٢٩

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ يعنى لا يأكل أحد منكم مال غيره من المسلمين و من تبعهم من اهل الذمّة و لا بأس بأكل مال الحربي الغير المعاهد من غير عذر بِالْباطِلِ اى بوجه ممنوع شرعا كالغصب و السّرقة و الخيانة و القمار و الربوا و العقود الفاسدة إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً قرا الكوفيون بالنصب على انه خبر لتكون و اسمه مضمر تقديره الّا ان تكون جهة الاكل تجارة و الباقون بالرفع بالفاعلية و تكون تامة و الاستثناء منقطع يعنى لكن كلوا وقت كون وجه الاكل تجارة او وقت كون التجارة الصّادرة عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انما البيع عن تراض رواه ابن ماجة و ابن المنذر عن ابى سعيد اى من المعطى و العاطى او المعنى لكن اقصدوا كون وجه الاكل تجارة او كون تجارة و التجارة البيع بالتكلم او بالتعاطى و هو مبادلة المال بالمال و الاجارة يعنى مبادلة المال بالمنافع المعلومة خصّ التجارة بالذكر من الوجوه التي بها يحل أخذ المال من الغير لانها اغلب و أطيب «١» عن رافع ابن خديج قال قيل يا رسول اللّه اىّ الكسب أطيب قال عمل الرجل بيده و كل بيع مبرور رواه احمد و عن المقدام بن معد يكرب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما أكل أحد طعاما قطّ خيرا من ان يأكل من عمل يديه و ان نبى اللّه داود كان يأكل من عمل يديه رواه البخاري و عن عائشة انّ أطيب ما أكلتم من كسبكم و ان أولادكم من كسبكم رواه الترمذي و النسائي و ابن ماجة و هذه الاية

(١) اخرج الاصبهانى عن ابى امامة مرفوعا ان التاجر إذا كان فيه اربع خصال طاب كسبه إذا اشترى لم يذم و إذا باع لم يمدح و لم يدلس فى البيع و لم يحلف فيما بين ذلك

و اخرج احمد و الحاكم عن عبد الرحمن بن شبلى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول التّجارهم الفجار قالوا يا رسول اللّه أ ليس قد أحل اللّه البيع قال بلى و لكنهم يحلفون فيأثمون و يحدثون فيكذبون

و اخرج الحاكم و صححه عن رفاعة بن رافع ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ان التجار يبعثون يوم القيامة فجارا الّا من اتقى اللّه و برّ و صدق

و اخرج الترمذي و حسّنه و الحاكم عن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه و سلم التاجر الصدوق الامين مع النبيين و الصدّيقين و الشهداء و ابن ماجة و الحاكم عن ابن عمر مرفوعا التاجر الصدوق الامين المسلم مع الشهداء يوم القيامة

و اخرج الطبراني عن صفوان بن امية مرفوعا ان عون اللّه مع صالحى التجار و الاصبهانى عن انس مرفوعا، التاجر الصدوق تحت ظلّ العرش يوم القيامة،

و اخرج الاصبهانى عن معاذ بن جبل عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ان أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا و إذا وعدوا لم يخلفوا و إذا اؤتمنوا لم يخونوا و إذا اشتروا لم يدموا و إذا باعوا لم يمدحوا و إذا كان عليهم لم يمطلوا و إذا كان لهم لم يعيروا منه رحمه اللّه تعالى- فى الأصل بين المسلمين-.

لا تدل على نفى غير التجارة من الوجوه كالمهر و الهبة و الصدقة و العارية و غير ذلك لانها ليست من الباطل بل هى ثابتة بالنصوص الشرعية، احتج الحنفية بهذه الآية على انه لا خيار فى المجلس لاحد المتبايعين بعد الإيجاب و القبول و به قال مالك لانها تدل على جواز الاكل بالتجارة عن تراض و ان كان قبل افتراقهما عن المجلس و جواز الاكل مبنى على تمام البيع و تمام البيع يقتضى عدم بقاء الخيار لاحدهما و قال الشافعي و احمد لكل واحد منهما الخيار ما لم يتفرقا عن المجلس لحديث ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المتبايعان كل واحد بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا الّا بيع الخيار متفق عليه و عن حكيم بن خرام قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا فان صدقا و بينابورك لهما فى بيعهما و ان كتما و كذبا محقت بركة بيعهما متفق عليه قالت الحنفية هذه أحاديث لا يجوز العمل بها على خلاف مقتضى الكتاب و مقتضى الكتاب عدم بقاء الخيار كما ذكرنا و هذه الأحاديث محمولة على خيار القبول و فيه اشارة اليه فانهما متبايعان حالة المباشرة لا بعدها او يحتمله فيحمل عليه و المراد بالتفرق تفرق الأقوال كذا فى الهداية قال ابن همام كون تفرق الأقوال مرادا بالتفرق كثير فى الشرع و العرف قال اللّه تعالى وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ...

إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ قلت و الصحيح عندى ان الاية تدل على جواز الاكل و تمام البيع قبل الافتراق من المجلس لكن لا يدل على نفى ولاية الفسخ عنهما فالاولى ان يقال بثبوت خيار المجلس للمتعاقدين كما اثبت ابو حنيفة خيار الرؤية و خيار العيب بعد تمام البيع كيلا يلزم ترك العمل بالحديث الصحيح و ما قالوا انهما متبايعان حالة المباشرة لا بعدها ممنوع بل قبل قبول الاخر انما هو بايع واحد لا متبايعان و بعد الإيجاب و القبول ما دام المجلس باقيا حالة المباشرة قائم عرفا و شرعا لان ساعات المجلس كلها تعتبر ساعة واحدة فهما متبايعان ما دام المجلس باقيا حقيقة و القول بان المراد بالتفرق التفرق فى الأقوال قول بالمجاز مع إمكان الحقيقة على ان بعض ألفاظ الحديث يأبى عن هذا التأويل فانه روى مسلم حديث ابن عمر بلفظ إذا تبايع المتبايعان فكل واحد منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا فان كلمة الفاء فى قوله فكل واحد منهما بالخيار تدل على تعقيب الخيار عن التبايع و عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال البيعان بالخيار ما لم يتفرقا الّا ان تكون صفقة خيار و لا يحل له ان يفارق صاحبه خشية ان يستقيله رواه الترمذي و ابو داود و النسائي و عن ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال لا يتفرقن اثنان الا عن تراض رواه ابو داود و عن جابر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خيّرا عرابيا بعد البيع رواه الترمذي و قال هذا حديث صحيح غريب فان هذه الأحاديث صريحة فى جواز الا قالة بعد البيع قبل الافتراق عن المجلس و اللّه اعلم- وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ قيل معناه لا يقتل أحدكم نفسه عن ثابت بن الضحاك ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال من قتل نفسه بشى ء فى الدنيا عذب به يوم القيامة رواه البغوي من طريق الشافعي و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من تردى من جبل فقتل نفسه فهو فى نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها ابدا و من قتل نفسه بحديدة فحديدته فى يده يتوجأ بها فى نار جهنم خالدا مخلدا فيها ابدا رواه البخاري و مسلم و الترمذي بتقديم و تأخير و النسائي و لابى داود و من جشاسما فسمه بيده يتجشأه فى نار جهنم و عن جندب بن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم جرح من رجل فيمن كان قبلكم اراب فجزع منه فأخرج سكينا فجزّ بها يده فمارقا الدم حتى مات فقال اللّه عز و جل بادرني عبدى بنفسه فحرمت عليه الجنة رواه البغوي و روى ابو داؤد و ابن حبان و الحاكم فى صحيحه عن عمرو بن العاص انه تأوّل هذه الاية فى التيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه النبي صلى اللّه عليه و سلم حيث قال احتلمت فى ليلة باردة و انا فى غزوة ذات السلاسل فاشفقت لى ان اغتسلت ان أهلك فتيمّمت ثم صليت فذكر ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال يا عمرو صليت باصحابك و أنت جنب فقلت انى سمعت اللّه عز و جل يقول وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و لم يقل شيئا و قال الحسن و عكرمة و عطاء بن ابى رباح و السدىّ معناه لا تقتلوا «١» إخوانكم كما قوله تعالى ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ يعنى إخوانكم فى الدين و قتل المسلم من أعظم الكبائر بعد الشرك عن جرير قال قال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم استنصت الناس ثم قال لا ترجعن بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض رواه البخاري و قيل معناه لا تقتلوا أنفسكم بأكل المال بالباطل و هذا يحتمل المعنيين أحدهما ان أكل مال الغير بالباطل قتل و إهلاك لنفس الاكل لكونه موجبا لتصليته نار جهنم و ثانيهما ان أكل مال الغير إهلاك لدلك الغير، إِنَّ اللّه كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) يعنى أمركم بالحسنات و نهاكم عن السيّئات لفرط رحمته عليكم

(١) عن عاصم بن بهدلة ان مسروقا اتى صفين فقام بين الصفين فقال يا ايها الناس انصتوا ارايتم لو ان مناديا يناديكم من السماء و رأيتموه و سمعتم كلامه فقال ان اللّه ينهاكم عما أنتم عليه ا كنتم منتهين قالوا سبحان اللّه قال فو اللّه نزل بذلك جبرئيل على محمد صلى اللّه عليه و سلم و ما ذلك بابين عندى منه ان اللّه قال وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللّه كانَ بِكُمْ رَحِيماً منه رحمه اللّه.

و قيل ان معناه انه امر بنى إسرائيل بقتل أنفسهم ليكون لهم توبة و كان بكم رحيما حيث لم يكلفكم به بل جعل توبتكم الندم و الاستغفار.

﴿ ٢٩