكائن فِي أَيْمانِكُمْ و اللغو في اللغة الساقط الذي لا يعتد به من الكلام او من غيره كذا في القاموس و المراد هاهنا ماجرى من اليمين على اللسان من غير عقد و قصد سواء كان في الإنشاء او الخير الماضي او المستقبل- و هذا التفسير مروى عن عائشة روى الشافعي انها قالت لغواليمين قول الإنسان لا و اللّه و بلى و اللّه- و أخرجه ابو داود عن عائشة مرفوعا- و الى هذا ذهب الشعبي و عكرمة و به قال الشافعي-

و هذا هو المناسب للمعنى اللغوي المذكور فانه إذا كان من غير قصد فهو ساقط عن الاعتبار غير معتد به و لا يترتب عليه الإثم اجماعا ان كان في الاخبار- و كذا لا ينعقد عند الشافعي إذا كان هذا القسم من اليمين فى الإنشاء- فلا يجب عليه الكفارة ان حنث و الحجة له هذه الاية بهذه لتفسير و قال ابو حنيفة رحمه اللّه ينعقد اليمين و يجب الكفارة ان حنث لقوله صلى اللّه عليه و سلم ثلاث جدهن جد و هزلهن جد النكاح و الطلاق و اليمين كذا قال صاحب الهداية- و هذا الحديث لم نجده في كتب الحديث لكن وجدنا حديث ابى هريرة من طريق عبد الرحمن بن حبيب عن عطاء عن يوسف بن ماهك عنه مرفوعا ثلاث جدهن جد و هزلهن جد النكاح و الطلاق و الرجعة- أخرجه احمد و ابو داود و الترمذي و ابن ماجة و الحاكم و الدارقطني قال الترمذي حسن و قال الحاكم صحيح و قال ابن الجوزي عطاء هو ابن عجلان متروك الحديث و قال الحافظ ابن حجر و هم ابن الجوزي انما هو عطاء بن ابى رباح- و عبد الرحمن بن حبيب مختلف فيه قال النسائي- منكر الحديث و وثقه غيره فالحديث حسن و أخرجه ابن عدى في الكامل بلفظ ثلاث ليس فيها لعب من تكلم بشى ء منها لاعبا فقد وجب عليه الطلاق و العتاق و النكاح و فيه ابن لهيعة ضعيف

و اخرج عبد الرزاق عن على و عمر موقوفا انهما قالا- ثلاث لا لعب فيهن النكاح و الطلاق و العتاق- و في رواية عنها اربع و زاد النذر- قال ابن همام و لا شك ان اليمين في معنى النذر فيقاس عليه-

قلت ما ذكره الشافعي حديث مرفوع التحق بيانا و تفسيرا للاية و القياس في مقابلة النص لا يعتد به مع ان المقيس عليه وقع في اثر موقوف ليس بمرفوع و قال ابن همام و لو ثبت حديث اليمين لم يكن فيه دليل لان المذكور فيه جعل الهزل باليمين جدا و الهازل قاصد لليمين غير راض لحكمه فلا يعتبر عدم رضاه به بعد مباشرته السبب مختارا- و الناسي لم يقصد شيئا أصلا و لم يدر ما صنع و كذا المخطى لم يقصد التلفظ به بل بشى ء اخر فليس هو في معنى الهازل فلا نص فيه و لا قياس على ان أبا حنيفة قال في تفسير اللغو في اليمين ان يحلف على شى ء يرى انه صادق فيه ثم يتبين له خلاف ذلك و هو قول الزهري و الحسن و ابراهيم النخعي و قتادة و مكحول قالوا لا كفارة فيه و لا؟؟ اثم مع ان الحالف يقصد فيه اليمين مع ظن البر فما لم يقصد لا أصلا بل هو كالنائم يجرى على لسانه اولى ان لا يعتد بيمينه و قال الشافعي اليمين الذي تعلق به القصد و ان كان على ظن الصدق ان كان على خلاف نفس الأمر يجب فيه الكفارة لانه ليس من اللغو على تفسيره بل هو من كسب القلب كالغموس غير انه معذور بناء على ظنه فلا اثم فيه-

قلت و ان لم يكن هو من اللغو لكن لا كفارة فيه و لا اثم اما عدم الإثم فلقوله تعالى وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ و اما عدم الكفارة فلان الكفارة مبنى على الإثم فانها لازالة الإثم و ليس فليس و لانها غير داخلة فيما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ و الكفارة راجعة إليها-

