سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ

مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ مِائَتَانِ آيَةً

نحمدك يا من لا اله الّا أنت و نسبّحك و نستعينك و نستغفرك و نشهد انك مالك الملك تؤتى الملك من تشاء و تنزع الملك ممّن تشاء و تعزّ من تشاء و تذلّ من تشاء بيدك الخير انّك على كلّ شى ء قدير أنت ربّنا و ربّ السّموات و الأرض و من فيهنّ و نصلّى و نسلّم على رسولك و حبيبك سيّدنا و مولانا محمّد و به على جميع النّبيّين و المرسلين و على عبادك الصّالحين (سورة ال عمران) مدنية و ايها مائتان ربّ يسّر و تمّم بالخير

بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اخرج ابن ابى حاتم عن الربيع بن انس ان النصارى أتوا النبي صلى اللّه عليه و سلم فخاصموه فى عيسى فانزل

_________________________________

١

الم

٢

اللّه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الى بضع «١» و ثمانين اية من ال عمران و قال ابن إسحاق حدثنى محمد بن سهل بن ابى امامة قال لما قدم وفد نجران على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يسئلونه عن عيسى بن مريم نزلت فيهم فاتحة ال عمران الى رأس الثمانين منها كذا اخرج البيهقي فى الدلائل و كذا

قال البغوي عن الكلبي و الربيع بن انس و غيرهما نزلت هذه الآيات فى وفد نجران و كانوا ستين راكبا قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و فيهم اربعة عشر رجلا من اشرافهم و فى الاربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤل أمرهم العاقب أميرهم و صاحب مشورتهم الذي لا يصدرون الا عن رأيه و اسمه عبد المسيح و السيد ثمالهم و صاحب رحلهم و اسمه الا بهم و ابو حارثة بن علقمة أسقفهم و حبرهم- دخلوا مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حين صلى العصر عليهم ثياب حبرات جبب و أردية فى جمال رجال لحارث بن كعب يقول من راهم ما راينا وفدا مثلهم و قد حانت صلاتهم فقاموا للصلوة فى مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم

(١) قلت الظاهر انها اربعة و ثمانون اية الى قوله تعالى لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ و بعد ذلك قوله تعالى وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ و ما بعده نزلت فى رجال ارتدوا كما سيذكر- منه برد اللّه مضجعه الخطبة ١٢ الناشر.

دعوهم فصلوا الى المشرق- فكلم السيد و العاقب فقال لهما رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أسلما فقالا قد اسلمنا قبلك قال كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاءكما للّه ولدا و عبادتكم الصليب و أكلكما الخنزير قالا ان لم يكن عيسى ولد اللّه فمن أبوه و خاصموه جميعا فى عيسى عليه السلام فقال لهما النبي صلى اللّه عليه و سلم ا لستم تعلمون ان ربنا حى لا يموت و ان عيسى يأتى عليه الفناء قالوا بلى قال أ لستم تعلمون ان ربنا قيم على كل شى ء يحفظه و يرزقه قالوا بلى قال فهل يملك عيسى من ذلك شيئا قالوا لا قال أ لستم تعلمون ان اللّه تعالى لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ قالوا بلى قال فهل يعلم عيسى عليه السلام من ذلك الا ما علم قالوا لا قال فان ربنا صور عيسى عليه السلام فى الرحم كيف شاء و ربنا لا يأكل و لا يشرب قالوا بلى قال أ لستم تعلمون ان عيسى حملته امه كما تحمل المرأة و وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذى كما يغذى الصبى ثم كان يطعم و يشرب و يحدث قالوا بلى قال فكيف يكون هذا كما زعمتم فسكتوا فانزل اللّه صدر سورة ال عمران الى بضع و ثمانين اية منها فقال عز من قائل

الم (١) اللّه قرا ابو يوسف يعقوب بن خليفة الأعشى عن ابى بكر الم مقطوعا بسكون الميم على الوقف كما هو فى سائر المقطعات ثم قطع الهمزة للابتداء

و قرا الجمهور بالوصل «١» مفتوح الميم فعند سيبويه فتح الميم لالتقاء الساكنين الميم و لام اللّه لا يقال ان التقاء الساكنين غير محذور فى باب الوقف لانا نقول ان الوقف ليس مرويا عند الجمهور و انما هو على قراءة ابى يوسف يعقوب كما ذكر و فى صورة الوقف كما قرا يعقوب يتحمل التقاء الياء و الميم الساكنين فى كلمه ميم دون التقاء ثلاث ساكنات و حركت الميم بالفتح لكونها أخف الحركات و لم تكسر لاجل الياء و كسر الميم قبلها تحاميا عن توالى الكسرات و قال الزمخشري انما هى فتحة همزة الوصل من اللّه نقلت الى الميم و انما جاز ذلك مع ان الأصل فى همزة الوصل إسقاطها مع حركتها لان الميم كان حقها الوقف و مقتضى الوقف ابقاء همزة الوصل كما قراء به يعقوب لكنها أسقطت للتخفيف فابقيت حركتها لتدل على انها فى حكم الثابت و نظرا على ان الميم فى حكم الموقوف و ليس بموقوف اجمع القراء على جواز المد الطويل فى مد الميم بقدرست حركات و المد القصير بقدر حركتين و اللّه اعلم- و اللّه مبتدا و خبره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خبر لا محذوف تقديره لا اله فى الوجود الا هو و المستثنى فى موضع الرفع بدل

(١) و الحق ان الوقف بمد الطويل و الوصل بالقصر و المد جائز ان للكل.

من موضع لا و اسمه

الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) بدل من هو او خبر مبتدا محذوف اى هو الحي القيوم و قد ذكرنا شرح الاسمين فى اية الكرسي- اخرج ابن ابى شيبة و الطبراني و ابن مردوية من حديث ابى امامة مرفوعا اسم اللّه تعالى الأعظم فى ثلاث سور البقرة و ال عمران و طه قال القاسم صاحب ابى امامة فالتمستها فوجدت انه الحي القيوم لاجل اية الكرسي فى البقرة و هذه الاية فى ال عمران و و عنت الوجوه للحىّ القيّوم فى طه و قال الجزري صاحب الحصين و عندى انه لا اله الّا هو الحىّ القيّوم قلت عندى هو لا اله الا هو جمعا بين حديث ابى امامة هذا و حديث اسماء بنت يزيد قالت «١» سمعت النبي صلى اللّه عليه و سلم يقول فى هاتين الآيتين اسم اللّه الأعظم وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ و اللّه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ رواه الترمذي و ابو داود و ابن ماجة و الدارمي و حديث سعد بن ابى وقاص قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم دعوة ذى النون إذا دعا ربه و هو فى بطن الحوت لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ لم يدع بها رجل مسلم فى شى ء الا استجاب له رواه احمد و الترمذي- و فى المستدرك للحاكم اسم اللّه الأعظم الذي إذا دعى به أجاب و إذا سئل به اعطى لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ و حديث يزيد ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سمع رجلا يقول اللّهم انى أسئلك بانى اشهد ان لا اله الّا أنت الأحد الصّمد الّذى لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد- فقال دعا اللّه باسمه الأعظم الذي إذا سئل به اعطى و إذا دعى به أجاب رواه احمد و اصحاب السنن الاربعة و ابن حبان و الحاكم و قال الترمذي حسن غريب و قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين- و روى هؤلاء الجماعة كلهم عن انس قال كنت جالسا فى المسجد و رجل يصلى فقال اللّهم انى أسئلك بان لك الحمد لا

(١) فى الأصل قال- ابو محمد عفا اللّه عنه.

اله الا أنت الحنان المنان بديع السموات و الأرض يا ذا الجلال و الإكرام يا حى يا قيوم فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم دعا اللّه باسمه الأعظم الذي إذا دعى به أجاب و إذا سئل به اعطى و لم يذكر ابن ابى شيبة يا حى يا قيوم قلت فهذه الأحاديث كلها يقتضى ان الاسم الأعظم انما هو القدر المشترك بينها و ذلك هو التهليل النفي و الإثبات- و لا اله الا هو موجود فى السور الثلاث البقرة و ال عمران و كذا فى طه اللّه لا اله الّا هو له الأسماء الحسنى و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا اله الا اللّه هو أفضل الذكر رواه الترمذي و غيره من حديث جابر مرفوعا و هو مفتاح الجنة رواه احمد عن معاذ مرفوعا و قد تواتر معناه-

( (فائدة)) وردت صيغة التهليل فى أحاديث اسم اللّه الأعظم بلفظ لا اله الّا هو او لا اله الّا أنت و هذا اللفظ ارفع درجة من لفظ لا اله الا اللّه لان الضمائر وضعت للذات البحت ففى كلمة لا اله الا هو ينتقل الذهن اولا الى الذات بلا ملاحظة اسم من الأسماء و صفة من الصفات و شأن من الشئونات و كلمة اللّه و ان كان اسما للذات لكن الذهن هناك ينتقل اولا الى الاسم و ثانيا الى المسمى و قد ينتقل الذهن من حيث الاشتقاق الى معنى الالوهية فيكون من اسماء الصفات غير ان صفة الالوهية يستدعى الاتصاف بجميع صفات الكمال و التنزه عن جميع شوائب النقص و الزوال فيكون أتم و أشمل من سائر اسماء الصفات- و الصوفية العلية انما اختاروا كلمة لا اله الا اللّه لاجل المبتدى فان المبتدى لا سبيل له الى الذات البحت الا بتوسط اسم من الأسماء او صفة من الصفات-

قلت و لعل وجه كون النفي و الإثبات أعظم الأسماء ان اثبات الالوهية له تعالى يقتضى اثبات جميع صفات الكمال له تعالى باقتضاء ذاته و سلب جميع النقائص عنه كذلك فانه من ليس كذلك لا يستحق العبادة- و نفى الالوهية عما عداه يقتضى حصر تلك الصفات الايجابية و السلبية فيه تعالى فهو أعظم الأسماء و أشملها و اللّه اعلم.

٣

نَزَّلَ اى هو نزل عَلَيْكَ الْكِتابَ اى القران نجوما فان التفعيل للتكثير بِالْحَقِّ حال من الكتاب اى متلبسا بالصدق فى اخباره او بالدين الذي هو الحق عند اللّه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ اى لما قبله من الكتب فكان من حقه ان يؤمن به كل من أمن بما قبله فهو حجة على النصارى و اليهود حين كفروا به وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ (٣) جملة و من ثم عدل هاهنا من التنزيل الى الانزال فان الانزال أعم منه- قرا ابو عمرو و ابن ذكوان و الكسائي التّورية بالامالة فى جميع القران و نافع و حمزة بين بين و الباقون بالفتح- و التورية اسم عبرانى للكتاب الذي انزل على موسى عليه السلام و الإنجيل اسم سريانى للكتاب الذي انزل على عيسى عليه السلام و ليست الكلمتان عربيتان فمن قال انه فوعلة او تفعلة من ورى الزند و افعيل من النجل فقد تكلف.

٤

مِنْ قَبْلُ اى قبل تنزيل القران حتى يستعد الناس للايمان به هُدىً لِلنَّاسِ اى لجميع الناس و لا وجه لتخصيص الناس بقوم موسى و عيسى عليهما السلام فان الكتب السماوية كلها تدعوا جميع الناس الى التوحيد و الايمان بجميع الأنبياء و توجب العلم بالمبدأ و المعاد و تهدى الى سبيل الرشاد من امتثال أوامر اللّه تعالى و الانتهاء عن المناهي- و تخبر التورية و الإنجيل و الزبور عن بعثة محمد صلى اللّه عليه و سلم و كون بعض الآيات منها منسوخة فى فروع الأعمال فى بعض الأحيان لا ينافى كونها هدى كما ان بعض آيات القران نسخت بالبعض فان النسخ لبيان مدة الحكم فالاية حجة لنا على ان شرائع من قبلنا يلزمنا على انه شريعة لنبينا صلى اللّه عليه و سلم و قال الشافعي لا يلزمنا- و قوله هدى حال من التورية و الإنجيل حمل عليهما للمبالغة او بتأويل اسم الفاعل و لم يثن لانه مصدر وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ ٥ اى جنس الكتب الالهية و اللام للاستغراق- ذكر ذلك بعد الكتب الثلاثة ليعم ما عداها كانّه قال و انزل سائر الكتب الفارقة بين الحق و الباطل- او المراد به القران و كرر ذكره مدحا و تعظيما و اظهار الفضلة فانه يشارك و الجميع فى كونه منزلا من اللّه تعالى يتميز عما عداها باعجاز اللفظ الموجب للفرق بين المحق و المبطل- و انما أعاد انزل لبعد المعطوف عليه و لئلا يلتبس بالعطف على هدى مفعولا له او اشارة الى ان للقران انزالا يعنى الى السماء الدنيا ليلة القدر و تنزيلا نجما نجما على حسب الحوادث و قال السدى فى الاية تقديم و تأخير تقديرها و انزل التورية و الإنجيل من قبل و الفرقان هدى للناس إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللّه المنزلة فى شى ء من الكتب لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بسبب كفرهم كما يعترف به اهل الكتاب وَ اللّه عَزِيزٌ غالب لا يمنعه من التعذيب أحد ذُو انْتِقامٍ (٤) لا يقدر على مثله منتقم و النقمة عقوبة المجرم و الفعل منه نقم بفتح العين و الكسر- وعيد بعد تقرير التوحيد و الاشارة الى صدق الرسول بمطابقة ما جاء به الكتب السماوية و كونه معجزا-.

٥

إِنَّ اللّه لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ كائن فِي الْأَرْضِ وَ لا شى ء كائن فِي السَّماءِ (٥) و المراد به شى ء كائن فى العالم كليّا كان او جزئيا- و انما عبر عن العالم بهما لان الحس لا يتجاوزهما- و انما قدم الأرض على السماء لان المقصود بالذكر انه تعالى يعلم اعمال العباد فيجازيهم عليه- و هذه الجملة كالدليل على كونه حيا و ما بعده كالدليل على كونه قيوما اى.

٦

هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ على صور و ألوان و إشكال مختلفة ذكرا او أنثى على ما أراد لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا يعلم و لا يقدر أحد سواه الا بتعليم و أقداره على كسبه على حسب إرادته الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) بدل من المستثنى او خبر لمبتدا محذوف اى هو العزيز الحكيم اشارة الى كمال قدرته و تناهى حكمته عن ابن مسعود قال حدثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو الصادق المصدوق ان خلق أحدكم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة ثم تكون علقة مثل ذلك ثم تكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث اللّه الملك اليه بأربع كلمات فيكتب رزقه و عمله و اجله و شقى او سعيد قال و ان أحدكم ليعمل بعمل اهل الجنة حتى ما يكون بينه و بينها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل النار فيدخلها- و ان أحدكم ليعمل بعمل اهل النار حتى ما يكون بينه و بينها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل الجنة فيدخلها- متفق عليه- و عن حذيفة بن أسيد يبلّغ به النبي صلى اللّه عليه و سلم قال يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر فى الرحم بأربعين او بخمس و أربعين ليلة فيقول يا رب أشقى او سعيد فيكتبان فيقول اى رب اذكر او أنثى فيكتبان و يكتب عمله و اثره و اجله و رزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها و لا ينقص رواه البغوي.

٧

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ اى القران مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ التي أحكمت و أتقنت عباراتها بحيث لا يشتبه على سامع عالم باللغة منطوقه و لا مفهومه و لا مقتضاه اما بلا تأمل كقوله تعالى قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ و قوله تعالى وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ و قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ و اما بعد طلب و تأمل من غير حاجة الى بيان من الشارع كقوله تعالى السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ يظهر شموله للطرّار بأدنى تأمل لوجود معنى السرقة فيه مع زيادة و عدم شموله للنباش لنقصان معنى السرقة فيه فان السرقة أخذ مال مملوك لغيره على سبيل الخفية و كفن الميت غير مملوك لاحد فان الميت باعتبار احكام الدنيا ملحق بالجماد لا يصلح للمالكية و حق الورثة لا يتعلق الا بعد التكفين و كقوله تعالى وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ فانه بعد التأمل يظهر انه معطوف على المغسولات لضرب الغاية فيه و قوله تعالى ثَلاثَةَ قُرُوءٍ فانه بعد التأمل يظهر ان المراد به الحيضات دون الاطهار لان الطلاق مشروع فى الطهر فلا يتصور عدد الثلاثة بلا نقصان او زيادة الا فى الحيضات و قوله تعالى قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ يظهر بالتأمل ان المراد كون صفائها كصفاء القوارير كائنا من جنس الفضة فعلى هذا دخل فى المحكم الظاهر و النص و المفسر و المحكم و الخفي و المشكل على اصطلاح الأصوليين و ما ذكرنا من تفسير المحكم هو للمستفاد من قول ابن عباس و هو المعنى من قول محمد بن جعفر بن الزبير ان المحكم ما لا يحتمل من التأويل غير وجه واحد و ما قيل المحكم ما يعرف معناه و يكون حجة واضحة و دلائله لائحة هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ قال فى القاموس الام الوالدة و أم كل شى ء أصله و عماده و للقوم رئيسهم و كل شى ء انضمت اليه أشياء قلت الكتاب هاهنا اما بمعنى المكتوب اى المفروض كما فى قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ فالاضافة بمعنى اللام و الام بمعنى الوالدة او الأصل يعنى المحكمات هن والدات و اصول لما كتب علينا إتيانه او الكف عنه من الفرائض و المحرمات- و اما بمعنى القران فالاضافة حينئذ اما بمعنى من يعنى انها أم للاحكام من الكتاب يؤخذ منها الاحكام بلا حاجة بيان من الشارع و اما بمعنى اللام و المعنى انها عماد للقران و بمنزلة رئيس القوم لسائر الآيات يحتاج إليها غيرها و يضم إليها حتى يستفاد من غيرها المراد منها يردها الى المحكمات و كان القياس ان يقال أمهات الكتاب لكن أورد لفظ المفرد ليدل على ان المحكمات كلها بمنزلة أم واحدة لان الاحكام المفروضة تؤخذ من جميعها لا من كل واحدة منها و كذا مرجع المتشابهات الى مجموعها باعتبار بعضها لا الى كل واحدة منها وَ آيات أُخَرُ جمع اخرى معدول من الاخر او اخر من و لذا منع من الصرف للعدل و الوصف مُتَشابِهاتٌ التي يشتبه على السامع العارف باللغة المراد منه بحيث لا يدرك بالطلب و لا بالتأمل الا بعد بيان من الشارع بعبارة محكمة فان وجد البيان و التعليم من جهة الشارع و ظهر المراد منها سميت مجملا على اصطلاح الأصوليين كالصلوة و الزكوة و الحج و العمرة و اية الربوا و نحو ذلك و ان لم يوجد البيان و التعليم سميت حينئذ متشابها على اصطلاحهم و لا يجوز هذا القسم الا فيما لا يتعلق به العمل كيلا يلزم التكليف بما لا يطاق و ذلك كالمقطعات القرآنية و قوله تعالى يَدُ اللّه فَوْقَ أَيْدِيهِمْ و الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى و قد يظهر مراد تلك القسم من الآيات على بعض العرفاء بتعليم من اللّه تعالى بالإلهام كما عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها و اقتباس أنوار النبوة بعد شرح الصدر و ان كان ذلك المراد أحيانا بحيث لا يمكن تعليمه و تعلمه باللسان لعدم شمول خزينة العلم من العوام على مراده و لا على العلم بوضع لفظ بإزائه- و اما ما يتعلق به التكليف فلا يجوز تأخير بيانه عن وقت الحاجة كيلا يلزم التكليف بما لا يطاق-

فان قيل قال اللّه تعالى الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ و قال فى موضع اخر كتبا متشابها فكيف فرق هاهنا فقال مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ ...- وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ

قلنا حيث جعل القران كله محكما فمعناه انه متقن محفوظ عن فساد المعنى و دكاكة اللفظ لا يستطيع أحد معارضته و الطعن فيه- و حيث جعل كله متشابها أراد ان بعضه يشبه بعضا فى الحسن و الكمال- و فرق هاهنا من حيث وضوح المعنى و خفائه- فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ اى ميل عن الحق قال الربيع هم وفد نجران خاصموا النبي صلى اللّه عليه و سلم فى عيسى عليه السلام و قالوا له ا لست تزعم انه كلمة اللّه و روح منه قال بلى قالوا «١» حسبنا فانزل اللّه تعالى هذه الاية و قال الكلبي هم اليهود طلبوا علم أجل هذه الامة و استخراجه بحساب الجمل قال ابن عباس انّ رهطا من اليهود منهم حيى بن اخطب و كعب بن الأشرف و نظراؤهما أتوا النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال حيى بلغنا انه انزل عليك الم فننشدك اللّه انزل عليك قال نعم قال فان كان ذلك حقا فانى اعلم مدة تلك أمتك هى احدى و سبعون سنة فهل انزل غيرها قال نعم المص قال فهذه اكثر هى احدى و ستون و مائة سنة فهل غيرها قال نعم الر قال هذه اكثر هى مائتين و احدى و ثلاثون سنة فهل غيرها قال نعم المر قال هذه اكثر و هى مائتان واحدي و سبعون سنة و لقد خلطت علينا فلا ندرى ا بكثيره نأخذ أم بقليلة و نحن مما لا نؤمن بهذا فانزل اللّه تعالى هذه الاية و قال ابن جريح هم المنافقون و قال الحسن هم الخوارج كذا اخرج احمد و غيره عن ابى امامة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم- و كان قتادة إذا قرا هذه الاية فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ قال ان لم يكونوا الحرورية و السابية فلا أدرى من هم و قيل هم جميع المبتدعة و الصحيح ان اللفظ عام لجميع من ذكر و جميع اصناف المبتدعة عن عائشة قالت تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هذه الاية هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ الى قوله أُولُوا الْأَلْبابِ قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاذا رايت الذين يتبعون ما تشابه منه فاولئك الذين سمى اللّه فاحذروهم رواه البخاري- و عن ابى مالك الأشعري انه سمع النبي صلى اللّه عليه و سلم يقول ما أخاف على أمتي الا ثلاث خلال و ذكر منها ان يفتح لهم الكتاب فيأخذه يبتغى تأويله و ليس «٢» يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّه وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ

(١) فى الأصل قال.

(٢) و فى القران وَ ما يَعْلَمُ.

يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ اى يتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب اليه المبتدع تبعا لهواه من غير رجوع الى المحكمات من الآيات و الأحاديث و بلا حملها على ما يطابقها من المحكمات او السكوت مع الايمان و التسليم بمرادها- فالواجب رد المتشابهات الى المحكمات مهما أمكن حتى يتبين مراد المجمل فيعمل به كما فى الصلاة و الزكوة و الربوا او السكوت عن تأويله مع الايمان بها و التسليم بمرادها- فلما ثبت بإجماع الامة و محكم نصوص الأحاديث المتواترة ان المؤمنين يرون اللّه سبحانه فى الاخرة كما يرون القمر ليلة البدر فلا بد ان يؤمن به و يقول المراد بالروية و النظر فى قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ هى النظر بالبصر و ما لم يثبت كذلك كما فى قوله تعالى يَدُ اللّه فَوْقَ أَيْدِيهِمْ و الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى يسكت فيه مؤمنا به و لا يحمل على ظاهره و يتبع المحكم من قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ فيقول بكونه تعالى منزها عن صفات الممكنات و لا يتعب نفسه فى تأويل المقطعات فانه غير ماذون فيه ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ منصوب على العلية من قوله فيتّبعون «١» اى يفعلون ذلك لطلب ان يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك «٢» و التلبيس و مناقضة المحكم بالمتشابه و هذا وظيفة المنافقين كما حكى ان بعض اليهود لما راوا «٣» دولة الإسلام و استعلاءه حسدوا على ذلك و تيقنوا ان ذلك التأييد من اللّه تعالى للمسلمين لاجل دينهم فنافقوا و دخلوا فى الإسلام ظاهرا و اتبعوا المتشابهات بتأويلات زائغة و أظهروا المذاهب الباطلة فصاروا حرورية و معتزلة و روافض و نحو ذلك ابتغاء الفتنة وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ عطف على ابتغاء الفتنة اى طلبوا ان

(١) فى الأصل يبتعون. [.....].

(٢) اخرج الدارمي عن عمر بن الخطاب قال انه سيأتيكم ناس يجادلونكم بشبهات القران فخذوهم بالسنن فان اصحاب السنن اعلم بكتاب اللّه و عن ابى هريرة قال كنا عند عمر بن الخطاب إذ جاءه رجل يسئل عن القران ا مخلوق هو او غير مخلوق فقام عمر فاخذ بمجامع ثوبه حتى قاده الى على بن ابى طالب فقال يا أبا الحسن اما تسمع ما يقول هذا قال و ما يقول قال جاءنى يسئل عن القران ا مخلوق هو او غير مخلوق فقال على هذه كلمة سيكون لها ثمرة و لو وليت من الأمر ما وليت ضربت عنقه

و اخرج الدارمي عن سليمان بن يسار ان رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسئل من متشابه القران فارسل اليه عمر و قدا عدله عراجين النخل قال له و من أنت قال انا عبد اللّه صبيغ فقال انا عبد اللّه عمر فاخذ عرجونا من تلك العراجين فضرب به حتى دمئ رأسه فقال يا امير المؤمنين حسبك قد ذهب الذي كنت أجدني رأسى و عن ابى عثمان النهدي ان عمر كتب الى بصرة ان لا تجالسوا صبيغا- قال فلو جاء و نحن مائة لتفرقنا و عن محمد بن سيرين قال كتب عمر بن الخطاب الى ابى موسى الأشعري بان لا تجالس صبيغا و ان تحرم عطاءه و رزقه قال الشافعي حكمى فى اهل الكلام حكم عمر فى صبيغ ان يضربوا بالجريد و يحملوا على الإبل و يطاف بهم فى العشائر و القبائل و ينادى عليهم هذا جزاء من ترك الكتاب و السنة و اقبل على علم الكلام- منه رحمه اللّه.

(٣) فى الأصل راى- ابو محمد عفا اللّه عنه.

يأولوه على ما يشتهونه و قد يكون ابتغاء التأويل بناء على الجهل فقط و ذلك من بعض المتأخرين من المبتدعة و اما من الأوائل المنافقين منهم فكان الداعي على اتباع المتشابهات غالبا مجموع الطلبين وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ اى بيان المتشابه من الآيات على ما هو المراد منه عند اللّه تعالى إِلَّا اللّه اى لا يجوز ان يعلمه غيره تعالى الا بتوقيف منه و لا يكفى لمعرفته العلم بلغة العرب- فالحصر إضافي نظيره

قوله تعالى لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللّه- يعنى لا يعلم الغيب غيره تعالى الا بتوقيف منه- فهذه الاية لا تدل على ان النبي صلى اللّه عليه و سلم و بعض الكمل من اتباعه لم يكونوا عالمين بمعاني المتشابهات- كيف و قد

قال اللّه تعالى ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ فانه يقتضى ان بيان القران محكمه و متشابهه من اللّه تعالى للنبى صلى اللّه عليه و سلم واجب ضرورى لا يجوز ان يكون شى ء منها غير مبين له عليه السلام و الا يخلوا الخطاب عن الفائدة و يلزم الخلف فى الوعد- و الحق ما حققناه فى أوائل سورة البقرة ان المتشابهات هى اسرار بين اللّه تعالى و بين رسوله صلى اللّه عليه و سلم لم يقصد بها إفهام العامة بل إفهام الرسول و من شاء افهامه من كمل اتباعه بل هى مما لا يمكن بيانها للعامة و انما يدركها أخص الخواص بعلم لدنى مستفاد بنوع من المعية الذاتية او الصفاتية الغير المتكيفة-

وَ الرَّاسِخُونَ اى الذين رسخوا اى ثبتوا و تمكنوا فِي الْعِلْمِ بحيث لا تعترضه شبهة و هم اهل السنة و الجماعة الذين عضوا بالنواجذ على محكمات الكتاب و السنة و اقتفوا فى تفسير القران اجماع السلف الصالح من الصحابة و التابعين الذين هم خيار الامة ورد و المتشابهات الى المحكمات و تركوا الأهواء و التلبيسات- و قيل الراسخون فى العلم مؤمنوا اهل الكتاب-

قلت لا وجه لتخصيصهم- و قالت الصوفية العلية الراسخون فى العلم هم المنسلخون عن الهواء بالكلية بفناء القلب و النفس و العناصر المتفوضون فى التجليات الذاتية حيث لا يعتريهم شبهة المترنمون بما قالوا لو كشفت الغطاء ما ازددت يقينا اخرج الطبراني و غيره عن ابى الدرداء ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سئل عن الراسخين فى العلم قال من برّت يمينه و صدق لسانه و استقام قلبه و عفف بطنه و فرجه فذلك من الراسخين فى العلم قلت هذا شأن الصوفية ثم اختلف العلماء فى نظم هذه الاية فقال قوم الواو للعطف و المعنى ان تأويل المتشابه يعلمه اللّه و يعلمه الراسخون فى العلم فعلى هذا قوله تعالى يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حال منهم يعنى قائلين امنّا نظيره قوله تعالى لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ الى ان قال وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ ثم قال وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ و هذا قول مجاهد و الربيع- و روى عن ابن عباس انه كان يقول فى هذه الاية انا من الراسخين فى العلم و عن مجاهد انا ممن يعلم تأويله- و ذهب الأكثرون الى ان الواو للاستيناف و تم الكلام عند قوله وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّه فعلى هذا الراسخون فى العلم مبتدا و ما بعده خبره و هو قول أبيّ بن كعب و عائشة و عروة بن الزبير و رواية طاءوس عن ابن عباس و به قال الحسن و اكثر التابعين و اختاره الكسائي و الفراء و الأخفش و مما يؤيد هذا القول قراءة عبد اللّه بن مسعود ان تأويله الّا عند اللّه و الرّاسخون فى العلم يقولون امنّا به و قراءة أبيّ بن كعب و يقول الرّاسخون فى العلم امنّا به و من هاهنا قال عمر بن عبد العزيز انتهى علم الراسخين فى العلم بتأويل القران الى ان قالوا أمنا به كُلٌّ من المحكم و المتشابه و الناسخ و المنسوخ و ما علمنا المراد منه و ما لم نعلم مِنْ عِنْدِ رَبِّنا قلت فحال الراسخين فى العلم يبائن حال الزائغين قلوبهم من الأهواء المتبعين الآراء كلّما أضاء لهم و وافق النصوص آراءهم مشوا فيه و أمنوا به وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ تأويلات النصوص و لم يوافق آراءهم قاموا و لم يؤمنوا به

قال البغوي هذا القول أقيس فى العربية و أشبه بظاهر الاية يعنى القول باستيناف الكلام و عدم العطف قلت وجه كون هذا القول أقيس و أشبه ان الاستثناء من النفي اثبات بإجماع اهل العربية و اللام فى الراسخون للاستغراق فلو كان قوله الراسخون فى العلم معطوفا على اللّه لزم ان يعلم تأويل المتشابهات كل راسخ فى العلم و ليس كذلك على ما يشهده البداهة و الرواية وَ ما يَذَّكَّرُ أصله يتذكر اى ما يتعظ بما فى القران إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) ذووا العقول السليمة فان سلامة العقل يقتضى ان يفوضوا ما لا علم لهم به الى المتكلم العليم الحكيم و لا يقعوا فى الجهل المركب و هم فى كل واد يهيمون- قالت الأكابر لا أدرى نصف العلم-.

٨

رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا و لا تملها عن الحق كما ازغت قلوب الذين فى قلوبهم زيغ- جاز ان يكون هذا من مقال الراسخين تقديره يقولون امنّا به و يقولون ربّنا إلخ و جاز ان يكون تعليم مسئلة من اللّه تعالى عند البلوغ الى المتشابه بتقدير قولوا رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا بانزال كتابك و وفقتنا بالايمان بالمحكم و المتشابه و بعد منصوب على الظرفية و إذ فى موضع الجر بإضافته اليه و قيل إذ هاهنا بمعنى ان المصدرية وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً توفيقا و تثبيتا إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) لكل مسئول فيه دليل على ان الهدى و الضلالة من اللّه تعالى بتوفيقه او خذلانه و انه المتفضل على عباده لا يجب عليه شى ء عن النواس بن سمعان قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما من قلب الا و هو بين إصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء ان يقيمه اقامه و ان شاء ازاغه و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك و الميزان بيد الرحمن جل جلاله يرفع قوما و يضع آخرين الى يوم القيامة رواه البغوي و روى نحوه احمد و الترمذي من حديث أم سلمة و مسلم من حديث عبد اللّه بن عمرو و الترمذي و ابن ماجة من حديث انس- و فى الصحيحين من حديث عائشة و عن ابى موسى الأشعري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مثل القلب كريشة بأرض فلاة يقلبها الرياح ظهرا ببطن رواه احمد.

٩

رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ اى لقضاء يوم و قيل اللام بمعنى فى اى فى يوم لا رَيْبَ فِيهِ اى لا شك فى وقوعه و وقوع ما فيه من الجزاء إِنَّ اللّه لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ

(٩) مفعال من الوعد فالخلف فى الوعد محال لكونه رذيلة ينافى الالوهية و اما فى الوعيد فيجوز عندنا المغفرة و ان لم يتب- و قالت الوعيدية من المعتزلة لا يجوز الخلف فى الوعيد ايضا الا بعد التوبة محتجا بهذه الاية

قلنا وعيد الفساق كما هو مشروطة بعدم التوبة باتفاق بيننا و بينكم كذلك مشروطة بعدم العفو لاطلاق قوله تعالى إِنَّ اللّه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ و قوله تعالى فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ و قوله تعالى وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ و قوله تعالى لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّه و نحو ذلك و فى الباب أحاديث لا يحصى-.

١٠

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعم المشركين و اهل الكتاب لَنْ تُغْنِيَ اى لا تجزى عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللّه اى بدلا من رحمته او طاعته

شَيْئاً من الإغناء فهو منصوب على المصدرية دون المفعولية لان الإغناء غير متعد الا ان يقال معناه على التضمين لا تدفع عنهم من اللّه اى من عذابه شيئا فعلى هذا منصوب على المفعولية و الجار و المجرور ظرف مستقر حال منه وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) اى حطبها عطف على لن تغنى.

١١

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ دأب مصدر من داب فى العمل إذا كدح فيه و الجار و المجرور فى محل الرفع خبر مبتدا محذوف تقديره دأبهم كدأب ال فرعون و معناه فعلهم و صنيعهم فى الكفر و تكذيب الرسل كفعل ال فرعون كذا قال ابن عباس و عكرمة و مجاهد- و قيل هو منقول من معنى الفعل الى معنى الشأن- و قال ابو عبيدة معناه كسنة ال فرعون و قال الأخفش كامر ال فرعون و شأنهم و قال النصر بن شميل كعادة ال فرعون يعنى عادة هؤلاء الكفار و طريقتهم و شأنهم فى تكذيب الرسل و نزول العذاب كشأن ال فرعون و طريقتهم و سنتهم و جاز ان يكون الجار و المجرور متصلا بما قبله يعنى توقد بهم النار كما توقد بال فرعون فوقود النار بهم بضم الواو شأنهم كما هو شان ال فرعون و لن تغنى عنهم أموالهم و لا أولادهم كما لم يغن بال فرعون فيكون شأنهم كشأنهم عند حلول العذاب وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مثل عاد و ثمود و قوم لوط معطوف على ال فرعون و حينئذ قوله تعالى كَذَّبُوا اما حال بتقدير قد او استيناف لبيان حالهم كانّه فى جواب ما شأنهم و جاز ان يكون الموصول مبتدا و ما بعده خبره بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللّه و عاقبهم بِذُنُوبِهِمْ اى بسبب ذنوبهم وَ اللّه شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) شديد عقابه- روى ابو داود فى سننه و ابن جرير و البيهقي فى الدلائل من طريق ابن إسحاق عن محمد بن ابى محمد عن سعيد بن جبير و عكرمة عن ابن عباس قال لما أصاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من اهل بدر ما أصاب و رجع الى المدينة جمع اليهود فى سوق بنى قينقاع و قال يا معشر يهود اسلموا قبل ان يصيبكم مثل ما أصاب قريشا فقالوا يا محمد لا يغرنك من نفسك ان قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا «١» لا يعرفون القتال انك لو قاتلتنا لعرفت انا نحن الناس و انك لم تلق مثلنا فانزل اللّه.

(١) الأغمار جمع غمر بالضم و هو الجاهل الغر الذي لم يجرب الأمور- نهايه منه رح.

١٢

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعنى اليهود سَتُغْلَبُونَ الى قوله لاولى الابصار فقد صدق اللّه تعالى وعيده بقتل بنى قريظة و اجلاء بنى النضير و فتح خيبر و ضرب الجزية عليهم و قال مقاتل نزول هذه الاية قبل وقعة بدر و المراد بهم مشركوا مكة يعنى قل لكفار مكة ستغلبون يوم بدر فلما نزلت هذه الاية قال لهم النبي صلى اللّه عليه و سلم يوم بدر ان اللّه تعالى غالبكم و حاشركم الى جهنم و قال الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس ان يهود المدينة قالوا لمّا هزم اللّه تعالى المشركين يوم بدر هذا و اللّه النبي الذي بشرنا به موسى لا ترد له رأية و أرادوا اتباعه ثم قال بعضهم لبعض لا تعجلوا حتى تنظروا الى وقعة اخرى فلما كان يوم أحد و نكب اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم شكّوا فغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا و قد كان بينهم و بين اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عهد الى مدة فنقضوا ذلك العهد و انطلق كعب بن الأشرف فى ستين راكبا الى مكة يستنفرهم فاجمعوا أمرهم على قتال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فانزل اللّه تعالى فيهم هذه الاية قرا حمزة و خلف- ابو محمد و الكسائي سيغلبون بالياء على ان اللّه تعالى امر رسوله صلى اللّه عليه و سلم ان يحكى لهم ما أخبره به من وعيدهم و كذا قوله وَ تُحْشَرُونَ فى الاخرة إِلى جَهَنَّمَ

و قرا الباقون بالتاء فيهما على الخطاب على انه مقولة قل وَ بِئْسَ الْمِهادُ (١٢) اى الفراش اى جهنم هذا من تمام ما يقال لهم او استيناف اى بئس ما مهّدوه لانفسهم او بئس ما مهّد لهم-.

١٣

قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ الخطاب لليهود على تقدير كون الاية السابقة فيهم يعنى قد كانت لكم يا معشر اليهود اية اى دليل «١» واضح على صدق ما أقول لكم انكم ستغلبون او خطاب للمشركين على تقدير كون الاية فيهم يعنى قد كانت لكم يا معشر الكفار اية معجزة و دليل «٢» على النبوة فِي فِئَتَيْنِ اى فرقتين انما يقال الفرقة فئة لان فى الحرب يفى ء بعضهم الى بعض الْتَقَتا يوم بدر للقتال فِئَةٌ مؤمنة يعنى رسول اللّه و أصحابه تُقاتِلُ العدو فِي سَبِيلِ اللّه فى طاعة اللّه كانوا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا سبع و سبعون رجلا من المهاجرين و صاحب رأيتهم على بن ابى طالب و هو الصحيح و قيل مصعب بن عمير و مائتان و ستة و ثلاثون من الأنصار و صاحب رأيتهم سعد بن عبادة و كان فيهم سبعون بعيرا و فرسان فرس لمقداد «٣» بن عمرو فرس لمرثد بن ابى مرثد و أكثرهم رجالة و كان معهم من السلاح ست اذرع و ثمانية سيوف و فئة أُخْرى كافِرَةٌ و هم مشركوا مكة

(١) فى الأصل دليلا واضحا.

(٢) فى الأصل دليلا.

(٣) فى الأصل للمقداد.

كانوا تسعمائة و خمسين رجلا من المقاتلة رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد الشمس و فيهم مائة فرس و كانت حرب بدر أول مشهد شهده رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعد الهجرة بثمانية عشر شهرا فى رمضان سنه يَرَوْنَهُمْ قرا نافع و ابو جعفر- ابو محمد و يعقوب بالتاء على الخطاب فان كان الخطاب لليهود فالمعنى يا معشر اليهود ترونهم يعنى كفار مكة مِثْلَيْهِمْ اى مثلى المسلمين و ذلك ان جماعة من اليهود حضروا قتال بدر لينظروا على من يكون الدبرة فراوا المشركين مثلى عدد المسلمين و راوا النصرة مع ذلك للمسلمين

فان قيل كيف قال مثليهم و هم كانوا ثلاثة أمثالهم

قلنا لعل المراد كثرتهم و تكرار أمثالهم دون التثنية كما فى قوله تعالى ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يعنى كرة بعد اخرى- و ان كان الخطاب للمشركين فالمعنى ترونهم يا معشر الكفار اى المسلمين مثليهم و ذلك حين القتال و لا تناقض بين هذا و بين قوله تعالى فى سورة الأنفال وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لانهم قلّلوا فى أعينهم قبل القتال حتى اجترءوا عليهم فلما تلاقوا و شرعوا فى الحرب كثر المسلمون فى أعينهم حتى جبنوا و غلبوا

و قرا الجمهور بالياء على الغيبة و على هذا فالضمير المرفوع جاز ان يكون راجعا الى المشركين و المعنى يرى المشركون المسلمين مثلى المشركين او مثلى المسلمين و جاز ان يكون راجعا الى المسلمين يعنى يرى المسلمون المشركين مثلى المسلمين حيث قللّهم اللّه تعالى فى أعينهم حتى راوهم مثلى أنفسهم مع كونهم ثلاثة أمثالهم ليثبتوا لهم و تيقنوا بالنصر الذي وعدهم اللّه تعالى فى قوله فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ثم قللّهم اللّه تعالى حتى راوهم مثل عدد أنفسهم قال ابن مسعود نظرنا الى المشركين فرايناهم يضعّفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رايناهم يزيدون علينا رجلا واحدا ثم قللّهم اللّه تعالى ايضا فى أعيننا حتى رايناهم عددا يسيرا اقل من أنفسنا حتى قلت لرجل الى جنبى نراهم سبعين قال أراهم مائة و الروية هاهنا بمعنى العلم حتى يكون مثليهم مفعولا ثانيا له إذا المعنى لا يساعد كونه حالا فعلى هذا قوله تعالى رَأْيَ الْعَيْنِ مبنى على المبالغة فى علمهم بكونهم مثليهم و تشبيه لهذا العلم بالعلم الحاصل بروية العين فاطلق رأى العين و أريد به العلم الحاصل به مجازا تسمية المسبب باسم السبب فهو منصوب على المصدرية و جاز ان يكون منصوبا بنزع الخافض اى كرأى العين وَ اللّه يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من التقليل و التكثير و غلبة القليل عديم القدرة على الكثير شاكى السلاح لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣) اى لذوى العقول- و قيل لمن راى الجمعين-.

١٤

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ الزين ضد الشين و هو كون الشي ء ذا حسن و جمال مستحقا للمدح محبوبا و ذا قد يكون بصفات نفسانية كالعلم و العقل و نحو ذلك او بدنية كالقوة و القامة و حسن المنظر او خارجية كاللباس و المركب و المال و الجاه- و التزيين جعل الشي ء كذلك اما فى الحقيقة كما فى قوله تعالى زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ او فى اعتقاد من زين له سواء كان الاعتقاد مطابقا للواقع كما فى قوله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ او غير مطابق له كما فى قوله تعالى زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ و الشهوة هى توقان النفس و كمال رغبتها الى الشي ء و المراد بالشهوات هاهنا المشتهيات فانها هى المزينات المحبوبات حقيقة لكن سميت بالشهوات و جعل موردا لتزيين حب الشهوات دون أنفسها مبالغة فى التوبيخ و ايماء على انهم انهمكوا فى محبتها حتى أحبوا شهواتها بل حب شهواتها كانّ تقدير الكلام حبب الى الناس حب محبة النساء و نحوها نظيره أحببت حبّ الخير و قال صاحب الكشاف سميت شهوات مبالغة فى التنفير عنها لان الشهوات علم فى الخسة شاهد على البهيمية إذ المقام مقام التنفير عنها و الترغيب فيما عند اللّه و قال بعض الأفاضل بل مبالغة فى التحذير عن مخالطتها و كمال التوجه إليها فانها لكمالها فى كونها مشتهيات تشغل اللاهي بكليته الى أنفسها و تقطعه عما عند اللّه و المزين هو اللّه تعالى لانه الخالق للجواهر و الاعراض و الافعال الاختيارية للعباد و الدواعي كلها- و لعله زينه ابتلاء «١» قال اللّه تعالى إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا و لكونه سببا لمجاهدة المؤمنين و باعثا لشكر النعمة و وسيلة الى السعادة الاخروية و موجبا لفضل البشر على الملائكة- و سببا لخذلان الكافرين و موجبا لاضلالهم يضلّ من يشاء و يهدى من يشاء و ايضا فى التزيين حكمة التعيش و بقاء النوع قال اللّه تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّه الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ و قيل المزين هو الشيطان فان الاية فى معرض الذم و قد نسب اللّه تعالى تزيين الأشياء تارة الى نفسه باعتبار الخلق حيث قال كذلك زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ و زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ و زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ و تارة

(١) همه انداز من بتوانيست كه تو طفلى و جامه رنگين است : منه رح.

الى الشيطان باعتبار كسبه إلقاء الوسوسة فى القلوب و الإلهاء حيث قال إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ و قوله لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ و زيّن لهم الشّيطن أعمالهم فصدّهم عن السّبيل مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ جمع قنطار و هو المال الكثير بعضه على بعض سمى قنطارا من الاحكام يقال قنطرت الشي ء إذا أحكمته و منه سميت القنطرة- و قال معاذ بن جبل الف و مائتا اوقية و قال ابن عباس الف و مائتا مثقال او اثنا عشر الف درهم او الف دينار و قال سعيد بن جبير و عكرمة هو مائة الف و مائة منّ و مائة رطل و مائة مثقال و مائة درهم و عن السدى اربعة آلاف مثقال و قال الحكم القنطار ما بين السماء و الأرض و قيل ملا مسك ثور «١» و اختلف فى انه فعلال او فنعال الْمُقَنْطَرَةِ مأخوذة من القنطار للتأكيد كقولهم بدرة مبدرة يعنى الكثيرة المنضمة بعضها الى بعض و قال الضحاك المحصنة المحكمة و قال يمان المدفونة و قال السدىّ المضروبة و قال الفراء المضعفة فالقناطير أريد به جمع القنطار و بالمقنطرة جمع الجموع مِنَ الذَّهَبِ قيل سمى به لانه يذهب وَ الْفِضَّةِ قيل سمى بها لانها تنفض اى تتفرق وَ الْخَيْلِ جمع فرس لا واحد له من لفظه الْمُسَوَّمَةِ قال مجاهد يعنى المطهمة الحسان اى محكم الخلق حسن الجمال و تسويمها حسنها و قال سعيد بن جبير هى الراعية اى السائمة و قال الحسن و ابو عبيدة هى المعلمة من السيماء اى العلامة ثم منهم من قال سيماها الشية و اللون و هو قول قتادة و قيل الكي وَ الْأَنْعامِ جمع نعم و النعم جمع لا واحد له من لفظه و يطلق على الإبل و البقر و الغنم و قال ابو حنيفة رحمه اللّه يطلق على الدواب الوحشي ايضا و لذا فسر قوله فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ اى مثل ما قتل من النعم الوحش وَ الْحَرْثِ اى الزرع ذلِكَ المذكورات مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا اى يتمتع بها فى الدنيا ثم يفنى وَ اللّه

(١) اخرج الحاكم و صححه عن انس عنه صلى اللّه عليه و سلم قال القنطار الف اوقية ..

و اخرج احمد و ابن ماجة عن ابى هريرة عنه صلى اللّه عليه و سلم قال اثنا عشر الف اوقية- منه رح.

عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) اى المرجع الحسن الذي كانه عين الحسن ففيه كمال التحريض على استبدال ما فى الدنيا من الشهوات الفانية بما عند اللّه من المستلذات القوية «٢» الباقية-.

(٢) عن قتادة فى هذه الاية ذكر لنا ان عمر بن الخطاب كان يقول اللّهم زينت لنا الدنيا و انبأتنا ان ما بعدها خير منها فاجعل حظنا فى الذي هو خير و أبقى- منه رح.

١٥

قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ المذكورات فيه توبيخ للكفار و اشارة الى ان النبي صلى اللّه عليه و سلم كانه متردد فى ان ينبئهم شفقة عليهم و امتثالا لامر اللّه تعالى او لا ينبئهم لملاحظة بعدهم عن قبول الحق و تقرير لما سبق اليه الاشارة من ان ثواب اللّه خير من مستلذات الدنيا لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ مبتدا و الظرف خبر مقدم عليه و الجملة استيناف لبيان ما هو خير و يجوز ان يكون الظرف متعلقا بخير او يكون ظرفا مستقرا صفة لخير و اختصاص المتقين لانهم هم المنتفعون به و جنات خبر مبتدا محذوف اى هو جنات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ صفة لجنات خالِدِينَ فِيها اى مقدرين الخلود فيها إذا دخلوها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ مما يستقذر من النساء كالحيض و النفاس و البول و الغائط وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّه قرا ابو بكر عن عاصم بضم الراء فى جميع القران غير الحرف الثاني فى المائدة و رضوانه سبل السّلم و الباقون بالكسر و هما لغتان كالعدوان و العدوان- قيل ذكر اللّه سبحانه من جنس ما يشتهونه الجنات التي هى من جنس الحرث و الأزواج المطهرة التي هى من جنس النساء و لم يذكر البنين لان المقصود منهم فى الدار الفانية الاعانة و بقاء النوع- و لا الخيل و لا الانعام و لا الذهب و الفضة لانهم مستغنون عن مشاق ركوب الخيل و الانعام لنيل المقاصد و عن البيع و الشراء المحوج الى الأثمان و زاد لهم ما لا زيادة عليه و هو رضوان اللّه و نكر الرضوان اشارة الى انه امر لا يحيط العلم بإدراكه عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه تبارك و تعالى يقول لاهل الجنة يا اهل الجنة فيقولون لبيك ربنا و سعديك و الخير فى يديك فيقول هل رضيتم فيقولون و ما لنا لا نرضى يا رب و قد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول الا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون يا رب و اىّ شى ء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده ابدا متفق عليه و عندى ان ذكر الجنان واقع فى مقابلة جميع ما يشتهونه لقوله تعالى وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ فان الأبناء و الأقارب كلهم تجتمعون فى الجنة و يدوم لقاؤهم ابدا قال اللّه تعالى أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ و سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان الولد من قرة العين و تمام السرور فهل يولد لاهل الجنة فقال المؤمن إذا اشتهى الولد فى الجنة كان حمله وضعه و سنه فى ساعة كما يشتهى رواه الترمذي و حسنه و البيهقي و هناد فى الزهد عن ابى سعيد و الحاكم فى التاريخ و الاصبهانى فى الترغيب- و اما قناطير الذهب و الفضة فان اللّه تعالى خلق الجنة لبنة من ذهب و لبنة من فضة و ملاطها المسك- رواه البزار و الطبراني و البيهقي عن ابى سعيد عن النبي صلى اللّه عليه و سلم و فى الحديث المرفوع جنتان من فضة آنيتهما و ما فيهما و جنتان من ذهب آنيتهما و ما فيهما متفق عليه من حديث ابى موسى- و اما الخيل و الانعام فقد قال أعرابي يا رسول اللّه انى أحب الخيل أ في الجنة خيل قال ان دخلت الجنة أتيت بفرس من ياقوت له جناحان فحملت عليه ثم طار بك حيث شئت رواه الترمذي عن ابى أيوب و روى الترمذي و البيهقي نحوه عن بردة مرفوعا و الطبراني و البيهقي بسند جيد عن عبد الرحمن بن ساعدة مرفوعا-

و اخرج ابن المبارك عن شفى بن مانع ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال من نعيم الجنة انهم يتزاورون على المطايا و البخت و انهم يؤتون فى يوم الجمعة بخيل مسرجة ملجمة لا تروث و لا تبول فيركبونها حتى ينتهوا حيث شاء اللّه-

و اخرج ابن ابى الدنيا و ابو الشيخ و الاصفهانى عن على مرفوعا قال ان فى الجنة شجرة تخرج من أعلاها حلل و من أسفلها خيل بلق من ذهب سرجها و زمامها الدر و الياقوت و هن ذوات الاجنحة خطوّها مد البصر لا تروث و لا تبول فيركبها اولياء اللّه فيطير بهم حيث شاءوا فيقول «١» الذي أسفل منهم قد اطفؤوا نورنا من هؤلاء فقال انهم كانوا ينفقون و كنتم تبخلون و كانوا يقاتلون و كنتم تجلسون

و اخرج ابن المبارك عن ابن عمران فى الجنة عتاق الخيل و كرام النجائب يركبها أهلها

و اخرج ابن وهب عن الحسن البصري ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ان ادنى اهل الجنة منزلة الذي يركب

(١) فى الأصل شاء.

فى الف الف من خدم من الولدان المخلدين على خيل من ياقوت احمر لها اجنحة من ذهب و اما الحرث فقد روى البخاري عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ان رجلا من اهل الجنة استأذن ربه فى الزرع فقال له ا لست فيما شئت قال بلى و لكنى أحب ان ازرع قال فيزرع فبادر الطرف نباته و استواؤه و استحصاده فكان أمثال الجبال فيقول اللّه تعالى دونك يا ابن آدم فانه لا يشبعك شى ء

و اخرج الطبراني و ابو الشيخ نحوه و فيه حتى تكون سنيلة اثنا عشر ذراعا ثم لا يبرح مكانه حتى يكون منه ركام أمثال الجبال- و لعل وجه تخصيص الأزواج من بين نعيم الجنة بالذكر اما شدة ما كان بالعرب من شهوة النساء و اما ان الأزواج تكون لكل من يدخل الجنة أجمعين و اما البنون و نحو ذلك فلمن كان له بنون فى الدنيا او لمن يشتهيهم فيها و هم لا يشتهون ذلك غالبا لما روى عن ابى سعيد انه إذا اشتهى المؤمن فى الجنة الولد كان فى ساعة و لكن لا يشتهى رواه الترمذي و الدارمي يعنى لا يشتهى غالبا جمعا بين الروايات- و ذكر اللّه سبحانه ما زاد على نعماء الدنيا و لا مزيد عليه و هو رضوان اللّه فانه هو الفارق البائن بين نعماء الدنيا و نعماء الجنة فان الدنيا ملعونة و ملعون ما فيها الا ما ابتغى به وجه اللّه عز و جل و فى رواية الا ذكر اللّه و ما والاه و عالما و متعلما رواه الطبراني فى الأوسط عن ابن مسعود و فى الصغير عن ابى الدرداء و ابن ماجة عن ابى هريرة و اما نعماء الجنة فهى مرضيات للّه تعالى عن ربيعة الحرسي قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قيل لى فى المنام سيد بنى دارا و صنع مادبة و أرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار و أكل من المأدبة و رضى عنه السيد و من لم يجب الداعي لم يدخل الدار و لم يأكل من المأدبة و سخط عليه السيد قال و اللّه سيد و محمد الداعي و الدار الإسلام و المأدبة الجنة رواه الدارمي-

قلت و السر فى ان نعيم الدنيا غير مرضية للّه تعالى لا ينبغى ان يلتفت إليها قال اللّه تعالى وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا و نعيم الجنة مرضية للّه تعالى ممدوح من يطمع فيها قال اللّه تعالى وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ ان مبادى تعينات النشئة الدنيوية غالبا هى الاعدام التي تقررت فى مرتبة العلم و استضاءت بالتقابل بعكوس نقائضها التي هى صفات الكمال للّه تعالى كالجهل فى مقابلة العلم و العجز فى مقابلة القدرة و نحو ذلك و سميت ظلالا و لاجل ذلك يسرع الفناء الى هذه النشئة و العدم فى نفسه شر محض لا نصيب له من الحسن و الجمال و الخير و الكمال الا بالتموية بخلاف النشئة الاخروية فان مبادى تعيناتها انما هى صفات اللّه تعالى الحسناء فحبها حب اللّه تعالى و الانشغاف بها الانشغاف به تعالى كذا ذكر المجدد رضى اللّه عنه فى سر محبة يعقوب عليه السلام بيوسف عليه السلام مع ان الأنبياء بل الأولياء لا يلتفتون الى غير اللّه سبحانه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو كنت متخذا خليلا لا تخذن أبا بكر خليلا و قد اتخذ اللّه صاحبكم خليلا رواه مسلم قال المجدد رضى اللّه عنه و ذلك ان حسن يوسف عليه السلام كان من جنس حسن اهل الجنة فكان حبة و العشق به حب اللّه تعالى و عشقه وَ اللّه بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) هذا الكلام فى مقام التعليل لما سبق و اللامم اما للاستغراق اى بصير بجميع العباد محسنهم و مسيئهم فيجازيهم على حسب ما عملوا-

و اما للعهد يعنى بصير بالذين اتقوا و لذا أعد لهم الجنات-.

١٦

الَّذِينَ يَقُولُونَ مجرور على انه صفة للمتقين او للعباد و جاز ان يكون منصوبا على المدح او مرفوعا رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الفاء للسببية و فيه دليل على ان مجرد الايمان سبب لاستحقاق المغفرة عن معاذ قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حق اللّه على العباد ان يعبدوه و لا يشركوا به شيئا و حق العباد على اللّه ان لا يعذب من لا يشرك به شيئا قال معاذ ا فلا ا بشر به الناس قال لا تبشرهم فيتكلوا متفق عليه.

١٧

الصَّابِرِينَ على خلاف النفس مانعيها عن الجزع فى المصائب و عن اتباع الشهوات و الرذائل حابسيها على الطاعات و الفضائل وَ الصَّادِقِينَ فى المقال و ادعاء الأحوال و جميع الدعاوى و الروايات و الشهادات- و اصدق الصدق شهادة ان لا اله الا اللّه و ان محمدا عبده و رسوله وَ الْقانِتِينَ الدائمين على الطاعات المشتغلين باللّه تعالى وَ الْمُنْفِقِينَ أموالهم فى مرضات اللّه- فاستوعب الكلام انواع الطاعات من الأخلاق و الأقوال و الأعمال البدنية و المالية وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧) يعنى انهم مع ما هم فيه من الطاعات الظاهرة و الباطنة خائفون من اللّه يعترفون على أنفسهم بالتقصير فيستغفرون منه كيف لا و ان العباد لا يمكن ان يعبدوا كما ينبغى لكبريائه و عظمته- بل العبد إذا لاحظ الى انّ أفعاله مخلوقة للّه تعالى و انه تعالى منّ عليه بتوفيقه لعبادته و ارتضاه لنفسه حيث لم يتركه الى غيره علم ان كل ما صدر منه ان كان قابلا للقبول فهو مستوجب للشكر و الامتنان و لا يتصور أداء شكر نعمائه الا ان يتغمده اللّه بمغفرته و رضوانه يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا- «١» بَلِ اللّه يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ و خص الاسحار بالاستغفار لكونها اقرب للاجابة عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ينزل اللّه تعالى الى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل فيقول انا الملك من ذا الذي يدعونى فاستجيب له من ذا الذي يسئلنى فاعطيه من ذا الذي يستغفرنى فاغفر له متفق عليه و فى رواية لمسلم ثم يبسط يديه و يقول من يقرض غير عدوم و لا ظلوم حتى ينفجر الفجر

قال البغوي حكى عن الحسن ان لقمان قال لابنه يا بنى لا تكونن أعجز من هذا الديك يصوت

(١) و فى القران بعد أَنْ أَسْلَمُوا- قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللّه إلخ-.

بالأسحار و أنت نائم على فراشك و عن زيد بن اسلم انه قال هم الذين يصلون الصبح فى الجماعة و قيد بالسحر لقربه من الصبح و قال الحسن مدوا الصلاة الى السحر ثم استغفروا قال نافع كان ابن عمر يحيى الليل ثم يقول يا نافع اسحرنا فاقول لا فيعاود الصلاة فاذا قلت نعم قعد يستغفر اللّه و يدعو حتى يصبح و توسيط واو العطف دليل على استقلال كل واحدة منها فى الكمال و كمالهم فيها او لتغائر الموصوفين بها فالصابرون الصوفية اصحاب القلوب و النفوس الزاكية و الغزاة و الشهداء و الصادقون العلماء الناطقون بالروايات الصادقة و القانتون الزهاد المصلون بطول القنوت الداعون اللّه خوفا و طمعا و المنفقون الأغنياء الصالحون من المؤمنين يكتسبون الأموال من الوجوه المباحة و ينفقونها فى سبيل اللّه و المستغفرون بالأسحار الذين يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و الذي نفسى بيده لو لم تذنبوا لذهب اللّه بكم و لجاء بقوم يذنبون فيستغفرون اللّه فيغفر لهم رواه مسلم- و روى احمد و ابو يعلى من حديث ابى سعيد نحوه- قدم اللّه سبحانه فى الذكر الا فضل فالافضل-.

١٨

شَهِدَ اللّه اى بيّن بنصب الدلائل العقلية و إنزال الآيات السمعية أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ حكى البغوي عن الكلبي قال قدم حبران من أحبار الشام على النبي صلى اللّه عليه و سلم فلما ابصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج فى اخر الزمان فلما دخلا عليه عرفاه بالصفة فقالا له أنت محمد قال نعم قالا و أنت احمد قال انا محمد و احمد قالا فانا نسئلك عن شى ء فان اخبرتنا أمنا بك و صدقناك فقال سلا فقالا أخبرنا عن أعظم شهادة فى كتاب اللّه عز و جل فانزل اللّه تعالى هذه الاية فاسلم الرجلان قال ابن عباس خلق اللّه الأرواح قبل الأجساد باربعة آلاف سنة و خلق الأرزاق قبل الأرواح باربعة آلاف سنة فشهد بنفسه لنفسه قبل ان خلق الخلق حين كان و لم يكن سماء و لا ارض و لا بحر و لا بر فقال شَهِدَ اللّه أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ و شهدت الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ يعنى مؤمنى الانس و الجن كلهم أمنوا بالجنان و شهدوا بتوحيد اللّه تعالى باللسان قائِماً بتدبير مصنوعاته منصوب على الحال من اللّه فاعل شهد و جاز لعدم اللبس يعنى شهد اللّه فى حال قيامه بتدبير مصنوعاته فان قيامه عليه كذلك دليل واضح على توحيده- او على الحال من هو و العامل فيها معنى الجملة اى تفرد قائما- او احقه لانه حال مؤكدة- او على المدح و على هذا يكون مندرجا فى المشهود به- و جاز ان يكون مفعولا للعلم اى أولوا المعرفة قائما بِالْقِسْطِ اى متلبسا بالعدل فى قسمه و حكمه لا يتصور منه الظلم لانه مالك الملك يتصرف فى ملكه كيف يشاء فلا يجب عليه ثواب المطيع بل ذلك بفضل منه و لا عذاب العاصي فانه يغفر لمن يشاء فلا دليل فيه للمعتزلة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كرره للتأكيد و مزيد الاعتناء بمعرفة ادلة التوحيد و الحكم به بعد اقامة الحجة الْعَزِيزُ فى ملكه الْحَكِيمُ (١٨) فى صنعه صفتان للّه فاعل شهد او بدلان من هو قدم العزيز لتقدم العلم بقدرته على العلم بحكمته-.

١٩

إِنَّ الدِّينَ المرضى عِنْدَ اللّه هو الْإِسْلامُ قرا الكسائي بفتح انّ على انه بدل الكل ان فسر الإسلام بالايمان قال قتادة شهادة ان لا اله الا اللّه و الإقرار بما جاء به الرسل من عند اللّه و هو دين اللّه الذي شرعه لنفسه و بعث به رسله و دل عليه أولياءه و لا يقبل غيره و لا يجزى الا به- او فسر بما يتضمنه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الإسلام ان تشهد ان لا اله الا اللّه و ان محمدا رسول اللّه و تقيم الصلاة و تؤتى الزكوة و تصوم رمضان و تحج البيت ان استطعت اليه سبيلا متفق عليه من حديث عمر فى حديث طويل قصة سوال جبرئيل- و بدل اشتمال ان فسر الإسلام بالشريعة المحمدية فانه الدين المرضى عند اللّه فى هذا الزمان بعد نسخ الأديان المنزلة من اللّه تعالى سابقا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو كان موسى حياما وسعه الا اتباع رواه احمد و البيهقي من حديث جابر-

و قرا الجمهور بكسر انّ على انه كلام مبتدا عن الأعمش انه قام من الليل يتهجد فمر بهذه الاية شَهِدَ اللّه الاية ثم قال و انا اشهد بما شهد اللّه به و استودع اللّه هذه الشهادة و هى لى عند اللّه وديعة إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه الْإِسْلامُ فلما فرغ من صلاته سئل عنه فقال حدثنى ابو وائل عن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول اللّه ان لعبدى هذا عندى عهدا و أنا أحق من وفى العهد ادخلوا عبدى الجنة رواه البغوي بسنده و أخرجه الطبراني و البيهقي فى الشعب بسند ضعيف وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعنى اليهود و النصارى فى نبوة محمد صلى اللّه عليه و سلم و حقية الإسلام حتى نفاه بعضهم و قال بعضهم انه مخصوص بالعرب إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بانّ الدّين عند اللّه الإسلام حيث بين اللّه ذلك فى التورية و الإنجيل بَغْياً منصوب على العلية بَيْنَهُمْ ظرف مستقر صفة لبغيا يعنى ما تركوا الحق و اختلفوا بشبهة و خفاء فى الأمر بل بعد العلم بكونه حقا لاجل بغى و حسد مستقر بينهم و لاجل طلب الملك و الرياسة-

و اخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر انها نزلت فى نصارى نجران و معناها وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعنى الإنجيل فى امر عيسى عليه السلام حتى قال بعضهم انه ابن اللّه إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بان اللّه واحد لم يلد و ان عيسى عبده و رسوله بَغْياً بَيْنَهُمْ اى معاداة لليهود و مخالفة لهم حيث أنكروا نبوته و بهتوا امه بعد ما جاءهم العلم فى التورية انه عبده و رسوله

و اخرج ابن ابى حاتم عن الربيع ان موسى عليه السلام لما حضره الموت دعا سبعين رجلا من أحبار بنى إسرائيل فاستودعهم التورية و استخلف يوشع بن نون فلما مضى القرن الاول و الثاني و الثالث وقعت الفرقة بينهم و هم المراد بقوله تعالى وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من أبناء أولئك السبعين حتى اهرقوا بينهم الدماء و وقع الشر إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ يعنى بيان ما فى التورية بَغْياً بَيْنَهُمْ فسلط اللّه عليهم الجبابرة وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللّه فَإِنَّ اللّه سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فيجازيه على كفره وعيد لمن كفر منهم.

٢٠

فَإِنْ حَاجُّوكَ يا محمد و قالت اليهود و النصارى ان ديننا هو الإسلام و انّما اليهودية و النصرانية نسب فَقُلْ لانزاع فى اللفظ بل أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ فتح الياء نافع و ابو جعفر- ابو محمد عفا عنه و ابن عامر و حفص و اسكن الباقون للّه اى انقدت للّه تعالى وحده لا أشرك به غيره و لا اتبع هو اى فيما امر به بقلبي و لسانى و جميع جوارحى- و انما خص الوجه لانه أكرم جوارح الإنسان او المعنى أخلصت توجهى ظاهرا بالجوارح و اللسان و باطنا بالنفس و القلب للّه تعالى لا التفت الى غيره- او المعنى فوضت وجهى يعنى ذاتى للّه تعالى و مقتضى هذا الإسلام و التفويض ان لا يشرك به غيره و ان يسارع فى امتثال أوامره و انتهاء نواهيه و ان يتبع كل شريعة جاءت من عنده ما لم ينسخ وَ مَنِ اتَّبَعَنِ عطف على الضمير المرفوع فى أسلمت و حسن للفصل اى و اسلم من اتبعنى- و جاز ان يكون مفعولا معه- اثبت الياء نافع و كذا ابو جعفر وصلا و يعقوب فى الحالين- و ابو عمرو فى الوصل على الأصل و حذفها الباقون فى الحالين تبعا للخط وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ عطف على قل أسلمت يعنى قل لنفسك أسلمت و احضر الإسلام فى قلبك و اجعله مطمئنا به وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود و النصارى وَ الْأُمِّيِّينَ الذين لا كتاب لهم كمشركى العرب أَ أَسْلَمْتُمْ كما أسلمت بعد ما وضح بالدلائل العقلية و آيات التورية و الإنجيل إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه الْإِسْلامُ أم أنتم بعد على كفركم- فهذا استفهام صيغة و امر معنى كما فى قوله تعالى فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ يعنى انتهوا و فيه تعبير لهم بالبلادة او المعاندة فَإِنْ أَسْلَمُوا كما أسلمت فَقَدِ اهْتَدَوْا فقرا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هذه الاية فقال اهل الكتاب اسلمنا فقال لليهود ان عيسى عبد اللّه و رسوله و كلمته فقالوا «١» معاذ اللّه و قال للنصارى أ تشهدون ان عيسى عبد اللّه و رسوله فقالوا معاذ اللّه ان يكون عيسى عبدا- فقال اللّه تعالى وَ إِنْ تَوَلَّوْا عن الإسلام كما أسلمت فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ اى فلا يضرونك انما عليك تبليغ الرسالة دون الهداية و قد بلغت وَ اللّه بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠) مؤمنهم و كافرهم يجزئ كل واحد بما عمل-.

(١) فى الأصل فقال- ابو محمد عفا اللّه عنه.

٢١

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّه يعنى اليهود يكفرون بالقران و الإنجيل و آيات التورية التي فيها نعت النبي صلى اللّه عليه و سلم وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ اى قتل اوائلهم الأنبياء و هم يرضون بفعلهم يريدون ان يفعلوا بالنبي صلى اللّه عليه و سلم ما فعل اوائلهم فقاتلوه و سحروه و جعلوا السم فى طعامه حتى مات به شهيدا حين مات و قد ذكر قصة السحر و للسم فى سورة البقرة بِغَيْرِ حَقٍّ يعنى فى اعتقادهم و الا فقتل النبي لا يكون الا بغير حق و انما حملهم على القتل حب الرياسة و لم يروا منهم ما يجوز به القتل وَ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ اى بالعدل مِنَ النَّاسِ و هم اتباع الأنبياء- قرا حمزة يقاتلون من المفاعلة قال ابن جريج كان الوحى يأتى الى أنبياء بنى إسرائيل و لم يكن يأتيهم كتاب فيذكّرون قومهم فيقتلون فيقوم رجال ممن اتبعهم و صدقهم فيذكّرون قومهم فيقتلون ايضا فهم الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ روى البغوي عن ابى عبيدة بن الجراح رضى اللّه عنه قال قلت لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اىّ الناس أشد عذابا يوم القيامة قال رجل قتل نبيا او رجل امر بالمنكر و نهى عن المعروف ثم قرا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ الى قوله وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يا أبا عبيدة قتلت بنوا إسرائيل ثلاثة و أربعين نبيا من أول النهار فى ساعة فقام مائة و اثنا عشر رجلا من عباد بنى إسرائيل فامروا من قتلوهم بالمعروف و نهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من اخر النهار فى ذلك اليوم فهم الذين ذكرهم اللّه فى كتابه و انزل الاية فيهم فَبَشِّرْهُمْ اى أخبرهم يا محمد ذكر لفظ البشارة تهكما بهم بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) وجيع قال سيبويه جملة فبشرهم لا يصلح ان يكون خبرا لانّ و لا يجوز عنده دخول الفاء على خبران قياسا على خبر ليت و لعل فعلى هذا خبران اما قوله تعالى.

