سُورَةُ الْمَائِدَةِ مَدَنِيَّةٌ

وَهِيَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ آيَةً

«١» مدنيّة و هى مائة و عشرون اية و ستّ عشر ركوعا

بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(١) عن عائشة رض قالت المائدة اخر القرآن نزولا فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه و ما وجدتم من حرام فحرموه رواه احمد و النسائي و غيرهما و عن عبد اللّه بن عمر قال اخر سورة المائدة و الفتح رواه احمد و الترمذي و حسنه و الحاكم و صححه

و اخرج ابو عبد عن محمد بن كعب القرظي قال نزلت سورة المائدة على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى حجة الوداع فيما بين مكة و المدينة و هو على ناقته تصدعت كتفها فنزل عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و كذا اخرج ابن جرير عن الربيع ابن انس و عطية بن قيس قالا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المائدة من اخر القران تنزيلا فاحلوا حلالها و حرموا حرامها

و اخرج ابو داود و النحاس عن ابى ميسرة عن عمرو بن شرحبيل

و اخرج ابو داود فى ناسخه و ابن المنذر عن الحسن انه لم ينسخ من المائدة شى ء

و اخرج عبد بن حميد و ابو داود فى ناسخه عن الشعبي قال لم ينسخ من المائدة الا هذه الآية يا ايها الذين أمنوا لا تحلوا شعائر اللّه و لا الشهر الحرام و لا الهدى و لا القلائد- بقية بر ص ١٤.

_________________________________

١

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ العقد العهد الموثق و أصله الجمع بين الشيئين بحيث يعسر الانفصال قال الزجاج هو أوكد العهود و الوقاع و الإيفاء القيام بمقتضى العهد و فى الإيفاء مبالغة ليس فى الوفاء كذا قال التفتازانيّ و الحكم عام يشتمل العقود التي عقدها اللّه تعالى على عباده عامة من يوم الميثاق الى يومنا هذا من التكاليف و تحليل حلاله و تحريم حرامه و ما أخذ اللّه ميثاق الذين أوتوا الكتب فى الايمان بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و بيان نعته و ما يعقد الناس بينهم من عقود الأمانات و المعاملات و نحوها

و اخرج ابو داود فى ناسخه و الحاكم و صححه عن ابن عباس قال نسخ من هذه السورة آيتان اية القلائد و قوله تعالى فان جاؤك فاحكم بينهم او اعرض عنهم اخرج البيهقي فى شعب الايمان عن مقاتل بن حبان قال بلغنا فى قوله تعالى يا ايها الذين أمنوا أوفوا بالعقود يعنى العهد الذي كان عهدهم فى القرآن فيما أمرهم من طاعته ان يعملوا بها و نهيه الذي نهاهم عنه بالعهد الذي بينهم و بين المشركين و فيما يكون من العهود بين الناس ١٢ منه و بهذه الآية استدلت الحنفية على ان البيع إذا تم بالإيجاب و القبول ليس لاحد من المتعاقدين حق الفسخ إلا بخيار شرط او روية او عيب و به قال مالك و قال الشافعي رحمه اللّه تعالى المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا او يكون البيع خيارا لما روى البخاري هذا اللفظ بعينه من حديث ابن عمر رضى اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم و كذا من حديث حكيم بن حزام و إذا ثبت خيار المجلس بالحديث الصحيح قالوا تمام العقد قبل التفرق و بطلان الخيار ممنوع كما ان عند اشتراط الخيار لا يتم العقد قبل انقضاء مدة الخيار و اللّه اعلم ١٢ منه مما يجب الوفاء به و قد ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من آيات المنافق إذا عاهد غدر متفق عليه من حديث عبد اللّه بن عمرو و لما كان مما عقد اللّه سبحانه تحليل حلاله و تحريم حرامه عقبه بقوله عز و جل أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ و البهيمة كل حى لا يميز و الانعام ذات القوائم الأربع و قيل البهيمة ذات اربع قوائم و الانعام الإبل و البقر و الغنم و الاضافة على التقديرين اضافة العام المطلق الى الخاص و هذه الاضافة عند النحويين بمعنى اللام و انما جعلوا الاضافة بمعنى من إذا كان المضاف اليه جنس المضاف و فسروا الجنس بما يكون بينه و بين المضاف عموم من وجه نحو خاتم فضة و كلام البيضاوي و الكشاف يشعران هذه الاضافة بمعنى من و اللّه اعلم و مقتضى هذين التأويلين انه تعالى أراد تحليل ما حرم اهل الجاهلية على أنفسهم من الانعام كالبحيرة و السائبة و قال الكلبي بهيمة الانعام و حشيتها كالظباء و بقر الوحش و نحوهما مما يماثل الانعام فى اجترار العلف من الكرش الى الفم و عدم الأنياب و الاضافة حينئذ الى الانعام لملابسة الشبه من قبيل سجين الماء

قال البغوي و روى ابو ظبيان عن ابن عباس قال بهيمة الانعام الاجنة و مثله عن الشعبي فالآية على هذا التأويل يدل على حل أكل الجنين إذا خرج ميتا بعد زكوة امه و قد تم خلقه و به قال الشافعي رح و احمد رح و ابو يوسف رح و محمد رح و شرط مالك الاشعار

قال البغوي قال ابن عمر زكوة ما فى بطنها فى زكوتها إذا تم خلقه و نبت شعره و مثله عن سعيد بن المسيب و قال ابو حنيفة رح لا يحل أكل الجنين من غير ذبح مستقل أشعر او لم يشعر احتج الشافعي رح و من معه بحديث ابى سعيد الخدري قال

قلنا يا رسول اللّه ننحر الناقة و نذبح البقرة و الشاة فنجد فى بطنها الجنين أ نلقيه أم ناكله فقال كلوه ان شئتم فان زكوته زكوة امه رواه احمد و ابو داود و عن جابر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال زكوة الجنين زكوة امه رواه ابو داود و الدارمي و روى الدار قطنى عن ابن عمران رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال فى الجنين زكوته زكوة امه أشعر او لم يشعر قال الدار قطنى الصواب انه من قول ابن عمر و قال الشافعي رح و من معه ان الجنين جزء من الام حقيقة لانه متصل بها حتى يفصل بالمقراض و قد يتغذى بغذائها و يتنفس بنفسها فاذا كان جزأ منها فالجرح فى الام زكوة له عند العجز عن زكوته كالصيد و قال ابو حنيفة رح الجنين مستقل فى الحيوة يتصور حيوته بعد موتها و هو حيوان دموى و ما هو المقصود من الزكوة و هو الميز بين الدم و اللحم لا يحصل بجرح الام فيه إذ هو ليس بسبب لخروج الدم من الجنين أصلا بخلاف الجرح فى الصيد لانه سبب لخروج الدم ناقصا فيقام مقام الكامل عند التعذر و إذا لم يحصل الميز فالجنين ميتة و قد ثبت حرمة الميتة بدليل قطعى من الكتاب فلا يثبت حله بحديث الآحاد و تاويل بهيمة الانعام فى هذه الاية بالجنين غير ظاهر و لا يلائمه الاستثناء بقوله تعالى إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ المراد بالموصول الميتة و ما اهل لغير اللّه به و ما ذبح على النصب و المنخنقة و الموقوذة و النطيحة و ما أكل السبع و هذه الأشياء كانت داخلة فى بهيمة الانعام و التحريم لما عرض من الموت حتف انفه و نحو ذلك من العوارض فالاستثناء متصل و قيل المراد بهيمة الانعام المذكورة و الاستثناء منقطع و اسناد التلاوة الى الميتة و أخواتها مجازى او بتقدير المضاف اى يتلى عليكم اية تحريمه فالمجاز حينئذ فى الظرف و جازان يراد بالموصول الآية و يقدر المضاف على الموصول يعنى الّا محرم ما يتلى عليكم غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ الصيد يحتمل المصدر و المفعول و غير حال من الضمير فى لكم اى أحلت لكم بهيمة الانعام حال كونكم غير معتقدين حل الصيد فى حالة الإحرام و لما كان تقئيد إحلال الانعام بحال عدم اعتقاد حل الصيد غير ظاهر قال صاحب الكشاف غير محلى الصيد عبارة عن الامتناع عن الصيد كانه قال أحلت لكم بعض الانعام فى حال امتناعكم عن الصيد لئلا يضيق عليكم الأمر و يرد عليه ان حل الانعام غير مقيد بحالة الإحرام حالة الامتناع عن الصيد بل هى حلال فى جميع الأحوال فهذا التقييد انما يصح لو جعل بهيمة الانعام ما يعم الوحشي و الأهلي و هو التأويل الاوّل او يخص بالوحشى و هو التأويل الثالث فجعل حل الصيد مقيدا بحالة عدم الإحرام و التقدير أحلت لكم بهيمة الانعام كلها وحشيا كان او أهليا الا ما يتلى عليكم من الميتة و أخواتها حال كونكم غير معتقدين حل الصيد فى الإحرام يعنى ما أحلت لكم الصيد فى الإحرام حتى تعتقد و أحلها و جاز ان يكون فاعل غير محلى الصيد الشارع جلّ و على و الجمع للتعظيم كانه قال أحللنا لكم بهيمة الانعام حال كوننا غير محلى الصيد لكم وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ الحرم جمع حرام و الجملة حال من المستكن فى محلى الصيد ان كان المستكن ضمير المخاطبين و كذا ان كان المستكن فيه ضمير الشارع المتكلم و يكفى للجملة الحالية الواو و لا يجب الضمير او من الضمير المحذوف اعنى لكم على تقدير كون المستكن ضمير الشارع فقط إِنَّ اللّه يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (ط) فى التحليل و التحريم و غير ذلك لا اعتراض عليه اخرج ابن جرير عن عكرمة و عن السدى نحوه انه قدم الحكم بن هند البكري المدينة فى عير له يحمل طعاما فباعه ثم دخل على النّبى صلى اللّه عليه و سلم فبايعه و اسلم فلما ولى خارجا نظر اليه النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال لمن عنده لقد دخل علىّ بوجه فاجر و ولى بقضاء غادر فلما قدم اليمامة ارتد عن الإسلام و خرج فى عير له يحمل الطعام فى ذى القعدة يريد مكة فلما سمع به اصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم تهيأ للخروج اليه نفر من المهاجرين و الأنصار ليقطعوه فى عيره فانزل اللّه تعالى.

٢

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّه الاية فانتهى القوم و

قال البغوي نزلت فى الحطم و اسمه شريح بن ضبيعة البكري اتى المدينة و خلف خيله خارج المدينة وحده على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال له الى ما تدعو الناس فقال الى شهادة ان لا اله الا اللّه و انا محمد رسول اللّه و اقام الصلاة و إيتاء الزكوة فقال حسن الا ان لى أمراء لا اقطع امرا دونهم و لعلى اسلم و اتى بهم و قد كان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال لاصحابه يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان الشيطان ثم خرج شريح من عنده فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لقد دخل بوجه كافر و خرج بقناء غادر و مر الرجل فمر بسرح «١» المدينة فاستاقه و انطلق فتبعوه فلم يدركوه فلما كان العام المقبل خرج حاجا فى حجاج بكر بن وائل من اليمامة و معه تجارة عظيمة و قد قلد الهدى فقال المسلمون للنبى صلى اللّه عليه و سلم هذا الحطم خرج حاجا فخل بيننا و بينه فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم انه قد قلد الهدى فقالوا يا رسول اللّه هذا شى ء كنا نفعله فى الجاهلية فابى النبي صلى اللّه عليه و سلم فانزل اللّه تعالى هذه الآية

(١) شرح اسم جمع و ليس بتكسير سارح الماشية ١٢.

و ذكر الواحدي اتى الحطم النبي صلى اللّه عليه و سلم من اليمامة الى المدينة فعرض عليه الإسلام فلم يقبل فلما خرج مر بسرح المدينة فاستاقها فلما خرج النبي صلى اللّه عليه و سلم عام القضية سمع تلبيته بحجاج اليمامة فقال لاصحابه هذا الحطم و أصحابه و قد كان قلد ما نهب من السرح و أهداه الى الكعبة فانزل اللّه تعالى هذه الاية قال ابن عباس رض و مجاهد المراد بشعائر اللّه مناسك الحج و مواقفه من المطاف و المسعى و الموقف بعرفة و المزدلفة و الرمي للجمار و الافعال التي تعرف بها الحاج من الإحرام و الطواف و الحلق و النحر و غيرها و إحلالها التهاون بحرمتها و ان يحال بينها و بين المتناسكين بها كان المشركون يحجون و يهدون فاراد المسلمون ان يغيروا عليهم فنهاهم اللّه عن ذلك و الشعائر جمع شعيرة و هى فى الأصل اسم لما أشعر به انما سمى اعمال الحج و مواقفه شعائر لانها علامات الحج و اعلام النسك و قال ابو عبيدة شعائر اللّه هى الهدايا و الاشعار من الشعار اى العلامة و الاشعار ان يطعن فى صفحة سنام البعير بحديدة حتى يسيل الدم فيكون ذلك علامة انه هدى-

قلت و على هذا يلزم التكرار بذكر الهدايا و القلائد- (مسئلة:) الاشعار فى الهدايا سنة إذا كانت الهدى من الإبل عند الائمة الثلاثة و به قال ابو يوسف و محمد رح و قال ابو حنيفة رح مكروه و الحجة للجمهور ما فى الصحيحين من حديث عائشة رض قالت فتلت قلائد بدن النبي صلى اللّه عليه و سلم بيدي ثم قلدها و أشعرها و اهديها فما حرم عليه شى ء كان أحل له و قال عطية عن ابن عباس لا تحلوا شعائر اللّه هى ان تصيد و أنت محرم بدليل قوله تعالى و إذا حللتم فاصطادوا قلت لعل المراد من قول ابن عباس هذا و الذي ذكرنا عنه سابقا واحدا- فان الاجتناب عن الاصطياد فى الإحرام داخل فى الاجتناب عن إحلال مناسك الحج و قيل المراد من قوله لا تحلوا شعائر اللّه النهى عن القتل فى الحرم وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرامَ و إحلال القتال فيه و قال ابن زيد هو النسى و ذلك انهم كانوا يحلونه عاما و يحرمونه عاما وَ لَا الْهَدْيَ جمع هداية و هى ما يهدى به الى الكعبة من الإبل و البقر و الغنم ذكر البخاري عن ابن عباس انه سئل عن الهدى فقال فيها جزورا و بقرا و شاة و انما ذكر الهدى مع انه من الشعائر تخصيصا بعد تعميم لان المنع عن تحليله أهم لان فيه إتلاف حق الفقراء و لانه اقرب بان يقع الناس فيه لان فيه أخذ مال جبل الطبائع على حبها وَ لَا الْقَلائِدَ جمع قلادة و هى ما قلد به الهدى من نعل او لحاء شجرا و غيرهما ليعلم به انه هدى فلا يتعرض له و المراد به الهدايا المقلدة و عطفها على الهدى للاختصاص فانه اشرف الهدى و قال عطاء أراد اصحاب القلائد و ذلك انهم كانوا فى الجاهلية إذا أرادوا الخروج من الحرم قلدوا أنفسهم و إبلهم بشئ من لحاء شجر الحرم كيلا يتعرض لهم و قال مطرف بن الشخير هى القلائد أنفسها و ذلك ان المشركين كانوا يأخذون لحاء من شجر مكة و يتقلدونها فنهوا عن نزع شجرها و قيل النهى عن إحلال القلائد مبالغة فى النهى عن التعرض للّهدى نظيره قوله تعالى و لا يبدين زينتهن و إحلال الهدى و القلائد أخذها او منعها عن البلوغ الى الحرم وَ لَا آمِّينَ قاصدين الْبَيْتَ الْحَرامَ لزيارته و احلالهم التعرض لهم بالقتل و النهب يَبْتَغُونَ يطلبون فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ فى الدنيا بالرزق فى التجارة و فى الاخرة بالثواب وَ رِضْواناً يرضى عنهم و الجملة فى موضع الحال من المستكن فى أمين او صفة موصوفة المقدر تقديره و لا قوما آمّين البيت الحرام يبتغون و لا يجوز ان يكون صفة لآمين لانه عامل و المختار ان اسم الفاعل الموصوف لا يكون عاملا و فائدة هذا التقييد استنكارا حلال من هذا شأنه و التنبيه على المانع و كلمة أمين البيت الحرام يعم المؤمنين و المشركين من حيث الصيغة و من حيث سوق الكلام فان الآية نزلت فى عام القضاء و سيق الكلام للنهى عن تعرض البكري و هداياه و أمثاله فالآية منسوخة باعتبار قصر حكمها بالمؤمنين بقوله تعالى اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم و قوله تعالى انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا فلا يجوزان يحج مشرك و لا يأمن كافر بالهدى و القلائد و ابتغاء الفضل و الرضوان فى المشركين قيل مبنى على زعمهم لان الكافر لا نصيب له فى الرضوان و قال قتادة هو ان يصلح اللّه معايشهم فى الدنيا و ان لا يعجل لهم العقوبة فيها و قيل ابتغاء الفضل اى الرزق بالتجارة عام للمؤمنين و المشركين و ابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة وَ إِذا حَلَلْتُمْ من الإحرام فَاصْطادُوا اذن فى الاصطياد بعد تحريمه بقوله تعالى لا تحلوا شعائر اللّه فان الصيد فى الإحرام تحليل للشعائر و قيل بعد المنهي لقوله تعالى غير محلى الصيد و هذا بعيد و هذا الأمر للاباحة بقرينة الإجماع كما فى قوله تعالى فاذا قضيت الصلاة فانتشروا و لا دليل فيه على ان الأمر بعد الحظر يكون للاباحة مطلقا فان مقتضى الأمر المطلق الخالي عن القرائن هو الإيجاب كما برهن عليه فى الأصول قال اللّه تعالى فليحذر الذين يخالفون عن امره ان تصيبهم فتنة او يصيبهم عذاب اليم و قال اللّه تعالى ما منعك ان تسجد إذ امرتك

