٩٢

لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ فى القاموس البر الصلة و الجنة و الخير و الاتساع فى الإحسان و الصدق و الطاعة-

قلت البر المضاف الى العبد الطاعة و الصدق و الاتساع فى الإحسان و ضده الفجور و العقوق و البر المضاف الى اللّه الرضاء و الرحمة و الجنة و ضده الغضب و العذاب فقال ابن مسعود و ابن عباس و مجاهد المراد هاهنا الجنة و قال مقاتل بن حبان التقوى و قيل الطاعة و قيل الخير و قال الحسن لن تكونوا أبرارا يعنى كثير الخير و المتسع فى الإحسان و الطاعة-

قال البيضاوي لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير او لن تنالوا بر اللّه الذي هو الرحمة و الرضاء و الجنة- فاللام على الاول للجنس و على الثاني للعهد- عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عليكم بالصدق فان الصدق يهدى الى البر و البر يهدى الى الجنة و ما يزال الرجل يصدق و يتحرى الصدق حتى يكتب عند اللّه صديقا و إياكم و الكذب فان الكذب يهدى الى الفجور و الفجور يهدى الى النار و ما يزال الرجل يكذب و يتحرى الكذب حتى يكتب عند اللّه كذابا رواه مسلم و احمد و الترمذي- و عن ابى بكر الصديق مرفوعا عليكم بالصدق فانه مع البر و هما فى الجنة و إياكم و الكذب فانه مع الفجور و هما فى النار الحديث رواه احمد و ابن ماجة و البخاري فى الأدب حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ٥ كلمة من للتبعيض و المراد بما تحبون اصناف المال كلها فان الناس يحبونها و يؤثرونها و يميل اليه القلوب فمن لم ينفق شيئا من الأموال حتى الزكوة المفروضة ما نال البر بل كان فاجرا- فبهذه الاية ثبت فرضية انفاق البعض من كل صنف من المال و ثبت انه من كان عنده مال طيب و مال خبيث لا يجوز له الانفاق من الخبيث بدلا من الطيب نظيره قوله تعالى يايّها الّذين أمنوا أنفقوا من طيّبت ما كسبتم و ممّا أخرجنا لكم من الأرض و لا تيمّموا الخبيث منه تنفقون و لستم بآخذيه الّا ان تغمضوا فيه و القدر القليل جدا لا يجزى عن الواجب اجماعا و لان عنوان الاحبية لا يقتضى ذلك- فالاية مجملة فى مقدار الواجب من كل مال و التحق الأحاديث الواردة فى مقادير الزكوة بيانا لها بقي الكلام فى ان الاية تدل على وجوب الزكوة فى كل مال ناميا كان او لا بالغا قدر النصاب او لا فاضلا عن الحاجة الاصلية او لا حال عليه الحول او لا لكن ثبت بالآيات و الأحاديث (مثل قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ- و قوله عليه الصلاة و السلام ليس فى العوامل و لا الحوامل و لا العلوفة صدقة- و قوله عليه الصلاة و السلام فى جواب من قال هل علىّ غيرها قال «١» لا الا ان تطوع و قوله عليه الصلاة

(١) فى الأصل لا بغير قال-.

و السلام لا صدقة الا عن ظهر غنى و غير ذلك-) انه لا زكوة الّا فى السوائم او النقدين او عروض التجارة إذا بلغت نصابا و حال عليه الحول و الا فى الزرع و الثمار و انعقد عليه الإجماع- فقلنا ان هذه الاية مخصوصة بالبعض- فالمراد بالآية الزكوة كذا روى الضحاك عن ابن عباس