٢٢

أُولئِكَ الَّذِينَ الى آخره- و جملة فبشّرهم معترضة نظيره زيد فافهم رجل صالح و اما محذوف و أقيم المسبب مقامه و التقدير لهم عذاب اليم فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ- و قال الجمهور جملة فبشّرهم خبر لانّ فقال البغوي انما ادخل الفاء على خبران على الغاء ان و تقديره الذين يكفرون و يقتلون فبشرهم و قال اكثر النحويين يجوز دخول الفاء على خبران لشبه اسمها الموصول بالشرط كالمبتدا الموصول بخلاف اسم ليت و لعل فانهما ينقلان الجملة الخبرية الى الإنشاء فينفيان المشابهة بالشرط فعلى هذا الجملة التالية خبر بعد خبر أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ اى ضاعت أَعْمالُهُمْ فلهم اللعنة و الخزي فِي الدُّنْيا وَ العذاب فى الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢) يحفظ أعمالهم من الحبط و يدفع عنهم العذاب- اخرج ابن المنذر و ابن إسحاق و ابن جرير و ابن ابى حاتم عن عكرمة عن ابن عباس قال دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بيت المدارس على جماعة من اليهود فدعاهم الى اللّه تعالى فقال له نعيم بن عمرو و الحارث بن زيد على اى دين أنت يا محمد قال على ملة ابراهيم و دينه قالا فان ابراهيم كان يهوديا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فهلما الى التورية فهى بيننا و بينكم فابيا عليه فانزل اللّه تعالى.

٢٣

أَ لَمْ تَرَ استفهام للتقرير و التعجيب إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً يعنى نصيبا حقيرا حيث لا نصيب لهم من بطون الكتاب و لا من الايمان بجميع ما فيه مِنَ الْكِتابِ و من للتبعيض و جاز ان يكون للبيان و المراد بالكتاب التورية او جنس الكتب السماوية يُدْعَوْنَ حال من الموصول مفعول أَ لَمْ تَرَ يعنى يدعوهم محمد صلى اللّه عليه و سلم إِلى كِتابِ اللّه يعنى التورية على ما ذكرنا من الرواية- و كذا على ما قال الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس ان رجلا و امراة من اهل خيبر زنيا و كان فى كتابهما الرجم فكرهوا رجمهما لشرفهما فيهم فرفعوا أمرهما الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و رجوا ان يكون عنده رخصة فحكم عليهما بالرجم فقال له النعمان بن او فى و بحرى بن عمر و جرت عليهما يا محمد ليس عليهما الرجم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بينى و بينكما التورية قالوا قد أنصفتنا قال فمن أعلمكم بالتورية قالوا رجل اعور ليسكن فدك يقال له ابن صوريا فارسلوا اليه فقدم المدينة- و كان جبرئيل قد وصفه لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنت ابن صوريا قال نعم قال أنت اعلم اليهود قال كذلك يزعمون قال فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بشى ء من التورية فيه الرجم مكتوب فقال له اقرأ فلما اتى اية الرجم وضع كفه عليها

و قرا ما بعدها فقال ابن سلام يا رسول اللّه قد جاوزها و قام فرفع كفه عنها ثم قرا على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و على اليهود بان المحصن و المحصنة إذا زنيا و قامت عليهما البينة رجما و ان كانت المرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما فى بطنها فامر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم باليهوديين فرجما فغضب اليهود لذلك و انصرفوا فانزل اللّه تعالى هذه الاية لِيَحْكُمَ الكتاب أسند الحكم الى الكتاب لكونه سببا للحكم او ليحكم النبي صلى اللّه عليه و سلم بَيْنَهُمْ على وفق الكتاب ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ عطف على يدعون و فيه استبعاد لتوليتهم مع علمهم بانه الحق من ربهم وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) اى هم قوم عادتهم الاعراض عن الحق و الجملة حال من فريق و هى نكرة مخصصة بالصفة و قال قتادة معناه ان اليهود دعوا الى حكم كتاب اللّه يعنى القران فاعرضوا عنه و روى الضحاك عن ابن عباس فى هذه الاية ان اللّه تعالى جعل القرآن حكما فيما بينهم و بين رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فحكم القران على اليهود و النصارى انهم على غير الهدى فاعرضوا عنه.

٢٤

ذلِكَ التولي عن كتاب اللّه بعد العلم به و الاعراض عن الحق بِأَنَّهُمْ اى بسبب تسهيل امر العقاب على أنفسهم باعتقاد فاسد و هو انهم قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أربعين يوما عدد ايام عبادة ابائهم العجل كما مر فى سورة البقرة وَ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) اى هذا القول او ان آباءهم الأنبياء يشفعون لهم او ان يعقوب وعده اللّه تعالى ان لا يعذب أولاده.

٢٥

فَكَيْفَ خبر لمبتدا محذوف يعنى فكيف حالهم إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ اى جزاء ما عملت من خير او شر وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥) الضمير لكل نظرا الى المعنى فان معناه كل انسان لا ينقص من حسناتهم و لا يزاد على سيئاتهم- اخرج ابن ابى حاتم عن قتادة قال ذكر لنا ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سال ربه ان يجعل ملك فارس و الروم فى أمته و

قال البغوي قال ابن عباس و انس بن مالك رضى اللّه عنهم انه لما فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مكة و عدامته ملك فارس و الروم قالت المنافقون و اليهود هيهات هيهات من اين لمحمد ملك فارس و الروم هم اعزوا منع من ذلك الم يكف محمدا مكة و المدينة حتى طمع فى ملك فارس و الروم فانزل اللّه تعالى على اختلاف الروايتين.

٢٦

قُلِ اللّهمَّ الى آخره و يمكن الجمع بينهما- و ذكر البيضاوي انه روى انه صلى اللّه عليه و سلم لما خط الخندق و قطع لكل عشرة أربعين ذراعا و أخذوا يحفرون فظهر فيه صخرة عظيمة لم يعمل فيها المعاول فوجهوا سلمان الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يخبره فجاء و احذ المعول منه فضربها ضربة صدعتها و برق برقا أضاء ما بين لابتيها لكانّ مصباحا فى جوف بيت مظلم فكبر و كبر معه المسلمون فقال أضاءت لى منها قصور حيرة كانّها أنياب الكلاب- ثم ضرب الثانية فقال أضاءت لى منها القصور الحمر من ارض الروم- ثم ضرب الثالثة فقال أضاءت لى قصور صنعاء و أخبرني جبرئيل ان أمتي ظاهرة على كلها فابشروا- فقال المنافقون الا تعجبون يمنّيكم و يعدكم الباطل و يخبركم انه يبصر من يثرب قصور الحيرة من ارض فارس و انها تفتح لكم و أنتم تحفرون الخندق من الفرق فنزلت هذه الاية- و قد ذكر البيهقي و ابو نعيم فى الدلائل هذه القصة من غير ذكر نزول الاية- بالتحريك الخوف- نهايه منه رح و ذكر ابن خزيمة عن قتادة مختصرا و فيه ذكر نزول الاية قوله تعالى قُلِ يا محمد و المقولة بعد ذلك اللّهمَّ أصله يا اللّه حذف حرف النداء و زيدت الميم عوضا عنه و لذلك لا يجتمعان و هذا من خصائص هذا الاسم الرفيع كدخول حرف النداء عليه مع لام التعريف و قطع همزته و دخول تاء القسم عليه- و قيل أصله يا اللّه امّنا بخير اى اقصدنا فخفف بحذف حرف النداء و متعلقات الفعل و همزته فبقى اللّهم و ربما خففوا فقالوا لا هم و كل ذلك لكثرة الاستعمال نظيره هلم إلينا كان أصله هل امّ إلينا اى هل قصد إلينا- و إذا قيل اللّهم اغفر لى فقوله اغفر لى بيان لامّنا بخير و كذا فى قوله اللّهم العن رعلا و ذكوان فان لعن الأعداء يصلح بيانا لامّنا بخير مالِكَ الْمُلْكِ صفة للمنادى و قيل نداء بعد نداء حذف منه ايضا حرف النداء تقديره يا مالك الملك و لا يجوز جعله صفة للمنادى لان المنادى الاول مكفوف كصوت بلحوق كلمة هو و مثله لا يوصف كذا قال سيبويه و نقض بسيبويه النحوي و دفع بان الصوت هنا لم يبق على معناه بجعله جزءا للكلمة بخلاف ما نحن فيه- و الملك مصدر يشتق منه الملك و المراد به المفعول أريد به عالم الإمكان و اللام للاستغراق فان اللّه تعالى خالقه و مالكه يتصرف فيه كيف يشاء و يهب منه ما يشاء لمن يشاء لا يجوز لاحد ان يتصرف فى شى ء من الأشياء الا باذنه و تمليكه تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ و اللام فى اللفظين للعهد الذهني و المعنى تعطى من الملك ما تشاء من تشاء و تسترد كذلك- عدل من الضمير الى الظاهر وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ فى الدنيا او فى الاخرة او فيهما بالنصر و الأدبار و التوفيق و الخذلان فى الدنيا و الثواب و العذاب فى الاخرة بِيَدِكَ الْخَيْرُ قيل تقديره بيدك الخير و الشر فاكتفى بذكر أحدهما كما فى قوله تعالى سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ اى الحر و البرد و قيل خص ذكر الخير لسياق الكلام فيه حيث وعد النبي صلى اللّه عليه و سلم أمته ملك فارس و الروم و قيل ذكر الخير وحده لانه المقضى بالذات و الشر مقضى بالعرض إذ لا يوجد شر جزئى ما لم يتضمن خيرا كليا او لمراعات الأدب فى الخطاب-

قلت لعل المراد بالخير الوجود فالوجود الحقيقي الذي لاحظّ له من العدم مختص بالواجب لذاته خير محض ليس فيه شائبة من الشر- و الوجود الظلي الذي به تحقق الممكن فى الخارج الظلي مستفاد من الواجب- و العدم الذي هو حصة من الشر فى الممكن ذاتى له غير مستفاد من العلة- و معنى اسناد الشر الى اللّه تعالى ان الممكن الذي الشر داخل فى مفهومه و بعض افراده اكثر شرا من البعض و حصة الوجود منه مستند الى الوجود الحق و اما حصة الشر منه فذاتى له فما اصدق قوله تعالى بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (٢٦) و لا يقدر أحد غيرك على شى ء أصلا و قدرة العباد انما هى قدرة متوهمة بها يسمى العبد كاسبا و اللّه خلقهم و ما يعملون-

قال البيضاوي نبه بهذه الجملة على ان الشر ايضا بيده-

قلنا نعم لكن معنى كونه تعالى قادرا على الشر و كون الشر بيده انه تعالى قادر على عدم افاضة الخير فان القدرة معناه ان شاء فعل و ان شاء لم يفعل و إذا لم يفعل الخير بقي الممكن على الشر الأصلي-.

٢٧

تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ تُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ يعنى تدخل أحدهما فى الاخر بالتعقيب او الزيادة فى أحدهما بالنقصان فى الاخر وَ تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ قرا نافع و ابو جعفر و يعقوب و خلف- ابو محمد عفا عنه و حمزة و الكسائي و حفص عن عاصم الميّت بتشديد الياء هاهنا و فى الانعام و يونس و الروم و فى الأعراف لبلد ميّت و فى الفاطر الى بلد ميت- و زاد نافع او من كان ميّتا فاحييناه- و لحم أخيه ميّتا- و الأرض الميّتة أحييناها- و الباقون يخففون الجميع و يعقوب الحىّ من الميت و لحم أخيه ميتا- قيل معناه يخرج الحيوان من النطفة و البيضة و يخرج النطفة و البيضة من الحيوان و النبات الطري من الحب اليابس و الحب اليابس من النبات كذا قال ابن مسعود و سعيد بن جبير و مجاهد و قتادة و عكرمة و الكلبي و الزجاج و قال الحسن و عطاء يخرج الكافر من المؤمن و المؤمن من الكافر قال اللّه تعالى أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ الاية كذا أخرجه ابن ابى حاتم عن عمر بن الخطاب وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧) اى من غير تضييق و تقتير بحيث لا يعرف الخلق عدده و مقداره و ان كان معلوما عند اللّه عقب اللّه سبحانه هذه الجمل الخمس ليستدل بها على قدرة اللّه على إيتاء الملك من يشاء و نزعه ممن يشاء روى البغوي بسنده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن على عليهم السلام قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان فاتحة الكتاب و اية الكرسي و ايتين من ال عمران شهد اللّه الى قوله إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه الْإِسْلامُ و قُلِ اللّهمَّ مالِكَ الْمُلْكِ الى قوله بِغَيْرِ حِسابٍ مشفعات ما بينهن و بين اللّه عز و جل حجاب قلن يا رب تهبطنا الى أرضك و الى من يعصيك قال اللّه عز و جل بي حلفت لا يقرؤكن أحد من عبادى دبر كل صلوة الا جعلت الجنة مأواه على ما كان فيه و الا أسكنته فى حظيرة القدس و الا نظرت اليه يعنى كل يوم سبعين مرة و أقضيت له كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة و الا أعذته من كل عدو و حاسد و نصرته عليه

و اخرج الطبراني عن معاذ ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال له الا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك الدين مثل ثبير اداه اللّه عنك قُلِ اللّهمَّ مالِكَ الْمُلْكِ الى قوله بِغَيْرِ حِسابٍ رحمن الدنيا و الاخرة و رحيمهما نعطى من تشاء منهما و تمنع من تشاء ارحمني رحمة تغننى بها عن رحمة من سواك- و اللّه اعلم- اخرج ابن جرير من طريق سعيد و عكرمة عن ابن عباس قال كان الحجاج بن عمرو حليفا لعمرو بن الأشرف و ابن ابى الحقيق و قيس بن زيد قد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر و عبد اللّه بن جبير و سعيد بن خيثمة لاولئك النفر اجتنبوا هؤلاء اليهود لا يفتنونكم عن دينكم فابى أولئك النفر الا مباطنهم فانزل اللّه تعالى.

٢٨

لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ نهوا عن موالاتهم بقرابة او صداقة و نحو ذلك او عن الاستعانة بهم فى الغزو و سائر الأمور الدينية مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فيه اشارة الى ان ولايتهم لا يجتمع ولاية المؤمنين لاجل منافاة بين ولاية المتعادين ففى ولاية الكفار قبح بالذات و قبح بالعرض بالحرمان عن ولاية المؤمنين- و ذكر البغوي قول مقاتل انها نزلت فى حاطب بن ابى بلتعة و غيره كانوا يظهرون المودة لكفار مكة و ذكر قول الكلبي عن ابى صالح انها نزلت فى المنافقين عبد اللّه بن ابى و أصحابه كانوا يتولون المشركين و اليهود و يأتونهم بالأخبار يرجون ان يكون لهم الظفر على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فانزل اللّه تعالى هذه الاية و نهى المؤمنين عن فعل مثل فعلهم- (فصل) الحب فى اللّه و البغض فى اللّه باب عظيم من أبواب الايمان عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المرء مع من أحب متفق عليه و عن انس مرفوعا نحوه بلفظ أنت مع من أحببت متفق عليه و عن ابى موسى قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مثل الجليس الصالح و السوء «١» كحامل المسك و نافح الكير»

(١) مثنوى- دور شو از اختلاط يار بد يار بد بدتر بود از مار بد.

فحامل المسك اما ان يحذيك اى يعطيك- نهايه منه و اما ان تبتاع منه و اما ان تجد منه ريحا طيبة و نافح الكير اما ان يحرق ثيابك و اما ان تجد منه ريحا خبيثة متفق عليه و عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لابى ذر يا أبا ذر اىّ عرى الايمان أوثق قال اللّه و رسوله اعلم قال الموالاة فى اللّه و الحب فى اللّه و البغض فى اللّه رواه البيهقي فى الشعب و عن ابى ذر قال قال النبي صلى اللّه عليه و سلم ان أحب الأعمال الى اللّه تعالى الحب فى اللّه و البغض فى اللّه رواه احمد و ابو داود و فى الباب أحاديث كثيرة وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ اى اتخاذهم اولياء فَلَيْسَ الضمير المرفوع عائد الى من يفعل مِنَ اللّه حال من شى ء قدم عليه لتنكيره فِي شَيْ ءٍ خبر ليس و التنكير للتحقير يعنى ليس هو كائنا فى شى ء حقير من ولاية اللّه او من دين اللّه يعنى كما ان ولاية الكفار لا يجتمع ولاية المؤمنين كذلك لا يجتمع ولاية اللّه ايضا- و لو قال مار بد تنها همين بر جان زند يار بد بر جان و بر ايمان زند - منه رح

(٢) ضارب كير الحداد الذي يجعل من الطين- منه رح [.....]

من دون اللّه و المؤمنين لافاد ذلك الفائدة مع الاختصار لكن المقصود كمال المبالغة فى البعد عن ولاية اللّه إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا استثناء مفرغ منصوب على الظرفية و هو من حيث المعنى متعلق بكلا الجملتين السابقتين و من حيث اللفظ بإحداهما مقدرا للاخرى كما هو داب التنازع يعنى لا يجوز موالاة الكفار فى شى ء من الأوقات الا وقت ان تتقوا منهم و من يفعل ذلك ليس هو من اولياء اللّه فى شى ء من الأوقات الا وقت الاتقاء- و الاتقاء افتعال من الوقاية يعنى وقاية نفسه من شرهم و يلزمه الخوف و لاجل ذلك قيل معناه الا ان تخافوا مِنْهُمْ تُقاةً كذا قرا الجمهور

و قرا مجاهد و يعقوب تقيّة على وزن فعيلة و على التقديرين مصدر من غير باب الفعل يقال توقيته تقاة و تقى و تقية و تقوى و إذا قلت اتقيت كان مصدره اتقاء ثم المصدر جاز ان يكون بمعناه و يكون منصوبا على المصدرية و المعنى لا يجوز موالاة الكفار فى شى ء من الأوقات الا وقت ان تتقوا أنفسكم منهم اى من شرهم تقاة و جاز ان يكون بمعنى المفعول فالمعنى الا وقت ان تخافوا من جهتهم ما يجب اتقاؤه و مقتضى الاستثناء اباحة موالاتهم وقت الخوف من شرهم- و لا شك ان الضروري يتقدر بقدر الضرورة فلا يجوز حينئذ الا اظهار الموالاة دون ابطانها و لا يجوز حينئذ ان يستحل دما حراما او مالا حراما او ارتكاب معصية او يظهر الكفار على عورات المسلمين او يطلعهم على اسرار المؤمنين- و أنكر قوم التقية بعد ظهور الإسلام قال معاذ بن جبل كانت التقية فى جدة الإسلام قبل استحكام الدين و قوة الإسلام فاما اليوم فليس ينبغى لاهل الإسلام ان يتقوا من عدوهم- ثم بالغ سبحانه فى المنع عن ولاية الكفار و زاد على نفى ولاية المؤمنين و نفى ولاية اللّه عمن تولى بالكفار بالوعيد فقال وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّه نَفْسَهُ اى يخوفكم سخطه و عقابه فى موالاة الكفار و ذكر النفس ليعلم ان المحذر منه عقاب يصدر منه تعالى فلا يبالى بما يخاف أحدكم من الكفار فهذا وعيد شديد مشعر بتناهي المنهي فى القبح وَ إِلَى اللّه الْمَصِيرُ (٢٨) اى مصيركم اليه تعالى لا تقوتونه و هذا وعيد اخر.

٢٩

قُلْ يا محمد إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ اى قلوبكم من مودة الكفار و غيرها أَوْ تُبْدُوهُ قولا او فعلا يَعْلَمْهُ اللّه لا يخفى عليه شى ء و الغرض من الكلام تسوية المبدى و المخفي بالنسبة الى علم اللّه تعالى و الا فالعلم بالمخفي يقتصى العلم بالمبدى بالطريق الاولى فلا حاجة الى ذكره او تبدوه وَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللّه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ

(٣٩) جملة يعلم استيناف غير معطوف على جزاء الشرط و هو فى مقام التعليل لما سبق يعنى إذا لم يخف عليه شى ء فكيف تخفى عليه ضمائركم و اقتصر فى الذكر على علم ما فى السموات و ما فى الأرض لانحصار نظر العوام عليهما و المقصود احاطة علمه تعالى بكل موجود فان وجود كل شى ء مستفاد منه فكيف يخفى عليه شى ء و فى ذكر احاطة علمه تعالى بكل شى ء و قدرته على كل شى ء بيان لقوله تعالى و يحذركم اللّه نفسه لانه متصف بالعلم الشامل و القدرة الكاملة فلا يجوز التجاسر على عصيانه عند العقل- و جاز ان يكون المراد انه تعالى لا يخفى عليه شى ء يمكن به تعذيبكم فى الدنيا و الاخرة و هو على كل شى ء قدير فيعذبكم باىّ شى ء يريد فى الدنيا او فى الاخرة او فيهما و لا شك ان موالاة الكفار و المداهنة فى الدين يستلزم التعذيب فى الدنيا ايضا بضرب المذلة و سلب السلطنة و اللّه اعلم-.

٣٠

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً الظرف اعنى يوم متعلق بتود و ما موصولة ليست بشرطية لاجماع القراء على رفع تود و لو كانت شرطية لذهب بعضهم الى جزمه بناء على جواز الرفع و الجزم إذا كان الشرط ماضيا مع ان المروي عن المبرّد ان الرفع شاذ يعنى إذا كان الشرط ماضيا و الجزاء مضارعا و الموصول مع صلته مفعول لتجدو هى بمعنى تصيب فلا يقتضى الا مفعولا واحدا و محضرا حال منه و ما عملت من سوء معطوف على ما عملت من خير- و لعل المراد حينئذ بكل نفس هاهنا نفس مؤمنة خلطت عملا صالحا و اخر سيّئا- و اما من ليس له الا عمل صالح او الا عمل سى ء فيظهر حاله بالمقايسة و المفهوم- فاللّه سبحانه برأفته بحضر للمؤمن عمله الصالح على رءوس الخلائق دون عمله السوء بل تجده فى نفسه و تود ان لا يظهره اللّه او يظهره اللّه على الإخفاء و التستر كما فى الصحيحين عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه يدنى المؤمن فيضع عليه كتفه و يستر فيقول أ تعرف ذنب كذا أ تعرف ذنب كذا فيقول نعم اى رب حتى قدره بذنوبه و راى فى نفسه انه قد أهلك قال سترتها عليك فى الدنيا و انا اغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته و اما الكافر و المنافق فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللّه عَلَى الظَّالِمِينَ- و ان كان تجد بمعنى تعلم فحينئذ محضرا يكون مفعولا ثانيا له محمولا على ما عملت من خير و فيما عطف عليه يقدر مثله كما فى قوله علمت زيدا فاضلا و عمروا يعنى تجد الخير و الشر محضرين و كلمة لو مقحمة و ان مع اسمها و خبرها مفعول لتودا و هى بمعنى ليت حكاية لودادهم و ان مع اسمها و خبرها بمنزلة الاسم مع الخبر لليت و حذف مفعول تود لما يدل عليه ما بعده- و جاز ان يكون لو مصدرية و بعدها فعل مقدر فاعلها ان مع اسمها و خبرها و ذلك الفعل بتأويل المصدر مفعول لتود و ضمير بينه راجع الى اليوم او الى ما عملت من سوء تقدير الكلام حين تصيب كل نفس عملها الخير اى صحيفة عملها او جزاءه حال كونه محضرا و تصيب عملها الشر او تعلم جزاء خيرها و شرها محضرين عندها تود اى تتمنى مسافة بعيدة بينها و بين ذلك اليوم و هو له لما يرى من عملها السوء و ان كان ذلك مع ما يرى من صالح عمله فان طمع النفع لا يصير مطمح نظره عند خوف الضرر او بينها و بين عملها السوء او يتمنى ثبوت مسافة بينها و بينه- و الأمد الاجل و الغاية التي ينتهى إليها- قال الحسن يسر أحدهم ان لا يلقى عمله السوء ابدا و قيل يود انه لم يعمله و جاز ان يكون يوم متعلقا بقدير و وجه تخصيص القدرة باليوم مع شموله لجميع الازمنة وقوع الثواب او العذاب فى ذلك اليوم و المعنى و اللّه بكل شى ء من ثوابكم و عذابكم قدير يوم تجد- و جاز ان يكون يوم منصوبا بمضمر فيقدر اذكر- و الاولى ان يقدر يحذركم اللّه يوم تجد فلا يكون فى عطف و يحذركم خفاء و على هذه الوجوه تود حال مقدرة من الضمير فى عملت من سوء يعنى تجد ما عملت من سوء مقدرا حين ما عملت ذلك الوداد يوم القيامة- و جاز ان يكون تود خبرا لما عملت من سوء و يكون الواو فى و ما عملت من سوء للاستيناف و تمت الجملة الاولى على ما عملت من خير و جاز ان يكون الواو للعطف و تود بمنزلة المفعول الثاني لتجد محمولا على ما عملت من سوء اى تجد ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء هائلا بحيث تودّ انّ بينها و بينه أمدا بعيدا- عن عدى بن حاتم قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما منكم من أحد الا سيكلمه ربه ليس بينه و بينه ترجمان و لا حجاب يحجبه فينظر ايمن منه فلا يرى الا ما قدم من عمله و ينظر أشأم منه فلا يرى الا ما قدم و ينظر بين يديه فلا يرى الا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار و لو بشق تمرة وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّه نَفْسَهُ جملة مستانفة للتحذير عن ترك الواجبات و إتيان السيئات كما ان ما سبق كان للتحذير عن موالاة الكفار فلا تكرار- و جاز ان يكون معطوفة على تود اى يهاب من هذه اليوم او من عمله السوء وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّه نَفْسَهُ بإظهار قهاريته يوم تجد- و لو كان الظرف متعلقا با ذكر جاز ان يكون هذه الجملة معطوفة على تجد اى اذكر يَوْمَ تَجِدُ و يوم يحذّركم اللّه بإظهار قهاريته و هذه الجملة لبيان المعاملة مع الكفار و قوله تعالى وَ اللّه رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠) اى بعباده المؤمنين لبيان المعاملة مع المسلمين و جاز على التأويل الاول ان يكون هذه الجملة فى مقام التعليل للجملة الاولى يعنى انما يحذّركم اللّه نفسه لانه رؤف بالعباد يريد إصلاحهم- اخرج ابن جرير و ابن المنذر عن الحسن مرسلا قال قال أقوام على عهد نبيّنا صلى اللّه عليه و سلم و اللّه يا محمد انا لنحب ربنا فانزل اللّه تعالى.

٣١

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّه الاية- و روى ابن إسحاق و ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير انها نزلت فى وفد نجران لمّا قالوا انما نعبد المسيح حبّا للّه و

قال البغوي نزلت فى اليهود و النصارى حيث قالوا نَحْنُ أَبْناءُ اللّه وَ أَحِبَّاؤُهُ و قال الضحاك عن ابن عباس رضى اللّه عنهما وقف النبي صلى اللّه عليه و سلم على قريش و هم فى المسجد الحرام و قد نصبوا أصنامهم و علقوا عليها بيض النعام و جعلوا فى آذانها الشنوف و هم يسجدون لها فقال و اللّه يا معشر قريش و اللّه لقد خالفتم ملة أبيكم ابراهيم و إسماعيل فقال قريش انما نعبدها حبّا للّه لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللّه زُلْفى فقال اللّه تعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّه الحب بضم الحاء و كسره و كذا الحباب بهما و المحبة مصادر من أحبه يحبه فهو محبوب على غير قياس و محبّ قليل و حببته أحبه حبا من ضرب يضرب شاذ- و هو عبارة عن اشتغال قلب المحب بالمحبوب و أنسه به بحيث يمنعه عن الالتفات الى غيره و لا يكون له بد من دوام التوجه اليه و الاشتغال به و هذا هو المعنى من قولهم العشق نار فى القلوب تحرق ما سوى المحبوب- يعنى يقطع عن قلبه التوجه الى غير المحبوب فيجعله نسيا منسيا كان لم يكن فى الوجود غير محبوبه حتى يسقط عن نظر بصيرته نفسه فلا يرى نفسه كما لا يرى غيره و مقتضى تلك الصفة ابتغاء مرضات المحبوب و كراهة ما يكرهه طبعا و بالذات بلا ملاحظة طمع فى ثوابه او خوف من عقابه و ان اجتمع مع ذلك طمع و خوف ايضا- هذا تعريف المحبة من العبد و اما محبة اللّه تعالى لعبده فاللّه سبحانه منزه عن القلب و اشتغاله و لا يمنعه شأن عن شأن فهى فى حقه تعالى عبارة عن الانس الساذج المقتضى لجذب العبد الى جنابه و عدم إهماله و تركه الى غيره-

و جذب اللّه العبد الى جنابه سبب للمحبة من العبد للّه تعالى فمحبة العبد للّه تعالى فرع لمحبة اللّه تعالى إياه و ظل لها قال اللّه تعالى و ألقيت عليك محبّة منّى و قال يحبّهم و يحبّونه قدم يحبهم على يحبونه هذا ما ذكرت هو المحبة الذاتية و ما ذكر البيضاوي ان المحبة ميل النفس الى الشي ء لكمال أدرك فيه بحيث يحمله على ما يقربه اليه فهو بيان للمحبة الصفاتية و هى بمراحل عن المحبة الذاتية الا ترى ان الام يحب ولدها بلا ملاحظة كمال فيه فذلك قريب من المحبة الذاتية و ليست منها لان محبة الام تتفرع على علم انتساب الولد إليها و اما محبة اللّه تعالى فهى اعزوا على من ذلك فقد ورد فى الصحيحين و غيرهما عن ابى هريرة و ابن عباس و غيرهما مرفوعا بألفاظ مختلفة ان للّه تبارك و تعالى مائة رحمة منها رحمة واحدة قسّمها بين الخلائق يتراحمون بها و ادخر لاوليائه تسعة و تسعين- و اما ما ذكر البغوي ان حب المؤمنين للّه تعالى اتباعهم امره و إيثار طاعته و ابتغاء مرضاته و حب اللّه المؤمنين ثناؤه عليهم و ثوابه لهم و عفوه عنهم فليس هذا تعريفا للمحبة بل بيان لمقتضاه و ما يدل عليه فَاتَّبِعُونِي الفاء للسببية و ذلك لان المحبة سبب لابتغاء مرضات اللّه تعالى- و المرضى من غير المرضى لا يدرك بالرأى بل بتعليم اللّه تعالى بتوسط الرسل فثبت ان المحبة سبب لاتباع الرسل و الاتباع دليل على وجودها و عدمه دليل على عدمها فمن ادعى المحبة مع مخالفة سنة الرسول صلى اللّه عليه و سلم فهو كذاب يكذبه كتاب اللّه تعالى يُحْبِبْكُمُ اللّه جواب للامر تقديره ان تتبعونى يحببكم اللّه-

فان قيل مقتضى هذه الاية ان محبة اللّه تعالى العبد يتفرع على اتباع الرسول المتفرع على محبة من العبد للّه تعالى المسبوق بمحبة من اللّه للعبد فيلزم الدور-

قلنا هذه محبة اخرى من اللّه تعالى سوى المحبة السابقة فمحبة العبد للّه تعالى محفوف بمحبتين من اللّه سبحانه سابق و لاحق فالمحبة السابقة ما ذكرناه سابقا و المحبة اللاحقة هى التي تقتضى الرحمة و التفضل الكامل الذي ورد فى الحديث ان جزءا واحدا منها اى من الرحمة قسمها اللّه بين الخلائق و ادخر لاوليائه تسعة و تسعين- و لاقتضاء تلك المحبة اللاحقة من اللّه تعالى المغفرة و الرحمة عطف عليه قوله وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١)

قال البغوي لما نزلت هذه الاية قال عبد اللّه بن ابى لاصحابه ان محمدا يجعل طاعته كطاعة اللّه و يأمرنا ان نحبه كما أحبت النصارى عيسى بن مريم فنزل.

٣٢

قُلْ أَطِيعُوا اللّه وَ الرَّسُولَ يعنى ان إطاعة اللّه و الرسول واحد فان إطاعة الرسول من حيث هو رسول اللّه انما هى إطاعة اللّه تعالى لا غير و من ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كل أمتي يدخلون الجنة الا من ابى قالوا و من يأبى يا رسول اللّه قال من أطاعني دخل الجنة و من عصانى فقد ابى متفق عليه من حديث ابى هريرة حيث جعل دخول الجنة فرع اطاعته- و قال عليه السلام من أطاع محمدا فقد أطاع اللّه و من عصى محمدا فقد عصى اللّه و محمد فرق بين الناس رواه البخاري فى حديث طويل عن جابر فَإِنْ تَوَلَّوْا يحتمل ان يكون ماضيا و ان يكون مضارعا بحذف أحد التاءين أصله فان تتولوا اى تعرضوا عن إطاعة اللّه و الرسول صلى اللّه عليه و سلم فَإِنَّ اللّه لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢) وضع المظهر موضع الضمير و لم يقل لا يحبهم لقصد العموم و الدلالة على ان التولي كفر و الكفر ينفى المحبة و ان المحبة مخصوصة بالمؤمنين و جاز ان يكون جزاء الشرط محذوفا و قوله تعالى فانّ اللّه لا يحبّ الكفرين مسبب له دليل عليه أقيم مقامه تقديره فان تولّوا فانّ اللّه لا يحبهم لانه لا يحبّ الكفرين و الجملة الشرطية تدل على ان التولي عن الاطاعة دليل على عدم محبة اللّه تعالى إياه- و محبة العبد محفوف بالمحبتين من اللّه سابق و لا حق و اللّه اعلم.

٣٣

إِنَّ اللّه اصْطَفى افتعال من الصفوة و هى الخالص من كل شى ء يعنى اختار لنفسه و لمحبته و رسالته آدَمَ أبا البشر عليه السلام حتى اسجد له ملائكته و اسكنه فى جنته

و اخرج من ذريته الأنبياء كلهم و هو أول النبيين المصطفين وَ نُوحاً حين اختلف الناس و صاروا كفارا بعد ما كانوا على شريعة الحق و دين آدم عليه السلام فاختاره اللّه تعالى على من سواه و أهلك الكفار كلهم بدعائه و جعل ذريته هم الباقين وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ قيل أراد بال ابراهيم و ال عمران أنفسهما كما فى قوله تعالى و بقيّة ممّا ترك ال موسى و ال هرون يعنى موسى و هارون- و قال آخرون أراد بال ابراهيم إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط و سائر أنبياء بنى إسرائيل و محمدا صلى اللّه عليه و سلم- و اما عمران فقال مقاتل هو عمران بن يصهر بن قاهت بن لاوى بن يعقوب والد موسى و هارون و قيل عمران بن ماثان من أولاد سليمان بن داود عليهما السلام والد مريم أم عيسى و قال الحسن و وهب كذلك لكنهما قالا ابو مريم عمران بن أشهم بن امون من أولاد سليمان بن داود و بين عمرانين الف و ثمانون سنة و قيل الف و ثمان مائة سنة و الظاهر ان المراد بال عمران هاهنا عمران ابو مريم لدلالة سياق الكلام عليه فان قوله تعالى إذ قالت امراة عمرن واقع فى مقام البيان لما سبق من الاصطفاء- و انما خص هؤلاء بالذكر لان الأنبياء و الرسل كانوا كلهم او أكثرهم من نسلهم عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ان كان ما ذكر شاملا لنبينا صلى اللّه عليه و سلم و ابراهيم عليه السلام كما هو شامل لموسى و عيسى فاصطفاؤهم على العالمين أجمعين ظاهر و به يستدل على افضلية خواص البشر على خواص الملائكة و الا فالمراد بالعالمين عالمى زمانهم-

قال البغوي قال ابن عباس رضى اللّه عنهما قالت اليهود نحن أبناء ابراهيم و إسحاق و يعقوب و نحن على دينهم فانزل اللّه تعالى هذه الاية يعنى ان اللّه اصطفى هؤلاء بالإسلام و أنتم على غير دين الإسلام و

قال البيضاوي لما أوجب طاعة الرسل و بين انها الجالبة لمحبة اللّه عقب ذلك بيان مناقبهم تحريضا عليها و قال بعض الأفاضل لما أمرهم بمتابعة النبي صلى اللّه عليه و سلم و جعل متابعته سببا لمحبة اللّه و عدم اطاعته سببا لسخطه و سلب محبته أكد ذلك بتعقيبه بما هو عادة اللّه تعالى من اصطفاء أنبيائه على مخالفيهم و رفعهم و تذليل أعدائهم و اعدامهم تخويفا للمتمردين عن متابعته- فذكر اصطفاء آدم على من عداه حتى جعله مسجودا للملائكة و لعن عدوه إبليس و اصطفاء نوح على أعدائه كفار اهل الأرض أجمعين حتى اهلكهم بالطوفان و جعل ذرّيّته هم الباقين و اصطفاء ال ابراهيم على العالمين مع ان العالم كانوا كلهم كافرين فى زمن ابراهيم حتى جعل دينهم شائعا و ذلل مخالفيهم و اصطفاء موسى و هارون حتى القى السحرة ساجدين و أغرق فرعون و جنوده فلم يبق منهم أحد مع كثرتهم قلت و جعل متابعى عيسى عليه السلام بعد رفعه الى السماء مع كونهم مغلوبين بالكلية غالبين الى يوم القيامة حيث قال وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ و لذا خص آدم و نوحا و الآلين و لم يذكر ابراهيم و نبينا سيد المرسلين إذ ابراهيم لم يغلب على العالم بالكلية و هذا الكلام لبيان ان نبينا صلى اللّه عليه و سلم سيغلب و اللّه اعلم.

٣٤

ذُرِّيَّةً فعّيلة من الذر و هى صغار النمل و الياء للنسبة و وجه ذلك انهم استخرجوا من صلب آدم كالذر او فعولة من الذرء بمعنى الخلق أبدلت همزتها ياء ثم قلبت الواو ياء و كسرت ما قبلها و أدغمت فى الياء

و يسمى الأولاد و الآباء ذرية فالاولاد ذرية لانه ذراهم و الآباء ذرية لانه ذرا الأبناء منهم قال اللّه تعالى و اية لهم انّا حملنا «١» ذرّيّتهم فى الفلك المشحون اى آباءهم- و يقع على الواحد و الجمع منصوب على الحالية او البدلية من الآلين او منهما و من نوح بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ مبتدا و خبر فى موضع النصب صفة لذرية يعنى اصطفى نوحا و الآلين حال كونهما خلقة مستخرجة كالذر بعضها كائنة من نسل بعض او بعضها من شيعة بعض فى التناصر و اتحاد الدين كما فى قوله و انّ من شيعته لابرهيم و لو اعتبر فى الذرية معنى الاشتقاق و قد اعتمد على ذى الحال فلا يبعد ان يقال ان بعضها فاعل له و من بعض متعلق به يعنى خلقة مخلوقة او مستخرجة بعضها من بعض- و جاز ان يكون معنى بعضها من بعض ان عادة اللّه تعالى اصطفاء واحد «٢» من قوم فلا ينبغى ان يستبعد قريش اصطفاء النبي صلى اللّه عليه و سلم حال كونه واحدا منهم وَ اللّه سَمِيعٌ يسمع اقوال الناس باستبعاد اصطفاء بعضهم من بعض عَلِيمٌ (٣٤) يعلم من يصلح للاصطفاء- او سميع بقول امراة عمران عليم بنيتها-.

(١) فى الأصل جعلنا لعله من سباق قلم او من الناسخ.

(٢) فى الأصل واحدا- ابو محمد عفا اللّه عنه.

٣٥

إِذْ قالَتِ إذ متعلق بعليم او منصوب بإضمار اذكر امْرَأَتُ عِمْرانَ ابن ماثان او ابن أشهم و كان بنو ماثان رءوس بنى إسرائيل و أحبارهم و ملوكهم و اسم امرأة عمران حنّة بنت قاقودا و هى كانت عقيمة و قد أسنت فبينا هى فى ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخا فتحركت لذلك نفسها للولد و كانت من اهل بيت كانوا من اللّه بمكان فدعت اللّه ان يهب لها ولدا فحملت بمريم كذا اخرج ابن جرير عن ابن إسحاق و عن عكرمة نحوه رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً منصوب على الحالية اى معتقا لخدمة بيت المقدس لا اشغله بشى ء من الدنيا خالصا مفرغا لعبادة اللّه تعالى- و كان هذا النذر مشروعا فى دينهم فى الغلمان أخرجه ابن جرير عن قتادة و الربيع كان إذا حرّر غلام جعل فى الكنيسة يكنسها و يخدمها و لا يبرحها حتى يبلغ الحلم ثم يخير ان أحب اقام فيه و ان أحب ذهب حيث شاء- و لم يكن أحد من الأنبياء و العلماء الا و من نسله محرّر لبيت المقدس و لم يكن يحرر الا الغلمان فلعل حنة بنت الأمر على التقدير او طلبت ذكرا فَتَقَبَّلْ مِنِّي فتح الياء نافع و ابو جعفر- ابو محمد و ابو عمرو و أسكنها الباقون يعنى تقبل منى ما نذرته إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لقولى الْعَلِيمُ (٣٥) بنيتي فقال لها زوجها ويحك ما صنعت ا رايت ان كان ما فى بطنك أنثى لا يصلح لذلك فوقعا من ذلك فى هم فهلك عمران و حنة حامل بمريم.

٣٦

فَلَمَّا وَضَعَتْها الضمير لما فى بطنها و تأنيثه لانه كان فى الواقع أنثى او على تأويل النفس او الحبلة قالَتْ تحسرا و قد كانت ترجوا غلاما رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى او قالت اعتذارا الى اللّه فى جعلها محررة لخدمة البيت وَ اللّه أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ قرا ابن عامر و ابو بكر و يعقوب بإسكان العين و ضم التاء على التكلم على انه من كلام امراة عمران تسلية منها لنفسها اى لعل للّه تعالى فيه سرا و الأنثى كان خيرا و الباقون بفتح العين و اسكان التاء على الغيبة فهو استيناف من اللّه تعظيما لموضوعها و تجهيلا لها بشأنها وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى جاز ان يكون هذه الجملة من قولها اعتذارا الى اللّه فى جعلها محررة لخدمة البيت يعنى ليس الذكر فى خدمة الكنيسة لقوته و صلاحيته كالانثى لعورتها و ضعفها و ما يعتريها من الحيض و النفاس فاللام فى الكلمتين للجنس- و جاز ان يكون من كلام اللّه تعالى اى ليس الذكر الذي طلبت كالانثى التي وهبت بل هى أفضل من الذكر و اللام فيهما للعهد و هذا التأويل اولى من الاولى إذ لو كان على وجه الاعتذار لقالت و ليست الأنثى كالذكر وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ عطف على ما قبلها من مقالتها و ما بينهما اعتراض- و معناه العابدة فى لغتهم قالت ذلك لان يجعلها اللّه تعالى كاسمها عابدة و فى تقديم المسند اليه اشارة الى تخصيصها بالتسمية يعنى ليس لها اب فهى يتيمة و فيه استعطاف وَ إِنِّي فتح الياء نافع و أسكنها الباقون أُعِيذُها أجيرها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها أولادها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٧) المطرود اصل الرجم الرمي بالحجارة عن ابى هريرة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ما من مولود يولد الا و الشيطان يمسه حين يولد فيستهل من مسه الا مريم و ابنها متفق عليه يعنى ببركة هذه الاستعاذة- و عنه قال قال النبي صلى اللّه عليه و سلم كل بنى آدم يطعن الشيطان فى جنبيه بإصبعيه غير عيسى بن مريم ذهب يطعن فظعن فى الحجاب-

قلت و قد صح ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لفاطمة حين زوجها عليا اللّهم انّى أعيذها بك و ذرّيّتها من الشّيطين الرجيم و كذا قال لعلى حينئذه رواه ابن حبان من حديث انس و دعاء النبي صلى اللّه عليه و سلم اولى بالقبول من دعاء امراة عمران فارجو عصمتها و أولادها من الشيطان و عدم مسه إياهم- و حصر عدم المس فى مريم و ابنها الثابت بالحديث على هذا يكون حصرا إضافيا بالنسبة الى الأعم الأغلب-.

٣٧

فَتَقَبَّلَها بمعنى قبلها يعنى مريم من حنة مكان الذكر او المعنى استقبلها اى أخذها فى أول أمرها حين ولدت كتعجل بمعنى استعجل رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ القبول هاهنا ليس بالمعنى المصدري و الا يقال قبولا حسنا بل هو اسم لما يقبل به الشي ء كالسعوة و اللدود اى بوجه حسن يقبل به النذائر و القبول الحسن هو قبول المرادين اهل الاجتباء دون قبول المريدين اهل الهداية فان اللّه تعالى اصطفاها لنفسه و فضلها على نساء العالمين و طهرها من الذنوب و من الحيض من غير سابقة عمل منها و اجتهادها- و ان كان القبول بالمعنى المصدري فتقديره بامر ذى قبول حسن و ذلك الأمر هو الاختصاص و كون مبدا تعينها من مبادى نعينات اهل الاصطفاء وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً مصدر من غير باب الفعل و المعنى أنبتها فنبتت نباتا حسنا فكانت تنبت فى اليوم كما ينبت المولود فى العام- اخرج ابن جرير عن عكرمة و قتادة و السدى ان حنة لما ولدت مريم لفتها فى خرقة و حملتها الى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون و هم يومئذ يلون بيت المقدس ما تلى الحجبة من الكعبة فقالت دونكم هى النذيرة فتنافس فيها الأحبار لما كانت بنت امامهم و صاحب قربانهم فقال لهم زكريا انا أحقكم بها عندى خالتها و هى أشياع بنت قاقودا أم يحيى عليه السلام فابوا الا القرعة فانطلقوا و كانوا سبعة و عشرين رجلا الى نهر جار قال السدى هو نهر الأردن فالقوا أقلامهم فى الماء على ان من ثبت قلمه فى الماء و صعد فهو اولى بها قيل كانوا يكتبون التورية فالقوا أقلامهم التي كانت بايديهم فارتز قلم زكريا فارتفع فوق الماء و انحدرت أقلامهم و رسبت فى النهر قاله محمد بن إسحاق و قال السدى و جماعة بل ثبت قلم زكريا و قام فوق الماء كانه فى طين و جرت أقلامهم- و قيل جرى قلم زكريا مصعدا الى أعلى الماء و جرى أقلامهم مع جرى الماء فذهب بها الماء- فسهمهم و قرعهم زكريا و كان رأس الأحبار و نبيهم وَ كَفَّلَها قرا حمزة و خلف- ابو محمد و الكسائي و عاصم بتشديد الفاء من باب التفعيل و الفاعل هو اللّه تعالى لتقرره فى الأذهان او الضمير المرفوع مستتر فيها راجع الى ربها و الباقون بالتخفيف و الفاعل زكريّاء بالمد عند الجمهور مرفوع لفظا

و قرا حمزة و خلف- ابو محمد و الكسائي و حفص عن عاصم بالقصر منصوب المحل بالمفعولية و ابو بكر عن عاصم بالمد منصوبا لفظا و المعنى على قراة الجمهور قام بامرها زكريا و على قراءة الكوفيين ضمها اللّه بالقرعة زكريا بن اذن بن مسلم بن صدون من أولاد سليمان بن داود عليهم السلام فبنى زكريا لها بيتا و استرضع لها- و قال محمد بن إسحاق ضمها الى خالتها أم يحيى حتى إذا شبّت و بلغت مبلغ النساء بنى لها محرابا فى المسجد و جعل بابه فى وسطها لا يرقى إليها الا بالسلّم مثل باب الكعبة و لا يصعد إليها غيره و كان يأتيها بطعامها و شرابها و دهنها كل يوم كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا بالمد و القصر كما مر فى سائر القران لم يعطف هذه الجملة لكونها مقررة لما قبلها اعنى تقبلها بقبول حسن او لعدم الجامع باعتبار المسند او المسند اليه- و كلما ظرف زمان فيه معنى الشرط منصوب بما وقع جوابه اعنى وجد الْمِحْرابَ اى الغرفة التي بنى لها و المحراب اشرف المجالس و مقدمها- و يقال ايضا للمسجد المحراب لانه محل محاربة مع الشيطان- قال المبرد لا يكون المحراب الا ان يرتقى اليه بدرج اخرج ابن جرير عن الربيع بن انس قال كان إذ اخرج اغلق عليها سبعة أبواب فاذا دخل عليها غرفتها وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً اى فاكهة فى غير حينها فاكهة الصيف فى الشتاء و فاكهة الشتاء فى الصيف قالَ زكريا استبعادا يا مَرْيَمُ أَنَّى اى من اين و قيل من اىّ جهة لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّه اخرج ابن جرير عن ابن عباس ان رزقها كان ينزل من الجنة- و قال الحسن حين ولدت مريم لم تلقم ثديا قط و كان يأتيها رزقها من الجنة و قد تكلمت و هى صغيرة كعيسى إِنَّ اللّه يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧) بغير تقدير لكثرته او بغير استحقاق تفضلا منه يحتمل ان يكون من كلامها او من كلام اللّه تعالى- و هذه القصة دليل على كرامة الأولياء- و جعل ذلك معجزة لزكريا يدفعه اشتباه الأمر عليه حيث قال انى لك هذا اخرج ابو يعلى فى مسنده من حديث جابر ان فاطمة رضى اللّه عنها أهدت لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رغيفين و بضعة لحم فرجع بهما إليها و قال هلمى يا بنية فكشفت عن الطبق فاذا هو مملو بالخبز و اللحم فقال أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّه إِنَّ اللّه يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ فقال الحمد للّه الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بنى إسرائيل ثم جمع عليا و الحسن و الحسين و جميع اهل بيته حتى شبعوا و بقي الطعام كما هو فاوسعت على جيرانها-.

٣٨

هُنالِكَ اى فى ذلك المكان او ذلك الوقت حين راى زكريا كرامة مريم و سعة رحمة اللّه و راى ان اهل بيته قد انقرضوا و ليس له ولد يرثه العلم و النبوة و خاف مواليه اى بنى أعمامه ان يضيعوا الدين بعده دخل المحراب و غلق الأبواب و دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ يا رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ اى من عندك و على خرق عادة جرت منك (حيث كانت امرأته عاقرا و هو كان شيخا كبيرا) كما تهب الرزق لمريم على خرق العادة ذُرِّيَّةً اى ولدا يطلق على الواحد و الجمع و الذكر و الأنثى طَيِّبَةً انّثها نظرا الى لفظ الذرية يعنى صالحا معصوما طاهرا من الذنوب إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) اى مجيبه.

٣٩

فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ قرا حمزة و خلف- و الكسائي فناديه بالألف و الامالة على التذكير لان الفاعل اسم ظاهر مؤنث غير حقيقى و الباقون بالتاء لتانيث لفظ الملائكة و كونها جمعا مكسرا- عن ابراهيم قال كان عبد اللّه يذكّر الملائكة فى القران- قال ابو عبيد اختار ذلك خلافا للمشركين فى قولهم الملائكة بنات اللّه و كان المنادى جبرئيل وحده أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود فوجه إيراد صيغة الجمع اى الملائكة قال المفضل بن سلمة إذا كان القائل رئيسا يجوز الاخبار عنه بالجمع لاجتماع أصحابه معه و كان جبرئيل رئيس الملائكة و قلما يبعث الا و معه جمع فجرى على ذلك و قيل معنى نادته الملائكة اى من جنسهم كقولك زيد يركب الخيل وَ هُوَ اى زكريا قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ اى فى المسجد و ذلك ان زكريا كان الحبر الكبير الذي يقرب القربان و يفتح باب المذبح فلا يدخل أحد حتى يأذن لهم فى الدخول- فبينا هو قائم يصلى فى المسجد عند المذبح و الناس ينتظرون ان يأذن لهم فى الدخول إذا هو برجل شابّ عليه ثياب بيض ففزع منه و هو جبرئيل فناداه يا زكريا أَنَّ اللّه قرا حمزة و ابن عامر انّ بكسر الهمزة على إضمار القول تقديره فنادته الملئكة فقالت انّ اللّه و الباقون بالفتح اى نادته بان اللّه يُبَشِّرُكَ قرا حمزة يبشرك بفتح الياء و سكون الباء و ضم الشين و كذا بابه بالتخفيف حيث وقع فى كل القران من بشر يبشر و هى لغة تهامة الا قوله فبم تبشّرون فانهم اتفقوا على تشديدها و وافقه الكسائي هاهنا فى موضعين و فى سبحان و الكهف و عسق و وافقهما ابن كثير و ابو عمرو فى عسق و الباقون بضم الياء و فتح الباء و تشديد الشين من التفعيل بِيَحْيى سمى به لان اللّه تعالى أحيا به عقرامه كذا قال ابن عباس و قال قتادة لان اللّه تعالى أحيا قلبه بالايمان و الطاعة حتى لم يعص و لم بهم بمعصية مُصَدِّقاً حال مقدرة بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّه يعنى بعيسى عليه السلام سمى به لان اللّه تعالى قال له كن من غيراب فكان فوقع عليه اسم الكلمة لانه بها كان- و قيل سمى عيسى كلمة لانه يهتدى به كما يهتدى بكلام اللّه- قالت الصوفية كان مبدا تعينه صفة الكلام و كان يحيى أول من أمن بعيسى و صدّقه و كان يحيى اكبر من عيسى بستة أشهر- و فى الصحيحين فى حديث المعراج انهما كانا ابني خالة و قد ذكر فيما سبق ان يحيى كان ابن خالة لمريم- و على تقدير صحة تلك الرواية فالقول بانهما كانا ابني خالة مبنى على التجوز كما قال عليه الصلاة لفاطمة اين ابن عمك يعنى عليا و هو ابن عم لابيها- و قد قتل يحيى قبل رفع عيسى الى السماء- و قال ابو عبيدة أراد بكلمة من اللّه كتاب اللّه و آياته وَ سَيِّداً يسود «١» قومه و يفوقهم فى العلم و العبادة و الورع و جميع خصال الخير قال مجاهد الكريم على اللّه و قيل الحليم الذي لا يغضبه شى ء و قال سفيان الذي لا يحسد و قيل هو القانع و قيل هو السخي و قال جنيد هو الذي جار بالكونين عوضا عن المكون وَ حَصُوراً أصله من الحصر و هو الحبس و المنع فقيل كان لا يأتى النساء فقيل كان عنينا كما جاء فى الحديث قلت و ان كان عنينا فليس المراد هاهنا كونه عنينا لانه ليس بمدح و المقام مقام المدح فالاولى ان يقال انه كان منوعا حابسا نفسه عن اتباع الشهوات و الملاهي- اخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابن عساكر عن عمرو بن العاص عن النبي صلى اللّه عليه و سلم ما من عبد للّه يلقى اللّه الا أذنب الا يحيى بن زكريا فان اللّه يقول و سيّدا و حصورا قال و انما كان ذكره مثل هدبة الثوب و أشار بانمله- و قوله صلى اللّه عليه و سلم انما كان ذكره مثل هدبة الثوب ليس بيانا لكونه حصورا بل

(١) قال فى النهاية للجزرى السيد يطلق على الرب و المالك و الشريف و الفاضل و الكريم و الحليم و متحمل أذى قومه و الزوج و الرئيس و المقدم- و أصله من ساد يسود فهو سيؤد فقلبت الواو ياء لاجل الباء الساكنة قبلها فادغمت- منه رح.

بيانه ما سبق اعنى كونه معصوما و هذا بيان للواقع و أخرجه ابن ابى شيبة و احمد فى الزهد و ابن ابى حاتم من وجه اخر عن ابن عمر موقوفا و هو أقوى اسنادا من المرفوع-

و اخرج ابن ابى حاتم و ابن عساكر عن ابى هريرة ان نبى اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال كل ابن آدم يلقى اللّه بذنب قد أذنبه ان شاء يعذبه و ان شاء يرحمه الا يحيى بن زكريا فانه كان سيّدا و حصورا و نبيّا من الصّلحين ثم أهوى النبي صلى اللّه عليه و سلم الى قذاة من الأرض فاخذها و قال كان ذكره مثل هذه القذاة- اخرج عبد الرزاق فى تفسيره عن قتادة موقوفا و ابن عساكر فى تاريخه عن معاذ بن جبل مرفوعا ان يحيى عليه السلام مر فى صباه بصبيان فدعوه الى اللعب فقال ما للعب خلقنا وَ نَبِيًّا ناشيا مِنَ أصلاب الصَّالِحِينَ (٣٩) يعنى النبيّين المعصومين او كائنا من عداد من لم يأت صغيرة و لا كبيرة-.

٤٠

قالَ زكريا مناجيا الى اللّه سبحانه من غير التفات الى جبرئيل رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ صدر هذا القول منه بمقتضى الطبع استبعادا عن مقتضى العادة او استعظاما و تعجبا كل ذلك بمقتضى الطبع فان مقتضى الطبع قد يغلب على مقتضى العقل و الا فالعقل و العلم يحكمان بانه لا استبعاد فى قدرة اللّه تعالى و لا تعجب كما ان موسى عليه السلام اعترض على خضر بعد ما عهد منه و قال ستجدنى ان شاء اللّه صابرا و لا اعصى لك امرا- و قال عكرمة و السدى انه لما سمع نداء الملائكة جاءه الشيطان فقال يا زكريا هذا الصوت ليس من اللّه انما هو من الشيطان و لو كان من اللّه لاوحاه إليك فقال ذلك دفعا للوسوسة و قال الحسن انه قال ذلك استفهاما عن كيفية حدوثه يعنى باىّ وجه يكون لى غلام بان تجعلنى و امراتى شابين و تزيل عقمها او تهب لى الولد من امراة اخرى او تهبه إيانا مع كوننا على حالتنا الاولى وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ هذا مقلوب اى قد بلغت الكبر و شخت او المعنى أدركني كبر السن و ضعفنى و كان يومئذ ابن سنتين و تسعين سنة كذا قال الكلبي و قال الضحاك كان ابن عشرين و مائة سنة و كانت امرأته بنت ثمان و تسعين سنة وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ لا تلد يستوى فيه المذكر و المؤنث قالَ كَذلِكَ اللّه يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٣٠) خبر مبتدا محذوف اى الأمر كذلك اى يولد لك مع كونك شيخا و امرأتك عاقرا او خبر و المبتدا اللّه يعنى كذلك اللّه و بيانه يفعل ما يشاء من العجائب او اللّه مبتدا و الجملة بعده خبره و كذلك فى محل النصب على المصدرية يعنى اللّه يفعل ما يشاء فعلا كذلك الفعل اى مثل ما وعدناك و ان كان على خلاف العادة او على الحالية من ما يشاء.

٤١

قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي فتح الياء نافع و ابو عمر و ابو جعفر- ابو محمد أسكنها الباقون آيَةً اى علامة اعلم بها وقت حمل امراتى فازيد فى العبادة شكرا لك قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ

يعنى لا تقدر على التكلم مع الناس مع قدرتك على الذكر ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً اى الا اشارة بنحو يد او رأس و أصله التحريك و الاستثناء منقطع و قيل متصل و المراد بالكلام ما دل على ما فى الضمير و قال عطاء أراد به صوم ثلاثة ايام لانهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا الا رمزا وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً يعنى حين يظهر لك الاية شكرا وَ سَبِّحْ اى صل بِالْعَشِيِّ اى من الزوال الى ذهاب بعض الليل يعنى الظهر و العصر و المغرب و العشاء وَ الْإِبْكارِ (٤١) من صلوة الفجر الى الضحى.

٤٢

وَ إِذْ قالَتِ عطف على إذ قالت امراة عمرن الْمَلائِكَةُ يعنى جبرئيل عليه السلام شفاها يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّه اصْطَفاكِ اى اختارك لنفسه بالتجليات الذاتية الدائمية التي عبرها الصوفية بكمالات النبوة و هى بالاصالة للانبياء عليهم السلام و بالتبعية و الوراثة للصديقين و كانت هى صديقة قال اللّه تعالى و امّه صدّيقة وَ طَهَّرَكِ عن الذنوب بالحفظ و المغفرة و عدم تطرق الشيطان إليها كما مر من حديث ابى هريرة برواية الشيخين و قيل طهرها من مسيس الرجال و قيل من الحيض وَ اصْطَفاكِ اى فضلك عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) اى عالمى زمانهم عن على قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول خير نسائها مريم بنت عمران و خير نسائها خديجة متفق عليه و فى رواية قال ابو كريب و أشار وكيع الى السماء و الأرض و عن انس ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد و آسية امراة فرعون رواه الترمذي و عن ابى موسى الأشعري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كمل من الرجال كثير و لم يكمل من النساء الا مريم بنت عمران و آسية امراة فرعون و فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام متفق عليه-

قلت لعل معنى قوله صلى اللّه عليه و سلم لم يكمل من النساء من الأمم السابقة الا مريم و آسية يدل عليه قوله عليه السلام و فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام فان هذه الجملة تدل على فضل عائشة على مريم و آسية- و فى الصحيحين من حديث عائشة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال يا فاطمة الا ترضين ان تكونى سيدة نساء اهل الجنة او نساء المؤمنين و روى ابو داود و النسائي و الحاكم عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أفضل نساء اهل الجنة خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد

و اخرج احمد و الترمذي و النسائي و ابن حبان و الحاكم عن حذيفة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال نزل ملك من السماء فاستأذن اللّه ان يسلم علىّ فبشرنى ان فاطمة سيدة نساء اهل الجنة فهذه الأحاديث تدل على ان فاطمة أفضل من مريم لان نساء اهل الجنة عام لا يحتمل التخصيص بزمان دون زمان بخلاف قوله تعالى اصطفيك على نساء العلمين فانه يحتمل ان يكون المراد منه عالمى زمانها كما

قلنا لكن ورد فيما روى ابو يعلى و ابن حبان و الحاكم و الطبراني عن ابى سعيد الخدري ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال فاطمة سيدة نساء اهل الجنة الا ما كان من مريم و روى الترمذي عن أم سلمة عن فاطمة قالت أخبرني رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انى سيدة نساء اهل الجنة الا مريم بنت عمران فهذين الحديثين يدلان على استثناء مريم من المفضولية و لا يدلان على كونها أفضل من فاطمة عليها السلام و ما فى الصحيحين من حديث المسور بن مخرمة قوله صلى اللّه عليه و سلم فاطمة بضعة منى و عند احمد و الترمذي و الحاكم عن ابن الزبير نحوه يقتضى فضل فاطمة على جميع الرجال و النساء كما قال مالك لا نعدل ببضعة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أحدا لكن عند جمهور اهل السنة خص منه من علم فضلهم قطعا من الأنبياء و بعض الصديقين و بقي من سواهم فى العموم و اللّه اعلم.

٤٣

يا مَرْيَمُ اقْنُتِي اى أطيلي القيام فى الصلاة شكرا لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) اى مع المصلين بالجماعة و لم يقل مع الراكعات لان النساء تتبع الرجال دون العكس فيكون أشمل-.

٤٤

ذلِكَ مبتدا اى ما ذكر من القصص مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ اى اخباره خبره نُوحِيهِ إِلَيْكَ خبر بعد خبر و جاز ان يكون أحدهما خبرا و الاخر حالا وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ للاقتراع تقرير لما سبق من كونه وحيا على سبيل التهكم لمنكريه لان اسباب العلم منحصرة فى الثلاثة العقل او سماع الخبر او الحس و كون القصص غير مدرك بالعقل بديهي و عدم السماع معلوم لا شبهة فيه عندهم لكونه صلى اللّه عليه و سلم اميّا و كون الاخبار منقطعة فبقى ان يكون باحتمال العيان و لا يظن به عاقل فبيان القصص منه صلى اللّه عليه و سلم على ما هو الواقع المعلوم عدل اهل العلم بالأخبار معجزة له صلى اللّه عليه و سلم و دليل قطعى على كونه نبيا و كون ما يتلو عليهم وحيا من اللّه تعالى و اللّه اعلم أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ جملة استفهامية متعلقة بمحذوف دل عليه ما قبله اى يلقون أقلامهم يقولون ايّهم يكفل مريم او ليعلموا ايّهم يكفل مريم وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٣) فى كفالتها-.

٤٥

إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ بدل من إذ قالت الاولى و ما بينهما معترضات ذكرت منة على النبي صلى اللّه عليه و سلم بالايحاء اليه و تنبيها للكفار على جهلهم و عنادهم يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّه يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ مبتدا و الضمير فيه الى الكلمة نظرا الى المعنى فان معناه مذكر يعنى عيسى عليه السلام الْمَسِيحُ خبر لاسمه و الجملة فى موضع صفة لكلمة قال فى القاموس المسيح ان يخلق اللّه الشي ء مباركا او ملعونا من الاضداد و المسيح عيسى صلى اللّه عليه و سلم سمى لبركته و الدجال لشومه و ملعونيته انتهى- و أصله بالعبرية مشيحا و معناه المبارك و قيل سمى عيسى مسيحا لانه مسح منه الاقذار و طهر من الذنوب و قال ابن عباس سمى عيسى مسيحا لانه ما مسح ذا عاهة الا برئ و قيل سمى بذلك لانه كان يسيح فى الأرض و لا يقيم فى المكان- فى القاموس المسيح الكثير السياحة و قال ابراهيم النخعي المسيح الصديق و هو عيسى و المسيح الكذاب و هو الدجال فهو من الاضداد كذا فى القاموس و فى الصحاح قال بعضهم المسيح هو الذي مسح احدى عينيه و قد روى ان الدجال لعنه اللّه ممسوح اليمنى و قيل فى عيسى ممسوح اليسرى و معنى القولين ان الدجال قد مسحت و أزيلت عنه الخصال المحمودة من الايمان و العلم و العقل و الحلم و سائر الأخلاق الحميدة و ان عيسى قد مسحت و أزيلت عنه الخصال الذميمة بالكلية من الجهل و الشرة و الحرص و البخل و غير ذلك قال صاحب القاموس ذكرت و لاشتقاق لفظ المسيح خمسين قولا فى شرحى لمشارق الأنوار و غيره عِيسَى لفظ عبرانى قيل هو معرّب اليشوع بمعنى السيد خبر بعد خبر و جاز ان يكون خبر مبتدا محذوف اى هو عيسى و هذا علمه و المسيح لقبه و الاسم أعم منهما و من الكنية فانه عبارة عن كل ما يميز الشي ء عما عداه ابْنُ مَرْيَمَ لما كانت صفة تميز له تميز الأسماء نظمت فى سلكها- و لم يقل أسماؤه المسيح عيسى ابن مريم لان الاسم اسم جنس مضاف للاستغراق و الاستغراق و ان كان بمعنى كل فرد لكن يجوز حمل للمتعدد على مجموع يتضمنه الاستغراق بمعنى كل واحد نحو ما «١» من دابّة الّا امم أمثالكم و جاز ان يكون ابن مريم خبر مبتدا محذوف اى هو- و لا يجوز ان يكون ابن مريم صفة لعيسى فى التركيب لان اسمه عيسى فحسب و ليس اسمه عيسى بن مريم و انما قال ابن مريم و الخطاب لها تنبيها على انه يولد من غير اب إذ الأولاد ينسب الى الآباء و لا ينسب الى الام الا إذا فقد الأب و اللّه اعلم وَجِيهاً حال مقدرة لكلمة و هى و ان كانت نكرة لكنها موصوفة و تذكيره لتذكير المعنى اى شريفا رفيقا ذا جاه و قدر فِي الدُّنْيا بالنبوة و كونه مطاعا للخلائق وَ الْآخِرَةِ بالشفاعة للامم و علو درجته فى غرف الجنة وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) للّه تعالى بالقرب الذاتي و التجليات الذاتية الدائمية عطف على وجيها.

(١) و فى القران وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ.

٤٦

وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ يعنى رضيعا حال من الضمير المرفوع ليكلم وَ كَهْلًا معطوف عليه يعنى يكلم الناس رضيعا و كهلا على نسق كلام الأنبياء بلا تفاوت من أول عمره الى آخره- و فيه اشارة الى انه يعمر و لا يموت حتى يكهل و الى ان سنه لا يتجاوز الكهولة قال الحسن بن الفضل و كهلا يعنى بعد نزوله من السماء فانه رفع الى السماء قبل سن الكهولة

و قال مجاهد معناه حليما و العرب يمدح الكهولة لانه الحالة الوسطى فى استحكام العقل وجودة الرأى و التجربة فان قبل ذلك يقل التجربة اولا يبلغ العقل الى كماله و بعد ذلك يضعف العقل- و قوله و يكلّم النّاس عطف على و من المقرّبين- و فى ذكر يكلّم النّاس فى المهد تسلية لمريم من خوف لوم الناس إياها على إتيانها بولد من غير زوج وَ مِنَ الصَّالِحِينَ (٤٧) جاز ان يكون معطوفا على كهلا- و ان يكون معطوفا على يكلم الناس اى كائنا من الصالحين لا يتطرق اليه نوع من النقص و الفساد فى الدين و ذلك شأن الأنبياء فكانّ معناه و من النبيين.

٤٧

قالَتْ مريم رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ تعجب او استبعاد عادى او استفهام من ان يكون بتزوج او غيره قالَ اللّه على لسان جبرئيل كَذلِكِ اللّه يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً اى قدّر ان يكون شى ء فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) يعنى كما انه تعالى قادر على ان يخلق الأشياء بالتدريج بأسباب عادى و مواد قادر ان يخلقها دفعة بلا اسباب.