و اخرج ابن ابى حاتم عن زيد بن اسلم قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه بالحديبية حين صدهم المشركون عن البيت و قد اشتد ذلك عليهم فمر بهم أناس من المشركين من اهل المشرق يريدون العمرة فقال اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نصد هؤلاء كما صدنا أصحابنا فانزل اللّه تعالى وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ

قال البغوي قال ابن عباس و قتادة لا يحملنكم و قال الفراء لا يكسبنكم شنأن قوم اى قومكم من اهل مكة و الشنآن مصدر بمعنى شدة البغض و العداوة أضيف الى المفعول او الفاعل قرا ابن عامر و ابو بكر بسكون النون الاولى و الآخرون بفتحها و هما لغتان فى المصدر و جاز ان يكون نعتا على تقدير سكون النون بمعنى بغيض قوم فان المصادر أكثرها فعلان بفتح العين مثل الضربان والسيلان و النسلان و بالسكون فى النعت اكثر مثل السكران و الندمان و الرحمن أَنْ صَدُّوكُمْ قرأ ابن كثير و ابو عمرو بكسر الهمزة على انه شرط معترض اغنى عن جوابه لا يجر منكم و الباقون بفتح الهمزة بتقدير اللام اى لان صدوكم عن البيت عام الحديبية متعلق بشنأن

قال البغوي قال محمد بن جرير هذه السورة نزلت بعد قصة الحديبية و كان الصدقة قد تقدم عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا عليهم بالقتال و أخذ الأموال و هذا ثانى مفعولى يجر منكم فانه يتعدى الى واحد و الى اثنين ككسب وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ اى على امتثال امر اللّه تعالى وَ التَّقْوى اى الانتهاء عما نهى عنه كى يتقى نفسه عن عذاب اللّه وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ يعنى لا تعاونوا على ارتكاب المنهيات و لا على الظلم لتشفى صدوركم بالانتقام عن النواس بن سمعان الأنصاري قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن البر و الإثم قال البر حسن الخلق و الإثم ما حاك فى نفسك و كرهت ان يطلع عليه الناس رواه مسلم فى صحيحه و البخاري فى الأدب و الترمذي و عن ابى ثعلب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم البر ما سكنت اليه النفس و اطمأن اليه القلب و ان أفتاك المفتون رواه احمد قلت هذا الحديث خطاب لارباب النفوس المطمئنة و القلوب الزاكية وَ اتَّقُوا اللّه إِنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقابِ فانتقامه أشد و خوف.

٣

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ هذا بيان لما يتلى عليكم و الميتة ما فارقه الروح على حتف انفه اخرج ابن مندة فى كتاب الصحابة من طريق عبد اللّه بن جبلة بن حيان بن ابجر عن أبيه عن جده حيان بن الجر قال كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و انا أوقد تحت قدر فيها لحم ميتة فانزل اللّه تحريم الميتة فاكفأت القدر قلت انما ذكرت هذا الحديث فى هذا المقام تبعا الباب «١» النقول فى اسباب النزول و الصحيح ان كون هذه القصة عند نزول هذه الاية اية المائدة محال لان هذه الاية اخر اية الاحكام نزولا كما سنذكر و حرمة الميتة كانت قبل الهجرة نزلت بمكة فى سورة الانعام فلا يمكن من الصحابي طبخ لحم الميتة بعد ذلك فالظاهر ان القصّة عند نزول اية التحريم فى الانعام قل لا أجد فيما اوحى الى و اللّه اعلم وَ الدَّمُ اى المسفوح منه بالإجماع و هو السائل و كان اهل الجاهلية يصيونها فى الأمعاء و يشربونها وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ انما خص اللّحم بالذكر مع كونه نجسا بجميع اجزائه بالنص و الإجماع لانه معظم المقصود من الحيوان وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِهِ و الإهلال رفع الصوت و هو قولهم عند الذبح باسم اللّات و العزّى عن ابى الطفيل قال سئل على رضى اللّه عنه هل خصكم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بشئ قال ما خصنا بشئ لم يعم به الناس الا ما فى قراب «٢» سيفى هذا فاخرج صحيفة فيها لعن اللّه من ذبح لغير اللّه و لعن اللّه من سرق «٣» منار الأرض و فى رواية بلفظ من غيّر منار الأرض و لعن اللّه من لعن والده و لعن اللّه من آوى محدثا رواه مسلم (مسئلة:) يكره ان يذكر مع اسم اللّه عند الذبح شيئا غيره موصولا لا معطوفا مثل ان يقول عند الذبح بسم اللّه اللّهم تقبل من فلان لكن لا يحرم و نظيره بسم اللّه محمد رسول اللّه بالرفع و ان ذكر موصولا على وجه العطف و الشركة نحو ان يقول بسم اللّه و اسم فلان او بسم اللّه و محمد رسول اللّه بالجرّ يحرم الذبيحة لانه اهل بها لغير اللّه و لا بأس بان يقول قبل التسمية قبل ان يضجع الذبيحة او بعد الذبح كما روى انه صلى اللّه عليه و سلم قال بعد الذبح اللّهم تقبل هذا عن امة محمّد عليه السلام ممن شهد لك بالوحدانية ولى بالبلاغ قد ذكر حرمة هذا الاربعة و ما يتصل بها من المسائل فى سورة البقرة وَ الْمُنْخَنِقَةُ التي ماتت بالخنق وَ الْمَوْقُوذَةُ الوقذ الضرب الشديد و كانوا فى الجاهلية يقتلون البهيمة ضربا بعصا او حجر وَ الْمُتَرَدِّيَةُ التي تردت اى سقطت من علو او فى بير فماتت بلا ذبح وَ النَّطِيحَةُ و هى التي نطحتها اخرى اى أصابتها بقرنها فماتت و التاء فيها للنقل من الوصفية الى الاسمية وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ يعنى ما بقي «٤» من أكل السبع و ماتت باكله بعضها و هذا يدل

(١) اسم كتاب فى اسباب النزول ١٢.

(٢) القراب شبه الجواب يطرح فيه الراكب سيفه بغمده و سوطه و قد يطرح فيه زاده من تمر و غيره ١٢ نهايه.

(٣) المنار جمع منارة و هى العلامة ١٢ نهايه [.....].

(٤) و يمكن ان يقال ان ما أكله السبع المعلم الذي ذكر اسم اللّه عند إرساله فهو داخل فى المستثنى لانه ذكوة ضرورى ١٢.

على ان جوارح الصيد كالكلب و الفهد و الباز و الصقر إذا أكلت مما اصطادته لا يحل أكله إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ يعنى ما أدركتم ذكوته من هذه الأشياء و اصل التذكية الإتمام يقال ذكت النار إذا تمت اشتعالها و المراد هاهنا الذبح فانه إتمام للحيوة قال فى الصحاح ذكيت الشاة اى ذبحتها و حقيقة التذكية إخراج الحرارة الغريزية لكن خصّ فى الشرع بابطال الحيوة على وجه دون وجه انتهى كلامه قلت يعنى ابطال الحيوة بالذبح او النحر فى الخلق و اللبة فى حالة الاختيار مع ذكر اسم اللّه تعالى وحده عليه عن ابى هريرة قال بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نوفل بن ورقا الخزاعي على جمل أورق يصيح فى فجاج منى الا ان الذكوة فى الحلق و اللبة رواه ابن الجوزي من طريق الدارقطني- (مسئلة:) فاذا جرح السبع او أكل شيئا منه و أدركته حيا فذبحته يحل أكله و هو المراد بقوله تعالى الا ما ذكيتم و اماما صار بجرح السبع الى حالة المذبوح فهو فى حكم الميتة فلا يكون حلالا و ان ذبحته و كذلك المتردية و النطيحة و الموقوذة إذا أدركتها حية قبل ان يصير الى حالة المذبوح فذبحتها يكون حلالا و الاستثناء إذا وقع بعد امور متعاطفة يرجع الى الاخيرة فقط عند ابى حنيفة رح و انما عرف حكم ما أدركته حيا بعد الخنق و الوقذ و النطح و التردي و ذبحته بالمقايسة و لا يمكن إرجاع الاستثناء الى الجميع لان المنخنقة اسم لما مات بالخنق و كذا أخواتها فلا يشتمل ذلك ما أدركته حيا و ذبحته فلا يجوز الاستثناء- (مسئلة:) عروق الذبح الحلقوم اعنى مجرى النفس و المري اعنى مجرى العلف و الماء و الودجان و هما مجرى الدم فقال مالك رح يجب قطع هذه الاربعة و هو أحد قولى احمد رح و قال الشافعي رح و احمد رح يجزى فى الذكوة قطع الحلقوم و المري و قال ابو حنيفة رح ان قطع ثلثا منها اى ثلث كان يحل الاكل و به كان يقول ابو يوسف رح اولا ثم رجع فقال لا بد من قطع الحلقوم و المري واحد الودجين و به قال محمد رح فى رواية و عنه انه يعتبر اكثر كل من الأربع و هو رواية عن ابى حنيفة رح لان كل فرد منها اصل بنفسه و للاكثر حكم الكل و لابى يوسف رح ان المقصود من قطع الودجين انهار الدم فينوب أحدهما عن الاخر و اما الحلقوم فيخالف المري فلابد من قطعهما و قال ابو حنيفة رح الأكثر يقوم مقام الكل فى كثير من الاحكام و اى ثلث قطع فقد قطع الأكثر منها و حصل ما هو المقصود و هو انهار الدم المسفوح- (مسئلة:) يجوز الذبح بكل ما ينهر الدم و يحصل القطع من زجاج او حجر او قصب او غير ذلك إذا كان له حدة و كذا يجوز بالسن و الظفر و القرن إذا كان منزوعا ذى حدة عند ابى حنيفة رح الا انه يكره كذا فى الهداية و قالت الأئمة الثلاثة لا يجوز بالسنّ و الظفر و القرن و يكون ميتة عن رافع بن خديج قال قلت يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انا لاقوا العدو غدا و ليست معنا مدى افنذبح بالقصب قال ما انهر الدم و ذكر اسم اللّه فكل ليس السن و الظفر و ساحدثك عنه اما السن فعظم و اما الظفر فمدى الحبشة متفق عليه و عن كعب بن مالك انه كانت لنا غنم يرعى بسلع فابصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتا فكسرت حجرا فذبحتها فسال النبي صلى اللّه عليه و سلم فامره بأكلها رواه البخاري و عن عدى بن حاتم قال قلت يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ارايت أحدنا أصاب صيدا و ليس معه سكين أ يذبح بالمروة «١» و شقة العصى قال امرر الدم بما شئت و اذكر اسم اللّه رواه ابو داود و النسائي و عن عطاء بن يسار عن رجل من بنى حارثة انه كان يرعى لقحه بشعب من شعاب أحد فراى بها الموت فلم يجد ما ينحرها به فاخذ وتدا فوجأ به من لبتها حتى اهراق دمها ثم اخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فامره بأكلها رواه ابو داود و مالك و فى رواية فذكاها بشظاظ «٢» احتج ابو حنيفة رح فى الخلافية بعموم قوله صلى اللّه عليه و سلم ما انهر فكل و قوله صلى اللّه عليه و سلم امرر الدم بما شئت و احتج الائمة الثلاثة بقوله صلى اللّه عليه و سلم ليس السن و الظفر حيث استثنى مما انهر الدم

(١) الشظاظ خشبة محددة الطرف تدخل فى عروقى الجو القين لتجمع بينهما عند حملها على البعير ١٢.

(٢) بالمروة الحجر الأبيض و المراد هاهنا كل حجر له حد ١٢.

و أجاب ابو حنيفة رح بانه محمول على غير المنزوع فان الحبشة كانوا يذبحون بظفر غير منزوع و الظاهر ان المراد بالسن فى الاستثناء ما ليس فيه حدة يدل عليه قوله صلى اللّه عليه و سلم اما السن فعظم و لا يجوز بسن و ظفر غير منزوعين اجماعا لانه يقتل بالثقل فيكون فى معنى المنخنقة- (مسئلة:) يستحب للذابح ان يحد شفرته لقوله صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه كتب الإحسان على كل شى ء فاذا قتلتم فأحسنوا القتلة و إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة و ليحد أحدكم شفرته و ليرح ذبيحته رواه مسلم عن شداد بن أوس- (مسئلة:) لو رمى الى صيد فى الهواء فاصابه فسقط على الأرض و مات كان حلالا لان الوقوع على الأرض من ضرورته و ان سقط فى الماء او على جبل او شجر ثم تردى منه فمات لا يحل أكله و هو من المتردية و الذي مات بالغرق الا ان يكون السهم أصاب مذبحه فى الهواء فيحل كيف ما وقع لان الذبح قد حصل بأصابة السهم المذبح وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ قيل النصب جمع واحدها نصاب ككتب و كتاب و قيل هو واحد و جمعها أنصاب كعنق و أعناق و هو الشي ء المنصوب قال مجاهد و قتادة كانت حول البيت ثلاثمائة و ستون حجرا منصوبة كان اهل الجاهلية يعبدونها و يعظمونها و يذبحون بها و ليست هى بأصنام انما الأصنام هى الصورة المنقوشة و قال الآخرون هى الأصنام المنصوبة و قال قطرب على بمعنى اللام و معناه ما ذبح لاجل النصب و قال ابن زيد ما ذبح على النصب و ما اهل لغير اللّه به واحد قلت العطف يقتضى التغاير فالظاهر ما قيل انها كانت حجارة منصوبة حول البيت يذبحون عليها و يعدون ذلك قربة و حرم عليكم وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ اى الاستسقام اى طلب معرفة ما قسم لهم مما لم يقسم لهم بالأزلام و هى القداح التي لا ريش لها و لا نصل واحدها زلم بفتح الزاء و ضمها و كانت ازلامهم سبعة قداح مستوية من شوحط تكون عند «١» سادن الكعبة مكتوب على واحد منها نعم و على واحد لا و على واحد منكم و على واحد من غيركم و على واحد ملصق و على واحد العقل و واحد غفل ليس عليه شى ء فكانوا إذا أرادوا امرا من سفر او نكاح او ختان او غيره او اختلفوا فى نسب او اختلفوا فى تحمل عقل جاؤا الى هبل و كانت أعظم أصنام قريش بمكة و جاؤا بمائة درهم أعطوها صاحب القداح حتى يحيل القداح و و يقولون يا الهنا انا أردنا كذا كذا فان خرج نعم فعلوا و ان خرج لا لم يفعلوا ذلك حولا ثم عادوا الى القداح ثانية و إذا جالوا على نسب فان خرج منكم كان وسيطا منهم و ان خرج من غيركم كان حليفا و ان خرج ملصق كان على منزلة لا نسب له و لا حلف و إذا اختلفوا فى عقل فمن خرج قدح العقل حمله و ان خرج الغفل أجالوا ثانيا حتى يخرج مكتوب فنهى اللّه عن ذلك و حرمه و قال ذلِكُمْ فِسْقٌ قال سعيد بن جبير الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها

و قال مجاهد كعاب

(١) اى خادم الكعبة و متولى أمرها من فتح الباب و الاغلاق ١٢.

