٢٦٠

وَ اذكر إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قال الحسن و قتادة و عطاء الخراسانى و ابن جريج كان سبب هذا السؤال انه كانت جيفة حمار بالساحل فكان إذا مدّ البحر أكلت منها دواب البحر و إذا جزر أكلت السباع و الطيور فراها ابراهيم و تعجب و قال يا رب قد علمت انك تجمعها من البحر و البر فارنى كيف تحييها لاعاين فازداد يقينا- و قيل لما قال نمرود انا أحيي و أميت و قتل أحد الرجلين و اطلق الاخر قال ابراهيم ان اللّه يحيى بعد ما يميت فقال له نمرود أنت عاينته فلم يقدر ان يقول نعم فحينئذ سال ربه ان يريد احياء الموتى حتى إذا قيل له بعد ذلك أنت عاينته يقول نعم و قال سعيد بن جبير لما اتخذ اللّه ابراهيم خليلا جاء ملك الموت بإذن اللّه الى ابراهيم ليبشره بذلك فبشره فقال ابراهيم ما علامة ذلك قال ان اللّه يجيب دعاءك و يحيى الموتى بسوالك فحينئذ سال ابراهيم ذلك

قال اللّه تعالى أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ بانى قادر على الاحياء باعادة التركيب بعد الاماتة و انما قال ذلك و قد علم انه أقوى الناس في الايمان ليجيب بما أجاب فيعلم السامعون

قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي و يزيد بصيرتى و سكون قلبى بضم العيان الى الوحى و الاستدلال او ليطمئن قلبى انك اتخذتني خليلا و تجيبنى إذا دعوتك عن ابى هريرة رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نحن أحق بالشك من ابراهيم إذ قال رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى الاية و رحم اللّه لوطا لقد كان يأوي الى ركن شديد و لو لبثت السجن طول ما لبث يوسف لاجبت الداعي متفق عليه و للعلماء في هذا المقام مقال فقال إسماعيل بن يحيى المزني لم يشك النبي صلى اللّه عليه و سلم و لا ابراهيم في ان اللّه يحيى الموتى و انما شكافى انه هل يجيبهما اللّه تعالى الى ما سالاه و هذا القول لا يصاعده قوله تعالى أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي-

و قال الامام ابو سليمان الخطانى ليس في الحديث اعتراف بالشك على نفسه و لا على ابراهيم بل فيه نفى الشك عنهما يعنى إذا لم أشك انا فابراهيم اولى بان لا يشك و انما قال النبي صلى اللّه عليه و سلم ذلك تواضعا و هضما لنفسه و كذلك قوله لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لاجبت الداعي و فيه اعلام بان المسألة من ابراهيم لم تعرض من جهة الشك لكن لاجل طلب زيادة العلم بالعيان فان العيان يفيد من المعرفة و الطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليس الخبر كالمعائنة ان اللّه اخبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا القى الألواح فانكسرت رواه احمد و الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس و روى الطبراني عن انس و الخطيب عن ابى هريرة بسند حسن و ليس فيه ذكر موسى- و قيل لما نزلت هذه الاية قال قوم شك ابراهيم و لم يشك نبينا صلى اللّه عليه و سلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تواضعا و تقديما لابراهيم على نفسه-