٤٨

وَ يُعَلِّمُهُ قرا نافع و ابو جعفر- ابو محمد و عاصم و يعقوب بالياء على الغيبة عطفا على يخلق او على يبشرك و الباقون بالنون على التكلم عطفا على ما ذكر على طريقة الالتفات- او ابتدا تطييبا لقلبها و ازاحة لهمها من خوف اللوم لما علمت انها تلد من غير زوج الْكِتابَ اى الكتابة و الخط فكان احسن الناس خطا فى زمانه و قيل المراد به جنس الكتب المنزلة يعنى يعلمه علوم الكتب السماوية المنزلة و خص الكتابان لمزيد الاهتمام حيث كان الواجب عليه الاقتداء بهما فى فروع الأعمال و اما فى اصول الدين فمقتضى الكتب كلها واحد وَ الْحِكْمَةَ الفقه وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ (٤٨)

٤٩

وَ رَسُولًا منصوب بمضمر معطوف على يعلمه و التنوين للتعظيم تقديره و نجعله رسولا عظيما إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ٥ قيل كان رسولا فى حالة الصبا و قيل انما أرسل بعد البلوغ- و كان أول أنبياء بنى إسرائيل يوسف عليه السلام و آخرهم عيسى عليه السلام أَنِّي منصوب بنزع الخافض متعلق برسولا اى رسولا بانى او بالعطف على الأحوال المتقدمة متضمنا معنى النطق يعنى ناطقا بانى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ اى معجزة دالة على رسالتى و انما قال باية و قد جاء بايات لان الكل فى الدلالة على صدقة كايه واحدة مِنْ رَبِّكُمْ جاز ان يكون ظرفا مستقرا صفة لاية و ان يكون ظرفا لغوا متعلقا بجئتكم أَنِّي فتح الياء نافع و ابو جعفر- ابو محمد و ابن كثير و ابو عمرو و أسكنها الباقون

و قرا نافع و ابو جعفر- ابو محمد بكسر الهمزة على الاستيناف و الباقون بالفتح فيجوز نصبه على انه بدل من انّى قد جئتكم و يجوز جره على انه بدل من اية و يجوز رفعه على تقدير المبتدا اى هى انّى أَخْلُقُ اصور و اقدر لَكُمْ مِنَ الطِّينِ صورة كَهَيْئَةِ الهيئة الصورة المهياة الطَّيْرِ قرا ابو جعفر الطّائر هاهنا و فى المائدة فَأَنْفُخُ فِيهِ اى فى الطين او الضمير راجع الى الكاف فى كهيئة اى فى ذلك المماثل

فَيَكُونُ طَيْراً قرا الأكثرون بالجمع لانه خلق طيرا كثيرا

و قرا نافع و يعقوب و ابو جعفر طائرا على الافراد لان كل واحد منها كان طائرا-

قال البغوي لم يخلق غير الخفاش و انما خص الخفاش لانها أكمل الطير خلقا لان لها ثديا و أسنانا و هى تحيض قال وهب كان يطير ما دام الناس ينظرون اليه فاذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز ما لصنع العبد فيه مدخل مما لا مدخل فيه بِإِذْنِ اللّه اى بامره و قوله كن نبه به على ان إحياءه من اللّه تعالى لا منه وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ الذي ولد أعمى او الممسوح العين كذا قال ابن عباس و قال الحسن و السدى هو الأعمى و قال عكرمة هو الأعمش يعنى ضعيف البصر مع سيلان الدمع كثيرا

و قال مجاهد هو الذي يبصر بالنهار دون الليل وَ الْأَبْرَصَ الذي به وضح و هذان الداءان يعجز عنهما الأطباء و كان فى زمن عيسى الطب غالبا فاراهم المعجزة من جنس ذلك كما كان فى زمن موسى السحر غالبا فارى عجز كل سحار عليم و فى زمن نبينا صلى اللّه عليه و سلم كان البلاغة فى الكلام فاعجزهم القران و قال فأتوا بسورة من مثله قال وهب بن منبه ربما اجتمع على عيسى من المرضى فى اليوم الواحد خمسون الفا من أطاق ان يبلغه بلغه و من لم يطق مشى اليه عيسى و كان يدعو للمرضى و الزمنى و العميان و غيرهم بهذا الدعاء اللّهم أنت اله من فى السماء و اله من فى الأرض لا اله فيهما غيرك و أنت جبّار من فى السموات و جبّار من فى الأرض لا جبّار فيهما غيرك و أنت ملك من فى السماء و ملك من فى الأرض لا ملك فيهما غيرك و قدرتك فى الأرض كقدرتك فى السماء سلطانك فى الأرض كسلطانك فى السماء أسئلك باسمك الكريم و وجهك المنير و ملكك القديم انك على كل شى ء قدير قال وهب هذا الفزع و الجنون يقرا عليه و يكتب و يسقى ماؤه ان شاء اللّه تعالى يبرا وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللّه كرر قوله بإذن اللّه دفعا لتوهم الالوهية فان الاحياء ليس من جنس الافعال البشرية

قال البغوي قال ابن عباس قد أحيا اربعة انفس عازر و ابن العجوز- و ابنه العاشر- و سام بن نوح عليه السلام اما عازم فكان صديقا له فارسلت أخته الى عيسى عليه السلام ان أخاك عازر يموت و كان بينه و بين عيسى مسيرة ثلاثة ايام فاتاه هو و أصحابه فوجده قد مات منذ ثلاثة ايام فقال لاخته انطلقي بنا الى قبره فانطلقت معهم الى قبره فدعا اللّه فقام عازم و ودكه يقطر فخرج من قبره و بقي و ولد له و اما ابن العجوز مرّ به ميتا على عيسى على سرير يحمل فدعا عيسى فجلس على سريره و نزل عن أعناق الرجال و لبس ثيابه و حمل السرير على عنقه و رجع الى اهله فبقى و ولد له- و اما ابنة العاشر فكان والدها يأخذ العشور ماتت له بنت بالأمس فدعا اللّه عز و جل فاحياها و بقيت و ولدت- و اما سام بن نوح فان عيسى جاء الى قبره فدعاه باسم اللّه الأعظم فخرج من قبره و قد شاب نصف رأسه خوفا من قيام الساعة و لم يكونوا يشيبون فى ذلك الزمان فقال قد قامت القيامة قال لا و لكن دعوتك باسم اللّه الأعظم ثم قال له مت قال بشرط ان يعيذنى اللّه من سكرات الموت فدعا اللّه ففعل وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ مما لم اعائنه فكان يخبر الرجل بما أكل البارحة و بما يأكل اليوم و بما ادخره للعشاء قال السدى كان عيسى فى الكتاب يحدث الغلمان بما صنع اباؤهم و يقول للغلام انطلق فقد أكل أهلك كذا و كذا و رفعوا لك كذا و كذا فينطلق الصبى الى اهله و يبكى عليهم حتى يعطوه ذلك الشي ء فيقولون من أخبرك بهذا فيقول عيسى فحبسوا صبيانهم عنه و قال لا تلقوا مع هذا الساحر فجمعوهم فى بيت فجاء عيسى يطلبهم فقالوا ليسوا هاهنا فقال فما فى هذا البيت قالوا خنازير قال عيسى كذلك يكونون ففتحوا عنهم فاذاهم خنازير ففشا ذلك فى بنى إسرائيل فهمت به بنوا إسرائيل فلما خافت عليه امه حملته على حمير لها و خرجت هاربة الى ارض مصر- و قال قتادة انما هذا فى المائدة و كانت خوانا ينزل عليهم أينما كانوا كالمن و السلوى فامروا ان لا يخونوا و لا يخبؤا فخانوا و خبؤا فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة و ما ادخروا منها فمسخهم اللّه خنازير إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من الأمور الخارقة للعادة لَآيَةً على صدق عيسى فى دعوى النبوة لَكُمْ لتهتدوا بها إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) اى موفقين للايمان فامنوا-.

٥٠

وَ مُصَدِّقاً عطف على رسولا او منصوب بفعل مقدر دل عليه قد جئتكم اى و جئتكم مصدقا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ و هكذا شأن الأنبياء يصدقون الكتب السماوية كلها و يصدق بعضهم بعضا وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ اى انسخ حرمة بعض ما فى التورية من اللحوم و الشحوم المحرمة فيها و النسخ لا ينافى التصديق كما ان القران ينسخ بعضه بعضا مقدر بإضمار جئتكم او مردود على قوله بانّى قد جئتكم باية او معطوف على معنى مصدقا اى لا صدق و لا حل وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ جاز ان يكون المراد بالآية هاهنا آيات الإنجيل و جاز ان يقال انه تكريرا للتأكيد- و لتقريبها الى الحكم و لذلك رتب عليه قوله فَاتَّقُوا اللّه اتقوا عذاب اللّه فى مخالفتى و تكذيبى وَ أَطِيعُونِ (٥٠) فيما أمركم به من توحيد اللّه و طاعته.

٥١

إِنَّ اللّه رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ تفصيل لما أجمل من قوله فاتّقوا اللّه و أطيعون فان فى قوله انّ اللّه ربّى و ربّكم اشارة الى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايته التوحيد أقرّ اولا فى هذه الجملة بالعبودية على نفسه سدّا لباب الفتنة التي يأتى من قومه من قولهم ابن اللّه و ثالث ثلاثة و فى قوله فاعبدوه اشارة الى استكمال القوة العملية بإتيان المأمورات و الانتهاء عن المناهي ثم أكد الجملتين بقوله هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١) يعنى الجمع بين الامرين هو الطريق المشهود له بالخير و هو المعنى من قوله صلى اللّه عليه و سلم قل امنت باللّه ثم استقم فى جواب من قال مر لى فى الإسلام لا اسئل منه بعدك رواه اصحاب السنن و احمد و البخاري فى التاريخ-.

٥٢

فَلَمَّا ظرف زمان فيه معنى الشرط جوابه قال من انصارى أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ اى من بنى إسرائيل الْكُفْرَ يعنى سمع منهم تكذيبه و القول بمثل عزير ابن اللّه و ابصر منهم ما يدل على الكفر و فى الكلام حذف اختصار يدل على المحذوف ما مر من البشارة تقديره فولدت مريم عيسى و كلم عيسى قومه فى المهد و بلغ الكمال حتى صار نبيا عالما بالتورية و الإنجيل و دعا الناس الى الهدى و التي بالمعجزات المذكوران و أنكره بنو إسرائيل و كذبوه و أتوا بما يدل على الكفر فلما أحس عيسى منهم ذلك قالَ مَنْ أَنْصارِي فتح الياء نافع و ابو جعفر- ابو محمد و أسكنها الباقون إِلَى اللّه الى هاهنا بمعنى مع كما فى قوله تعالى لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ او بمعنى فى او بمعنى اللام يعنى من انصارى مع اللّه او فى اللّه يعنى فى سبيل اللّه او للّه- او هو بمعناه و يعتبر فى النصرة معنى الاضافة يعنى من الذين يضيفون أنفسهم الى اللّه فى نصرى فعلى هذه الوجوه الجار و المجرور ظرف لغو- و جاز ان يكون ظرفا مستقرا على انه حال من الياء اى من انصارى ملتجيا الى اللّه او ذاهبا الى ما امر به اوضا ما اليه قالَ الْحَوارِيُّونَ حوارى الرجل خالصته من الحور بمعنى البياض الخالص قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حين ندب الناس يوم الخندق ثلاثا فانتدب كل مرة زبير بن العوام فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان لكل نبى حواريّا و حوار بي الزبير متفق عليه و فى القاموس الحوارى الناصر او ناصر الأنبياء و القصار و الحميم سمى اصحاب عيسى به لخلوص نيتهم فى الدين و لكونهم ناصرا له كذا قال الحسن و سفيان و قيل كانوا ملوكا استنصر بهم عيسى من اليهود سموا بها لما كانوا يلبسون الثياب البيض

و اخرج ابن جرير عن ابى ارطاة كانوا قصارين يحورون الثياب اى يبيضونها و قال الضحاك سموا بها لصفاء قلوبهم يعنى لتطهرهم من الذنوب و قال ابن المبارك سموا به لما عليهم اثر العبادة و نورها- و اصل الحور عند العرب شدة البياض و قال الكلبي و عكرمة الحواريون الأصفياء و كانوا اثنى عشر رجلا قال روح بن القاسم سالت قتادة عن الحواريين قال هم الذين يصلح لهم الخلافة و عنه قال الحواريون الوزراء

و قال مجاهد و السدى كانوا صيادين السمك و قيل كانوا ملاحين نَحْنُ أَنْصارُ اللّه اى أنصار دينه آمَنَّا بِاللّه وَ اشْهَدْ يا عيسى يوم تشهد الرسل لقومهم و عليهم بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) فيه دليل على ان الايمان و الإسلام واحد.

٥٣

رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ من الكتب الإنجيل و غيره.

وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ عيسى عليه السلام فى كل ما أمرنا به فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) بوحدانيتك و لانبيائك بالصدق و قال عطاء مع النبيين لان كل نبى شاهد لامته و قال ابن عباس مع محمد صلى اللّه عليه و سلم و أمته لانهم يشهدون للرسل على البلاغ.

٥٤

وَ مَكَرُوا اى الذين أحس عيسى منهم الكفر حيث أراد و اقتله- قال الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس استقبل عيسى رهطا من اليهود فلما راوه قالوا قد جاء الساحرين الساحرة فقذفوه و امه فلعنهم عيسى و دعا عليهم فمسخهم اللّه خنازير فلما راى ذلك يهودا رأس اليهود و أميرهم فزع لذلك و خاف دعوته فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى و بادروا اليه ليقتلوه فبعث اللّه جبرئيل فادخله خوخة فى سقفها روزنة فرفعه اللّه الى السماء من تلك الروزنة فامر يهودا رأس اليهود رجلا من أصحابه يقال له طيطيانوس ان يدخل الخوخة و يقتله فلما دخل القى عليه شبه عيسى فلما خرج ظنوا انه عيسى فقتلوه و ذلك قوله تعالى وَ مَكَرَ اللّه و المكر فى الأصل حيلة يجلب بها غيره الى مضرة فلا يسند الى اللّه تعالى الا على سبيل المقابلة و الازدواج قال الزجاج مكر اللّه عز و جل مجازاتهم على مكرهم فسمى الجزاء باسم الابتداء لانه فى مقابلته وَ اللّه خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) اى أقواهم و أقدرهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب ..

٥٥

إِذْ قالَ اللّه ظرف لمكر اللّه او لمضمر مثل وقع ذلك يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ اى الى محل كرامتى و مقر ملائكتى قال الحسن و الكلبي و ابن جريج معناه انى قابضك و رافعك الى من الدنيا من غير موت

قال البغوي لهذا المعنى تأويلان أحدهما انى رافعك الى وافيا لم ينالوا منك شيئا من قولهم توفيت كذا اى استوفيته إذا أخذته تاما- و الاخر انى متسلمك من قولهم توفيت منه كذا اى تسلمته-

و اخرج ابن جرير عن الربيع بن انس المراد بالتوفى النوم و كان عيسى قد نام فرفعه اللّه نائما الى السماء فيحنئذ معناه انى منيمك و رافعك الى كما قال هو الّذى يتوفّيكم باللّيل- و قال بعضهم المراد بالتوفى الموت روى على بن ابى طلحة عن ابن عباس معناه انى مميتك

قال البغوي فعلى هذا ايضا له تأويلان أحدهما ما قاله وهب توفى اللّه عيسى ثلاث ساعات من النهار ثم رفعه اليه و قال محمد بن إسحاق النصارى يزعمون اللّه توفاه سبع ساعات من النهار ثم أحياه و رفعه كذا اخرج ابن جرير عنه- ثانيهما ما قاله الضحاك معناه انى متوفيك بعد انزالك من السماء و مؤخرك الى أجلك المسمى عاصما إياك من قتل اليهود و رافعك الى قبل ذلك و الواو للجمع المطلق لا للترتيب و هذا التأويل يأباه قوله تعالى فى المائدة فلمّا توفّيتنى كنت أنت الرّقيب عليهم فانه يدل على انه قومه انما تنصروا بعد توفيه و لا شك انهم تنصروا بعد رفعه الى السماء فظهر ان المراد بالتوفى اما الرفع الى السماء و اما التوفى قبل الرفع و الظاهر عندى ان المراد بالتوفى هو الرفع الى السماء بلا موت يشهد به الوجدان بعد ملاحظة قوله تعالى و ما قتلوه و ما صلبوه و لولا نفى الموت عنه لما كان من نفى القتل فائدة إذ الغرض من القتل الموت و اللّه اعلم- عن ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال و الذي نفسى بيده ليوشكن ان ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا يكسر الصليب و يقتل الخنزير و يضع الجزية و يفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا و ما فيها ثم قال ابو هريرة فاقرءوا ان شئتم وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ الاية متفق عليه و فى رواية لهما كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم و إمامكم منكم و فى رواية لمسلم و ليتركن القلاص فلا يسعى عليها و ليذهبن الشحناء و التباغض و التحاسد و ليدعون الى المال فلا يقبله أحد- و عنه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم فى نزول عيسى قال و يهلك فى زمانه الملل كلها الا الإسلام و يهلك الدجال فيمكث فى الأرض أربعين سنة ثم يتوفى فيصلى عليه المسلمون- كذا

قال البغوي و روى ابن الجوزي فى كتاب الوفاء عن عبد اللّه بن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ينزل عيسى بن مريم الى الأرض فيتزوج و يولد له و يمكث خمسا و أربعين سنة ثم يموت فيدفن معى فى قبرى قاقوم انا و عيسى بن مريم فى قبر واحد بين ابى بكر و عمر- و عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين الى يوم القيامة قال فينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم تعالى صل لنا فقال لا ان بعضكم على بعض أمراء تكرمة اللّه هذه الامة رواه مسلم و فى حديث المعراج ان النبي صلى اللّه عليه و سلم راى عيسى بن مريم فى السماء الثانية متفق عليه وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا من سوء جوارهم وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعنى يعلونهم بالحجة و السيف فى غالب الأحوال- و متبعوه الحواريون و من كان من بنى إسرائيل على دينه الحق قبل مبعث النبي صلى اللّه عليه و سلم و المسلمون من امة محمد صلى اللّه عليه و سلم الذين صدقوه و اتبعوا دينه فى التوحيد و وصيته باتباع النبي صلى اللّه عليه و سلم حيث قال و مبشّرا برسول يأتي من بعدي اسمه احمد- و قيل أراد بهم النصارى فهم فوق اليهود الى يوم القيامة الى الان لم يسمع غلبة اليهود عليهم و ذهب ملك اليهود فلم يبق لهم ملك و دولة و الملك و الدولة من بنى إسرائيل فى النصارى فعلى هذا يكون الاتباع بمعنى الادعاء و المحبة لا اتباع الدين ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ضمير المخاطب لعيسى و من تبعه و من كفر به و غلّب المخاطبين على الغائبين

فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) من امر الدين ثم فصّل ذلك الحكم فقال.

٥٦

فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا بالقتل و الاسر و ضرب الجزية و الذل وَ الْآخِرَةِ بالنار وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٢) يمنعهم من عذابنا.

٥٧

وَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ قرا حفص بالياء على الغيبة و الباقون بالنون على التكلم أُجُورَهُمْ وَ اللّه لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) اى لا يرحم الكافرين و إذا لم يرحمهم عذبهم على ما اقتضاه كفرهم- قال اهل التاريخ حملت مريم بعيسى و لها ثلاث عشرة سنة و ولدت عيسى بمضى ء خمس و ستين سنة من غلبة الإسكندر على ارض بابل و اوحى اللّه الى عيسى و هو ابن ثلاثين سنة و رفعه اللّه من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان و هو ابن ثلاث و ثلاثين سنة و كانت نبوته ثلاث سنين و عاشت مريم بعد رفعه ست سنوات «١» و فى رواية انه لمّا قتل و صلب من شبه بعيسى جاءت مريم و امراة اخرى كان عيسى دعالها فابّراها اللّه من الجلون تبكيان عند المصلوب فجاءهما عيسى فقال لهما علام تبكيان ان اللّه رفعنى و لم يصبنى الأخير و ان هذا شى ء شبّه لهم فلما كان بعد سبعة ايام قال اللّه عز و جل لعيسى اهبط على مريم المحد لابنها فى جبلها فانه لم يبك أحد بكاءها و لم يحزن أحد حزنها- ثم لتجمع لك الحواريون فتثبهم فى الأرض دعاة الى اللّه عز و جل فاهبطه اللّه تعالى عليها فاشتعل الجبل حين هبط نورا فجمعت له الحواريون فبثهم فى الأرض دعاة ثم رفعه اللّه اليه و تلك الليلة هى التي تدّخر فيها النصارى فلما أصبح الحواريون حدّث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى إليهم.

(١) فى بالأصل سنة.

٥٨

ذلِكَ مبتدا خبره نَتْلُوهُ يعنى الذي ذكر من امر عيسى و مريم و الحواريين نتلوه عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ حال من الضمير المنصوب فى نتلوه- و جاز ان يكون نتلوه حالا من المشار اليه و العامل فيه معنى الاشارة و الخبر من الآيات- و ان يكونا خبرين و ان ينتصب ذلك بمضمر يفسره نتلوه- و المراد بالآيات اما آيات القران او المعجزات الدالة على صدق النبي صلى اللّه عليه و سلم فى دعوى نبوته فانه لم يكن عالما بتلك القصص و اخبر على ما كان عند اهل العلم منهم وَ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) اى القران ذى الحكمة و قال مقاتل الحكيم المحكم الممنوع من الباطل و قيل الذكر الحكيم هو اللوح المحفوظ و هو معلق بالعرش من درة بيضاء طوله ما بين السماء الأرض.

٥٩

إِنَّ مَثَلَ عِيسى يعنى شأنه الغريب عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ كشأنه ثم فسره و بين وجه التشبيه فقال خَلَقَهُ اى صور قالبه يعنى آدم مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ اى لذلك القالب كُنْ بشرا حيّا فَيَكُونُ (٥٩) حكاية عن الحال الماضية او المعنى قدر خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون و جاز ان يكون ثم لتراخى الخبر عن الخبر دون المخبر يعنى اخبر اولا انه خلق آدم من تراب ثم اخبر بانه انما خلقه بان قال له كن فكان يعنى لم يكن هناك اب و لا أم و لا حمل و لارضاع و لا فطام- فشأن عيسى فى الغرابة شابه شأن آدم من حيث كونه بلا اب فقط و شأن آدم اغرب منه بوجوه فشبه الغريب بالاغرب و ما هو خارق للعادة بالاخرق ليكون اقطع لنزاع الخصم و احسم لمادة الشبهة- نزلت الاية فى وفد نجران لما قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مالك تشتم صاحبنا قال ما أقول قالوا تقول انه عبد قال أجل هو عبد اللّه و رسوله و كلمته القاها الى العذراء البتول فغضبوا و قالوا و هل رايت إنسانا قط من غير اب فانزل اللّه تعالى لالزامهم و اقحامهم هذه الاية-

و اخرج ابن ابى حاتم من طريق العوفى عن ابن عباس نحوه

و اخرج عن الحسن قال اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم راهبا نجران فقال أحدهما من ابو عيسى و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يتعجل حتى يأمره ربه فنزل عليه ذلك نتلوه عليك الى قوله من الممترين فانهم كانوا يعترفون بخلق آدم بغير اب و أم من تراب- و ما أجهل النصارى لعنهم اللّه قالوا هل رايت إنسانا قط من غير اب و ما تفكّروا فى أنفسهم انهم هل راوا إنسانا تلد شاة او شاة تلد إنسانا مع اتحاد الجنس فى الحيوانية و اختلافهما فى النوع فكيف حكموا بان اللّه الأحد الصمد القديم لذاته الذي ليس كمثله شى ء ولد عيسى جسما مخلوقا حادثا يأكل الطعام و ينام و يموت بل هو الذي لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد (فائدة) فى هذه الاية دلالة على حجية القياس لان اللّه سبحانه نبه على الحكم بجواز خلق عيسى من غير اب قياسا على خلق آدم-.

٦٠

الْحَقُّ خبر مبتدا محذوف او فاعل لفعل محذوف يعنى هو الحق او جاء الحق و جاز ان يكون مبتدا خبره مِنْ رَبِّكَ اى الحق المذكور من اللّه و على التقديرين الأولين من ربّك متعلق بجاء المحذوف او حال من الضمير فى الحق فَلا تَكُنْ ايها المخاطب المنكر مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٧٠) الشاكّين فى امر عيسى عليه السلام كما افترت اليهود حتى بهتوا امه و افترت النصارى حتى قالوا انه ابن اللّه.

٦١

فَمَنْ شرطية و جاز ان يكون استفهامية لانكار وجود من يحاجه من بعد ان النصارى عجزوا من المخاصمة حَاجَّكَ اى جادلك من النصارى فِيهِ اى فى عيسى او فى الحق مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ بان عيسى عبد اللّه و رسوله- و فى ذكر هذا القيد للمباهلة تنبيه على ان المسلم لا ينبغى ان يباهل الا بعد كمال اليقين فَقُلْ يا محمد تَعالَوْا امر من التفاعل من العلو قال الفراء معناه كانه قال ارتفعوا قلت كانه يطلب منه ان يظهر على مكان عال ليبصر ما خفى عن بصره ثم استعير و غلب استعماله فى طلب التأمل و التوجه من المخاطب بالرأى فيما خفى عنه- فحاصل المعنى هلموا بالرأى و العزم- و قد يستعمل للدعاء الى مكان قريب من الداعي نَدْعُ مجزوم فى جواب الأمر أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ يعنى ندع كل منا و منكم نفسه و اعزة اهله من الأبناء و النساء فنضمهم الى أنفسنا حتى يعم ما نزل بالكاذب من العذاب اجمعهم و قدمهم على النفس لان الرجل يخاطر بنفسه لهم و يحارب دونهم و لان الأصل فى الدعاء المغائرة بين الداعي و المدعو و المغائرة بين الرجل و بين ابنائه و نسائه حقيقى و بينه و بين نفسه اعتباري فقدم الحقيقي على الاعتباري- روى مسلم و الترمذي عن سعد بن ابى وقاص قال لما نزلت هذه الاية دعا رسول اللّه عليّا و فاطمة و حسنا و حسينا فقال اللّهم هؤلاء اهل بيتي ثُمَّ نَبْتَهِلْ افتعال و معناه التفاعل و اختير الافتعال هاهنا على التفاعل لان المقصود منه جلب اللعنة الى نفسه ان كان كاذبا و دفعها الى خصمه ان كان صادقا و جلب الشر الى نفسه اسرع وقوعا من دفعه الى غيره فكان الغرض منه اكتساب اللعنة- و البهلة بالضمة و الفتحة و أصله الترك يقال بهلت الناقة إذا تركتها بلا اصرار و فى اللعينة الترك من الرحمة و البعد من رحمة اللّه تعالى فى الدنيا و الاخرة و ذلك يقتضى وقوع العذاب لان العصمة من العذاب لا يتصور الا برحمته- و فى كلمة ثم اشارة الى ان اللائق من العاقل التأخير و التراخي فى المباهلة فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّه عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) عطف تفسيرى على نبتهل و بالفاء اشارة الى ان وقوع العنة لا يتراخى عن الابتهال بل يعقبه بلا مهلة

قال البغوي فلما قرا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هذه الاية على وفد نجران دعاهم الى المباهلة قالوا حتى نرجع و ننظر فى أمرنا نأتيك غدا فخلا بعضهم ببعض فقالوا للعاقب و كان ذا رأيهم يا عبد المسيح ما ترى قال و اللّه لقد عرفتم يا معشر النصارى ان محمدا نبى مرسل و و اللّه مالا عن قوم نبيا قط فعاش كبيرهم و نبت صغيرهم و لئن فعلتم ذلك لتهلكن فان أبيتم الا الاقامة على ما أنتم عليه من القول فى صاحبكم فوادعوا لرجل و انصرفوا الى بلادكم- فاتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قد غذا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم محتضنا الحسين أخذا بيد الحسن و فاطمة يمشى خلفه و علىّ خلفها و هو يقول إذا دعوت فامّنوا- فقال اسقف نجران يا معشر النصارى انى لارى وجوها لو سالوا اللّه ان يزيل جبلا عن مكانه لازاله فلا تبتهلوا فتهلكوا و لا يبقى على وجه الأرض نصرانى الى يوم القيامة فقالوا يا أبا القاسم قد راينا ان لا نلاعنك و ان نتركك على دينك و نثبت على ديننا- فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فان أبيتم المباهلة فاسلموا يكن لكم ما للمسلمين و عليكم ما عليهم فابوا قال فانى أنابذكم فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة و لكنا نصالحك على ان لا تغزونا و لا تخيفنا و لا تردنا عن ديننا على ان نؤدى إليك كل عام الفى حلة الفا فى صفر و الفا فى رجب فصالحهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على ذلك و قال و الذي نفسى بيده ان العذاب قد تدلى على اهل نجران و لو تلاعنوا لمسخو قردة و خنازير و لاضطرم عليهم الوادي نارا و لا ستأصل اللّه نجران و اهله حتى الطير على الشجر و لما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا و كذا اخرج ابو نعيم فى الدلائل من طرق عن ابن عباس-

و استدل الروافض قبحهم اللّه بهذه الاية على نفى خلافة الخلفاء الثلاثة رضى اللّه عنهم و كون علىّ عليه السلام هو الخليفة بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قالوا المراد بالأبناء فى هذه الاية الحسن و الحسين و بالنساء فاطمة و بانفسنا علىّ «١» فجعل اللّه سبحانه عليّا نفس محمد صلى اللّه عليه و اله و سلم و أراد اللّه تعالى به كون على رضى اللّه عنه مساويا له صلى اللّه عليه و سلم فى الفضائل و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اولى بالتصرف فى الناس من أنفسهم قال اللّه تعالى النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فكان علىّ كذلك فهو الامام- و الجواب عنه بوجوه أحدها ان الأنفس بصيغة الجمع يدل على نفس النبي و نفس من تبعه و لا يدل ذلك على كون نفسهما واحدا مع كونه ظاهر البطلان- ثانيها انه جاز ان يكون علىّ، ايضا مرادا بالأبناء كالحسن و الحسين بعموم المجاز فان الختن يطلق عليه الابن عرفا- و ثالثها انه جاز ان يكون المراد بانفسنا من يتصل به نسبا و دينا كما فى قوله تعالى و لا تخرجون «٢» أنفسكم من دياركم و قوله تعالى تقتلون أنفسكم و قوله تعالى ظنّ المؤمنون و المؤمنات بانفسهم خيرا و قوله تعالى و لا تلمزوا أنفسكم فحينئذ لا يلزم المساوات بينهما أصلا- و رابعها ان مساوات علىّ النبي صلى اللّه عليه و سلم فى جميع الصفات باطل باتفاق الفريقين و المساوات فى بعضها لا يفيد المساوات فيما نحن فيه- خامسها انه لو كانت الاية دالة على كون على اولى بالتصرف لزم كونه كذلك فى حياته صلى اللّه عليه و سلم و أنتم لا تقولون به لكن هذه القصة تدل على كون هؤلاء الكرام أحب الناس الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم.

(١) فى الأصل لا تخرجوا-.

(٢) فى الأصل عليا.

٦٢

إِنَّ هذا يعنى ما ذكر من قصص عيسى و مريم لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ هو فصل بين اسم ان و خبرها او مبتدا و القصص خبره و الجملة خبر ان و جاز دخول اللام على الفصل لان أصلها ان تدخل على المبتدا و لذا سميت لام الابتداء و جاز دخولها على الخبر إذا لم يكن بينهما ضمير فصل و ان كان هناك ضمير فصل دخلت عليه لكونه اقرب الى المبتدا من الخبر وَ ما مِنْ إِلهٍ من مزيدة لتأكيد استغراق النفي ردا على النصارى فى قولهم بالتثليث إِلَّا اللّه وَ إِنَّ اللّه لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) هذا فى التركيب نظير قوله تعالى إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ يعنى انه تعالى لا يساويه أحد فى العزة و القدرة التامة و الحكمة البالغة فكيف يشاركه فى الالوهية.

٦٣

فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الحجج و اعرضوا عن التوحيد فَإِنَّ اللّه عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) وعيد لهم تقديره فان تولّوا فانّ اللّه يعذبهم فحذف يعذبهم و أقيم عليم بالمفسدين مقامه اقامة العلة مقام المعلول فان علمه تعالى بافسادهم فى الآفاق باشاعة الكفر و المعاصي و صد الناس عن الايمان و فى أنفسهم بكفر ان المنعم و عصيانه و ترك شكره و مخالفة رسوله سبب لتعذيبهم و اللّه اعلم و فيه اشارة الى ان التولي عن الحق إفساد و اللّه اعلم- قال المفسرون قدم وفد نجران المدينة فالتقوا مع اليهود فاختصموا فى ابراهيم عليه السلام فزعمت النصارى انه كان نصرانيا و هم على دينه و اولى الناس به و قالت اليهود بل كان يهوديا و هم على دينه و اولى الناس به فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كلا الفريقين برى ء من ابراهيم و دينه بل كان حنيفا مسلما و انا على دينه فاتبعوا دينه الإسلام فقالت اليهود ما تريد الا ان نتخذك ربّا كما اتخذت النصارى عيسى ربا و قالت النصارى يا محمد ما تريد الا ان نقول فيك ما قالت اليهود فى عزيز فانزل اللّه تعالى.

٦٤

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ الخطاب يعم اهل الكتابين تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ

قال البغوي العرب تسمى كل قصة لها شرح كلمة و منه سميت القصيدة كلمة سَواءٍ مصدر بمعنى مستوية و لم يؤنث لان المصدر لا تثنى و لا تجمع و لا تؤنث بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ ظرف متعلق بسواء يعنى لا يختلف فيه القران و التورية و الإنجيل أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللّه يعنى لا نشرك به أحدا غيره فى العبادة لا إنسانا و لا صنما و لا ملكا و لا شيطانا محل ان رفع على إضمار هو او جريد لا من الكلمة و قيل نصب بنزع الخافض اى بان لا نعبد وَ لا نُشْرِكَ بِهِ فى وجوب الوجود شَيْئاً كما فعلت اليهود و النصارى حيث قالوا عزير ابن اللّه و المسيح ابن اللّه فعبدوهما و قالت النصارى ثالث ثلاثة وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا اى بعض الناس بَعْضاً اى بعضهم أَرْباباً يعنى لا يطيع بعض الناس بعضا مِنْ دُونِ اللّه اى بغير اذن من اللّه تعالى- عن عدى بن حاتم انه لما نزلت اتّخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون اللّه قال عدى بن حاتم ما كنا نعبدهم يا رسول اللّه قال ا ليس كانوا يحلون لكم و يحرمون فتأخذون بقولهم قال نعم قال هو ذاك رواه الترمذي و حسنه فما كان من إطاعة الرسول فهو إطاعة اللّه لا غير قال اللّه تعالى و من يطع الرّسول فقد أطاع اللّه و كذا ما كان من إطاعة العلماء و الأولياء و السلاطين و الحكام على مقتضى الشرع قال اللّه تعالى أَطِيعُوا اللّه وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ و ما كان منها على خلاف مقتضى الشرع فهو الاتخاذ بعضنا بعضا أربابا من دون اللّه عن على رضى اللّه عنه لا طاعة لاحد فى معصية اللّه انما الطاعة فى المعروف رواه الشيخان فى الصحيحين و ابو داود و النسائي و عن عمران بن حصين و الحكيم بن عمرو الغفاري لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق- و من هاهنا يظهر انه إذا صح عند أحد حديث مرفوع من النبي صلى اللّه عليه و سلم سالما عن المعارضة و لم يظهر له ناسخ و كان فتوى ابى حنيفة رحمة اللّه مثلا خلافه و قد ذهب على وفق الحديث أحد من الائمة الاربعة يحب عليه اتباع الحديث الثابت و لا يمنعه الجمود على مذهبه من ذلك كيلا يلزم اتخاذ بعضنا بعضا أربابا من دون اللّه روى البيهقي فى المدخل بإسناد صحيح الى عبد اللّه بن المبارك قال سمعت أبا حنيفة يقول إذا جاء عن النبي صلى اللّه عليه و سلم فعلى الرأس و العين و إذا جاء عن اصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم نختار من قولهم و إذا جاء من التابعين زاحمناهم- و ذكر عن روضة العلماء قال اتركوا قولى بخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قول الصحابة- و نقل انه قال إذا صح الحديث فهو مذهبى- و انما قلت فى العمل بالحديث ان يكون ذلك الحديث قد ذهب اليه أحد من الائمة الاربعة كيلا يلزم العمل على خلاف الإجماع فان اهل السنة قد افترق بعد القرون الثلاثة او الاربعة على اربعة مذاهب و لم يبق مذهب فى فروع المسائل سوى هذه الاربعة فقد انعقد الإجماع المركب على بطلان قول يخالف كلهم و قد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يجتمع أمتي على الضلالة و قال اللّه تعالى وَ (مَنْ) ... يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً و ايضا لا يحتمل كون الحديث مختفيا عن للائمة الاربعة و عن أكابر العلماء من تلامذتهم فتركهم قاطبة العمل بحديث دليل على كونه منسوخا او مأوّلا- (فائدة) لا يجوز لاحد ان يقول فى امر افتى علماء الشرع على حرمته او كراهته ان مشائخ الصوفية سنوا كذلك و نحن نتبع سنتهم و الصحيح ان الصوفية الكرام ما فعلوا قط على خلاف مقتضى الشرع و انما الفساد من جهال اتباعهم (فائدة) لا يجوز ما يفعله الجهال بقبور الأولياء و الشهداء من السجود و الطواف حولها و اتخاذ السرج و المساجد عليها و من الاجتماع بعد الحول كالاعياد و يسمونه عرسا عن عائشة و ابن عباس قالا لما نزل برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مرض طفق يطرح خميصة له على وجهه فاذا اغتم كشفها عن وجهه و يقول و هو كذلك لعنة اللّه على اليهود و النصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد- قالت فحذّر عن مثل ما صنعوا متفق عليه و كذا روى احمد و الطيالسي عن اسامة بن زيد- و روى الحاكم و صححه عن ابن عباس لعن اللّه زائرات القبور و المتخذين عليها المساجد و السرج- و روى مسلم من حديث جندب بن عبد الملك قال سمعت النبي صلى اللّه عليه و سلم قبل ان يموت بخمس و هو يقول الا لا تتخذوا القبور مساجد انى أنهاكم عن ذلك فَإِنْ تَوَلَّوْا يعنى اهل الكتاب عن تلك الكلمة العادلة المستقيمة المستوية المتفق عليها الكتب و الرسل فَقُولُوا ايها النبي و المؤمنون اشْهَدُوا يا اهل الكتاب بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) بالكتب السماوية كلها دونكم عن ابن عباس ان أبا سفيان بن حرب أخبره ان هرقل أرسل اليه فى ركب من قريش و كانوا ا تجارا بالشام فى المدة التي كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مادّ فيها أبا سفيان و كفار قريش فاتوه و هم بايليا فدعاهم فى مجلسه و حوله عظماء الروم ثم دعا بكتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الذي بعث به دحية الى عظيم بصرى فدفعه الى هرقل فاذا فيه بسم اللّه الرحمن الرحيم من محمد عبد اللّه و رسوله الى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى اما بعد فانى أدعوك بدعاية الإسلام اسلم تسلم يؤتك اللّه أجرك مرتين فان توليت فان عليك اثم الأريسيين و يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللّه وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّه فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ متفق عليه (فائدة) قراءة النبي صلى اللّه عليه و سلم هذه الاية على وفد نجران و كتابته الى هرقل و تسليمهم و عدم ردهم إياها بالإنكار و بالقول بان هذه الكلمة ليست فى كتبنا حجة قاطعة على نبوته صلى اللّه عليه و سلم و كون تلك الكلمة مجمعا عليها الكتب و الرسل فظهر ان قولهم بان عزيرا ابن اللّه و عيسى ابن اللّه انما كان بناء على آرائهم الفاسدة و التقليد دون الاستناد الى الكتب و من ثم احتجوا على النبي صلى اللّه عليه و سلم بقولهم هل رايت إنسانا من غيراب-

قال البيضاوي انظر الى ما روعى فى هذه القصة من المبالغة فى الإرشاد و حسن التدرّج فى الحجاج بيّن اولا احوال عيسى و ما تعاور عليه من الأطوار المنافية للالوهية ثم ذكر ما يحل عقدتهم و يزيح شبهتهم بقوله مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم فلما راى عنادهم و لجاجهم دعاهم الى المباهلة بنوع من الاعجاز ثم لما راى انهم اعرضوا عنها و انقادوا بعض الانقياد عاد عليهم بالإرشاد و سلك طريقا أسهل و الزم بان دعاهم الى ما وافق عليه عيسى و الإنجيل و سائر الأنبياء و الكتب ثم لما لم يجد ذلك ايضا عليهم و علم ان الآيات و النذر لا يغنى عنهم اعرض عن ذلك و قال اشهدوا بانّا مسلمون و اللّه اعلم- روى ابن إسحاق بسنده المتكرر عن ابن عباس رضى اللّه عنهما قال أجمعت نصارى نجران و أحبار اليهود عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالت الأحبار ما كان ابراهيم الا يهوديا و قالت النصارى ما كان الا نصرانيا فانزل اللّه تعالى.

٦٥

يا أَهْلَ الْكِتابِ الخطاب يعم الفريقين لِمَ تُحَاجُّونَ تختصمون فِي دين إِبْراهِيمَ وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ فحدث دين اليهود وَ ما أنزلت الْإِنْجِيلُ فحدث دين النصارى إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ اى بعد ابراهيم بزمان طويل كان بين ابراهيم و موسى الف سنة و بين موسى و عيسى و هو اخر أنبياء بنى إسرائيل الفا سنة أَ فَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) بطلان قولكم لعلهم كانوا يدعون ان ابراهيم فى فروع الأعمال كان عاملا باحكام التورية او الإنجيل بل ما اخترعه الفريقان بعد موت موسى و رفع عيسى و تحريفهم الكتابين و هذا هو محل النزاع بين الفريقين و ظاهر البطلان فان فروع الأعمال ينسخ فى الشرائع بعد مضى الدهور على ما هو عادة اللّه تعالى نظرا الى مصالح كل عصر فكيف يكون دين ابراهيم اليهودية او النصرانية- و اما فى اصول الدين و ما لا يحتمل النسخ من الفروع كحرمة العبادة لغير اللّه تعالى و الكذب و الظلم فالشرائع و الملل الحقة كلها متفقة عليها لا يحتمل فيها الاختلاف و اللّه اعلم.

٦٦

ها أَنْتُمْ قرا نافع و ابو جعفر- ابو محمد و ابو عمرو حيث وقع بالمد من غير همز «١»- و ورش اقل مد او قنبل بالهمز من غير الف بعد الهاء و الباقون بالمد و الهمز- فالبزى يقصر على أصله فى المنفصل و الباقون على أصولهم فى المد- فها للتنبيه على قراءة الكوفيين و من معهم- ابو محمد و البزي و ابن ذكوان و على قراءة قنبل أصله ءانتم أبدلت همزة الاستفهام هاء كقولهم هرقت فى ارقت فصار هانتم و كذا على قراءة ورش غير انه يبدل الهمزة الثانية الفا كما هو مذهبه عند اجتماع الهمزتين إذا كانتا مفتوحتين و على قراءة ابى عمرو و قالون و هشام جاز الأمر ان فان كان أصله ءانتم على الاستفهام أبدلت الهمزة الاولى هاء كما قيل على قراءة قنبل و ورش و زيدت الف فاصلا بين الهمزتين على أصلهم ثم حذفت الهمزة الثانية تخفيفا على قراءة ابى عمرو و قالون و بقيت على قراءة هشام- و ان كان أصله ها أنتم على الخبر فلا تغير فى قراءة هشام و عند ابى عمرو و قالون حذفت الهمزة تخفيفا فالكلام اما استفهام إنكاري- او تنبيه عن حالهم الذي غفلوا عنه- و أنتم مبتدا و هؤُلاءِ خبره و ما بعده جملة اخرى مبيّنة للاولى و جاز ان يكون هؤلاء منادى بحذف حرف النداء و الجملة التالية خبر لانتم تقديره يا هؤلاء أنتم أو ها أنتم حاجَجْتُمْ اى خاصمتم و قيل هؤلاء بمعنى الذي و ما بعده صلته و الموصول مع الصلة خبر لانتم- قال نحاة الكوفة جاز وضع اسم الاشارة موضع الموصول يعنى ءانتم او ها أنتم الذي جادلتم فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ من امر موسى و عيسى و ادعيتم انكم على دينهم و قد علمتم ما كان دينهم من التورية و الإنجيل و ان كنتم لبستم بعض ما هو فى التورية و الإنجيل من نعت محمد صلى اللّه عليه و سلم و ان دين موسى و عيسى سينسخ بدين محمد النبي الأمي المبعوث فى اخر الزمان فافتضحتم فيه بإظهاره تعالى ما لبستموه مع علمكم بما فى التورية و الإنجيل فَلِمَ تُحَاجُّونَ ايها الحمقاء

(١) هكذا فى التيسير للداني و معناه انه قرا قالون و ابو عمرو و ابو جعفر بألف بعد الهاء و همزة مسهلة و هم فى المد على أصولهم و ورش لطريق الا رزق بهمزة مسهلة من غير الف و مد و بابدال الهمزة انا مع مد اللازم- ابو عبد عفا اللّه عنه.

الغافلون عن ظهور بطلان قولكم فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ من دين ابراهيم و شريعته حيث لم يذكر فى التورية و الإنجيل دينه و ملته و كان قبلكم بالوف سنين وَ اللّه يَعْلَمُ ما انزل على كل نبى من الاحكام وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) الا ما علمكم اللّه فى كتابكم بل أنتم لا تعلمون أصلا حيث تركتم ما انزل اللّه عليكم و نبذتم كتاب اللّه وراء ظهوركم حتى لم تؤمنوا بمحمد و قد أخذ اللّه ميثاقكم فتفتضحون فى تلك المحاجة بالطريق الاولى إذ لا يصلح محاجة الجاهل العالم- و فيه تنبيه على ان محاجة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صحيحة لكونه عالما بتعليم اللّه تعالى ثم بين اللّه تعالى دين ابراهيم فقال.

٦٧

ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا يعنى ما كان دين ابراهيم موافقا لدين موسى و عيسى فى كثير من الفروع وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مائلا عن العقائد الزائغة و قيل الحنيف الذي يوحد و يضحى و يختن و يستقبل الكعبة و لم يكن ذلك فى اليهود و النصارى مُسْلِماً منقاد اللّه تعالى فيما امر به غير متبع لهواه و أنتم لا تنقادون ما أمركم اللّه به حيث لا تؤمنون بالنبي الأمي الذي تجدونه مكتوبا عندكم فى التورية و الإنجيل و تشركون باللّه فتقولون ثالث ثلاثة و تقولون عزير ابن اللّه و المسيح ابن اللّه فكيف تدعون انكم على دين ابراهيم و ملته وَ ما كانَ ابراهيم مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) بل كان من الموحدين.

٦٨

إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ اولى مشتق من الولي بمعنى القريب يعنى أخصهم و أقربهم دينا بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ من أمته حيث كانوا على دينه بلا شبهة وَ هذَا النَّبِيُّ محمد صلى اللّه عليه و سلم وَ الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد صلى اللّه عليه و سلم لموافقتهم لابراهيم فى اكثر الشرائع فانهم يوحدون و يضحون و يختتنون و يصلون الى الكعبة و يحجون و يعتمرون و يتمون بكلمات ابتلى بها ابراهيم ربّه فاتمّهنّ وَ اللّه وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) بمحمد صلى اللّه عليه و سلم فانهم يومنون بجميع الأنبياء من أولهم الى آخرهم بخلاف اليهود و النصارى-

قال البغوي روى الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس و رواه محمد بن إسحاق عن ابن شهاب بإسناده انه لما هاجر جعفر بن ابى طالب و أناس من اصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم الى الحبشة و هاجر النبي صلى اللّه عليه و سلم الى المدينة و كان وقعة بدر اجتمعت قريش فى دار الندوة و قالوا ان لنا فى الذين هم عند النجاشي من اصحاب محمد صلى اللّه عليه و سلم ثار ممن قتل منكم ببدر فاجمعوا مالا و اهدوه الى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم و لينتدب لذلك رجلان من ذوى رأيكم فبعثوا عمرو بن العاص و عمارة بن ابى معيط مع الهدايا الادم و غيره فركبا البحر و أتيا الحبشة فلما دخلا على النجاشي سجد اله و سلما عليه و قالا له ان قومنا لك ناصحون شاكرون و لصلاحك محبون و انهم بعثوا إليك لنحذرك هؤلاء الذين قدموا عليك لانهم قوم رجل كذاب خرج فينا يزعم انه رسول اللّه و لم يتابعه منا أحد الا السفهاء و انا كنا قد ضيّقنا عليهم و الجأناهم الى شعب بأرضنا لا يدخل عليهم أحد و لا يخرج منهم أحد قد قتلهم الجوع و العطش فلما اشتد عليه الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك و ملكك و رعيتك فاحذرهم و ادفعهم إلينا لنكفيكهم قالوا و اية ذلك انهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك و لا يحيونك بالتحية التي يحييك الناس رغبة عن دينك و سنتك- قال فدعاهم النجاشي فلما حضروا صاح جعفر بالباب يستأذن عليك حزب اللّه فقال النجاشي مروا هذا الصائح فليعد كلامه ففعل جعفر فقال النجاشي نعم فليدخلوا بإذن اللّه و ذمته- فنظر عمرو بن العاص الى صاحبه فقال ا لا تسمع كيف يرطنون اى يكلمون- منه رح بحزب اللّه و ما أجابهم به النجاشي فساءهما ذلك- ثم دخلوا عليه فلم يسجدوا له- فقال عمرو بن العاص الا ترى انهم يستكبرون ان يسجدوا لك فقال لهم النجاشي ما منعكم ان تسجدوا لى و تحيونى بالتحية التي يحيينى بها من أتاني من الآفاق- قالوا نسجد للّه الذي خلقك و ملّكك و انما كانت تلك التحية و نحن نعبد الأصنام فبعث اللّه فينا نبيا صادقا و أمرنا بالتحية التي رضيها اللّه و هى السلام تحية اهل الجنة فعرف النجاشي ان ذلك حق و انه فى التورية و الإنجيل قال أيكم الهاتف يستأذن عليك حزب اللّه قال جعفر انا قال فتكلم قال انك ملك من ملوك اهل الأرض و من اهل الكتاب و لا يصلح عندك كثرة الكلام و لا الظلم و انا أحب ان أجيب عن أصحابي فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما و لينصت الاخر فتسمع محاورتنا- فقال عمرو لجعفر تكلم فقال جعفر للنجاشى سل هذين الرجلين أ عبيد نحن أم أحرار قال بل أحرار كرام قال النجاشي نجوا من العبودية- ثم قال جعفر سل هما هل اهرقنا دما بغير حق فيقتص مئا قال عمرو لا و لا قطرة قال جعفر سل هل أخذنا اموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها قال النجاشي ان كان قنطارا فعلىّ قضاؤه قال عمرو لا و لا قيراطا- قال النجاشي فما تطلبون منهم قال عمرو كنا و هم على دين واحد و امر واحد على دين ابائنا فتركوا ذلك و اتبعوا غيره فبعثنا إليك قومهم لتدفعهم إلينا فقال النجاشي ما هذا الدين الذي كنتم عليه و الدين الذي اتبعتموه اصدقنى- قال جعفر اما الدين الذي كنا عليه فتركناه فهو دين الشيطان كنا نكفر باللّه و نعبد الحجارة و اما الذي تحولنا اليه فدين اللّه الإسلام جاءنا به من اللّه رسول و كتاب مثل كتاب ابن مريم موافقا له- فقال له النجاشي تكلمت بامر عظيم فعلى رسلك ثم امر النجاشي فضرب بالناقوس فاجتمع اليه كل قسّيس و راهب فلما اجتمعوا عنده قال النجاشي أنشدكم اللّه الذي انزل الإنجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى و بين يوم القيامة نبيا مرسلا- قالوا اللّهم نعم قد بشرنا به عيسى و قال من أمن به فقد أمن بي و من كفر به فقد كفر بي- فقال النجاشي لجعفر ماذا يقول لكم هذا الرجل و ما يأمركم به و ما ينهاكم عنه قال يقرا علينا كتاب اللّه و يأمرنا بالمعروف و ينهى عن المنكر و يأمر بحسن الجوار و صلة الرحم و بر اليتيم و يأمر بان نعبد اللّه وحده لا شريك له قال اقرأ علىّ مما يقرا عليكم- فقرا عليهم سورة العنكبوت و الروم ففاضت عين النجاشي و أصحابه من الدمع فقالوا زدنا يا جعفر من هذا الحديث الطيب فقرا عليهم سورة الكهف- فاراد عمرو ان يغضب النجاشي فقال انهم يشتمون عيسى و امه- فقال ما تقولون فى عيسى و امه فقرا عليهم سورة مريم فلما اتى على ذكر مريم و عيسى رفع النجاشي نفثه من سواكه قدر ما يقذى العين قال و اللّه ما زاد المسيح على ما يقولون هذا- ثم اقبل على جعفر و أصحابه فقال اذهبوا فانتم سيوم كلمة حبشية بمعنى امنون- منه رح بأرضى يقول امنون من سبكم او اذاكم غرّم ثم قال ابشروا و لا تخافوا فلاد هورة «١» اليوم على حزب ابراهيم- قال عمرو يا نجاشى و من حزب ابراهيم- قال هؤلاء الرهط و صاحبهم الذي جاءوا من عنده و من اتبعهم فانكر ذلك المشركون و ادعوا فى دين ابراهيم- ثم رد النجاشي على عمرو و صاحبه المال الذي حملوه و قال انما هديتكم الىّ رشوة فاقبضوها فان اللّه ملّكنى و لم يأخذ منى رشوة قال جعفر فانصرفنا فكنا فى خير دار و أكرم جوار و انزل اللّه تعالى ذلك اليوم على رسوله صلى اللّه عليه و سلم فى خصومتهم فى ابراهيم و هو بالمدينة قوله عز و جل انّ اولى النّاس الاية-.

(١) الدهورة جمعك الشي ء و قد فك فى مهواة كانه أراد لا ضيعة عليهم و لا يترك حفظهم و تعهدهم و الواو زائدة- نهاية جزرى منه رحمه اللّه.

٦٩

وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ نزلت فى معاذ بن جبل و حذيفة بن اليمان و عمار بن ياسر رضى اللّه عنهم حين دعاهم اليهود الى دينهم- يعنى تمنت جماعة من اليهود لَوْ يُضِلُّونَكُمْ عن دينكم و يردونكم الى الكفر- لو مصدرية بمعنى ان عاملة فى المعنى دون اللفظ فى محل النصب لودّت- او هى للتمنى بيان للوداد وَ ما يُضِلُّونَ أحدا إِلَّا أَنْفُسَهُمْ يعنى انما يعود و بال الإضلال الى أنفسهم فيضاعف لهم العذاب و المسلمون محفوظون من شرهم بحفظ اللّه تعالى فلا يلزم إضلال الضال وَ ما يَشْعُرُونَ (٦٩) ان اضرارهم يعود إليهم.

٧٠

يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّه الناطقة بنبوة محمد صلى اللّه عليه و سلم و نعته فى التورية و الإنجيل او بالقران وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) اى تعترفون فيما بينكم على سبيل الكتمان انه نبى حق مذكور نعته فى التورية و الإنجيل او أنتم تعلمون بالمعجزات انه نبى حق.

٧١

يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ اى تخلطون الحق الذي انزل على موسى من آيات التورية بالباطل الذي كتبته ايديكم بالتحريف وَ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ النازل فى التورية من نعت محمد صلى اللّه عليه و سلم وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) ذلك و تفعلون ما تفعلون عمدا و روى ابن إسحاق عن ابن عباس رضى اللّه عنهما قال قال عبد اللّه بن الضيف و عدى بن زيد و الحارث بن عوف بعضهم لبعض نؤمن بما انزل على محمد و أصحابه غدوة و نكفر به عشية حتى يلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع فيرجعون عن دينهم فانزل اللّه تعالى فيهم يا أهل الكتب لم تلبسون الحقّ بالباطل و تكتمون الحقّ و أنتم تعلمون.

٧٢

وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الى قوله واسع عليم آمِنُوا يعنى أظهروا الايمان باللسان بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا يعنى بالقران وَجْهَ النَّهارِ يعنى اوله فانه أول ما يواجه وَ اكْفُرُوا به آخِرَهُ يعنى اخر النهار و قولوا انا نظرنا فى كتبنا و شاورنا علماءنا فوجدنا محمدا «١» ليس بذاك و ظهر لنا كذبه لَعَلَّهُمْ اى المسلمون يشكّون فى دينهم و يَرْجِعُونَ (٧٢) عن دينهم ظنّا منهم بانكم رجعتم لخلل ظهر لكم-

قال البغوي قال الحسن تواطأ على ذلك اثنا عشر حبرا من يهود خيبر و قرى عرينة- و كذا اخرج ابن جرير عن السدى-

و قال مجاهد و مقاتل و الكلبي هذا فى شأن القبلة لما صرفت الى الكعبة شق ذلك على اليهود و قال كعب بن الأشرف و أصحابه أمنوا بامر الكعبة و صلوا إليها أول النهار ثم اكفروا و ارجعوا الى قبلتكم اخر النهار

(١) فى الأصل محمد-.

٧٣

وَ لا تُؤْمِنُوا عطف على أمنوا بالّذى انزل يعنى لا تؤمنوا حقيقة الايمان بمواطاة القلب و لا تصدقوا لاحد إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ اى لاهل دينكم- او المعنى لا تظهروا ايمانكم وجه النهار الا لمن كان على دينكم قبل ذلك فان رجوعهم أرجى و أهم- و جاز ان يكون لا تؤمنوا بيانا لا كفروا و المعنى و اكفروا اخر النهار و لا تؤمنوا اخر النهار الا لاهل دينكم قُلْ يا محمد للكفار إِنَّ الْهُدى الذي اعطى المسلمين هُدَى اللّه لا تستطيعون ان تطفؤا نور اللّه بأفواهكم و اللّه متم نوره فلا يضر المؤمنين مكركم- او المعنى قل يا محمد لنفسك و للمؤمنين انّ الهدى هدى اللّه لا يضركم كيد كائد أَنْ يُؤْتى قرا ابن كثير بالمد «١» على الاستفهام و الباقون بلا مد على الخبر- متعلق بمحذوف يعنى مكرتم ذلك المكر حسدا او امكرتم لان يؤتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ من الكتاب و الحكمة أَوْ يُحاجُّوكُمْ عطف على يؤتى منصوب بان و الضمير المرفوع عائد الى أحد و هو و ان كان مفردا لفظا لكنه جمع معنى بمعونة المقام لانه فى حيز النفي او الاستفهام يعنى او مكرتم لان يغلبكم أحد عِنْدَ رَبِّكُمْ يوم القيامة لكونهم على الهدى دونكم يعنى ان الحسد حملكم على ذلك المكر و لا ينبغى ذلك المكر و الحسد و جاز ان يكون ان يؤتى متعلقا بلا تؤمنوا و على هذا ثلاث تأويلات أحدها ان يكون اللام فى لمن تبع دينكم زائدة كما فى قوله تعالى ردف لكم اى ردفكم و المستثنى منه أحد فاعل يؤتى و المستثنى مقدم عليه و او فى او يحاجّوكم بمعنى الواو لكونه فى حيز النفي نحو لا تطع منهم اثما او كفورا و المعنى لا تصدقوا و لا تقرّوا بان يؤتى أحد مثل ما أوتيتم الا من تبع دينكم و لا تصدقوا بان يغلبكم أحد عند ريكم- ثانيها ان يكون اللام للانتفاع او زائدة و الاستثناء مفرغ واحد فى قوله تعالى ان يؤتى أحد مظهر موضع المضمر ابرز لحذف المرجع من الصدر و المعنى لا تصدقوا أحدا او لا تقروا

(١) اى بالهمزتين محققة و مسهلة و الباقون بهمزة واحدة محققة- ابو محمد عفا اللّه عنه.

لاحد اى فى حق أحد الا لمن تبع دينكم يعنى الا من تبع دينكم او الا فى حق من تبع دينكم بان يؤتى ذلك الأحد مثل ما أوتيتم او بان يغلبكم أحد عند ربكم لانكم أصح دينا هذا على قراءة الجمهور و اما على قراءة ابن كثير فمعناه أ تصدقون و تقرون بان يؤتى أحد مثل ما أوتيتم او يحاجوكم عند ربكم لا ينبغى ذلك الإقرار و التصديق منكم و هذا معنى قول مجاهد و ثالثها ان تكون لا تؤمنوا بمعنى لا تظهروا و اللام صلة و المعنى لا تظهروا ايمانكم بان يؤتى أحد مثل ما أوتيتم او يحاجوكم عند ربكم الا لمن تبع دينكم يعنى إلا خفية لاشياعكم و لا تفشوه الى المسلمين كيلا يزيد ثباتهم و لا الى المشركين كيلا يدعوهم الى الإسلام- و معناه على قراءة ابن كثير ا تظهرون عند غيركم ان يؤتى أحد مثل ما أوتيتم او يحاجوكم عند ربكم لا ينبغى ذلك الإظهار- و على هذه التأويلات جملة قل انّ الهدى هدى اللّه معترضة لبيان ان كيدهم لا يفيدهم و لا يضر بالمسلمين و على قراءة الجمهور جاز ان يكون ان يؤتى خبر انّ على ان هدى اللّه بدل عن الهدى و او فى او يحاجّوكم بمعنى حتى و المعنى ان هدى اللّه الإيتاء لمن شاء من أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب حتى يغلبوكم يوم القيامة عند ربكم- و قيل معناه قالت اليهود لسفلتهم لا تؤمنوا الا لمن تبع دينكم ان يؤتى اى لئلا يؤتى كما فى قوله تعالى يبيّن اللّه لكم ان تضلّوا اى لئلا تضلوا يعنى لا تصدقوهم لئلا يعلموا مثل ما علمتم فيكون لكم الفضل عليهم بالعلم و لئلا يحاجوكم عند ربكم فيقولوا عرفتم ان ديننا حق و لم تؤمنوا و هذا معنى قول ابن جريح و هو ابعد التأويلات قُلْ يا محمد لليهود إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّه لا بايديكم يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ و قد اتى محمدا صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه وَ اللّه واسِعٌ الفضل عَلِيمٌ (٧٣) بمن هو اهل له.

٧٤

يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ و نبوته مَنْ يَشاءُ وَ اللّه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤).

٧٥

وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعنى عبد اللّه بن سلام و أشباهه مؤمنى اهل الكتاب مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ اى مال كثير يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ لاجل ديانتهم و ايمانهم

قال البغوي قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضى اللّه عنهما ان رجلا أودع عبد اللّه بن سلام الفا و مائتى اوقية من ذهب فاداه وَ مِنْهُمْ يعنى كعب بن الأشرف و أشباهه من كفار اليهود كذا قال مقاتل مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ

قال البغوي استودع رجل من قريش فخاص بن عازورا من اليهود دينارا فخانه قرا ابو عمرو و ابو جعفر بخلاف عنه- او محمد و ابو بكر و حمزة يؤدّه و لا يؤدّه إليك و نؤته منها فى الموضعين و فى النساء نولّه و نصله و فى الشورى نؤته منها بإسكان الهاء فى السبعة لان الهاء وضعت موضع الجزم و هو الياء الذاهب

و قرا قالون و ابو جعفر و يعقوب باختلاس كسرة الهاء اعتبروا الياء الساكنة المحذوفة موجودة و الهاء بعد الحرف الساكن يختلس حركته و كذا عن هشام بخلاف عنه- ابو محمد فى الباب كله

و قرا الباقون بإشباع الكسرة لان الأصل فى الهاء بعد المتحرك الإشباع و الوقف للجميع بالإسكان إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً قال ابن عباس قائما اى ملحا يقال يقوم عليه يعنى يطالبه بالالحاح و التقاضي و الترافع الى الحكام ذلِكَ اى عدم الأداء و الاستحلال بِأَنَّهُمْ اى بسبب ان اليهود الكفار قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ اى فى شأن من ليس باهل الكتاب سَبِيلٌ اى سبيل مؤاخذة عند اللّه قالوا اموال العرب حلال لنا لانهم ليسوا على ديننا و لا حرمة لهم فى كتابنا و كانوا يستحلون ظلم من خالفهم فى الدين وَ يَقُولُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ ان اللّه أحل لهم ذلك وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) انهم يكذبون.

٧٦

بَلى يعنى ليس كما قالوا بل عليهم سبيل فى المؤمنين او عصمة المال بالايمان او عقد الذمة- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا اللّه و ان محمدا رسول اللّه و يقيموا الصلاة و يؤتوا الزكوة فاذا فعلوا ذلك عصموا منى دماؤهم و أموالهم الا بحق الإسلام و حسابهم على اللّه متفق عليه من حديث ابى موسى و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فان هم أبوا يعنى ان كان الكفار أبوا عن الإسلام فسل هم الجزية فان هم أجابوك فاقبل منهم و كف عنهم متفق عليه فى حديث طويل من حديث سليمان بن بريد عن أبيه مَنْ شرطية او موصولة أَوْفى بِعَهْدِهِ الضمير المجرور راجع الى من يعنى بعهده الذي عاهد رب المال بأداء الامانة- او راجع الى اللّه تعالى اى عهد اللّه عهد اليه فى التورية من الايمان بجميع الأنبياء و بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و القران و أداء الامانة وَ اتَّقى الكفر و الخيانة فَإِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٢) وضع المظهر موضع الضمير اشعارا بان التقوى ملاك الأمر كله و هو يعم الوفاء بالعهد و غيره من أداء الواجبات و الاجتناب عن المناهي و لذلك العموم ناب مناب الراجع الى من اوفى- و الجملة مستأنفة مقررة لجملة سدت بلى مسدها عن عبد اللّه بن عمرو ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال اربع من كن فيه كان منافقا خالصا و من كان فيه خصلة منها كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان و إذا حدث كذب و إذا عاهد غدر و إذا خاصم فجر- متفق عليه و فى الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اية المنافق ثلاث زاد مسلم و ان صام و صلى و زعم انه مسلم ثم اتفقا إذا حدث كذب و إذا وعدا خلف و إذ اؤتمن خان- و اللّه اعلم- روى الشيخان فى الصحيحين عن ابى وائل عن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقى اللّه و هو عليه غضبان فانزل اللّه تعالى تصديق ذلك.

٧٧

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا الاية- فدخل الأشعث بن قيس فقال ما حدثكم ابو عبد الرحمن فقالوا كذا و كذا فقال فىّ نزلت كانت لى بير فى ارض ابن عم لى فاتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال بينتك او يمينه قلت إذا يحلف عليها يا رسول اللّه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من حلف على يمين صبر و هو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقى اللّه يوم القيامة و هو عليه غضبان كذا روى البغوي بسنده من طريق البخاري و فى رواية ابى داود و ابن ماجة و غيرهما عن الأشعث بن قيس قال كان بينى و بين رجل من اليهود ارض فجحدنى فقدّمته الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال أ لك بينة قلت لا قال لليهودى احلف قلت يا رسول اللّه إذا يحلف و يذهب بما لى فانزل اللّه تعالى هذه الاية و روى البخاري عن عبد اللّه بن ابى اوفى ان رجلا اقام سلعة و هو فى السوق فحلف باللّه لقد اعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت هذه الاية قال الحافظ ابن حجر فى شرح البخاري لا منافاة بين الحديثين بل يحمل ان النزول كان بالسببين جميعا و المعنى ان الذين يشترون بعهد اللّه فى أداء الامانة و ايمانهم الكاذبة ثمنا قليلا يعنى شيئا من متاع الدنيا قليلا كان او كثيرا فانها بالنسبة الى نعماء الجنة قليل جدا-

و اخرج ابن جرير عن عكرمة ان الاية نزلت فى حيى بن اخطب و كعب بن الأشرف و غيرهما من اليهود الذين يكتمون ما انزل اللّه فى التورية فى شأن محمد صلى اللّه عليه و سلم و بدلوه و كتبوه بايديهم غيره و حلفوا انه من عند اللّه لئلا يفوتهم المأكل و الرشى التي كانت لهم من اتباعهم- قال ابن حجر و الاية محتملة لكن العمدة فى ذلك ما ثبت فى الصحيح-

قلت سياق الكلام يقتضى صحة ما روى ابن جرير عن عكرمة و الحديثين المذكورين فى الصحيحين لا ينافيان رواية ابن جرير كما لا يتنافيان لجواز كون اسباب النزول كلها جميعا و اللّه اعلم و عن علقمة بن وائل عن أبيه قال جاء رجل من حضرموت و رجل من كندة الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال الحضرمي يا رسول اللّه ان هذا غلبنى على ارض لى فقال الكندي هى ارضى و فى يدى ليس له فيها حق فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم للحضرمى أ لك بينة قال لا قال فلك يمينه قال يا رسول اللّه ان الرجل فاجر لا يبالى على ما حلف عليه فليس يتورع من شى ء قال ليس لك منه الا ذلك فانطلق ليحلف فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لما أدبر لئن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين اللّه و هو عنه معرض- رواه مسلم و فى رواية هو امرؤ القيس بن عابس الكندي و خصمه ربيعة بن عبدان- و فى رواية لابى داود انه صلى اللّه عليه و سلم قال لا يقطع أحد مالا بيمين الا لقى اللّه و هو اجزم فقال الكندي هى ارضه و

قال البغوي روى انه لما هم الكندي ان يحلف نزلت هذه الاية فامتنع امرا القيس ان يحلف و أقر لخصمه و دفعها اليه أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ اى لا نصيب لهم فِي نعيم الْآخِرَةِ عن ابى امامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب اللّه له النار و حرم عليه الجنة فقال له رجل و ان كان شيئا يسيرا يا رسول اللّه قال و ان كان قضيبا من أراك رواه مسلم- و فى رواية قالها ثلاثا وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللّه وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ قيل معناه لا يكلمهم اللّه كلاما يسرهم و لا ينظر إليهم نظر رحمة و الصحيح ان هذا كناية عن الغضب و الاعراض فكانّ قوله صلى اللّه عليه و سلم فى حديث عبد اللّه و الأشعث لقى اللّه و هو عليه غضبان و فى حديث وائل ليلقين اللّه و هو عنه معرض تفسير لهذين الجملتين وَ لا يُزَكِّيهِمْ اى لا يثنى عليهم و الظاهر ان معناه لا يغفر اللّه ذنبه لانه من حقوق العباد و فيه القصاص لا محالة- عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الدواوين ثلاثة فديوان لا يعبا اللّه به شيئا و ديوان لا يترك اللّه منه شيئا و ديوان لا يغفر اللّه اما الديوان الذي لا يغفر اللّه فهو الشرك و اما الديوان الذي لا يعبا اللّه به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه و بين ربه من صوم تركه او صلوة تركها و اما الديوان الذي لا يترك منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا القصاص لا محالة رواه الحاكم و احمد و روى الطبراني مثله من حديث سلمان و ابى هريرة و البزار مثله من حديث انس- و ان كان الاية فى اليهود فى كتمان نعت النبي صلى اللّه عليه و سلم فعدم المغفرة لاجل كفرهم وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ

(٧٧) على ما فعلوه عن ابى ذر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ثلاثة لا يكلّمهم اللّه و لا ينظر إليهم يوم القيمة و لا يزكّيهم و لهم عذاب اليم قال فقراها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثلاثا فقال أبو ذر خابوا و خسروا منهم يا رسول اللّه قال المسبل إزاره و المنان الذي لا يعطى شيئا الا منة و المنفق سلعته بالحلف الكاذب رواه مسلم و احمد و ابو داود و الترمذي و النسائي- و عن ابى هريرة عنه صلى اللّه عليه و سلم قال ثلاثة لا يكلمهم اللّه يوم القيامة و لا ينظر إليهم و لا يزكيهم و لهم عذاب اليم رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل و رجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له باللّه لاخذه بكذا و كذا فصدّقه و هو على غير ذلك و رجل بايع اماما لا يبايعه الا للدنيا فان أعطاه منها و فى و ان لم يعط منها لم يف- متفق عليه و رواه احمد و الاربعة و فى رواية متفق عليها عنه مرفوعا ثلاثة لا يكلمهم اللّه يوم القيامة و لا ينظر إليهم رجل حلف على سلعة لقد اعطى بها اكثر مما اعطى و هو كاذب و رجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم و رجل منع فضل مائة فيقول اللّه اليوم أمنعك فضلى كما منعت فضل ما لم يعمل يداك و عن سلمان نحوه بلفظ شيخ زان و عائل مستكبر و رجل جعل اللّه بضاعته لا يشترى الا بيمينه و لا يبيع الا بيمينه رواه الطبراني و البيهقي و روى الطبراني عن عصمة بن مالك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نحوه.