فارس و الروم التي يتقامرون بها و قال الشعبي و غيره الأزلام للعرب و الكعاب للعجم و قال سفيان بن وكيع هى الشطرنج قلت و كل شى ء يطلب به علم الغيب على نحو هذا الطريق كعلم الرمل بضرب الكعاب و استخراج إشكال النقاط و ما يقال بالفارسية فال نامه و كل ما يقامر بها فهو داخل فى الاستقسام بالأزلام عبارة او دلالة جلية او خفية و اللّه اعلم و عن ابى الدرداء قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من تكهن او استقسم او تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر الى الدرجات العلى من الجنة يوم القيمة رواه البغوي و عن قبيصة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «١» العيافة و الطيرة «٢» و الطرق من الجبت رواه ابو داود بسند صحيح و الطرق الضرب بالحصى الْيَوْمَ لم يرد يوما بعينه و انما أراد الحاضر و ما يتصل به من الازمنة الآتية و قيل أراد يوم نزولها يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ان يبطلوه او ان يغلبوا على اهله او ان يرجع عنه اهله بتحليل الخبائث و غيرها فَلا تَخْشَوْهُمْ ان يظهروا عليكم و يبطلوا دينكم وَ اخْشَوْنِ اثبت الياء فى الوصل خاصة ابو عمرو و حذفها الباقون فى الحالين يعنى أخلصوا الخشية لى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بالتنصيص على قواعد العقائد و التوقيف على اصول الشرائع من الفرائض و الواجبات و السنن و الآداب و الحلال و الحرام و المكروه و موجبات الفساد لما له وجود شرعى كالصلوة و الصوم و البيع و نحوها و قوانين الاجتهاد فيما لا نص فيه و جاز ان يكون المراد بإكمال الدّين بلوغه صلى اللّه عليه و سلم فى معارج القرب الى مرتبة يغبطه الأولون و الآخرون حتى غفر لكمال محبوبيته جميع ذنوب أمته حتى الدماء و المظالم عن عباس بن مرداس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم دعا لامته عشية عرفة بالمغفرة فاجيب انى قد غفرت لهم ما خلا المظالم فانى أخذ للمظلوم منه قال اى رب ان شئت أعطيت المظلوم من الجنة و غفرت للظالم فلم يجب عشيته فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء فاجيب الى ما سأل قال فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم او قال تبسم فقال ابو بكر و عمران هذه لساعة ما كنت تضحك فيها فما الذي اضحكك اضحك اللّه سنّك قال ان عدو اللّه إبليس لما علم ان اللّه قد استجاب دعائى و غفر لامتى أخذ التراب فجعل يحثوه على راسه و يدعو بالويل و الثبور فاضحكنى ما رأيت من جزعه رواه ابن ماجة و البيهقي فى كتاب البعث قال ابن

(١) العيافة زجر الطير و التفاؤل بأسمائها و أصواتها و مهرها ١٢ نهاية.

(٢) الطيرة التشاؤم بالشي ء ١٢ نهايه.

عباس لم ينزل بعد هذه الآية حلال و لا حرام و لا شى ء من الفرائض و السنن و الحدود و الاحكام

فان قيل يروى عن ابن عباس ان آية الربوا نزلت بعدها

قلنا ان صح هذا فالمراد ان قوله تعالى فى اخر البقرة الذين يأكلون الربوا لا يقومون الى قوله تعالى يايها الذين أمنوا اتقوا اللّه و ذروا ما بقي من الربوا الآية نزلت بعد ذلك و لا شك ان حرمة الربوا كانت قبل نزول تلك الآية و انما نزلت تلك الاية للتوبيخ و قد ورد فى حديث جابر عند مسلم فى قصة حجة الوداع قوله صلى اللّه عليه و سلم و ربوا الجاهلية موضوع و أول ربوا أضع من ربانا ربوا عباس بن عبد المطلب فانه موضوع كله و قال سعيد بن جبير و قتادة أكملت لكم دينكم فلم يحج معكم مشرك و قيل أظهرت دينكم على الأديان كلها و امنتكم من الأعداء- (فائدة) نزلت هذه الاية يوم الجمعة عرفة بعد العصر فى حجة الوداع و النبي صلى اللّه عليه و سلم واقف بعرفة على ناقته العضباء فكادت عضد الناقة تندقّ من ثقلها فنزلت روى الشيخان فى الصحيحين عن عمر بن الخطاب ان رجلا من اليهود قال له يا امير المؤمنين اية فى كتابكم تقرءونها لو نزلت علينا معشر اليهود ما نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال ايّة اية قال اليوم أكملت لكم دينكم الاية قال عمر قد عرفنا ذلك اليوم و المكان الذي نزلت فيه على النبي صلى اللّه عليه و سلم و هو قائم بعرفة يوم الجمعة أشار عمر الى ان ذلك اليوم كان عيد النابل عيدين الجمعة و عرفة

قال البغوي روى هارون بن عنترة عن أبيه قال لما نزلت هذه الآية بكى عمر فقال له النبي صلى اللّه عليه و سلم ما يبكيك يا عمر قال أبكاني انا كنا فى زيادة من ديننا فاما إذ أكمل فانه لم يكمل شى ء الا نقص قال صدقت و كان هذه الاية نعى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و عاش رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعدها أحد و ثمانين يوما و مات يوم الاثنين بعد ما زاغت الشمس لليتين خلتا من شهر ربيع الاول سنة أحد عشر و كانت هجرته فى الثاني عشر منه وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي يعنى أنجزت وعدي بقولي و لاتم نعمتى عليكم و إتمام النعمة بالهداية و التوفيق و إكمال الدين و فتح مكة و هدم منار الجاهلية حتى حجوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين وَ رَضِيتُ اى اخترت لَكُمُ الْإِسْلامَ من بين الأديان دِيناً و هو الدين الصحيح عند اللّه لا غير روى البغوي بسنده عن جابر بن عبد اللّه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول قال جبرئيل قال اللّه تعالى هذا دين ارتضيه لنفسى و لن يصلحه الا السخاء و حسن الخلق فاكرموه بهما ما صحبتموه و اللّه اعلم فَمَنِ اضْطُرَّ متصل بذكر المحرمات و ما بينهما اعتراض بما يوجب التجنب عنها من تعظيم الدين و ذكر المنة على المؤمنين باكماله و كون ارتكابها فسقا يعنى من اضطر الى أكل شى ء مما ذكر فِي مَخْمَصَةٍ و هى خلو البطن من الغذاء يقال رجل خميص البطن اى جائع غَيْرَ مُتَجانِفٍ اى مائل لِإِثْمٍ اى الى اثم بان يأكلها تلذذا او عجاوزا عن حد الرخصة فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ تقديره فاكله فان اللّه غفور رحيم يغفره قد ذكرنا هذا البحث و ما يناسبه فى سورة البقرة روى البغوي بسنده عن ابى واقد الليثي ان رجلا قال يا رسول اللّه انا نكون بالأرض فتصيبنا بها المخمصة فمتى يحل لنا الميتة فقال ما لم تصطبحوا او تغتبقوا او تحتفؤا بها بقلا فشانكم بها الغبوق شراب اخر النهار مقابل الصبوح كذا فى النهاية و احتفى البقل اقتلعه من الأرض كذا فى القاموس و اللّه اعلم روى الطبراني و الحاكم و البيهقي و غيرهم عن ابى رافع قال جاء جبرئيل الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فاستاذن عليه فاذن له فابطأ فاخذ ردائه فخرج اليه و هو قائم بالباب فقال قد اذنّا لك فقال أجل و لكنا لا ندخل بيتا فيه صورة و لا كلب فنظروا فاذا فى بعض بيوتهم جرؤا فأمر أبا رافع لا يدع كلبا بالمدينة الا قتله فاتاه ناس فقالوا يا رسول اللّه ما ذا يحل لنا من هذه الامّة التي أمرت بقتلها فنزلت.

٤

يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ لما تضمن السؤال معنى القول أوقع على الجملة و روى ابن جرير عن عكرمة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعث أبا رافع فى قتل الكلاب حتى بلغ العوالي فدخل عاصم بن عدى و سعد بن حتم و عويمر بن ساعدة فقالوا ما ذا أحل لنا يا رسول اللّه فنزلت هذه الآية

و اخرج عن محمد بن كعب القرظي قال امر النبي صلى اللّه عليه و سلم بقتل الكلاب فقالوا يا رسول اللّه ماذا يحل لنا من هذه الامّة فنزلت

و اخرج من طريق الشعبي ان عدى بن حاتم الطائي قال اتى رجل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يسأله عن صيد الكلاب فلم يدرعا يقول حتى نزلت هذه الآية

و اخرج ابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير ان عدى بن حاتم و زيد بن المهلهل الطائيين سألا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالا انا قوم نصيد بالكلاب و البزاة و ان كلاب آل دريح تصيد البقر و الحمير و الظباء و قد حرم اللّه الميتة فما ذا يحل لنا منها فنزلت يسالونك ما ذا أحل لهم يعنى من الانتفاع بالكلاب و من الصيد الذي تصيدها الكلاب قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ هذا زائد على قدر الجواب و سنذكر شرحه فيما بعد إنشاء اللّه تعالى و الجواب قوله تعالى وَ ما عَلَّمْتُمْ عطف على الطيبات ان كانت ما موصولة و العائد محذوف و التقدير أحل لكم صيد ما علمتموه و الجملة شرطية ان كانت ما شرطية و جواب الشرط فيما سيأتى اعنى فكلوا مِنَ الْجَوارِحِ بيان لما و المراد بها السباع من البهائم و الطير كالكلب و الفهد و النمر و غيرها و البازي و الصقر و الشاهين و غيرها و الجرح اما من الكسب يقال فلان جارحة اهله اى كاسبهم و منه يقال للاعضاء الجوارح لانها كاسبة للافعال و هذه السباع كاسبة لاربابها أقواتهم من الصيد و اما من الجراحة فانها تجرح فى الصيد و بناء على هذا التأويل قال ابو حنيفة رح و احمد رح و اكثر العلماء رح لا بد فى الصيد من الجرح فلو قتل الكلب الصيد من غير جرح بان صدمه او خنقه فمات لا يحل أكله و قال الشافعي رح فى أحد قوليه يحل و لا يشترط الجرح نظرا الى التأويل الاوّل قال صاحب الهداية لا تنافى بين التأويلين فى الاية و فى الجمع بين التأويلين أخذ باليقين فلا بد من اشتراط الجرح و فى الكفاية النهى إذا ورد فيه اختلاف المعاني فانكان بينهما تناف يثبت أحدهما بدليل توجب ترجيحه و ان لم يكن بينهما تتاف يثبت الجميع أخذا باليقين كذا ذكر فخر الإسلام

فان قيل فعلى هذا يلزم القول بعموم المشترك و هو خلاف مذهب ابى حنيفة رح

قلنا عموم المشترك ان يريد المتكلم من لفظ مشترك كلا المعنيين جميعا كما يراد بالعام و ان يحكم السامع بشمول الحكم لكلا المعنيين جميعا كما فى العام و هاهنا ليس كذلك بل نقول ان المراد عند اللّه تعالى من الجوارح أحدهما لكن لما لم يقم دليل قاطع على تعيين أحدهما و لا منافاة بينهما أخذنا بهما احتياطا و احتج الحنفية ايضا على اشتراط الجرح انه لا بد من الذكوة و الذكوة الاضطراري الجرح فى اى موضع كان من البدن بانتساب ما وجد من الآلة اليه بالاستعمال و ان كسر عضوا فقتله ففى رواية عن ابى حنيفة رح انه لا بأس باكله لانه جراحة باطنة فهى كالجراحة الظاهرة و الصحيح من مذهبه انه لا يؤكل لان المعتبر جرح ينتهض سببا لانهار الدم و لا يحصل ذلك بالكسر فاشبه التخنيق قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما انهر الدم و ذكر اسم اللّه فكل و كذا يشترط الجرح فى الرمي اجماعا لحديث عدى بن حاتم قال قلت يا رسول اللّه انا نرمى بالمعراض قال كل ما خزق «١» و ما أصاب بعرضه فقتله فانه وقيذ فلا تأكل متفق عليه (مسئلة:) يجوز الاصطياد بكل جارح من البهائم و الطيور و

(١) خزق السهم و خسق إذا أصاب الرمية و نفذ فيها ١٢ نهايه.

عن ابى يوسف رح انه استثنى من ذلك الأسد و الذئب لانها لا يعملان لغيرهما الأسد لعلو همته و الذئب لخساسته و الحق بهما البعض الحداءة لخساسة و الخنزير مستثنى اجماعا لانه نجس العين لا يجوز الانتفاع به بوجه قلت لا وجه لاستثناء الأسد و الذئب و الحدأة من الجوارح و القول بانهما لا يعملان لغيرهما لا يضر فانهما حينئذ يخرجان من قوله تعالى ما علمتم و قال احمد لا يحل صيد الكلب الأسود البهيم لحديث عبد اللّه بن مغفل قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو لا ان الكلب امّة من الأمم لامرت بقتلها فاقتلوا منها الأسود البهيم رواه ابو داود و الترمذي و الدارمي و عن جابر قال أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بقتل الكلاب ثم نهى عن قتلها و قال عليكم بالأسود البهيم ذى النقطتين فانه شيطان رواه مسلم و الجمهور على انه يحل صيده لعموم الآية و اللّه اعلم- مُكَلِّبِينَ حال من الضمير المرفوع فى علمتم و فائدتها المبالغة فى التعليم و الإغراء و المكلب الذي يغرى الكلاب على الصيد و يعلمها و يودبها مشتق من الكلب لان التأديب يكون فيه اكثر و اثر او لان كل سبع يسمى كلبا فى القاموس الكلب كل سبع عقور و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى عتبة بن ابى لهب و قد كان يسبّ النبي صلى اللّه عليه و سلم اللّهم سلّط عليه كلبا من كلابك فخرج فى قافلة يريد الشام فنزلوا منزلا فقال انى أخاف دعوة محمّد فحطّوا متاعهم حوله و قعدوا يحرسونه فجاء الأسد فانتزعه فذهب به أخرجه الحاكم فى المستدرك من حديث ابى نوفل بن ابى عقرب عن أبيه و قال صحيح الاسناد تُعَلِّمُونَهُنَّ حال ثانية او استيناف مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّه من طرق التأديب او مما علمكم ان تعلموها من اتباع الصيد بإرسال صاحبه و انزجاره بزجره و انصرافه بدعائه و ان يمسك الصيد و لا يأكل منه و يعلم كونه معلما بتكرر ظهور اثار التعليم هذه منها ثلث مرات أسند اللّه سبحانه التعليم الى نفسه لان العلوم كلها التصورية و التصديقية البديهية و النظرية ملهمة من اللّه تعالى و العقل و الفكر فى بعض الأمور سبب عادى و العلم بالنتيجة بعد العلم بالمقدمتين انما يحصل بفيضان من اللّه تعالى على مقتضى جرى العادة فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ اى الجوارح عَلَيْكُمْ يعنى مما لم تأكل منه و هذا التفسير مستفاد من حديث عدى بن حاتم قال قال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم اللّه فان امسك فادركته حيا فاذبحه و ان أدركته قد قتل و لم يأكل منه فكله و ان أكل فلا تأكله فانما امسك على نفسه الحديث متفق عليه و فى رواية بلفظ ما علمت من كلب او باز ثم أرسلته و ذكرت اسم اللّه عليه فكل مما اسكن عليك قلت و ان قتل قال ان قتله و لم يأكل منه فكله و ان أكل فلا تأكله فانما امسكه على نفسه رواه ابو داود و البيهقي من رواية مجالد عن الشعبي عنه و قال البيهقي تفرد مجالد بذكر الباز فيه و خالفه الحفاظ فهذه الآية بهذا التفسير المستفاد من الحديث حجة لابى حنيفة رح و احمد رح و الشافعي رح فى أصح قوليه ان الكلب إذا أكل من الصيد لا يباح أكله