قلت هذا القول و هذا التأويل في الحديث ضعيف لان نفى الشك عن ابراهيم ثبت بنفس كلام اللّه تعالى حيث قال بلى و لكن ليطمئن قلبى فكيف يقال شك ابراهيم و ايّ حاجة الى دفع ذلك التوهم- و التحقيق عندى ما قالت الصوفية العلية ان لاهل اللّه تعالى في السلوك مقامان الاول مقام العروج و هو الانخلاع عن الصفات البشرية و التلبس بالصفات الملكية و الصفات القدسية و يحكى عن هذا المقام قوله صلى اللّه عليه و سلم حين نهى عن صوم الوصال لست كهيئتكم أبيت عند ربى يطعمنى و يسقينى و يقال فى اصطلاحهم بهذا السير السير الى اللّه و السير في اللّه- و الثاني مقام النزول و هو التلبس بالصفات البشرية ثانيا بعد الانخلاع التام و هذا المقام مقام التكميل و دعوة الخلق الى اللّه تعالى و يقال لهذا السير السير من اللّه باللّه و الحكمة في النزول انه لا بد بين المفيض و المستفيض من المناسبة حتى يتيسر به الاستفاضة على طريقة الصبغ و الانصباغ و لاجل هذا أرسل الرسل من البشر لدعوة البشر و لم يتصور للعوام أخذ الفيض من اللّه تعالى لفقد المناسبة و هو تعالى غنى عن العالمين و لا من الملائكة قال اللّه تعالى قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا و قال وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ و كلّما كان لرجل نزوله أتم كان دعوته أشمل و أكمل كما ان الرامي إذا كان في أعلى مكان من المرمى اليه ما أصاب رميته غالبا قال الشيخ الأكبر محى الدين ابن العربي قدس سره أنكروا دعوة نوح لما كان من الفرقان و أجابوا دعوة محمد صلى اللّه عليه و سلم لما كان من القران يعنى لما كانت استعدادات العوام في غاية الانخفاض و نوح عليه السلام كان في مقام العروج لم يتأثر العوام منه لاجل الفراق بينهما و لما نزل محمد صلى اللّه عليه و سلم غاية النزول أجابوا دعوته لحصول مقارنة- إذ سمعت هذا فاعلم ان العارف تام المعرفة قد يظهر عليه اثار النزول فحينئذ يكون على هيئة العوام متشبثا بالأسباب- و يحكى عن هذا المقام انه صلى اللّه عليه و سلم لبس في الحرب درعا من حديد فوق درع و حفر الخندق حول المدينة و في هذا المقام يتشبث العارف لطلب زيادة اليقين و اطمينان القلب بتحتم الاستدلال و نحو ذلك و عن هذا المقام قصة ابراهيم عليه السلام هذه و قصة لوط حين قال لو انّ لى قوّة «١» او أوى الى ركن شديد- و عبر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم طلب زيادة اليقين بالشك مجازا للمشابهة الصورية و اخبر عن مقام نزوله بقوله نحن أحق بالشك من ابراهيم بمعنى ان نزولنا أتم من نزول ابراهيم فنحن اولى بطلب زيادة اليقين منه و لا شك ان نزوله عليه السلام كان أتم من نزول ابراهيم يدل عليه كونه مبعوثا الى كافة الأنام كما ان عروجه صلى اللّه عليه و سلم كان فوق كل عروج فكان قاب قوسين او ادنى فهو المحدد لجهات الكمال عليه و على اللّه الصلاة و السلام و معنى قوله صلى اللّه عليه و سلم رحم اللّه لوطا لقد كان يأوى الى ركن شديد انه كان في مقام النزول فهذا مدح له عليه السلام و قوله صلى اللّه عليه و سلم لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لا جبت الداعي ايضا يدل على ان نزول محمد صلى اللّه عليه و سلم كان أتم من نزول يوسف عليه السلام و لو كان نزول يوسف مثل نزوله عليه السلام لاجاب الداعي و اللّه اعلم-

قال اللّه تعالى فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ الطير مصدر اسمى

(١) فى القران بكم قوّة- ابو محمد عفا اللّه عنه.

به او جمع طائر كصحب و صاحب قال مجاهد و عطاء بن «٢» رباح و ابن جريج أخذ طاء و ساوديكا و حمامة و غرابا و حكى عن ابن عباس تسر بدل الحمامة و قال عطاء الخراسانى اوحى اللّه اليه انّ خذ بطة خضراء و غرابا اسود و حمامة بيضاء و ديكا احمر قلت لعله امر بأخذ اربعة من الطير لان الإنسان و كذا سائر الحيوانات مركب من الاخلاط الاربعة المتولدة من العناصر الاربعة فالديك الأحمر يحكى عن الدم و الحمامة البيضاء عن البلغم و الغراب الأسود عن السوداء و البط الخضراء عن الصفراء-

(٢) الصحيح ابن ابى رباح- ابو محمد عفا اللّه عنه [.....].