٧٨

وَ إِنَّ مِنْهُمْ اى من اهل الكتاب لَفَرِيقاً طائفة و هم كعب بن الأشرف و مالك بن الضيف و حيى بن اخطب و ابو ياسر و سفنة بن عمرو الشاعر يَلْوُونَ اى يصرفون أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ اى متلبسا بقراءة الكتاب عن المنزل الى ما حرفوه لِتَحْسَبُوهُ اى لتظنوا ايها المؤمنون ذلك المحرف المفهوم من قوله تعالى يلون كائنا مِنَ الْكِتابِ المنزل وَ ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ المنزل وَ يَقُولُونَ اى اليهود تصريحا هُوَ اى ذلك المحرف كائن مِنْ عِنْدِ اللّه فيه تشنيع عليهم وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّه تأكيد لما سبق يعنى ما هو من الكتاب وَ يَقُولُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) انه كذب تأكيد بعد تأكيد و تسجيل عليهم بتعمد الكذب على اللّه قال الضحاك عن ابن عباس ان الاية نزلت فى اليهود و النصارى جميعا و ذلك انهم حرفوا التورية و الإنجيل و الحقوا بكتاب اللّه ما ليس منه- اخرج إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و البيهقي فى الدلائل عن ابن عباس قال قال ابو رافع القرظي (حين اجتمعت أحبار اليهود و النصارى من اهل نجران عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و دعاهم الى الإسلام) أ تريد يا محمد ان نعبدك كما تعبد النصارى عيسى قال معاذ اللّه ان امر بعبادة غير اللّه ما لذلك بعثني اللّه و لا بذلك أمرني فانزل اللّه تعالى ما كان لبشر الى قوله مسلمون-

و اخرج عبد فى تفسيره عن الحسن قال بلغني ان رجلا قال يا رسول اللّه نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض ا فلا نسجد لك قال لا و لكن أكرموا نبيكم و اعرفوا الحق لاهله فانه لا ينبغى ان يسجد لاحد من دون اللّه فانزل اللّه تعالى هذه الاية- و قال مقاتل و الضحاك كان نصارى نجران يقولون ان عيسى أمرهم ان يتخذوه ربا فانزل اللّه تعالى.

٧٩

ما كانَ جائز لِبَشَرٍ يعنى لمحمد و لا لعيسى صلى اللّه عليهما- و البشر اسم جنس كالانسان ذكرا كان او أنثى واحدا كان او جمعا و قد يثنى كما فى قوله تعالى أ نؤمن لبشرين مثلنا و يجمع ابشارا كذا فى القاموس و

قال البغوي البشر جميع ابن آدم جمع لا واحد له من لفظه كالقوم و الجيش و يوضع موضع الواحد أَنْ يُؤْتِيَهُ اللّه الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ يعنى الحكمة و السنة او إمضاء الحكم وَ النُّبُوَّةَ «١» ثُمَّ يَقُولَ عطف على يؤتى منصوب بان لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللّه اى من دون توحيد اللّه- و فيه اشارة الى ان عبادة غير اللّه تنافى عبادة اللّه و عبادته منحصر فى توحيده- و ان فى محل الرفع على انه اسم كان يعنى ما كان إيتاء الكتاب و النبوة و بعد ذلك القول بعبادة غير اللّه جائزا لبشر لمنافاة بين النبوة التي هى دعاء الناس الى الايمان باللّه وحده و هذا القول الذي هو دعاء الى الشرك وَ لكِنْ عطف على يقول بتقدير القول يعنى و لكن يقول كُونُوا رَبَّانِيِّينَ و جاز ان يكون و لكن كونوا معطوفا على مفهوم ما سبق فانه يفهم منه لا تكونوا قائلين للناس كونوا عبادا لى و لكن كونوا ربانيين مبلغين ما أتاكم ربكم- قال على و ابن عباس فى تفسير قوله تعالى كونوا ربانيين كونوا فقهاء علماء و قال قتادة حكماء علماء و قال سعيد بن جبير عن ابن عباس فقهاء معلمين و قال عطاء علماء حلماء نصحا للّه فى خلقه و عن سعيد بن جبير الذي يعمل بعلمه و قال ابو عبيد سمعت رجلا عالما يقول الرباني العالم بالحلال و الحرام و الأمر و النهى العارف بانباء الامة ما كان و ما يكون و قيل الربانيون فوق الأحبار و الأحبار العلماء و الربانيون الذين

(١) ترك فى الأصل و النبوة لعله من الناسخ- ابو محمد عفا اللّه عنه.

جمعوا بين العلم و البصارة بين الناس و حاصل الأقوال الرباني الكامل المكمل فى العلم و العمل و الإخلاص و مراتب القرب سمى بذلك لانهم يربون العلم و يقومون به و يربون المتعلمين لصغار العلوم قبل كبارها و كل من قام بإصلاح شى ء و إتمامه فقد ربه يربه و عن على انه يرب علمه بعمله واحده ربان كما يقال ريان و عطشان ثم ضمت اليه ياء النسبة- و قيل هو منسوب الى الرب بزيادة الالف و النون للمبالغة كاللحيانى لعظيم اللحية و الرقبانى لعظيم الرقبة و طويلهما إذ لو أريد النسبة الى اللحية و الرقبة بدون المبالغة لقيل لحيى و رقبى- قال محمد بن الحنفية يوم مات ابن عباس مات ربانى هذه الامة بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ قرا الكوفيون و ابن عامر بالتشديد من التعليم اى يعلمون الناس و الباقون بالتخفيف من علم وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) اى تديمون على قراءة الكتاب و يحفظونه و جاز ان يكون معناه تدرسونه على الناس فيكون بمعنى تعلّمون من التعليم- قال فى الصحاح درس الدار معناه بقي اثرها و درس الكتب و العلم اى تناول اثره بالحفظ- و لما كان تناول ذلك بمداومة القراءة عبر عن ادامة القراءة بالدرس قال اللّه تعالى و درسوا ما فيه و بما كنتم تدرسون يعنى تديمون القراءة و تحفظون و قوله بما كنتم متعلق بقوله كونوا و ما مصدرية و المعنى كونوا ربانيين بسبب كونكم عالمين الكتاب و معلميه الناس دائمين على قراءته و حفظه فان فائدة العلم العمل به و إصلاح نفسه و فائدة التعليم إصلاح غيره و ذلك فرع إصلاح نفسه لئلا يخاطب بقوله تعالى لم تقولون ما لا تفعلون و قوله تعالى أ تأمرون النّاس بالبرّ و تنسون أنفسكم.

٨٠

وَ لا يَأْمُرَكُمْ قرا نافع و ابو جعفر- ابو محمد و ابن كثير و ابو عمرو و الكسائي بالرفع على الاستيناف يعنى و لا يأمركم اللّه و جاز ان يكون حالا من فاعل يقول يعنى يأمركم بعبادة نفسه و الحال انه لا يأمركم بل ينهى من أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً

و قرا ابن عامر و يعقوب و خلف- ابو محمد و عاصم و حمزة لا يأمركم بالنصب عطفا على قوله ثم يقول و يكون لا مزيدة لتأكيد معنى النفي فى قوله ما كان لبشر ان يؤتيه اللّه الكتب و الحكم و النّبوّة ثم يأمر الناس بعبادة نفسه و يأمر ان يتخذ الملائكة و النبيين أربابا كما فعل قريش و الصابئون حيث قالوا الملائكة بنات اللّه و اليهود و النصارى حيث قالوا عزير ابن اللّه و المسيح ابن اللّه و جاز ان يكون لا غير زائدة و المعنى ليس له ان يأمر بعبادته و لا يأمر بل ينهى باتخاذ اكفائه من الأنبياء و الملائكة أربابا أَ يَأْمُرُكُمْ استفهام على التعجب و الإنكار بِالْكُفْرِ يعنى بعبادة غير اللّه تعالى بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) باللّه تعالى- ان كان الخطاب مع المسلمين المستأذنين السجود للنبى صلى اللّه عليه و سلم كما رواه الحسن فلا غبار عليه و كذا ان كان رد القول النصارى ان عيسى أمرهم ان يتخذوه ربا لانهم كانوا مسلمين فى زمن عيسى عليه السلام و اما على تقدير كونه خطابا لليهود و النصارى القائلين أ تريد يا محمد ان نعبدك فتأويله ان هذا الخطاب على سبيل الفرض و التقدير يعنى على تقدير ان تسلموا و تنقاد و الأمر محمد صلى اللّه عليه و سلم أ يأمركم حينئذ بالكفر بعد الإسلام-.

٨١

وَ إِذْ أَخَذَ اللّه مِيثاقَ النَّبِيِّينَ أراد ان اللّه أخذ الميثاق من كل نبى ان يؤمن بمن بعده و يأمر أمته ان يتبعوه و هذا معنى قول ابن عباس و قال على بن ابى طالب لم يبعث اللّه نبيّا آدم و من بعده الا أخذ عليه العهد فى امر محمد صلى اللّه عليه و سلم و أخذ العهد على قومه لتؤمنن به و لئن بعث و هم احياء لينصرنه- و قيل معناه أخذ اللّه ميثاق اهل الكتاب ففى الكلام اما حذف مضاف تقديره أخذ اللّه ميثاق أولاد النبيّين و هم بنو إسرائيل اهل الكتاب و اما سماهم نبيين تهكما لانهم كانوا يقولون نحن اولى بالنبوة من محمد لانا اهل الكتاب و النبيون كانوا منا- و اما اضافة الميثاق الى النبيين اضافة الى الفاعل و المعنى إذ أخذ اللّه الميثاق الذي وثقه النبيون على أممهم و يؤيده قراءة ابن مسعود و ابى بن كعب و إذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتب و الصحيح هو المعنى الاول المنطوق من القراءة المتواترة فاخذ اللّه الميثاق من موسى ان يؤمن بعيسى و يأمر قومه ان يؤمنوا به و من عيسى ان يؤمن بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و يأمر قومه ان يؤمنوا به و من ثم قال عيسى يبنى اسراءيل انّى رسول اللّه إليكم مصدّقا لمّا بين يدىّ من التّورية و مبشّرا برسول يأتي من بعدي اسمه احمد و القراءة المتواترة لا ينافى قراءة ابن مسعود لان العهد من المتبوع عهد من التابع لَما آتَيْتُكُمْ قرا حمزة بكسر اللام على انها جارة و ما مصدرية اى لاجل ايتائى إياكم بعض الكتاب ثم مجيى ء رسول مصدق له أخذ اللّه الميثاق لتؤمنن به و لتنصرنه- او موصولة يعنى اخذه للذى اتيتكموه و جاءكم رسول مصدق له و الباقون بفتح اللام توطية للقسم لان أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف و ما حينئذ يحتمل ان يكون شرطية و لتؤمنن به ساد مساد جواب القسم و جزاء الشرط جميعا و المعنى أخذ اللّه ميثاق النبيين و استحلفهم لئن اتيتكم من كتاب ثم جاءكم رسول مصدق له لتومنن به- و يحتمل ان يكون موصولة مبتدا بمعنى الذي و خبره لتؤمنن به يعنى للذى اتيتكم من كتاب ثم جاءكم رسول مصدق له لتؤمنن به قرا نافع و ابو جعفر- ابو محمد آتيناكم على التعظيم كما فى قوله تعالى و اتينا داود زبورا و الآخرون بالإفراد مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ اى سنة او فقه فى الدين ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما للكتاب الذي جاء مَعَكُمْ جملة ثم جاء عطف على الصلة و العائد فيه الى الموصول مظهر وضع موضع المضمر و هو لما معكم تقديره مصدقا له- قيل المراد بالرسول محمد صلى اللّه عليه و سلم خاصة لكونه مبعوثا الى كافة الأنام و هو المستفاد من قول ابن عمرو ما ذكر من قول على- و الصحيح عندى ان اللفظ عام و لا دليل على التخصيص و لا شك ان الايمان بجميع الأنبياء و القول بلا نفرّق بين أحد من رسله واجب على جميع الأمم السابقة و اللاحقه و قد قال اللّه تعالى شرع لكم من الدّين ما وصّى به نوحا و الّذى أوحينا إليك و ما وصّينا به ابراهيم و موسى و عيسى ان اقيموا الدّين و لا تتفرّقوا فيه و قول على و ابن عباس رضى اللّه عنهما بتخصيص ذكر النبي صلى اللّه عليه و سلم لالزام اهل الكتاب المعاندين فان الكلام معهم انما كان فى امر محمد صلى اللّه عليه و سلم لا غير و ليس المقصود من قولهما نفى الحكم عما عداه و جاز ان يكون تخصيص العهد لمحمد صلى اللّه عليه و سلم لاظهار فضله و فى قوله تعالى مصدّقا لما معكم اشارة الى ان تكذيبه يستلزم تكذيب ما معكم لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ اى بالرسول وَ لَتَنْصُرُنَّهُ بانفسكم ان أدركتموه او بامركم بالنصر لمن أدركه من اتباعكم ان لم تدركوه-

قال البغوي حين استخرج اللّه الذرية من صلب آدم و الأنبياء فيهم كالمصابيح و السرج أخذ عليهم الميثاق فى امر محمد صلى اللّه عليه و سلم قالَ استيناف بيان لاخذ الميثاق كانه قيل كيف أخذ اللّه الميثاق- او ناصب لاذ اى قال إذ أخذ اللّه الميثاق و على الاول ناصبه إذ كرع أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي اى عهدى استفهام تقرير قالُوا اى الأنبياء أو هم و الأمم جميعا يوم الميثاق

أَقْرَرْنا قالَ اللّه للرسل فَاشْهَدُوا على أنفسكم و على اتباعكم بالإقرار يوم القيامة وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) عليكم و عليهم و قال سعيد بن المسيب قال اللّه تعالى لملائكته فاشهدوا عليهم كناية عن غير مذكور

٨٢

. فَمَنْ تَوَلَّى من اتباع الرسل بَعْدَ ذلِكَ الإقرار و هم اليهود و النصارى فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٤) الخارجون من الايمان الى الكفر هذا صريح فى ان الميثاق كان على النبيين و الأمم أجمعين و اكتفى بذكر المتبوعين عن الاتباع-.

٨٣

أَ فَغَيْرَ دِينِ اللّه يَبْغُونَ معطوف على فاولئك هم الفاسقون و الهمزة توسطت للانكار او على محذوف تقديره أ يفسقون فغير دين اللّه يبغون- او تقديره أ يتولون فغير دين اللّه يبغون و تقديم المفعول للتخصيص و الإنكار للمخصص تقديره أ تخصصون غير دين اللّه بالطلب و فيه اشارة الى ان طلب دين اللّه لا يجامع طلب غير دينه- قرا ابو عمرو و يعقوب و حفص عن عاصم يبغون بالياء على الغيبة نظرا الى قوله فاولئك هم الفاسقون و الجمهور بالتاء على الخطاب نظرا الى قوله اتيتكم و قيل تقديره قل لهم أ فغير دين اللّه تبغون

قال البغوي ادعى كل من اليهود و النصارى انه على دين ابراهيم و اختصموا الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال عليه السلام كلا الفريقين برى ء من دين ابراهيم فغضبوا و قالوا لا نرضى بقضائك و لا نأخذ بدينك فانزل اللّه تعالى أ فغير دين اللّه يبغون وَ لَهُ اى للّه أَسْلَمَ اى خضع «١» و انقاد- و الجملة حال من اللّه الواقع فى حيز المفعول مَنْ فِي السَّماواتِ اى الملائكة وَ الْأَرْضِ اى الجن و الانس طَوْعاً اى طائعين باختيارهم و هم الملائكة و المؤمنون من الثقلين انقادوا باختيارهم فيما أمروا به من الأوامر التكليفية و الافعال الاختيارية و رضوا بقضاء اللّه سبحانه و أحبوا ما اجرى عليهم محبوبهم من الأوامر التكوينية وَ كَرْهاً اى كارهين «٢» بالسيف او معاينة

(١) اخرج الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم فى قوله تعالى له اسلم من فى السّموت و الأرض طوعا قال اما من فى السموات فالملائكة و اما من فى الأرض فمن ولد على الإسلام و اما كرها فمن اتى به من سبايا الأمم فى السلاسل و الاغلال يقادون الى الجنة و هم كارهون- منه رحمه اللّه.

(٢) قيل هذا يوم الميثاق حين قال الست بربّكم قالوا بلى فقاله بعضهم طوعا و بعضهم كرها و قال قتادة المؤمن اسلم طوعا فنفعه و الكافر اسلم كرها فى وقت اليأس فلم ينفعه- و قال الشعبي هو استعاذتهم باللّه عن اضطرارهم قال اللّه تعالى فاذا ركبوا فى الفلك دعوا اللّه مخلصين له الدين- منه رح [.....].

ما يلجئ الى الإسلام كنتق الجبل و ادراك الغرق و الاشراف على الموت فى الأوامر التكليفية او مسخرين بلا اختيارهم فى الأوامر التكوينية وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قرا حفص و يعقوب بالياء للغيبة على ان الضمير راجع الى من و الجمهور بالتاء للخطاب على نسق تبغون و كذا قرا ابو عمرو مع انه قرا يبغون بالغيبة على طريقة الالتفات او لان الباغين هم المتولون و الراجعون جميع «١» الناس-.

(١) اخرج البيهقي فى الدعوات عن ابن عباس إذا استصعب دابة أحدكم او كان سموسا فليقرأ هذه الاية فى أذنيها أ فغير دين اللّه يبغون الاية- منه رحمه اللّه.

٨٤

قُلْ يا محمد آمَنَّا امر رسوله ان يتكلم عن نفسه على طريقة الملوك إجلالا له- أو أمره ان يخبر عن نفسه و عن متابعيه بالايمان و جاز ان يكون الخطاب لكل مخاطب منهم امر كل واحد ان يخبر عن نفسه و إخوانه المؤمنين باللّه وحده وَ ما أُنْزِلَ عَلَيْنا يعنى القران فان كان الكلام اخبارا عن جميع المؤمنين فنزوله عليهم بتوسط تبليغه النبي صلى اللّه عليه و سلم إياهم او يقال المنسوب الى واحد من الجمع قد ينسب إليهم و النزول قد يعدى بالى كما فى سورة البقرة لانه ينتهى الى الرسل و قد يعدى بعلى لانه من فوق وَ ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ يعنى الأنبياء من أولاد يعقوب من الكتب و الصحف وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى خصهما بالذكر بعد دخولهما فى الأسباط اما لمزيد فضلهما و اما لان المنازعة كانت غالبا مع اليهود و النصارى فلدقع توهم مخالفة موسى و عيسى خصهما بالذكر او المراد بما اوتى الوحى الخفي و بما انزل الوحى الجلى- او المراد بما اوتى من المعجزات و الفضائل وَ النَّبِيُّونَ كرر فى البقرة ما اوتى و لم يكرر هاهنا لتقدم ذكر الإيتاء حيث قال لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ عند رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بالتصديق و التكذيب وَ نَحْنُ لَهُ اى للّه مُسْلِمُونَ (٨٤) منقادون-.

٨٥

وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ غير التوحيد و الانقياد لحكم اللّه او المراد غير دين محمد صلى اللّه عليه و سلم الناسخ لجميع الأديان دِيناً تميز و جاز ان يكون مفعولا ليبتغ و غير الإسلام حالا منه مقدما عليه لتنكيره فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ لانه غيرما امر اللّه به و ارتضاه وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥) لانه معرض عن الإسلام و طالب لغيره فهو فاقد للنفع واقع فى الخسران بابطال الفطرة السليمة

قال البغوي نزلت هذه الاية و ما بعدها فى اثنى عشر رجلا ارتدوا عن الإسلام و خرجوا من المدينة و أتوا مكة كفارا منهم الحارث بن سويد الأنصاري.

٨٦

كَيْفَ يَهْدِي اللّه الى الجنة و الثواب استفهام للانكار يعنى لا يهدى اللّه و استبعاد لهم عن الهداية قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ كما فعل هؤلاء الرجال اثنى عشر وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ عطف على ما فى ايمانهم من معنى الفعل يعنى بعد ان أمنوا و شهدوا- و لك ان تجعل الفعل بمعنى المصدر كما فى قوله تسمع بالمعيدي خير من ان تراه يعنى بعد ايمانهم و شهادتهم و ان تقدر زمانا مضافا الى الفعل يعنى بعد ايمانهم و زمان شهدوا- و جاز ان يكون معطوفا على كفروا لان العطف بالواو لا يقتضى الترتيب- و جاز ان يكون الجملة حالا بإضمار قد- و فيه دليل على ان الإقرار باللسان خارج عن حقيقة الايمان وَ جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ اى الدلائل الواضحة كالقران و سائر المعجزات وَ اللّه لا يَهْدِي طريق الجنة الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) اى الكافرين.

٨٧

أُولئِكَ مبتدا جَزاؤُهُمْ بدل اشتمال من المبتدا او مبتدا ثان و ما بعده خبره و المجموع خبر المبتدا أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّه اى غضبه المستلزم لبعده من رحمته وَ الْمَلائِكَةِ اى الدعاء منهم بالبعد من الرحمة وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) المراد به المؤمنون منهم او المراد مؤمنهم و كافرهم أجمعين فان الكفار ايضا يلعنون منكرى الحق و ان كانوا لا يعرفون الحق بعينه او هم يلعن بعضهم بعضا يوم القيامة قال اللّه تعالى يكفر بعضكم ببعض و يلعن بعضكم بعضا.

٨٨

خالِدِينَ فِيها اى فى اللعنة او فى النار و ان لم يجر ذكرها لدلالة الكلام عليها حال من الضمير فى عليهم لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) اى يمهلون.

٨٩

إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الارتداد وَ أَصْلَحُوا عطف تفسيرى على تابوا اى صاروا صالحين اى مسلمين او أصلحوا ايمانهم و أنفسهم إذ أصلحوا ما أفسدوا فى الأرض فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ يقبل توبتهم و يغفر ما فرطوا فى حقوق اللّه تعالى رَحِيمٌ (٨٩) بهم يدخلهم الجنة- روى النسائي و ابن حيان و الحاكم عن ابن عباس قال كان رجل من الأنصار اسلم ثم ارتد ثم ندم فارسل الى قومه ان أرسلوا الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هل لى توبة فنزلت قوله تعالى كيف يهدى الى قوله فانّ اللّه غفور رحيم فارسل اليه قومه فاسلم-

و اخرج ابن المنذر فى مسنده و عبد الرزاق عن مجاهد قال جاء الحارث بن سويد فاسلم مع النبي صلى اللّه عليه و سلم ثم كفر فرجع الى قومه فانزل اللّه فيه القران كيف يهدى اللّه قوما كفروا الى قوله رحيم فحملها اليه رجل من قومه فقراها عليه فقال الحارث انك و اللّه ما علمت لصدوق و ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا صدق منك و ان اللّه لا صدق الثلاثة فرجع فاسلم فحسن إسلامه-.

٩٠

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قال قتادة و الحسن نزلت فى اليهود كفروا بعيسى عليه السلام و الإنجيل بعد ايمانهم بموسى و التورية ثمّ ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و القران- و قال ابو العالية نزلت فى اليهود و النصارى كفروا بمحمد صلى اللّه عليه و سلم لما رواه بعد ايمانهم بنعته و صفته فى كتبهم ثمّ ازدادوا كفرا اى ذنوبا فى حال كفرهم-

و قال مجاهد نزلت فى الكفار أجمعين أشركوا بعد إقرارهم بان اللّه تعالى خالقهم ثمّ ازدادوا كفرا اى أقاموا على كفرهم حتى هلكوا عليه و قال الحسن كلما نزلت اية كفروا به فازدادوا كفرا- و قال الكلبي نزلت فى اصحاب الحارث بن سويد لما رجع الحارث الى الإسلام اقام بقيتهم على الكفر بمكة- و قال بعض الأفاضل المراد بالّذين كفروا ثمّ ازدادوا كفرا المنافقون فان كفرهم زائد على كفر المجاهدين بالكفر لانهم احتملوا مشقة إخفاء الكفر و مشقة الصلاة و الصوم مع كمال كراهتهم و هذا نهاية محبة الكفر لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ ان كان المراد بالّذين كفروا ما قالوا صاحب الأقوال المتقدمة فمعناه لن تقبل توبتهم من الذنوب ما داموا على الكفر لكن توبتهم من الكفر مقبولة ما لم يغر غرفانه لما افتتح رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مكة فمن دخل من اصحاب الحارث بن سويد فى الإسلام قبلت توبته و ان كان المراد به المنافقون على ما قال بعض الأفاضل فمعناه لن تقبل توبتهم باللسان مع إصرارهم على الكفر بالجنان وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) عن سبيل الحق.

٩١

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ لم يتوبوا من الكفر حتى ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ يوم القيامة- ادخل الفاء فى خبر ان شبه الذين بالشرط و إيذانا بكون الموت على الكفر سببا لعدم القبول مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ اى قدر ما يملؤها ذَهَباً منصوب على التميز يعنى لن يقبل منه مل ء الأرض ذهبا فرضنا انه تصدق به فى الدنيا و عدم قبول ما دونها يعلم منه بالطريق الاولى فان الايمان شرط لقبول الصدقات و العبادات بل العبادة لا يكون عبادة الا بالنية المترتبة على الايمان و الإخلاص وَ لَوِ افْتَدى بِهِ اى يملا الأرض ذهبا فى الاخرة فرضا لا يقبل منه ايضا و جاز ان يكون معناه لن يقبل من أحدهم مل ء الأرض ذهبا يفتدى به من عذاب يوم القيامة و لو افتدى بمثله معه كقوله تعالى و لو انّ للّذين ظلموا ما فى الأرض جميعا و مثله معه- و المثل يحذف و يراد كثير الان المثلين فى حكم شى ء واحد- و قيل الواو فى و لو افتدى به زائدة مقحمة و المعنى لا يقبل منه مل ء الأرض ذهبا لو افتدى به و كون لو هاهنا للوصل لا يستقيم لانه يقتضى كون نقيض الشرط اولى بالجزاء فيكون تقديره لن يقبل من أحدهم مل ء الأرض لو لم يفتد به و لو افتدى به كما فى قوله تعالى يكاد زيتها يضى ء و لو لم تمسسه نار يعنى يضى ء لو مسه النار و لو لم تمسسه و قد يوجه بان المراد من قوله لا يقبل من أحدهم مل ء الأرض ذهبا لا يقبل منه فدية أصلا لان غاية ان يفتدى مل ء الأرض ذهبا و ذلك لا يقبل منه فكيف ما هو اقل منه فالمعنى لا يقبل منه فدية أصلا لو لم يفتد بملا الأرض بل باقل منه و لو افتدى به أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مبالغة فى التحذير و اقناط لان من لا يقبل منه الفداء قلّما يعفى تكرما وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١) فى دفع العذاب و من مزيدة للاستغراق عن انس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال يقول اللّه تعالى لاهون اهل النار عذابا يوم القيامة لو ان لك ما فى الأرض من شى ء أ كنت تفتدى به فيقول نعم فيقول أردت منك أهون من هذا و أنت فى صلب آدم ان لا تشرك بي شيئا فابيت الا ان تشرك بي- متفق عليه.

٩٢

لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ فى القاموس البر الصلة و الجنة و الخير و الاتساع فى الإحسان و الصدق و الطاعة-

قلت البر المضاف الى العبد الطاعة و الصدق و الاتساع فى الإحسان و ضده الفجور و العقوق و البر المضاف الى اللّه الرضاء و الرحمة و الجنة و ضده الغضب و العذاب فقال ابن مسعود و ابن عباس و مجاهد المراد هاهنا الجنة و قال مقاتل بن حبان التقوى و قيل الطاعة و قيل الخير و قال الحسن لن تكونوا أبرارا يعنى كثير الخير و المتسع فى الإحسان و الطاعة-

قال البيضاوي لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير او لن تنالوا بر اللّه الذي هو الرحمة و الرضاء و الجنة- فاللام على الاول للجنس و على الثاني للعهد- عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عليكم بالصدق فان الصدق يهدى الى البر و البر يهدى الى الجنة و ما يزال الرجل يصدق و يتحرى الصدق حتى يكتب عند اللّه صديقا و إياكم و الكذب فان الكذب يهدى الى الفجور و الفجور يهدى الى النار و ما يزال الرجل يكذب و يتحرى الكذب حتى يكتب عند اللّه كذابا رواه مسلم و احمد و الترمذي- و عن ابى بكر الصديق مرفوعا عليكم بالصدق فانه مع البر و هما فى الجنة و إياكم و الكذب فانه مع الفجور و هما فى النار الحديث رواه احمد و ابن ماجة و البخاري فى الأدب حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ٥ كلمة من للتبعيض و المراد بما تحبون اصناف المال كلها فان الناس يحبونها و يؤثرونها و يميل اليه القلوب فمن لم ينفق شيئا من الأموال حتى الزكوة المفروضة ما نال البر بل كان فاجرا- فبهذه الاية ثبت فرضية انفاق البعض من كل صنف من المال و ثبت انه من كان عنده مال طيب و مال خبيث لا يجوز له الانفاق من الخبيث بدلا من الطيب نظيره قوله تعالى يايّها الّذين أمنوا أنفقوا من طيّبت ما كسبتم و ممّا أخرجنا لكم من الأرض و لا تيمّموا الخبيث منه تنفقون و لستم بآخذيه الّا ان تغمضوا فيه و القدر القليل جدا لا يجزى عن الواجب اجماعا و لان عنوان الاحبية لا يقتضى ذلك- فالاية مجملة فى مقدار الواجب من كل مال و التحق الأحاديث الواردة فى مقادير الزكوة بيانا لها بقي الكلام فى ان الاية تدل على وجوب الزكوة فى كل مال ناميا كان او لا بالغا قدر النصاب او لا فاضلا عن الحاجة الاصلية او لا حال عليه الحول او لا لكن ثبت بالآيات و الأحاديث (مثل قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ- و قوله عليه الصلاة و السلام ليس فى العوامل و لا الحوامل و لا العلوفة صدقة- و قوله عليه الصلاة و السلام فى جواب من قال هل علىّ غيرها قال «١» لا الا ان تطوع و قوله عليه الصلاة

(١) فى الأصل لا بغير قال-.

و السلام لا صدقة الا عن ظهر غنى و غير ذلك-) انه لا زكوة الّا فى السوائم او النقدين او عروض التجارة إذا بلغت نصابا و حال عليه الحول و الا فى الزرع و الثمار و انعقد عليه الإجماع- فقلنا ان هذه الاية مخصوصة بالبعض- فالمراد بالآية الزكوة كذا روى الضحاك عن ابن عباس

و قال مجاهد و الكلبي هذه الاية نسختها اية الزكوة و ليس هذا القول بشى ء لجواز حملها على الزكوة كما سمعت فكيف يجوز القول بالنسخ- و لو كان المراد هاهنا وجوب الانفاق من أحب الأموال كما قيل فذلك لا يقتضى عدم الوجوب فى غير ذلك الأموال و لا على وجوب مقدار سوى مقدار الزكوة فكيف يتصور النسخ على ان هذه الاية مدنية و آيات الزكوة مكيات و اللّه اعلم و فى تعبير الأموال بما تحبون اشارة الى ان كلما كان من الأموال أحب كان إنفاقه فى سبيل أفضل و بدلالة النص يثبت ان الواجب و ان كان انفاق البعض لكن من أنفق كل ما هو أحب اليه من الأموال كان ابر الناس و أطوع و اللّه اعلم- و قال الحسن كل انفاق يبتغى به المسلم وجه اللّه تعالى حتى التمرة ينال به هذا البر و مقتضى قول الحسن ان الانفاق هاهنا يشتمل الانفاق الواجب و المستحب غير ان نفى البر و اطلاق الفجور لا يجوز الا عند فقد الانفاق مطلقا حتى الزكوة المفروضة- و قال عطاء لن تنالوا البر يعنى شرف الدين و التقوى حتى تنتصدقوا و أنتم أصحاء أشحاء عن انس بن مالك قال كان ابو طلحة اكثر الأنصار بالمدينة مالا و كان أحب أمواله اليه بيرحاء و كانت مستقبلة المسجد و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يدخلها و يشرب من ماء فيها طيب قال انس فلما نزلت لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون قام ابو طلحة الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال يا رسول اللّه ان اللّه تعالى يقول فى كتابه لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون و ان أحب أموالي الىّ بيرحاء و انها صدقة للّه أرجو برها و ذخرها عند اللّه فضعها يا رسول اللّه حيث شئت فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بخ ذلك مال رابح و قد سمعت ما قلت فيها انى ارى ان تجعلها فى الأقربين فقال ابو طلحة افعل يا رسول اللّه فقسمها ابو طلحة فى أقاربه و بنى عمه- متفق عليه و جاء زيد بن الحارثة بفرس كان يحبه فقال هذا فى سبيل اللّه فحمل عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اسامة بن زيد فقال زيد انما أردت ان أتصدق به فقال صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه قد قبله منك أخرجه ابن المنذر عن محمد بن المنكدر مرسلا و فيه ان الفرس يقال له سبيل- و رواه ابن جرير عن عمر بن دينار مرسلا و عن ابى أيوب السجستاني معضلا

قال البغوي روى عن مجاهد قال كتب عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه الى ابى موسى الأشعري ان يبتاع له جارية من سبى جلولا يوم فتحت فدعا بها فاعجبته فقال ان اللّه عز و جل يقول لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فاعتقها عمر- و عن حمزة بن عبد اللّه بن عمر قال خطرت على قلب عبد اللّه بن عمر هذه الاية لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قال ابن عمر فذكرت ما أعطاني اللّه عز و جل فما كان اعجب حينئذ شى ء الىّ من فلانة هى حرة لوجه اللّه تعالى و قال لو لا انى أعود فى شى ء جعلته للّه لنكحتها هذه الأحاديث و الآثار تدل على ان الانفاق كما يطلق على التصدق يطلق على الاعادة و الاقراض و الاعتاق و نحو ذلك مما يبتغى به وجه اللّه ايضا و على ان الأفضل الانفاق على اقرب الأقارب وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ محبوب او غيره و من لبيان ما فَإِنَّ اللّه بِهِ عَلِيمٌ (٩٢) يعنى ان اللّه يجازيه على حسب العمل و النية ذكر السبب اعنى العلم موضع المسبب اعنى الجزاء او الثواب للدلالة على ان علم الكريم بإحسان عبده موجب للجزاء و الثواب لا محالة و فيه غاية المبالغة فى علمه تعالى حيث لم يقل و ما أنفقتم بصيغة الماضي و ذكر صيغة المستقبل للدلالة على انه تعالى عالم به قبل إنفاقه صغيرا كان الانفاق او كبيرا- و فيه اشارة الى انه تعالى غنى عن إبداء الانفاق و تحريض على الإخفاء-

قال البغوي قالت اليهود لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انك تزعم انك على ملة ابراهيم و كان ابراهيم لا يأكل لحوم الإبل و ألبانها و أنت تأكلها فلست أنت على ملته فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم كان ذلك حلالا لابراهيم فقالوا كلّ ما نحرّمه اليوم كان ذلك حراما على نوح و ابراهيم حتى انتهى إلينا و كانوا ينكرون نسخ الاحكام فانزل اللّه تعالى.

٩٣

لتكذيبهم كُلُّ الطَّعامِ مصدر بمعنى المفعول معناه تناول الغذاء و المراد هاهنا الغذاء و اللام للعهد يعنى كل مطعوم من الطيبات التي حرم فى التورية بظلم من الذين هادوا فلا يشتمل ذلك الميتة و الدم و لحم الخنزير و غير ذلك من الخبائث كالسباع و نحوها كانَ حِلًّا مصدر يقال حل الشي ء حلّا نعت به فيستوى فيه المذكر و المؤنث و الجمع و الواحد

قال اللّه تعالى لاهنّ حلّ لهم يعنى كان ذلك المطعومات حلالا لِبَنِي إِسْرائِيلَ اى لاولاد يعقوب كما كان حلالا على يعقوب و أبويه ابراهيم و إسحاق إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ يعنى يعقوب عَلى نَفْسِهِ و هى لحوم الإبل و ألبانها و ذلك لانه كان به عرق النساء فنذر ان شفى اللّه له لم يأكل أحب الطعام اليه و كان ذلك أحبه اليه أخرجه احمد و الحاكم و غيرهما عن ابن عباس مرفوعا بسند صحيح- و كذا ذكر البغوي عن ابى العالية و عطاء و مقاتل و الكلبي و ذكر البغوي رواية جويبر عن ابن عباس انه لما أصاب يعقوب عرق النساء وصف له الأطباء ان يجتنب لحمان الإبل فحرمها يعقوب على نفسه و

قال البغوي قال الحسن حرم إسرائيل على نفسه لحم الجزور تعبد اللّه عز و جل فسال ربه ان يجيز ذلك له فحرمه اللّه على ولده و قال عطية انما كان ذلك محرما عليهم بتحريم إسرائيل فانه كان قد قال ان عافانى اللّه لم يأكله ولد لى و لم يكن محرما عليهم من اللّه تعالى مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ الظرف لا يجوز ان يتعلق بحرم إسرائيل كما هو الظاهر إذ لا فائدة حينئذ فى التقييد فان تحريم إسرائيل لا يتصور بعد نزول التورية و لو جعل متعلقا بكان حلا لزم قصر الصفة قبل تمامها فهو متعلق بمحذوف دل عليه ما سبق و هو كانه فى جواب متى كان حلّا و تقديره كان حلّا من قبل ان تنزّل التّورية فلما نزّل التورية حرم عليهم الطيبات بظلمهم قال اللّه تعالى فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ و قال وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ و قال الكلبي كانت بنوا إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيما حرم اللّه عليهم طعاما طيبا اوصب عليهم رجزا و هو الموت-

و قال الضحاك لم يكن شى ء من ذلك حراما عليهم و لا حرمه اللّه فى التورية و انما حرموه على أنفسهم اتباعا لابيهم ثم أضافوا تحريمه الى اللّه عز و جل فكذبهم اللّه- و هذا ليس بشى ء حيث قال اللّه تعالى حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ و قال حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما لما فى الصحيحين انه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لعن اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها و أكلوا ثمنها قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ

(٩٣) امر اللّه سبحانه رسوله بمحاجتهم بكتابه و تبكيتهم بما فيه من انه قد حرم عليهم بظلمهم ما لم يكن محرما قبل ذلك فبهتوا و لم يأتوا بالتورية- و فيه دليل على نبوته صلى اللّه عليه و سلم و كونه على ملة ابراهيم عليه السلام ورد على اليهود فى منع النسخ.

٩٤

فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللّه الْكَذِبَ و قال ان اللّه حرم ذلك على نوح و ابراهيم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ اى من بعد لزوم الحجة عليهم بالتورية

فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ الذين يكابرون الحق بعد الوضوح-.

٩٥

قُلْ يا محمد صَدَقَ اللّه فى قوله انّ اولى النّاس بإبراهيم للّذين اتّبعوه و هذا النّبىّ و الّذين أمنوا و كذب اليهود و النصارى فى ادعائهم انهم على دين ابراهيم و انه كان هودا او نصارى فَاتَّبِعُوا يا هؤلاء الذين يبتغون دين ابراهيم مِلَّةَ إِبْراهِيمَ يعنى الإسلام دين محمد و أمته فانه هو ملة ابراهيم اما بناء لكمال مشابهته به او لانه هو ملته فى زمنه- و لم يقل فاتّبعوا ابراهيم لان الواجب اتباع هذا الدين من حيث انه يتبع محمدا صلى اللّه عليه و سلم لا من حيث انه يتبع ابراهيم إذ لم يكن محمد صلى اللّه عليه و سلم مثل أنبياء بنى إسرائيل الذين بعثوا لتبليغ شريعة موسى - و الملة كالدين اسم لما شرع اللّه لعباده على لسان الأنبياء ليتوصلوا بها الى مدارج القرب و صلاح الدارين و الفرق بينه و بين الدين ان الملة لا يضاف الا الى النبي الذي يسند اليه و لا يضاف الى اللّه و لا الى احاد الامة و لا يستعمل الا فى جملة الشرائع دون احاده فلا يقال ملة اللّه و لا ملتى و لا ملة زيد و لا يقال للصلوة ملة اللّه كما يقال دين اللّه- و اصل الملة من أمللت الكتاب كذا فى الصحاح حَنِيفاً حال من ابراهيم اى مائلا من الأديان الباطلة الى الدين الحق- و الاولى ان يقال مائلا من الافراط و التفريط الى الاعتدال فانه كان فى دين اليهود الافراط و الشدة و فى دين النصارى التفريط وَ ما كانَ ابراهيم مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) تعريض على اليهود و النصارى فانهم كانوا يشركون و مع ذلك كانوا يدعون انهم على دين ابراهيم

قال البغوي قالت اليهود للمسلمين بيت المقدس قبلتنا أفضل من الكعبة و اقدم و هو مهاجر الأنبياء و قال المسلمون بل الكعبة أفضل فانزل اللّه تعالى.

٩٦

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ اى وضعه اللّه تعالى لهم قبلة- و قيل وضع للناس يحج اليه- و قال الحسن و الكلبي معناه ان أول مسجد و معبد «١» وضع للناس يعبد اللّه فيه كما قال اللّه تعالى فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّه أَنْ تُرْفَعَ يعنى المساجد لَلَّذِي اى للبيت الذي بِبَكَّةَ قيل هى مكة نفسها و العرب يعاقب بين الباء و الميم يقال نميط و نبيط و لازم و لازب و راتب و راتم و قيل بكة بالباء موضع البيت او هو مع المطاف و مكة بالميم اسم البلد سميت بكة لان الناس يتباكون فيها اى يزدحمون- و قال عبد اللّه بن زبير لانها تبك أعناق الجبابرة اى يدقها فلم يقصده جبار بسوء الا قصمه اللّه كاصحاب الفيل و اما مكة سميت بها لقلة الماء و اختلف العلماء فى معنى أوليته فقال ابن عمرو مجاهد و قتادة و السدى هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء و الأرض خلقه اللّه قبل الأرض بألفي عام و كانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحته- و قيل هو أول بيت بنى فى الأرض روى عن على بن الحسين عليه و على ابائه السلام ان اللّه وضع تحت العرش بيتا و هو البيت المعمور فامر الملائكة ان يطوفوا به ثم امر الملائكة الذين هم سكان الأرض ان يبنوا فى الأرض بيتا على مثاله و قدره فبنوه و سموه الصراح و امر من فى الأرض ان يطوفوا به كما يطوف اهل السماء بالبيت المعمور و روى ان الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام فكانوا يحجونه فلما حجه آدم قالت الملائكة برّ حجك حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام- و يروى عن ابن عباس قال أراد به انه أول بيت بناه آدم فى الأرض أخرجه الارزقى فى تاريخ مكة و فى الصحيحين عن ابى ذر قلت يا رسول اللّه اىّ مسجد وضع فى الأرض اولا قال المسجد الحرام قلت ثم اىّ قال المسجد الأقصى قلت كم كان بينهما قال أربعون سنة- ثم أينما أدركتك الصلاة فصلها فان الفضل فيه و قيل هو أول بيت بناه آدم فرفع زمن الطوفان- و قيل انطمس فى الطوفان ثم بناه ابراهيم قيل ثم هدم

(١) فى الأصل متعبد-.

فبناه قوم من جرهم ثم العمالقة ثم قريش اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم و البيهقي انه لما بنى ابراهيم البيت بعد ما رفع زمن الطوفان بوّاه اللّه مكان البيت فبعث ريحا يقال لها ريح الخجوج لها جناحان و رأس فى صورة حية فكنست لها ما حول الكعبة عن أساس البيت الاول فبناه على الأساس القديم- و قيل المراد انه أول بالشرف دون الزمان

يروى ذلك عن على - قال الضحاك أول بيت وضعت فيه البركة حيث قال اللّه تعالى مُبارَكاً منصوب على الحال اى ذا بركة و كثرة فى الاجر و الثواب فان بعض العبادات يختص به كالحج و الهدايا و العمرة و ما عداها من الصلاة و الصوم و الاعتكاف يكثر أجرها فيه من سائر الامكنة- و من ثم قال ابو يوسف رحمه اللّه من نذر ان يصلى فى المسجد الحرام ركعتين لا يجزئ عنه ان يصلى فى غيره لحديث انس بن مالك قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صلوة الرجل فى بيته بصلوة و صلاته فى مسجد «١» القبائل بخمس و عشرين صلوة و صلاته فى المسجد الذي يجمع فيه بخمس مائة صلوة و صلاته فى المسجد الأقصى بألف صلوة و صلاته فى مسجدى بخمسين الف صلوة و صلاته فى المسجد الحرام بمائة الف صلوة- رواه ابن ماجة- و روى الطحاوي عن عطاء بن الزبير قال صلوة فى مسجدى هذا أفضل من الف صلوة فيما سواه من المساجد الا المسجد الحرام و صلوة فى المسجد الحرام أفضل من مائة صلوة فى هذا- و روى عن عبد اللّه بن الزبير عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه مثله و لم يرفعه- و روى نحوه عن جابر بن عبد اللّه مرفوعا- و روى ابن الجوزي عن جابر مرفوعا بلفظ و صلوة فى المسجد الحرام أفضل من مائة الف صلوة لكن ابو حنيفة و محمد رحمهما اللّه يقولان هذا لفضل محمول على الصلوات المكتوبات خاصة دون النوافل لحديث زيد بن ثابت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أفضل الصلاة صلوة المرء فى بيته الا المكتوبة متفق عليه-

قلت و الاعتكاف فى حكم الصلوات المكتوبات لانه تربص فى المسجد لانتظار الصلوات المكتوبات فكانه فيها- و روى ابن الجوزي فى فضائل مكة عن عبد اللّه بن عدى بن الحمراء انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول و هو واقف بالحرورة فى سوق مكة و اللّه انك لخير ارض اللّه و أحب ارض اللّه الى اللّه عز و جل و لو لا انى أخرجت منك ما خرجت و كذا روى ابن الجوزي من حديث ابى هريرة مرفوعا وَ هُدىً

(١) فى الأصل فى المسجد القبائل.

لِلْعالَمِينَ (٩٢) لانه قبلتهم و فيه آيات عجيبة تهدى الى الايمان باللّه و رسوله عطف على مبركا-.

٩٧

فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ منها ان الطير تطير فلا تعلوا فوقه- و منها ان الجارحة تقصد صيدا خارج الحرم فاذا دخلت الصيد فى الحرم كفت عنه و منها مَقامُ إِبْراهِيمَ

مبتدا محذوف خبره او بدل من آيات بدل البعض من الكل و هو الحجر الذي قام عليه ابراهيم لبناء البيت حين ارتفع البناء و كان فيه اثر قدميه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي فاثر الصخرة الصماء و غوصهما فيها الى الكعبين- و تخصيصها بهذه الاية «١» من بين الصخار و بقاؤه دون اثار سائر الأنبياء و حفظه مع كثرة أعدائه ألوف سنة كل ذلك اية- و من ثم قيل ان مقام ابراهيم عطف بيان للايات و قيل أراد بمقام ابراهيم جميع الحرم وَ مَنْ دَخَلَهُ اى الحرم كانَ آمِناً من القتل و النهب جملة ابتدائية او شرطية معطوفة من حيث المعنى على مقام ابراهيم يعنى آيات بينات منها مقام ابراهيم و منها الامن لمن دخل الحرم فان العرب فى الجاهلية كانت تقتل بعضهم بعضا و تغير بعضهم على بعض و من دخل الحرم لا يتعرضونه كذا قال الحسن و قتادة و اكثر المفسرين نظيره قوله تعالى أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ- و قال ابو حنيفة رحمه اللّه معناه من دخله كان أمنا لا يجوز قتله- فمن وجب عليه القتل «٢» قصاصا او حدا خارج الحرم فالتجا الى الحرم لا يستوفى منه لكنه لا يطعم و لا يبائع و لا يشارى حتى يخرج فيقتل كذا قال ابن عباس و قال الشافعي و غيره يستوفى منه القصاص و ان دخل فيه و اما إذا ارتكب الجريمة فى الحرم يستوفى منه عقوبته اتفاقا و مر فى تفسير قوله تعالى وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ انه لا يجوز فى الحرم البداية فى القتال مع الكفار ايضا فلو غلب الكافرون و دخلوا الحرم و العياذ باللّه أخرجهم بالأيدي او ضربهم بالسياط و نحوها او حاصرهم و حبس عنهم الطعام و الشراب حتى يخرجوا عن الحرم فيقاتلهم او يبتدءون بالقتال فيقاتلهم ثمه- فهذه الاية خبر بمعنى الأمر يعنى من دخله فامّنوه كقوله تعالى فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ يعنى لا ترفثوا و لا تفسقوا- و قيل معناه

(١) فى الأصل الا لاية.

(٢) فى الأصل قتل-.

من دخله معظما له متقربا الى اللّه عز و جل كان أمنا يوم القيامة من العذاب- اخرج ابو داود الطيالسي فى مسنده و البيهقي فى شعب الايمان من حديث انس و الطبراني فى الكبير و البيهقي فى الشعب من حديث سلمان و الطبراني فى الأوسط من حديث جابر و الدارقطني فى سننه من حديث حاطب انه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من مات فى أحد الحرمين بعث يوم القيامة أمنا من النار-

و اخرج الحارث بن ابى اسامة فى مسنده عن سالم بن عبد اللّه بن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ابعث يوم القيامة بين ابى بكر و عمر ثم اذهب الى اهل بقيع الغرقد فيبعثون معى ثم انظر الى اهل مكة حتى يأتونى فابعث بين اهل الحرمين-

و اخرج ابو نعيم فى دلائل النبوة عن سالم عن أبيه موصولا

و اخرج الخطيب عن ملك عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم احشر يوم القيامة بين ابى بكر و عمر حتى اقف بين الحرمين فيأتى اهل المدينة و اهل مكة وَ للّه اى استقر له و افترض عَلَى النَّاسِ المراد بالناس الأحرار العقلاء البالغون فلا يجب الحج على المجانين و الصبيان لعدم اهليتهم للخطاب و لا على العبيد بالإجماع فلو حج الكافر او الصبى العاقل او العبد ثم اسلم الكافر و بلغ الصبى و أعتق العبد يجب عليه حجة الإسلام ثانيا بالإجماع و سند الإجماع حديث ابن عباس ايّما صبى حج ثم بلغ الحنث فعليه ان يحج حجة اخرى و أيما أعرابيّ حج ثم هاجر فعليه ان يحج حجة اخرى و أيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة اخرى رواه الحاكم و المراد بالأعرابي الذي لم يهاجر من لم يسلم فان مشركى العرب كانوا يحجون قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين و رواه ابن ابى شيبة فذكر نحوه و روى ابو داود مرسلا عن محمد بن كعب القرظي و فى الباب عن جابر و سنده ضعيف و هذه الأحاديث تلقته الامة بالقبول و انعقد على مقتضاه الإجماع فجاز به تخصيص الكتاب حِجُّ الْبَيْتِ قرا ابو جعفر و حمزة و خلف- ابو محمد و الكسائي و حفص بكسر حاء حجّ البيت فى هذا الحرف خاصة و الباقون بالفتح و الكسر لغة نجد و الفتح لغة اهل الحجاز و هما لغتان فصيحتان و معناهما واحد و فى المدارك ان بالكسر اسم و بالفتح مصدر- و الحج فى اللغة القصد و المراد هاهنا عبادة مخصوصة فيها إجمال التحق بيانه بفعل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و بالآيات مثل قوله تعالى ثُمَّ

أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ و قوله تعالى وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ و نحو ذلك

(مسئلة) اجمع الامة على ان الحج أحد اركان الإسلام فرض على الأعيان عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بنى الإسلام على خمس شهادة ان لا اله الا اللّه و ان محمدا رسول اللّه و اقام الصلاة و إيتاء الزكوة و الحج و صوم رمضان متفق عليه و فى الباب أحاديث كثيرة «١» مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ اى الى البيت سَبِيلًا الموصول بدل من الناس

(١) عن عمرانه قال لو ترك الناس الحج لقاتلتهم عليه كما نقاتلهم على الصلاة- الزكوة- منه رحمه اللّه.

بدل البعض خصص له فلا يجب الحج على غير المستطيع و السبيل الطريق منصوب على المفعولية و اليه حال منه مقدم عليه و المراد به الذهاب على طريقة جرى النهر يعنى من استطاع ذهابا الى البيت و لاجل قصر الحكم على المستطيع اجمع العلماء على انه يشترط لوجوب الحج ان يكون الطريق أمنا و المنازل الماهولة معمورة يوجد فيه الزاد و الماء و عند فوات الا من لا يجب الحج و كون البحر «١» بينه و بين مكة إذا كانت السلامة غالبة لا يمنع وجوب الحج عندهم خلافا لاحد قول الشافعي و كذلك يشترط عند ابى حنيفة و مالك الصحة فلا يجب عندهما على الضعيف و الزمن و ان كان له مال يمكن ان يستنيب من يحج عنه لانه غير مستطيع بنفسه و الحج عبادة بدنية و المقصود من العبادات البدنية اتعاب النفس فلا يحصل مقصوده بالاستنابة و قال الشافعي و احمد هو مستطيع بماله

قال البغوي يقال فى العرف فلان مستطيع لبناء داروان كان لا يفعله بنفسه و انما يفعله بماله و باعوانه-

قلنا هو غير مستطيع على الحج الذي هو عبارة عن اركان مخصوصة و انما هو مستطيع على الانفاق و المقصود فى البناء ليس إتيانه بنفسه بخلاف العبادات البدنية فلا يجرى فيه ذلك العرف و احتج الشافعي و احمد بحديث ابن عباس رضى اللّه عنهما قال كان الفضل ردف النبي صلى اللّه عليه و سلم فجاءت امراة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها و تنظر اليه و جعل النبي صلى اللّه عليه و سلم يصرف وجه الفضل الى الشق الاخر فقالت يا رسول اللّه ان فريضة اللّه على عباده فى الحج أدركت ابى شيخا كبيرا لا يستطيع ان يمسك على الرحل أ فأحج عنه قال نعم و فى رواية لا يستطيع ان يستوى على الراحلة فهل تقضى عنه ان أحج عنه قال نعم و ذلك فى حجة الوداع- متفق عليه و الجواب انه حديث احاد لا يجوز به نسخ الكتاب المقتضى لاشتراط الاستطاعة و قد قيل فى الجواب ان معناه فريضة اللّه على عباده فى الحج الذي وقع بشرط الاستطاعة صادف ابى بصفة عدم الاستطاعة ا

(١) و فى فتاوى قاضيخان مذهب ابى حنيفة انه لو كان بينه و بين مكة بحر فهو مخوف الطريق يعنى لا يفترض عليه الحج و جيحون و سيحون و الدجلة و الفرات انهار و ليست ببحار- منه رحمه اللّه.

فاحج عنه اى هل يجوز لى ذلك او هل فيه اجر و منفعة له فقال نعم و تعقب بان فى بعض ألفاظه و الحج مكتوب عليه و نحوه و أجيب بانه لو صح تلك الألفاظ فهو ظن من امراة ظنت ظنا و تعقب بان النبي صلى اللّه عليه و سلم أجابها عن سوالها و لو كان ظنها غلطا لبينه لها و أجيب بانه انما أجابها عن سوالها ا فاحج عنه فقال حجى عنه لما راى من حرصها على إيصال الخير و الثواب لابيها و يؤيده ما رواه عبد الرزاق من حديث ابن عباس فزاد فى الحديث حجى عن أبيك فان لم تزده خيرا لم تزده شرا- لكن جزم الحفاظ بانها رواية شاذة و الاولى ان يحمل الحديث على من استقر فى ذمته صحيحا ثم طرا عليه ضعف و زمانة فانه لا يسقط عنه الحج بل يجب عليه ان يحج عنه غيره من ماله ما دام حيّا او يوصى به عند موته و إذا مات و لم يحج يحج عنه وارثه او يحج عنه أجنبيا من ماله ان شاء فالحج عن الغير قضاء بمثل غير معقول ثبت بهذا الحديث كما ثبت الفدية عن الصوم فى حق الشيخ الفاني بنص الكتاب- و افتراض الحج كان عام الحديبة سنه بقوله تعالى وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ للّه و هذه قصة حجة الوداع فلعل أباه ضعف فى تلك السنين بعد الوجوب و اللّه اعلم و كذا يشترط البصارة عند ابى حنيفة فلا يجب الحج على الأعمى و ان وجد قائدا لأنه غير مستطيع بنفسه و الاستطاعة بالغير غير معتبر عنده و قال ابو يوسف و محمد و الجمهور الأعمى إذا وجد قائدا يجب عليه الحج و كذا الخلاف فى وجوب الجمعة على الأعمى و لاجل اشتراط الاستطاعة يشترط عند ابى حنيفة فى حق المرأة ان يكون معها زوجها او ذو محرم منها إذا كان بينها و بين مكة ثلاثة مراحل و قال احمد يشترط ذلك مطلقا طال المسافة او قصرت فان لم يكن لها رجل كذلك او كان و لا يخرج معها او كان لا يخرج معها الا بأجرة و هى لا تقدر على الاجرة لا يجب عليها الحج و ذلك لانها ممنوعة عن السفر الا و معها زوجها او ذو محرم منها و المهجور شرعا كالمهجور عادة فصارت غير مستطيعة- وجه قول ابى حنيفة فى اشتراط مسافة ثلاثة ايام حديث ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال لا تسافر المرأة ثلاثا الا معها ذو محرم- متفق عليه و فى رواية لمسلم لا يحل لامراة تؤمن باللّه و اليوم الاخر تسافر مسيرة ثلاث «١» ليال الا و معها ذو محرم- و فى رواية فوق ثلاث و فى الباب مقيدا بثلاثة ايام حديث ابى هريرة رواه مسلم و الطحاوي- و فى رواية للطحاوى فوق ثلاث ليال- و حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ ثلاثة ايام رواه الطحاوي- و حديث ابى سعيد الخدري رواه مسلم و الطحاوي بلفظ ثلاثة ايام فصاعدا- و فى رواية لمسلم بلفظ فوق ثلاث و بلفظ اكثر من ثلاث- و قال احمد التقييد بالثلاث او اكثر من

(١) فى الأصل ثلاثة.

الثلاث اتفاقي مع ان المفهوم غير معتبر عند ابى حنيفة فكيف يستدل به على اباحة السفر فيما دون ذلك و لو كان احترازيا لتعارض رواية ثلاث برواية فوق ثلاث و وجه قول احمد فى المنع فى ما دون الثلاث انه وقع فى الصحيحين حديث ابى هريرة بلفظ مسيرة يوم و ليلة و فى رواية لمسلم مسيرة يوم و فى لفظ له مسيرة ليلة و فى حديث ابى سعيد الخدري عند مسلم و غيره مسيرة يومين و عند الطحاوي مسيرة ليلتين و فى حديث ابى هريرة عند ابى داود و الطحاوي لا تسافر المرأة بريدا الا مع زوج او ذى رحم محرم و رواه ابن حبان فى صحيحه و الحاكم و قال صحيح على شرط مسلم- و للطبرانى فى معجمه ثلاثة أميال فظهران التقييد بيوم او يومين او ثلاثة ايام ليس الا تمثيلا لاقل الاعداد و اليوم الواحد أول العدد و اقله و البريد مرحلة واحدة غالبا و الاثنان أول الكثير و اقله و الثلاث أول الجمع و اقله و قد ورد من الأحاديث بلا تقييد منها حديث ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا تسافر المرأة الا مع ذى محرم و لا يدخل عليها رجل الا و معها محرم فقال رجل يا رسول اللّه انى أريد ان اخرج فى جيش كذا و كذا و امراتى تريد الحج قال اخرج معها- متفق عليه- و فى الباب حديث ابى سعيد الخدري و ابى هريرة- و قال الشافعي جاز للمرءة ان تخرج للحج مع نساء ثقات و فى رواية مع امراة واحدة ثقة و إذا خرجت مع نساء ثقات يشترط ان يكون مع إحداهن ذو محرمها- و فى المنهاج انه لا يشترط ذلك و فى رواية عن الشافعي جاز لها الخروج من غير نساء و قال مالك لتخرج للحج جماعة من النساء ان كان الطريق أمنا و الحجة عليهما ما روينا- و المراد بالاستطاعة الاستطاعة على سفر معتاد بحيث لا يلحقه حرج و من ثم يشترط عند الجمهور ان يكون له زاد و راحلة فاضلا عما لا بد منه و عن الديون و عن نفقة عياله الى حين عوده فان المشغول بالحاجة الاصلية كالمعدوم و لذا لا يجب فيه الزكوة و من لا زاد له اولا راحلة له لا يستطيع السفر غالبا و الحرج مدفوع فى الشرع «١» و قال داود لا يشترط لوجوب الحج زاد و لا راحلة- و قال مالك ان كان هو ممن له عادة بالسؤال

(١) و ان كان الا فاقى فقيرا و تبرع ولده بالزاد و الراحلة لا يثبت بها الاستطاعة خلافا للشافعى و ان كان المتبرع أجنبيا له فيه قولان و قيل فى الأجنبي لا يثبت الاستطاعة قولا واحدا و له فى الولد قولان- فتاوى قاضيخان- منه رحمه اللّه.

او كان يمكنه ان يكتسب فى الطريق لا يشترط له الزاد و ان كان قادرا على المشي لا يشترط له الراحلة و قد قال اللّه تعالى وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ

قلنا الواقع فى جواب الأمر يكون اخبارا عن الواقع و لا يكون دليلا على وجوب الحج بلا راحلة و القدرة على المشي امر خفى و قد يزول القدرة فى أثناء الطريق فلا بد من اشتراط زاد و راحلة من ابتداء السفر كيلا يفضى الى الهلاك- و احكام الشرع عامة الا ترى انه يجوز للسلطان قصر الصلاة و إفطار الصوم فى مسافة السفر مع عدم المشقة و لا يجوز لمن يشق عليه الصوم فى ادنى من مسافة السفر- و الحجة للجمهور حديث انس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم فى قوله تعالى مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قيل يا رسول اللّه ما السبيل قال الزاد و الراحلة «١»- رواه الدارقطني و البيهقي و الحاكم و قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين- و رواه الحاكم من طريق حماد بن سلمة و قال صحيح على شرط مسلم و رواه سعيد بن منصور فى سننه من طرق اخر صحيحة عن الحسن مرسلا- و رواه الشافعي و الترمذي و ابن ماجة و الدارقطني من حديث ابن عمر قام رجل الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال يا رسول اللّه ما يوجب الحج قال الزاد و الراحلة قال الترمذي حسن لكن فيه ابراهيم بن يزيد الجوزي المكي قال احمد و النسائي متروك الحديث و رواه ابن ماجة و الدارقطني من حديث ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال الزاد و الراحلة- يعنى فى تفسير هذه الاية و سنده ضعيف و رواه الدارقطني من حديث جابر بن عبد اللّه و من حديث على بن ابى طالب و ابن مسعود و عائشة و عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده و طرقها كلها ضعيفة- و من الحجة على وجوب التزود فى الحج قوله تعالى وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى - روى البخاري و غيره عن ابن عباس قال كان اهل اليمن يحجون

(١) قال بعض العلماء ان كان الرجل تاجرا يعيش بالتجارة فملك مقدار ما لو رقع منه الزاد و الراحلة لذهابه و إيابه و نفقة أولاده و عياله من وقت خروجه الى وقت رجوعه و يبقى له بعد رجوعه رأس مال التجارة التي كان يتجربها كان عليه الحج و الا فلا- و ان كان صاحب ضيعة ان كان له من الضياع ما لو باع مقدار ما يكفى الزاد و الراحلة ذاهبا و جائيا و نفقة عياله و أولاده و يبقى له من الضيعة قدر ما يعيش بغلة الباقي يفترض عليه الحج و الا فلا- و ان كان حرّاثا أكارا فملك مالا يكفى الزاد و الراحلة ذاهبا و جائيا و نفقة أولاده و عياله من خروجه الى رجوعه و يبقى له آلات الحراثين من البقر و نحو ذلك كان عليه الحج و الا فلا- فتاوى قاضيخان منه رحمه اللّه-.

فلا يتزودون و يقولون نحن متوكلون فاذا قدموا مكة سألوا الناس فانزل اللّه تعالى

وَ تَزَوَّدُوا الاية- وَ مَنْ كَفَرَ يعنى أنكر وجوب الحج كذا قال ابن عباس و الحسن و عطاء- اخرج عبد بن حميد فى تفسيره عن نقيع قال قرا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هذه الاية فقام رجل من هذيل فقال يا رسول اللّه فمن تركه فقد كفر قال من تركه لا يخاف عقوبته و لا يرجو ثوابه- نقيع تابعي فالحديث مرسل- و قال سعيد بن المسيب نزلت فى اليهود حيث قالوا الحج الى مكة غير واجب

و اخرج سعيد بن منصور و ابن جرير عن الضحاك مرسلا انه لما نزل صدر الاية جمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ارباب الملل فخطبهم و قال ان اللّه كتب عليكم الحج فحجوا فامنت به ملة واحدة يعنى المسلمين و كفرت به خمس ملل يعنى المشركين و اليهود و النصارى و الصابئين و المجوس فنزل وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّه غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ-

و اخرج سعيد بن منصور عن عكرمة قال لما نزلت وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً الاية قالت اليهود فنحن مسلمون فقال لهم النبي صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه فرض على المسلمين حج البيت فقالوا لم يكتب علينا و أبوا ان يحجوا فانزل اللّه وَ مَنْ كَفَرَ الاية- و الظاهر انه وضع من كفر موضع من لم يحج تأكيدا لوجوبه و تغليظا على تاركه و معنى كفر انه لم يشكر المنعم على صحة جسمه و سعة رزقه و هذان التأويلان جاريان فى حديث ابى امامة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال من لم تحبسه حاجة ظاهرة او مرض حابس او سلطان جائر و لم يحج فليمت ان شاء يهوديا و ان شاء نصرانيا رواه البغوي و الدارمي فى مسنده و أورده ابن الجوزي فى الموضوعات و تعقبه الحفاظ و حديث على عليه السلام من ملك زادا و راحلة يبلغه الى بيت اللّه و لم يحج فلا عليه ان يموت يهوديا او نصرانيا رواه الترمذي و ضعفه

فَإِنَّ اللّه غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧) أكد اللّه سبحانه امر الحج فى هذه الاية بوجوه ١ بالدلالة على وجوبه بصيغة الخبر- ٢ و ابرازه فى صورة الاسمية- و ٣ إيراده على وجه يفيد انه حق واجب للّه فى رقاب الناس- ٤ و تعميم الحكم اولا و تخصيصه ثانيا فانه كايضاح بعد إبهام و تكرير للمراد- ٥ و تسمية ترك الحج كفرا من حيث انه فعل الكفرة- ٦ و ذكر الاستغناء فانه فى هذا الموضع يدل على المقت و الخذلان- ٧ و وضع المظهر بلفظ عام شامل لمرجع الضمير موضعه لما فيه من مبالغة التعميم و الدلالة على الاستغناء عنه بالبرهان و الاشعار بعظم السخط و اللّه اعلم- و اضافة الحج الى البيت يقتضى ان سبب وجوب الحج هو البيت و لذا لا يتكرر الحج فى العمر لعدم تكرر البيت- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الحج مرة فمن زاد فتطوع- رواه احمد و النسائي- و البيت عبارة عن لطيفة ربانية فى بعد موهوم مهبط لتجليات ذاتية مختصة به و ليس اسما لسقف او جدارا و حجر او تراب الا ترى انه لو نقل الحجارة و التراب الى موضع اخر و ترك ذلك المكان خاليا او بنى بناء اخر لا يجوز السجود الى موضع اخر بل الى تلك العرضة الشرقاء فصورة الكعبة مع كونها من عالم الخلق امر مبطن لا يدركه حس و لا خيال بل هو مع كونه من المحسوسات ليس بمحسوس و كونه فى جهة ليس له جهة متمثل و لا مثل له هذا شأن صورت الكعبة فما ادراك ما حقيقتها سبحان من جعل الممكن مراءة للوجوب- و جعل العدم مظهرا للوجوب و الوجود- و فوق حقيقة الكعبة حقيقة القران و فوق ذلك حقيقة الصلاة و هناك ينتهى سير السالك بتوسط النبي صلى اللّه عليه و سلم و تحصل فى تلك المقامات الفناء و البقاء و فوق ذلك مقام المعبودية الصرفة لا مجال للسير هناك الا بالنظر قف يا محمد فان اللّه يصلى كناية عن ذلك المقام و اللّه هو العلام.

٩٨

قُلْ يا محمد يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّه السمعية و العقلية الدالة على صدق محمد صلى اللّه عليه و سلم فيما يدعيه من وجوب الحج و غيره و تخصيصهم بالخطاب لان كفرهم مع علمهم بالكتاب أقبح وَ اللّه شَهِيدٌ و الحال انه مطلع عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٠) من الكفر و التحريف فيجازيكم عليها و لا ينفعكم استسرار الحق.