قال البغوي و هو المروي عن ابن عباس و هو قول عطاء و طاؤس و الشعبي و الثوري و ابن المبارك قالوا اية كون الكلب معلّما ان لا يأكل ثلث مرات فاذا ترك الاكل ثلث مرات حل صيده فى الرابعة و فى رواية عن ابى حنيفة رح حل صيده فى الثالثة و قال مالك رح لا بأس بأكل الكلب من الصيد و يحل أكله و هو أحد قولى الشافعي رح

قال البغوي و هو المروي عن ابن عمر و سلمان الفارسي و سعد بن ابى وقاص لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رجلا اتى النبي صلى اللّه عليه و سلم يقال له ابو ثعلبة فقال يا رسول اللّه ان لى كلابا مكلبة فافتنى فى صيدها فقال ان كانت لك كلابا مكلبة فكل مما أمسكن عليك قال ذكىّ و غير ذكىّ قال ذكىّ و غير ذكىّ قال و ان أكل منه قال و ان كل منه رواه ابو داود قلت هذا الحديث أعله البيهقي و حديث عدى بن حاتم متفق على صحته و اللّه اعلم قلت و هذه الاية بهذا التأويل و ما رواه ابو داود برواية مجالد عن الشعبي من الحديث يقتضى اشتراط ترك الاكل فى سباع الطيور ايضا و اليه ذهب بعض الفقهاء و قال ابو حنيفة رح لا يشترط ذلك فى السباع الطيور لان بدن الطيور لا يتحمل الضرب و بدن الكلاب يتحمله فيضرب ليتركه اخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال إذا أكل الكلب فلا تأكل و إذا أكل الصقر فكل لان الكلب يستطيع ان تضربه و الصقر لا يستطيع ان تضربه

فان قيل هذا استدلال فى مقابلة نص الكتاب و السنة

قلنا الكتاب ليس بظاهر الدلالة على اشتراط عدم الاكل فان الإمساك ضد الإرسال لا ضد الاكل و انما اشترطنا عدم الاكل فى الكلب بحديث الصحيحين و ما تفرد به مجالد لا يعتد به لمخالفة الحفاظ و مخالفة القياس و اللّه اعلم وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللّه عَلَيْهِ الضمير عايد الى ما علمتم يعنى سموا عليه عند إرساله فيشترط التسمية عند إرسال الكلب و الباز و نحوهما و كذا عند الرمي كما يشترط عند الذبح غير ان التسمية عند الذبح انما هو على المذبوح و فى الصيد على الآلة لان المقدور فى الاوّل الذبح و فى الثاني الرمي و الإرسال دون الاصابة فيشترط عند فعل يقتدر عليه حتى لو اضجع شأة و سمّى و ذبح غيرها بتلك التسمية لا يجوز و لو رمى الى صيد و سمى و أصاب صيدا غيره حل و لو اضجع شاة و سمى ثم رمى بالشفرة و ذبح بأخرى أكل و ان سمى على سهم ثم رمى بغيره لا يؤكل و التسمية على المذبوح هو الأصل و جواز التسمية على الآلة انما هو عند العجز عن الأصل فان أدرك مرسل للباز او الكلب بالتسمية او الرامي بالتسمية الصيد حيا وجب عليه ان يذكّيه و يذكر اسم اللّه عند الذبح ثانيا و ان ترك تذكية حتى مات لم يؤكل و هذا إذا تمكن من ذبحه و اما إذا وقع فى يده و لم يتمكن من ذبحه و فيه من الحيوة فوق ما يكون فى المذبوح لم يؤكل عند ابى حنيفة رح و فى رواية عنه و عن ابى يوسف رح انه يحل و هو قول الشافعي رح لانه لم يقدر على الأصل و قال بعضهم ان لم يتمكن لفقد الآلة لم يؤكل و ان لم يتمكن لضيق الوقت أكل عند ابى حنيفة رح خلافا للشافعى رح- (مسئلة:) ان ترك التسمية عامدا عند إرسال الكلب او السهم او عند الذبح او شاركه كلب غير معلم او كلب مجوسى او كلب لم يذكر اسم اللّه عليه عمدا لا يحل أكله لفوات شرط الحل فى هذه الاية و لقوله تعالى و لا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه و لحديث عدى بن حاتم قال قلت يا رسول اللّه أرسل كلبى فاجد معه كلب اخر قال فلا تأكل فانما سميت على كلبك و لم تسم على كلب اخر متفق عليه و عنه قال قال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم اللّه فان امسك عليك فأدركته حيا فاذبحه و ان أدركته قد قتل و لم يأكل منه فكله و ان أكل فلا تأكل فانما امسك على نفسه فان وجدت مع كلبك كلبا غيره و قد قتل فلا تأكل فانك لا تدرى أيهما قتل و إذا رميت بسهمك فاذكر اسم اللّه فان غاب عنك يوما فلم تجد فيه الا اثر سهمك فكل ان شئت و ان وجدته غريقا فى الماء فلا تأكل متفق عليه و عن ابى ثعلبة الخشني قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما صدت بقوسك فذكرت اسم اللّه فكل و ما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم اللّه فكل و ما صدت بكلبك غير معلم فادركت ذكوته فكل متفق عليه (مسئلة:) و كذا ان ترك التسمية ناسيا عند احمد و يحل عند ابى حنيفة رح و هو رواية عن احمد رح و به قال مالك رح كذا فى كتب المالكية و عن احمد ان نسيها على الذبيحة حلت و اما على الصيد فلا و عنه ان نسيها على السهم حلت و اما على الكلب و الفهد فلا و قال الشافعي رح و هو رواية عن مالك يحل مطلقا و به قال ابو القاسم من المالكية سواء ترك التسمية عامدا او ناسيا على الذبيحة او على الصيد بالكلب او بالسهم بعد ان كان الكلب معلما و المكلب مسلما او كتابيا و يحرم بمشاركة الكلب غير المعلم و كلب المجوسي و الحجة على حل متروك التسمية مطلقا حديث عائشة رض ان قوما قالوا للنبى صلى اللّه عليه و سلم ان قوما يأتونا باللحم لا يدرى اذكر اسم اللّه أم لا فقال سموا أنتم و كلوا قالت و كانوا حديثى العهد بالكفر رواه البخاري و عن ابى هريرة قال سأل رجل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال يا رسول اللّه ارايت الرجل منا يذبح و ينسى ان يسمى اللّه فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم اسم اللّه فى فم كل مسلم رواه الدار قطنى و عن ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال المسلم ان نسى ان يسمى حين يذبح فليسم و ليذكر اسم اللّه ثم لياكل رواه الدار قطنى و عن الصلت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم اللّه او لم يذكر رواه ابو داود فى المراسيل و رواه البيهقي من حديث ابن عباس موصولا و فى اسناده ضعف و قال البيهقي الأصح وقفه على ابن عباس و الجواب ان الحديث الاوّل لا يدل على ترك التسمية و الظاهر تسميتهم و اما الثاني ففيه مروان بن سالم قال احمد ليس ثقة و قال النسائي و الدار قطنى متروك و اما الثالث ففيه معقل مجهول و اما الرابع فمرسل ثم الحديث الثاني و الثالث فى متروك التسمية ناسيا فليس فيهما حجة للشافعى رح و الحديث الرابع نحمله على حالة النسيان قال صاحب الهداية و هذا القول من الشافعي رح يعنى يحل متروك التسمية عامدا مخالف للاجماع فانه لا خلاف فيمن كان قبله فى حرمة متروك التسمية عامدا و انما الخلاف بينهم فى متروك التسمية ناسيا فمن مذهب ابن عمر انه يحرم و من مذهب على و ابن عباس يحل بخلاف متروك التسمية عامدا و لهذا فأل ابو يوسف رح متروك التسمية عامد الا يسع فيه الاجتهاد و لو قصى القاضي بجواز بيعه لا ينفذ لكونه مخالفا للاجماع- (مسئلة:) ما استأنس من الصيد فذكوته الذبح و ما توحش من الإبل و البقر فذكوته العقر و الجرح و اما الشاة فاذا ندت فى الصحراء فذكوته العقر و ان ندت فى المصر لا تحل بالعقر لانه يمكن أخذها فى المصر و مبنى الحكم على ان ذكوة الاضطرار انما يصار اليه عند العجز عن ذكوة الاختيار و العجز متحقق فيما توحش من النعم دون ما استأنس من الصيد و كذا ما تردى من النعم فى بير و وقع العجز عن ذكوته الاختيارية جاز فيه الذكوة الاضطرارية عند الجمهور و قال مالك لا يجوز ذكوة النعم الا فى الحلق و اللبة لان توحشها نادر فلا عبرة به لنا حديث رافع بن خديج قال أصابنا نهب ابل فند منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش فاذا غلبكم منها شى ء فافعلوا به هكذا متفق عليه و عن ابى العشراء عن أبيه انه قال يا رسول اللّه اما يكون الذكوة الا فى الحلق و اللبة فقال لو طعنت فى فخذها لاجزأ عنك رواه احمد و اصحاب السنن الاربعة و الدارمي و قال ابو داؤد هكذا ذكوة المتردى و قال الترمذي هذا فى الضرورة و رواه الحافظ ابو موسى فى مسند ابى العشراء بلفظ لو طعنت فى فخذها او شأكلتها و ذكرت اسم اللّه لاجزأ عنك و قال الشافعي رح تردى بعير فى بير فطعن فى شاكلته فسأل ابن عمر عن أكله فأمر به- (مسئلة:) إذا رمى صيدا فقطع عضوا منه أكل الصيد و لا يؤكل العضو و قال الشافعي رح أكلا و ان مات الصيد منه لانه مبان بذكاة اضطراري فيحل المبان و المبان منه و لنا عموم قوله صلى اللّه عليه و سلم ما أبين من الحي فميت وَ اتَّقُوا اللّه فى محرماته إِنَّ اللّه سَرِيعُ الْحِسابِ فيؤاخذكم بما جل و دق.

٥

الْيَوْمَ يعنى الان عند كمال الدين الى يوم القيامة إذ لا نسخ بعد الإكمال أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ كرره للتأكيد و لفظ الطيبات ضد الخبائث مجمل التحق الأحاديث النبوية البينة للطيبات و الخبائث بيانا له ثم قيس على موارد النصوص أشباهها و الأصل فيه ان ما ورد النص بكونه حلالا ظهرانه طيب و ما ورد النص بكونه حراما ظهر كونه خبيثا و ما ورد الأمر بقتله و سماه خبيثا فاسقا فهو خبيث حرام كما روى عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال خمس لا جناح على من قتلهن فى الحرم و الإحرام الفارة و الغراب و الحداة و العقرب و الكلب العقور متفق عليه و عن عائشة عنه صلى اللّه عليه و سلم قال خمس فواسق يقتلن فى الحل و الحرم الحية و الغراب الأبقع و الفارة و الكلب العقور و الحدأة متفق عليه و عن ابى هريرة فى الحية ما سالمنا هم منذ حاربناهم و من ترك شيئا منهم خيفة فليس منا رواه ابو داود و عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اقتلوا الحيات كلهن فمن خاف ثارهن فليس منى رواه ابو داود و النسائي و ما لم يرد النص فيه يقاس اما على الطيّبات بجامع استطابة الطبائع السليمة من العرب و اما على الخبائث بجامع استقذار الطبائع السليمة منهم و كانت الصحابة رضوان اللّه عليهم أجمعون يكرهون ما يأكل الجيف أخرجه ابن ابى شيبة من طريق ابراهيم النخعي و لذا قال جمهور العلماء لا يؤكل من الدواب و الطيور ما يأكل الجيف و النهى عن قتل حيوان لا يدل على حرمته و لا على كراهته ما لم يدل عليه دليل اخر عند الائمة الثلاثة و عند الشافعي رح يدل على تحريمه فلا يحرم الهدهد و الطاووس عند الثلاثة خلافا للشافعى رح- (مسئلة:) كل حيوان ذى ناب من السباع كالاسد و الذئب و النمر و الفهد و الكلب و الهرة و ذى مخلب من الطير كالصقر و الباز و الحدأة و نحوها فاكله حرام عند الائمة الثلاثة و قال مالك رح يكره و لا يحرم شى ء من ذلك لقوله تعالى قل لا أجد فيما اوحى الى محرما على طاعم يطعمه الآية و هذا هو الأصل لمالك فى جميع مسائل الباب

قلنا هذه الآية تدل على عدم وجدان الحرمة حالة نزول هذه الاية لا بعد ذلك و سنذكر البحث عن الآية فى موضعها إنشاء اللّه تعالى و قد ظهر حرمة غير المذكورات فى الآية بعد ذلك بنصوص صحيحة تلقته الامة بالقبول منها حديث ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كل ذى ناب من السباع فاكله حرام رواه مسلم و عن ابن عباس قال نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن كل ذى ناب من السباع و ذى مخلب من الطير رواه مسلم قال ابن عبد البر مجمع على صحته و كذا روى عبد اللّه بن احمد فى زيادات المسند من حديث على و فى اسناده علة و روى احمد نحوه من حديث جابر و عن جابر ان النبي صلى اللّه عليه و سلم نهى عن أكل الهر و أكل ثمنها رواه ابو داود و الترمذي (مسئلة:) الضبع و الثعلب حرام عند ابى حنيفة رح مكروه عند مالك رح كسائر السباع و قال الشافعي رح و احمد رح يحلهما و فى رواية عن احمد رح لا يحل الثعلب قال صاحب الهداية هما من السباع و فى الكفاية ان لهما نابان يقاتلان بانيا بهما فلا يؤكلان كالذئب احتج الشافعي رح بحديث جابر انه سئل عن الضبع اصيد هى قال نعم قيل أ يؤكل قال نعم قيل أسمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال نعم رواه الشافعي رح و اصحاب السنن غير ابى داود و البيهقي و صححه البخاري و الترمذي و غيرهما و أعله ابن عبد البر بعبد الرحمن بن ابى عمارة و وثقه ابو ذرعة و النسائي و قال الشافعي رح و ما يباع لحم الضباع الّا بين الصفا و المروة و رواه ابو داود بلفظ سالت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن الضبع فقال صيد و يجعل فيه كبش إذا صاده المحرم قلت كونه صيدا و جزائه بكبش فى الإحرام لا يقتضى حله فانه يجب على المحرم الجزاء بقتل صيد حرم لحمه و الصيد هو الحيوان المتوحش الممتنع بالطبع و حديث حل الضبع لا يقوى قوة حديث حرمة السباع و عند التعارض الترجيح للمحرم على المبيح احتياطا و لئلا يلزم تكرار النسخ كما بين فى الأصول و اماما رواه الترمذي من حديث خزيمة بن جرير او يأكل الضبع أحد فضعيف لا تفاقهم على ضعف عبد الكريم بن امية و الراوي عنه امية بن مسلم- (مسئلة:) يحرم حشرات الأرض مثل الفار و الوزغ و غيرها عند الائمة الثلاثة و قال مالك رح يكره و لا يحرم لما ذكرنا لنا حديث أم شريك ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم امر بقتل الوزغ و قال كان ينفخ على ابراهيم متفق عليه و عن سعد رض بن ابى وقاص ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم امر بقتل الوزغ و سماه فويسقا رواه مسلم و عن ابى هريرة رضى اللّه عنه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال من قتل وزغا فى أول ضربة كتبت له مائة حسنة و فى الثانية دون ذلك و فى الثالثة دون ذلك رواه مسلم و سبق فى الحديث الأمر بقتل الفارة فى الحل و الحرم و تسميته فاسقة فيحرم الحشرات كلها استدلالا بالوزغ و الفارة و منها القنفذ و هو حلال عند مالك رح و الشافعي رح و قال ابو حنيفة رح بتحريمه لانه من الحشرات و لما روى ابو داود من حديث عيسى بن نميلة عن أبيه قال كنت عند ابن عمر فسئل عن القنفذ فقرأ هذه الآية قل لا أجد فيما اوحى الىّ الآية فقال شيخ عنده سمعت أبا هريرة رضى اللّه عنه يقول ذكر القنفذ عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال خبيثة من الخبائث فقال ابن عمر ان كان النبي صلى اللّه عليه و سلم قاله فهو كما قاله قال البيهقي فيه ضعف و لم يرو الا بهذا الاسناد- (مسئلة:) يحرم الضب و اليربوع عند ابى حنيفة رح و عند مالك رح و الشافعي رح هما حلالان و قال احمد الضبّ حلال و فى اليربوع عنه روايتان احتجوا على حل الضب بحديث ابن عمر رض قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الضب لست أكله و لا احرمه متفق عليه و عن ابن عباس رض ان خالد بن الوليد أخبره انه دخل مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على ميمونة و هى خالته و خالة ابن عباس فوجد عندها ضبا محنوذا «١» فقدمت الضب لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فرفع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن الضب فقال خالد ا حرام الضب يا رسول اللّه قال لا و لكن لم يكن بأرض قومى فاجدنى إعافة قال خالد فاجتررته فاكلته و رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ينظر الى متفق عليه قال ابو حنيفة رح الضب من الحشرات و هذا استدلال فى مقابلة النصّ الصحيح الصريح و ذكر فى الهداية ان النّبى صلى اللّه عليه و سلم نهى «٢» عائشة حين سألت عن أكل الضب و لا اعرف ذلك الحديث- (مسئلة:) يحلّ أكل الجراد ميتا على كل حال و قال مالك رح لا يؤكل منه ما مات على حتف انفه من غير سبب يضع به يعنى يكره احتج الجمهور بحديث ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أحلت لنا ميتتان و الدمان فاما الميتتان فالجراد و الحوت

(١) محنوذا بالحاء المهملة و النون و الذال المعجمة اى مشويا ١٢.