فان قيل لو كانت الكفارة مبينة على الإثم و الإثم مرفوع عن الخطاء و النسيان بالإجماع و الحديث فلم تجب الكفارة على القتل خطأ

قلنا امر القتل أشد فجعل اللّه تعالى إثمين اثم القتل نفسه و هو كبيرة و ذلك في القتل عمدا و لا يرتفع بالكفارة فلهذا لم نقل بوجوب الكفارة فيه و قد ارتفع ذلك الإثم بالخطأ و اثم ترك الاحتياط و انما وجبت الكفارة في الخطأ لذلك الإثم-

و قال سعيد بن جبير اللغو في اليمين هو اليمين على المعصية لا يؤاخذه اللّه بالحنث فيها بل يحنث و يكفر- و على هذا القول يتحدا للغو مع المنعقدة فى مادة و الاية تدل على القسمة و هى ثنا في الشركة- و ايضا القول بوجوب الكفارة تنافي القول بعد ما لمؤاخذة إذا الكفارة تبتنى على الإثم- و قال مسروق ليس عليه كفارة في اليمين على المعصية اتكفر خطوات الشيطان- و قال الشعبي في الرجل حلف على المعصية كفارته ان يتوب منها-

قلت اليمين على المعصية يشتمله عموم قوله تعالى وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فان فيه عقدا على الإيفاء فهو من المنعقدة دون اللغو فهو يوجب الكفارة و كونه على المعصية يوجب الرفض و هذا بعينه مقتضى قوله عليه السلام فليكفر و ليأت بما هو خير و اللّه اعلم

وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ اى عزمتم و قصدتم الى اليمين الكاذبة و ارتكبتم العصيان بقصدكم ارادتكم و انما

قلنا ذلك بقرينة المؤاخذة فان المؤاخذة لا يكون الا على العصيان- فخرج بهذا القيد الايمان الصادقة كلها و ما كان بظن الصدق و كذا اخرج به اليمين المنعقدة لانه لا معصية فيه بل في الحنث بعد اليمين-

فان قيل ورد في المائدة وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ و ذلك يدل على ثبوت المعصية و المؤاخذة عليها فكيف تقول انه خرج به اليمين المنعقدة الى آخره-

قلت تقدير الكلام هناك وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ان حنثتم و ليس ذلك التقدير هاهنا لان التقدير نوع من المجاز- و الحقيقة و المجاز لا يجتمعان و المؤاخذة على الغموس بمجرد اليمين- فالمراد بهذه الاية اليمين الغموس بأقسامها فقط و ليس هاهنا ذلك التقدير- و المراد بما في المائدة المنعقدة فقط و فيها التقدير و اللّه اعلم- و قال الشافعي المراد بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ و بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ واحد و هو ضد للغو؟؟ فقالوا كسب القلب هو العقد و النية فقوله بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ و قوله بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ كلاهما يشتملان الغموس و المنعقدة و المظنونة ايضا فيجب الكفارة في جميع ذلك-

قلنا ليس كذلك بل عقد اليمين الزام شى ء على نفسه باليمين بحيث يجب ايفاؤه بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و لا معصية فيه و لا مؤاخذة الا بعد الحنث- و كسب القلب ضد لغو اليمين على تفسير عائشة فكان أعم منه مطلقا لكنا حملناه على كسب المعصية بمجرد اليمين بقرينة المؤاخذة من غير تقدير في الاية فهو الغموس فقط فلا كفارة في الغموس- لان الضمير في قوله تعالى فَكَفَّارَتُهُ راجع الى ما عقّدتّم الايمان فقط و لان الغموس كبيرة محضة فلو وجبت عليها كفارة فاما ان تكون سائرة و مزيلة لمعصية الغموس اولا و على الثاني لا تكون الكفارة كفارة- و على الاول يسع لكل امرئ ان يقتطع مال امرئ مسلم باليمين الفاجرة ثم يكفر عنها و لم يقل به أحد و قد قال اللّه تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ و قال إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ- و قال عليه الصلاة و السلام- الصلوات الخمس و الجمعة الى الجمعة و رمضان الى رمضان كفارات لما بينهن ما اجتنب الكبائر- فظهران الطاعات لا تكون مكفرات الا للصغائر دون الكبائر- و اما الكبائر فلا محيص عنها الا بالاستغفار الا ان يتغمّده اللّه برحمته و يغفر له و لعل اللّه سبحانه أشار الى ذلك بقوله