٩٩

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ تمنعون عَنْ سَبِيلِ اللّه يعنى عن الإسلام الذي هو الموصل اليه تعالى شأنه مَنْ آمَنَ يعنى أراد الايمان منصوب على المفعولية من تصدون يعنى تصدون عن الايمان من أراد ان يؤمن كرر الخطاب و الاستفهام مبالغة فى التقريع و نفى العذر و اشعارا بان كل واحد من الامرين مستقبح فى نفسه مستقل باستجلاب العذاب تَبْغُونَها اى السبل عِوَجاً اى معوجة مصدر بمعنى المفعول او المعنى تبغون لها عوجا اى اعوجاجا- و جملة تبغون حال من فاعل تصدون- و كانت اليهود يلبسون على الناس الحق بتحريف صفة النبي صلى اللّه عليه و سلم و القول بان دين موسى مؤبد-

و بما يحرشون بين المؤمنين ليختلف كلمتهم و يأتون الأوس و الخزرج و يذكّرونهم ما كان بينهم فى الجاهلية من العداوة وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ على ما تعملون او على ما فى التورية مكتوبا عندكم من نعت محمد صلى اللّه عليه و سلم و ان دين اللّه هو الإسلام وَ مَا اللّه بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) و تختانون فى صد المؤمنين عن الايمان اخرج ابن إسحاق و ابو الشيخ و ابن جرير عن زيد مرسلا و ذكره البغوي انه مرّ شمّاس بن قيس اليهودي و كان شيخا عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين على نفر من الأوس و الخزرج فى مجلس جمعهم يتحدثون فغاظه ما راى من ألفتهم و صلاح ذات بينهم فى الإسلام بعد ان كان بينهم فى الجاهلية من العداوة و قال ما اجتمع ملا بنى قيلة بهذه البلاد لا و اللّه ما لنا معهم إذ اجتمعوا بها من قرار فامر شابّا من اليهود كان معه فقال اعمد إليهم و اجلس معهم ثم ذكّرهم يوم بعاث و ما كان قبله و انشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الاشعار و كان بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس مع الخزرج و كان الظفر فيه للاوس على الخزرج فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا و تفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب أوس بن قبطى أحد بنى حارثة من الأوس و جبار بن صخر أحد بنى سلمة من الخزرج فتقاولا ثم قال أحدهم لصاحبه ان شئتم و اللّه رددتها الان جذعة و غضب الفريقان جميعا و قالا قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهرة و هى حرة فخرجوا إليها و انضمت الأوس و الخزرج بعضها الى بعض على دعواهم التي كانوا عليها فى الجاهلية فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين فقال يا معشر المسلمين أ بدعوى الجاهلية و انا بين أظهركم بعد إذ كرّمكم اللّه فى الإسلام و قطع به عنكم امر الجاهلية و الف بينكم ترجعون الى ما كنتم عليه كفارا اللّه اللّه فعرف القوم انها نزغة من الشيطان و كيد من عدوهم فالقوا السلاح من أيديهم و بكوا و عانقوا بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سامعين مطيعين فانزل اللّه تعالى فى أوس و جبار و من كان معهما.

١٠٠

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يعنى الأنصار إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعنى شماسا و أصحابه يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ باللّه و نبيه و القران كافِرِينَ (١٠٠) يعنى على اعمال الكفر قال زيد فقال جابر فما رايت قط يوما أقبح اولا و احسن آخرا من ذلك اليوم- و نزل فى شماس بن قيس يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ الاية خاطب اللّه المؤمنين بنفسه و امر رسوله بخطاب اهل الكتاب إجلالا للمؤمنين و اشعارا بانهم أحقاء بان يكلمهم اللّه

و اخرج الفرياني و ابن ابى حاتم عن ابن عباس قال كانت الأوس و الخزرج فى الجاهلية بينهم شر فبينما هم جلوس ذكروا ما بينهم حتى غضبوا و قام بعضهم الى بعض بالسلاح فنزلت.

١٠١

وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ عطف على يردّوكم و الاستفهام للتعجب و الإنكار وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللّه على لسان الرسول غضة طرية يعنى القران وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ ينهاكم و يعظكم و يزيح شبهكم يعنى و الحال ان الأسباب الداعية الى الايمان المانعة من الكفر مجتمعة لكم قال قتادة فى هذه الاية علمان بينان كتاب اللّه و نبى اللّه اما نبى اللّه فقد قضى و اما كتاب اللّه فابقاه اللّه رحمة منه و نعمة قلت و لكن نبى اللّه صلى اللّه عليه و سلم أرشدنا الى من ينوبه يعده من خلفائه الى يوم القيامة عن زيد بن أرقم قال قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ذات يوم خطيبا فحمد اللّه و اثنى عليه ثم قال اما بعد ايها الناس انما انا بشر يوشك ان يأتيني رسول ربى فاجيبه و انى تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب اللّه فيه الهدى و النور فخذوا بكتاب اللّه و استمسكوا به فحث على كتاب اللّه و رغب فيه ثم قال و اهل بيتي أذكركم اللّه فى اهل بيتي أذكركم اللّه فى اهل بيتي- و فى رواية كتاب اللّه هو حبل اللّه من اتبعه كان على الهدى و من تركه كان على الضلالة رواه مسلم- و رواه الترمذي بلفظ انى تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الاخر كتاب اللّه حبل ممدود من السماء الى الأرض و عترتى اهل بيتي و لن يتفرقا حتى يردا على الحوض فانظروا كيف تخلفونى فيهما- و روى الترمذي عن جابر قال رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى حجته يوم عرفة و هو على ناقته القصواء يخطب فيقول يا ايها الناس انى تركت فيكم ما ان أخذتم به لن تضلوا كتاب اللّه و عترتى اهل بيتي-

قلت أشار النبي صلى اللّه عليه و سلم الى اهل البيت لانهم اقطاب الإرشاد فى الولايات أولهم على عليه السلام ثم ابناؤه الى الحسن العسكري و آخرهم غوث الثقلين محى الدين عبد القادر الجيلي رضى اللّه عنهم أجمعين لا يصل أحد من الأولين و الآخرين الى درجة الولاية الا بتوسطهم كذا قال المجدد رضى اللّه عنه ثم اولياء امة النبي صلى اللّه عليه و سلم و علماؤها كلهم اتباع لاهل البيت داخلون فيهم بحكم الوراثة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم العلماء ورثة الأنبياء وَ مَنْ يَعْتَصِمْ اصل العصمة المنع فكل مانع شيئا فهو عاصم و الاعتصام ان يتمسك بشى ء حتى يمتنع عن الهلاك بِاللّه اى بدينه و بدوام التوجه اليه فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) طريق واضح لا يضل سالكه ابدا-

قال البغوي قال مقاتل بن حبان كانت بين الأوس و الخزرج عداوة فى الجاهلية و قتال حتى هاجر النبي صلى اللّه عليه و سلم الى المدينة فاصلح بينهم فافتخر بعده منهم رجلان ثعلبة بن غنم من الأوس و اسعد بن زرارة من الخزرج فقال الأوس منا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين و منا حنظلة غسيل الملائكة و عاصم بن ثابت بن أفلح حمى الدبر و منا سعد بن معاذ اهتز عرش الرحمن له و رضى اللّه بحكمه فى بنى قريظة- و قال الخزرجي منا اربعة احكموا القران أبيّ بن كعب و معاذ بن جبل و زيد بن ثابت و ابو زيد و منا سعد بن عبادة خطيب الأنصار و رئيسهم و جرى الحديث بينهما فغضبا و انشدا الاشعار و تفاخرا «١» فجاء الأوس و الخزرج و معهم السلاح فاتاهم النبي صلى اللّه عليه و سلم و انزل اللّه تعالى.

(١). في الأصل و تفاخروا.

١٠٢

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه حَقَّ تُقاتِهِ اصل تقاة وقية قلبت واوها المضمومة تاء كما فى تودة و تخمة و الياء الفا لانفتاحها بعد حرف صحيح ساكن و موافقة الفعل- اخرج عبد الرزاق و الفرياني و ابن جرير و ابن ابى حاتم و ابن مردوية فى تفاسيرهم و الطبراني فى المعجم و الحاكم فى المستدرك و صححه و ابو نعيم فى الحلية عن ابن مسعود موقوفا و قال ابو نعيم روى عنه مرفوعا ايضا هو ان يطاع فلا يعصى و يشكر فلا يكفر و يذكر فلا ينسى- و

قال البغوي قال ابن مسعود و ابن عباس هو ان يطاع فلا يعصى و هذا إجمال ما ذكر-

قلت اما قوله يذكر فلا ينسى فمناطه فناء القلب و اما قوله يطاع فلا يعصى و يشكر فلا يكفر فمناطه فناء النفس و اطمينانه و الايمان الحقيقي- فمقتضى هذه الاية وجوب اكتساب كما لات الولاية و كذا يقتضيه سبب نزوله فان تفاخر الأوس و الخزرج انما كان من بقايا رذائل النفس فامروا بتهذيبها و تطهيرها عن الرذائل و تحلية القلب و النفس بمكارم الأخلاق و خشية اللّه و دوام الذكر-

و قال مجاهدان تجاهدوا فى سبيل اللّه حق جهاده و لا يأخذكم فى اللّه لومة لائم و تقوموا للّه بالقسط و لو على أنفسكم و ابائكم و أبنائكم- و عن انس قال لا يتقى اللّه عبد حق تقاته حتى يحزن لسانه-

قلت و قول مجاهد و انس بيان للطريق الموصل الى كمالات الولاية فان الرياضات و المجاهدات بقلة الطعام و المنام مع الذكر على الدوام و حفظ اللسان عن فضول الكلام المستلزم للعزلة و قلة المخالطة مع العوام و ترك مبالاة الناس فى رعاية حقوق الملك العلام هى الطريقة الموصلة الى تلك الكمالات-

قال البغوي قال اهل التفسير فلما نزلت هذه الاية شق ذلك عليهم فقالوا يا رسول اللّه و من يقوى على هذا فانزل اللّه تعالى فَاتَّقُوا اللّه مَا اسْتَطَعْتُمْ فنسخت هذه الاية- قال مقاتل ليس فى ال عمران من المنسوخ الا هذه الاية-

قلت ليس المراد منه ان ان حق التقوى صار منسوخا وجوبه كيف و رذائل النفس من الكبر و الغضب فى غير محله و الحسد و الحقد و النفاق و سوء الأخلاق وجب الدنيا و قلة الالتفات الى اللّه و اشتغال القلب بغيره ما زال حراما و لا يتصور نسخ حرمتها حتى تصير مباحة- بل المراد منه ان ازالة رذائل النفس دفعة ليست فى مقدور البشر بل يتوقف ذلك جريا على عادة اللّه تعالى على مصاحبة ارباب القلوب و النفوس الزاكية و المجاهدات المذكورة فاللّه سبحانه رخص لعباده فى ذلك و أوجب عليهم بذل الجهد فى تزكية النفس و تصفية القلب ما استطاع فمن اعرض عن ذلك بالكلية و التفت الى الشهوات فعليه اثم الرذائل كلها إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ و من اشتغل فى طلب الطريقة و بذل جهده فى دفع الرذائل و مات قبل تحصيل الكمالات فقد اتى بما وجب عليه و أرجو ان يغفر له ما ليس فى وسعه و اللّه اعلم وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) بالإسلام الحقيقي المنقادون للّه تعالى فى أوامره و نواهيه مخلصون له مفوضون أموركم اليه راضون بقضائه يعنى لا تكونن على حال سوا حال الإسلام حتى يدرككم الموت فالنهى عن الفعل المقيد بحال او وصف او غيرهما قد يتوجه بالذات الى الفعل نحو لا تزن فى ارض اللّه و قد يتوجه الى القيد كما فى هذه الاية و قد يتوجه الى المجموع دون كل واحد منهما نحو لا تأكل السمك و تشرب اللبن و قد يتوجه الى كل واحد منهما نحو لا تزن حليلة جارك- عن ابن عباس رضى اللّه عنهما قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يا ايّها النّاس اتَّقُوا اللّه حَقَّ تُقاتِهِ الاية فلو ان قطرة من الزقوم قطرت على الأرض لامرّت على اهل الدنيا معيشتهم فكيف بمن هو طعامه و ليس له طعام غيره رواه الترمذي و قال هذا حديث حسن صحيح-.

١٠٣

وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه يعنى بدين الإسلام قال اللّه تعالى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللّه فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها او بكتابه لقوله صلى اللّه عليه و سلم كتاب اللّه حبل ممدود من السماء الى الأرض و قد مرّ استعار له الحبل من حيث ان التمسك به سبب للنجاة عن التردي فى النار كما ان التمسك بالحبل سبب للنجاة عن التردي من فوق و للوثوق به و الاعتماد عليه بالاعتصام ترشيحا للمجاز جَمِيعاً حال من فاعل اعتصموا او من مفعوله اعنى بحبل اللّه او منهما جميعا فعلى تقدير كونه حالا من الفاعل معناه حال كونكم مجتمعين فى الاعتصام يعنى خذوا فى تفسير كتاب اللّه و تأويله ما اجتمع عليه الامة و لا تذهبوا الى خبط آرائكم على خلاف الإجماع عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ان اللّه يرضى لكم ثلاثا و يسخط لكم ثلاثا يرضى لكم ان تعبدوه و لا تشركوا به شيئا و ان تعتصموا بحبل اللّه جميعا و ان تناصحوا من ولى اللّه أمركم- و يسخط لكم قيلا «١» و قالا و اضاعة المال و كثرة السؤال- رواه مسلم و احمد- و عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه لا يجمع أمتي على ضلالة و يد اللّه على الجماعة و من شذ شذ فى النار رواه الترمذي- و عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اتبعوا السواد الأعظم فانه من شذ شذ فى النار رواه ابن ماجة و عن معاذ بن جبل قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاذة و القاصية و الناحية و إياكم و الشعاب و عليكم بالجماعة و العامة رواه احمد- و عن ابى ذر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه رواه احمد و ابو داود و على تقدير ان يكون حالا من المفعول فالمعنى اعتصموا بجميع كتاب اللّه و لا تقولوا نومن ببعض الكتاب و نكفر

(١) فى الأصل قيل و قال.

ببعض فان بعض طاقات الحبل لا يقوى على الحفظ وَ لا تَفَرَّقُوا عطف على ما سبق و هذه الجملة تأكيد على أحد التأويلين و تأسيس على الاخر «٢» يعنى لا تفرقوا عن الحق باختلاف كاهل الكتاب- عن عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلى اللّه

(٢) فى الأصل الاخرى. [.....].

عليه و سلم ليأتين على أمتي كما اتى على بنى إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى ان كان منهم من اتى امه علانية لكان فى أمتي من يصنع ذلك و ان بنى إسرائيل تفرقت على ثنتين و سبعين ملة و تفترق أمتي على ثلاث و سبعين ملة كلهم فى النار الا ملة واحدة قالوا من هى يا رسول اللّه قال ما انا عليه و أصحابي- رواه الترمذي و فى رواية احمد و ابى داود عن معاوية ثنتان و سبعون فى النار و واحدة فى الجنة و هى الجماعة و انه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى «١» بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه لا يبقى منه عرق و لا مفصل إلا دخله-

قلت فلم يتفرق الصحابة رضوان اللّه عليهم أجمعين فى زمن النبي صلى اللّه عليه و سلم و لا فى خلافة ابى بكر و عمرو عثمان و أول بغى كان على الامام الحق خروج اهل المصر على عثمان رضى اللّه عنه- و أول اختلاف وقع فى امر الخلافة كان من معاوية غفره اللّه تعالى و قال كُلًّا وَعَدَ اللّه الْحُسْنى - و أول اختلاف وقع فى الدين اختلاف الحرورية الذين خرجوا على على - ثم أوقع الخلاف و رفض الحق عبد اللّه بن سبا منشأ الروافض- ثم ظهر مذهب الاعتزال فى زمن التابعين فتشبثوا بأذيال الفلاسفة و اشتغلوا بقيل و قال و أحبوا كثرة الجدال و تركوا ظواهر كتاب اللّه المتعال و سنة نبيه و مذهب السلف اهل الكمال بتقليد آرائهم الكاسدة المنشئات الضلال- وَ اذْكُرُوا يا معشر الأنصار نِعْمَتَ اللّه عَلَيْكُمْ التي من جملتها الهداية للاسلام المودي الى التالف إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً قبل الإسلام فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بالإسلام فَأَصْبَحْتُمْ اى صرتم بِنِعْمَتِهِ برحمته و هدايته إِخْواناً فى الدين و الولاية و المحبة- قال محمد بن إسحاق و غيره من اهل الاخبار كانت الأوس و الخزرج أخوين لاب و أم فوقعت بينهما عداوة بسبب قتيل فتطاولت العداوة و الحرب بينهم مائة و عشرين سنة الى ان أطفاه اللّه بالإسلام و الف بينهم برسول اللّه صلى

(١) اى يتواقعون فى الأهواء الفاسدة و يتداعون فيها تشبيها بجرى الفرس- و الكلب بالتحريك داء معروف يعرض للكلب فمن عرضه قتله- نهايه- منه رحمه اللّه.

اللّه عليه و سلم و كان بدو إسلامهم و ألفتهم ان سويد بن الصامت أخا بنى عمرو بن عوف يسميه قومه الكامل القوة و الصبر- نهايه منه رح لجلده و نسبه قدم مكة حاجّا او معتمرا و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قد بعث و امر بالدعوة فتضدى له حين سمع به و دعاه الى ربه عز و جل و الى الإسلام فقال له سويد فلعل الذي معك مثل الذي معى فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ما الذي معك قال مجلة لقمان يعنى حكمته فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اعرضها علىّ فعرضها فقال ان هذا حسن و معى أفضل من هذا قران انزل اللّه عز و جل نورا و هدى فتلا عليه القران و دعاه الى الإسلام فلم يبعد منه و قال ان هذا القول حسن ثم انصرف الى المدينة فلم يلبث ان قتله الخزرج قبل يوم بعاث و ان قومه ليقولون قد قتل و هو مسلم ثم قدم ابو الحيسر انس بن رافع و معه فئة من بنى الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قوم من الخزرج فلما سمع بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أتاهم فجلس إليهم فقال هل لكم الى خير مما جئتم له قالوا و ما ذاك قال انا رسول اللّه بعثني الى العباد ادعوهم ان لا تشركوا باللّه شيئا و انزل علىّ الكتاب ثم ذكر لهم الإسلام و تلا عليهم القران- فقال إياس بن معاذ و كان غلاما حدثا اى قوم هذا و اللّه خير مما جئتم له فاخذ ابو الحيسر حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس و قال دعنا منك فلعمرى لقد جئنا لغير هذا فصمت إياس و قام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و انصرفوا الى المدينة و كانت وقعة بعاث بين الأوس و الخزرج ثم لم يلبث إياس بن معاذ ان هلك- فلما أراد اللّه عز و جل اظهار دينه و إعزاز نبيه خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى الموسم الذي لقى فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع فى كل موسم فلقى عند العقبة رهطا من الخزرج أراد اللّه بهم خيرا و هم ستة نفرا سعد بن زرارة- و عوف بن الحارث و هو ابن عفراء- و نافع بن مالك العجلاني- و عطية بن عامر- و عقبة بن عامر- و جابر بن عبد اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من أنتم قالوا نفر من الخزرج قال أمن موالى يهود قالوا نعم قال أ فلا تجلسون حتى أكلمكم قالوا بلى فجلسوا معه فدعاهم الى اللّه عز و جل و عرض عليهم الإسلام و تلا عليهم القران- قال و كان مما صنع اللّه لهم فى الإسلام و ان اليهود «١» كانوا معهم ببلادهم و كانوا اهل كتاب و علم و هم كانوا اهل أوثان و شرك و كانوا إذا كان بينهم شى ء قالوا ان نبيا الان مبعوث قد أظل زمانه نتبعه و نقتلكم معه قتل عاد ارم فلما كلم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أولئك النفر و دعاهم الى اللّه عز و جل قال بعضهم لبعض يا قوم تعلمون و اللّه انه النبي الذي توعدكم به اليهود فلا تسبقنكم اليه

(١) فى الأصل ان يهود كان.

فاجابوه و صدقوه و اسلموا و قالوا انا قد تركنا قوما و لا قوم بينهم من العداوة و الشر ما بينهم و عسى اللّه ان يجمعهم بك و سنقدم عليهم فندعوهم الى أمرك فان يجمعهم اللّه عليك فلا رجل أعز منك ثم انصرفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم راجعين الى بلادهم قد أمنوا فلما قدموا المدينة ذكروا لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و دعوهم الى الإسلام حتى فشا فيهم فلم يبق دار من دور الأنصار الا و فيها ذكر من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتى إذا كان العام المقبل اتى الموسم من الأنصار اثنا «١» عشر رجلا اسعد بن زرارة- و عوف و معاذ ابنا عفراء- و رافع بن مالك العجلاني- و ذكوان بن عبد القيس- و عبادة بن الصامت- و زيد بن ثعلبة- و عباس بن عبادة- و عقبة بن عامر- و عطية بن عامر فهولاء خزرجيون- و ابو الهيثم بن التيهان و عويمر بن الساعدة من الأوس فلقوه بالعقبة و هى العقبة الاولى فبايعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على بيعة النساء على ان لا تشركوا باللّه شيئا و لا تزنوا الى آخره فان وفيتم فلكم الجنة و ان غشيتم بشى ء من ذلك فاخذتم بحده فى الدنيا فهو كفارة له و ان ستر عليكم فامركم الى اللّه ان شاء عذبكم و ان شاء غفر لكم قال و ذلك قبل ان يعرض عليهم الحرب فلما انصرف القوم بعث معهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف و امره ان يقرائهم القران و يعلمهم الإسلام و يفقههم و كان مصعب يسمى بالمدينة المقرئ و كان منزله على اسعد بن زرارة- ثم ان اسعد بن زرارة خرج بمصعب فدخل به حائطا من حوائط بنى ظفر فجلسا فى الحائط و اجتمع إليهما رجال ممن اسلم فقال سعد بن معاذ لا سيد بن حضير انطلق الى هذين الرجلين الذين قد أتيا دارنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما فان اسعد ابن خالى و لو لا ذلك لكفيتك و كان سعد بن معاذ و أسيد بن حضير سيدى قومهما من بنى عبد الأشهل و هما مشركان فاخذ أسيد بن حضير حربته ثم اقبل الى مصعب و

(١) فى الأصل اثنى عشر.

اسعد و هما جالسان فى الحائط فلما راه اسعد بن زرارة قال لمصعب هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق اللّه تعالى فيه قال مصعب ان يجلس أكلمه قال فوقف عليهما متشتما فقال ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا اعتزلا ان كان لكما فى أنفسكما حاجة فقال له مصعب او تجلس فتسمع فان رضيت امرا قبلته و ان كرهته كف عنك ما تكره قال أنصفت ثم ركز حربته و جلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام

و قرا عليه القران فقال و اللّه لعرفنا فى وجهه الإسلام قبل ان يتكلم فى اشراقه و تسهله ثم قال ما احسن هذا و أجمله كيف تصنعون إذا أردتم ان تدخلوا فى هذا الدين قالا له تغتسل و تطهر ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلى ركعتين فقام و اغتسل و طهر ثوبيه و شهد شهادة الحق ثم قام فركع ركعتين ثم قال ان ورائي رجلا ان اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه و سارسله اليكما الان و هو سعد بن معاذ ثم أخذ حربته فلما وقف على النادي قال له سعد ما خلفت قال كلمت الرجلين فو اللّه ما رايت بهما بأسا و قد نهيتهما فقالا نفعل ما أحببت- و قد حدثت ان بنى حارثة خرجوا الى اسعد بن زرارة ليقتلوه و ذلك انهم عرفوا انه ابن خالك ليخفروك«١»

فقام سعد مغضبا مبادرا للذى ذكره من بنى حارثة فاخذ الحربة و قال و اللّه ما أراك أغنيت شيئا فلما راهما مطمئنين عرف ان أسيدا انما أراد ان يسمع منهما فوقف عليهما متشتما ثم قال لا سعد بن زرارة لو لا ما بينى و بينك من القرابة ما رمت اى ما قصدت- منه رح هذا منى تغشانا فى دارنا بما نكره و قد قال اسعد لمصعب جاءك و اللّه سيد قومه ان يتبعك لم يخالفك منهم أحد- فقال له مصعب او تقعد فتسمع فان رضيت امرا و رغبت فيه قبلته و ان كرهته عزلناك ما تكره قال سعد أنصفت ثم ركز الحربة فجلس فعرض عليه الإسلام

و قرا عليه القران فقالا فعرفنا و اللّه فى وجهه الإسلام قبل ان يتكلم فى اشراقه و تسهله ثم قال كيف تصنعون إذ أنتم أسلمتم و دخلتم فى هذا الدين قال تغتسل و تطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلى ركعتين فقام و اغتسل و طهر ثوبيه و شهد شهادة الحق و ركع ركعتين- ثم أخذ حربته فاقبل عامدا الى نادى قومه و معه أسيد بن حضير فلما راه قومه مقبلا قالوا نحلف باللّه لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم- قال يا بنى عبد الأشهل كيف تعلمون امرى فيكم قالوا سيدنا و أفضلنا رأيا و أيمننا نقيبة «٢»- قال فان كلام رجالكم و نسائكم علىّ حرام حتى تؤمنوا باللّه و رسوله قال فما امسى فى دار بنى عبد الأشهل رجل و لا امراة الا مسلم او مسلمة

(١) حفرت الرجل اى أجرته و حفظته و خفّرته إذ أكدت خفيرا و حاميا و تخفرت به إذا استجرت به و الخفارة الزمام و أخفرت الرجل إذ انقضت عهده و ذمامه و الهمزة فيه للازالة اى زالت خفارته- نهايه منه رحمه اللّه

(٢) النقيبة منحج الفعال مظفر المقال و النقيبة النفس و قيل الطبيعة و الخليقة- نهايه- منه رحمه اللّه-.

و رجع اسعد بن زرارة و مصعب الى منزل اسعد بن زرارة فاقام عنده يدعوا الناس الى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار الا و فيها رجال و نساء مسلمون الا ما كان من دار بنى امية بن زيد و حطمة و وائل و واقف و ذلك انه كان منهم ابو قيس ابن الاسلت الشاعر و كانوا يسمعون منه و يطيعونه فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الى المدينة و مضى بدر و أحد و الخندق- قالوا ثم ان مصعب بن عمير رجع الى مكة و خرج معه من الأنصار من المسلمين سبعون رجلا مع حجاج قومهم من اهل الشرك حتى قدموا مكة فواعدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم العقبة من اوسط ايام التشريق و هى بيعة العقبة الثانية قال كعب بن مالك و كان قد شهد ذلك فلما فرغنا من الحج و كانت الليلة التي واعدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و معنا عبد اللّه بن عمرو بن حرام ابو جابر أخبرناه و كنا نكتم من معنا من المشركين من قومنا أمرنا فكلمناه و

قلنا له يا أبا جابر انك سيد من ساداتنا و شريف من اشرافنا و انا نرغب بك عما أنت فيه ان تكون حطبا للنار غدا و دعوناه للاسلام فاسلم و أخبرناه بميعاد رسول اللّه صلى اللّه عليه فشهد معنا العقبة و كان نقيبا فبتنا تلك الليلة مع قومنا فى رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نتسلك مستخفين تسلك القطا حتى اجتمعنا فى الشعب عند العقبة و نحن سبعون رجلا و معنا امرأتان من نسائنا نسيبة بنت كعب أم عمارة احدى نساء بنى النجار و اسماء بنت عمرو بن عدى أم منيع احدى نساء بنى سلمة فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتى جاءنا و معه العباس بن عبد المطلب فقال يا معشر الخزرج (انما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها و اوسها) ان محمدا صلى اللّه عليه و سلم منا حيث قد علمتم و قد منعناه من قومنا ممن على مثل رأينا و هو فى عز فى قومه و منعة فى بلده و انه قد ابى الا الانقطاع إليكم و اللحوق بكم فان كنتم ترون انكم وافون له بما دعوتموه اليه و مانعوه ممن خالفه فانتم و ما تحملتم من ذلك و ان كنتم ترون انكم مسلموه و خاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الان فدعوه فانه فى عز و منعة قال فقلنا قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول اللّه و خذ لنفسك و لربك ما شئت قال فتكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فتلا القران و دعا الى اللّه تعالى و رغّب فى الإسلام ثم قال ابايعكم على ان تمنعونى مما تمنعون منه نساءكم و ابناءكم فاخذ البراء بن معرور بيده ثم قال و الذي بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع أزرنا «١» فبايعنا يا رسول اللّه فنحن اهل الحرب و اهل الحلفة ورثناها كابرا عن كابر قال فاعترض القول (و البراء يكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم) ابو الهيثم بن التيهان فقال يا رسول اللّه ان بيننا و بين الناس حبالا يعنى العهود و انا قاطعوها فهل عسيت ان فعلنا ذلك ثم أظهرك اللّه ان ترجع الى قومك و تدعنا فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثم قال لا الدم الدم و الهدم الهدم أنتم منى و انا منكم أحارب من حاربتم و أسالم من سالمتم و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اخرجوا الى منكم اثنى عشر نقيبا «٢» كفلاء على قومهم ككفالة حواريين لعيسى بن مريم فاخرجوا اثنى عشر نقيبا تسعة من الخزرج و ثلاثة من الأوس قال عاصم بن عمرو بن قتادة ان القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري يا معشر الخزرج هل تدرون على ما تبايعون هذا الرجل انكم تبايعون على حرب الأحمر و الأسود فان كنتم ترون انكم إذا نهكت اى اتلفت- منه رح أموالكم مصيبة و اشرافكم قتلى اسلمتموه فمن الان فهو و اللّه ان فعلتم خزى فى الدنيا و الاخرة و ان كنتم ترون انكم وافون له بما دعوتموه اليه على نهكة الأموال و قتل الاشراف فخذوه فهو و اللّه خير الدنيا و الاخرة قالوا فانا ناخذه على مصيبة الأموال و قتل الاشراف فما لنا بذلك يا رسول اللّه ان نحن وافينا قال الجنة قالوا ابسط يدك فبسطيده فبايعوه و أول من ضرب على يده البراء بن معرور ثم تتابع القوم فلما بايعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بانفذ صوت سمعته قط يا اهل الحباحب هل لكم فى مذمم و الصباة معه قد اجتمعوا على حربكم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هذا عدو اللّه هذا اسم شيطان- و هو الحية- منه ر ح ازبّ العقبة اسمع اى عدو اللّه انا و اللّه لا فرغن لك ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ارفضوا الى رحالكم فقال العباس بن عبادة بن نضلة و الذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن غدا على اهل منى «٣»

(١) نمنع أزرنا اى نساءنا و أهلنا كنى عنهن بالأزر و قيل أراد أنفسنا و قد يكنى عن النفس بالإزار- نهايه منه رح.

(٢) النقيب كالعريف على القوم المقدم عليهم الذي يتعرف اخبارهم و ينقب عن أحوالهم اى يفتش و قد جعل النبي صلى اللّه عليه و سلم كل واحد منهم نقيبا على قومه و جماعته ليأخذوا عليهم الإسلام و يعرفوهم شرائطه- نهايه منه رحمه اللّه.

(٣) فى الأصل على اهل منا-.

بأسيافنا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لم نؤمر بذلك و لكن ارجعوا الى رحالكم قال فرجعنا الى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا فلما أصبحنا غدت علينا جلة من قريش حتى جاءونا فى منزلنا فقالوا يا معشر الخزرج بلغنا انكم جئتم صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا و تبايعونه على حربنا و انه و اللّه ما حى من العرب ابغض إلينا ان تنشب الحرب بيننا و بينهم منكم قال فانبعث من هناك من مشركى قومنا يحلفون لهم باللّه ما كان من هذا شى ء و ما علمناه و صدقوا لم يعلموا و بعضنا ينظر الى بعض و قام القوم و فيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي و عليه نعلان جديدان فقلت له كلمة كانّى أريد ان أشرك القوم بها فيما قالوا يا جابرا ما تستطيع ان تتخذ و أنت سيد من ساداتنا مثل نعلى هذا الفتى من قريش- قال فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما الىّ قال و اللّه لتنتعلنهما- قال يقول ابو جابر مه و اللّه احفظت الفتى فاردد اليه نعليه- قال لا أردهما فال صالح و اللّه ان صدق الفال لا سلبنه- قال ثم انصرف الأنصار الى المدينة و قد شدّد العقد فلما قدموا المدينة اظهر الإسلام بها و بلغ ذلك قريشا فاذوا اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لاصحابه ان اللّه تعالى قد جعل لكم إخوانا و دارا تأمنون فيها و أمرهم بالهجرة الى المدينة و اللحوق بإخوانهم من الأنصار فاول من هاجر الى المدينة أخو سلمة بن عبد اللّه المخزومي ثم عامر بن ربيعة ثم عبد اللّه بن جحش ثم تتابع اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إرسالا الى المدينة فجمع اللّه اهل المدينة اوسها و خزرجها بالإسلام و أصلح ذات بينهم بنبيه محمد صلى اللّه عليه و سلم وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا طرف حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ اى متقاربين الوقوع فيها لم يكن بينكم و بين الوقوع فيها الا ان تموتوا على كفركم فَأَنْقَذَكُمْ اى اخلصكم اللّه بالإسلام مِنْها الضمير للحفرة او للنار او للشفا و تأنيثه لتأنيث المضاف اليه و لانه بمعنى الشفة فان شفا البير و شفتها طرفها كالجانب و الجانبة و أصله شفو فقلبت الواو الفا فى المذكر و حذفت فى المؤنث كَذلِكَ التبيين يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آياتِهِ دلائله لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) لتثبتوا على الهدى و تزدادوا فيه-.

١٠٤

وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ من للتبعيض لان الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر من فروض الكفاية و لانه لا يصلح له كل أحد حيث يشترط له شروط من العلم و التمكن على الاحتساب و طلب من الجميع خاطب الجميع و طلب فعل البعض ليدل على انه واجب على الكل حتى لو ترك الكل أثموا جميعا و لكن يسقط بفعل بعضهم و هذا شأن فروض الكفاية- و جاز ان يكون من للتبيين و يكون النهى عن المنكر واجبا على كل أحد و اقله ان ينكر بقلبه يعنى كونوا أُمَّةٌ يَدْعُونَ الناس إِلَى الْخَيْرِ يعنى خير العقائد و الأخلاق و الأعمال التي فيها صلاح الدين و الدنيا اخرج ابن مردوية عن ابى جعفر محمد الباقر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الخير اتباع القران و سنتى- قال السيوطي معضل عن عثمان انه قرا وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ و يستغيثون على ما أصابهم وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ-

قلت يعنى يدعون لدفع البلاء عن الناس وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ اى ما عرف من الشرع حسنه واجبا كان او مندوبا وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ يعنى ما أنكره الشرع من المحرمات و المكروهات عطف الخاص على العام إيذانا بفضله وَ أُولئِكَ يعنى الداعون الى الخير و الآمرون بالمعروف و الناهون عن المنكر هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) خاب و خسر من لم يفعل ذلك عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من راى منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه و ذلك أضعف الايمان- رواه مسلم و عن النعمان بن بشير قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مثل المدهن فى حدود اللّه و الواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم فى أسفلها و صار بعضهم فى أعلاها فكان الذي فى أسفلها يمر بالماء على الذين فى أعلاها فتاذوا به فاخذ فاسا فجعل ينقر أسفل السفينة فاتوه فقالوا مالك قال تاذيتم بي و لا بد لى من الماء فان أخذوا على يديه انجوه و نجّوا أنفسهم و ان تركوه اهلكوه و اهلكوا أنفسهم- رواه البخاري- و عن حذيفة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال و الذي نفسى بيده لتأمرون بالمعروف و لتنهون عن المنكر او ليوشكن اللّه تعالى ان يبعث عليكم عذابا من عنده ثم ليدعوا به فلا يستجاب لكم رواه الترمذي- و عن ابى بكر الصديق قال يا ايها الناس انكم تقرءون هذه الاية.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فانى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ان الناس إذا راو منكرا فلم يغيروه يوشك ان يعمهم اللّه بعذابه- رواه ابن ماجة و الترمذي و صححه و روى ابو داود نحوه و عن جرير بن عبد اللّه نحوه رواه ابو داود و ابن ماجة- و عن عدى بن عدى الكندي قال حدثنا مولى لنا انه سمع جدى يقول سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ان اللّه لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم و هم قادرون على ان ينكروه فلا ينكرون فاذا فعلوا ذلك عذب اللّه العامة و الخاصة رواه البغوي فى شرح السنة و عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لمّا وقعت بنو إسرائيل فى للعاصى نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم فى مجالسهم و أاكلوهم و شاربوهم فضرب اللّه قلوب بعضهم ببعض فلعنهم عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ- قال فجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و كان متكيا قال لا و الذي نفسى بيده حتى تاطروهم اى تعطفوا عليهم- نهايه- منه رح اطرا العطف- منه رح رواه الترمذي و ابو داود-

فان قيل هل يجب الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر بهذه الاية على من لا يأتى بالمعروف و يرتكب المنكر

قلنا نعم يجب عليه الأمر بالمعروف عبارة و إتيانه اقتضاء و النهى عن المنكر عبارة و الانتهاء عنه اقتضاء كيلا يلزمه قوله تعالى أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ و قوله تعالى لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّه أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ- عن اسامة بن زيد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى فى النار فتندلق اى تخرج من مكانه الأمعاء- منه اقتابه فى النار فيطحن فيها كطحن الحمار برحاء فيجتمع اهل النار عليه و يقولون اى فلان ما شأنك أ ليس كنت تأمرنا بالمعروف و تنهانا عن المنكر قال كنت أمركم بالمعروف و لم آته و أنهاكم عن المنكر و اتيه- متفق عليه و عن انس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال رايت ليلة اسرى بي رجالا يقرض شفاههم بمقاريض من نار قلت من هؤلاء يا جبرئيل قال هؤلاء خطباء من أمتك يأمرون بالبر و ينسون أنفسهم- رواه البغوي فى شرح السنة و البيهقي فى

١٠٥

شعب الايمان نحوه- وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا يعنى اليهود تفرقوا على ثنتين و سبعين فرقة وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الدلائل الواضحة القاطعة من الآيات المحكمة و الاخبار المتواترة المحكمة من الأنبياء و نحو ذلك كاجماع هذه الامة سواء كان ذلك الاختلاف فى اصول الدين كاختلاف اهل الأهواء مع اهل السنة او فى الفروع المجمع عليها كمسئلة غسل الرجلين و مسح الخفين فى الوضوء و خلافة الخلفاء الاربعة و احترز بهذا القيد عن اختلاف بالاجتهاد فى ما ثبت بالادلة الظنية فان الاختلاف فيها ضرورى ضرورة حطاء بعض المجتهدين فى الاجتهاد- فذلك الاختلاف بعد بذل الجهد بلا مكابرة و تعصب معفوّ بل هو رحمة و سعة للناس روى عبد بن حميد فى مسنده و الدارمي و ابن ماجة و العبد رى فى الجمع بين الصحيحين و ابن عساكر و الحاكم عن عمر بن الخطاب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سالت ربى عن اختلاف أصحابي من بعدي فاوحى اللّه يا محمد ان أصحابك عندى كالنجوم بعضها أقوى من بعض- و فى رواية بعضها أضوء من بعض و لكل نور فمن أخذ بشى ء مما هم عليه من اختلافهم فهو عندى على هدى- و رواه الدارقطني فى فضائل الصحابة و ابن عبد البر عن جابر و البيهقي فى المدخل عن ابن عباس- و روى البيهقي ايضا فى المدخل بسند ضعيف عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مهما أوتيتم من كتاب اللّه فالعمل به و لا عذر لاحد فى تركه فان لم يكن فى كتاب اللّه فسنة نبى ماضية فان لم يكن سنة نبى فما قال أصحابي ان أصحابي بمنزلة النجوم فى السماء فايها أخذتم به اهتديتم و اختلاف أصحابي لكم رحمة

و اخرج البيهقي فى المدخل و ابن سعد فى الطبقات عن القاسم بن محمد قال اختلاف اصحاب محمد رحمة لعباد اللّه و البيهقي عن عمر بن عبد العزيز نحوه وَ أُولئِكَ الذين تفرقوا بعد القواطع لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥)

١٠٦

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ التنوين عوض عن المضاف اليه يعنى تبيض وجوه المؤمنين وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ اى وجوه الكافرين او التنوين للتكثير اى وجوه كثيرة و يوم منصوب على الظرفية من الظرف المستقر اى لهم او بعظيم او باذكر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس انه قرا هذه الاية قال تبيض وجوه اهل السنة و تسود وجوه اهل البدعة- اخرج الديلمي فى مسند الفردوس بسند ضعيف عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال تبيض وجوه اهل السنة و تسود وجوه اهل البدع فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ يقال لهم أَ كَفَرْتُمْ بالقطعيات و تفرقتم فى الدين و اتبعتم تأويل المتشابهات بَعْدَ إِيمانِكُمْ بالنبي و الكتاب و الاستفهام للتوبيخ و التعجيب عن حالهم فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) و الاية فى اهل الأهواء من هذه الامة و من الأمم السابقة كذا قال ابو امامة و قتادة روى احمد و غيره عن ابى امامة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال هم الخوارج- و ايضا فى اهل الأهواء حديث اسماء بنت ابى بكر قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انى على الحوض حتى انظر من يرد علىّ منكم و سيؤخذ ناس دونى فاقول يا رب منى و من أمتي فيقال هل شعرت ما عملوا بعدك و اللّه ما برحوا يرجعون على أعقابهم- رواه البخاري و عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا و يمسى كافرا و يمسى مؤمنا و يصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل رواه مسلم و احمد و الترمذي- و قيل هذه الاية فى المرتدين- و قيل فى اهل كتاب كفروا برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعد ايمانهم بموسى و التورية او بعد ايمانهم بمحمد صلى اللّه عليه و سلم قبل مبعثه و قيل فى جميع الكفار كفروا بعد ما اشهدهم اللّه على أنفسهم او بعد ما تمكنوا من الايمان بالنظر الى الدلائل.

١٠٧

وَ أَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ يعنى اهل السنة فَفِي رَحْمَتِ اللّه يعنى الجنة و الثواب المخلد عبر عن الجنة بالرحمة تنبيها على ان المؤمن و ان استغرق عمره فى طاعة اللّه لا يدخل الجنة الا برحمته و فضله- عن عائشة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال سددوا و قاربوا و ابشروا فانه لا يدخل الجنة أحدا عمله قالوا و لا أنت يا رسول اللّه قال و لا انا الا ان يتغمدنى اللّه بمغفرة و رحمة- رواه الشيخان فى الصحيحين و احمد- و روى الشيخان عن ابى هريرة نحوه و لمسلم من حديث جابر لا يدخل أحدا منكم عمله الجنة و لا يجيره من النار و لا انا الا رحمة من اللّه و قد ورد هذا ايضا من حديث ابى سعيد رواه احمد و من حديث ابى موسى و شريك بن طارق رواهما البزار- و من حديث شريك بن طريق و اسامة بن شريك و اسد بن كرز رواها الطبراني و استشكل هذا مع قوله تعالى ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ و أجيب بان للجنة منازل و درجات ينال بالأعمال و ذلك محمل الاية و اما اصل دخولها و الخلود فيها بفضل و رحمته و ذلك معنى الأحاديث و يدل عليه قول ابن مسعود تجوزون الصراط بعفو اللّه و تدخلون الجنة برحمة اللّه و تقسمون المنازل بأعمالكم رواه هناد فى الزهد و ابو نعيم عن عون بن عبد اللّه مثله هُمْ فِيها اى فى الرحمة او الجنة خالِدُونَ (١٠٧) أخرجه مخرج الاستيناف للتأكيد كانّه فى جواب كيف يكونون فيها و للتنبيه على ان الرحمة نعمة و الخلود نعمة مستقلة.

١٠٨

تِلْكَ الآيات آياتُ اللّه الواردة فى وعده و وعيده نَتْلُوها عَلَيْكَ خبر بعد خبر متلبسة بِالْحَقِّ بحيث لا شبهة فيها وَ مَا اللّه يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) إذ لا يتصور منه الظلم لانه لا يجب عليه فعل شى ء و لا تركه فيظلم بترك ما وجب عليه لانه المالك على الإطلاق يتصرف فى ملكه كيف يشاء-

قلت و الظاهر ان المراد بالظلم هاهنا ما هو ظلم من العباد فيما بينهم و المعنى ان اللّه لا يريد ان ينقص ثواب من عمل خيرا بفضله و لا ان يزيد فى عذاب العاصي على قدر جريمته و الكفر باللّه تعالى أعظم الخطايا لا ذنب فوقه فيعذب بالنار المخلدة عذابا لا يكون عذاب فوقه جزاء وفاقا.

١٠٩

وَ للّه ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ خلقا و ملكا فهو تعليل لعدم ارادة الظلم على التأويل الاول و بيان لقدرته على اجراء وعده و وعيده على التأويل الثاني وَ إِلَى اللّه تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩) فيجازى كلا على حسب وعده و وعيده-

قال البغوي قال عكرمة ان مالك بن الضيف و وهب بن يهودا من اليهوديين قالا لابن مسعود و معاذ بن جبل و سالم مولى ابى حذيفة نحن أفضل منكم و ديننا خير مما تدعونا اليه فانزل اللّه تعالى.

١١٠

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ اضافة صفة الى موصوفه مثل اخلاق ثياب و المفضل منه محذوف يعنى كنتم امة خير الأمم كلها و كان تدل على ثبوت خبرها لاسمها فى الماضي و لا يدل على عدم سابق و لا انقطاع لاحق الا بقرينة خارجية قال اللّه تعالى و كان اللّه غفورا رحيما فهذه الجملة دلت على خيريتهم فيما مضى و يدل على خيريتهم فى الحال و الاستقبال قوله تعالى تأمرون إلخ و يحتمل ان يكون كنتم فى علم اللّه او فى الذكر فى الأمم السابقة خير امة أُخْرِجَتْ يعنى أظهرت و أوجدت و الخطاب اما للصحابة خاصة كذا قال جويبر عن الضحاك و روى عن عمر بن الخطاب قال كنتم خير امة يكون لا و لنا و لا يكون لاخرنا- و عن ابن عباس انهم هم الذين هاجروا مع النبي صلى اللّه عليه و سلم الى المدينة- و عن عمر انه قال لو شاء اللّه لقال أنتم و لكن قال كنتم فى خاصة اصحاب محمد صلى اللّه عليه و سلم و من صنع مثل صنيعهم «١» كانوا خير امّة أخرجت للنّاس- و اما لامة محمد صلى اللّه عليه و سلم عامة و كلا المعنيين ثابت بالنصوص و على كل منهما انعقد الإجماع فان امة محمد صلى اللّه عليه و سلم أفضل من الأمم كلها و الأفضل منهم قرن الصحابة رضوان اللّه عليهم أجمعين قال اللّه تعالى وَ لَقَدْ كَتَبْنا

(١) و عن قتادة عن عمر فى قوله تعالى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ انه تلا هذه الاية ثم قال يا ايها الناس من سرّه ان يكون فى الامة التي أخرجت للناس فليؤد شرط اللّه فيها- منه رحمه اللّه فى الأصل ملتبسة-.

فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ و قال ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا الاية و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الجنة حرمت على الأنبياء حتى أدخلها و حرمت على الأمم حتى يدخلها أمتي رواه الطبراني فى الأوسط بسند حسن عن عمر بن الخطاب و روى ايضا عن ابن عباس مرفوعا الجنة محرمة على جميع الأمم حتى أدخلها انا و أمتي الاول فالاول و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انى لارجو ان يكون من تبعني ربع اهل الجنة ثم قال أرجو ان يكون ثلث اهل الجنة ثم قال أرجو ان يكون الشطر رواه احمد و البزار و الطبراني بسند صحيح عن جابر و قال صلى اللّه عليه و سلم اهل الجنة عشرون و مائة صفا ثمانون منها من هذه الامة و الباقون من سائر الأمم رواه الترمذي و حسنه و الحاكم و صححه و روى الطبراني مثله من حديث ابى موسى و ابن عباس و معاوية بن جندة و ابن مسعود- و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انكم تتمون سبعين امة أنتم خيرها و أكرمها على اللّه عز و جل رواه الترمذي و حسنه و ابن ماجة و الدارمي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده و البغوي عن ابى سعيد الخدري نحوه و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مثل أمتي مثل المطر لا يدرى اوله خير أم آخره رواه الترمذي عن انس و رزين عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده نحوه و قال عليه السلام ان اللّه تجاوز عن أمتي الخطاء و النسيان و ما استكرهوا عليه رواه ابن ماجة و البيهقي و فى الفصل الثاني قوله صلى اللّه عليه و سلم خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجى ء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه و يمينه شهادته رواه الشيخان فى الصحيحين و الترمذي و احمد من حديث ابن مسعود و الطبراني نحوه و مسلم عن عائشة نحوه و الترمذي و الحاكم عن عمران بن حصين نحوه و قوله صلى اللّه عليه و سلم لا تسبوا أصحابي فلو ان أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم و لا نصيفه متفق عليه من حديث ابى سعيد الخدري و قوله عليه الصلاة و السلام ما من أحد من أصحابي يموت بأرض الا بعث قائدا و نور الهم يوم القيامة رواه الترمذي عن بريدة لِلنَّاسِ قيل هذا متعلق بخير امة قال ابو هريرة معناه خير الناس للناس يجيئون بهم فى السلاسل فتدخلونهم فى الإسلام أخرجه ابو عمرو-

قلت رجال هذه الامة اكثر إرشادا و أقوى تأثيرا فى الناس بالجذب الى اللّه تعالى من رجال الأمم السابقة و كان قطب ارشاد كمالات الولاية على عليه السلام ما بلغ أحد من الأمم السابقة درجة الأولياء الا بتوسط روحه رضى اللّه عنه ثم كان بتلك المنصب الائمة الكرام ابناؤه الى الحسن العسكري و عبد القادر الجيلي و من ثم قال و وقتى قبل قلبى قد صفالى و هو على ذلك المنصب الى يوم القيامة و من ثم قال شعرا:

فلت شموس الأولين و شمسناه ابدا على أفق العلى لا تغرب

و قيل للناس متعلق باخرجت يعنى أخرجت للناس تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ استيناف لبيان خيريتهم او خبرثان لكنتم او صفة ثانية لامة و المراد تفضيلهم على امم موصوفين بهذه الصفات يعنى كنتم امة كذلك خيرا من كل امة كذلك وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّه قيل المراد بالايمان باللّه الايمان بكل ما يجب ان يؤمن به لانه المعتد به يدل عليه قوله تعالى و لو أمن اهل الكتب مع كونهم مؤمنين باللّه و قوله عليه الصلاة و السلام فى حديث طلحة بن عبيد اللّه أ تدرون ما الايمان باللّه وحده قالوا اللّه و رسوله اعلم قال شهادة ان لا اله الا اللّه و ان محمدا رسول اللّه و اقام الصلاة و إيتاء الزكوة و صيام رمضان و ان تعطوا من المغنم الخمس متفق عليه و انما اخر ذكر الايمان و كان حق الايمان باللّه ان يقدم لقصد الاشعار على انهم أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر ايمانا باللّه و تصديقا لا رياء فصار كانه قيد للامر بالمعروف او لقصد ارتباط قوله وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ كلهم كما تؤمنون لَكانَ خَيْراً لَهُمْ فانهم يدخلون حينئذ فى خير الأمم قلت و جاز ان يكون المراد بالايمان باللّه الايمان الحقيقي يعنى تخلية القلب عما سواه و تزكية النفس عن الرذائل و تمرينه بالمحبة الصرفة التي لا تشوب فيها اقتضاء نفسه من الأغراض الدنيوية او الاخروية مِنْهُمُ اى من اهل الكتاب الْمُؤْمِنُونَ ايمانا يعتد به كعبد اللّه بن سلام و أصحابه

وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) الخارجون عن الايمان الى الكفر هذه الجملة مبيّنة لما سبق فان المطلوب ايمان الجميع و الموجود ايمان بعضهم دون أكثرهم و فيه دفع لسوء الظن بالمؤمنين منهم الذي نشاء من قوله تعالى و لو أمن إلخ.

١١١

لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً اى ضرارا يسيرا باللسان و نحوه قال مقاتل لمّا أراد رءوس اليهود السوء بمن أمن منهم عبد اللّه بن سلام و أصحابه انزل اللّه تعالى هذه الاية لتسليتهم وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ اليهود ايها المؤمنون يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ منهزمين و لا يضروكم بقتل او نهب او اسر ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) بل يكون النصر لكم عليهم هذه الاية بيان لقوله لن يضرّوكم و هو اخبار بالغيب و قد وقع كذلك على قريظة و النضير و بنى قينقاع و خيبر و فدك.

١١٢

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اى اليهود الذِّلَّةُ اى الهوان و ذلك بسلب العصمة عن دمائهم و أموالهم و أهليهم أَيْنَ ما ثُقِفُوا و جدوا إِلَّا متلبسين بِحَبْلٍ كائن مِنَ اللّه يعنى القران او دين الإسلام الحاكم بعدم تعرض الكفار المستأمنين و اهل الذمة قال اللّه تعالى وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ و قال حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ عهد من المؤمنين بالأمان بعد الاستيمان او عقد الذمة بعد قبول الجزية فالمراد بحبل اللّه و حبل الناس واحد و لو كان كل واحد منهما على حدة لكان الأنسب او مقام الواو- و المستثنى منصوب على الحالية يعنى ضربت عليهم الذلة فى جميع الأحوال الا فى حال الاستيمان او عقد الذمة وَ باؤُ اى رجعوا الى ما كانوا عليه من الموت او الحيوة بعد الموت قال اللّه تعالى كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بِغَضَبٍ مِنَ اللّه مستوجبين له وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ فهى محيطة بهم «١» احاطة البيت المضروب على اهله يعنى ضربت عليهم البخل و الحرص فان البخيل لا ينفق ماله و يكون دائما على هيئة المساكين و الحريص يكون دائما فى تعب و جدّ لطلب المال

قال البيضاوي اليهود غالبا فقراء مساكين ذلِكَ اى ما ذكر من ضرب الذلة و المسكنة و البوء بالغضب بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّه وَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ اى بسبب كفرهم و قتلهم الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ يعنى انهم يعرفون كونهم ظالمين غير محقين ذلِكَ الكفر و القتل بِما عَصَوْا ربهم تعنتا و عنادا عمدا لا خطأ وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢) حدود اللّه و قيل معناه ان ضرب الذلة فى الدنيا و استيجاب الغضب فى الاخرة كما هو معلل بكفرهم و قتلهم فهو مسبب على عصيانهم و اعتدائهم من حيث انهم مخاطبون بالفروع ايضا قلت و على هذا التأويل كان المناسب إيراد العاطف بين الاشارتين-

(١) فى الأصل به-.

اخرج ابن ابى حاتم و الطبراني و ابن مندة فى الصحابة عن ابن عباس قال لمّا اسلم عبد اللّه بن سلام و ثعلبة بن شعبة و أسيد بن تبيعة و اسد بن عبيد و من اسلم من يهود معهم فامنوا و صدقوا و رغبوا فى الإسلام قالت أحبار يهود و اهل الكفر منهم ما أمن بمحمد و تبعه الّا شرارنا و لو كانوا خيارنا ما تركوا دين ابائهم و ذهبوا الى غيره فانزل اللّه فى ذلك.

١١٣

لَيْسُوا سَواءً الى قوله مِنَ الصَّالِحِينَ

و اخرج احمد و النسائي و ابن حبان عن ابن مسعود قال اخر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صلوة العشاء ثم خرج الى المسجد فاذا الناس ينتظرون الصلاة فقال اما انه ليس من اهل هذه الأديان أحد يذكر اللّه هذه الساعة غيركم و أنزلت هذه الاية لَيْسُوا سَواءً يعنى ليست اليهود متساويين فيما ذكر من المساوى بل منهم على ضد ما ذكر بيانه قوله تعالى مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ فى الصلاة كما يدل عليه ما بعده- و قال ابن عباس اى مهتدية قائمة على امر اللّه لم يضيعوه-

و قال مجاهد عادلة من أقمت العود فقام- و قال السدى مطيعة قائمة على كتاب اللّه و حدوده و المراد بهذه الامة عبد اللّه بن سلام و أمثاله من اليهود يَتْلُونَ آياتِ اللّه اى القران حال من فاعل قائمة او صفة بعد صفة لامة آناءَ اللَّيْلِ اى ساعاته واحده انى ظرف للقيام و التلاوة وَ هُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) عطف على قائمة و جاز ان يكون حالا من فاعل قائمة و معناه و هم يصلون قال ابن مسعود المراد به صلوة العشاء لان اهل الكتاب لا يصلونها- و عن عبد اللّه بن عمر قال مكثنا ذات ليلة ننتظر الصلاة العشاء الاخرة فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل فلا ندرى الشي ء شغله او غير ذلك فقال حين خرج انكم تنتظرون صلوة ما ينتظرها اهل دين غيركم و لولا ان يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة ثم امر المؤذن فاقام الصلاة و صلى رواه مسلم قلت و الظاهر ان المراد به قيام الليل دون صلوة العشاء لان سياق الاية يقتضى كون دوام حالهم ذلك رقصة تأخير صلوة العشاء واقعة حال و نزول الاية فى تلك القصة لم يذكر فى الصحيح- و ايضا صيغة يتلون للجمع و التالي فى صلوة العشاء انما هو الامام دون القوم الا مجازا- و قال عطاء المراد بامة قائمة أربعون «١» رجلا من اهل نجران من العرب و اثنان «٢»

(١) فى الأصل أربعين.

(٢) فى الأصل اثنين-.

و ثلاثون «١» من الحبشة و ثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام و صدقوا محمّدا صلى اللّه عليه و سلم و كان من الأنصار فيهم عدة قبل قدوم النبي صلى اللّه عليه و سلم منهم اسعد بن زرارة و البراء ابن معرور و محمد بن مسلمة و محمود بن مسلمة و ابو قيس صرمة بن انس كانوا موحدين يغتسلون من الجنابة و يقومون لما عرفوا من شرائع الحنيفة حتى جاءهم اللّه بالنبي صلى اللّه عليه و سلم فصدقوه و نصروه.

(١) فى الأصل و ثلثين-.

١١٤

يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ لكمال خشيتهم و قصر أملهم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بادروا بالأعمال هرما ناغضا و موتا خالسا و مرضا حابسا و تسويفا مويسا- رواه البيهقي عن ابى امامة و قوله يؤمنون و ما عطف عليه صفات اخر لامة وصفهم بخصائص متضادة لخصائص اليهود فانهم كانوا منحرفين عن الحق نائمين غافلين بالليل و النهار مشركين باللّه ملحدين فى صفاته واصفين اليوم الاخر بخلاف ما هو عليه آمرون بالمنكر ناهون عن المعروف يسارعون فى الشرور وَ أُولئِكَ الموصوفون «٢» بتلك الصفات على وجه الكمال مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) ممن صلحت أجسادهم بصلاح قلوبهم و زكاء نفوسهم.

(٢) فى الأصل الموصوفين- [.....].

١١٥

وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ يعنى لن نضيعه و لن ننقص ثوابه سمى ذلك كفرانا كما سمى توفية الثواب شكرا و عدى الى المفعولين لتضمنه معنى الحرمان قرا حمزة و الكسائي و حفص بالياء على الغيبة اخبارا عن الامة القائمة على نسق ما سبق و الباقون بالتاء على نسق كنتم خير امّة و ابو عمرو يرى القرائتين جميعا وَ اللّه عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) تبشير و تعليل لقوله تعالى فلن يكفروه فان علم الكريم بحسنات عبده علة للاثابة و فيه اشعار بان الصالح و المتقى اسماء للموصوفين بالصفات المتقدمة.

١١٦

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللّه شَيْئاً مر تفسيره فى أوائل السورة وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ ملازموها هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦).

١١٧

َلُ ما يُنْفِقُونَ

ما مصدرية اى مثل انفاق الكفار عداوة للنبى صلى اللّه عليه و سلم او مفاخرة و بطرا كانفاق كفار قريش فى الحروب او تقربا كانفاق اليهود على علمائهم و كفار قريش للاصنام او رياء كانفاق المنافقين ي

ِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ

اى برد شديد كذا فى القاموس و حكى عن ابن عباس انها السموم الحارة التي تقتل صابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر و المعاصي أَهْلَكَتْهُ يعنى كما ان الريح المذكور تهلك الحرث كذلك انفاق الكفار أموالهم تهلكهم باستجلاب الانفاق عذاب اللّه إليهم او باستيصال أموالهم بلا منفعة فى الدنيا و لا فى الاخرة- و جاز ان يكون ما فى ما ينفقون موصولة و التشبيه مركبا أريد تشبيه القصة بالقصة و لذلك لم يبال بإدخال كلمة التشبيه على الريح دون الحرث و يجوز ان يراد تشبيه المال الذي أنفقوه و ضيعوه بالحرث المذكور و يقدر كمثل مهلك ريح و هو الحرث ما ظَلَمَهُمُ اللّه بذلك لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

(١١٧) بارتكاب انفاق أموالهم لا على وجه يفيدهم عند اللّه تعالى او بارتكاب ما استحق به اهل الحرث العقوبة- اخرج ابن جرير و ابن إسحاق عن ابن عباس قال كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من الجوار و الحلف فى الجاهلية فانزل اللّه تعالى.

١١٨

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً

البطانة السريرة و يقال الصاحب الذي يعرّفه الرجل أسراره ثقة به مِنْ دُونِكُمْ اى من دون المسلمين اى من هو ادنى منكم رتبة و أسفل فيه نعت للمسلمين بانهم هم الأعلون فى الدنيا و الاخرة و ارشاد على طلب الأعالي للمصاحبة دون الأداني فان العزلة خير من الجليس السوء و الجليس الصالح خير من العزلة- و صيغة من دونكم يشتمل اهل الأهواء ايضا من الروافض و الخوارج و غيرهم فلا يجوز مباطنتهم كما لا يجوز مباطنة الكفار و قوله من دونكم متعلق بقوله لا تتخذوا او ظرف مستقر صفة لبطانة اى لا تتخذوا من دون المسلمين بطانة او بطانة كائنة من دونهم لا يَأْلُونَكُمْ اى لا يقصرون اى من هو على غير دينكم لكم خَبالًا شرا و فسادا بل يبذلون جهدهم فيما يورثكم شرا و فسادا منصوب على انه مفعول ثان للايألونكم على تضمين معنى المنع او النقص او منصوب بنزع الخافض اى لا يألونكم فى الخبال وَدُّوا ما عَنِتُّمْ ما مصدرية اى تمنوا شدة الضر و المشقة بكم قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ حيث لا يتمالكون أنفسهم لفرط بغضهم فيقولون فيكم ما يسوءكم بلا اختيار و قصد وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ من البغضاء أَكْبَرُ مما يبدون لانهم يظهرون مودتكم مكرا و خديعة قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ الدالة على عداوتهم او على وجوب الإخلاص للّه و موالات المؤمنين و معادات الكفار و الجمل الاربعة «١» مستانفات على التعليل و يجوز ان يكون الثلاث الاول صفات لبطانة- و على كلا التقديرين التعليل بهذه الجمل او التقييد بها يفيد ان الكافر إذا لم يكن له عداوة مع مؤمن لاجل إيمانه و لا يقصد خبالا و كان بينه و بين مؤمن مودة لقرابة او غير ذلك لا بأس به كما كان بين النبي صلى اللّه عليه و سلم و بين ابى طالب و عباس قبل إسلامه عن عباس رضى اللّه عنه انه قال يا رسول اللّه هل نفعت أبا طالب بشى ء فانه كان يحومك او يغضب لك قال نعم هو فى الضحضاح فى الأصل ما اجتمع من الماء على وجه: الأرض ما يبلغ الكعبين فاستعير للنار- نهايه منه رح ضحضاح من نار و لولا انا لكان فى الدرك الأسفل من النار- رواه مسلم

و اخرج البزار مثله عن جابر و مسلم عن حذيفة و ابى سعيد الخدري إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) شرط استغنى عن الجزاء بما سبق يعنى فانتهوا عن موالاتهم و عادوهم او أخلصوا للّه و والوا المسلمين.

(١) فى الأصل الأربع-.

١١٩

ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ لقرابتهم منكم او لصداقتهم وَ لا يُحِبُّونَكُمْ لمخالفة فى الدين- ها للتنبيه عن غفلتهم فى خطائهم و أنتم مبتدا و أولاء خبره يعنى أنتم أولاء الخاطؤن فى محبة الكفار و ما بعده جملة مبينة لخطائهم قال الرضى الجملة الواقعة بعد اسم الاشارة لبيان المستغرب و لا محل لها من الاعراب و هى مستانفة- و

قال البيضاوي هو خبر ثان لانتم او خبر لاولاء و الجملة خبر أنتم و جاز ان يكون أولاء بمعنى الذي و ما بعده صلته و الموصول مع الصلة خبر أنتم و جاز ان يكون جملة تحبونهم حالا و العامل فيه معنى الاشارة و جاز ان يكون أولاء منادى بحذف حرف النداء و ما بعده خبر أنتم يعنى أنتم يا أولاء الخاطئون بموالات الكفار تحبونهم- و جاز ان يكون أولاء منصوبا بفعل يفسره ما بعده و الجملة خبر أنتم و المشار اليه باولاء الكفار و الواو فى و لا يحبّونكم للحال و المعنى ها أنتم ايها المؤمنون تحبون أولاء الكفار و الحال انهم لا يحبونكم وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ و اللام للجنس اى تؤمنون بجنس الكتب كله- او للعهد اى تؤمنون بالتورية كلها- و الجملة حال من مفعول لا يحبونكم بتقدير المبتدا حتى يصح الواو للحال تقديره و أنتم تؤمنون و تقديم المسند اليه على الخبر الفعلى للحصر يعنى الكفار لا يؤمنون و المعنى لا يحبونكم و الحال أنتم تؤمنون بكتابهم كله فما بالكم تحبونهم و هم لا يؤمنون بشى ء من كتابكم بل لا يؤمنون بكل التورية ايضا حيث ينكرون نعت النبي صلى اللّه عليه و سلم و فيه توبيخ بانهم فى باطلهم أصلب منكم فى حقكم وَ إِذا لَقُوكُمْ قالُوا نفاقا آمَنَّا كما أمنتم بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و بالقران وَ إِذا خَلَوْا الى أنفسهم عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ أجل الْغَيْظِ فى الصحاح الغيظ أشد غضب و هو الحرارة التي يجدها الإنسان فى ثور ان دم قلبه يعنى يعضون انا ملهم تأسفا و تحسرا حين يرون دولتكم و لا يجدون سبيلا الى اضراركم من أجل غيظهم عليكم او لكراهتهم قولهم أمنا و اضطرارهم اليه- و جاز ان يكون هذا مجازا عن شدة الغيظ و ان لم يكن ثمه عض قُلْ يا محمد او خطاب لكل مؤمن و تحريض لهم بعداوتهم و حث لهم بخطابهم خطاب الأعداء فانه اقطع للمحبة من جراحة السنان مُوتُوا ايها الكفار و المنافقون بِغَيْظِكُمْ قيل هذا دعاء عليهم بدوام الغيظ و زيادته بتضاعف قوة الإسلام و فيه ان المدعو عليه لا يخاطب بل اللّه سبحانه يخاطب فى الدعاء و الظاهر انه اخبار بانكم لن تروا ما يسركم و اعلام بانا مطلعون على عداوتكم إِنَّ اللّه عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) اى بامور ذات الصدور يعنى ما فى صدورهم من الغيظ و هو يحتمل ان يكون داخلا فى المقول اى قل لهم ان اللّه يعلم ما فى قلوبكم فيفضحكم فى الدنيا و يعذبكم فى الاخرة و لا يفيدكم اخفاؤكم- و جاز ان يكون خارجا عنه متصلا بما قبله كالجمل اللاحقة يعنى و ان لم تعلموا انهم لا يحبونكم و يعضون عليكم الأنامل فاللّه يعلم ذلك فعليكم اتباع ما أمركم اللّه به من البغض فى اللّه دون المحبة لاجل و صلات بينكم-.

١٢٠

إِنْ تَمْسَسْكُمْ ايها المؤمنون حَسَنَةٌ نعمة من ظهور الإسلام و غلبتكم على عدوكم و نيل الغنيمة و خصب فى المعاش تَسُؤْهُمْ تحزنهم ذلك حسدا و فى لفظا المس اشعار الى انهم يحزنون على ادنى حسنة أصابتكم وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ اى ما يسوءكم من إصابة عدو منكم او حدب او نكبة يَفْرَحُوا بِها شماتة بما أصابكم الجملة الشرطية بيان لتناهى عداوتهم متصلة بالشرطية السابقة و بينهما اعتراض وَ إِنْ تَصْبِرُوا على إذا هم او على المصائب كلها او على مشاق التكليف وَ تَتَّقُوا موالاتهم و غيرها مما حرم اللّه عليكم لا يَضُرُّكُمْ قرا اهل الكوفة و الشام بضم الضاد و الراء من الضرر مجزوم فى جواب الشرط و ضمة الراء للاتباع كضمة مد و اهل الحرمين و البصرة بكسر الضاد و سكون الراء للجزم من ضار يضير الأجوف كَيْدُهُمْ يعنى قصد الكفار اضراركم على سبيل الإخفاء شَيْئاً من الضر يعنى لا يضركم كيدهم بفضل اللّه و حفظه الموعود للصابرين و المتقين و لان المجد فى الأمر المتدرب بالاتقاء و الصبر يكون قليل الانفعال جريّا على الخصم و لان المؤمن يرجو فى المصيبة ثوابها الموعود فيفرح بها أشد مما يفرح فى النعمة و العاشق بعلمه ان ما أصابه انما هو من محبوبه يلتذّ بالمصيبة اكثر مما يلتذّ بالنعمة لان مراد المحبوب ألذّ عنده من مراد نفسه عن ابن عباس قال كنت خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوما فقال يا غلام احفظ اللّه يحفظك احفظ اللّه تجده تجاهك و إذا سالت فاسئل اللّه و إذا استعنت فاستعن باللّه و اعلم ان الامة لو اجتمعت على ان ينفعوك بشى ء لم ينفعوك الا بشى ء قد كتبه اللّه لك و لو اجتمعوا ان يضروك بشى ء لم يضروك الا بشى ء قد كتبه اللّه عليك رفعت الأقلام و جف الصحف- رواه احمد و الترمذي و قال حسن صحيح و عن ابى ذر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انى لا علم اية لو أخذ الناس بها لكفتهم وَ مَنْ يَتَّقِ اللّه يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ رواه احمد و ابن ماجة و الدارمي و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ربكم عز و جل لو ان عبيدى أطاعوني لاسقيت عليهم المطر بالليل و اطلعت عليهم الشمس بالنهار و لم أسمعهم صوت الرعد- رواه احمد و عن صهيب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عجبا لامر المؤمن ان امره له كله خير و ليس ذلك لاحد الا للمؤمن ان أصابته سراء شكر فكان خيرا له و ان أصابته ضراء صبر فكان خيرا له رواه مسلم

إِنَّ اللّه بِما يَعْمَلُونَ اى الكفار من اضرارهم بالمؤمنين مُحِيطٌ (١٣) بعلمه فيجازيهم عليه و يحفظكم عن اضرارهم ان شاء و يجازيكم على الضراء ان أراد بكم.