فاحياؤها بعد الاماتة دليل على احياء اجزاء الإنسان بعد الاماتة-

قال البيضاوي فيه ايماء الى ان احياء النفس بالحياة الابدية انما يتاتى باماتة حب الشهوات و الزخارف الذي هو صفة الطاووس و الصولة المشهور بها الديك و خسة النفس و بعد الأمل المتصف بها الغراب و الترفع و المسارعة الى الهوى الموسوم بها الحمام-

قلت لما كان ابراهيم عليه السلام في مقام النزول و الدعوة علمه اللّه تعالى طريق الإرشاد من إعطاء المريد الفناء و البقاء فاخذها و قطعها ينبى ء عن السلوك و الفناء و دعاؤها بإذن اللّه تعالى ينبى ء عن الجذب الى اللّه و البقاء و هذه كلمات من اهل الاعتبار لا مدخل لها في التفسير و اللّه اعلم

فَصُرْهُنَّ قرا ابو جعفر و حمزة بكسر الصاد اى قطعهن و مزقهن من صار يصير صيرا إذا قطع قال الفراء هو مقلوب من صرى يصرى صريا

و قرا الآخرون بضم الصاد و معناه املهن يقال صرت اصتورا إذا أملته و قال عطاء معناه اجمعهن يقال صار يصور إذا جمع

إِلَيْكَ متعلق بصرهنّ على قراءة الجمهور و متعلق بمحذوف حال من المفعول على قراءة حمزة اى منضما إليك

ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً قرا عاصم برواية ابى بكر بضم الزاء و الهمز حيث وقع

و قرا ابو جعفر بتشديد الزاء بلا همز و الآخرون بإسكان الزاء و الهمزة- اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس امر اللّه تعالى ابراهيم ان يذبح تلك الطيور و ينتف ريشها و يخلطها و دماءها و لحومها بعضها ببعض ثم امره ان يجعل اجزاءها على الجبال فجزاها سبعة اجزاء على سبعة اجبل و امسك رءوسهن عنده و كذا اخرج ابن جريح و السدى و روى ابن جرير من طريق ابن إسحاق عن ابن عباس و قتادة انه جعل كل طائر اربعة اجزاء على كل جبل ربعا من كل طائر

ثُمَّ ادْعُهُنَّ قل لهم تعالين بإذن اللّه يَأْتِينَكَ سَعْياً ساعيات مسرعات طيرانا او مشيا فدعاهن فجعل كل قطرة من دم طائر يصير الى قطرة اخرى و كل ريشة يصير الى الريشة الاخرى و كل عظم و بضعة الى اخرى و ابراهيم ينظر حتى تمت كل جثة بغير رأس ثم اقبلن الى رءوسهن فصرن كما كن بإذن اللّه تعالى

وَ اعْلَمْ أَنَّ اللّه عَزِيزٌ لا يعجزه شي ء عما يريد حَكِيمٌ (٢٦٠) ذو حكمة بالغة في كل ما يفعل و يذر- ذكر اللّه سبحانه في القصة السابقة أَعْلَمُ أَنَّ اللّه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و ذكره هاهنا اعْلَمْ أَنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ يدل على انه قوله أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِها كان على سبيل التعجب و الاستبعاد من حيث كونه على خلاف العادة و قول ابراهيم ربّ أرني كيف تحي الموتى كان مبنيا على حال لطيف يقتضيه الحكمة و اللّه اعلم-

قال البيضاوي كفى لك شاهدا على فضل ابراهيم و يمن الضراعة في الدعاء و حسن الأدب في السؤال انه تعالى أراه ما أراد في الحال على أيسر الوجوه و ارى عزيزا بعد ما أماته مائة عام.

﴿ ٢٦٠