وَ اللّه غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥) يغفر الكبائر ان شاء بتوبة او بغير توبة و الظاهران الوعد بالمغفرة و الحلم راجع الى قوله لا يُؤاخِذُكُمُ اللّه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ فان سوق الكلام كان في يمين اللغو و اليمين الغموس ذكر تبعا و استطرادا يدل عليه ما رواه البخاري عن عائشة انها قالت أنزلت هذه الاية لا يُؤاخِذُكُمُ اللّه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ فى قول الرجل لا و اللّه و بلى و اللّه- و اللّه اعلم- اعلم ان اليمين في الأصل القوة قال اللّه تعالى لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ و يقال للجارحة ضد اليسار يمين لقوته و يقال للقسم فان فيه تقوية الكلام بذكر اسم اللّه تعالى و هو على نوعين الاول ان يجرى على اللسان من غير قصد سواء وقع في الخير الماضي او المستقبل صادقا كان او كاذبا او في الإنشاء و هو اللغو من اليمين و هو غير معتد به و لا يتعلق به حكم الا ما ذكرنا خلاف ابى حنيفة في الإنشاء- و الثاني ما يتعلق به القصد و هو على نوعين اما في الخبر و اما في الإنشاء فان كان في الخبر فالخبر ان كان صادقا في الواقع و في زعم المتكلم ايضا كقولك و اللّه ان محمدا رسول اللّه و ان الساعة لاتية لا ريب فيها و انه لقد طلعت الشمس فلا كلام فيه انه عبادة و من ثم لا يجوز الحلف بغير اللّه تعالى عن ابن عمر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال- ان اللّه ينهاكم ان تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف باللّه او ليصمت- متفق عليه- و عنه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول- من حلف بغير اللّه فقد أشرك- رواه الترمذي- و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا تحلفوا بآبائكم و لا بامهاتكم و لا بالأنداد و لا تحلفوا باللّه الا و أنتم صادقون- رواه ابو داود و النسائي-

و ان كان كاذبا في الواقع صادقا في زعم المتكلم فان كان زعمه مبنيا على دليل ظنى كحديث الآحاد و قد كذب فيه الراوي او أخطأ هو في تأويله او اثر من السلف الصالح او غلط في الحس او استصحاب الحال او نحو ذلك و لم يكن هناك دليل قاطع على كذبه فهو اليمين المظنون و اللغو على تفسير ابى حنيفة و قد ذكرنا حكمه- و ان لم يكن زعمه مبنيا على دليل كقوله زيد قائم او سيقوم من غير علم و لا روية و لا اخبار من أحد فهو من الغموس المنهي عنه قال اللّه تعالى وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ- و ما قام على كذبه دليل فهو من الغموس بالطريق الاولى كقول الكفار الْمَسِيحُ ابْنُ اللّه- و انّ اللّه لا يبعث من في القبور- و ان كان صادقا في الواقع كاذبا في زعم المتكلم كقول المنافقين لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّه- او كاذبا في الواقع و كذا في زعم المتكلم كقول اليهود ما أَنْزَلَ اللّه عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ و قولهم لا يَبْعَثُ اللّه مَنْ يَمُوتُ و قول المديون ليس لك علىّ شى ء فهو اليمين الغموس لا يحل اقترابه و هو كبيرة من الكبائر عن عبد اللّه ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الكبائر الإشراك باللّه و عقوق الوالدين و قتل النفس و اليمين الغموس- رواه البخاري-

و عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من حلف على يمين صبر و هو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقى اللّه يوم القيامة و هو عليه غضبان فانزل اللّه تعالى تصديق ذلك إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا الاية- متفق عليه و عن ابى امامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب اللّه له النار و حرم عليه الجنة- رواه مسلم و عن عبد اللّه بن أنيس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان من اكبر الكبائر الشرك باللّه و عقوق الوالدين و اليمين الغموس- رواه الترمذي و عن حزيم ابن فاتك مرفوعا قال عدلت شهادة الزور بالاشراك باللّه ثلث مرات ثم قرا فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ- رواه ابو داود و ابن ماجة و ان كان في الإنشاء بان يلزم على نفسه شيئا او كف النفس عن شى ء كان اليمين منعقدة و هو المراد بقوله تعالى وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ- فى المائدة و سنذكر حكمها هناك ان شاء اللّه تعالى-.

﴿ ٢٢٥