١٢١

وَ اذكر إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ تنزلهم و تسوّى و هى لهم مَقاعِدَ مواطن و مواقف من الميمنة و القلب و الساقة لِلْقِتالِ متعلق بتبوئ وَ اللّه سَمِيعٌ لاقوالهم عَلِيمٌ (١٣١) لنياتهم قال الحسن هو يوم بدر و قال مقاتل يوم الأحزاب- و قال سائر المفسرين و هو الصحيح انه هو يوم أحد اخرج ابن ابى حاتم و ابو يعلى عن المسور بن مخرمة انه قال لعبد الرحمن بن عوف أخبرني عن قصتكم يوم أحد قال اقرأ بعد العشرين و مائة من ال عمران تجد قصتنا و إذ غدوت من أهلك الى قوله إذ همّت طائفتن منكم ان تفشلا قال هم الذين طلبوا الامان من المشركين الى قوله وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ الاية قال هو تمنى المؤمنين لقاء العدو الى قوله أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ قال هو صاح الشيطان يوم أحد قتل محمد الى قوله أَمَنَةً نُعاساً قال القى عليهم النوم الى اخر «١» ستين اية (يعنى الى قوله تعالى وَ اللّه بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ و يتلوه قوله تعالى لَقَدْ سَمِعَ اللّه) قال ابن إسحاق رحمه اللّه و كان مما انزل اللّه تعالى فى يوم أحد يعنى فى شأن يوم أحد ستون اية من ال عمران فيها صفة ما كان فى يومهم ذلك و معاتبة من غاب منهم قال مجاهد و الكلبي و الواقدي غدا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من منزل عائشة رضى اللّه عنها فمشى على رجليه الى أحد فجعل يصف أصحابه للقتال كما يقوم القدح-

و اخرج ابن جرير و البيهقي فى الدلائل من طريق محمد بن إسحاق عن رجاله و رواه عبد الرزاق فى مصنفه عن معمر عن الزهري ان المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء ثانى عشر شوال سنة ثلاث من الهجرة و كانوا ثلاثة آلاف فاستشار رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أصحابه و دعا عبد اللّه بن ابى بن سلول و لم يدعه قط قبلها فقال هو و اكثر الأنصار أقم يا رسول اللّه بالمدينة لا تخرج إليهم فو اللّه ما خرجنا الى عدو منا قط الا أصاب منا و لادخلها علينا الا أصبنا منه فكيف و أنت فينا فدعهم فان أقاموا أقاموا بشر مجلس و ان دخلوا قاتلهم الرجال فى وجوههم و رماههم النساء و الصبيان بالحجارة من فوقهم

(١) فى الأصل الى الأخر.

و ان رجعوا رجعوا خائبين فاعجب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هذا الرأى و كان هذا رأى الأكابر من المهاجرين و الأنصار و قال حمزة بن عبد المطلب و سعد بن عبادة و النعمان بن مالك فى طائفة من الأنصار رضى اللّه عنهم (غالبهم احداث لم يشهدوا البدر و طلبوا الشهادة و أحبوا إلقاء العدو و أكرمهم اللّه بالشهادة يوم الأحد) اخرج بنا يا رسول اللّه الى هذه الا كلب لا يرون انا حببنا عنهم و ضعفنا- و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انى رايت فى منامى بقرا فاولتها خيرا و رايت فى ذباب سيفى ثلما فاولتها هزيمة و رايت انى ادخلت يدى فى درع حصينة فاولتها المدينة فان رايتم ان تقيموا بالمدينة و كان يعجبه ان يدخلوا عليهم المدينة فيقاتلوهم فى الازقة- روى احمد و النسائي و الدارمي بسند صحيح بلفظ رايت فى درع حصينة و رايت بقرا تنحر فاولت ان الدرع الحصينة المدينة و ان البقر خير و اللّه- و روى البزار و الطبراني عن ابن عباس قال لما نزل ابو سفيان و أصحابه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لاصحابه انى رايت فى المنام سيفى ذا الفقار انكسر و هى مصيبة و رايت بقرا تذبح و هى مصيبة و رايت علىّ درعى و هى مدينتكم لا يصلون إليها ان شاء اللّه قال ابن إسحاق و ابن عقبة و ابن سعد و غيرهم كانت هذه الرؤيا ليلة الجمعة- قال عروة و كان الذي راى بسيفه ما أصاب وجهه- و قال ابن هشام و اما الثلم فى السيف فرجل من اهل بيتي يقتل و فى رواية ثم هززته يعنى السيف مرة اخرى فعاد احسن ما كان فاذا هو ما جاء اللّه به من الفتح- و قال حمزة و الذي انزل عليك لا اطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسيفى خارج المدينة و كان يوم الجمعة صائما و يوم السبت صائما- و قال «١» النعمان بن مالك يا رسول اللّه لا تحرمنا الجنة فو الذي نفسى بيده لادخلنها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لمن قال انى أحب اللّه و رسوله و فى لفظ اشهد ان لا اله الا اللّه و انك رسول اللّه و لا أفر يوم الزحف فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صدقت فاستشهد يومئذ و حث مالك بن سنان الخدري و إياس بن عتيك على الخروج للقتال- فلما أبوا الا ذلك صلى الجمعة بالناس فوعظهم و أمرهم بالجد و الاجتهاد و أخبرهم ان لهم النصر ما صبروا ففرح الناس بالشخوص الى عدوهم و كره ذلك المخرج بشر كثير و صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم العصر بالناس و حضر اهل العوالي و رفعوا النساء فى الآطام و دخل بيته و معه ابو بكر و عمر و قد صف الناس له

(١) فى الأصل و قال و قال.

ما بين حجرته الى منبره ينتظرون خروج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فجاء سعد بن معاذ و أسيد بن حضير فقال للناس استكرهتم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قلتم له ما قلتم و الوحى ينزل اليه من السماء فردوا الأمر اليه فما أمركم به فافعلوا فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قد لبس لامته و لبس الدرع اى السلاح- منه رح فاظهرها و حزم وسطه بمنطقة من حمائل السيف من آدم و اعتم و تقلد السيف- و ندم الناس على إكراهه فقالوا يا رسول اللّه استكرهناك و لم يكن لنا ذلك فان شئت فاقعد فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قد دعوتكم الى هذا الحديث فابيتم و ما ينبغى لنبى إذا لبس لامته ان يضعها حتى يقاتل انظروا ما أمركم به فاتبعوه امضوا على اسم اللّه فلكم النصر ما صبرتم و وجد مالك بن عمرو النجاري قد مات و وضعوه عند موضع الجنائز فصلى عليه ثم خرج ثم ركب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فرسه السكب و تقلد القوس و سعد بن عبادة و سعد بن معاذ و كل منهما دارع و الناس عن يمينه و شماله حتى «١» إذا انتهى الى رأس الثنية رأى كتيبة خشنا لها رحل فقال ما هذا قالوا «٢» هؤلاء حلفاء عبد اللّه بن ابى من اليهود فقال اسلموا فقيل لا فقال انا لا نستنصر باهل الشرك على اهل الشرك و سار رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فعسكر بالشيخين و هما اطمان- و عرض «٣» على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عسكر فاستصغر غلمانا فردهم رد سبعة عشر و هم أبناء اربعة عشر و عرضوا عليه و هم أبناء خمسة عشر فاجازهم منهم عبد اللّه بن عمر و زيد بن ثابت و اسامة بن زيد و زيد بن أرقم و البراء بن عاذب و ابو سعيد الخدري و أوس بن ثابت الأنصاري- و أجاز رافع بن خديج بعد الرد لما قيل انه رام فقال سمرة بن جندب أجاز رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رافع بن خديج وردنى و انا اصرعه فاعلم بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال تصارعا فصرع سمرة رافعا فاجازه- فلما فرغ العرض و غابت الشمس اذن بلال بالمغرب فصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بأصحابه ثم اذن بالعشاء فصلى بهم و بات بالشيخين و استعمل على الحرس تلك الليلة محمد بن مسلمة فى خمسين رجلا يطوفون بالعسكر و نام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتى كان السحر فصلى الصبح ثم قال اين الأدلاء من رجل يخرج بنا من كثب لا يمر بنا عليهم فقام ابو خثيمة

(١) فى الأصل حتى انتهى.

(٢) فى الأصل قال.

(٣) فى الأصل و عرض رسول اللّه.

الحارثي فقال انا يا رسول اللّه فسلك به فى حرة بنى حارثة و بين أموالهم حتى سلك فى مال لمربع بن قنطى و كان منافقا ضرير البصر فلما سمع حس رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و من معه من المسلمين قام يحثو التراب فى وجوههم و يقول ان كنت رسول اللّه فانى لا أحل لك ان تدخل حائطى و أخذ حفنة من تراب ثم قال و اللّه لو اعلم انى لا أصيب غيرك لضربت بها وجهك- فابتدر لا القوم ليقتلوه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر و قد بدر اليه سعد بن زبدة الأشهلي قبل نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فضربه بالقوس فشجه- و كان رسول اللّه خرج الى أحد فى الف رجل و قيل فى تسعمائة و خمسين رجلا فلما بلغوا بالمهملات الخلط اى مقام خلط العسكرين- منه رح السوط انحزل عبد اللّه بن ابى بثلث الناس و رجع فى ثلاثمائة و قال علام نقتل أنفسنا و أولادنا فتبعهم ابو جابر السلمى فقال أنشدكم فى نبيكم و فى أنفسكم فقال عبد اللّه بن ابى لو نعلم قتالا لاتّبعنكم و بقي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى سبعمائة و فرسه و فرس لابى بردة و قال ابن عقبة لم يكن مع المسلمين فرس- و همت بنوا سلمة من الخزرج و بنوا حارثة من الأوس و كانا جناحى العسكر بالانصراف مع عبد اللّه بن أبيّ فعصمهم اللّه فلم ينصرفوا فذكّرهم اللّه تعالى عظيم نعمته و قال.

١٢٢

إِذْ هَمَّتْ بدل من قوله إذ غدوت او ظرف عمل فيه سميع عليم طائِفَتانِ يعنى بنى حارثة و بنى سلمة مِنْكُمْ فيه تعريض على ابن أبيّ انهم ليسوا منكم و لذا لم يذكر رجوعهم أَنْ تَفْشَلا اى ان تجبنا و تضعفا وَ اللّه وَلِيُّهُما اى محبهما او المعنى عاصمهما عن اتباع تلك الخطرة او المعنى و اللّه ناصرهما و متولى أمرهما فما لهما تفشلان و لا يتوكلان وَ عَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) و تقديم الظرف للحصر يعنى فليتوكلوا عليه لا على غيره فلا يفشلوا بفرار المنافقين عن جابر بن عبد اللّه قال فينا نزلت هذه الاية- قالوا ما سرّنا انا لم نهم بالذي هممنا به و قد اخبر اللّه تعالى انه ولينا- ثم ذكّرهم ما يوجب التوكل مما يسّر لهم اللّه من الفتح يوم بدر و هم فى حالة قلة و ذلة فقال.

١٢٣

وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه بِبَدْرٍ الأكثرون على ان بدرا اسم لموضع بين مكة و المدينة و قيل اسم لبير هناك قيل كانت بدر بيرا «١» الرجل يقال له بدر قاله الشعبي و أنكره الآخرون وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ جمع ذليل حال من الضمير- و انما قال اذلة و لم يقل ذلائل ليدل على قلتهم مع ذلتهم لضعف الحال و قلة المراكب و السلاح فانهم كانوا ثلاثمائة رجل «٢» و معهم سبعين بعيرا يعتقبون عليها و فرسان فرس لمقداد و فرس لزبير بن العوام فَاتَّقُوا اللّه فى الثبات لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) ما أنعم به عليكم بتقواكم من نصره او لعلكم بنعم اللّه عليكم فتشكرون فوضع الشكر موضع الانعام لانه سببه و فيه تنبيه

(١) فى الأصل بير-.

(٢) فى الأصل رجلا-.

على انه لا بد ان يكون نظر العبد فى الانعام على الشكر و انه انما يرغب فى الانعام لانه وسيلة للشكر.

١٢٤

إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ ظرف لنصركم على ما قال قتادة انه كان هذا يوم بدر أمدهم اللّه تعالى بألف من الملائكة كما قال فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف كما ذكر هاهنا- اخرج ابن ابى شيبة فى المصنف و ابن ابى حاتم عن الشعبي انه بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و المسلمين يوم بدر ان كرز بن جابر المحاربي يريد ان يمد المشركين فشق ذلك عليهم فانزل اللّه تعالى أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) قرا ابن عامر بفتح النون و تشديد الزاء من التفعيل على التكثير هاهنا و فى العنكبوت انّا منزلون و الآخرون بسكون النون و التخفيف من الانزال استفهام لانكار ان لا يكفيهم ذلك- وجئ بلن اشعارا بانهم كانوا كالايسين من النصر لضعهم و قلتهم و قوة العدو و كثرتهم.

١٢٥

بَلى إيجاب لما بعد لن اى بلى يكفيهم ذلك- ثم وعدهم بالزيادة بشرط الصبر و التقوى حثّا عليهما و تقوية لقلوبهم إِنْ تَصْبِرُوا على القتال وَ تَتَّقُوا خلاف ما يأمركم به رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وَ يَأْتُوكُمْ اى المشركون مِنْ فَوْرِهِمْ هذا اى من ساعتهم هذه و هو فى الأصل مصدر فارت القدر فورا إذا غلت فاستعير للسرعة ثم اطلق للحال التي لا تراخى عنه و المعنى ان يأتوكم فى الحال حال ضعفكم و قوتهم-

قلت الظاهر ان التقييد بالفور لا مفهوم له بل للترقى و المعنى ان يأتوكم بالتراخي بعد ما تقوون على قتالهم ينصركم اللّه بالطريق الاولى و ان يأتوكم من فورهم هذا ايضا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ الامداد اعانة الجيش بالجيش بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) روى ابن ابى شيبة و ابن ابى حاتم عن الشعبي انه بلغت كرزا الهزيمة فلم يمد المشركين فلم يمد المسلمين بخمسة آلاف و اللّه اعلم- قرا ابن كثير و ابو عمرو و عاصم مسوّمين بكسر الواو على وزن اسم الفاعل و الباقون بالفتح على وزن اسم المفعول من التسويم بمعنى الاعلام «١» قال قتادة و الضحاك كانوا قد اعلموا بالعهن فى نواصى الخيل و إذ نابها-

و اخرج ابن ابى شيبة فى المصنف

(١) اخرج الطبراني و ابن مردوية بسند ضعيف عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى قوله تعالى مسومين اى معلمين قال ابن عباس كان سماء الملائكة يوم بدر عمائم سود و يوم أحد عمائم حمر- منه رحمه اللّه.

عن عمرو بن إسحاق مرسلا انه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لاصحابه يوم بدر تسوّموا فان الملائكة قد تسوّمت بالصوف الأبيض فى قلانسهم و مغافرهم «١»- و كذا اخرج ابن جرير و زاد و قال و هو أول يوم وضع فيه الصوف او بمعنى الاسامة يعنى الإرسال يعنى مرسلين قال عروة بن الزبير كانت الملائكة على خيل بلق عليهم عمائم صفر- و قال على و ابن عباس رضى اللّه عنهم كانت عليهم عمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم- و قال هشام بن عروة و الكلبي عليهم عمائم صفر مرخاة على أكتافهم- قال قتادة فصبروا يوم بدر و اتقوا فامدهم بخمسة آلاف كما وعد- و قال الحسن فهؤلاء الخمسة آلاف ردء للمؤمنين الى يوم القيامة يعنى بشرط الصبر و التقوى و قال ابن عباس و مجاهد لم يقاتل الملائكة فى المعركة الا يوم بدر و فيما سوا ذلك يشهدون القتال و لا يقاتلون انما يكونون عددا و مددا- و قال جماعة وعد اللّه المسلمين يوم بدر ان صبروا على طاعته و اتقوا محارمه ان يمدهم فى حروبهم كلها فلم يصبروا الا فى يوم الأحزاب- فامدهم حين حاصروا قريظة و النضير- قال عبد اللّه بن ابى اوفى كنا محاصرى قريظة و النضير ما شاء اللّه تعالى فلم يفتح لنا فرجعنا فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بغسل فهو يغسل رأسه إذ جاءه جبرئيل عليه السلام فقال وضعتم أسلحتكم و لم يضع الملائكة أوزارها فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بخرقة فلف بها رأسه و لم يغسله ثم نادى فينا فقمنا حتى اتينا قريظة و النضير فيومئذ امدّنا اللّه تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة ففتح لنا فتحا يسيرا- و قال الضحاك و عكرمة كان قوله تعالى إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ الاية حكاية عن يوم أحد وعدهم المدد ان صبروا و اتقوا فلم يصبروا و خالفوا الرسول صلى اللّه عليه و سلم فلم يمدوا و على هذا قوله تعالى إِذْ تَقُولُ بدل ثان من إذ غدوت-

و قال مجاهد و الضحاك معنى قوله تعالى من فورهم من غضبهم هذا لانهم انما رجعوا للحرب يوم أحد من غضبهم ليوم بدر و قد امدّ اللّه تعالى رسوله فى تلك الوقعة بجبرئيل و ميكائيل لصبره و تقواه عن سعد بن ابى وقاص قال رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوم أحد و معه رجلان يقاتلان عنه عليهما ثياب بيض كاشد القتال ما رايتهما قبل و لا بعد متفق عليه و الرجلان جبرئيل و ميكائيل- قال محمد بن إسحاق لما كان يوم أحد

(١) المغفر هو ما يلبسه الدارع على رأسه من الرادع- منه رحمه اللّه.

انجلى القوم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و بقي سعد بن مالك يرمى و فتى شاب ينبل له فلما فنى النبل أتاه به جبرئيل فنثره فقال ارم أبا إسحاق مرتين فلما انجلت المعركة سئل عن ذلك الرجل فلم يعرف.

١٢٦

وَ ما جَعَلَهُ اللّه اى ما جعل امدادكم بالملائكة إِلَّا بُشْرى اى بشارة لَكُمْ بالنصر وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ «١» فلا تجزعون من كثرة أعدائكم و قلتكم فان الإنسان معتاد بتشبث الأسباب فيطمئن قلبه عند ملاحظة الأسباب بالنصر عند كثرة الأعوان وَ مَا النَّصْرُ فى الحقيقة إِلَّا مِنْ «٢» عِنْدِ اللّه لا من العدة و العدد لان الأسباب كلها عادية و افعال العباد بشرا كان او ملائكة مخلوقة للّه تعالى الْعَزِيزِ الغالب الذي لا يغلب عليه أحد الْحَكِيمِ (١٢٦) الذي ينصر او يخذل بوسط و بغير وسط على مقتضى الحكمة تفضلا من غير ان يجب عليه شى ء.

(١) فى الأصل به قلوبكم.

(٢) عن عياض الأشعري قال شهدت اليرموك و علينا خمسة أمراء ابو عبيدة و يزيد بن ابى سفيان و ابن حسنة و خالد بن الوليد و عياض و ليس عياض هذا قال و قال عمر إذا كان قتالا فعليكم ابو عبيدة فكتبنا اليه انه قد جاء إلينا الموت فاستمددناه فكتب إلينا انه قد جاءنى كتابكم تستمدونى و انى أدلكم على من هو أعز نصرا و احضر جندا اللّه عز و جل فاستنصروه فان محمدا صلى اللّه عليه و سلم قد نصر يوم بدر فى اقل من عدتكم فاذا جاءكم كتابى هذا فقاتلوهم و لا تراجعونى فقاتلناهم فهزمنا اربع فراسخ- منه رح.

١٢٧

لِيَقْطَعَ متعلق بقوله لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه او بقوله يمددكم او بقوله و ما النّصر ان كان اللام للعهد طَرَفاً اى طائفة مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فى القاموس الطرف الناحية و طائفة من الشي ء و الرجل الكريم يعنى نصركم لكى يهلك جماعة منهم فقتل من قادتهم و سادتهم يوم بدر سبعون و اسر سبعون- و من حل الاية على حرب أحد فقال قد قتل منهم يومئذ ستة عشر و كانت النصرة للمؤمنين حتى خالفوا امر رسول اللّه صلى اللّه عليه فانقلب عليهم أَوْ يَكْبِتَهُمْ فى الصحاح الكبت الرد بعنف و فى القاموس كبته يكبته صرعه و أخزاه و صرفه و كسر؟؟؟ رد العدو بغيظة و اذلة قلت و هذه المعاني كلها لازمة للّهزيمة و كلمة او للتنويع لا للترديد يعنى نصركم لكى يهلك طائفة من الكفار و يهزم سائرهم فَيَنْقَلِبُوا الى بلادهم خائِبِينَ (١٢٧) لم ينالوا شيئا مما أرادوا- روى مسلم و احمد عن انس ان النبي صلى اللّه عليه و سلم كسرت رباعيته يوم أحد و شج وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال كيف يصلح قوم فعلوا هذا بنبيهم و هو يدعوهم الى ربهم فانزل اللّه تعالى.

١٢٨

لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ شى ء اسم ليس و لك خبره و اللام بمعنى الى كما فى قوله مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ و من الأمر حال من شى ء روى احمد و البخاري عن ابن عمر قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول اللّهم العن فلانا و فى رواية اللّهم العن أبا سفيان اللّهم العن الحرث بن هشام اللّهم العن سهيل بن عمرو اللّهم العن صفوان بن امية فنزلت هذه الاية الى آخرها فتيب عليهم كلهم و روى البخاري عن ابى هريرة نحوه قال الحافظ ابن حجر طريق الجمع انه صلى اللّه عليه و سلم دعا على المذكورين فى صلاته بعد ما وقع له من الأمر المذكور يوم أحد فنزلت الاية فى الامرين معا فيما وقع له و فيما نشأ عنه من الدعاء عليهم- و قال سعيد بن المسيب و محمد بن إسحاق لما راى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و المسلمون يوم أحد ما نال أصحابهم من جزع الاذان و الأنوف و قطع المذاكير قالوا لئن انا لنا اللّه منهم لنفعلن بهم مثل ما فعلوا و لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد فانزل اللّه تعالى هذه الاية- و قيل أراد النبي ان يدعوا عليهم بالاستيصال فنزلت هذه الاية و ذلك لعلمه تعالى فيهم بان كثيرا منهم يسلمون لكن يشكل ما رواه مسلم من حديث ابى هريرة انه صلى اللّه عليه و سلم كان يقول فى الفجر اللّهم العن رعلا و ذكوان و عصية حتى انزل اللّه تعالى هذه الاية فان قصة رعل و ذكوان كان بعد ذلك و هم اهل بير معونة بعث إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سبعين رجلا من القراء ليعلموا الناس القران و العلم أميرهم المنذر بن عمرو- فقتلهم عامر بن الطفيل فوجد من ذلك وجدا شديدا و قنت شهرا فى الصلوات كلها يدعو على جماعة من تلك القبائل باللعن و السنين- قال الحافظ ثم ظهرت لى علة فى حديث ابى هريرة هذه و ان فيه إدراجا فان قوله حتى انزل اللّه منقطع من رواية الزهري عمّن بلغه بيّن ذلك مسلم و هذا البلاغ لا يصح- و يحتمل ان يقال ان قصة رمل و ذكوان كان عقيب غزوة أحد باربعة أشهر فى صفر سنة اربع من الهجرة فلعلها نزلت فى جميع ذلك و تأخير نزول الاية عن سبب نزولها قليلا غير مستبعد- و ورد فى سبب نزول الاية ايضا ما أخرجه البخاري فى تاريخه و ابن إسحاق عن سالم بن عبد اللّه بن عمر قال جاء رجل من قريش الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال انك تنهى عن الشي ء ثم تحول فحول قفاه الى النبي صلى اللّه عليه و سلم و كشف استه فلعنه و دعا عليه فانزل اللّه تعالى هذه الاية ثم اسلم الرجل فحسن إسلامه و هو مرسل غريب أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ان اسلموا أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فى الدنيا بالقتل و الاسر و فى الاخرة بالنار ان أصروا على الكفر فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) تعليل للتعذيب قال الفراء كلمة او فى قوله او يتوب عليهم بمعنى حتى و قال ابن عيسى انها بمعنى الّا ان كقولك لا لزمنك او تعطينى حقى يعنى ليس مفوضا إليك من أمرهم من التعذيب او الانجاء شى ء حتى يتوب اللّه عليهم بإسلامهم فتفرح به او يعذبهم بظلمهم فتشفى منهم- و قيل يحتمل ان يكون او يتوب عليهم معطوفا على الأمر او على شى ء بإضمار ان و المعنى ليس لك من أمرهم او من التوبة عليهم او من تعذيبهم شى ء انما أنت عبد مامور بانذارهم و جهادهم و الأمر كله للّه قال التفتازانيّ فهو من قبيل عطف الخاص على العام و فى مثله بكلمة او نظر و أجيب بان هذا إذا كان الأمر بمعنى الشأن- و لك ان تجعل الأمر بمعنى التكليف و الإيجاب- و المعنى ليس ما تأمر به من عندك و ليس الأمر و إيجاب الواجبات بيدك و لا التوب عليهم و لا التعذيب قلت و لو كان نزول الاية متصلا بما قبله فالظاهر ان يكون قوله او يتوب عليهم معطوفا على قوله او يكبتهم و المعنى نصركم اللّه ببدر ليقطع و يهلك طائفة من الذين كفروا بالقتل او يكبت طائفة منهم بالهزيمة او يتوب على طائفة منهم بالإسلام او يعذب طائفة منهم بالأسر و أخذ الفدية فهو بيان لانواع احوال الكفار و قوله لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ جملة معترضة لمنعه عن الدعاء عليهم.

١٢٩

وَ للّه ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ خلقا و ملكا فله الأمر كله لا لغيره يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ مغفرته بفضله بعد توفيقه للاسلام سواء تاب او لم يتب وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه صريح فى نفى وجوب التعذيب عليه وَ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩) فلا تبادر بالدعاء عليهم- اخرج الفرياني عن مجاهد قال كانوا يتبايعون الى الاجل فاذا حل الاجل زادوا عليهم و زادوا فى الاجل فنزلت.

١٣٠

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً اى زيادات مكررة فهو نهى عن الربوا مع توبيخ على ما كانوا يعملونه لا للاحتراز وَ اتَّقُوا اللّه فيما نهيتم عنه من الربوا و غيره لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) راجين الفلاح.

١٣١

وَ اتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١)

قال البيضاوي فيه تنبيه على ان النار بالذات معدة للكافرين و بالعرض لعصاة المؤمنين-

قلت و الظاهر ان النعت للتخصيص و النار المعدة للكافرين مغائرة للنار المعدة للعصاة فيكون فيه اشارة الى ان أكل الربوا يوجب قساوة القلب بحيث ربما يفضى الى الكفر و يؤيده ما فى المدارك انه كان ابو حنيفة رحمه اللّه يقول هى أخوف اية فى القران حيث أوعد اللّه المؤمنين بالنار المعدة للكافرين ان لم يتقوه فى اجتناب محارمه و قد أمد ذلك بما اتبعه من تعليق رجاء المؤمنين لرحمته بتوفرهم على طاعته و طاعة رسوله بقوله.

١٣٢

وَ أَطِيعُوا اللّه وَ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) راجين رحمته و على كلا التأويلين يعنى سواء كانت النار بالذات معدة للكافرين و بالعرض للعصاة او كانت النار المعدة للكافرين مغائرة للنار المعدة للعصاة فى هذه الاية رد على المرجئة حيث قالوا لا يضر مع الايمان معصية قال اكثر المفسرين ان لعل و عسى من اللّه تعالى للتحقيق و الظاهر انه لا يفيد الوجوب بل يفيد الرجاء مع بقاء الخوف و

قال البيضاوي ان لعل و عسى فى أمثال ذلك دليل على عرة التوصل الى ما جعل خبرا له.

١٣٣

وَ سارِعُوا معطوف على أطيعوا قرا نافع و ابن عامر بحذف و او العطف و الباقون بالواو إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ قال ابن عباس الى الإسلام و روى عنه الى التوبة قاله عكرمة و قال على بن ابى طالب رضى اللّه عنه الى أداء الفرائض- و روى عن انس بن مالك انها التكبيرة الاولى و مرجع الأقوال كلها الى ما يستحق به مغفرة الذنوب الموجب للتفصى من النار و رحمة اللّه تعالى الموجب لدخول الجنة من الإسلام و الاعتقادات الحقة و الأخلاق و الأعمال الصالحة و قد مر فيما سبق حديث ابى امامة بادروا بالأعمال هرما ناغضا الحديث و عن ابى هريرة رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بادروا بالأعمال سبعا ما تنظرون الا فقرا منسيا او غنى مطغيا او مرضا مفسدا او هرما مفندا او موتا مجهزا او الدجال فانه شر منتظر او الساعة و السّاعة أدهى و امرّ رواه الترمذي و الحاكم عَرْضُهَا اى سعتها صفة للجنة السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ اى كعرضهما و سعتهما و هذا على التمثيل دون الحقيقة فان أوسع المسافات المكانية فى ظن العوام سعة السموات و الأرض فمثل فى هذه الاية بها كما مثل فى قوله تعالى خلدين فيها ما دامت السّموات و الأرض المسافة الزمانية للخلود فى الجنة بمدة دوامها يعنى عند ظنكم

قال البغوي سئل انس بن مالك رضى اللّه عنه عن الجنة أ في السماء أم فى الأرض فقال فاى ارض و سماء تسع الجنة فقيل فاين هى قال فوق السموات السبع تحت العرش و قال قتادة كانوا يرون ان الجنة فوق السموات السبع و ان جهنم تحت الأرضين السبع- اخرج ابو الشيخ فى العظيمة من طريق ابى الزعراء عن عبد اللّه قال الجنة فى السماء السابعة العليا (قلت يعنى فوقها) و النار فى الأرض السابعة السفلى قلت يعنى تحتها أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) حقيقة التقوى و هم الذين اتقوا من شغل قلوبهم بغير اللّه و من رذائل أنفسهم و يجرى فيه التأويلان كما جريا فى النار التي أعدت للكافرين-.

١٣٤

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ اى المسرة بكثرة المال وَ الضَّرَّاءِ اى النقص فى الأموال كذا فى القاموس اى لا يخلون فى حال ما من الانفاق بما قدروا عليه من قليل او كثير

قال البغوي أول ما ذكر من اخلاقهم الموجبة للجنة السخاء قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم السخي قريب من اللّه قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار و البخيل بعيد من اللّه بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار و جاهل سخى أحب الى اللّه من عابد بخيل رواه الترمذي عن ابى هريرة و ذكر البغوي بلفظ أحب الى اللّه من العالم البخيل- و رواه البيهقي عن جابر و الطبراني عن عائشة و عن ابن عباس مرفوعا السخاء خلق اللّه الأعظم رواه ابن النجار- و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم السخاء شجرة من أشجار الجنة أغصانها متدليات فى الدنيا فمن أخذ يغصن منها قادة ذلك الغصن الى الجنة و البخل شجرة من أشجار النار أغصانها متدليات فى الدنيا فمن أخذ بغصن من أغصانها قاده ذلك الغصن الى النار رواه الدارقطني و البيهقي عن على عليه السلام و ابن عدى و البيهقي عن ابى هريرة رضى اللّه عنه و ابو نعيم فى الحلية عن جابر رضى اللّه عنه و الخطيب عن ابى سعيد رضى اللّه عنه و ابن عساكر عن انس رضى اللّه عنه و الديلمي فى مسند الفردوس عن معاوية رضى اللّه عنه و عن ابى هريرة رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سبق درهم مائة الف فقال رجل و كيف ذاك يا رسول اللّه فقال رجل له مال كثير أخذ من عرضه مائة الف درهم تصدق بها و رجل ليس له الا درهمان فاخذ أحدهما فتصدق به رواه النسائي و صححه و ابن خزيمة و ابن حبان و الحاكم وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ الكظم حبس النفس عند امتلائها يعنى الكافين أنفسهم عن إمضاء الغيظ مع القدرة من كظمت القربة إذا ملاتها و شددت رأسها عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من كظم غيظا و هو يقدر على إنفاذه ملا اللّه قلبه أمنا و ايمانا رواه احمد و عبد الرزاق و ابن ابى الدنيا فى ذم الغضب- و روى البغوي عن انس مرفوعا بلفظ من كظم غيظا و هو يقدران ينفذه دعاه اللّه يوم القيامة على رؤس الخلائق حتى يخيره من اىّ الحور شاء و روى ابن ابى الدنيا عن ابن عمر مرفوعا من كف غضبه ستر اللّه عورته وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قال الكلبي العافين عن المملوكين سوء الأدب- و قال زيد بن اسلم و مقاتل العافين عمن ظلمهم و أساء إليهم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان هؤلاء من أمتي قليل الا من عصم اللّه- رواه الثعلبي فى تفسيره عن مقاتل و البيهقي فى مسند الفردوس من حديث ابن مالك وَ اللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٣) اللام للجنس و يدخل تحته هؤلاء او للعهد فيكون اشارة إليهم و وضع المظهر موضع المضمر للمدح و الاشارة الى ان تلك صفات المحسنين عن الثوري الإحسان ان تحسن الى المسي ء فان الإحسان الى المحسن متاجّرة- و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فيما رواه الشيخان فى الصحيحين من حديث عمر فى قصة سوال جبرئيل الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك قلت فالمحسنون هم الصوفية و لعل كظم الغيظ كناية عن فناء النفس لان الغيظ منشاه رذائل النفس من الكبر و الحسد و الحقد و البخل و نحو ذلك و لعل العفو عن الناس كناية عن فناء القلب لان بفناء القلب يسقط الناس عن نظر اعتباره و يرى الافعال كلها منسوبة الى اللّه تعالى فلا يرى جواز مواخذة أحد من الناس بشى ء مما اتى به الا لحق اللّه تعالى على حسب ما امر به امتثالا و تعبدا و لعل الانفاق فى السراء و الضراء عبارة عن عدم اشتغال قلوبهم بامتعة الدنيا و اللّه اعلم- لمّا ذكر اللّه سبحانه فى هذه الاية المتقين المحسنين العارفين عقبهم بذكر اللاحقين بهم التائبين فقال.

١٣٥

وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً فعلى هذا الموصول مبتدا و جملة أولئك جزاؤهم الاية خبره- و جاز ان يكون الموصول معطوفا على المتقين او على الذين ينفقون فعلى هذا جملة أولئك مستانفة و الأظهر هو الاول قال ابن مسعود قال المؤمنون يا رسول اللّه كانت بنوا إسرائيل أكرم على اللّه منا كان أحدهم إذا أذنب أصبح و كفارته مكتوبة فى عتبة بابه اجدع انفك او اذنك افعل كذا فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فانزل اللّه تعالى هذه الاية- و قال عطاء نزلت فى نبهان التمّار و كنيته ابو معبد أتته امراة حسناء تبتاع منه تمرا فقال لها ان هذا التمر ليس بجيد و فى البيت أجود منه فذهب بها الى بيته فضمها الى نفسه و قبلها فقالت له اتق اللّه فتركها و ندم على ذلك فاتى النبي صلى اللّه عليه و سلم و ذكر ذلك له فنزلت هذه الاية- و قال مقاتل و الكلبي أخي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بين رجلين أحدهما من الأنصار و الاخر من ثقيف فخرج الثقفي فى غزاة و استخلف الأنصاري على اهله فاشترى لهم اللحم ذات يوم فلما أرادت المرأة ان تأخذ منه دخل على اثرها و قبل يدها ثم ندم و انصرف و وضع التراب على رأسه و هام على وجهه- فلما رجع عليه الثقفي لم يستقبله الأنصاري فسال امرأته عن حاله فقالت لا اكثر اللّه فى الاخوان مثله و وصفت له الحال و الأنصاري يسيح فى الجبال تائبا مستغفرا فطلبه الثقفي حتى وجده فاتى به أبا بكر رجاء ان يجد عنده راحة و فرجا و قال الأنصاري هلكت و ذكر القصة فقال ابو بكر ويحك ما علمت ان اللّه تعالى يغار للغازى ما لا يغار للمقيم ثم لقيا عمر فقال مثل ذلك فاتيا النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال له مثل مقالتهما فانزل اللّه تعالى هذه الاية- و اصل الفحش القبح و الخروج عن الحد و المراد بالفاحشة هاهنا الكبيرة لخروجه عن الحد فى القبح و العصيان و قال جابر الفاحشة الزنى أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالصغائر او بما دون الزنى من القبلة و المعانقة و اللمس و قيل فعلوا فاحشة قولا او ظلموا أنفسهم فعلا و قيل الفاحشة ما يتعدى الى غيره و ظلم النفس ما ليس كذلك و هذا اظهر ذَكَرُوا اللّه فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ يعنى ذكروا وعيد اللّه و ان اللّه سائلهم فندموا و تابوا و استغفروا و قال مقاتل بن حبان ذكروا للّه باللسان عند الذنوب قلت يمكن ان يقال المراد بذكر اللّه صلوة الاستغفار لحديث علىّ عن ابى بكر رضى اللّه عنهما انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ما من عبد مؤمن و فى رواية ما من رجل يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلى ثم يستغفر اللّه الا غفر اللّه له رواه ابو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن حبان و زاد الترمذي ثم قرا وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الاية وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللّه استفهام بمعنى النفي حتى صح المفرغ يعنى لا يغفر الذنوب أحد الا اللّه فان العافين عن الناس من الناس انما يعفون حقوقهم دون الذنوب و المعاصي التي هى حقوق اللّه تعالى او يقال العافي عن الناس منهم يعفوا رجاء لمغفرة اللّه تعالى فهو المتجر و غافر الذنب بلا غرض و منفعة انما هو اللّه تعالى و الجملة معترضة بين المعطوفين لبيان سعة رحمة اللّه و عموم المغفرة و الحث على الاستغفار و الوعد بقبول التوبة و جاز ان يكون حالا بتقدير القول يعنى قائلين و من يغفر او معطوفة على مفعول ذكروا يعنى ذكروا اللّه و ذكروا مغفرته و توحده فى تلك الصفة وَ لَمْ يُصِرُّوا الإصرار التقعد فى الذنب و التشدد فيه و الامتناع من الإقلاع كذا فى الصحاح يعنى لم يقيموا عَلى ما فَعَلُوا من الذنوب و بهذا يظهر ان العزم على ترك الفعل شرط للاستغفار كالندم على الفعل فلا بد للاستغفار من العزم على الترك و ان صدر منه بعد ذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما أصر من استغفر و ان عاد فى اليوم سبعين مرة- رواه ابو داود و الترمذي من حديث ابى بكر الصديق و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المستغفر من الذنب و هو مقيم عليه كالمستهزئ بربه رواه البيهقي و ابن عساكر عن ابن عباس

(مسئلة) الإصرار على الصغيرة تكون كبيرة عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا كبيرة مع الاستغفار و لا صغيرة مع الإصرار رواه الديلمي فى مسند الفردوس وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) حال من الضمير فى لم يصروا يعنى تركوا الإصرار على المعصية لعلمهم كونها معصية خوفا من اللّه تعالى لا لكسالة او تنفر طبعى «١» او خوف من العباد او عدم تيسر فان الجزاء انما هو على كف النفس بنية الطاعة دون عدم الفعل مطلقا لكن عدم الفعل مطلقا مانع من الجزاء المترتب على المعصية فان من العصمة ان لا تقدر و قال الضحاك و هم يعلمون اللّه يملك مغفرة الذنوب و قال

(١) فى الأصل طبيعى.

الحسين بن الفضل و هم يعلمون ان له ربا يغفر الذنوب و قيل و هم يعلمون ان اللّه لا يتعاظمه العفو عن الذنوب و ان كثرت- و قيل يعلمون انهم ان استغفروا غفر لهم عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان عبدا أذنب ذنبا فقال رب أذنبت ذنبا فاغفره لى فقال ربه اعلم عبدى ان له ربا يغفر الذنب و يأخذ به غفرت لعبدى ثم مكث ما شاء اللّه ثم أذنب ذنبا فقال رب أذنبت ذنبا اخر فاغفره لى فقال اعلم عبدى ان له ربا يغفر الذنب و يأخذ به غفرت لعبدى ثم مكث ما شاء اللّه ثم أذنب ذنبا فقال رب أذنبت ذنبا اخر فاغفره لى فقال اعلم عبدى ان له ربا يغفر الذنب و يأخذ به غفرت لعبدى فليفعل ما شاء متفق عليه و عن ابن عباس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال قال اللّه عز و جل من علم انى ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له و لا أبالي ما لم يشرك بي شيئا رواه الطبراني و الحاكم بسند صحيح.

١٣٦

أُولئِكَ ان كانت الجملة مستانفة فالمشار إليهم المتقون و التائبون جميعا و ان كان هذا خبرا للموصول فالمشار إليهم هم التائبون جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها و تنكير جنات للدلالة على ان ما لهم أدون مما للمتقين الموصوفين بالصفات المذكورة فى الاية المقدمة و لذا فصل آيتهم ببيان انهم محسنون مستوجبون لمحبة اللّه تعالى حافظون على حدود الشرع و فصل هذه الاية بقوله وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦) فان المتدارك لتقصيره كالعامل لتحصيله بعض ما فوت على نفسه لكن كم بين المحسن و المتدارك و المحبوب و الأجير- و لعل تبديل لفظ الجزاء بالأجر لهذه النكتة و المخصوص بالمدح محذوف اى نعم اجر العاملين المغفرة و الجنات قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم التائب من الذنب كمن لا ذنب له رواه البيهقي و ابن عساكر عن ابن عباس و القشيري فى الرسالة و ابن النجار عن علىّ (فائدة) و لا يلزم من اعداد الجنة للمتقين و التائبين جزاء لهم ان لا يدخلها المصرون كما لا يلزم من اعداد النار للكافرين جزاء لهم ان لا يدخلها غيرهم- و جاز ان يقال العصاة المصرون على الكبائر يدخلهم اللّه الجنة بعد تطهيرهم من الذنوب بالمغفرة اما بعد العذاب بالنار فان النار فى حق المؤمن كالكير يدفع خبث الفلز و اما بالمغفرة بلا تعذيب فحينئذ يلحق العاصي بالتائب فى التطهّر- قال ثابت البناني بلغني ان إبليس بكى حين نزلت هذه الاية وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الى آخرها-.

١٣٧

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) السنة الطريقة المتبعة فى الخير او الشر قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من سن سنة حسنة فله أجرها و اجر من عمل بها من غير ان ينقص من أجورهم شى ء و من سن سنة سيئة فعليه وزرها و وزر من عمل بها من غير ان ينقص من أوزارهم شى ء و جاز ان يكون فى الكلام حذف المضاف اى اهل سنن و قيل السنن بمعنى الأمم و السنة الامة قال الشاعر ما عاين الناس من فضل كفضلهم و لا راوا مثلهم فى سالف السنن و معنى الاية قد مضت قبلكم طرق من الخير و الشرا و اهل طرق فانظروا كيف كان عاقبة طريقة التكذيب و ما ال اليه امر المكذبين من الهلاك

و قال مجاهد قد مضت و سلفت منى سنن فيمن كان قبلكم من الأمم الماضية الكافرة بامهالى و استدراجى إياهم حتى بلغ الكتاب اجله الذي اجلته لاهلاكهم ثم أهلكتهم و نصرت انبيائى و من تبعهم فسيروا و انظروا لتعتبروا و قال عطاء السنن الشرائع و قال الكلبي مضت لكل امة سنة و منهاج إذا اتبعوها رضى اللّه عنهم و من كذبه و لم يتبعه أهلكه اللّه فانظر ما عاقبة المكذبين.

١٣٨

هذا اى القران او قوله قد خلت او مفهوم قوله فانظروا بَيانٌ لِلنَّاسِ عامة وَ هُدىً من الضلالة وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) خاصة فانهم هم المنتفعون به- و قيل هذا اشارة الى ما لخص من امر المتقين و التائبين و قوله قد خلت اعتراض للحث على الايمان و التوبة-.

١٣٩

وَ لا تَهِنُوا اى لا تضعفوا و لا تجبنوا عن جهاد أعدائكم بما نالكم من القتل و الجرح يوم أحد و كان قد قتل يومئذ من المهاجرين خمسة منهم حمزة بن عبد المطلب و مصعب بن عمير و من الأنصار سبعون رجلا وَ لا تَحْزَنُوا على من قتل منكم وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ و الحال انكم أعلى شأنا منهم فانكم ترجون من الاجر و الثواب على ما أصابكم ما لا يرجوه الكفار و قتلاكم فى الجنة و قتلاهم فى النار نظيره قوله تعالى وَ لا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اللّه ما لا يَرْجُونَ قال الكلبي امر النبي صلى اللّه عليه و سلم أصحابه بطلب القوم بعد ما أصابهم من الجراح يوم أحد فاشتد ذلك على المسلمين فنزلت هذه الاية- او المعنى أنتم الأعلون عاقبة الأمر بالنصر من اللّه و الظفر قال ابن عباس انهزم اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى الشعب فاقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد ان يعلوا عليهم الجبل فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم اللّهم لا يعلن علينا اللّهم لا قوة لنا الا بك- و بات نفر من المسلمين رماة فصعد و الجبل و رموا خيل المشركين حتى هزموا فذلك قوله تعالى وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) يعنى ان صح ايمانكم فلا تهنوا و لا تحزنوا فان مقتضى الايمان رجاء الثواب و قوة القلب بالتوكل على اللّه او المعنى ان صح ايمانكم فانتم الأعلون فى العاقبة فانه حقّ علينا نصر المؤمنين.

١٤٠

إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ يوم أحد قرا حمزة و الكسائي و أبو بكر قرح بضم القاف حيث جاء و الباقون بالفتح و هما لغتان معناهما عض السلاح و نحوه مما يخرج البدن كذا فى القاموس و قال الفراء القرح بالفتح الجراحة و بالضم الم الجراحة فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ اى قوم الكفار من قريش قَرْحٌ مِثْلُهُ يوم بدر و هم لم يضعفوا عن معاودتكم للقتال فانتم اولى بذلك نزلت هذه الاية تسلية للنبى صلى اللّه عليه و سلم و المؤمنين حين انصرفوا من أحد مع الكآبة و الحزن و ليجتروا على عدوهم وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ يعنى اوقات النصر نُداوِلُها نصرفها بَيْنَ النَّاسِ يعنى كذلك جرت عادتنا فيكون النصر تارة لهؤلاء و تارة لهؤلاء و الأيام صفة لتلك و هو مبتدا خبره نداولها او الأيام خبر و نداولها حال و العامل فيه معنى الاشارة عن البراء بن عازب قال جعل النبي صلى اللّه عليه و سلم على الرجالة و كانوا خمسين رجلا عبد اللّه بن جبير فقال ان رايتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم و ان رايتمونا هزمنا القوم و أوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزمهم قال و انا و اللّه رايت النساء يشتددن قد بدت خلا خلهن و اسوقهن رافعات ثيابهن- فقال اصحاب عبد اللّه بن جبير الغنيمة اى قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون فقال عبد اللّه بن جبير أنسيتم ما قال لكم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قالوا و اللّه لناتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم فاقبلوا منهزمين فذاك قوله تعالى وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ إذ يدعوهم الرسول فى أخراهم فلم يبق مع النبي صلى اللّه عليه و سلم غير اثنى عشر رجلا فاصابوا منا سبعين- و كان النبي صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة و أربعين سبعين أسيرا و سبعين قتيلا فقال ابو سفيان ا فى القوم محمد ثلاث مرات فنهاهم النبي صلى اللّه عليه و سلم ان يجيبوه ثم قال ا فى القوم ابن ابى قحافة ثلاث مرات ثم قال ا فى القوم ابن الخطاب ثلاث مرات ثم رجع الى أصحابه فقال اما هؤلاء قد قتلوا فما ملك عمر رضى اللّه عنه نفسه فقال كذبت و اللّه يا عدو اللّه ان الذين عددت لاحياء كلهم و قد بقي لك ما يسوءك فقال يوم بيوم بدر و الحرب سجال انكم ستجدون فى القوم مثلة لم آمر بها و لا تسؤنى ثم أخذ يرتجز اعل هبل اعل هبل فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم الا تجيبوه قالوا يا رسول اللّه ما نقول قال قولوا اللّه أعلى و أجل قال ان لنا العزى و لا عزى لكم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الا تجيبوه قالوا يا رسول اللّه ما نقول قال قولوا اللّه مولانا و لا مولى لكم رواه البخاري و غيره و فى رواية فقال ابو سفيان قد أنعمت هلم يا عمر فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لعمر آته فانظر ما شأنه فجاءه فقال ابو سفيان أنشدك اللّه يا عمر ا قتلنا محمدا قال اللّهم لا انه يسمع كلامك الان قال أنت عندى اصدق من ابن قمية و ابر و قد قال ابن قمية لهم انى قتلت محمدا ثم قال ابو سفيان الا ان موعدكم بدر الصغرى على رأس الحول فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قل نعم هو بيننا و بينكم موعد و انصرف ابو سفيان الى أصحابه و أخذ فى الرحيل و روى هذا المعنى عن ابن عباس و فى حديثه قال ابو سفيان يوم بيوم و ان الأيام دول و الحرب سجال فقال عمر لا سواء قتلانا فى الجنة و قتلاكم فى النار- قال الزجاج الدولة يكون للمسلمين على الكفار لقوله تعالى إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ

و انما كانت يوم أحد للكفار على المسلمين لمخالفتهم امر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وَ لِيَعْلَمَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا عطف على علة محذوفة و فائدة الحذف الإيذان بان العلة المحذوفة متعددة يطول ذكرها و اللام متعلق بنداولها اى نداولها لحكم و مصالح لا يحصى و ليعلم اللّه المؤمنين ممتازين عند الناس بالصبر و الثبات على الايمان من غيرهم و جاز ان يقال المعطوف عليه غير محذوف بل هو المفهوم من قوله تعالى وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها كانه قال داو لنا بينكم الأيام لان هذه عادتنا و ليعلم و الخلق و الافناء من قبيل مداولة الأيام- و القصد فى أمثاله و نقائضه ليس الى اثبات علمه تعالى و نفيه بل الى اثبات المعلوم فى الخارج و نفيه على طريقة البرهان لان علم اللّه تعالى لازم للمعلوم و بالعكس و نفى المعلوم مستلزم لنفى العلم كيلا ينقلب العلم جهلا فاطلق الملزوم و أريد به اللازم فمعنى الاية ليتحقق امتياز المؤمنين من غيرهم عند الناس- و قيل معناه ليعلم اللّه علما يتعلق به الجزاء و هو العلم بالشي ء موجودا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ اى يكرم ناسا منكم بالشهادة يريد شهداء أحد- او المعنى و ليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بالثبات و الصبر على الشدائد- اخرج ابن ابى حاتم عن عكرمة قال لما ابطأ على النساء الخبر خرجن يستخبرن فاذا رجلان مقبلان على بعير فقالت امراة ما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قالا حى قالت فلا أبالي يتخذ اللّه من عباده شهداء- فنزل القران على ما قالت وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اللّه لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) الكافرين المنافقين الذين لم يظهر منهم الثبات على الايمان جملة معترضة بين المعطوفين و فيه تنبيه على ان اللّه لا ينصر الكافرين على الحقيقة و انما يغلبهم أحيانا استدراجا لهم و ابتلاء للمؤمنين.

١٤١

وَ لِيُمَحِّصَ اللّه التمحيض التطهير و التصفية الَّذِينَ آمَنُوا من الذنوب وَ يَمْحَقَ المحق نقض الشي ء قليلا قليلا الْكافِرِينَ (١٤١) يعنى ان كانت الدولة على المؤمنين فللتميز و الاستشهاد و التمحيص و ان كانت على الكافرين فلمحقهم و محو اثارهم.

١٤٢

أَمْ حَسِبْتُمْ أم منقطعة بمعنى بل احسبتم أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ و الاستفهام للانكار وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللّه الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ يعنى و لما يتحقق الجهاد من بعضكم وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) نصب بإضمار ان و الواو للجمع كما فى نحو لا تأكل السمك و تشرب اللبن او جزم للعطف على يعلم اللّه و حركت الميم لالتقاء الساكنين بالفتح لفتحة ما قبلها- اخرج ابن ابى حاتم من طريق العوفى عن ابن عباس ان رجالا من الصحابة كانوا يقولون ليتنا نقتل كما قتل اصحاب بدر او ليت لنا يوما ليوم بدر نقاتل فيه المشركين و نبلى فيه خيرا او نلتمس الشهادة و الجنة و الحيوة و الرزق فاشهدهم اللّه أحدا فلم يلبثوا الا من شاء اللّه منهم فانزل اللّه تعالى.

١٤٣

وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ فى سبيل اللّه او المراد به الحرب فانه سبب للموت مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ تشاهدوه و تعرفوا شدته فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) حال من فاعل رايتموه و فائدته بيان ان المراد بالروية روية البصر دون العلم يعنى عاينتم الموت حين قتل دونكم من قتل من إخوانكم و فيه توبيخ على انهم تمنوا الحرب و تسببوا لها ثم جبنوا و انهزموا عنها او على تمنى الشهادة فانها يستلزم تمنى غلبة الكفار- اخرج ابن ابى حاتم عن الربيع قال لما أصابهم يوم أحد ما أصابهم من القرح و تداعوا نبى اللّه قالوا قد قتل فقال أناس لو كان نبيا ما قتل و قال ناس قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى يفتح اللّه عليكم او تلحقوا به

و اخرج ابن المنذر عن عمر قال تفرقنا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوم أحد فصعدت الجبل فسمعت يهوديا يقول قتل محمد فقلت لا اسمع أحدا يقول قتل محمدا لاضربت عنقه فنظرت فاذا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و الناس يتراجعون-

و اخرج البيهقي فى الدلائل عن ابى نجيح ان رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار و هو يتشحط فى دمه فقال له أشعرت ان محمدا قتل فقال ان كان محمد قتل فقد بلّغ فقاتلوا عن دينكم فنزلت على هذه الروايات.

١٤٤

وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ «١» يعنى ليس هو ربّا يستحيل عليه الفناء و الموت و ما هو يدعوا الناس الى عبادته- فى القاموس الحمد الشكر و الرضاء و الجزاء و قضاء الحق و التحميد حمد اللّه مرة بعد مرة و منه محمد كانّه حمد مرة بعد مرة قلت الى ما لا نهاية لها

قال البغوي محمد هو المستغرق لجميع المحامد لان الحمد لا يستوجبه الا الكامل و التحميد فوق الحمد فلا يستحقه الا المستولى على الأمد فى الكمال قال حسان بن ثابت ( (شعر)) ا لم تر ان اللّه أرسل عبده ببرهانه و اللّه أعلى و امجد و شقه من اسمه ليجله فذو العرش محمود و هذا محمد قَدْ خَلَتْ مضت و ماتت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ فسيموت هو ايضا أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ اى رجعتم الى دينكم الاول من الكفر انكار على ارتدادهم بموته صلى اللّه عليه و سلم بعد علمهم بموت من سبقه من الأنبياء و بقاء دينهم- و قيل الفاء للسببية و الهمزة لانكار ان يجعل موته سببا لارتدادهم وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ اى يرتد عن دينه فَلَنْ يَضُرَّ اللّه شَيْئاً بارتداده بل يضر و اللّه عز و جل أكرم من ان يثنى عليهم العقوبة فى الاخرة و ما عفا اللّه عنه فى الدنيا فاللّه احكم من ان يعود بعد عفوه-.

(١) اخرج البخاري عن ابن عباس ان أبا بكر خرج و عمر يكلم الناس فقال اجلس يا عمرو قال ابو بكر اما بعد من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات- و من كان يعبد اللّه فان اللّه حىّ قال اللّه وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ الى الشّكرين قال فو اللّه لكانّهم لم يعلموا ان اللّه انزل هذه الاية حتى تلاها ابو بكر فتلاها منه الناس كلهم فما اسمع بشرا من الناس الا يتلوها و روى عن ابى هريرة و عروة و غيرهما نحو ذلك قال ابراهيم قال أبو بكر لو منعونى عقالا اعطوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لجاهدتهم ثم تلا وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ- منه رحمه اللّه [.....].

١٥٣

إِذْ تُصْعِدُونَ متعلق بصرفكم او بيبتليكم او عفا عنكم او بمقدر كاذكر- قرا ابو عبد الرحمن السلمى و الحسن و قتادة تصعدون بفتح التاء من المجرد و القراءة المجمع عليها بضم التاء من الافعال- قال المفضل صعد و اصعد و صعّد بمعنى واحد- و قال ابو حاتم اصعدت إذا مضيت حيال وجهك يعنى فى مستوى الأرض و صعدت إذا ارتقيت فى جبل و قال المبرد اصعد ابعد فى الذهاب

قال البغوي كلا الامرين وقعا فكان منهم مصعد و صاعد وَ لا تَلْوُونَ أعناقكم عَلى أَحَدٍ يعنى لا يلتفت بعضكم الى بعض لشدة الدهش وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ يقول الىّ عباد اللّه فانا رسول اللّه من يكر فله الجنة- الجملة فى موضع الحال فَأَثابَكُمْ فجازاكم عن فشلكم و عصيانكم عطف على صرفكم جعل الاثابة و هو من الثواب موضع العقاب على طريقة قوله تعالى فبشّرهم بعذاب اليم اشارة الى انه تعالى عاقبكم على ما فعلتم مكان ما كنتم ترجون من الثواب غَمًّا بِغَمٍّ اى غما متصلا بغم من الاغتمام من القتل و الجرح و ظفر المشركين و الإرجاف بقتل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- قيل الغم الاول فوت الغنيمة و الثاني ما نالهم من القتل و الجرح و الهزيمة- و قيل الغم الاول ما أصابهم من القتل و الجرح و الثاني ما سمعوا ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قتل فانساهم الغم الاول- و قيل الغم الاول اشراف خالد بن الوليد بخيل المشركين و الثاني اشراف ابو سفيان عليهم و ذلك ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انطلق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى الى اصحاب الصخرة فلما راوه وضع رجل سهما فى قوسه فاراد ان يرميه فقال انا رسول اللّه ففرحوا حين وجدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و فرح النبي صلى اللّه عليه و سلم حين راى من يمتنع به فاقبلوا يذكرون الفتح و ما فاتهم منه و يذكرون أصحابهم الذين قتلوا فاقبل ابو سفيان و أصحابه حتى وقفوا على باب الشعب فلما نظر المسلمون إليهم همهم ذلك و ظنوا انهم يميلون عليهم فيقتلونهم فانساهم هذا ما نالهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليس لهم ان يعلونا اللّهم ان تقتل هذه العصابة لا تعبد فى الأرض ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى انزلوهم-

قلت لعل قوله تعالى سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ صار نازلا فى هذا المقام حيث القى الرعب فى قلب ابى سفيان و من معه-

قلت و جاز ان يكون الغم الثاني ما روى انه لمّا أخذ ابو سفيان و أصحابه الرحيل الى مكة اشفق رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و المسلمون من ان يغير المشركون على المدينة فيهلك الذراري و النساء فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليا و سعد بن ابى وقاص لينظرا فقال ان ركبوا الإبل و جنبوا الخيل فهو الظعن و ان ركبوا الخيل و جنبوا الإبل فانهم يريدون المدينة فهى الغارة و الذي نفسى بيده لان ساروا عليها لا سيرن إليهم ثم لاناخرنهم فسار على و سعد وراءهم فاذا هم قد ركبوا الإبل و جنبوا الخيل بعد ما تشاوروا فى نهب المدينة فقال صفوان بن امية لا تفعلوا و قيل معنى الاية فاثابكم غما بسبب غم اذقتم النبي صلى اللّه عليه و سلم بعصيانكم له لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من الفتح و الغنيمة وَ لا ما أَصابَكُمْ من القتل و الجرح و الهزيمة و لا زائدة و معناه لكى تحزنوا على ما فاتكم و ما أصابكم- و قيل معنى الاية اثابكم غما بغم لتمتروا على الصبر فى الشدائد فلا تحزنوا فيما بعد على نفع فائت و لا على ضر لا حق-

قلت و جاز ان يكون المعنى فاثابكم اللّه غما بغم يعنى اعطاكم اللّه ثواب غم متصلا بغم و أخبركم بذلك على لسان نبيكم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم و لا ما أصابكم بل تفرحوا بثوابه- و قيل الضمير المرفوع فى اثابكم للرسول صلى اللّه عليه و سلم اى فاساءكم فى الاغتمام من اسيته بمالى اى جعلته أسوتي فيه- و الباء للسببية او البدلية يعنى اغتم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بما نزل عليكم كما اغتممتم و لم يثربكم على عصيانكم تسلية لكم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم و لا ما أصابكم وَ اللّه خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) عالم بأعمالكم و بما قصدتم بها.

١٥٤

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ يا معشر المسلمين مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً يعنى اطمينانا فى القلوب و سكينة يدركه الصوفي عند نزول الرحمة نُعاساً بدل اشتمال من امنة- و جاز ان يكون مفعولا لا نزل و امنة حال منه مقدم عليه و لعل النعاس هاهنا عبارة عن استغراق يحصل للصوفى عند نزول الرحمة بحيث يغفل عما سواه لكمال مشابهته بالنعاس يَغْشى قرا حمزة و خلف ابو محمد و الكسائي بالتاء ردا الى الامنة و الباقون بالياء ردا الى النعاس طائِفَةً مِنْكُمْ

و هم المؤمنون حقا- روى البخاري و غيره عن انس ان أبا طلحة قال غشينا النعاس و نحن فى مصافنا يوم أحد قال فجعل سيفى يسقط من يدى و اخذه و يسقط و اخذه- و قال ثابت عن انس عن ابى طلحة قال رفعت رأسى يوم أحد فجعلت ما ارى أحدا من القوم الا و هو يميل تحت جحفته من النعاس وَ طائِفَةٌ مبتدا و هم المنافقون قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ صفة لطائفة يعنى ألقتهم أنفسهم فى الهموم و كانوا محرومين عن نزول الامنة و السكينة عليهم- او المعنى ما كان همهم الإخلاص أنفسهم يَظُنُّونَ خبر لطائفة بِاللّه غَيْرَ الْحَقِّ منصوب على المصدرية اى يظنون غير الظن الحق اى الذي يحق ان يظن به تعالى يعنى انه لا ينصر محمدا صلى اللّه عليه و سلم- او انه لو كان محمد نبيا ما قتل ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ بدل من غير الحق او منصوب بنزع الخافض يعنى كظن اهل الجاهلية و الشرك و الجملة صفة اخرى لطائفة او حال او استيناف على وجه البيان لما قبله- و جملة و طائفة إلخ حال من فاعل يغشى او من مفعوله يَقُولُونَ للرسول صلى اللّه عليه و سلم او فى أنفسهم بدل من يظنون هَلْ لَنا استفهام بمعنى الإنكار مِنَ الْأَمْرِ الذي وعد اللّه من النصر مِنْ شَيْ ءٍ يعنى ما لنا من ما وعد نصيب قط- قيل اخبر ابن أبيّ بقتل بنى الخزرج فقال ذلك و المعنى انا منعنا تدبير أنفسنا و تصريفها باختيارنا فلم يبق لنا من الأمر شى ء- او هل يزول عنا هذا القهر فيكون لنا من الأمر شى ء اخرج ابن راهويه انه قال عبد اللّه بن الزبير عن أبيه الزبير بن العوام لقد رايتنى مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حين اشتد علينا الخوف أرسل اللّه علينا النوم فما منا أحد إلا و ذقنه فى صدره- و اللّه انى لا سمع قول معتب بن قشير و النعاس يغشانى ما أسمعه الا كالحلم يقول لو كان لنا من الأمر شى ء ما قتلنا هاهنا فحفظتها فانزل اللّه فى ذلك ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً الى قوله

وَ اللّه عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ قُلْ يا محمد إِنَّ الْأَمْرَ اى الحكم كُلَّهُ للّه يحكم ما يشاء و يفعل ما يريد- او امر الغلبة الحقيقية للّه و أوليائه فَإِنَّ حِزْبَ اللّه هُمُ الْغالِبُونَ و ان كان فى بعض الأحيان لم يظهر ذلك لحكمة- قرا ابو عمر «١» و كلّه بالرفع على الابتداء و ما بعده خبره و الباقون بالنصب على التأكيد و الجملة معترضة يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ حال من ضمير يقولون اى يقولون مظهرين انهم مسترشدون طالبون للنصر و يقولون مخفين بعضهم الى بعض غير ذلك يَقُولُونَ بدل من يخفون او استيناف على وجه البيان يعنى يقولون مخفين منكرين لقولك

(١) فى الأصل ابو عامر-.

انّ الأمر كلّه للّه لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ كما وعد محمد صلى اللّه عليه و سلم او زعم انّ الأمر كلّه للّه و لاوليائه- أولو كان لنا اختيار و تدبير لم نبرح المدينة كما كان يقول ابن أبيّ و غيره ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ فى اللوح المحفوظ و قدّر اللّه عليهم القتل إِلى مَضاجِعِهِمْ اى يخرجون الى مصارعهم و لم ينفعهم الاقامة بالمدينة بل لا يستطيعون الاقامة وَ لِيَبْتَلِيَ اللّه ما فِي صُدُورِكُمْ اى ليمتحن ما فى صدوركم و يظهر سرائرها من الإخلاص و النفاق معطوف على محذوف متعلق بقوله برز تقديره لبرزوا الى مضاجعهم لنفاذ القضاء و لمصالح كثيرة و للابتلاء- او متعلق بفعل محذوف و الجملة معطوفة على جملة سابقة يعنى ثمّ انزل عليكم تقديره و فعل ذلك ليبتلى او معطوف على قوله كيلا تحزنوا وَ لِيُمَحِّصَ اى ليكشف و يميز ما فِي قُلُوبِكُمْ او المعنى يخلص ما فى قلوبكم ايها المؤمنون من الوساوس وَ اللّه عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٢) قبل إظهارها و غنى عن الابتلاء و انما فعل ذلك لتمرين المؤمنين و اظهار حال المنافقين و اقامة الحجة عليهم-.

١٥٥

إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ اى انهزموا منكم يا معشر المسلمين يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع المسلمين و جمع المشركين يوم أحد و قد انهزم أكثرهم و لم يبق مع النبي صلى اللّه عليه و سلم الا ثلاثة عشر كما ذكرنا و لا مع عبد اللّه بن جبير الا عشرة إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ اى طلب زلتهم او حملهم على الزلة يعنى المعصية بإلقاء الوسوسة فى قلوبهم قيل ازل و استزل بمعنى واحد بِبَعْضِ ما كَسَبُوا اى بشوم ذنوبهم قال بعضهم بتركهم المركز و قال الحسن ما كسبوا هو قبولهم وسوسة الشيطان وَ لَقَدْ عَفَا اللّه عَنْهُمْ هذا هو الذي قال ابن عمر لمّا وقع بعض اهل المصر فى عثمان رضى اللّه عنه و ذكر فراره يوم أحد و غيبته عن بدر و عن بيعة الرضوان فقال اما فراره يوم أحد فاشهد ان اللّه عفا عنه و اما تغيبه عن بدر فانه كانت تحته رقية بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و كانت مريضة فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان لك اجر رجل ممن شهد بدرا و سهمه و اما تغييه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه فبعثه الى مكة و كانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان الى مكة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بيده اليمنى هذا يد عثمان فضرب بها على يده و قال هذه لعثمان ثم قال ابن عمر اذهب بها الان معك رواه البخاري فلا يجوز لاحد الطعن فى الصحابة لاجل هذا الفرار و ايضا كان هذا الفرار قبل ورود النهى عنه إِنَّ اللّه غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥).

١٥٦

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا يعنى المنافقين عبد اللّه بن ابى و أصحابه فانه من تشبه بقوم فهو منهم رواه ابو داود عن ابن عمر مرفوعا و الطبراني عن حذيفة مرفوعا لا سيما إذا كان وجه المشابهة موجبا للكفر كما فى ما نحن فيه فان ذلك القول انكار للقدر و هو كفر وَ قالُوا كلمة قالوا صيغة ماض لكنه بمعنى الاستقبال بدليل جعل ظرفه إذا دون إذ و إذا للمستقبل و ان دخل على الماضي و انما أورد صيغة الماضي لتدل على تحققه قطعا كما فى قوله تعالى إذا السّماء انشقّت لِإِخْوانِهِمْ فى النسب او فى النفاق قال بعض المفسرين يعنى قالوا لاجل إخوانهم و فيهم لان قولهم لو كانوا عندنا ما ماتوا و ما قتلوا يدل على انهم لم يكونوا مخاطبين قلت و جاز ان يكون جعل القول لاخوانهم باعتبار بعضهم الحاضرين و ضمير لو كانوا إليهم باعتبار بعضهم المقتولين او الأموات و الاسناد الى الجميع باعتبار البعض شائع و تفسير الاخوة باخوة النفاق لا بتصور الا فى المخاطبين و الا فالذين كانوا غزّى لم يكونوا منافقين غالبا إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ اى ذهبوا فيها و أبعدوا للتجارة او غيرها و إذا متعلق بقالوا و يعتبر ذلك الزمان ممتدا وقع فيه الضرب و الموت و القول-

قال البيضاوي و كان حقه إذ لقوله قالوا لكنه جى ء على حكاية الحال الماضي و اعترض عليه بان الماضي مع إذا كلمة استقبال لا يكون للحال فكيف يصح حكاية عن الحالة الماضية بفرض وجود ذلك الزمان الان او بفرضك متكلما فى الماضي فالاولى ما

قلنا ان قالوا للاستقبال أَوْ كانُوا غُزًّى جمع غازى كعاف و عفّى يعنى كانوا على سفر او غزّى فماتوا او قتلوا لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا مقولة قالوا- و انما قالوا ذلك لعدم ايمانهم بالقدر فكذلك القدرية لِيَجْعَلَ اللّه اللام للعاقبة كما فى قوله تعالى ليكون لهم عدوّا و حزنا ذلِكَ الاعتقاد الذي دل عليه القول حَسْرَةً

فِي قُلُوبِهِمْ قوله ليجعل اما متعلق بقالوا فالمعنى يصير عاقبة قولهم و اعتقادهم ذلك حسرة و اما متعلق بلا تكونوا و المعنى لا تكونوا مثلهم فى النطق بهذا القول و الاعتقاد و ذلك اشارة الى ما دل عليه النهى و المعنى لا تكونوا مثلهم ليجعل اللّه انتفاء كونكم مثلهم حسرة فى قلوبهم فان مخالفتكم إياهم يغمهم وَ اللّه يُحْيِي وَ يُمِيتُ لا تأثير للسفر و الجهاد فى الموت و لا لضدهما فى الحيوة فانه قد يموت المقيم القاعد دون المسافر الغازي وَ اللّه بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) تهديد للمؤمنين على مما ثلتهم على قراءة الخطاب

و قرا ابن كثير و حمزة و خلف ابو محمدو الكسائي يعملون بالياء

على الغيبة على انه وعيد للذين كفروا.