(٢) حديث عائشة رضى اللّه عنها أورده صاحب المشكوة فى باب ما يحل أكله و ما لا يحل أكله من حديث عبد الرحمن بن شبل نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن أكل لحوم الضب رواه ابو داود هكذا وجدت فى اصل النسخة فليحقق.

و اما الدمان فالكبد و الطحال رواه الشافعي و احمد و ابن ماجة و الدارقطني و البيهقي من رواية عبد الرحمن بن زيد بن اسلم عن أبيه عنه و عبد الرحمن بن زيد ضعيف متروك و رواه الدارقطني عن زيد بن اسلم موقوفا على ابن عمر فقال و هو أصح و كذا صحح الموقوف ابو ذرعة و ابو حاتم و أخرجه الخطيب من رواية مسور بن الصلت عن زيد بن اسلم عن عطاء بن يسار عن ابى سعيد الخدري و المسور قد كذبه احمد بن حنبل و قال ابن حبان يروى عن الثقات الموضوعات (مسئلة:) يحرم أكل لحوم الحمر الاهلية و البغال عند الائمة الثلاثة و قال مالك رح يكره لنا حديث ابى ثعلبة قال حرم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لحوم الحمر الاهلية متفق عليه و فى رواية عن احمد رح امر عبد الرحمن بن عوف ينادى بالناس ان لحوم الحمر الانسية لا تحل لمن شهد انى رسول اللّه و عن جابر انه صلى اللّه عليه و سلم نهى عن لحوم الحمر الاهلية و أذن فى الخيل متفق عليه و عنه قال حرم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوم خيبر الحمر الانسية و لحوم البغال و كل ذى ناب من السباع و كل ذى مخلب من الطير رواه الترمذي و قال حديث غريب و رواه احمد بلفظ حرم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الحمر الانسية و لحوم الثعالب و كل ذى ناب من السباع و ذى مخلب من الطير و عنه قال أطعمنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لحوم الخيل و نهانا عن لحوم الحمر رواه الترمذي و صححه و النسائي و عن ابى هريرة رض ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حرم يوم خيبر كل ذى ناب من السباع و الحمر الانسية رواه احمد و عن البراء بن عازب قال أصبنا يوم خيبر حمرا فاذا ينادى منادى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اكفئوا القدور متفق عليه و عن على رضى اللّه عنه ان النبىّ صلى اللّه عليه و سلم نهى عام خيبر عن نكاح المتعة و عن لحوم الحمر الاهلية متفق عليه و فى الباب حديث ابى سليط و انس و ابن عباس و سلمة بن الأكوع و عبد اللّه بن ابى اوفى و خالد بن الوليد و عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده و المقدام بن معد يكرب و عمرو بن دينار- (مسئلة:) يحل أكل لحوم الخيل عند الجمهور و به قال ابو يوسف و محمد رحمهما اللّه و قال ابو حنيفة و مالك رحمهما اللّه يكره ثم قيل الكراهة عند ابى حنيفة رح كراهة تحريم و قيل كراهة تنزيه قال صاحب الهداية الاول أصح احتج الجمهور لما مر من حديث جابر اذن فى الخيل و حديث اسماء «١» قال نحرنا فى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فرسا فاكلناه و نحن بالمدينة متفق عليه

(١) اسماء لم نقف على اسمه- مصحح.

زاد احمد فيه نحن و اهل بيته احتج ابو حنيفة رح بقوله تعالى و الخيل و البغال و الحمير لتركبوها و زينة قال خرج مخرج الامتنان و الاكل من أعلى منافعها و الحكيم لا يترك الامتنان بالأعلى و يمن بالأدنى و بحديث خالد بن الوليد عن النبىّ صلى اللّه عليه و سلم انه قال حرام لحوم الحمر الاهلية و خيلها و فى لفظ نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن أكل لحوم الخيل و البغال و الحمير رواه احمد برواية صالح بن يحيى بن المقدام عن جده المقدام عن خالد قال احمد هذا حديث منكر و قال موسى ابن هارون لا يعرف صالح بن يحيى و لا أبوه الا بجده و قال الدارقطني هذا حديث ضعيف قال ابن الجوزي و فى بعض ألفاظ هذا الحديث ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حرمها يوم خيبر قال الواقدي انما اسلم خالد بعد خيبر و اللّه اعلم- (مسئلة:) يكره عند ابى حنيفة رح ابن عرس فانه من سباع الهوام- (مسئلة:) يكره عند الائمة الثلاثة أكل الرخم و البغاث لانهما يأكلان الجيف و الأبقع الذي يأكل الجيف و كذا الغراب و كذا النسر و كذا كل ما يأكل الجيف و لا ياس بغراب الزرع لانه يأكل الحب و ليس من سباع الطير و لا بأس بأكل العقعق لانه يخلط فاشبه الدجاجة و عن ابى يوسف رح انه يكره لان غالب أكله الجيف- (مسئلة:) يحرم أكل الجلّالة و بيضها و لبنها عند احمد رح ما لم يحبس فانكان طائرا فثلثة ايام و ان كان من الإبل فاربعين يوما و البقر ثلثين و الغنم سبعة و الدجاجة ثلثة و فى رواية كلها ثلثة و عند الائمة الثلاثة يكره تحريما ان ظهر النتن فى لحمها او لبنها و تحبس حتى تزول رائحة النجاسة عن ابن عباس قال نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى لبن الشاة الجلالة رواه احمد و عن ابن عمر قال نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن أكل الجلالة «١» و ألبانها رواه ابو داود و الترمذي و ابن ماجة و عن عبد اللّه بن عمر و قال نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن الإبل الجلالة

(١) الجلالة من الحيوان ما يأكل العذرة و الجلة البعرة فوضع موضع العذرة ١٢ نهاية.

ان يؤكل لحمها و لا يشرب ألبانها و لا يركبها الناس حتى ينقضه أربعين ليلة رواه البيهقي و الدارقطني و فيه إسماعيل بن ابراهيم ابن مهاجر عن أبيه قال ابن الجوزي هو و أبوه ضعيفان و رواه احمد و ابو داود و النسائي و الحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ نهى عن لحوم الحمر الاهلية و عن الجلالة و عن ركوبها-

(مسئلة:) لا يؤكل من حيوان البحر الا السمك عند ابى حنيفة رحمه اللّه و قال مالك رحمه اللّه يؤكل كلها حتى السرطان و الضفدع و كلب الماء و خنزيره لكنه كره الخنزير و حكى انه توقف فيه و قال احمد كلما يعيش و يولد فى البحر يحل أكله الا الضفدع و التمساح و الكوسج و يحتاج عنده غير السمك الى الذبح كخنزير البحر و كلبه و انسانه و اختلف اصحاب الشافعي رح فمنهم من قال مثل قول مالك و منهم من قال مثل قول ابى حنيفة رحمه اللّه و منهم من قال كل ما له شبه فى البر لا يوكل فلا يوكل كلب الماء و خنزيره و انسانه و حيته و فارته و عقربه و يوكل ما سوى ذلك و منهم من قال يؤكل غير التمساح و الضفدع و الحية و العقرب و السرطان و السلحفاة احتج مالك رحمه اللّه و من معه بعموم قوله تعالى أحل لكم صيد البحر من غير فصل و قوله صلى اللّه عليه و سلم فى البحر هو الطهور مائه و الحل ميتته و أجيب بان المراد بالصيد الاصطياد بدليل قوله تعالى و حرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما فان المحرم هو اصطياد صيد البر فأما إذا صاد الحلال صيد البر بلا اعانة من المحرم و لا دلالة حل للمحرم أكله و المراد بالميتة هو السمك و قوله صلى اللّه عليه و سلم ما من دابة فى البحر الا قد ذكاه اللّه عز و جل لبنى آدم رواه الدارقطني من حديث جابر و روى عن عبد اللّه بن سرجس قوله صلى اللّه عليه و سلم ذبح كل نون لبنى آدم

قلنا النون هو السمكة و سوق الحديث لعدم الاحتياج الى ذبح السمكة لا لعموم حل ما فى البحر و يدل على حل بعض ما فى البحر سوى السمكة حديث جابر قال غزوت جيش الخبط و امر ابو عبيدة فجعنا جوعا شديدا فالقى البحر حوتا ميتا لم نر مثله يقال له العنبر فاكلنا منه نصف شهر فاخذ ابو عبيدة عظما من عظامه فمر الراكب تحته فلما قد منا ذكرنا للنبى صلى اللّه عليه و سلم فقال كلوا رزقا أخرجه اللّه إليكم و أطعمونا ان كان معكم قال فارسلنا الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم منه فاكله متفق عليه و قالت الحنفية لعل ذلك الحيوان من اقسام السمك كما يدل عليه لفظ الحوت و الحجة على حرمة الضفدع و نحوه مما يستقذر الطبع السليم قوله تعالى و يحرم عليهم الخبائث و حديث عبد الرحمن بن عثمان قال ذكر طبيب عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم دواء و ذكر الضفدع يجعل فيه فنهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن قتل الضفدع رواه احمد و ابو داود و النسائي و البيهقي قال البيهقي هو أقوى ما ورد فى النهى-

(مسئلة:) و يكره أكل الطافي من السمك عند ابى حنيفة رحمه اللّه و لا يكره عنه الجمهور احتجوا بما ذكرنا من حديث جابر فى العنبر و قوله صلى اللّه عليه و سلم هو الحل ميتة

قلنا ورد فى حديث جابر انه القى البحر حوتا ميتا و معناه القى البحر حوتا فماتت بإلقائه و ذلك حلال اتفاقا و ميتة البحر ما لفظه البحر حتى يكون موته مضافا الى البحر لا ما مات فيه بلا آفة احتج الحنفية بحديث جابر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال إذا طفا فلا تأكله و إذا جزر عنه فكله و ما كان على حافته فكله رواه الدارقطني من طريق ابى احمد الزبيري عن سفيان الثوري عن ابى الزبير عن جابر قال الدارقطني لم يسنده عن الثوري غير ابى احمد و رواه وكيع و عبد الرزاق و مومل و غيرهم موقوفا و كذلك روى ابو أيوب السجستاني و عبد اللّه بن عمرو ابن جريح و زهير و حماد بن سلمة و غيرهم عن ابى الزبير موقوفا و لا يصح رفعه و رواه الدارقطني من طريق اخر بلفظ كلوا ما حسر عنه البحر و ما القى و ما وجدتموه ميتا او طافيا فوق الماء فلا تأكلوه قال الدارقطني تفرد به عبد العزيز عن وهب و عبد العزيز ضعيف لا يحتج به قال احمد هو ضعيف و الحديث ليس بصحيح و قال النسائي هو متروك و له طريق اخر رواه ابو داود عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما القى البحر او جزر عنه فكلوه و ما مات فيه و طفى فلا تأكلوه و فى هذا الطريق اسمعيل بن امية و هو متروك قال ابو داود رواه سفيان و أيوب و حماد عن ابى الزبير فوقفوه على جابر و اللّه اعلم- (مسئلة:) حل أكل الأرنب اجماعا لحديث انس قال انفجنا أرنبا بمر الظهران فأخذتها فاتيت بها أبا طلحة فذبحها و بعث الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بوركها و فخذها فقبله متفق عليه- (فائدة) أكل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لحم الدجاج متفق عليه عن ابى موسى (فائدة) عن سفينة أكلت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لحم الحبارى رواه ابو داود- وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ المراد بالطعام الذبائح لان سائر الاطعمة لا يختص حلها بالميتة و قوله تعالى الذين أوتوا الكتاب يشتمل اليهود و النصارى و الصابئين ان كانوا يؤمنون بدين نبى و يقرءون بكتاب لا ان كانوا يعبدون الكواكب و لا كتاب لهم حربيا كان الكتابي او ذميا عجميا كان او عربيا او تغلبيا به قال ابو حنيفة رحمه اللّه و قالت الائمة الثلاثة لا يحل ذبيحة نصارى العرب من بنى تغلب قال ابن الجوزي روى أصحابنا حديث ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه و سلم نهى عن ذبايح نصارى العرب و روى ابن الجوزي بسنده عن على رضى اللّه عنه قال لا تأكلوا من ذبايح نصارى بنى تغلب فانهم لم يتمسكوا من النصرانية بشئ الا شربهم الخمر و رواه الشافعي رحمه اللّه بسند صحيح عنه

و اخرج عبد الرزاق من طريق ابراهيم النخعي ان عليّا كان يكره ذبايح نصارى بنى تغلب و نسائهم قلت و لم يظهر لى صحة الحديث المرفوع فى الباب و لو صح فهو حديث احاد لا يصلح ناسخا للكتاب

قال البغوي يريد اللّه سبحانه ذبايح اليهود و النصارى و من دخل فى دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبىّ صلى اللّه عليه و سلم و اما من دخل فى دينهم بعد مبعث النبىّ صلى اللّه عليه و سلم يعنى من غير اهل الإسلام فلا تحل ذبيحته قلت و هذا التقييد ليس بشئ عندنا قال صاحب الهداية لا يؤكل ذبيحة المرتد يعنى من كان مسلما ثم ارتد نعوذ باللّه منها فصار يهوديا او نصرانيا او مجوسيا او وثنيا لا يوكل ذبيحته لانه لا ملة له لانه لا يقر على ما انتقل اليه بخلاف الكتابي إذا انتقل الى غير دينه لانه يقر عليه عندنا فيعتبر ما هو عليه عند الذبح لا ما قبله قال فى الكفاية حتى لو تمجس يهودى او نصرانى لا يحل صيده و لا ذبيحته بمنزلة ما لو كان مجوسيا فى الأصل و ان تهود مجوسى او تنصر يوكل ذبيحته و صيده كما لو كان عليه فى الأصل لانه يقر على ما اعتقد عندنا- (مسئلة:) لو ذبح يهودى على اسم عزير و نصرانى على اسم عيسى لا يحل أكله عندنا قال فى الكفاية انما يحل ذبيحة الكتابي فيما إذا لم يذكر وقت الذبح اسم عزير او اسم المسيح و اما إذا ذكر فلا يحل كما لا يحل ذبيحة المسلم إذا ذكر وقت الذبح اسم غير اللّه تعالى لقوله تعالى و ما اهل به لغير اللّه فحال الكتابي فى ذلك لا يكون أعلى من حال المسلم و