و قال مجاهد و الكلبي هذه الاية نسختها اية الزكوة و ليس هذا القول بشى ء لجواز حملها على الزكوة كما سمعت فكيف يجوز القول بالنسخ- و لو كان المراد هاهنا وجوب الانفاق من أحب الأموال كما قيل فذلك لا يقتضى عدم الوجوب فى غير ذلك الأموال و لا على وجوب مقدار سوى مقدار الزكوة فكيف يتصور النسخ على ان هذه الاية مدنية و آيات الزكوة مكيات و اللّه اعلم و فى تعبير الأموال بما تحبون اشارة الى ان كلما كان من الأموال أحب كان إنفاقه فى سبيل أفضل و بدلالة النص يثبت ان الواجب و ان كان انفاق البعض لكن من أنفق كل ما هو أحب اليه من الأموال كان ابر الناس و أطوع و اللّه اعلم- و قال الحسن كل انفاق يبتغى به المسلم وجه اللّه تعالى حتى التمرة ينال به هذا البر و مقتضى قول الحسن ان الانفاق هاهنا يشتمل الانفاق الواجب و المستحب غير ان نفى البر و اطلاق الفجور لا يجوز الا عند فقد الانفاق مطلقا حتى الزكوة المفروضة- و قال عطاء لن تنالوا البر يعنى شرف الدين و التقوى حتى تنتصدقوا و أنتم أصحاء أشحاء عن انس بن مالك قال كان ابو طلحة اكثر الأنصار بالمدينة مالا و كان أحب أمواله اليه بيرحاء و كانت مستقبلة المسجد و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يدخلها و يشرب من ماء فيها طيب قال انس فلما نزلت لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون قام ابو طلحة الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال يا رسول اللّه ان اللّه تعالى يقول فى كتابه لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون و ان أحب أموالي الىّ بيرحاء و انها صدقة للّه أرجو برها و ذخرها عند اللّه فضعها يا رسول اللّه حيث شئت فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بخ ذلك مال رابح و قد سمعت ما قلت فيها انى ارى ان تجعلها فى الأقربين فقال ابو طلحة افعل يا رسول اللّه فقسمها ابو طلحة فى أقاربه و بنى عمه- متفق عليه و جاء زيد بن الحارثة بفرس كان يحبه فقال هذا فى سبيل اللّه فحمل عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اسامة بن زيد فقال زيد انما أردت ان أتصدق به فقال صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه قد قبله منك أخرجه ابن المنذر عن محمد بن المنكدر مرسلا و فيه ان الفرس يقال له سبيل- و رواه ابن جرير عن عمر بن دينار مرسلا و عن ابى أيوب السجستاني معضلا

قال البغوي روى عن مجاهد قال كتب عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه الى ابى موسى الأشعري ان يبتاع له جارية من سبى جلولا يوم فتحت فدعا بها فاعجبته فقال ان اللّه عز و جل يقول لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فاعتقها عمر- و عن حمزة بن عبد اللّه بن عمر قال خطرت على قلب عبد اللّه بن عمر هذه الاية لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قال ابن عمر فذكرت ما أعطاني اللّه عز و جل فما كان اعجب حينئذ شى ء الىّ من فلانة هى حرة لوجه اللّه تعالى و قال لو لا انى أعود فى شى ء جعلته للّه لنكحتها هذه الأحاديث و الآثار تدل على ان الانفاق كما يطلق على التصدق يطلق على الاعادة و الاقراض و الاعتاق و نحو ذلك مما يبتغى به وجه اللّه ايضا و على ان الأفضل الانفاق على اقرب الأقارب وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ محبوب او غيره و من لبيان ما فَإِنَّ اللّه بِهِ عَلِيمٌ (٩٢) يعنى ان اللّه يجازيه على حسب العمل و النية ذكر السبب اعنى العلم موضع المسبب اعنى الجزاء او الثواب للدلالة على ان علم الكريم بإحسان عبده موجب للجزاء و الثواب لا محالة و فيه غاية المبالغة فى علمه تعالى حيث لم يقل و ما أنفقتم بصيغة الماضي و ذكر صيغة المستقبل للدلالة على انه تعالى عالم به قبل إنفاقه صغيرا كان الانفاق او كبيرا- و فيه اشارة الى انه تعالى غنى عن إبداء الانفاق و تحريض على الإخفاء-

قال البغوي قالت اليهود لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انك تزعم انك على ملة ابراهيم و كان ابراهيم لا يأكل لحوم الإبل و ألبانها و أنت تأكلها فلست أنت على ملته فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم كان ذلك حلالا لابراهيم فقالوا كلّ ما نحرّمه اليوم كان ذلك حراما على نوح و ابراهيم حتى انتهى إلينا و كانوا ينكرون نسخ الاحكام فانزل اللّه تعالى.

﴿ ٩٢