١٥٧

وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّه أَوْ مُتُّمْ فى سبيله- قرا نافع و حمزة و الكسائي بكسر الميم متّم متّ متنا حيث وقع من مات يمات على وزن خاف يخاف و ابن كثير و ابو عمرو ابن عامر و ابو بكر بالضم حيث وقع من مات يموت على وزن قال يقول و حفص بالضم فى هذين الحرفين خاصة و فى الباقي بالكسر لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللّه وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) قرا حفص بالياء على الغيبة- و الباقون بالتاء على الخطاب جواب للقسم سار مسد الجزاء للشرط يعنى ان السفر و الجهاد لا تأثير له فى الموت و لا لضده فى الحيوة فان اللّه هو يحيى و يميت و لئن كان له نوع تأثير فى الموت على سبيل جرى العادة فما يترتب على ذلك الموت من مغفرة من اللّه و رحمته خير مما يجمعون من الدنيا و منافعها لو لم يموتوا فليطلب ذلك الخير و لا يجوز التحسر على ما فات من الدنيا.

١٥٨

وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ على اى وجه كان لَإِلَى اللّه تُحْشَرُونَ (١٥٨) لا الى غيره فعليكم بذل الجهد فى تحصيل الانس به تعالى و المحبة حتى يكون حشركم الى المحبوب و خلاصا عن سجن الفراق-.

١٥٩

فَبِما رَحْمَةٍ تقديم الجار و المجرور للحصر و ما مزيدة للتأكيد و مزيد الدلالة على الحصر كائنة مِنَ اللّه عليك و على أمتك لِنْتَ لَهُمْ اى للمؤمنين و رفقت بهم و اغتممت لاجلهم بعد ما خالفوك بتوفيق اللّه تعالى و حسن الهامه ثم بين وجه كون ذلك اللين رحمة بقوله وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا سى ء الخلق جافيا غَلِيظَ الْقَلْبِ قاسية لَانْفَضُّوا تفرقوا مِنْ حَوْلِكَ و لم يسكنوا إليك و حينئذ يتخلعوا عن ربقة الإسلام و استحقاق الجنة و يقل أجرك بقلة اتباعك فَاعْفُ عَنْهُمْ فيما كان حقك وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ فى حقوق اللّه تعالى وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ امر الحرب و غيره مما يتعلق بالمشاورة «١» و ليس فيه عندك علم من اللّه تعالى استظهارا برأيهم و تطيبا لنفوسهم و تمهيد السنة المشاورة للامة- روى البغوي بسنده عن عائشة قالت ما رايت رجلا اكثر استشارا «٢» للرجال من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فَإِذا عَزَمْتَ على شى ء بعد المشاورة فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه اى فوض أمرك اليه و اعتمد عليه و كان هذا شأنه عليه الصلاة و السلام و لذا قال بعد ما خرج للقتال يوم أحد لا ينبغى لنبى ان يلبس لامته فيضعها حتى يقاتل يعنى بعد المشاورة اعتمد على اللّه تعالى لا على رأيك و آراء المتشاورين «٣» لان بناء

(١) روى عن ابن عباس و شاورهم فى الأمر أبا بكر و عمرو فى رواية عن ابن عباس قال نزلت هذه الاية فى ابى بكر و عمر فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم لو اجتمعتما فى مشورة ما خالفتكما- و عن ابن عمر كتب ابو بكر الى عمر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان يشاور فى الحرب فعليك به- و عن الضحاك قال كان عمر بن الخطاب يشاور حتى المرأة- منه رحمه اللّه.

(٢) فى الأصل استشارة-.

(٣) فى الأصل مستشارين-.

المشاورة استخراج ما عندهم من العلم بالأصلح بتلاحق الافكار بناء على جرى العادة و لا يعلم ما فى الواقع من الغيب الا اللّه تعالى- و قد يتخبط العقول فى النظر و قد يفعل اللّه تعالى على خرق العادة فلا وجه للاعتماد على الآراء- و التوكل ان يلتجى ء الى اللّه خاصة و يطلب منه ان يجعل عاقبة سعيه خيرا و يحسن الظن به فى ذلك قيل التوكل ان لا تعصى اللّه من أجل رزقك و هذا القول مستلزم للالتجاء و لا التجاء فى المعصية و قيل معناه ان لا يطلب لنفسك ناصرا غير اللّه و لا لرزقك خازنا غيره و لا لعملك شاهدا غيره-

قلت و تخصيص الالتجاء و الطلب منه تعالى لا يتصور بدون هذه الأمور عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يدخلون الجنة سبعون الفا من أمتي بغير حساب قيل يا رسول اللّه من هم قال هم الذين لا يكتوون و لا يسترقون و لا يتطيرون و على ربهم يتوكلون متفق عليه و كذا روى البغوي عن عمران بن حصين- و عن عمر بن الخطاب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو انكم تتوكلون على اللّه حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو اخماصا و تروح بطانا رواه الترمذي و ابن ماجة-

فان قيل الظاهر من حديث ابن عباس ان التوكل ترك التشبث بالأسباب العادية كالاكتواء و الاستراق-

قلت لابل ترك الاعتماد على الأسباب الا ترى الاستيشار من باب التشبث بالأسباب فاللّه سبحانه امر بالاستشارة ثم امر بترك الاعتماد عليه و قوله عليه الصلاة و السلام فى الحديث و على ربهم يتوكلون ليس تفسيرا لقوله لا يكتوون و لا يسترقون فان العطف يقتضى المغائرة- و لعل ذلك السبعون الف لا يتشبّثون بالأسباب غالبا- او المراد ترك التشبث ببعض الأسباب المكروهة كيف و تشبث الأسباب من لوازم هذه النشئة فان الاكل و الشرب من اسباب الحيوة عادة و الصلاة و الصوم من اسباب دخول الجنة غالبا و الواجب إتيانها إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) عليه و كونه محبوبا للّه تعالى هو المقصد الأسنى- و ايضا التوكل على اللّه يفضى الى ان ينصرهم اللّه و يهديهم الى الصلاح قال اللّه تعالى وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه فَهُوَ حَسْبُهُ و قال فى الحديث القدسي انا عند ظن عبدى بي.

١٦٠

إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللّه فَلا غالِبَ لَكُمْ أحد إذ يستحيل ان يكون المنصور من اللّه مغلوبا فانه يستلزم عجزه تعالى عن ذلك علوا كبيرا وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ و منعكم نصره فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ يعنى لا أحد ينصركم لان افعال العباد مخلوقة للّه تعالى فلا يتصور حقيقة النصر من أحد على تقدير خذ لانه منه تعالى مِنْ بَعْدِهِ اى من بعد خذ لانه او المعنى بعد ما جاوزتم اللّه فى الاستنصار لا يتصور النصر من غيره- فهذه الاية برهان على وجوب التوكل على اللّه عقلا بعد ما ثبت وجوبه سمعا بصيغة الأمر وَ عَلَى اللّه خاصة فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) لعلمهم و ايمانهم بانه لا ناصر سواه.

١٦١

وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ قرا ابن كثير و ابو عمرو و عاصم يغلّ بفتح الياء و ضم الغين على البناء للفاعل و الباقون بضم الياء و فتح الغين على البناء للمفعول- و الغلول الخيانة فى الغنائم فعلى القراءة الاولى قال محمد بن إسحاق هذا فى الوحى و المعنى انه ما كان لنبى ان يكتم شيئا من الوحى رغبة او رهبة او مداهنة- و قيل ان الأقوياء ألحوا على النبي صلى اللّه عليه و سلم يسئلونه فى المغنم فانزل اللّه تعالى و ما كان لنبىّ ان يغلّ فيعطى قوما و يمنع آخرين بل عليه ان يقسم بينهم بالسوية-

و اخرج ابو داود و الترمذي و حسنه عن ابن عباس قال نزلت هذه الاية فى قطيفة حمراء افتقدت يوم بدر فقال بعض الناس لعل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أخذها فانزل اللّه تعالى وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ يعنى ان الاخذ من الغنيمة لا يحل للنبى و هو غلول- و قال الكلبي و مقاتل نزلت فى غنائم أحد حين ترك الرماة المركز للغنيمة و قالوا نخشى ان يقول النبي صلى اللّه عليه و سلم من أخذ شيئا فهو له و ان لا يقسمها كالم يقسمها يوم بدر فتركوا المركز و وقعوا فى الغنائم فقال لهم النبي صلى اللّه عليه و سلم الم اعهد إليكم لن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم امرى قالوا تركنا بقية إخواننا وقوفا فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم بل ظننتم انا تغل فلا نقسم لكم فانزل اللّه تعالى هذه الاية

و اخرج ابن ابى شيبة فى المصنف و ابن جرير عن الضحاك مرسلا انه بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم طلايع فغنم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقسم على من معه و لم يقسم للطلائع فنزلت هذه الاية فيكون تسمية حرمان بعض المستحقين غلولا تغليظا و مبالغة- و على القراءة الثانية لها وجهان أحدهما ان يكون المعنى ما كان للنبى ان ينسب الى الغلول و يكون مرجع القراءتين واحدا- و ثانيهما ان يكون معناه ما كان لنبى ان يخان يعنى ان يخونه أمته- قال قتادة ذكر لنا انها نزلت فى طائفة غلت من أصحابه-

و اخرج الطبراني فى الكبير بسند رجاله ثقات عن ابن عباس قال بعث النبي صلى اللّه عليه و سلم جيشا فردت رأيته ثم بعث فردت بغلول رأس غزال من ذهب فنزلت هذه الاية و ما كان لنبىّ ان يغلّ وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ قال الكلبي يمثل له ذلك الشي ء فى النار فيقال له انزل فخذه فينزل فيحمله على ظهره فاذا بلغ موضعه وقع فى النار ثم كلف ان ينزل اليه فيخرجه يفعل ذلك به عن ابى هريرة قال خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عام خيبر فلم يغنم ذهبا و لا فضة الا الأموال و الثياب و المتاع قال فوجه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نحو وادي القرى و كان رفاعة بن زيد وهب لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عبدا اسود يقال له مدعم قال فخرجنا حتى إذا كنا بوادي القرى فبينما مدعم يحط رحل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا جاءه سهم عائر فاصابه فقتله- فقال الناس هنيئا له الجنة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كلا و الذي نفسى بيده ان الشملة التي أخذ يوم خيبر من الغنائم لم يصبها المقاسم يشتعل عليه نارا فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك او شراكين الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم شراك او شرا كان من ناد رواه البغوي- و فى الصحيحين عنه هذا الحديث بلفظ اهدى رجل لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم غلاما يقال له مدعم الحديث نحوه- و عن يزيد بن خالد الجهني انه قال توفى رجل يوم خيبر فذكروا لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فزعم يزيد «١» ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال صلوا على صاحبكم فتغيرت وجوه الناس لذلك فزعم يزيد ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ان صاحبكم قد غل فى سبيل اللّه قال ففتحنا متاعه فوجدنا خرزات من خرز اليهود ما يساوى درهمين رواه مالك و ابو داود و النسائي و عن ابى حميد الساعدي قال استعمل النبي صلى اللّه عليه و سلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال هذا لكم و هذا اهدى لى فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فحمد اللّه و اثنى عليه

(١) فى الأصل زيد- ابو محمد عفا اللّه عنه.

ثم قال اما بعد فانى استعمل الرجل منكم على العمل مما و لانى اللّه فيأتى أحدكم فيقول هذا لكم و هذا اهدى لى أ فلا جلس فى بيت أبيه و امه حتى يأتيه هديته ان كان صادقا- و اللّه لا يأخذ أحدكم شيئا بغير حقه الا لقى اللّه يحمله يوم القيامة فلا اعرفن أحدا منكم لقى اللّه تعالى يحمل بعيرا له رغاء او بقرة لها خوار او شاة يتعر متفق عليه و فى رواية ثم رفع يديه ثم قال اللّهم هل بلغت اللّهم هل بلغت- و عن عدى بن عميرة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتى به يوم القيامة رواه مسلم و عن ابى هريرة قام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فعظّم الغلول و قال الا لا القين أحدكم يجى ء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول يا رسول اللّه أغثني أقول لا املك لك من اللّه شيئا قد أبلغتك ثم ذكر على رقبته فرس على رقبته شاة على رقبته صامت فذكر نحوه متفق عليه- و عن عمر بن الخطاب مرفوعا نحوه رواه ابو يعلى و البزار- و ورد نحو هذا من حديث سعد بن عبادة و هلب عند احمد و ابن عمرو عائشة عند البزار و ابن عباس و عبادة بن الصامت و ابن مسعود عند الطبراني كلهم فى سعاة الصدقة إذا غلوا منها و عن ابى مالك الأشعري عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال أعظم الغلول عند اللّه ذراع من الأرض تجدون الرجلين جارين فى الأرض او فى الدار فيقطع أحدهما من حق صاحبه ذراعا إذا يقطعه طوّقه من سبع ارضين يوم القيامة- و روى عن قيس بن ابى حازم عن معاذ بن جبل قال بعثني رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الى اليمن قال لا تصيبن شيئا بغير اذنى فانه غلول و من يغلل يأت بما غلّ يوم القيمة و روى عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال إذا وجد ثم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه و اضربوه- و روى عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أبا بكر و عمر حرقوا متاع الغال و ضربوه رواه ابو داود عن عبد اللّه بن عمرو قال كان على ثقل النبي صلى اللّه عليه و سلم رجل يقال له كركرة فمات فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هو فى النار فذهبوا ينظرون فوجدوا عباءة قد غلها رواه البخاري و عن ابن عباس قال حدثنى عمر قال كان يوم خيبر اقبل نفر من صحابة النبي صلى اللّه عليه و سلم فقالوا فلان شهيد فلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا فلان شهيد فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كلا انى رايته فى النار فى بردة غلها او عباءة ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يا ابن الخطاب اذهب فناد فى الناس انه لا يدخل الجنة الا المؤمنون ثلاثا قال فخرجت فناديت الا انه لا يدخل الجنة الا المؤمنون ثلاثا رواه مسلم ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ يعطى جزاء ما كسبت وافيا كاملا كان المناسب بما سبق ثم يوقى ما كسب لكنه عمم الحكم ليكون كالبرهان على المقصود و المبالغة فيه وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) فلا ينقص ثواب مطيعهم و لا يزاد فى عقاب عاصيهم.

١٦٢

أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللّه بالطاعة و هم المهاجرون و الأنصار كَمَنْ باءَ رجع بِسَخَطٍ مِنَ اللّه بالمعاصي و الغلول و هم المنافقون و بعض الفساق وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) جهنم.

١٦٣

هُمْ يعنى من اتبع رضوان اللّه و من باء بسخط من اللّه دَرَجاتٌ شبهو بالدرجات لما بينهم من التفاوت فى الثواب و العقاب او المعنى هم أولوا درجات متفاوتة عِنْدَ اللّه بعض المؤمنين اقرب الى اللّه من بعض و بعض الكفار و العصاة فى درك أسفل من النار من بعض وَ اللّه بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) عالم بأعمالهم فيجازيهم على حسبها-.

١٦٤

لَقَدْ مَنَّ اللّه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ قيل المراد من أمن من قومه خاصة- و تخصيصهم مع ان نعمة البعثة عامة لسائر المؤمنين لزيادة انتفاعهم به و اكتسابهم مزيد الفضل بسببه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الناس تبع لقريش مؤمنهم لمؤمنهم و كافرهم لكافرهم متفق عليه- و قال عليه السلام لا يزال هذا الأمر يعنى الخلافة فى قريش ما بقي منهم اثنان متفق عليه- و قيل أراد به مؤمنوا العرب كلهم لانه ليس حى من احياء العرب إلا و له فيهم نسب الا بنى تغلب

قال اللّه تعالى هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ و معنى كونه من أنفسهم يعنى من جنسهم عربيّا مثلهم ليفهموا كلامه بسهولة و يكونون واقفين على حاله فى الصدق و الامانة مفتخرين به- عن سلمان قال قال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا تبغضني فتفارق دينك قلت يا رسول اللّه كيف أبغضك و بك هدانا اللّه قال تبغض العرب فتبغضنى رواه الترمذي و قال هذا حديث حسن- و قيل أراد به جميع المؤمنين كما فى قوله تعالى لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يعنى من الانس دون الملائكة حتى يتحقق التأثير و التأثر لكمال المناسبة قال اللّه تعالى لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا. يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ يعنى القران بعد ما كانوا جهالا وَ يُزَكِّيهِمْ اى يطهر قلوبهم عن العقائد الفاسدة و الاشتغال بغير اللّه و نفوسهم عن الرذائل و أبدانهم عن الأنجاس و الاخباث و الأعمال القبيحة وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ يعنى العلوم المستنبطة من الكتاب او ما يصلح ان يكتب فى الصحف وَ الْحِكْمَةَ العلوم الحقة المستحكمة التي يستفيدها الحكيم من الحكيم بلا توسط كتاب و لا بيان وَ إِنْ كانُوا مخففة من المثقلة و اسمه ضمير الشأن يعنى انه كانوا مِنْ قَبْلُ بعثته لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤) اى ظاهر.

١٦٥

أَ وَ لَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ يوم أحد من قتل سبعين و الهزيمة قَدْ أَصَبْتُمْ يوم بدر من الكفار مِثْلَيْها روى احمد و الشيخان و النسائي عن البراء قال أصاب المشركون منا يوم أحد سبعين و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين و مائة سبعين أسيرا و سبعين قتيلا-

قلت جعل اللّه سبحانه الأسير مثل القتيل لكونهم قادرين على قتلهم و كان قتلهم هو المرضى من اللّه تعالى و انما كان عدم القتل باختيارهم الفداء من عند أنفسهم- و الظرف يعنى لما متعلق بقوله تعالى قُلْتُمْ متعجبين انّى هذا الهزيمة و القتل علينا و نحن مسلمون و فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و الهمزة لانكار هذا القول و المنع عنه و الجملة معطوفة على ما سبق من قصة أحدا ما على قوله لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّه يعنى لقد صدقكم اللّه وعده و قلتم انى هذا حين المصيبة و اما على قوله اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ و يحتمل العطف على قوله لَقَدْ مَنَّ اللّه يعنى وجود الرسول صلى اللّه عليه و سلم منه منه تعالى عليكم و أنتم تريدون ان تنسبوا اليه المصيبة و تجعلوها بسببه او معطوف على محذوف تقديره انما وعدكم النصر بشرط الصبر و التقوى لم تصبروا و لما أصابتكم مصيبة قلتم انى هذا او تقديره أ تنازعتم و عصيتم الرسول و فشلتم و لما أصابتكم مصيبة قلتم انى هذا و جاز ان يكون معطوفا على القول المحذوف اشارة الى ان قولهم كان غير واحد تقديره أ قلتم أقوالا غير واحد لا ينبغى و لما أصابتكم مصيبة قلتم انى هذا قُلْ يا محمد هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ اى بما اقترفتم من المعصية بترك المركز فان الوعد كان مشروطا بالصبر و التقوى و قيل يعنى باختياركم الفداء عن أسارى بدر اخرج ابن ابى حاتم عن عمر بن الخطاب قال عوقبوا يوم أحد بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون و فرّ اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و كسر رباعيته و هشّمت البيضة على رأسه و سال الدم على وجهه فانزل اللّه تعالى أَ وَ لَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ الاية و

قال البغوي روى عبيدة السلماني عن على قال جاء جبرئيل عليه السلام الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال ان اللّه كره ما صنع قومك فى أخذهم الفداء من الأسارى و قد أمرك ان تخيّرهم بين ان يقدموا فيضرب أعناقهم و بين ان يأخذوا الفداء على ان يقتل منهم عدتهم فذكر ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالوا يا رسول اللّه عشائرنا و إخواننا لابل نأخذ فداهم فتقوى به على قتال عدونا و يستشهد مناعدتهم فقتل يوم أحد سبعون عدد أسارى اهل بدر فهذا قوله هو من عند أنفسكم (فائدة) روى سعيد بن منصور عن ابى الصخر مرسلا قال قتل يوم أحد سبعون اربعة من المهاجرين حمزة و مصعب بن عمير و عبد اللّه بن جحش و شماس بن عثمان و سائرهم من الأنصار و روى ابن حبان و الحاكم عن أبيّ بن كعب قال أصيب يوم أحد من الأنصار اربعة و ستون و من المهاجرين ستة- قال الحافظ و كان الخامس سعد مولى حاطب بن بلتعة «١» و السادس ثقيف بن عمرو الأسلمي- و روى البخاري عن قتادة قال ما نعلم حيا من احياء العرب اكثر شهيدا من الأنصار- قال قتادة حدثنا انس قال قتل منهم يوم أحد سبعون و يوم بير معونة سبعون و يوم اليمامة سبعون- و نقل الحافظ محب الطبري

(١) الصحيح ابن ابى بلتعة-.

عن مالك ان شهداء أحد خمسة و سبعون منها أحد و سبعون من الأنصار- و عن الشافعي انهم اثنان و سبعون- و سرد فى العيون اسماء شهداء أحد فبلغ ستة و تسعين من المهاجرين أحد عشر و من الأوس ثمانية و ثلاثون و من الخزرج سبعة و أربعون- و فى العيون عن الدمياطي مائة و اربعة او خمسة و كتاب اللّه يدل على كونهم سبعين إِنَّ اللّه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من النصر و الخذلان و غيرهما قَدِيرٌ (١٦٥).

١٦٦

وَ ما أَصابَكُمْ من المصيبة يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع المسلمين و جمع المشركين يعنى يوم أحد فَبِإِذْنِ اللّه فهو قد حصل بقضاء اللّه و قدره و سماه اذنا لانه بالأمر التكويني فى قوله كن فيكون و المستحيل فى ما لا يشرع هو الأمر التكليفي دون الأمر التكويني وَ لِيَعْلَمَ يعنى لمصالح كثيرة و ليعلم الْمُؤْمِنِينَ (١٣٦).

١٦٧

وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا ممتازين عند الناس يعنى يتحقق امتيازهم عند الناس فيعرفوا ايمان هؤلاء و كفر هؤلاء وَ قِيلَ لَهُمْ اى للمنافقين عطف على نافقوا او كلام مبتدا تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه أَوِ ادْفَعُوا هذا مقولة القول يعنى قاتلوا الكفار فى سبيل اللّه ان استطعتم و الا فادفعوهم بتكثيركم سواد المؤمنين فاستقيموا و لا تفروا او المعنى قاتلوا فى سبيل اللّه بالإخلاص ان كنتم مؤمنين حقا او ادفعوا الأعداء عن ذراريكم ان لم تقاتلوا اللّه تعالى قالُوا يعنى المنافقين عبد اللّه بن أبيّ و أصحابه فى جواب المؤمنين حين انصرفوا عن أحد و كانوا ثلاثمائة لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا هذه المصادمة قتالا لَاتَّبَعْناكُمْ لكنه ليس بقتال بل إلقاء بالأنفس فى التهلكة او المعنى انه لو تكونوا على الحق و نعلمه قتالا فى سبيل اللّه لاتبعناكم او المعنى او نعلم انه قتال معنا لاتبعناكم لكن ليس هذا قتالا معنا و لا قصد للمشركين الا قتالا معكم او المعنى لو نحسن قتالا لاتبعناكم فيه انما قالوه استهزاء بهم هُمْ اى المنافقون لِلْكُفْرِ اللام بمعنى الى اى الى الكفر يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ اى الى الايمان يعنى ان المنافقين كانوا مترددين بين الايمان و الكفر كالشاة العائرة بين الغنمين ان أصابهم فى الإسلام خير اطمأنوا به و ان أصابتهم فتنة انقلبوا الى الكفر فلما كان يوم أحد يوم الفتنة صاروا اقرب الى الكفر فانه أول يوم ظهر فيه كفرهم و نفاقهم- و قيل معناه هم لاهل الكفر اقرب نصرة منهم لاهل الايمان فان انخزالهم و مقالهم تقوية للمشركين و تخذيل للمؤمنين يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ يعنى يظهرون الإسلام بأفواههم ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ و اضافة القول الى الأفواه تأكيد لنفى صدوره عن الاعتقاد و تحقير لهم يعنى ليس لهم من الايمان الا مجرد القول و هذه الجملة بيان لحالهم مطلقا لا فى هذا اليوم و لذا فصل عما سبق وَ

اللّه أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) من النفاق منكم.

١٦٨

الَّذِينَ قالُوا مرفوع بدلا من الضمير المرفوع فى يكتمون او منصوب على الذم او الوصف للذين نافقوا- او مجرور بدلا من الضمير فى بأفواههم او قلوبهم لِإِخْوانِهِمْ اى لاجل إخوانهم فى النسب و فى حقهم عمن قتل يوم أحد وَ قَعَدُوا حال بتقدير قد اى قالوا قاعدين عن القتال لَوْ أَطاعُونا فى القعود ما قُتِلُوا كما لم نقتل قرا هشام ما قتّلوا بالتشديد للتكثير و الباقون بالتخفيف قُلْ لهم يا محمد فَادْرَؤُا فادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨)

ان الحذر يدفع القدر- روى الترمذي و حسنه و ابن ماجة و ابن خزيمة و صححه و البغوي عن جابر بن عبد اللّه قال لقينى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال لى يا جابر مالى أراك منكسرا قلت يا رسول اللّه استشهد ابى و ترك عيالا و دينا قال أ فلا أبشرك بما لقى اللّه به أباك قلت بلى يا رسول اللّه قال ما كلم اللّه تعالى أحدا قط الا من وراء الحجاب و أحيا أباك و كلمه كفاحا قال يا عبدى تمن علىّ أعطيك قال يا رب أحيني فاقتل فيك الثانية قال الرب تبارك و تعالى انه قد سبق منى انهم لا يرجعون قال فانزلت فيهم.

١٦٩

وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا الاية- و روى مسلم و احمد و ابو داود و الحاكم و البغوي عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لمّا أصيب إخوانكم يوم أحد جعل اللّه عز و جل أرواحهم فى أجواف طير خضر ترد انهار الجنة و تأكل من ثمارها و تسرح فى الجنة حيث شاءت و تأوى الى قناديل من ذهب تحت العرش- فلما راوا طيب مقيلهم و مطعمهم و مشربهم و راوا ما أعد اللّه لهم من الكرامة قالوا يا ليت قومنا راوا ما نحن فيه من النعمة و ما صنع اللّه بنا كى يرغبوا فى الجهاد و لا ينكلوا عنه فقال اللّه تعالى عز و جل انا مخبر عنكم و مبلغ إخوانكم ففرحوا بذلك و استبشروا فانزل اللّه تعالى و روى ابن المنذر عن انس قال لما قتل حمزة و أصحابه يوم أحد قالوا يا ليت مخبرا يخبر إخواننا الذي صرنا اليه من كرامة اللّه فاوحى إليهم ربهم انا رسولكم الى إخوانكم فانزل اللّه تعالى لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا الى قوله تعالى لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ و قيل ان اولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة تحسروا على الشهداء و قالوا نحن فى النعمة و آباؤنا و أبناؤنا و إخواننا فى القبور فانزل اللّه تعالى وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا قرا هشام لا يحسبنّ بالياء للغيبة و الباقون بالتاء للخطاب

و قرا ابن عامر قتّلوا هنا و فى الحج بتشديد التاء فيهما لكثرة المقتولين- و الباقون بالتخفيف و الخطاب لاولياء الشهداء او للرسول صلى اللّه عليه و سلم و جاز ان يكون خطابا للمنافقين الذين قالوا لو أطاعونا ما قتلوا و يكون حينئذ داخلا تحت قل و على قراءة هشام الضمير راجع الى اولياء الشهداء و جاز اسناده الى ضمير الرسول صلى اللّه عليه و سلم او الضمير راجع الى المنافقين الذين قالوا لو أطاعونا و جاز اسناده الى الذين قتلوا او المفعول محذوف لانه فى الأصل مبتدا جائز الحذف عند القرينة و انما لا يجوز حذف أحد المفعولين بلا قرينة لانه شطر الجملة فِي سَبِيلِ اللّه يعنى فى الجهاد لفظ فى سبيل اللّه عام يشتمل من مات فى شى ء من امور الخير غير ان لفظ القتل لا يشتمله عبارة لكن بدلالة النص يدخل فيه بالطريق الاولى او بالمساوات او بالقياس من جاهد فى اللّه مع نفسه جهادا اكبر فانه أشد و أشق من الجهاد الأصغر أَمْواتاً غير مشتعرين باللذات و النعماء بَلْ أَحْياءٌ روى ابو حاتم عن ابى العالية فى قوله تعالى بل احياء قال فى صور طير خضر يطيرون فى الجنة حيث شاءوا

قال البغوي أرواحهم تركع و تسجد كل ليلة تحت العرش الى يوم القيامة روى ابن مندة عن طلحة بن عبد اللّه رضى اللّه عنه قال أردت مالى بالغابة فادركنى الليل فاويت الى قبر عبد اللّه بن عمرو بن حرام فسمعت قراءة من القبر ما سمعت احسن منها فجئت الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فذكرت ذلك له فقال ذاك عبد اللّه الم تعلم ان اللّه قبض أرواحهم فجعلها فى قناديل من زبرجد و ياقوت ثم علقها وسط الجنة فاذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم فلا تزال كذلك حتى إذا طلع الفجر ردت أرواحهم الى مكانها التي كانت فيها- و على هذا القول يكتسب الشهيد الدرجات و ثواب الطاعات بعد الموت ايضا- و الشهيد لا يبلى فى القبر و لا يأكله الأرض و هذا ايضا اثر من اثار حياته روى البيهقي من طرقه عن جابر بن عبد اللّه رضى اللّه عنهما و ابن سعد و البيهقي من طرق اخر عنه و محمد بن عمرو عن شيوخه عن جابر قال استصرخنا الى قتلانا يوم أحد حين اجرى معاوية العين فاتيناهم فاخرجناهم رطابا تثنى أطرافهم قال شيوخ محمد بن عمرو وجدوا والد جابر و يده على جرحه فاميطت يده عن جرحه فانبعث الدم فردت الى مكانها فسكن الدم قال جابر فرايت ابى فى حفرته كانه نائم و النمرة التي كفن فيها كما هى و الخرمة على رجليه على هيئته و بين ذلك ست و أربعون سنة و أصابت المسحاة رجل رجل منهم «١» قال الشيوخ و هو حمزة فانبعث الدم قال ابو سعيد الخدري لا ينكر

(١) فى الأصل فيهم.

بعد هذا منكر و لقد كانوا يحفرون التراب فكلما حفروا نثرة من التراب فاح عليهم ريح المسك-

قال البغوي قال عبيد بن عمير مر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حين انصرف من أحد على مصعب بن عمير و هو مقتول فوقف عليه و دعا له ثم قرا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّه عَلَيْهِ ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اشهد ان هؤلاء شهداء عند اللّه يوم القيامة الا فاتوهم و زوروهم و سلموا عليهم فو الذي نفسى بيده لا يسلم عليهم أحد الى يوم القيامة الا ردوا عليه و روى الحاكم و البيهقي عن ابى هريرة و البيهقي عن ابى ذر و ابن مردوية عن خباب بن الأرت ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مر بمصعب بن عمير و هو مقتول على طريقه فوقف عليه فدعا له ثم قرا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّه عَلَيْهِ الاية ثم قال لقد رايتك بمكة و ما بها ارق حلة و لا احسن لمة منك-

(مسئلة) هل يبلغ غير الشهيد درجة الشهيد قلت نعم و ما ورد فى فضائل الشهداء لا يقتضى نفى الحكم عمن عداهم و قد روى ابو داود و النسائي عن عبيد بن خالد ان النبي صلى اللّه عليه و سلم أخي بين رجلين فقتل أحدهما فى سبيل اللّه ثم مات اخر بعد جمعة او نحوها فصلوا عليه فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم ما قلتم قالوا دعونا اللّه ان يغفر له و يرحمه و يلحقه بصاحبه فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم فاين صلاته بعد صلاته و عمله بعد عمله او قال صيامه بعد صيامه لما بينهما ابعد مما بين السماء و الأرض- و قد ذكرنا بحث مقر الأنبياء و الشهداء و الصديقين و المؤمنين و غيرهم فى تفسير سورة المطففين و مسئلة حيوة الشهداء فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّه أَمْواتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ اى ذو زلفى و قرب منه تعالى قربا بلا كيف قال الشيخ الشهيد شيخى و امامى رضى اللّه عنه و رضى عنا بسره السامي انه يرى بنظر الكشف تجليات ذاتية على الشهداء لما بذلوا ذواتهم فى سبيل اللّه قال اللّه تعالى وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّه فهم قدموا لانفسهم بدل الذوات فجزاهم اللّه تعالى بالتجليات الذاتية الصرفة يُرْزَقُونَ (١٦٩) من الجنة تأكيد لكونهم احياء.

١٧٠

فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ أبهم اللّه سبحانه ما أتاهم لكونه بحيث لا يدركه فهم و لا يحيط بتفصيله عبارة روى ابن ابى شيبة و عبد الرزاق فى المصنف و احمد و مسلم و ابن المنذر عن مسروق قال سالنا عبد اللّه يعنى ابن مسعود عن هذه الآيات فقال قد سالنا عن ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال أرواحهم فى جوف طير خضر و لفظ عبد الرزاق أرواح الشهداء كطير خضر لها قناديل من ذهب معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوى الى تلك القناديل فاطلع عليهم ربهم اطلاعة فقال هل تشتهون شيئا ففعل ذلك ثلاث مرات و فى رواية فقال سلونى ما شئتم فقالوا يا رب كيف نسئلك و نحن نسرح فى الجنة فى ايها شئنا- فلما راوا انهم لم تتركوا من ان يسئلوا شيئا قالوا يا ربنا نريد ان ترد أرواحنا فى أجسادنا حتى نقاتل فى سبيلك مرة اخرى فلما راى ان ليس لهم حاجة تركوا وَ يَسْتَبْشِرُونَ يسرون و يفرحون بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ الذين تركوهم احياء فى الدنيا على مناهج الايمان و الطاعة و الجهاد او المعنى لم يلحقوا بهم فى الدرجة مِنْ خَلْفِهِمْ زمانا او رتبة أَلَّا خَوْفٌ بدل اشتمال من الذين اى بان لا خوف عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) قيل معناه يحتمل انهم يستبشرون بإخوانهم الذين لم يلحقوا بهم ان لا خوف عليهم يعنى على الشهداء من جهتهم اى من جهة الاخوان لاجل حقوق العباد فى ذمتهم و مخاصمتهم معهم لانه تعالى سيرضيهم منهم و يمنعهم عن المخاصمة-

قلت و يحتمل انهم يستبشرون بإخوانهم و أحبائهم الذين لم يلحقوا بهم فى درجتهم ان لا خوف على إخوانهم و لا هم يحزنون لما اعطى اللّه للشهداء درجة الشفاعة فى إخوانهم و احبابهم اخرج ابو داود و ابن حبان عن ابى الدرداء قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول الشهيد يشفع فى سبعين من اهل بيته

و اخرج احمد و الطبراني مثله من حديث عبارة بن الصامت و الترمذي و ابن ماجة مثله من حديث المقدام بن معد يكرب-

و اخرج ابن ماجة و البيهقي عن عثمان بن عفان عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء- و أخرجه البزار و زاد فى آخره ثم المؤذنون-

قلت لعل المراد بالعلماء الذين سبقوا على الشهداء فى الشفاعة العلماء الراسخون علماء الحقيقة-

١٧١

يَسْتَبْشِرُونَ كرره للتأكيد او يقال الاول بشارة بدفع الضرر و هذا بشارة بجلب النفع.

بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّه ثوابا لاعمالهم وَ فَضْلٍ زيادة عليه من اللّه تعالى و ذلك رؤية اللّه و مراتب قربه و تنكيرهما للتعظيم وَ أَنَّ اللّه لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) قرا الجمهور بفتح انّ عطفا على فضل فهو من جملة المستبشر به- عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال تكفل اللّه لمن جاهد فى سبيل اللّه لا يخرجه من بيته الا الجهاد فى سبيله و تصديق كلمته ان يدخله الجنة او يرجعه الى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من اجر و غنيمة و قال و الذي نفسى بيده لا يكلم أحد فى سبيل اللّه و اللّه اعلم بمن يكلم فى سبيله الا جاء يوم القيامة و جرحه تبعث دما اللون لون الدم و الريح ريح المسك رواه ( «١») و عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الشهيد لا يجد الم القتل الا كما يجد أحدكم الم القرصة «٢» رواه الدارمي و الترمذي و قال الترمذي هذا حديث حسن غريب و رواه النسائي بسند صحيح و رواه الطبراني فى الوسط عن ابى قتادة بسند صحيح- و الاية تدل على عدم ضياع اجر المؤمنين عامة شهيدا كان او غيره كانّ الشهداء يستبشرون بحال جميع المؤمنين-

و قرا الكسائي على انه استيناف معترض دال على ان ذلك اجر لهم على ايمانهم و من لا ايمان له اعماله محبطة لا اجر عليها- و قيل هذه الاية نزلت فى شهداء بدر كانوا اربعة عشر رجلا ثمانية من الأنصار و ستة من المهاجرين و هذا القول ضعيف و قراءة قتّلوا بالتشديد يأبى عنه لدلالتها لكثرة المقتولين- و قال قوم نزلت هذه الاية فى شهداء بير معونة و كان سبب ذلك على ما روى محمد بن إسحاق

(١) هكذا بياض فى الأصل- و فى حاشية نقل البغوي- ابو محمد عفا عنه-.

(٢) القرص أخذك لحم الإنسان بإصبعيك حتى تولمه و لسع البراغيث- قاموس- منه رح.

و عبد اللّه بن ابى عن انس رضى اللّه عنه و غيره قال قدم عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الا سنة العامري على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و اهدى له فرسين و راحلتين فابى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان يقبلها و قال لا اقبل هدية مشرك فاسلم ان أردت ان اقبل هديتك فلم يسلم و لم يبعد و قال يا محمد ان الذي تدعوا اليه حسن جميل فلو بعثت رجالا من أصحابك الى اهل نجد رجوت ان يستجيبوا لك فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انى أخشى عليهم اهل نجد فقال ابو براء أنالهم جار فبعث المنذر بن عمر رضى اللّه عنه أخا بنى ساعدة فى سبعين رجلا من خيار المسلمين من الأنصار يسمون القراء و فيهم عامر بن فهيرة مولى ابى بكر فى صفر سنة اربع حتى نزلوا بير معونة و هى ارض بين ارض بنى عامر و حرة بنى سليم فبعثوا حرام بن ملحان رضى اللّه عنه بكتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الى عامر بن الطفيل فى رجال من بنى عامر فقال حرام بن ملحان انى رسول رسول اللّه إليكم انى اشهد ان لا اله الا اللّه و ان محمدا عبده و رسوله فامنوا باللّه و رسوله فخرج اليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به فى جنبه حتى خرج من الشق الاخر فقال اللّه اكبر فزت و رب الكعبة ثم استصرخ عامر بن الطفيل عليهم ببني عامر فابوا ان يجيبوه الى ما دعاهم اليه و قالوا لا تخفروا جوار ابى براء فاستصرخ عليهم قبائل من بنى سليم عصية و رعل و ذكوان فاجابوه فخرجوا حتى غشوا القوم فاحاطوا بهم فى رحالهم فقاتلوهم حتى قتلوا كلهم الا كعب بن زيد تركوه و به رمق فعاش حتى قتل يوم الخندق و أخذوا عمرو بن امية أسيرا فلما أخبرهم انه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل فقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و اخبر له الخبر فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هذا عمل ابى براء فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه اخفار عامر إياه روى محمد بن إسحاق كان يقول عامر بن الطفيل كان يقول من الرجل منهم لما قتل رايته رفع بين السماء و الأرض حتى رايت السماء من دونه قالوا هو عامر بن فهيرة ثم بعد ذلك حمل ربيعة بن ابى براء على عامر بن الطفيل فطعنه على فرسه فقتله- و فى الصحيحين عن قتادة عن انس ان رعلا و ذكوان و عصية و بنى لحيان أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فزعموا انهم اسلموا و استمدوا على عدوهم فامدهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء فى زمانهم كانوا يحطبون بالنهار و يصلون بالليل حتى كانوا ببئر معونة فقتلوهم و غدروا بهم فبلغ النبي صلى اللّه عليه و سلم فقنت شهرا يدعو فى الصبح على احياء من احياء العرب على رعل و ذكوان و عصية و بنى لحيان- و روى احمد و الشيخان و البيهقي عن انس و البيهقي عن ابن مسعود و البخاري عن عروة ان أناسا جاءوا الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالوا ابعث معنا رجالا يعلمون القران و السنة فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار يقال لهم القراء فتعرضوا لهم فقتلوهم قبل ان يبلغوا المكان قالوا اللّهم بلغ نبينا و فى لفظ إخواننا انا قد لقيناك فرضينا عنك و رضيت عنا فاوحى اللّه انا رسولهم إليكم انهم قد رضوا و رضى عنهم قال انس فقرأنا فيهم بلغوا عنا قومنا انا قد لقينا ربنا فرضى عنا و ارضانا ثم نسخ- فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أربعين صباحا على رعل و ذكوان و عصية و بنى لحيان الذين عصوا اللّه و رسوله-

قال البغوي فى قول انس فرفعت بعد ما قراناها زمانا و انزل اللّه عز و جل وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه الاية-

قلت و الاختلاف و ان وقع فى سبب نزول هذه الاية كما ذكرنا لكن بحسب عموم اللفظ جميع الشهداء داخلون فى حكم هذه الاية و اللّه اعلم- ( (مسئلة)) اجمعوا على ان الشهيد لا يغسل لان شهداء أحد لم يغسلوا و امر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بهم ان ينزع الحديد و الجلود و ان يدفنوا بدمائهم و ثيابهم رواه ابو داؤد و ابن ماجة عن ابن عباس و روى النسائي بسند صحيح عن عبد اللّه بن ثعلبة قوله صلى اللّه عليه و سلم زملوهم بدمائهم فانه ليس كلم يكلم فى سبيل اللّه الا هو يأتى يوم القيامة بدماء لونه لون الدم و ريحه ريح المسك و فى الباب حديث جابر رمى رجل بسهم فى صدره فمات فادرج فى ثيابه كما هو و نحن مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أخرجه ابو داؤد بإسناد على شرط مسلم

(مسئلة) و اختلفوا فى مجنب استشهد هل يغسل أم لا فقال ابو حنيفة و احمد يغسل و قال مالك و الشافعي لا يغسل لعموم قوله صلى اللّه عليه و سلم زملوهم بدمائهم و لنا قصة حنظلة بن ابى عامر قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انى رايت الملائكة يغسل حنظلة بن ابى عامر بين السماء و الأرض بماء المزن فى صحاف الفضة قال ابو أسيد الساعدي فذهبنا فنظرنا اليه فاذا رأسه يقطر ماء فرجعت الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاخبرته فارسل الى امرأته فسالها فاخبرته انه خرج و هو جنب فولده يقال بنو غسيل الملائكة رواه ابن الجوزي من حديث محمد بن سعد مرسلا و رواه ابن حبان فى صحيحه و الحاكم و البيهقي من حديث ابن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد اللّه بن الزبير عن أبيه عن جده- قال الحافظ ظاهره ان الضمير فى قوله عن جده يعود على عباد فيكون الحديث من مسند الزبير و هو الذي يمكنه السماع من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى تلك الحال- و رواه الحاكم فى الإكليل من حديث ابى أسيد و فى اسناده ضعف و رواه الحاكم فى المستدرك و الطبراني و البيهقي من حديث ابن عباس و فى اسناد الحاكم معلى بن عبد الرحمن متروك و فى اسناد الطبراني حجاج مدلس و فى اسناد البيهقي ابو شيبة الواسطي ضعيف- ( (مسئلة)) اختلفوا فى الصلاة على الشهيد فقال الشافعي لا يصلى عليه و قال ابو حنيفة و مالك يصلى عليه و عن احمد كالمذهبين

قلنا الصلاة اما لمغفرة الذنوب او لرفع الدرجات تكريما للميت و الشهيد اولى بالتكرمة و لو كان التكريم فى ترك الصلاة كان النبي صلى اللّه عليه و سلم اولى به و قد صلى عليه اجماعا- و الأصل هو الصلاة احتج الشافعي بحديث جابر بن عبد اللّه ان النبي صلى اللّه عليه و سلم كان يجمع بين رجلين من قتلى أحد فى الثوب الواحد ثم يقول أيهما اكثر قراتا فاذا أشير الى أحدهما قدمه فى اللحد و قال انا شهيد على هؤلاء يوم القيامة و امر بدفنهم فى ثيابهم و لم يصل عليهم و لم يغسلوا رواه البخاري و النسائي و ابن ماجة و ابن حبان و حديث انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان يوم أحد يكفن الرجلين و الثلاثة فى الثوب الواحد و دفنهم و لم يصل عليهم رواه احمد و ابو داؤد و الترمذي و قال حديث حسن و الحاكم و صححه و قد أعله البخاري و قال انه غلط فيه اسامة بن زيد فقال عن الزهري عن انس و رجح رواية الليث عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب عن جابر يعنى هو الحديث الاول و اللّه اعلم- و أجيب عن احتجاج الشافعي بانه يحتمل ان النبي صلى اللّه عليه و سلم لم يصل على شهداء أحد لما كان به من الم الجراح و كسر الرباعية و لعله صلى عليهم غيره صلى اللّه عليه و سلم و يؤيد هذا الاحتمال ما روى ابو داؤد فى المراسيل و الحاكم و الطحاوي من حديث انس ايضا قال مر النبي صلى اللّه عليه على حمزة و قد مثل به و لم يصل على أحد من الشهداء غيره زاد الطحاوي قال عليه السلام انا شهيد عليكم يوم القيامة-

فان قيل روى هذا الحديث الدارقطني و قال لم يقل هذه الزيادة غير عثمان بن عمرو و ليست محفوظة

قلنا قال ابن الجوزي عثمان مخرج عنه فى الصحيحين و الزيادة من الثقة مقبولة قال الطحاوي لو كان ترك الصلاة على الشهيد سنة لما صلى على حمزة فظهر انه صلى على حمزة لفضله و لم يصل على غيره لما كان به من وجع و قد ورد ما يعارض ما تقدم عدة أحاديث عن عدة من الصحابة منها حديث جابر قال فقد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حمزة حين جاء الناس من القتال فقال رجل رايته عند تلك الشجرة فلما راه و رأى ما مثل به شهق و بكى فقام رجل من الأنصار فرمى عليه بثوب ثم جى ء بحمزة فصلى عليه ثم بالشهداء فيوضعون الى جانب حمزة فيصلى عليهم ثم يرفعون و يترك حمزة حتى صلى على الشهداء كلهم و قال حمزة سيد الشهداء عند اللّه يوم القيامة رواه الحاكم و قال صحيح الاسناد و لم يخرجاه الا ان فى سنده مفضل بن صدقة ابو حماد الحنفي قيل هو متروك و ضعفه النسائي و يحيى لكن قال الأهوازي كان عطاء بن مسلم يوثقه و كان احمد بن محمد بن شعيب يثنى عليه ثناء تاما و قال ابن عدى ما ارى به بأسا فالحديث لا يسقط عن درجة الحسن و منها حديث ابن عباس قال امر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بحمزة فسجى ببردة ثم صلى عليه و كبر سبع تكبيرات ثم اتى بالقتلى فيوضعون الى حمزة فيصلى عليهم و عليه معهم حتى صلى عليه ثنتين و سبعين صلوة رواه ابن إسحاق قال حدثنى من لا اتهمه عن مقسم مولى ابن عباس عنه و فى مقدمة مسلم عن شعبة عن الحسن بن عمارة عن الحكم عن مقسم عنه ان النبي صلى اللّه عليه و سلم صلى على قتلى أحد فسالت الحكم فقال لم يصل عليهم قال السهيلي الحسن بن عمارة ضعيف- و قال الحافظ و روى هذا الحديث الحاكم و ابن ماجة و الطبراني و البيهقي من طريق يزيد بن زياد عن مقسم عن ابن عباس مثله قال الحافظ يزيد فيه ضعف يسير و قال ابن الجوزي قال ابن المبارك ارم به و قال البخاري منكر الحديث و قال النسائي متروك- و منها حديث ابن مسعود نحوه يعنى صلى على حمزة سبعين صلوة رواه احمد و الحديث ضعيف و قال ابن همام لا ينزل عن درجة الحسن- و منها حديث ابى مالك الغفاري أخرجه ابو داؤد فى المراسيل انه صلى اللّه عليه و سلم صلى على قتلى أحد عشرة عشرة فى كل عشرة حمزة حتى صلى عليه سبعين صلوة قال الحافظ رجاله ثقات و ابو مالك تابعي اسمه غزوان- و قد اعل الشافعي هذا الحديث بأنه متدافع لان الشهداء كانوا سبعين فاذا اتى بهم عشرة عشرة يكون قد صلى سبع صلوات و أجيب بان المراد انه صلى على سبعين نفسا و حمزة معهم كلهم و عند اجتماع هذه الأحاديث يثبت انه قد صلّى على قتلى أحد و وجه التطبيق بين ما روى انه صلى اللّه عليه و سلم لم يصل عليهم و ما روى انه صلى عليهم و انه لم يصل بنفسه الشريفة الا أول مرة على حمزة ثم امر الناس بالصلوة على كلهم و صلى على حمزة الصلاة مع كل من القتلى انه من أسند الصلاة الى النبي صلى اللّه عليه و سلم على قتلى أحد كلهم فمعناه انه امر بالصلوة فاسند اليه مجازا و من نفى عنه الصلاة فهو على الحقيقة نظرا الى الأكثر و من فصّل و قال صلى على حمزة لا غير فقد اتى بما هو الواقع و فى الباب ما رواه النسائي و الطحاوي عن شداد بن الهاد مرسلا ان رجلا من الاعراب جاء الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فامن به و اتبعه و قال أهاجر معك فاوصى به النبي صلى اللّه عليه و سلم بعض الصحابة فلما كانت غزوة غنم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فيها أشياء فقسم و قسم له الحديث و فيه فقال الاعرابى ما على هذا اتبعك و لكن اتبعك على ان ارمى هاهنا و أشار الى حلقه بسهم فاموت فادخل الجنة الحديث و فيه فاتى به النبي صلى اللّه عليه و سلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم اهو هو قالوا نعم قال صدّق اللّه فصدقه و كفنه النبي صلى اللّه عليه و سلم فى جبته صلى اللّه عليه و سلم ثم قدمه فصلى عليه و كان مما ظهر من صلاته عليه اللّهم ان هذا عبدك خرج مهاجرا فى سبيلك فقتل شهيدا انا اشهد عليه و هذا مرسل و المرسل عندنا حجة ( (فصل)) روى البخاري و غيره عن عقبة بن عامر ان النبي صلى اللّه عليه و سلم صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين يعنى قبيل وفاته عليه السلام و حمله البيهقي على الدعاء و ليس بشى ء لان الدعاء لم يكن مرة بعد ثمانى سنة و انما هى صلوة الجنازة و قد ورد فى بعض ألفاظه خرج يوما فصلى على اهل أحد صلاته على الميت رواه الطحاوي و غيره-

فان قيل الحنفية لا يجيزون الصلاة على الميت بعد ثلاثة ايام قلت انما لا يجيزون لان الميت ينفسخ فى القبر فى ثلاثة ايام و اما الشهيد فقد ثبت انه لا يأكله الأرض و هو ابدا كيوم دفنه فلا بأس بالصلوة عليه و قد صح عنه صلى اللّه عليه و سلم و اللّه اعلم- روى الفرياني و النسائي و الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس انه قال لما رجع المشركون عن أحد قالوا لا محمدا قتلتم و لا الكواعب أردفتم بئسما صنعتم ارجعوا فسمع بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فندب المسلمين فانتدبوا الحديث قال محمد بن عمرو لما رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من أحد يوم السبت ١٥ باتت وجوه الأوس و الخزرج على بابه خوفا من كرة العدو فلما طلع الفجر من يوم أحد ١٦ اذّن بلال و خرج ينتظر خروج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فلما خرج أخبره رجل مزنّى قول ابى سفيان حين بلغوا الروحاء ارجعوا نستأصل من بقي و صفوان بن امية يأبى ذلك عليهم و يقول يا قوم لا تفعلوا فان القوم قد حربوا و أخاف ان يجتمع عليكم من تخلف من الخزرج فارجعوا و الدولة لكم فانى لا أمن ان رجعتم ان تكون الدولة عليكم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ارشدهم صفوان و ما كان برشيد و الذي نفسى بيده لقد سومت لهم الحجارة و لو رجعوا لكانوا كامس الذاهب و دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أبا بكر و عمر فذكر لهما فقالا يا رسول اللّه اطلب العدو و لا يقمحون الاقماح رفع الراس و غمض البصر- نهايه مندوح على الذرية- فامر بلالا ان ينادى ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يأمركم بطلب عدوكم و لا يخرج معنا الا من شهد القتال أمس قال أسيد بن حضير و به تسع جراحات يريد ان يداويها لما سمع النداء سمعا و طاعة للّه و رسوله و لم يعرج على دواء جرحه و خرج من بنى سلمة أربعون جريحا بالطفيل بن النعمان ثلاثة عشر جرحا و بخراش بن الصمة عشر جراحات و بكعب بن مالك بضعة عشر جرحا و بعطية بن عامر تسع جراحات و وثب المسلمون الى سلاحهم و ما عرجوا على دواء جراحاتهم قال ابن عقبة و اتى عبد اللّه بن أبيّ فقال يا رسول اللّه انا اركب معك قال لا قال ابن إسحاق و محمد بن عمرو اتى جابر بن عبد اللّه فقال يا رسول اللّه ان مناديك نادى ان لا يخرج معنا الا من حضر القتال بالأمس و قد كنت حريصا على الحضور و لكن ابى خلفنى على أخوات لى سبع و فى لفظ تسع و قال لا ينبغى لى و لك ان نترك هذه النسوة و لا رجل معهن و لست بالذي او ثرك بالجهاد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لعل اللّه تعالى يرزقنى الشهادة و كنت رجوتها فتخلفت عليهن فاستأثر على بالشهادة فأذن لى يا رسول اللّه أسير معك فاذن له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال جابر فلم يخرج معه أحد لم يشهد القتال بالأمس غيرى استأذنه رجال لم يحضروا القتال فابى ذلك عليهم قال ابن إسحاق و متابعوه انما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مرهبا للعدو ليبلغهم انه خرج فى طلبهم فيظنوا بهم قوة و ان الذي أصابتهم لم يوهنهم عن عدوهم فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و معه ابو بكر و عمر و عثمان و على و طلحة و الزبير و سعد و عبد الرحمن بن عوف و عبد اللّه بن مسعود و حذيفة بن اليمان و ابو عبيدة بن الجراح فى سبعين رجلا حتى بلغوا حمراء الأسد موضع من المدينة على ثمانية أميال على يسار الطريق إذا أردت ذا الحليفة و حمل سعد بن عبادة ثلاثين بعيرا و ساق جزرا لتفحر فنحروا فى يوم الاثنين ٧ او يوم الثلاثاء ١٨ و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يأمرهم فى النهار بجمع الحطب فاذا امسوا أمران توقد النيران فتوقد كل رجل نارا فاوقدوا خمسمائة نار و لقى معبد الخزاعي و هو يومئذ مشرك و جزم ابو عمرو و ابن الجوزي بإسلامه- و كانت خزاعة مسلمهم و كافرهم عيبة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها فقال يا محمد و اللّه لقد عز علينا ما أصابك من أصحابك و لوددنا ان اللّه كان قد عفاك ثم خرج من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و لقى أبا سفيان بالروحاء و قد اجمعوا للرجعة الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قالوا لقد أصبنا جلة أصحابهم و قادتهم لتكرن على بقيتهم فلنفرغنّ عنهم فلما راى ابو سفيان معبدا قال و ماوراءك قال محمد قد خرج فى أصحابه يطلبكم فى جمع لم ار مثله قط يتخرقون عليكم تخرقا قد اجتمع معه من كان تخلف عنه فى يومكم و ندموا على صنيعهم و فيهم من الخنق عليكم شى ء لم ار مثله قط قال ويلك ما تقول قال و اللّه ما أراك ترتحل حتى ترى نواصى الخيل قال فو اللّه لقد اجمعنا الكرة عليهم لنستاصل بقيتهم قال فانى و اللّه أنهاك عن ذلك فثنى ذلك مع كلام صفوان أبا سفيان و من معه وقت أكبادهم فانصرفوا سراعا خائفين من الطلب- و مر بابى سفيان ركب من عبد القيس فقال اين تريدون قالوا نريد المدينة للميرة فقال فهل أنتم مبلغون عنى محمدا رسالة و احمل لكم ابلكم هذه زبيبا بعكاظ غدا إذا و وافيتمونا قالوا نعم قال فاذا جئتموه فاخبروا انا قد اجمعنا اليه و الى أصحابه لنستأصلهم بقيتهم- و انصرف ابو سفيان الى مكة و مر الركب برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو بحمراء الأسد فاخبروه بالذي قاله ابو سفيان فقال رسول اللّه صلى اللّه حسبنا اللّه و نعم الوكيل فاقام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هناك الاثنين ١٧ و الثلاثاء ١٨ و الأربعاء ١٩ و انزل اللّه تعالى.

١٧٢

الَّذِينَ اسْتَجابُوا للّه وَ الرَّسُولِ دعاءه بالخروج للقتال مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ الجراح يوم أحد الموصول منصوب على المدح او مبتدا خبره الجملة الواقعة بعده لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا من للبيان و المقصود من ذكر الوصفين المدح و التعليل دون التقييد لان المستجيبين كلهم كانوا محسنين متقين أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) و جاز ان يكون الموصول صفة للمؤمنين و تم الكلام على قوله مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ و ما بعده ابتداء

و قال مجاهد و عكرمة خلافا لاكثر المفسرين انه نزلت هذه الاية فى غزوة بدر الصغرى و ذلك ان أبا سفيان يوم أحد حين أراد ان ينصرف قال يا محمد موعد ما بيننا و بينك موسم بدر الصغرى القابل ان شئت فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ذلك بيننا و بينك ان شاء اللّه فلما كان العام المقبل خرج ابو سفيان من مكة فى قريش و هم الفان و معهم خمسون فرسا حتى نزل مجنة فى ناحية مر الظهران ثم القى اللّه الرعب فى قلبه فبدا له الرجوع فلقى نعيم بن مسعود الا شجعى و قد قدم معتمرا فقال له ابو سفيان يا نعيم انى و أعدت محمدا و أصحابه ان نلتقى بموسم بدر الصغرى و ان هذه عام جدب و لا يصلحنا الا عام نرعى فيه الشجر و نشرب فيه اللبن و قد بدا لى ان لا اخرج إليها و اكره ان يخرج محمد و لا اخرج انا فيزيدهم ذلك جرءة و لان الخلف من قبلهم أحب الىّ من ان يكون من قبلى فالحق بالمدينة فثبطهم و أعلمهم انى فى جمع كثير و لا طاقة لهم بنا و لك عندى عشرة من الإبل أضعها على يدى سهيل بن عمرو و يضمنها فضمنها سهيل- و اتى نعيم المدينة فوجد الناس يتجهزون لميعاد ابى سفيان فقال اين تريدون فقالوا واعدنا أبا سفيان بموسم بدر الصغرى ان نقتتل بها فقال بئس الرأى رايتم أتوكم فى دياركم و قراركم فلم يفلت منكم إلا شريد فتريدون ان تخرجوا و قد جمعوا لكم عند الموسم و اللّه لا يفلت منكم أحد فكره بعض اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الخروج و استبشر المنافقون و اليهود و قالوا محمد لا يفلت من هذا الجمع فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتى خشى ان لا يخرج معه أحد و جاء ابو بكر و عمرو قد سمعا ما سمعا و قالا يا رسول اللّه ان اللّه مظهر دينه و معزّ نبيه و قد واعدنا القوم موعدا لا نحب ان نتخلف فسر لموعدهم فو اللّه ان ذلك لخير فسرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بذلك فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و الذي نفسى بيده لاخرجن و لو وحدي فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه حسبنا اللّه و نعم الوكيل فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى أصحابه و أتوا بدر الصغرى فجعلوا يلقون المشركين و يسئلونهم عن قريش فيقولون قد جمعوا لكم يريدون ان يرعبوا المسلمين فيقول المؤمنون حسبنا اللّه و نعم الوكيل حتى بلغوا بدرا و كانت موضع سوق لهم فى الجاهلية يجتمعون إليها يقوم لهلال ذى القعدة الى ثمان ليال خلون منه فاذا مضت ثمان ليال تفرق الناس الى بلادهم فاقام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ينتظر أبا سفيان و قد انصرف ابو سفيان من مجنة الى مكة فلم يلق رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه أحد من المشركين و واقفوا السوق و كانت معهم تجارات و نفقات فباعوا و أصابوا للدرهم درهمين و انقلبوا الى المدينة سالمين غانمين فحينئذ نزل قوله تعالى الَّذِينَ اسْتَجابُوا للّه إلخ و الصحيح هو القول الاول و اقتضاه صنيع البخاري و رجحه ابن جرير قلت و يؤيد القول الاول سياق الاية حيث قال اللّه تعالى الَّذِينَ اسْتَجابُوا للّه وَ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ مدحهم بانهم خرجوا للجهاد و استجابوا للّه و الرسول مع كونهم مجروحين متالمين بالجراحات و ليس ذلك الا فى غزوة حمراء الأسد و اما غزوة بدر الصغرى فكانت بعد سنة و حينئذ كانوا أصحاء سالمين و بعدية إصابة القرح ان لم يحمل على الفور فلا وجه لتخصيص هذه الاية بغزوة بدر الصغرى بل يصدق على غزوة الخندق و غيرها ايضا و اللّه اعلم.

١٧٣

الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ ان كان نزول الآيتين معا فيكون الّذين قال لهم النّاس بدلا من الّذين استجابوا و ان كان نزولهما على التعاقب و التفرق فالموصول هاهنا ايضا اما منصوب على المدح او خبر مبتدا محذوف تقديره هم الذين قال لهم الناس او مبتدا خبره فانقلبوا قال اكثر المفسرين المراد بالناس هاهنا الركب من عبد القيس الذين جاءوا من ابى سفيان و النبي صلى اللّه عليه و سلم فى حمراء الأسد كما مرّ ذكره

و قال مجاهد و عكرمة المراد بالناس هاهنا نعيم بن مسعود الأشجعي الذي جاء فى المدينة بخبر ابى سفيان و المشركين و النبي صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه يتجهزون لغزوة البدر الصغرى للموعد و اطلق عليه الناس لانه من جنسه كما يقال فلان يركب الخيل و ما له الا فرس واحد او لانه انضم اليه ناس من المدينة و أذاعوا كلامه- و الظاهر عندى ان نزول هذه الاية فى غزوة بدر الصغرى و المراد بالناس نعيم بن مسعود الأشجعي و الاية الاولى نزلت فى غزوة حمراء الأسد و بينهما سنة و وجه قولى ان الظاهر نزول هذه الاية فى بدر الصغرى ان قوله إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ يدل على حدوث جمعهم الان بعد ما لم يكن و ذا لا يتصور الا فى بدر الموعد و اما حين انصرافهم من المدينة بعد وقعة أحد فهم كانوا مجتمعين فلا يناسبه قوله قد جمعوا لكم و اللّه اعلم و كذا قال الامام الرازي حيث قال مدح اللّه تعالى المؤمنين على غزوتين يعرف أحدهما بغزوة حمراء الأسد و هى المذكورة فى الاية المتقدمة و الثانية بغزوة البدر الصغرى و هى المذكورة فى هذه الاية و اللّه اعلم إِنَّ النَّاسَ يعنى أبا سفيان و غيره من المشركين قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ جموعا و آلات «١» الحرب فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً عطف على قال لهم النّاس و الضمير المستكن للّه تعالى او للمقول او لمصدر قال او لفاعله ان أريد به نعيم وحده- و البارز راجع الى الموصول و المعنى انهم لم يلتفتوا و لم يضعفوا

(١) فى الأصل و الآلات الحرب- [.....].

و أظهروا حمية الإسلام و بهذا العمل اقتربوا الى اللّه سبحانه و صعدوا مدارج الرفعة و زيادة الايمان بزيادة مدارج القرب و من قال ان الايمان لا يزيد و لا ينقص فنظره مقصور على الايمان المجازى وَ قالُوا عطف على زادهم حَسْبُنَا اللّه حسب مصدر بمعنى الفاعل اى محسبنا و كافينا من احسبه إذا كفاه و يدل على انه بمعنى المحسب انه لا يستفيد بالاضافة تعريفا فى قولك هذا رجل حسبك كما لا يستفيد اسم الفاعل وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) اى نعم الموكول اليه الأمور هو المخصوص بالمدح محذوف و فى عطف نعم الوكيل و هو إنشاء على جملة حسبنا اللّه و هو خبر مبارزة بين الفحول فقيل العطف من الحاكي و لا عطف فى الكلام المحكي تقديره قالوا حسبنا اللّه و قالوا نعم الوكيل يعنى قالوا هذا القول و هذا القول و الظاهر ان المحكي هو المشتمل على العطف لما روى عن ابن عباس قال حسبنا اللّه و نعم الوكيل قالها ابراهيم حين القى فى النار و قالها محمد صلى اللّه عليه و سلم حين قالوا انّ النّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايمانا و قالوا حسبنا اللّه و نعم الوكيل رواه البخاري فان افراد الضمير فى قوله قالها ابراهيم يدل على ان الواو من المحكي و لو كان من الحكاية لقال حسبنا اللّه و نعم الوكيل قالهما ابراهيم بضمير التثنية فقال بعض الأفاضل فى توجيه العطف ان قولهم حسبنا اللّه كناية عن قولهم اعتمدنا على اللّه و قولهم نعم الوكيل كناية عن قولهم انا و كلنا أمورنا الى اللّه- و الصحيح عندى ان الجمل التي لا محل لها من الاعراب جاز ان يعطف بعضها على بعض من غير مبالاة بالاختلاف خبرا و إنشاء و قد ورد فى الحديث انه جاءت امراة فقالت يا رسول اللّه ان ابى زوجنى ابن أخيه و نعم الأب هو الحديث و قال اللّه تعالى أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ.

١٧٤

فَانْقَلَبُوا فانصرفوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّه بما ذهبوا به معهم من المدينة من الايمان و العافية و الأموال و العز وَ فَضْلٍ زيادة فى الايمان بكثرة الثواب و زيادة فى الأموال بربح فى التجارة و زيادة فى العز حيث ذهبوا القتال العدو و فشل عدوهم و زيادة الأموال انما يتصور فى غزوة بدر الصغرى فانهم واقفوا هناك سوقا فاتجروا و ربحوا كما ذكرنا و اما فى غزوة حمراء الأسد فلم يكن هناك تجارة لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ الجملة حال من فاعل لم يصبهم اى فى حال لم يصبهم أذى من جراحة او قتل او نهب وَ اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللّه الذي هو مناط الفوز بخير الدارين

قال البغوي قالوا هل يكون هذا غزوا فاعطاهم اللّه ثواب الغزو و رضى عنهم وَ اللّه ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) فيه تحسر للمتخلف و تخطية رأيه.

١٧٥

إِنَّما ذلِكُمُ يعنى نعيما او أبا سفيان الشَّيْطانُ خبر و ما بعده بيان شيطنته او ما بعده صفة على طريقة و لقد امر على اللئيم يسبنى او الشيطان صفة و الخبر ما بعده و جاز ان يكون ذلكم اشارة الى قولهم إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ و الشيطان خبره بتقدير المضاف يعنى ذلك القول فعل الشيطان القى فى أفواههم ليرهبوكم و تجبنوا عنهم يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ

القاعدين عن الخروج مع الرسول صلى اللّه عليه و سلم و جاز ان يكون أولياءه منصوبا بنزع الخافض و المفعول محذوف تقديره يخوفكم باوليائه و كذلك قراءة أبيّ بن كعب و قال السدى يعظم أولياءه فى صدوركم لتخافوهم لما قرا ابن مسعود يخوفكم أولياءه و على هذين الوجهين أولياءه ابو سفيان و أصحابه فَلا تَخافُوهُمْ إذ لا قوة لاحد الا باللّه الضمير المنصوب للناس الثاني على الوجه الاول و للاولياء على الوجهين الأخيرين وَ خافُونِ ان لا اجعلهم غالبين عليكم كما جعلت يوم أحد فان الغلبة من عندى فلا تخالفوني فى امرى و نهيى و جاهدوا مع رسولى- اثبت الياء فى الوصل فقط ابو عمرو- و كذا ابو جعفر و فى الحالين يعقوب- ابو محمد و حذفها الباقون فى الحالين إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) فان مقتضى الايمان ان يخاف اللّه و لا يخاف غيره قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا سالت فاسئل اللّه و إذا استعنت فاستعن باللّه و اعلم ان الامة لو اجتمعت على ان ينفعوك بشى ء لا ينفعونك الا بشى ء قد كتبه اللّه لك و لو اجتمعوا ان يضروك بشى ء لا يضرونك الا بشى ء قد كتبه اللّه عليك رفعت الأقلام و جفت الصحف رواه احمد و الترمذي عن ابن عباس-.

١٧٦

وَ لا يَحْزُنْكَ قرا نافع بضم الياء و كسر الزاء من الافعال هذا و قوله تعالى ليحزننى و ليحزن حيث وقع الا فى الأنبياء لا يحزنهم الفزع

و قرا ابو جعفر من الافعال فى الأنبياء خاصة لا غير و الباقون بفتح الياء و ضم الزاء فى الكل الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ قال الضحاك هم كفار قريش و قال غيره هم المنافقون يسارعون فى الكفر بمظاهرة الكفار و هو الأصح يعنى لا يحزنك مسارعتهم فى الكفر لا خوفا على الإسلام و المسلمين لما إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللّه اى اولياء اللّه بمسارعتهم فى الكفر و انما يضرون بها أنفسهم شَيْئاً يحتمل المفعول و المصدر و لا ترحما على الكافرين لانه يُرِيدُ اللّه أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا نصيبا فِي ثواب الْآخِرَةِ حيث كانوا مخلوقين أشقياء و كان مبادى تعيناتهم مستندة الى اسمه المضل و نحوه فلذلك خذلهم حتى سارعوا فى الكفر وَ لَهُمْ مع الحرمان عن الثواب عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦).