قال البغوي اختلف العلماء فى هذه المسألة قال ابن عمر لا يحل و ذهب اكثر اهل العلم الى انه يحل و هو قول الشعبي و عطاء و الزهري و مكحول سئل الشعبي و عطاء عن النصراني يذبح باسم المسيح قالا يحل فان اللّه تعالى قد أحل ذبائحهم و هو يعلم ما يقولون و قال الحسن إذا ذبح اليهودي او النصراني فذكر اسم غير اللّه تعالى و أنت تسمع فلا تأكله و إذا غاب عنك فكل فقد أحل اللّه لك قلت و الصحيح المختار عندنا هو القول الاوّل يعنى ذبايح الكتابي تاركا للتسمية عامدا او على غير اسم اللّه تعالى لا يؤكل ان علم ذلك يقينا او كان غالب حالهم ذلك و هو محمل النهى عن أكل ذبايح نصارى العرب و محمل قول على رضى اللّه عنه لا تأكلوا من ذبايح نصارى بنى تغلب فانهم لم يتمسكوا من النصرانية بشئ الا بشربهم الخمر فلعل عليا رضى اللّه عنه علم من حالهم انهم لا يسمون اللّه عند الذبح او يذبحون على غير اسم اللّه تعالى فكذا حكم نصارى العجم ان كان عادتهم الذبح على غير اسم اللّه تعالى غالبا لا يؤكل ذبيحتهم و لا شك ان النصارى فى هذا الزمان لا يذبحون بل يقتلون بالوقد غالبا فلا يحل طعامهم وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ

فان قيل النبىّ صلى اللّه عليه و سلم مبعوث الى كافة الناس بشريعة واحدة فما معنى لاختلاف الحل و الحرمة بالنسبة الى هؤلاء و هؤلاء-

قلت معناه ان من الأشياء ما هو حلال على كافة الناس من غير شرط كحل ماء البحر و منها ما هو مشروط حلها بشرائط كالصلوة مشروط جوازها بالوضوء و سائر العبادات مشروط إتيانها بالايمان باللّه و رسوله و اخلاص النية و أكل الأموال مشروط حلها بالملك او اذن من المالك فذبايح المؤمنين حلال على الكفار حتى لا يعذبون فى الاخرة بأكلها كما لا يعذبون بإتيان امور مباحة للعالمين إتيانها من غير شرط الايمان بخلاف ذبايح المجوس فانها كالميتة يحرم أكلها على سائر الناس فيعذب الكفّار بأكلها كما يعذبون بترك الايمان و ترك سائر الواجبات المتوقفة على الايمان و إتيان المنهيات قال اللّه تعالى ما سلككم فى سقر قالوا لم نك من المصلين الآية و فائدة هذا القول التفرقة بين ذبايح المسلمين و نسائهم فان ذبايح المسلمين حلال على كافة الناس من غير اشتراط الايمان بخلاف نسائهم فانه يشترط لحل مناكحتهم الايمان- قال الزجاج معناه حلال لكم ان تطعموهم فيكون خطاب الحل مع المسلمين و عبّر البيضاوي ما قال الزجاج بعبارة أصح و اصرح فقال فلا عليكم ان تطعموهم و تبيعوا منهم و لو حرم عليهم لم يجز ذلك و السر فى هذا المقام ما ذكرنا ان حل أكل ذبايح المؤمنين غير مشروط بالايمان بخلاف حل نسائهم و اللّه اعلم وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ عطف على الطيبات او مبتدا خبره محذوف يعنى حل لكم و الجملة معطوفة على قوله و طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم و ما بينهما اعتراض

قال البغوي اختلفوا فى معنى المحصنات فذهب اكثر العلماء الى ان المراد منهن الحرائر و أجاز و إنكاح كل حرة مؤمنة كانت او كتابية فاجرة كانت او عفيفة و هو قول مجاهد و قال هؤلاء لا يجوز نكاح الامة الكتابية لقوله تعالى فمما ملكت ايمانكم من فتياتكم المؤمنات جوز نكاح الامة بشرط الايمان و ذهب قوم الى ان المراد من المحصنات العفائف من الفريقين حرائركن او إماء و أجازوا نكاح الامة الكتابية و حرم البغايا من المؤمنات و الكتابيات و هو قول الحسن و قال الشعبي إحصان الكتابية ان تستعف من الزنا و تغتسل من الجنابة قلت و قول البغوي هذا مبنى على اعتبار المفهوم المخالف و هو غير معتبر عند ابى حنيفة رحمه اللّه و يقول بجواز نكاح الامة الكتابية الغير العفيفة ايضا لعموم قوله تعالى و أحل لكم ما وراء ذلكم و عند الشافعي رح المفهوم و ان كان معتبرا لكنه غير معتبر فى قوله تعالى و المحصنات من المؤمنات حيث يجوز نكاح الامة المؤمنة الفاجرة و لذلك

قال البيضاوي تخصيصهن بعث على ما هو اولى و إذا لم يعتبر فيه المفهوم فلا وجه لاعتباره فى قوله تعالى و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب و اللّه اعلم و عموم «١» هذه الاية يقتضى جواز نكاح الكتابية الحربية و عليه انعقد الإجماع و كان ابن عباس يقول لا يجوز نكاح الحربية و اللّه اعلم و كان ابن عمر يمنع نكاح الكتابية مطلقا حرة كانت او امة ذمية او حربية لاندراجها فى المشركات قال اللّه تعالى قالت اليهود عزير ابن اللّه و قالت النصارى المسيح ابن اللّه و قال اللّه تعالى و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن و فسّر ابن عمر المحصنات فى الآية بالمسلمات و هذا التفسير غير صحيح فان تفسير المحصنات بالمسلمات ليس من اللغة و قد انعقد الإجماع على حل نكاح الحرة الكتابية و انما الخلاف فى الامة الكتابية كما ذكرنا فى سورة النساء لكنه يكره نكاح الكتابية مطلقا اجماعا لاستلزام النكاح مصاحبة الكافرة و موالاتها و تعريض الولد على التخلق بأخلاق الكفار لاجل مصاحبة الام و موانستها قال ابن همام نكح حذيفة و طلحة و كعب بن مالك كتابيات فغضب عمر رضى اللّه عنه فقالوا انطلق يا امير

(١) و عن عمر رضى اللّه عنه انه قال المسلم يتزوج النصرانية و لا يتزوج المسلمة نصرانى ١٢.

المؤمنين و هذه القصة تدل على جواز النكاح حتى يترتب عليه الطلاق و على كراهته- (فائدة) روى الخلاف بين ابى حنيفة رحمه اللّه و صاحبيه رحمهما اللّه فى نكاح الصابيات جوزه ابو حنيفة رحمه اللّه زعما منه انهم يؤمنون بزبور داود عليه السلام فهم من اهل الكتاب و كذا من أمن بصحف ابراهيم و شيث عليهما السلام و لم يجوزه صاحباه زعما منهما انهم يعبدون الكواكب فهم من المشركين قال فى الهداية و هذا الخلاف محمول على اشتباه مذهبهم فكل أجاب على ما وقع عنده و لا خلاف فى الحقيقة- (مسئلة:) قال فى المستصفى قالوا هذا يعنى الحل إذا لم يعتقد النصراني المسيح الها و اما إذا اعتقده فلا و فى مبسوط شيخ الإسلام و يجب ان لا يؤكل ذبايح اهل الكتاب إذا اعتقدوا ان المسيح اله و ان عزيرا اله و لا يتزوج نسائهم قيل و عليه الفتوى و لكن بالنظر الى الدلائل ينبغى ان يحل الاكل و التزوج انتهى كلامه قال ابن همام و هو موافق لما فى رضاع مبسوط شيخ الإسلام فى ذبحة النصراني انه حلال مطلقا سواء قال بثالث ثلثه اولا و موافق لاطلاق الكتاب هنا قلت الظاهر ان المراد باهل الكتاب فى الاية موحد و هم بدليل قوله تعالى لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن و القول بان حكم حرمة نكاح المشركة منسوخ فى حق اهل الكتاب خاصة بهذه الاية بعيد جدا إذ لا فرق بين شرك و شرك و قوله تعالى قالت اليهود عزير ابن اللّه و قالت النصري المسيح ابن اللّه قد قيل ان القائل بذلك طائفتان من اليهود و النصارى انقرضوا كلهم قال ابن همام و يهود ديارنا مصرحون بالتنزيه عن ذلك و التوحيد و اما النصارى فلم ار الا من يصرح بالابنية لعنهم اللّه و ما ذكرنا من قول على رضى اللّه عنه فى منع أكل ذبيحة بنى تغلب و مناكحة نسائهم يؤيد ما

قلنا و اللّه اعلم إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ اى مهورهن و تقييد الحل بإتيانها لتاكيد وجوبها و الحث على الاولى و قيل المراد بإتيانها التزامها و ذلك بالنكاح فكانه قال إذا نكحتموهن مُحْصِنِينَ اى مريدين تحصين الفروج بالنكاح غَيْرَ مُسافِحِينَ اى غير مضيعين الماء بالزنا باى مزنية كانت بلا تعيين مزنية وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ صديقات معينات تزنون بهن و الخدن يقع على الذكر و الأنثى وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ اى بشرائع الإسلام فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ لان الايمان شرط لقبول الأعمال وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ قال ابن عباس خسر الثواب روى البخاري من طريق عمرو بن الحارث عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت سقطت قلادة لى بالبيداء و نحن داخلون المدينة فاناخ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و نزل فثنى راسه فى حجرى راقداوا قبل ابو بكر فلكزنى لكزة «١» شديدة و قال حبست الناس فى قلادة ثم ان النبي صلى اللّه عليه و سلم استيقظ و حضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد فنزلت.

(١) الكز الدفع بالكف ١٢ نهايه.

٦

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الاية فقال أسيد ابن حضير لقد بارك اللّه للناس فيكم يا ال ابى بكر و هذه الرواية مصرحة بان النازل فى قصة قلادة عائشة هذه الاية فى المائدة دون اية النساء و يعلم ان هذه الاية اسبق نزولا من اية النساء و الا لما عاتب ابو بكر عائشة بقوله انها حبست الناس لا على ماء و لا ماء معهم و ما شكرها أسيد بن حضير و روى الطبراني عنها نحوه و فيه فانزل اللّه رخصة التيمم فقال ابو بكر انك لمباركة و معنى إذا قمتم الى الصلاة اى إذا أردتم القيام الى الصلاة كقوله تعالى و إذا قرأت القران فاستعذ باللّه عبر عن ارادة الفعل بالفعل المسبب عنها للايجاز و التنبيه على ان من أراد العبادة فليبادر إليها بحيث لا ينفك الارادة عن الفعل و ظاهر الاية يوجب الوضوء على كل قائم الى الصلاة و ان لم يكن محدثا و الإجماع على خلافه و قد صح عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه صلى يوم الفتح الصلوات بوضوء واحد و مسح على خفيه و كان يتوضأ عند كل صلوة فقال له عمر لقد صنعت شيئا اليوم لم تكن تصنعه قال عمد اصنعته يا عمر رواه مسلم و اصحاب السنن الاربعة من حديث بريدة فاختلف العلماء فى تاويل هذه الاية فقال بعضهم الأمر فيه للوجوب و كان ذلك اوّل الأمر ثم نسخ و يدل عليه حديث عبد اللّه بن حنظلة بن عامر غسيل الملائكة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم امر بالوضوء عند كل صلوة طاهرا او غير طاهر فلما شق ذلك عليه امر بالسواك لكل صلوة رواه احمد و ابو داود و ابن خزيمة و ابن حبان فى صحيحهما و الحاكم فى المستدرك و قال بعضهم الأمر للندب و الإجماع منعقد على كون الوضوء مسنونا مندوبا عند كل صلوة و ان كان المصلى طاهرا و يدل على كونه مسنونا حديث انس قال كان النبىّ صلى اللّه عليه و سلم يتوضأ عند كل صلوة الحديث رواه النسائي و صححه و يدل على كونه مندوبا حديث ابن عمر ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال من توضأ على طهر كتب اللّه له عشر حسنات رواه النسائي بإسناد ضعيف و قيل هذا الحكم و ان كان مطلقا لفظا لكنه أريد به التقييد و معناه إذا قمتم الى الصلاة محدثين يدل عليه قوله صلى اللّه عليه و سلم لا يقبل اللّه صلوة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ رواه الشيخان فى الصحيحين و ابو داود و الترمذي عن ابى هريرة و قال زيد بن اسلم معنى الاية إذا قمتم الى الصلاة من النوم و قال بعضهم هذا اعلام من اللّه تعالى رسوله ان لا وضوء عليه الا إذا قام الى الصلاة دون غيرها من الأعمال فأذن له ان يفعل بعد الحدث ما شاء من الافعال غير الصلاة عن ابن عباس قال كنا عند النبي صلى اللّه عليه و سلم فرجع من الغائط فأتى بطعام فقيل له الا تتوضأ فقال أريد ان أصلي فاتوضأ رواه البغوي- (فائدة) الوضوء كان واجبا قبل نزول هذه الاية كما يدل عليه ما روى البخاري فى شأن نزول الاية من قصة فقد قلادة عائشة و لذا استعظموا نزولهم على غير ماء و قال ابن عبد البر معلوم عند جميع اهل المغازي انه صلى اللّه عليه و سلم لم يصل منذ فرضت الصلاة الا بوضوء و كان فرض الوضوء مع فرض الصلاة و الحكمة فى نزول اية الوضوء مع ما تقدم من العمل ليكون فرضه متلوا بالتنزيل قلت و لتمهيد التيمم و اللّه اعلم فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الغسل إمرار الماء عليه و لا يشترط فيه الدلك عند الائمة الثلاثة خلافا لمالك رح و هو محجوج بإطلاق الكتاب و الوجه اسم لعضو معلوم مشتق من المواجهة وحده من منأبت الشعر الى منتهى الذقن طولا و ما بين الأذنين عرضا فمن ترك غسل ما بين اللحية و الاذن لم يجز وضوئه عند الائمة الثلاثة خلافا لمالك رحمه اللّه و يجب إيصال الماء الى ما تحت الحاجبين و اهداب العينين و الشارب و اماما تحت اللحية فانكانت خفيفة يرى ما تحتها يجب غسله و ان كانت كثيفة لا يرى البشرة من تحتها يسقط غسل البشرة فى الوضوء كما يسقط مسح الراس بالشعر النابت عليه- و الدليل عليه اجماع الامة و فعل الرسول صلى اللّه عليه و سلم انه صلى اللّه عليه و سلم كان يغسل وجهه بغرفة واحدة رواه البخاري من حديث ابن عباس و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كث اللحية ذكره القاضي عياض و قرر ذلك فى أحاديث جماعة من الصحابة بأسانيد صحيحة و فى مسلم من حديث جابر كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كثير شعر اللحية قلت و لا يمكن إيصال الماء بغرفة واحدة الى تحت كل شعرة لمن كان كث اللحية و يجب غسل ظاهر اللحية كلها عوضا عن البشرة عند الجمهور كما فى مسح شعر الراس و به قال ابو حنيفة رحمه اللّه فى رواية قال فى الظهيرية و عليه الفتوى و قال فى البدائع ان ما عدا هذه الرواية مرجوع عنه و فى رواية عنه يجب مسح ربع اللحية و فى رواية مسح ثلث اللحية و فى رواية لا يجب مسح اللحية و لا غسلها و الحجة على وجوب غسل ظاهر اللحية كلها ان غسل البشرة سقط بالإجماع و سند الإجماع اما فعل النبي صلى اللّه عليه و سلم انه كان يغسل وجهه بغرفة و اما القياس على سقوط مسح الراس بالشعر النابت عليه و لا شك ان مستند الإجماع نصا كان او قياسا يدل على ان غسل ما تحت اللحية انما سقط لقيام الشعر مقامه و وجوب غسله بدلا عنه اما القياس فلان حكم الأصل ليس الا سقوط مسح الراس الى بدل و هو وجوب مسح الشعر فلابد ان يكون سقوط وظيفة الوجه اعنى الغسل ايضا الى بدل و هو وجوب غسل ما يستره من اللحية كيلا يلزم مزية الفرع على الأصل و اما الحديث فايضا يدل على انه صلى اللّه عليه و سلم كان يغسل وجهه بغرفة و لا شك انه كان يغسل اللحية فظهر ان الإجماع منعقد على قيام اللحية مقام الوجه و سقوط وظيفة الوجه الى بدل لا بلا بدل فثبت بذلك ان وظيفة الوجه و هو غسل تمامه ثابت فى بدله و هو اللحية و اللّه اعلم- وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ اليد اسم لعضو معلوم من الأنامل الى الآباط و لما جعل المرافق غاية الغسل سقط ما ورائه اى العضد و بقي غسل المرافق واجبا عند الائمة الاربعة و جمهور العلماء و حكى عن الشعبي و محمد بن جرير عدم وجوب غسل المرافق و به قال زفر رحمه اللّه لان كلمة الى للغاية و الغاية تكون خارجة عن حكم المغيا كما فى أتموا الصيام الى الليل او لان مذهب المحققين من علمآء العربية انها موضوعة لمطلق الغاية و اما دخولها فى الحكم او خروجها فلا دلالة لها عليه و انما يعلم من خارج و لا دليل هاهنا فلا يدخل بالشك

قلنا بل هاهنا دليل على كون الغاية داخلا فى حكم المغيا و هو الإجماع قال الشافعي رحمه اللّه فى الام لا اعلم مخالفا فى إيجاب دخول المرفقين فى الوضوء و ما حكى عن الشعبي و محمد بن جرير ان صح الرواية عنهما و كذا قول زفر رحمه اللّه لا يرفع اجماع من قبلهم و من بعدهم و لم يثبت عن مالك رحمه اللّه خروج المرفقين صريحا و انما حكى عنه اشهب كلاما محتملا و سند الإجماع فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو المبين لمجمل الكتاب روى الدارقطني بإسناد حسن من حديث عثمان فى الوضوء فغسل يديه الى المرفقين حتى مس أطراف العضدين و قال هكذا كان وضوء رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و روى ايضا من حديث جابر كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه لكن اسناده ضعيف و روى البزار و الطبراني من حديث وائل بن حجر مرفوعا و غسل ذراعيه حتى جاوز المرفقين و روى الطحاوي و الطبراني من حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه مرفوعا ثم يغسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه و لم يرو عن النبي صلى اللّه عليه و سلم و لا عن أحد من الصحابة انهم تركوا غسل المرافق و الكعاب فى الوضوء و ذلك دليل واضح لمعرفة معنى الكتاب و من ثم قال بعض المفسرين الى هاهنا فى الموضعين بمعنى مع كما فى قوله تعالى و يزدكم قوة الى قوتكم و قوله تعالى و لا تأكلوا أموالهم الى أموالكم و قوله تعالى من انصارى الى اللّه اى مع اللّه وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ اختلف العلماء فى القدر الواجب من مسح الراس بهذه الاية فقال مالك و احمد رحمه اللّه يجب مسح جميع الراس لان الراس اسم لعضو معلوم و الباء زائدة فاذا أمرنا بالمسح يجب استيعابها كما يجب استيعاب الوجه بالمسح فى التيمم و يدل عليه استيعابه صلى اللّه عليه و سلم روى عبد اللّه بن زيد ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مسح راسه بيديه فاقبل بهما و أدبر بمقدم راسه ثم ذهب بهما الى قفاه ثم ردّهما الى المكان الذي بدأ منه متفق عليه و قال ابو حنيفة رحمه اللّه و الشافعي رحمه اللّه الباء للالصاق لانه هو المعنى الحقيقي للباء اجمع عليه علماء العربية لا يصار عنه الا بدليل و هى تدخل على الوسائط غالبا و الوسائط لا تقصد استيعابها و لذلك إذا دخلت على المحل دلت على ان الاستيعاب غير مراد و يدل على ذلك فعله صلى اللّه عليه و سلم عن المغيرة بن شعبة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم توضأ فمسح بناصيته و مسح على الخفين و العمامة رواه مسلم و روى الشافعي رحمه اللّه عن عطاء مرسلا ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم توضأ فحسر العمامة و مسح مقدم راسه و هو مرسل اعتضد من وجه اخر روى موصولا أخرجه ابو داود من حديث انس و فى اسناده ابو معقل لا يعرف حاله

و اخرج سعيد بن منصور عن عثمان صفة الوضوء قال و مسح مقدم راسه و فيه خالد بن يزيد بن ابى مالك مختلف فيه قال الحافظ ابن حجر و صح عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الراس قاله ابن المنذر و غيره و لم يصح عن أحد من الصحابة انكار ذلك قاله ابن حزم و أحاديث الاستيعاب محمولة على الاستحباب لا ينفى عدم جواز الاكتفاء على البعض و لما ثبت ان مسح جميع الراس غير مراد فقال الشافعي رحمه اللّه فالمعنى و امسحوا بعض رءوسكم فالاية مطلق فيكفى من الرأس مسح شعرة او ثلث شعرات و قال ابو حنيفة رحمه اللّه بل الآية مجملة لان جميع الراس غير مراد بدلالة كلمة الباء و أحاديث المسح على مقدم الراس و لا مطلق البعض من الراس اى بعض كان لان ذلك يحصل فى ضمن غسل الوجه ضرورة استيعاب الوجه و إذا كانت الآية مجملة التحق حديث المغيرة و ما فى معناه بيانا لها فقلنا بوجوب مسح ربع الراس لان للراس اربعة جوانب مقدم الراس واحد منها وَ أَرْجُلَكُمْ قرأ نافع و ابن عامر و الكسائي و يعقوب و حفص بالنصب معطوف على ايديكم بقرينة ضرب الغاية لقوله تعالى إِلَى الْكَعْبَيْنِ فان الغاية لا يضرب فى الممسوح كالراس و أعضاء التيمم انما يضرب للمغسولات

و قرا الباقون بالجر لاجل الجوار كما فى قوله تعالى انى أخاف عليكم عذاب يوم اليم بالجر فى اليم على الجوار مع انه صفة لعذاب و هو منصوب و القول بان جر الجوار أنكره اكثر النحاة و من جوزه جوزه بشرط ان لا يتوسط حرف العطف و بشرط الا من من اللبس مدفوع إذا لا من من اللبس حاصل بذكر الغاية و انكار اكثر النحاة ممنوع و إنكاره مكابرة لوقوعه كثيرا فى القران و كلام البلغاء و ذكر الامثلة يقتضى تطويلا لكن اختلف النحاة فى مجئ جر الجوار بتوسط حرف العطف فقيل لا يجئ لان العاطف يمنع التجاوز و الحق انه يجوز بتوسط العاطف فان العاطف موضوع لتوكيد الوصل دون القطع قال ابن مالك و خالد الأزهري ان الواو يختص من بين سائر حروف العطف بأحد و عشرين حكما منها جواز جر الجوار فى المعطوف بها قلت و لو لم يكن على جواز جر الجوار بتوسط المعطوف بالواو دليل اخر فهذه الآية الدالة على وجوب غسل الرجلين بما ذكرنا من وجوه العطف على الأيدي و عدم جواز عطف الأرجل على الرؤوس و بما لحقه البيان من الأحاديث و الإجماع كافية لاثبات جواز جر الجوار بتوسط الواو العاطفة و اللّه اعلم و ايضا المراد بالكعبين هو المرتفع من العظم عند ملتقى الساق و القدم كما سيجئ تحقيقه و فرضية مسح القدم الى الكعبين لم يقل به أحد و ما قيل ان الكلام حينئذ يصير من قبيل ضربت زيدا و عمرا و أكرمت بكرا و خالدا على ارادة كون خالدا مضروبا عطفا على عمر الا مكرما باطل إذ لا قرينة هناك و لا مانع لعطف خالد على بكر و القول بان النصب مبنى على انه معطوف على محل الرؤوس او بنزع الخافض ساقط إذا الأصل فى المعرب العطف على اللفظ دون المحل و ذكر الخافض و لا بد للعدول من الأصل وجه و قرينة و كذا لا يجوز القول بتقدير امسحوا فان تقدير الفعل الخاص لا يجوز من غير قرينة تدل على تعيينه و يشترط فى جميع تلك التأويلات الا من عن التباس المعنى المقصود بما يناقضه و كذا القول بان الواو بمعنى مع باطل لان المصاحبة فى اصل الفعل غير كافية فى المفعول معه بل لا بد من المعية فى الزمان او المكان و المعية فى الزمان غير متصور فان الواجب اما الترتيب و اما مطلق الفعل و بوجوب المسحين فى مكان واحد لم يقل أحد و لو فرض كونه معطوفا على الرءوس بتلك التوجيهات الركيكة فالباء الداخلة على الرءوس تدخل على الآلات غالبا و إذا تدخل على المحل لا يراد بها الاستيعاب تشبيها له بالآلة بل يكون للتبعيض و من ثم ذهب اكثر الفقهاء الى فرضية مسح بعض الراس و تغير اسلوب الكلام فى المعطوف يقتضى ارادة الاستيعاب فى المعطوف و القائلون بمسح الرجلين لم يقل منهم أحد بفرضية استيعاب مسح الرجلين فوظيفة الأرجل الغسل و قالت الامامية و هو معطوف على رءوسكم و حقه الجر و للنصب ذكروا توجيهات ركيكة لنا ما روى ابن خزيمة و غيره من حديث عمرو بن عنبسة عنه صلى اللّه عليه و سلم مطولا فى فضل الوضوء و ذكر فيه ثم يغسل قدميه كما امره اللّه تعالى فهذه الحديث يدل على ان اللّه تعالى انما امر بالغسل و قد تواتر النقل عن النبي صلى اللّه عليه و سلم و روى أحاديث غسل الرجلين رجال لا يمكن حصرهم و لا يحتمل تواطؤهم على الكذب و لم يرو عنه صلى اللّه عليه و سلم المسح أصلا و اجمع عليه الصحابة و لم يثبت عن أحد منهم خلاف ذلك الا ما روى عن علىّ و ابن عباس و انس و قد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك هكذا قال الحافظ ابن حجر عن على رضى اللّه عنه انه قرا و أرجلكم قال عاد الى الغسل رواه سعيد بن منصور و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و عن ابى عبد الرحمن السلمى قال قرا الحسن و الحسين و أرجلكم الى الكعبين فسمع على ذلك و كان يقضى بين الناس فقال و أرجلكم هذا من المقدم و المؤخر من الكلام أخرجه ابن جرير عن ابى عبد الرحمن و قال قال عبد الرحمن بن ابى ليلى اجمع اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على غسل القدمين رواه سعيد بن منصور

و اخرج ابن ابى شيبة عن الحكم قال مضت السنة من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و المسلمين بغسل القدمين

و اخرج ابن جرير عن عطاء قال لم يجز أحد المسح على القدمين و ادعى الطحاوي و ابن حزم ان المسح منسوخ روى ابن جرير عن انس انه قال نزل القران بالمسح و السنة بالغسل و هذا القول يدل على ان ظاهر القران يدل على المسح لكن عمل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان الغسل و لا يمكن ذلك الا ان يكون المراد بالقران هو الغسل او كان حكم القران منسوخا و لنا ايضا حديث عبد اللّه بن عمر قال تخلف عنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى سفرة سافرناها فادركنا و قد راهقتنا الصلاة و نحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا قال فنادى بأعلى صوته ويل للاعقاب من النار متفق عليه و روى عن ابى هريرة انه مر بقوم يتوضأون فقال اسبغوا الوضوء فانى سمعت أبا القاسم صلى اللّه عليه و سلم يقول ويل للاعقاب من النار متفق عليه و قد روى ويل للاعقاب من النار جابر و عايشة و احتجوا بما رواه اويس بن ابى اويس قال رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم توضأ و مسح على نعليه ثم قام الى الصلاة و رواه ابو داود و قال على نعليه و قدميه

قلنا معناه مسح على نعليه اللتين عمت على قدميه فمسح عليهما كما يمسح على الخفين

فان قيل قد رواه هيثم عن يعلى و قال فيه توضأ و مسح على رجليه

قلنا قال احمد لم يسمع هيثم من يعلى و قد كان يدلس فلعله سمع عن بعض السفهاء ثم أسقط من البين او يقال معناه مسح على رجليه و هما فى الخفين و الكلام فى الكعبين كالكلام فى المرافق و قد مر و الكعب هو المرتفع من العظم عند ملتقى الساق و القدم هو الذي يعرفه اهل اللغة دون معقد الشراك و يدل على هذا إيراد لفظ التثنية فقال الكعبين و لم يقل الى الكعاب لان انقسام الآحاد على الآحاد انما يتصور عند مقابلة الجمع بالجمع دون التثنية بالجمع و إذا لم يمكن الانقسام وجب ان يكون فى كل رجل كعبان و معقد الشراك فى كل رجل واحد- (مسئلة:) يجزى المسح على الخفين عن غسل الرجلين عند الجمهور إذا لبسهما على طهارة كاملة فى الحضر و السفر خلافا لمالك رحمه اللّه فى الحضر و اما السفر فالروايات الصحيحة عنه انه يجوز المسح و منعت الامامية و ابو بكر بن داود المسح على الخفين مطلقا قال بعض المفسرين قراءة النصب يوجب غسل الرجلين عطفا على الأيدي و قراءة الجر يوجب مسحهما عطفا على رءوسكم و يحمل تلك القراءة على حالة كونهما فى الخفين «١» و القراءتان بمنزلة

(١) يقال كلما دخلت على الأمير قبلت على رجليه و قد كان يقبل على رجليه ان كانتا مكشوفتين و على خفيه إن كانتا فى الخفين و القول بانه لم يجز ذكر الخفين و ما دلت عليه قرينة ليس بمغنئ لان الآيتين او القراءتين إذا تعارضتا يجب الجمع بينهما و من وجوه الجمع حملهما على الحالين و لا يشترط ذكر الحالين فى الكلام و لا قيام القرينة الا ترى انهم حملوا قراءة التشديد فى قوله تعالى و لا تقربوهن حتى يطهرن فيما إذا كان انقطاع الدم قبل العشرة و قراءة التخفيف على كون الانقطاع لتمام العشرة و كون لبس الخفين فى زمن النبىّ صلى اللّه عليه و سلم نادرا ممنوع ١٢ منه دام بركاته [.....].

الآيتين يجوز ان يحمل أحدهما على المعنى الحقيقي و الاخرى على المعنى المجازى الا ترى ان التركيب و التقدير فى احدى القرائتين يغائر التركيب و التقدير فى الاخرى و لو لا هذا التأويل فالحجة للجمهور ان حديث جواز المسح على الخفين متواتر بالمعنى يجوز به نسخ الكتاب صرّح جمع من الحفاظ بان المسح على الخفين متواتر و جمع بعضهم رواته فجاوز الثمانين منهم العشرة المبشرة و روى ابن ابى شيبة و غيره عن الحسن البصري حدثنى سبعون من الصحابة بالمسح على الخفين قال ابو حنيفة رحمه اللّه ما قلت بالمسح حتى جاءنى فيه مثل ضوء النهار و عنه أخاف الكفر على من لم ير المسح على الخفين و قال احمد ليس فى قلبى من المسح شى ء فيه أربعون حديثا عن اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما رفعوا و ما وقفوا و ذكر منها حديثين أحدهما حديث المغيرة بن شعبة قال كنت مع النبي صلى اللّه عليه و سلم فى سفر فقال يا مغيرة خذ الاداوة فاخذتها فانطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتى توارى عينى فقضى حاجته فصببت عليه فتوضأ وضوئه للصلوة و مسح على خفيه ثم صلى متفق عليه و لهذا الحديث طرق كثيرة روى عنه من نحو ستين طريقا و ذكر ابن مندة منها خمسة و أربعين ثانيهما حديث جرير قال رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بال ثم توضأ و مسح على الخفين قال ابراهيم و كان يعجبهم هذا الحديث لان اسلام جرير كان بعد نزول المائدة متفق عليه و قال ابن عبد البر المالكي لا اعلم روى عن أحد من الفقهاء إنكاره الا عن مالك مع ان الروايات الصحيحة عنه مصرحة بإثباته و لم يرو عن أحد من الصحابة إنكاره الا عن ابن عباس و عائشة و ابى هريرة فاما ابن عباس و ابو هريرة فقد جاء عنهما بالأسانيد الحسان خلاف ذلك و موافقة ساير الصحابة و اما عائشة ففى صحيح مسلم عن شريح بن هانى قال سالت عائشة عن المسح على الخفين قالت عليك بابن ابى طالب فاساله فانه كان يسافر مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فسالناه فقال جعل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثلثة ايّام و لياليهن للمسافر و يوما و ليلة للمقيم رواه ابو داؤد و الترمذي و ابن حبان و روى الدارقطني عن عائشة اثبات المسح على الخفين و ما قيل ان عليا عليه السلام قال ما أبالي مسحت على الخفين او على ظهر حمارى باطل لا اصل له و ما قيل ان عائشة قالت لان اقطع الرجل بالموسى أحب الىّ من ان امسح على الخفين باطل نص عليه الحفاظ.