١٧٧

إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ يعنى استبدلوا الكفر بالايمان و هم اهل الكتاب كانوا مؤمنين بمحمد صلى اللّه عليه و سلم قبل مجيئه فاذا جاء بالبينات اختاروا الكفر و تركوا الايمان حرصا على الدنيا و عنادا لَنْ يَضُرُّوا اللّه شَيْئاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧)

١٧٨

وَ لا يَحْسَبَنَّ قرا حمزة بالتاء خطابا للنبى صلى اللّه عليه و سلم تعريضا بالذين كفروا لانهم هم الحاسبون دون النبي صلى اللّه عليه و سلم او لكل من يحسب و الباقون بالياء على الغيبة فعلى قراءة الجمهور فاعله الَّذِينَ كَفَرُوا و قوله تعالى أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ مفعول قائم مقام المفعولين و الاملاء الامهال و إطالة العمر و تخليتهم و شأنهم و على قراءة حمزة الّذين كفروا مفعول و ما بعده بدل منه و هو ينوب عن المفعولين او هو المفعول الثاني على تقدير مضاف فى أحد المفعولين يعنى لا تحسبن الذين كفروا اصحاب ان الاملاء خير لانفسهم او لا تحسبن حال الذين كفروا ان الاملاء خير لهم و ما مصدرية كان حقها ان يفصل فى الخط و لكنها وقعت فى الامام متصلة فاتبع أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ استيناف لبيان علة ما تقدم من الحكم لِيَزْدادُوا إِثْماً اللام لام الارادة و الاية حجة لنا على المعتزلة فى مسئلتى الأصلح و ارادة المعاصي و عند المعتزلة اللام لام العاقبة وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨) قال مقاتل نزلت فى مشركى مكة و قال عطاء فى قريظة و النضير عن ابى بكر قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اىّ الناس خير قال من طال عمره و حسن عمله قيل فاىّ الناس شر قال من طال عمره و ساء عمله رواه احمد و الترمذي و الدارمي- و عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ينادى مناد يوم القيامة اين أبناء الستين و هو العمر الذي قال اللّه تعالى أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ رواه البيهقي فى الشعب-.

١٧٩

ما كانَ اللّه لِيَذَرَ اللام لتأكيد النفي الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من اختلاط المخلصين بالمنافقين و الخطاب لعامة المخلصين و المنافقين المختلطين فى عصر النبي صلى اللّه عليه و سلم حَتَّى يَمِيزَ قرا حمزة «١» و الكسائي هاهنا و فى الأنفال بضم الياء و كسر «٢» الميم و اسكان الياء مخففة من الافعال و الباقون بفتح الياء من ماز يميز يقال مزت الشّي ء ميزا إذا فرقته يعنى يفرق الْخَبِيثَ الكافر مِنَ الطَّيِّبِ اى المؤمن اما بالوحى الى النبي صلى اللّه عليه و سلم كما قال اللّه تعالى يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللّه مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ او بالوقائع مثل واقعة أحد حيث تميز فيه المنافقون بالانخذال عن المؤمنين وَ ما كانَ اللّه لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ حتى تعرفوا المنافقين من المؤمنين قبل التميز من اللّه تعالى

(١) الصحيح قرا حمزة و الكسائي و يعقوب و خلف- ابو محمد عفا اللّه عنه.

(٢) الصحيح بضم الياء و فتح الميم و كسر الياء الثانية مشددة من التفعيل إلخ ابو محمد عفا اللّه عنه.

وَ لكِنَّ اللّه يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فيطلعه على البعض من علوم الغيب أحيانا كما اطلع نبيه صلى اللّه عليه و سلم على احوال المنافقين بنور الفراسة نظير هذه الاية قوله تعالى فى سورة الجن عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ و قد ذكرنا بحث الاطلاع على علم الغيب فى تفسير تلك الاية-

قال البغوي قال السدىّ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عرضت علىّ أمتي فى صورها فى الطين كما عرضت على آدم و أعلمت من يؤمن بي و من يكفر فبلغ ذلك المنافقين فقالوا استهزاء زعم محمد انه يعلم من يؤمن به و من يكفر ممن لم يخلق بعد و نحن معه و ما يعرفنا فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقام على المنبر فحمد اللّه و اثنى عليه ثم قال ما بال أقوام طعنوا فى علمى لا تسئلونى عن شى ء فيما بينكم و بين الساعة الا نبأتكم به فقام عبد اللّه بن حذافة السهمي فقال من ابى يا رسول اللّه فقال حذافة فقام عمر فقال يا رسول اللّه رضينا باللّه ربا و بالإسلام دينا و بالقران اماما و بك نبيا فاعف عنا عفا اللّه عنك فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم فهل أنتم منتهون هل أنتم منتهون ثم نزل عن المنبر فانزل اللّه تعالى هذه الاية- قال الشيخ جلال الدين السيوطي لم اقف على هذه الرواية قلت لو صحت هذه الرواية فوجه مناسبة الاية برد قولهم ان الرسول مجتبى بالاطلاع على الغيب ليس له ان يشارك غيره معه فى هذا العلم الا بإذن اللّه فيما يأذنه فهو يعرف كفركم و لا يظهر لاجتبائه بتلك المعرفة فَآمِنُوا بِاللّه وَ رُسُلِهِ «١» بصفة الإخلاص كيلا تفضحوا وَ إِنْ تُؤْمِنُوا بالإخلاص وَ تَتَّقُوا النفاق و المعاصي فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩).

(١) و فى الأصل و رسوله-.

١٨٠

وَ لا يَحْسَبَنَّ قرا حمزة بالتاء خطابا للنبى صلى اللّه عليه و سلم او لكل من يحسب و الباقون بالياء و ضمير الفاعل راجع الى النبي صلى اللّه عليه و سلم او الى كل من يحسب و قوله الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ اى يبخلون بالزكاة مفعوله الاول بتقدير المضاف اى لا تحسبن بخل الذين ليطابق المفعولين هُوَ ضمير الفصل خَيْراً لَهُمْ مفعوله الثاني و جاز ان يكون الموصول فاعلا للفعل على قراءة الجمهور و المفعول الاول محذوفا و جاز ان يكون الضمير المرفوع اعنى هو هو المفعول الاول وضع موضع الضمير المنصوب و المعنى على التقديرين لا يحسبن الذين يبخلون بالزكاة بخلهم خيرا لهم او إيتاء اللّه المال خيرا لهم او ما أتاهم اللّه خيرا لهم و هذا التقدير أوفق بقوله تعالى سيطوّقون ما بخلوا به بَلْ هُوَ يعنى البخل او إيتاء اللّه المال او ما أتاهم اللّه شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ

ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ نزلت الاية فى ما نعى الزكوة كذا قال ابن مسعود و ابن عباس و ابو وائل و الشعبي و السدىّ- عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من أتاه اللّه مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعا اقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم تأخذ بلهزمتيه يعنى شدقيه ثم يقول انا مالك انا كنزك ثم تلا وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ الاية رواه البخاري- و عن ابى ذر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ما من رجل يكون له ابل او بقر او غنم لا يؤدى حقها الا اتى بها يوم القيامة أعظم ما يكون و أسمنه تطاه بأخفافها و تنطحه بقرونها كلما جاءت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس متفق عليه- و روى عطية عن ابن عباس ان هذه الاية نزلت فى أحبار اليهود كتموا صفة محمد صلى اللّه عليه و سلم و نبوته و أراد بالبخل كتمان العلم و بقوله سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ انهم يحملون أوزارهم و اثامهم وَ للّه مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يعنى انه الباقي بعد فناء خلقه و هم يموتون و يتركون الأموال فيعطى أموالهم لمن يشاء من ورثتهم او من غيرهم و يبقى عليهم الحسرة و العقوبة فمالهم يبخلون و لا ينفقون أموالهم فى سبيل اللّه وَ اللّه بِما تَعْمَلُونَ قرا ابن كثير و ابو عمرو بالياء للغيبة و الضمير راجع الى الذين يبخلون و الباقون بالتاء خطابا للناس أجمعين او للذين يبخلون على الالتفات خَبِيرٌ (١٨٠) فيجازى عليه- اخرج محمد بن إسحاق و ابن جرير و ابن ابى حاتم عن ابن عباس انه كتب النبي صلى اللّه عليه و سلم مع ابى بكر الصديق رضى اللّه عنه الى يهود بنى قينقاع يدعوهم الى الإسلام و اقام الصلاة و إيتاء الزكوة و ان يقرضوا اللّه قرضا حسنا فدخل ابو بكر ذات يوم بيت مدارسهم فوجد ناسا كثيرا من اليهود قد اجتمعوا الى رجل منهم يقال له فخاص بن عازورا و كان من علمائهم و معه حبر اخر يقال له اشيع فقال ابو بكر لفخاص اتق اللّه و اسلم فو اللّه انك لتعلم ان محمدا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قد جاءكم بالحق من عند اللّه تجدونه مكتوبا عندكم فى التورية فامن و صدق و اقرض اللّه قرضا حسنا يدخلك الجنة و يضاعف لك الثواب فقال فخاص يا أبا بكر تزعم ان ربنا يستقرض أموالنا و ما يستقرض الا الفقير من الغنى فان كان ما تقول حقا فان اللّه إذا لفقير و نحن اغنياء و انه ينهاكم عن الربوا و يعطينا و لو كان غنيا ما أعطانا الربوا فغضب ابو بكر و ضرب وجه فخاص ضربة شديدة و قال و الذي نفسى بيده لو لا العهد بيننا و بينك لضربت عنقك يا عدو اللّه فذهب فخاص الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لابى بكر ما حملك على ما صنعت فقال يا رسول اللّه ان عدو اللّه قال قولا عظيما زعم ان اللّه فقير و انهم اغنياء فغضبت للّه و ضربت وجهه فجحد ذلك فخاص فانزل اللّه تعالى ردا على فخاص و تصديقا لابى بكر.

١٨١

لَقَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّه فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ كذا قال عكرمة و السدى و مقاتل

و اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس قال أنت اليهود النبي صلى اللّه عليه و سلم حين انزل اللّه تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّه قَرْضاً حَسَناً قالت اليهود ان اللّه فقير يستقرض منا و ذكر الحسن ان قائل هذا الكلام حيى بن اخطب سَنَكْتُبُ فى كتاب الحفظة يعنى يكتب الكرام الكاتبون بامرنا نظيره و انّا له كتبون ما قالُوا وَ قَتْلَهُمُ قرا حمزة سيكتب بالياء و ضمها و فتح التاء على البناء للغائب المجهول و قتلهم بالرفع و الباقون بالنون و ضم التاء على البناء للمتكلم المعروف و قتلهم بالنصب الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ يعنى رضاءهم بفعل ابائهم الذين قتلوا الأنبياء بغير حق ضم الى قولهم ذلك قتلهم الأنبياء تنبيها على ان هذا ليس أول جريمة منهم وَ نَقُولُ فى الاخرة على لسان الملائكة جزاء لما قالوا و ما فعلوا قرا الجمهور بالتكلم على نسق سنكتب و حمزة بالغيبة يعنى يقول اللّه ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) فعيل بمعنى الفاعل يعنى عذاب النار المحرق كما فى عذاب اليم او الاضافة بيانية و معناه العذاب المحرق يقال لهم ذلك إذا القوا فيها و الذوق ادراك الطعوم و يستعمل فى ادراك سائر المحسوسات مجازا- و لما كان كفر اليهود لما كلهم الرشى من اتباعهم لاجل تلك المناسبة ذكر فى الجزاء الذوق.

١٨٢

ذلِكَ العذاب بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ من القتل و غير ذلك من المعاصي و عبر بالأيدي عن الأنفس لان اكثر الأعمال المحسوسة بهن و افعال القلوب و اللسان يلزمها و يظهرها اعمال الجوارح وَ أَنَّ اللّه لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٧) عطف على ما قدمت و وجه سببية نفى الظلم من اللّه تعالى لتعذيب الكفار ان نفى الظلم يستلزم العدل المقتضى اثابة المحسن و معاقبة المسي ء

فان قيل نفى الظلم لازم لذاته تعالى لان الظلم من القبائح التي يجب تنزيه اللّه تعالى عنه و إذا كان نفى الظلم مستلزما للعدل المستلزم لاثابة المحسن و معاقبة العاصي يلزم وجوب الاثابة و المعاقبة و ذلك مذهب المعتزلة خلافا لاهل السنة

قلنا الظلم فى اللغة وضع الشي ء فى غير موضعه المختص به اما بنقصان او بزيادة و اما بعدول عن وقته او مكانه و ذلك غير متصور من اللّه تعالى لانه يستلزم التصرف فى غير ملكه بغير اذن المالك او على خلاف ما امره به و اللّه سبحانه لو عذب اهل السموات و الأرض بغير جرم منهم لا يكون ذلك ظلما لانه المالك على الإطلاق يتصرف فى ملكه كيف يشاء فالظلم المنفي فى هذا المقام ليس بمعناه الحقيقي بل أريد هاهنا فعله تعالى بعبده ما يعد ظلما لو جرى فيما بينهم و ان لم يكن ذلك ظلما لو صدر منه تعالى و نفى الظلم بهذا المعنى ليس بواجب عليه سبحانه بل هو مبنى على الفضل و جاز ان يقال معنى الاية ان عدم انتقام الأنبياء من الذين قتلوهم و ظلموهم و كذبوهم فى صورة الظلم على الأنبياء و ذلك و ان لم يجب على اللّه تعالى فى ذاته لكن مقتضى فضله على الأنبياء الانتقام من أعدائهم و تعذيبهم فالمراد بالعبيد هاهنا الأنبياء و فيه منقبة لهم بكمال انقيادهم و عبوديتهم طوعا مثل انقياد جميع الأشياء له تعالى يسرا و كرها- و هاهنا توجيه اخر و هو ان يقال ان فيه اشارة الى ان الكفار استحقوا العذاب بحيث لو لم يعذبهم اللّه تعالى لكان ظلما عليهم و منعا لحقهم فهذه الجملة كانها تأكيد لوقوع العذاب عليهم- قال الكلبي ان كعب بن الأشرف و مالك بن الضيف و وهب بن يهود او زيد بن التابوت و فخاص بن عازورا و حيى بن اخطب أتوا النبي صلى اللّه عليه و سلم و قالوا يا محمد تزعم ان اللّه بعثك رسولا إلينا و انزل عليك كتابا و انّ اللّه عهد إلينا فى التورية الّا نؤمن لرسول يزعم انه من عند اللّه حتّى يأتينا بقربان تأكله النّار فان جئتنا به صدقناك فانزل اللّه تعالى.

١٨٣

الَّذِينَ قالُوا محله الجر بدلا من الموصول السابق او الرفع بناء على انه خبر مبتدا محذوف اى هم الذين قالوا إِنَّ اللّه عَهِدَ إِلَيْنا يعنى أمرنا و اوصانا فى التورية أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ اى لا نصدق رجلا يدّعى الرسالة من عند اللّه حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ- القربان فى الأصل كل ما يتقرب به العبد الى اللّه عز و جل من نسيكة و صدقة و عمل صالح فعلان من القربة ثم صار اسما للذبيحة التي كانوا يتقربون بها الى اللّه تعالى و كانت القرابين و الغنائم لا تحل لبنى إسرائيل فكانوا إذا قربوا قربانا او غنموا غنيمة جاءت نار بيضاء من السماء لا دخان لها لها دوى و حفيف فيأكل و يحرق ذلك القربان و الغنيمة فيكون ذلك علامة القبول و إذا لم تقبل بقيت على حالها- قال السدى ان اللّه تعالى امر بنى إسرائيل من جاءكم يزعم انه رسول اللّه فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار حتى يأتيكم المسيح و محمد فاذا أتياكم فامنوا بهما فانهما يأتيان بغير قربان قال اللّه تعالى اقامة للحجة عليهم قُلْ يا محمد قَدْ جاءَكُمْ يا معشر اليهود رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ المعجزات الواضحات سوى القربان وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ من القربان كزكريا و يحيى و سائر من قتلوهم من الأنبياء فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ يعنى كذّبهم أسلافهم و قتلوهم و اتبعهم أولادهم الذين كانوا فى زمن النبي صلى اللّه عليه و سلم على تكذيبهم و الرضاء بالكفر بهم فلذلك توجه إليهم هذا الاستفهام الإنكاري إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) شرط حذف جزاؤه يعنى ان كنتم صادقين فى انّ امتناعنا عن الايمان بك لاجل ذلك العهد فلم لم تؤمنوا بزكريا و يحيى و أمثالهما فاذا لم تؤمنوا بهم ظهران امتناعكم عن الايمان ليس لاجل هذا بل عنادا و تعصبا.

١٨٤

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فلا تحزن فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فعلى هذا التأويل جزاء الشرط محذوف أقيم سببه مقامه و جاز ان يكون المعنى فان كذبوك فتكذيبك تكذيب لرسل من قبلك حيث أخبروا ببعثك جاؤُ بِالْبَيِّناتِ المعجزات الواضحات وَ الزُّبُرِ كصحف ابراهيم وَ الْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) كالتورية و الإنجيل و على التأويل الاول تسلية للنبى صلى اللّه عليه و سلم يعنى فاصبر كما صبروا و على التأويل الثاني الزام لليهود فان تكذيب محمد عليه الصلاة و السلام تكذيب للذين جاءوا بالقربان- قرا هشام بالزّبر و بالكتب المنير بزيادة الباء فيهما و هكذا خطّ هشام عليهما فى كتابه عن أصحابه عن ابن «١» عامر

و قرا ابن ذكوان بزيادة الباء فى بالزبر وحده و الباقون بغير باء فيهما- و الزبر جمع زبور و هو الكتاب المقصور على الحكم من زبرت الشي ء إذا احسنته-.

(١) فى الأصل ابى عامر-.

١٨٥

كُلُّ نَفْسٍ مؤمنة او فاجرة ذائِقَةُ الْمَوْتِ

قال البغوي فى الحديث انه لمّا خلق اللّه آدم اشتكت الأرض الى ربها لما أخذ منها فوعدها ان يرد فيها ما أخذ منها فما من أحد الا و يدفن فى التربة التي خلق منها و الحاصل انه ليست الحيوة الدنيا و نعماؤها جزاء للطاعات وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ اى جزاء أعمالكم يَوْمَ الْقِيامَةِ ان خيرا فخيرا و ان شرا فشرا فاجازيك على الصبر و الطاعة و أجازي الكفار على تكذيب الحق- و هذه الاية ايضا تسلية للنبى صلى اللّه عليه و سلم- و لفظا التوفية يشعر بانه قد يكون بعض الأجور قبلها قال اللّه تعالى و آتيناه يعنى ابراهيم أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ- و عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم القبر روضة من رياض الجنة او حفرة من حقر النار رواه الترمذي و رواه الطبراني فى الأوسط عن ابى هريرة فَمَنْ زُحْزِحَ اى ابعد عَنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ اى ظفر بالمطلوب و نال المراد وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا اى العيش فيها إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) المتاع ما يتمتع و ينتفع به و الغرور اما مصدر من غرّه يغرّه غرا و غرورا فهو مغرور و غرّه اى خدعه و أطمعه بالباطل او جمع غار شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به البايع على المستام و يغرّه حتى يشتريه يعنى «١» متاعا نظرا الى الظاهر و لا حقيقة لها و ذلك لان لذاتها مشوبة بالمكاره و الالام و مع ذلك لا بقاء لها كالاحلام- قال قتادة هى متاع متروكة يوشك ان تضمحل باهلها فخذوا من هذا المتاع بطاعة اللّه ما استطعتم و الغرور الباطل و قال الحسن هى كخضر النبات و لعب النبات لا حاصل له عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول اللّه عز و جل اعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رات و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر فاقرءوا ان شئتم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ و ان فى الجنة لشجرة يسير الراكب فى ظلها مائة عام لا يقطعها و اقرءوا ان شئتم و ظلّ ممدود و لموضع سوط من الجنة خير من الدنيا و ما فيها و اقرءوا ان شئتم فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ رواه البغوي بسنده و الفصل الاول متفق عليه عنه و كذا الفصل الثاني و الثالث فى الصحيحين غير قوله اقرءوا ان شئتم ظلّ ممدود اقرءوا ان شئتم فمن زحزح الاية-.

(١) فى الأصل متاع.

١٨٦

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ بالأمور التكليفية من الزكوة و الصدقات و الصوم و الصلاة و الحج و الجهاد و بالمصائب من الجوائح و العاهات و الخسران و الأمراض و موت الأحباب وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً من هجاء الرسول صلى اللّه عليه و سلم و الطعن فى الدين و إغراء الكفرة على المسلمين أخبرهم بذلك قبل وقوعها لتؤطنوا أنفسهم على الصبر و الاحتمال و تستعدوا للقائها- رومى ابن المنذر و ابن ابى حاتم فى مسنده بسند حسن عن ابن عباس انها نزلت فيما كان بين ابى بكر و فخاص من قوله إِنَّ اللّه فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ كذا قال عكرمة و مقاتل و الكلبي و ابن جريح ان النبي صلى اللّه عليه و سلم بعث أبا بكر الى فخاص بن عازورا سيد بنى قينقاع ليستمده و كتب اليه كتابا و قال لابى بكر لا تفتاتن علىّ بشى ء حتى ترجع فجاء ابو بكر و هو متوشح بالسيف فاعطاه الكتاب فلما قرا قال قد احتاج ربك الى ان نمده فهم ابو بكر ان يضربه بالسيف ثم ذكر قول النبي صلى اللّه عليه و سلم لا تفتاتن علىّ بشى ء حتى ترجع فكف و نزلت هذه الاية- و ذكر عبد الرزاق عن الزهري عن عبد اللّه بن كعب بن مالك انها نزلت فى كعب بن الأشرف فانه كان يهجو النبي صلى اللّه عليه و سلم و يسب المسلمين و يحرض المشركين على النبي صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه فى شعره و يشبب بنساء المسلمين-

قلت و ذلك بعد وقعة بدر لما راى دولة الإسلام و قتل صناديد قريش و ذهب الى مكة ينتدب المشركين لقتال النبي صلى اللّه عليه و سلم و قالت قريش ا ديننا اهدى أم دين محمد قال بل دينكم و هجاه حسان بإذن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- و فى الصحيح فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم من لى بابن الأشرف فانه قد أذى اللّه و رسوله شعره و قوى المشركين علينا فقال محمد بن مسلمة الأنصاري رضى اللّه عنه انا لك يا رسول اللّه هو خالى انا اقتله قال أنت افعل ان قدرت على ذلك فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل و لا يشرب الا ما تعلق نفسه فذكر ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لم تركت الطعام و الشراب قال يا رسول اللّه قلت قولا و لا أدرى هل أفي به أم لا فقال انما عليك الجهد و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم شاور سعد بن معاذ فقال توجه اليه و أشك له الحاجة و سله ان يسلفك طعاما فاجتمع محمد بن مسلمة و عباد بن بشر و ابو نائلة سلكان بن سلامة و كان أخا كعب من الرضاعة و الحارث بن عبس و الحارث بن أوس بن معاذ بعثه عمه سعد بن معاذ و ابو عبس بن حبر فقالوا يا رسول اللّه نحن نقتله فائذن لنا فلنقل بيننا فانه لا بدلنا ان نقول فيك قال قولوا ما بدا لكم و أنتم فى حل من ذلك فقدّموا بانائلة فجاءه فتحدث معه و تناشدوا الشعر و كان ابو نائلة يقول الشعر ثم قال ويحك يا ابن الأشرف انى قد جئتك لحاجة أريد ذكرها فاكتم علىّ قال افعل قال كان قدوم هذا الرجل بلادنا بلاء عادتنا العرب و رمونا عن قوس واحدة و انقطعت عنا السبل حتى ضاعت العيال و جهدت الأنفس فقال كعب لقد كنت أخبرتك ان الأمر سيصير الى هذا فقال ابو نائلة ان معى أصحابا أردنا ان تبيعنا طعامك و نرهنك و نوثق لك و تحسن فى ذلك قال ترهنونى ابناءكم قالوا انا نستحيى ان نعير أبناءنا فيقال هذا رهينة و سق و هذا رهينة و سقين قال ترهنونى نساءكم قالوا كيف نرهنك نساءنا و أنت أجمل العرب و لا نأمنك و اية امرأة تمتنع منك لجمالك و لكنا نرهنك الحلقة يعنى السلاح و قد علمت حاجتنا الى السلاح قال نعم ان فى السلاح لوفاء و أراد ابو نائلة ان لا ينكر السلاح إذا راه فواعده ان يأتيه فرجع ابو نائلة الى أصحابه فاخبرهم فاجمعوا أمرهم على ان يأتوه إذا امسى لميعاده- ثم أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عشاء فاخبروه روى ابن إسحاق و احمد بسند صحيح عن ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مشى معهم الى بقيع الغرقد ثم وجههم ثم قال انطلقوا على اسم اللّه اللّهم أعنهم ثم رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الى بيته فى ليلة مقمرة مثل النهار ليلة اربع عشرة من شهر ربيع الاول- فمضوا حتى انتهوا الى حصن ابن الأشرف ليلا و قال ابو نائلة لاصحابه انى فاتل شعره فاذا رايتمونى استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه فهتف به ابو نائلة و كان ابن الأشرف حديث عهد بعرس فوثب فى ملحفه فاخذت امرأته بناحيتها و قالت انك امرؤ محارب و ان اصحاب الحرب لا ينزلون فى هذه الساعة و انى اسمع صوتا يقطر منه الدم فكلّمهم من فوق الحصن فقال انه ميعاد علىّ و انما هو ابن أختي محمد بن مسلمة و رضيعى ابو نائلة لو وجدوني نائما ما أيقظوني و ان الكريم إذا دعى الى طعنة بليل أجاب- فنزل إليهم متوشحا بملحفة يفوح منها ريح الطيب فتحدث معهم ساعة ثم قالوا يا ابن الأشرف هل لك فى ان نتماشا الى شعب العجوز فنتحدث فيه بقية ليلتنا هذه قال ان شئتم فخرجوا يتماشون فمشوا ساعة فقال ابو نائلة نجد منك ريح الطيب قال تحتى فلانة من أعطر نساء العرب- قال فتأذن لى ان أهم قال نعم فادخل ابو نائلة يده فى رأس كعب ثم شم يده فقال ما رايت كالليلة طيبا أعطر قط و كان كعب يدهن بالمسك الغتيت بالماء و العنبر حتى يتلبد فى صدغيه و كان جعدا جميلا- ثم مشى ابو نائلة ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمان اليه و سلسلت يده فى شعره- ثم عاد فاخذ بقرون رأسه حتى استمكن و قال لاصحابه اضربوا عدو اللّه فاختلف أسيافهم فلم تغن شيئا قال محمد بن مسلمة فذكرت مغولا «١» فى سيفى فاخذته و قد صاح عدو اللّه صيحة لم يبق حولنا حصن الا أوقدت عليه نار قال فوضعته فى تندؤته ثم تحاصلت عليه حتى بلغت عانته و وقع عدو اللّه- و عند ابن سعد فطعن ابو عيس فى

(١) المغول بالكسر شبه سيف قصير يشتمل به الرجل تحت ثيابه فيغطيه و قيل هو حديدة دقيقة لها حد ماض وقفا- و قيل هو سوط فى جوفه سيف دقيق يشده العاتك على وسطه ليقال به الناس- نهايه منه رح.

خاصرته فجزوا رأس كعب و قد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ بجرح فى رأسه أصابه بعض اسيافنا- فخرجنا نشتد نخاف من يهود الارصاد و قد ابطا علينا صاحبنا الحارث بن أوس لجرح فى رأسه و نزفه الدم فناداهم اقرءوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم منى السلام فعطفوا عليه فاحتملوه حتى أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فلما بلغوا بقيع الغرقد اخر الليل كبروا و قد قام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يصلى- فلما سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تكبيرهم بالبقيع كبر و عرف ان قد قتلوه- ثم أتوه يعدون حتى وجدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم واقفا على باب المسجد- فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم افلحت الوجوه- قالوا و وجهك يا رسول اللّه و رموا برأسه بين يديه فحمد اللّه تعالى على قتله- ثم أتوا بصاحبهم الحارث فتفل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على جرحه فلم يؤذه- فرجعوا الى منازلهم- فلما أصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه فوثب محيصة بن مسعود على شغينة رجل من تجار يهود كان يلابسهم و يبايعهم فقتله- و كان خويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم و كان أسن من محيصة- فلما قتله جعل خويصة يضربه و يقول اى عدو اللّه قتلته اما و اللّه لربّ شحم فى بطنك من ماله- قال محيصة و اللّه لو أمرني بقتلك من أمرني بقتله لضربت عنقك- قال لو أمرك محمد بقتلى لقتلتنى قال نعم قال و اللّه ان دينا بلغ بك هذا العجب فاسلم خويصة- فخافت اليهود فلم يطلع عظيم من عظمائهم- و لم ينطقوا و خافوا ان يبيتوا كما بيّت ابن الأشرف- و عند ابن سعد فاصبحت اليهود مذعورين فجاءوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالوا قتل سيدنا عيلة فذكرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صنيعه و ما كان يحض عليه و يحرض فى قتاله و يؤذيه ثم دعاهم ان يكتبوا بينهم و بينه صلحا فكان ذلك الكتاب مع على رضى اللّه عنه

(مسئلة) احتج الشافعي بهذه القصة على جواز قتل من سبّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من الكفار او انتفصه او أذاه سواء كان بعهد او بغير عهد- و قال ابو حنيفة لا يقتل المعاهد بسبّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لان سبّه كفر و الكفر لا ينافى العهد و عند ابى حنيفة انما قتل ابن الأشرف لانه نقض العهد و ذهب الى مكة لتحريض المشركين على قتال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و كان عاهده ان لا يعين عليه أحدا و قد اعانهم

(مسئلة) لا يجوز ان يقال ان هذا كان غدرا من محمد بن مسلمة و ابو نائلة رضى اللّه عنهما و قد قال ذلك رجل فى مجلس امير المؤمنين على رضى اللّه عنه فضرب عنقه و انما يكون الغدر بعد أمان و لم يؤمنه محمد بن مسلمة و لا رفقته رضى اللّه عنهم بحال و انما كلمه فى امر البيع و الرهن الى ان تمكن منه (فائدة) وقع فى الصحيح ان الذي خاطب كعبا محمد بن مسلمة و اكثر اهل المغازي على انه ابو نائلة و يمكن الجمع بينهما بان يكون كل منهما كلمه فى ذلك وَ إِنْ تَصْبِرُوا على ما ابتليتم به وَ تَتَّقُوا مخالفة امر اللّه تعالى فَإِنَّ ذلِكَ الصبر و التقوى مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) مصدر بمعنى المفعول اى من معزومات الأمور التي يجب عليها العزم او مما عزم اللّه عليه اى امر به و بالغ فيه و العزم فى الأصل ثبات الرأى على الشي ء نحو إمضائه و قال عطاء يعنى من حقيقة الايمان-

قلت و المراد بالصبر عدم الجزع و الانقياد عند ابتلاء اللّه العبد و ترك الاعتراض عليه و ذا لا ينافى الانتقام من الكفار إذا آذوا المسلمين كما دل عليه قصة ابن الأشرف لعنه اللّه و اللّه اعلم-.

١٨٧

وَ إِذْ أَخَذَ اللّه اى اذكر وقت أخذ اللّه مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اى العلماء منهم أخذ منهم العهد فى التورية لَتُبَيِّنُنَّهُ اى الكتاب لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ قرا ابن كثير و ابو عمرو و ابو بكر بالياء على الغيبة فيهما و الباقون بالتاء على الخطاب فَنَبَذُوهُ اى الكتاب وَراءَ ظُهُورِهِمْ يعنى ضيعوه و تركوا العمل به و كتموا ما فيه من نعت محمد صلى اللّه عليه و سلم وَ اشْتَرَوْا بِهِ اى أخذوا بدله ثَمَناً قَلِيلًا يعنى المأكل و الرشى فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) ما يختارون لانفسهم قال قتادة هذا ميثاق اخذه اللّه تعالى على اهل العلم فمن علم شيئا فليعلمه و إياكم و كتمان العلم فانه هلكة- و قال ابو هريرة يوما أخذ اللّه على اهل الكتاب ما حدثتكم بشى ء ثم تلا هذه الاية وَ إِذْ أَخَذَ اللّه مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ- و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من سئل عن علم يعلمه فكقمه الجم يوم القيامة بلجام من النار- رواه احمد و الحاكم بسند صحيح- و أخرجه ابن ماجة من حديث انس-

قال البغوي قال الحسن بن عمارة أتيت الزهري بعد ان ترك الحديث فالفيته على بابه فقلت ان رايت ان تحدثنى فقال ا ما علمت انى تركت الحديث فقلت اما ان تحدثنى و اما ان أحدثك فقال حدّثنى فقلت حدثنى الحكم بن عيينة عن يحيى الجزار قال سمعت على بن ابى طالب رضى اللّه عنه يقول ما أخذ اللّه على اهل الجهل ان يتعلموا حتى أخذ عن اهل العلم ان يعلموا قال فحدثنى أربعين حديثا- و رواه الثعلبي فى تفسيره من طريق الحارث عن ابى اسامة و هو فى مسند الفردوس من حديث على مرفوعا-.

١٨٨

لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا اى بما فعلوا من إضلال الناس و التدليس و كتمان الحق او من مطلق المعاصي وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا من الوفاء بالميثاق و اظهار الحق و الاخبار بالصدق و غير ذلك من الحسنات وجه فرحهم كون ما فعلوا بتمسكاتهم فى تكذيب نبوته صلى اللّه عليه و سلم و جاز ان يكون المراد بالموصول المنافقين الذين لم يفعلوا الطاعات على الحقيقة و يظهر و نهار ياء و يحبون ان يحمدوا بانهم زهاد مطيعين للّه فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ قرا الكوفيون لا تحسبنّ فلا تحسبنّهم بالتاء على الخطاب للنبى صلى اللّه عليه و سلم و بفتح الباء على الافراد فعلى هذا المفعول الاول للفعل الاول الموصول و الثاني بمفازة و الفعل الثاني تأكيد للفعل الاول و فاعله و مفعوله الاول

و قرا ابن كثير و ابو عمرو بالياء للغيبة فيهما و ضم الباء فى لا يحسبنّهم لان الضمير راجع الى الذين فعلى هذا الفاعل للفعل الاول الموصول و مفعولاه محذوفان تدل عليهما مفعولا مؤكده او المفعول الاول محذوف و مفعوله الثاني بمفازة و الفعل الثاني تأكيد للاول و فاعله و مفعوله الاول يعنى لا يحسبنّ الّذين يفرحون أنفسهم بمفازة

و قرا نافع و ابن عامر بالياء للغيبة فى الاول على ان مفعوليه «١» محذوفان يدل عليهما المفعولان للفعل الثاني و بالتاء خطابا للنبى صلى اللّه عليه و سلم وحده فى الفعل الثاني مِنَ الْعَذابِ فى الدنيا بالفضيحة و الذم و الرد وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) فى الاخرة روى الشيخان و غيرهما من طريق حميد بن عبد الرحمن بن عوف- و كذا روى البغوي من طريق البخاري عن علقمة بن وقاص ان مروان قال لبوابه اذهب يا رافع الى ابن عباس فقل لئن كان كل امرئ منا فرح بما اوتى و أحب ان يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذ بن أجمعين فقال ابن عباس و مالكم و لهذه انما دعا النبي صلى اللّه عليه و سلم اليهود فسالهم عن شى ء فكتموه

(١) فى الأصل مفعولاه.

إياه فاخبروه بغيره فخرجوا قد أروه انهم اخبروه بما سالهم عنه و استجدوا بذلك اليه و فرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سالهم عنه ثم قرا ابن عباس وَ إِذْ أَخَذَ اللّه مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الى قوله يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا-

و اخرج الشيخان عن ابى سعيد الخدري ان رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الى الغزو تخلفوا عنه و فرحوا بمقعدهم خلاف رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاذا قدم اعتذروا اليه و حلفوا و أحبوا ان يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا الاية-

و اخرج عبد فى تفسيره عن زيد بن اسلم ان رافع بن خديج و زيد بن ثابت كانا عند مروان فقال مروان يا رافع فى اىّ شى ء نزلت هذه الاية لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا قال رافع أنزلت فى ناس من المنافقين كانوا إذا خرج النبي صلى اللّه عليه و سلم اعتذروا و قالوا ما حبسنا عنكم الا الشغل فلود دنا انا كنا معكم فانزل اللّه فيهم هذه الاية و كانّ مروان أنكر ذلك فخرج رافع من ذلك فقال لزيد أنشدك باللّه هل تعلم ما أقول قال نعم قال الحافظ ابن حجر يمكن الجمع بينهما بانها نزلت فى الفريقين- و حكى الفراء انها نزلت فى قول اليهود و نحن اهل الكتاب الاول و الصلاة و الطاعة و مع ذلك لا يقرون بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و روى ابن ابى حاتم من طرق عن جماعة من التابعين نحو ذلك و رجحه ابن جرير و لا مانع ان تكون نزلت فى ذلك ايضا-

قال البغوي قال عكرمة نزلت فى فخاص و اشيع و غيرهما من الأحبار يفرحون باضلالهم الناس و بنسبة الناس إياهم الى العلم و ليسوا باهل علم- و قال مجاهدهم اليهود فرحوا بما اعطى اللّه ال ابراهيم و هم براء من ذلك- و قال قتادة و مقاتل أتت يهود خيبر نبى اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالوا نحن نعرفك و نصدقك و انّا على رأيكم و نحن لكم ردء و ليس ذلك فى قلوبهم فلما خرجوا قال لهم المسلمون أحسنتم هكذا فافعلوا فحمدوهم و دعوا لهم فانزل اللّه هذه الاية.

١٨٩

وَ للّه مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خزائن المطر و الرزق و النبات و غيرها يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد وَ اللّه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) فيقدر على عقابهم- و فى هذه الاية رد لقولهم انّ اللّه فقير- اخرج الطبراني و ابن ابى حاتم عن ابن عباس قال أتت قريش اليهود فقالوا بما جاءكم موسى من الآيات قالوا عصاه و يده بيضاء للناظرين- و أتوا النصارى فقالوا كيف كان عيسى قالوا «١» كان يبرئ الأكمه و الأبرص و يحيى الموتى- فاتوا النبي صلى اللّه عليه و سلم و قالوا ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فنزلت.

(١) فى الأصل قال-.

١٩٠

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و ما فيهما من العجائب و افاضة الوجود على ماهيات لا يقتضى لذواتها وجودها وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ تعاقبهما على نسق بديع و نظام حكيم و ما يتعاقبان عليه لَآياتٍ دلائل واضحة على وجود الصانع و كمال علمه و قدرته و إرادته و حكمته لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) لذوى العقول المنزهة عن شوائب الأوهام و وساوس الشيطان عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ويل لمن قراها و لم يتفكر فيها أخرجه ابن حبان فى صحيحه- و عن ابن عباس انه و قد عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فراه استيقظ فتسوك و توضأ و هو يقول انّ فى خلق السّموت و الأرض حتى ختم السورة ثم قام فصلى ركعتين أطال فيهما القيام و الركوع و السجود ثم انصرف فنام حتى نفخ ثم فعل ذلك ثلاث مرات ست ركعات كل ذلك يستاك و يتوضأ و يقرأ هذه الآيات ثم أوتر بثلاث رواه مسلم.

١٩١

الَّذِينَ صفة لاولى الألباب فان مقتضى العقل الاتصاف بالذكر و الفكر و التسبيح و الايمان و الاستغفار و الدعاء و التضرع اليه- و من لم يتصف بها فهو كالانعام بل أضل منها فان الانعام يسبحون اللّه نوع تسبيح يَذْكُرُونَ اللّه قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ

قال البغوي قال على رضى اللّه عنه و ابن عباس رضى اللّه عنهما و النخعي و قتادة هذا فى الصلاة يصلى قائما فان لم يستطع فقاعدا فان لم يستطع فعلى جنب و نظير هذه الاية فى سورة النساء فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللّه قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ و حديث عمران بن حصين رضى اللّه عنه قال كانت بي بواسير فسالت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن صلوة المريض فقال صل قائما فان لم تستطع فقاعدا فان لم تستطع فعلى جنب أخرجه البخاري و اصحاب السنن الاربعة زاد النسائي فان لم يستطع فمستلقيا لا يكلّف اللّه نفسا الّا وسعها- و عن على عليه السلام عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال يصلى المريض قائما ان استطاع فان لم يستطع صلى قاعدا فان لم يستطع ان يسجد أومأ و جعل سجوده اخفض من ركوعه فان لم يستطع يصلى على جنبه الايمن مستقبل القبلة فان لم يستطع ان يصلى على جنبه الايمن صلى مستلقيا رجلاه مما يلى القبلة رواه الدار قطنى و فى اسناده حسين بن زيد ضعفه ابن المديني و الحسن بن الحسن المغربي و هو متروك و من هاهنا قال الشافعي ان المريض إذا عجز عن القيام صلى قاعدا و إذا عجز عن القعود يضطجع على جنبه الايمن مستقبل القبلة فان لم يستطع استلقى على ظهره و يستقبل رجليه الكعبة حتى يكون ايماؤه فى الركوع و السجود الى القبلة و به قال مالك و احمد غير انه لو صلى مستلقيا و هو قادر على الصلاة على جنبه الايمن جاز عندهما خلافا للشافعى- و قال ابو حنيفة إذا عجز عن القعود صلى مستلقيا و رجلاه الى الكعبة فان لم يستطع ان يصلى مستلقيا صلى على جنبه- قال ابو حنيفة ان هذه الاية و التي فى سورة النساء ليستافى صلوة المريض بل المراد بها عند عامة المفسرين المداومة على الذكر فى عموم الأحوال لان الإنسان قلما يخلوا عن هذه الحالات الثلاث- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من أحب ان يرتع فى رياض الجنة فليكثر ذكر اللّه رواه ابن ابى شيبة و الطبراني من حديث معاذ و لو سلمنا ان الاية فى صلوة المريض فهى لا تنفى صلوة المستلقى و لا تدل على الترتيب الذي ذكره الشافعي و كذا ما فى الصحيح من حديث عمران بن حصين قال ابن همام كان مرض عمران بن حصين البواسير و هو يمنع الاستلقاء و لذا لم يذكر الا ان ما رواه النسائي و زاد فيه صلوة المستلقى لو صح لكان حجة للشافعى و حديث على ضعيف لا يصلح للاحتجاج- ثم وجه قول ابى حنيفة فى تقديم الاستلقاء على الصلاة على جنبه ان المقصود الأهم فى الصلاة الركوع و السجود و لذا قال ابو حنيفة من لم يستطع الركوع و السجود و يقدر على القيام الأفضل ان يصلى قاعدا بالإيماء فان ايماءه اقرب الى السجود خلافا للجمهور- و ايماء المستلقى على ظهره إذا كان رجلاه الى الكعبة يقع الى الكعبة بخلاف ايماء من يصلى على جنبه مستقبلا الى القبلة يقع الى جهة رجليه فكان الاستلقاء اولى- و قال الشافعي و مالك و احمد القيام كالركوع و السجود فى كونه مقصودا فلا يجوز الصلاة قاعدا لمن يقدر على القيام و ان لم يقدر على الركوع و السجود بل عليه ان يصلى قائما بالإيماء و لا شك ان مدة القيام فى الصلاة اكثر من مدة الركوع و السجود فمن صلى مستلقيا يكون غالب حاله التوجه الى السماء لا الى جهة الكعبة و من صلى على جنبه يكون غالب حاله التوجه الى الكعبة و ذلك هو المأمور به فى قوله تعالى فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ و اللّه اعلم وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و ما أبدع فيهما و ما أودع فيهما ليستدل بها على وجود صانع قادر عليم حكيم واحد لا شريك له عن على رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا عبادة كالتفكر أخرجه البيهقي فى شعب الايمان و ابن حبان فى الضعفاء و ضعفاه- و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر الى السماء و النجوم فقال اشهد ان لك ربا و خالقا اللّهم اغفر لى فنظر اللّه اليه فغفر له رواه ابو الشيخ «١» ابن حبان و الثعلبي- و الفكر عبارة عن ترتيب امور معلومة لتحصيل مجهول فى القاموس هو اعمال النظر فى الشي ء قال الجوهري فى الصحاح الفكرة قوة مطرقة للعلم الى المعلوم و التفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل و ذلك للانسان دون الحيوان و لا يقال الا فيما يمكن ان يحصل له صورة فى القلب و لهذا روى تفكروا فى آلاء اللّه و لا تتفكروا فى اللّه لكون اللّه تعالى منزها بان يوصف بصورة- و قال بعض العلماء الفكر مقلوب عن الفرك لكن يستعمل الفكر فى المعاني و هو فرك الأمور و بحثها طلبا للوصول الى حقيقتها انتهى كلام الجوهري-

قلت ورد فى الحديث تفكروا فى كل شى ء و لا تفكروا فى ذات اللّه تعالى فان بين السماء السابعة الى كرسيه سبعة آلاف نور و هو فوق ذلك رواه ابو الشيخ فى العظمة عن ابن عباس و عنه بلفظ تفكروا فى الخلق و لا تفكروا فى الخالق فانكم لا تقدرون قدره و عن ابى ذر نحوه بلفظ تفكروا فى خلق اللّه و لا تفكروا فى اللّه فتهلكوا و روى ابو نعيم فى الحلية عن ابن عباس تفكروا فى خلق اللّه و لا تفكروا فى اللّه- و روى ابو الشيخ و الطبراني فى الأوسط و ابن عدى و البيهقي بسند ضعيف بلفظ تفكروا فى آلاء اللّه و لا تفكروا فى اللّه فهذه الأحاديث تدل على المنع عن التفكر فى مرتبة الذات و اقتصاره فى مراتب الافعال و الصفات و الأسماء- و بهذا يظهر امتناع تعلق العلم الحصولى بحضرت «٢» الذات بلا شائبة الأسماء و الصفات و قال المجدد رضى اللّه عنه العلم الحضوري ايضا ساقط من تلك المرتبة العليا لان جولانه الى نفس العالم و ما هو عينه يعنى الى مرتبة العينية و الاتحاد و ذلك كفر الحقيقة و اللّه سبحانه اقرب إلينا من أنفسنا فهو سبحانه وراء الوراء ثم وراء الوراء ثم وراء الوراء فى جانب القرب لا فى جانب البعد فلا سبيل للعلم الحضوري ايضا الى تلك المرتبة الأسنى- فدوام الحضور و العلم اللدني البسيط الحاصل للصوفى المتعلق بحضرت الذات وراء العلمين لا يدرى ما هو و لا يجوز اطلاق التفكر عليه الا مجازا كما اطلق عليه بعض الصوفية- و قد ورد فى الشرع التعبير عنه بالذكر كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يذكر اللّه فى كل احيانه انما هو ذلك لا الذكر اللساني فانه لا يمكن استدامته- و لما

(١) فى الأصل ابو الشيخ و ابن حبان.

(٢) مسئلة امتناع تعلق العلم الحصولى بحضرت الذات بل العلم المتعلق بالذات وراء العلم الحضوري ايضا-.

كان دوام الذكر أهم و أسنى و انما الفكر طريقا إليها وصف اللّه سبحانه اولى الألباب اولا بدوام الذكر و بعد ذلك بالتفكر الموصل الى علم هو كالظل له حيث قال الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّه قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ يعنى يديمون الذكر فى جميع الأحوال وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ- و ايضا فى تقديم الذكر على الفكر تنبيه بان العقل غير مستقل بافادة الاحكام الحقة ما لم يستضئ بنور الذكر و الهداية من اللّه سبحانه رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا على ارادة القول اى يتفكرون قائلين ذلك- و الباطل ضد الحق كذا فى القاموس و الحق قد يطلق على موجود متاصل الوجود لا يحتاج فى تحققه و وجوده و لا فى شى ء من الأشياء الى غيره و هو اللّه سبحانه و قد يطلق على موجود فى الخارج بلا نحت الوهم و الخيال و ان كان مقتبسا تحققه من الوجود الحق- و قد يطلق على موجود يشتمل وجوده على حكم و مصالح لا يكون عبثا ضائعا من غير حكمة ذاهبا بلا فائدة يترتب عليه- و الباطل ضد الحق على المعاني كلها فباعتبار المعنى الاول قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الا احسن القول قول لبيد كل شى ء ما خلا اللّه باطل و جاز اعتبار المعنى الثاني فى البيت يعنى كل معبود ما خلا اللّه باطل الحقيقة له منحوت للوهم و الخيال و باعتبار المعنى الثالث اطلق الباطل على الشيطان قال اللّه تعالى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ و الباطل هاهنا ان كان بالمعنى الثاني فمعنى الاية ما قال اهل الحق أساسا للاستدلال على الصانع (خلافا للسوفسطائية) ان حقائق الأشياء ثابتة و العلم بها متحقق- و ان كان بالمعنى الثالث فالمعنى ما خلقت الخلق عبثا بل لحكمة عظيمة دليلا على معرفتك باعثا على شكرك و طاعتك- و هذا اشارة الى السموات و الأرض و تذكيره بارادة المتفكر فيه او لانهما فى معنى المخلوق او الى الخلق على انه أريد به المخلوق من السموات و الأرض او أريد به التخليق و جاز ان يراد به التفكر فى خلق كل جزء من اجزائها فهذا اشارة الى هذا الجزء- و باطلا منصوب على الحالية من هذا و جاز ان يكون باطلا بمعنى هازلا حالا من فاعل خلقت فعلى هذا قوله تعالى سُبْحانَكَ مؤكد للحال يعنى انه تعالى منزه عن الهزل لكونه رذيلة و على التأويل الاول اعتراض فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) للاخلال بالنظر فيه و القيام بما يقتضيه- و الفاء تدل على ان خلق السموات و الأرض للاستدلال و الشكر و الطاعة يقتضى ثواب المطيع و عذاب العاصي غالبا و العلم ينفى البطلان و العبث عنهما يستلزم الرجاء و الخوف و هما يقتضيان طلب الثواب و الاستعاذة من العذاب و قدم الاستعاذة لان دفع الضرر أهم من جلب النفع- و قيل دخلت الفاء لمعنى الجزاء تقديره إذا نزهناك فقنا عذاب النار.

١٩٢

رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ تكرير ربنا للمبالغة فى الابتهال و الدلالة على استقلال المطالب و علو شأنها و التمسك بايفاء صفة الربوبية و باعترافهم بانه هو الذي رباهم- و معنى خزاه قهره و كفه عن هواه و خزى كرضى وقع فى بلية و أخزاه اللّه فضحه كذا فى القاموس وَ ما لِلظَّالِمِينَ اى ما لهم يعنى لمن دخل النار وضع المظهر موضع المضمر للدلالة على ان ظلمهم سبب لادخالهم النار مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) لان النصرة دفع بقهر و لا يتصور القهر فى مقابلة القهار و الا يلزم عجزه و هو ينافى الربوبية و هذا لا ينفى الشفاعة-

فان قيل قد قال اللّه تعالى يوم لا يجزى اللّه النّبىّ و الّذين أمنوا معه و من اهل الايمان من يدخل النار و قد قال هاهنا مَنْ «١» تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ فكيف التوفيق

قلنا معناه فقد أخزيته ما دام هو فى النار او المراد بالذين أمنوا معه المؤمنون الكاملون و قال انس و قتادة معناه انك من تخلده فى النار فقد أخزيته كذا قال سعيد بن منصور ان هذه خاصة لمن لا يخرج منها و روى عن جابر إخزاء المؤمن تأديبه و ان فوق ذلك لخزيا-.

(١) فى الأصل و من-.

١٩٣

رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً قال ابن مسعود و ابن عباس و اكثر الناس يعنى محمدا صلى اللّه عليه و سلم و قال القرطبي يعنى القران فليس كل أحد يلقى النبي صلى اللّه عليه و سلم قلت من سمع قول النبي صلى اللّه عليه و سلم بالتواتر فقد سمعه- أوقع الفعل على المسمع و حذف المسموع لدلالة وصفه عليه و فيه مبالغة ليست فى إيقاعه على المسموع و فى تنكير المنادى و إطلاقه ثم تقييده تعظيم لشأن المنادى و شأن النداء فانه لا منادى أعظم ممن ينادى للايمان و لا نداء أعظم من ذلك النداء يُنادِي لِلْإِيمانِ النداء يعدى بالى و اللام لتضمنها معنى الانتهاء و الاختصاص أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ ان مفسرة للنداء إذ فيه معنى القول او مصدرية بتقدير الباء اى بان أمنوا فَآمَنَّا به فيه اشعار على ان الايمان على حقيقته يترتب على الادلة السمعية و استدل به ابو منصور الماتريدى على بطلان الاستثناء فى الايمان و وجوب القول انا مؤمن حقا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا الفاء للسببية فان الايمان سبب للمغفرة و لا يتصور المغفرة بلا ايمان ذُنُوبَنا يعنى الكبائر وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا يعنى الصغائر و التفعيل للتكثير فان وقوع السيئات يغلب يعنى استرها مرة بعد اخرى وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) جمع برّا و بارّ بمعنى الصادق و كثير الخير و المتسع فى الإحسان- و معنى التوفى مع الأبرار التوفى حال الاختصاص بصحبتهم معدودين فى زمرتهم لا المعية الزمانية فان ذلك غير متصور عادة و لا مفيد- و لم يقل و توفنا بارين هضما لانفسهم و إعدادا لانفسهم غير بارين و فيه نهاية الخضوع و هو المحبوب عند اللّه تعالى-

فان قيل هذا سوال الموت و قد نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن تمنى الموت و الدعاء به من قبل ان يأتيه كما ذكرنا فى تفسير سورة البقرة فى قوله تعالى فتمنّوا الموت ان كنتم صدقين

قلنا قد ذكرنا تحقيق المسألة هناك ان التمني بالموت انما لا يجوز إذا كان لضر نزل به فى مال او جسم او نحوه لا مطلقا على ان المقصود من هذا الدعاء هاهنا الدعاء باستدامة وصف البر و الإحسان ابدا الى وقت الموت و حلول الاجل و ليس الغرض منه السؤال بتعجيل الموت كما ان قوله تعالى وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ليس المقصود منه النهى عن الموت فانه غير مقدور للعبد بل النهى عن حال غير حال الإسلام فى شى ء من الازمنة حتى يأتيه الموت عند حلول اجله و هو مسلم-.

١٩٤

رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا من الثواب فى الجنة و الروية و الرضاء و مراتب القرب و النصر على الأعداء فى الدنيا عَلى رُسُلِكَ على تصديق رسلك او المعنى ما وعدتنا على السنة رسلك او متعلق بمحذوف تقديره ما وعدتنا منزلا على رسلك و جاز ان يكون على بمعنى مع يعنى اتنا مع رسلك و شاركهم معنا فى أجرنا و الغرض منه أداء حق الرسالة و تكثير فضل أنفسهم ببركة مشاركة الرسل و المراد بضمير المتكلم فى قوله ما وعدتنا معشر المسلمين يعنى اتنا ما وعدت المسلمين الصالحين فهذا السؤال ليس مبنيا على الخوف من خلف الوعد منه تعالى عن ذلك بل مخافة ان لا يكون السائل من الموعودين بسوء عاقبته نعوذ باللّه منها او لقصور فى إيمانه و طاعته و جاز ان يكون هذا السؤال تعبدا و استكانة فان اللّه غالب على امره يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد لا يسئل عمّا يفعل و هم يسئلون و قيل لفظه دعاء و معناه الخبر اى لتؤتينا تقديره فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا ... وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ لتوتينا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ من الفضل و الرحمة- و قيل انما سالوا تعجيل ما وعدهم اللّه من النصر على الأعداء قالوا معناه قد علمنا انك لا تخلف وعدك من النصر لكن لا صبرلنا على حلمك فعجل خزيهم و انصرنا عليهم وَ لا تُخْزِنا اى لا تفضحنا و لا تدخلنا النار يَوْمَ الْقِيامَةِ اى يوم القيام من القبور دفعة واحدة بان تعصمنا عن ارتكاب ما يقتضى الخزي و تغفر لنا و تستر ما صدر عنا عن ابى هريرة قال يدنى اللّه العبد منه يوم القيامة و يضع كتفه عليه فيسرّه من الخلائق و يرفع اليه كتابه فى ذلك السر فيقول اللّه عز و جل اقرأ كتابك فيمر بالحسنة فتبيض بها وجهه و يسر بها قلبه و يقول ا تعرف يا عبدى فيقول نعم اى رب اعرف فيقول انى قد قبلتها منك فبخر ساجدا فيقول ارفع رأسك و انظر فى كتابك فيمر بالسيئة فيسود بها وجهه و يوجل بها قلبه فيقول اللّه تعالى أ تعرف يا عبدى فيقول نعم اى رب اعرف فيقول انى اعرف بها منك انى قد غفرتها لك فلا يزال يمر بحسنة يقبل فيسجد و بسيّئة يغفر فيسجد فلا يرى الخلائق منه الا السجود حتى يناجى الخلائق بعضه بعضا طوبى لهذا العبد الذي لم يعص اللّه قط و لا يدرون ما قد لقى فيما بينه و بين اللّه مما قد وقف عليه رواه عبد اللّه بن احمد فى زوائد الزهد-

و اخرج البيهقي عن ابى موسى نحوه و فى الباب عن ابن عمر فى الصحيحين إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) بإثابة المؤمن و اجابة الداعي و لمّا كان السؤال بقوله اتنا ما وعدتنا موهما لاحتمال خلف الوعد عقبه بهذه الجملة دفعا لذلك الوهم-.

١٩٥

فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ اى طلبتهم و هو أخص من أجاب- و يعدى بنفسه و باللام كذا

قال البيضاوي و قيل أجاب و استجاب بمعنى واحد أَنِّي اى بانى او قائلا انى لا أُضِيعُ اى لا أحبط عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ ايها المؤمنون مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى عن أم سلمة قالت يا رسول اللّه انى اسمع اللّه يذكر الرجال فى الهجرة و لا يذكر النساء فنزلت هذه الاية أخرجه الترمذي و الحاكم و صححه و ابن ابى حاتم و عبد الرزاق و سعيد بن منصور بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ قال الكلبي فى الدين و النصرة و الموالاة- و قيل فى النسب و الانسانية فان كلكم من آدم و حواء الذكر من بطن الأنثى و الأنثى من صلب الذكر فتثأب النساء على الأعمال كما يثاب الرجال- و الجملة معترضة لبيان شركة النساء مع الرجال فيما وعد للعمال ثم فصل عمل العاملين على سبيل التعظيم فقال فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي فى طاعتى و دينى او بسبب ايمانهم بي و من اجلى وَ قاتَلُوا وَ قُتِلُوا قرا ابن عامر و ابن كثير قتّلوا بتشديد التاء للتكثير قال الحسن يعنى انهم قطعوا فى المعركة و الباقون بالتخفيف

و قرا حمزة و الكسائي قتلوا و قتلوا بتقديم المبنى للمفعول على المبنى للفاعل على عكس قراءة الجمهور و عكس الترتيب فى الذكر لا يوجب الاختلاف فى المعنى لان الواو لمطلق الجمع دون الترتيب و قيل فى وجه قراءة حمزة و الكسائي ان معناه قتل بعضهم و قاتل بقيتهم و لم يهنوا و ما استكانوا بقتل أصحابهم يقول العرب قتلنا بنى فلان اى بعضهم و قيل معناه قتلوا و قد قاتلوا قبل ذلك يعنى ما قتلوا منهزمين بل مقبلين على القتال و اللّه اعلم لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ لاسترنها و أمحونها وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً قال المبرد مصدر مؤكد اى لاثيبنهم بذلك ثوابا و الأظهر ان ثوابا حال من جنات و كانه أراد جعل ثوابا من عند اللّه جزاء فوق الجنات مِنْ عِنْدِ اللّه تفضلا منه على ثواب جزاء اعماله- و فيه التفات من التكلم الى الغيبة و جملة لاكفرن و ما عطف عليه جواب قسم محذوف و القسم مع الجواب خبر للموصول وَ اللّه عِنْدَهُ فى قدرته و يختص به حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥) اى الثواب الحسن او احسن الثواب الذي لا يقدر عليه غيره- او المعنى و اللّه تعالى درجات قربه و عنديته احسن ثوابا من الجنات و ما فيها-

قال البغوي كانت المشركون فى رخاء و لين من العيش يتجرون و يتنعمون فقال بعض المؤمنين ان اعداء اللّه تعالى فيما نرى من الخير و نحن فى الجهد فانزل اللّه تعالى.

١٩٦

لا يَغُرَّنَّكَ الخطاب للنبى صلى اللّه عليه و سلم و المراد منه أمته او الخطاب لكل أحد تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى ضربهم فى الأرض و تصرفهم فِي الْبِلادِ (١٩٦) للتجارات و المكاسب- و المعنى لا تنظر الى ما هم فيه من السعة و لا تغتر بظاهر ما ترى من تبسطهم فى المعاش- فالنهى فى المعنى للمخاطب و انما جعل للتقلب تنزيلا للسبب منزلة المسبب للمبالغة- عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا تغبطن فاجرا فانك لا تدرى ما هو لاق بعد موته ان له عند اللّه قاتلا لا يموت يعنى النار رواه البغوي.

١٩٧

فى شرح السنة مَتاعٌ قَلِيلٌ خبر مبتدا محذوف اى ذلك متاع قليل- او مبتدا خبره ظرف محذوف اى لهم متاع قليل لقصر مدته و قلته كمّا و كيفا عن المسور بن شداد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما الدنيا فى الاخرة الا مثل ما جعل أحدكم إصبعه فى اليم فلينظر بم يرجع- رواه مسلم ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) ما مهدوا لأنفسهم يعنى جهنم.

١٩٨

لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها لكن للاستدراك عند النحاة اى دفع توهم نشا مما قبل و ذلك التوهم ان متاع الكافرين المتنعمين فى الدنيا لمّا كان قليلا فمتاع المتقين المعرضين عن اللذات يكون اقل قليلا فقال اللّه تعالى لدفع ذلك التوهم لكن الّذين اتّقوا الاية يعنى ان المتقين اكتسبوا فى الدنيا ما يكون لهم وسيلة لنعماء الاخرة فهم تمتعوا من الدنيا ما لا مزيد عليه- و عند علماء المعاني لكن لرد اعتقاد المخاطب و ذلك ان الكافرين يزعمون انهم متمتعون من الدنيا و المتقين فى خسران عظيم نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللّه صفة لنزلا- و النزل ما يعد للضيف النازل من الضيافة- ففى لفظة نزلا بيان لرفعة قدر المتقين حيث جعلهم أضياف اللّه و الكريم يجعل خير ما عنده و ما يقدر عليه للضيف- و نزلا منصوب على الحال من جنات و العامل فيه الظرف- و قيل انه مصدر مؤكد و التقدير أنزلوها نزلا- و جاز ان يكون منصوبا على التميز- و قيل تقديره جعل ذلك نزلا وَ ما عِنْدَ اللّه من الثواب و درجات القرب و الرضاء و الرحمة خَيْرٌ من متاع الدنيا و من كل شى ء لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وضع المظهر موضع المضمر للمدح و التعظيم- عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه قال جئت فاذا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى مشربة و انه لعلى حصير ما بينه و بينه شى ء و تحت رأسه و سادة من آدم حشوها ليف و ان عند رجليه قرطا مصبورا و عند رأسه أهب معلقة فرايت اثر الحصير فى جنبه فبكيت فقال ما يبكيك فقلت يا رسول اللّه ان كسرى و قيصر فيما هما فيه و أنت رسول اللّه فقال اما ترضى ان تكون لهما الدنيا و لنا الاخرة- و فى رواية قلت يا رسول اللّه ادع اللّه فليوسع على أمتك فان فارس و الروم قد وسع عليهم و هم لا يعبدون اللّه قال اوفى هذا أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم فى الحيوة الدنيا- متفق عليه و عن عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الدنيا سجن المؤمن و سنته فاذا فارق الدنيا فارق السجن و السنة رواه البغوي فى شرح السنة- و عن قتادة بن النعمان ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال إذا أحب اللّه عبدا حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمى سقيمه الماء رواه احمد و الترمذي و اللّه اعلم- روى النسائي عن انس و ابن جرير نحوه عن جابر قال لما جاء نعى النجاشي قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صلوا عليه قال يا رسول اللّه تصلى على عبد حبشى فانزل اللّه تعالى.

١٩٩

وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الاية و كذا فى المستدرك عن عبد اللّه بن الزبير قال نزلت فى النجاشي-

قال البغوي لما مات النجاشي نعاه جبرئيل عليه السلام لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى اليوم الذي مات فيه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لاصحابه اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم النجاشي فخرج الى البقيع و كشف له الى ارض الحبشة فابصر سرير النجاشي و صلى عليه و كبر اربع تكبيرات و استغفر له فقال المنافقون انظروا الى هذا يصلى على علج حبشى نصرانى لم يره قط و ليس على دينه فانزل اللّه هذه الاية- و قال عطاء نزلت فى اهل نجران أربعين رجلا اثنان و ثلاثون من ارض الحبشة و ثمانية من الروم كانوا على دين عيسى فامنوا بالنبي صلى اللّه عليه و سلم

و اخرج ابن جرير عن ابن جريح قال نزلت فى عبد اللّه بن سلام و أصحابه-

و قال مجاهد نزلت فى مومنى اهل الكتاب كلهم و ان من اهل الكتاب لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللّه حق إيمانه بصفاته و أسمائه دخلت اللام على اسم ان للفصل بالظرف وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من القران وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من التورية و الإنجيل و الزبور خاشِعِينَ للّه اى خاضعين متواضعين حال من فاعل يؤمن و جمعه باعتبار المعنى لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللّه حال بعد حال اى غير مشترين بايات التورية التي فيها نعت محمد صلى اللّه عليه و سلم ثَمَناً قَلِيلًا كما يفعله المحرفون من الأحبار لاجل المأكل أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ اى اجرا مخصوصا بهم زائدا على أجور غيرهم كما فى قوله تعالى أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ- و عن ابى موسى الأشعري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثلاثة لهم أجران رجل من اهل الكتاب أمن بنبيّه و أمن بمحمد الحديث متفق عليه إِنَّ اللّه سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) لعلمه بالأعمال و ما يستوجبه من الجزاء و استغنائه عن التأمل روى انه تعالى يحاسب الخلق فى قدر نصف نهار من ايام الدنيا- و المراد ان الاجر الموعود سريع الوصول إليهم فان سرعة الحساب كناية عن سرعة الجزاء-.

٢٠٠

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا على دينكم و مشاق التكليفات و مخالفة الهوى و على محبة ربكم و طاعته لا تدعوها فى شدة و لا رخاء و على جهاد أعدائكم و على البليات و الشدائد- قال جنيد الصبر حبس النفس على المكروه بغير جزع وَ صابِرُوا يعنى غالبوا اعداء اللّه فى الصبر على شدائد الحرب فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اللّه ما لا يَرْجُونَ

تخصيص بعد التعميم- و المصابرة كما يوجد فى مقابلة الكفار فى الجهاد الأصغر يوجد فى مقابلة النفس فى الجهاد الأكبر ايضا فان النفس يتحمل من الشدائد و المكاره فى طلب الدنيا و شهواتها ما لا يخفى و قد يتحمل لنيل النعيم الباقية فى الجنات العلى فلا بد للصوفى ان يتحمل اكثر من ذلك كلها فى طلب المولى جلّ و على وَ رابِطُوا أبدانكم و خيولكم فى الثغور مترصدين للغزو- او أنفسكم و قلوبكم و أبدانكم فى ذكر اللّه و الطاعات و انتظار الصلاة بعد الصلاة فى المساجد و حلق الذكر واصل الربط الشد يعنى شد الخيل فى الثغور ثم قيل ذلك لكل مقيم فى ثغر يدفع عمن وراءه و ان لم يكن له مركب ثم قيل لكل مقيم على شى ء يدفع عنه ما يمنعه- و المرابطة المغالبة فى الرباط على من عداه يعنى ان الأعداء يربطون لمحاربتكم فانتم غالبوهم فى ذلك- عن سهل بن سعد الساعدي ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال رباط يوم فى سبيل اللّه خير من الدنيا و ما عليها و موضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا و ما عليها و الروحة يروحها العبد فى سبيل اللّه او الغدوة خير من الدنيا و ما عليها- رواه البغوي من طريق البخاري و الفصل الاول فى الصحيحين عن سهل و الفصل الثالث فيهما عن انس- و عن سلمان الخير ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال من رابط يوما و ليلة فى سبيل اللّه كان له اجر صيام شهر مقيما و من مات مرابطا اجرى له مثل ذلك الاجر و اجرى عليه من الرزق واو من من الفتان رواه البغوي- و رواه مسلم بلفظ رباط يوم و ليلة خير من صيام شهر و قيامه و ان مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله و اجرى عليه رزقه و أمن من الفتان- و أخرجه احمد و ابن ابى شيبة بلفظ من رابط يوما او ليلة فى سبيل اللّه كان كعدل صيام شهر رمضان و قيامه لا يفطر و لا ينفتل عن صلاته الا لحاجة- و عن فضالة بن عبيد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال كل ميت يختم على عمله الا الذي مات مرابطا فى سبيل اللّه فانه ينمى له عمله الى يوم القيامة و يأمن فتنة القبر رواه الترمذي و ابو داود و رواه الدارمي عن عقبة بن عامر- و عن عثمان رضى اللّه عنه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال رباط يوم فى سبيل اللّه خير من الف يوم فيما سواه من المنازل رواه الترمذي و النسائي- و

قال البغوي قال ابو سلمة بن عبد الرحمن لم يكن فى زمن النبي صلى اللّه عليه و سلم غزو يرابط فيه و لكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة- و دليل هذا التأويل حديث ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال الا أخبركم بما يمحوا اللّه به الخطايا و يرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره و كثرة الخطا الى المساجد و انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط رواه البغوي و روى مسلم و الترمذي عن ابى هريرة نحوه وَ اتَّقُوا اللّه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠) الفلاح الفوز بالمحبوب بعد الخلاص من المكروه- و لعل لتغيّب المال لئلا يتكلوا على الآمال عن تقديم الأعمال- عن عثمان بن عفان من قرا اخر ال عمران فى ليلة كتب له قيام ليلة رواه الدارمي- و عن ابى امامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اقرءوا الزهراوين البقرة و ال عمران فانهما تأتيان يوم القيامة كانهما غمامتان- او كانهما غيابتان او كانهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما رواه مسلم و عن النواس بن سمعان قال سمعت النبي صلى اللّه عليه و سلم يقول يؤتى بالقران يوم القيامة و اهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة و ال عمران كانهما غمامتان او ظلتان سوداوان بينهما شرق او كانها فرقان من طير صوافّ تحاجّان عن صاحبهما رواه مسلم- و عن مكحول قال من قرا سورة ال عمران «١» يوم الجمعة صلت عليه الملائكة الى اللّيل رواه الدارمي- الحمد للّه ربّ العلمين و صلى اللّه تعالى على خير خلقه محمد و اله و أصحابه أجمعين- وقع الفراغ من تفسير سورة ال عمران يوم الاثنين ثامن ذى القعدة سنة الف و مائة و سبع و تسعين من هجرة النبي صلى اللّه عليه و سلم- يتلوه تفسير سورة النساء ان شاء اللّه تعالى-

(١) و روى الطبراني بسند ضعيف عن ابن مليك من قرا السورة التي تذكر فيه ال عمران يوم الجمعة صلى اللّه عليه و ملائكته حتى تحجب الشمس لشخص- منه رحمه اللّه تعالى-.

﴿ ٠