(مسئلة:) مدة المسح على الخفين للمسافر ثلثة ايام و لياليها و للمقيم يوم و ليلة لحديث ابى بكر أرخص للمسافر ثلثة ايّام و للمقيم يوما و ليلة إذا تطهر فلبس خفيه رواه الترمذي و صححه و رواه ابن خزيمة و ابن حبان و ابن الجارود و الشافعي رحمه اللّه و ابن ابى شيبة و البيهقي و الدارقطني و نقل البيهقي ان الشافعي رحمه اللّه صححه و فى حديث المغيرة كما مرّ و فيه قلت يا رسول اللّه الا انزع خفيك قال دعهما فانى أدخلتهما و هما طاهرتان و ثبت مدة المسح فى حديث على و صفوان بن عسال و عمرو بن الخطاب و عمرو بن ابى امية الضميري و ابى هريرة و خزيمة بن ثابت ذكرها ابن الجوزي فى التحقيق و سردناها فى منار الاحكام فهى حجة على مالك حيث لا يوقت للمسافر و يمنع المقيم كما روى عنه (مسئلة:) و لا يشترط فى الوضوء الترتيب و لا الموالاة عند ابى حنيفة رحمه اللّه و يشترط الترتيب عند الائمة الثلاثة و كذا الموالاة عند مالك و احمد رحمه اللّه و القول القديم للشافعى رحمه اللّه لنا ان فى الاية ورد العطف بالواو و هى لمطلق الجمع دون الترتيب فهى لا تدل على الترتيب و لا على الموالاة و روى ان على بن ابى طالب قال ما أبالي باى أعضائي بدأت احتجوا بحديث ابى بن كعب و ابن عمران رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم دعا بوضوء فتوضأ مرة مرة فقال هذا وضوء من لم يتوضأ لم يقبل اللّه له صلوة ثم توضأ مرتين مرتين فقال هذا وضوء من توضأ أعطاه اللّه كفلين من الاجر ثم توضأ ثلثا ثلثا فقال هذا وضوئي و وضوء المرسلين قبلى رواهما الدارقطني وجه الاحتجاج انه صلى اللّه عليه و سلم لا يخلو من انه توضأ مرتبا متواليا اولا لا جايز انه لم يرتب و لم يوال و الا لافترض ترك الترتيب و الموالاة و لم يقل به أحد فثبت انه رتب و والى فثبت انه لا يقبل اللّه الصلاة الا بهما و الجواب عنه بوجوه أحدها من حيث السند ان الحديثين ضعيفان فى حديث ابى بن كعب زيد بن ابى الجواري قال يحيى ليس بشئ و قال ابو ذرعة واهي الحديث و عبد اللّه بن عوادة قال يحيى ليس بشئ و قال البخاري منكر الحديث و فى حديث ابن عمر المسيب بن واضح ضعيف ثانيها من حيث المتن بالنقض و ذلك بان يقال لو صح الاستدلال بهذا الحديث على وجوب الترتيب لوجب بهذا الحديث اما التيامن او عدمه و السواك او عدمه و الاستنثار او عدمه لان فعله صلى اللّه عليه و سلم لا يخلو عن أحد الضدين من هذه الأمور و ثالثها و هو الحلّ ان المراد به الاكتفاء على مرة مرة ادنى مراتب الامتثال لا يقبل اللّه الصلاة الا به و قد يحتج على وجوب الترتيب بحديث عمرو بن عنبسة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ما منكم أحد يقرب وضوئه ثم يمضمض و يستنشق و يستنثر إلا خرت خطايا فمه و خياشيمه مع الماء ثم يغسل وجهه إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ثم يغسل يديه الى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أطراف أنامله مع الماء ثم يمسح راسه كما امره اللّه تعالى إلا خرت خطايا راسه من أطراف شعره مع الماء ثم يغسل قدميه الى الكعبين كما امره اللّه تعالى إلا خرت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء رواه مسلم و كذا روى عن ابى هريرة بلفظ ثم و هى للترتيب

قلنا هذا الحديث حكاية عما يفعل المتوضي غالبا و بشارة له بالمغفرة و لا يدل على عدم جواز الصلاة عند فوات الترتيب بل لا يدل على عدم المغفرة عند فواته و احتجوا على وجوب الموالاة بان رجلا توضأ للصلوة فترك موضع ظفر على ظهر قدمه فابصر النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال ارجع فاحسن وضوءك فرجع فتوضأ ثم صلى رواه من حديث عمر بن الخطاب و احمد و ابو داود و غيرهما من حديث انس و لا حجة فيه لان معنى قوله صلى اللّه عليه و سلم احسن وضوءك اى أتمم وضوءك بغسل هذا الموضع و لا يدل على الأمر باعادة الوضوء

فان قيل روى احمد حديث عمر بلفظ امره ان يعيد الوضوء

قلنا فيه ابن لهيعة ضعيف و كذا ما روى عن بعض ازواج النبي صلى اللّه عليه و سلم ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رأى رجلا يصلى و فى بعض ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصيها الماء فامره عليه السلام ان يعيد الوضوء ضعيف فيه بقية مدلس لا يصح حديثه ما لم يتابع عليه أحد و يدل على عدم اشتراط الموالاة ما رواه البخاري عن ميمونة فى صفة غسلرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قالت ثم تنحى عن مقامه فغسل قدميه و روى مالك عن نافع عن ابن عمر و الشافعي رحمه اللّه فى الام عن مالك ان ابن عمر توضأ فى سوق المدينة فدعى الى جنازة و قد بقي من وضوئه فرض الرجلين فذهب معهم الى المصلّى ثم مسح على الخفين و يذكر عن ابن عمر غسل القدمين بعد ما جف وضوئه و اللّه اعلم- (مسئلة:) و لا يشترط فى الوضوء النية عند ابى حنيفة رحمه اللّه و يشترط عند الائمة الثلاثة لانه عبادة بالإجماع و كل عبادة يشترط له النية بالنصوص و الإجماع قال اللّه تعالى و ما أمروا الا ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين و قال عليه السلام انما الأعمال بالنيات

قلنا الوضوء له اعتباران فباعتبار انه عبادة مكفرة للسيئات لا بد له من نية لما ذكرتم فان ثواب الأعمال انما هو بالنية و باعتبار انه مفتاح للصلوة و شرط من شروطها لا يشترط له النية كما لا يشترط لسائر شرائط الصلاة من ستر العورة و طهارة الاخباث و غيرها.

(مسئلة:) لا يشترط للوضوء التسمية و لا المضمضة و لا الاستنشاق عند الجمهور و قال احمد كل ذلك واجب ركن للوضوء اما التسمية فلقوله صلى اللّه عليه و سلم لا وضوء لمن لم يذكر اسم اللّه عليه رواه احمد و جماعة من الائمة من حديث كثير بن زيد عن رميح بن عبد الرحمن بن ابى سعيد الخدري عن أبيه عن جده و رواه الترمذي و جماعة من حديث سعيد بن زيد من طريق عبد الرحمن بن حرملة عن ابى ثقال عن رباح عن جدته عن أبيها و روى احمد و اصحاب السنن من حديث ابى هريرة من طريق يعقوب ابن سلمة عن أبيه عنه و فى بعض ألفاظه من توضأ و ذكر اسم اللّه فانه طهر جسده كله و من توضأ و لم يذكر اسم اللّه لم يطهر الا موضع الوضوء رواه الدارقطني عنه و عن ابن مسعود و ابن عمر و لحديث عائشة كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقوم الى الوضوء فيسمى اللّه عز و جل رواه الترمذي و ابن ابى شيبة و ابن عدى و حديث خصيف قال توضأ رجل عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و لم يسم فقال أعد وضوءك ثم توضأ و لم يسم فقال أعد وضوءك ثلث مرات ثم توضأ و سمى فقال الان خيرا أصبت وضوءك و الجواب ان حديث خصيف موضوع لا اصل له و باقى الأحاديث كلها ضعاف قال ابو بكر الأثرم سمعت احمد بن حنبل يقول ليس فى هذا شى ء يثبت و أحسنها حديث كثير بن زيد و كثير ضعيف و كذا عبد الرحمن بن حرملة قال ابو حاتم لا يحتج به و لينه البخاري و ابو ثقال و رباح مجهولان وجدة رباح راوية هذا الحديث عن سعيد بن زيد لا يعرف اسمها و لا حالها و كذا قال ابو حاتم و ابو ذرعة و يعقوب بن سلمة هو الليثي قال البخاري لا يعرف له سماع من أبيه و لا لابيه من ابى هريرة و اما حديث عائشة ففى اسناده حارثة عن محمد و هو ضعيف قال الحافظ ابن حجر و فى الباب حديث على رواه ابن عدى و قال اسناده ليس بمستقيم و حديث انس رواه عبد الملك و هو شديد الضعف و حديث ابن عمر و فيه ابو بكر الداهر و هو متروك و حديث ابن مسعود و فيه يحيى بن هاشم الشمشاد متروك و روى مرسلا عن ابان و هو مرسل ضعيف فالحاصل ليس فى الباب حديث صحيح و من ثم قال احمد لا امره بالاعادة فارجوا ان يجزيه الوضوء لكن احمد يقدم الحديث الضعيف على القياس لا سيما هذه الأحاديث بالاجتماع و الاعتضاد تدل على ان لها أصلا و استدلوا ايضا على وجوب البسملة بحديث ابى هريرة مرفوعا كل امر ذى بال لم يبدأ ببسم اللّه فهو اجزم

قلنا هذا الحديث لا يدل على الوجوب و الا لكان الحمد ايضا واجبا لورود الحديث فيه ايضا بمعناه ثم هذه الأحاديث معارض بحديث ابى جهيم قال اقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من نحو بيرجمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه حتى اقبل على الجدار فمسح بوجهه و يديه ثم رد عليه متفق عليه فان هذا الحديث يدل على انه صلى اللّه عليه و سلم كره ان يذكر لفظ السلام و هو من اسماء اللّه تعالى على غير طهر فذكر اللّه تعالى بالتسمية قبل الوضوء اولى بالكراهة و لو سلمنا أحاديث الأمر بالتسمية فهى محمولة على الندب و المراد نفى الوضوء على وجه الكمال و اما المضمضة و الاستنشاق فدليل وجوبهما حديث عائشة رضى اللّه عنها و ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال المضمضة و الاستنشاق من الوضوء الذي لا بد منه او لا يتم الوضوء الا بهما و حديث ابى هريرة امر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بالمضمضة و الاستنشاق روى الأحاديث الثلاثة الدارقطني و الجواب ان حديث عائشة فيه سليمان بن موسى قال البخاري عنده مناكير و قال النسائي ليس بالقوى و حديث ابن عباس فيه جابر الجعفي كذبه أيوب السجستاني و زائدة و قال النسائي متروك و اما حديث ابى هريرة فقال الدارقطني لم يسنده غير هدبة و داؤة بن المحبر عن حماد عن عمار بن ابى عمار عنه و غيرهما يرويه عن عمار مرسلا و أجاب ابن الجوزي بان هدبة ثقة اخرج عنه فى الصحيحين و الرفع زيادة و من الثقة مقبولة ثم المرسل ايضا حجة و قد يحتج على وجوب الاستنشاق بحديث ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخره من الماء ثم ليستنثر رواه مسلم و فى بعض طرقه فليجعل فى انفه ماء ثم ليستنثر متفق عليه قال ابن الجوزي قد روى نحوه عن عثمان بن عفان و سلمان بن قيس و مقدام بن معد يكرب و روى احمد و ابو داؤد و الحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا استنثروا مرتين بالغتين او ثلثا و لابى داؤد الطيالسي إذا توضأ أحدكم فليستنثر و ليفعل ذلك مرتين او ثلثا و اسناده حسن

قلنا الأمر بالمضمضة و الاستنشاق و الاستنثار محمول على الاستحباب لا سيما عند اقترانه بالاستنثار الذي هو ليس بواجب اجماعا و قد روى عن ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه قال من توضأ فليستنثر من فعل فقد احسن و من لا فلا حرج ثم على اصل ابى حنيفة رحمه اللّه الأحاديث التي تدل على وجوب التسمية او المضمضة او الاستنشاق او غير ذلك فى الوضوء لو فرضنا صحتها لا يجوز بها الزيادة على الكتاب لان الزيادة على الكتاب عنده فى حكم النسخ لان مقتضى الآية صحة الصلاة عند الاقتصار على الأركان الاربعة و لا يجوز نسخ الكتاب بحديث الآحاد فلا يجوز الزيادة على الكتاب بحديث الآحاد و اللّه اعلم- (فصل) و سنن الوضوء النية و البداية بغسل اليدين الى الرسغين ثلثا و المضمضة و الاستنشاق و الاستنثار ثلثا ثلثا و تثليث غسل المغسولات و مسح كل الراس مرة و الترتيب و الموالاة لحديث عبد اللّه بن زيد قيل له توضأ لنا وضوء رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فدعا باناء فاكفأ منه على يديه فغسلهما ثلثا فمضمض و استنشق من كف واحدة ففعل ذلك ثلثا فغسل وجهه ثلثا فغسل يديه الى المرفقين مرتين مرتين فمسح برأسه فاقبل بيديه و أدبر ثم غسل رجليه الى الكعبين ثم قال هكذا كان وضوء رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم متفق عليه و فى رواية فمضمض و استنشق و استنثر ثلثا بثلث غرفات و فى حديث على تمضمض ثلاثا و استنشق ثلثا و غسل وجهه ثلثا و ذراعيه ثلثا و مسح برأسه مرة ثم غسل قدميه الى الكعبين ثم قام فاخذ فضل طهوره فشرب و هو قائم ثم قال أحببت ان أريكم كيف كان طهور رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رواه الترمذي و النسائي قال الدارقطني لم يرو عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انه توضأ وضوء لم يدع فيه أحدا من هذه الثلاثة يعنى النية و الترتيب و الموالاة و قال الشافعي رحمه اللّه فى أحد قوليه و احمد رحمه اللّه ان السنة مسح الراس ثلثا و قد صح من حديث عثمان و على و عبد اللّه بن زيد و سلمة ابن الأكوع و انس و معاذ بن جبل و براء بن عازب و عبد اللّه بن عمرو ابن عبّاس انه مسح راسه مرة احتجوا بحديث عثمان انه صلى اللّه عليه و سلم توضأ ثلثا ثلثا رواه البخاري و حديث على مثله رواه الترمذي

قلنا قوله توضأ ثلثا يعود الى تثليث ما يحصل به الوضاءة و هو الغسل قال ابو داؤد أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على ان مسح الراس مرة واحدة و ما ورد فى بعض ألفاظ حديث على توضأ و مسح برأسه و اذنيه ثلثا فنحمله على تثليث إمرار اليد من غير أخذ ماء جديد لكل مرة جمعا بين الأحاديث و حينئذ يعد المسح مرة واحدة كما ورد فى حديث عبد اللّه بن زيد مسح راسه بيديه فاقبل بهما و أدبر بمقدم راسه ثم ذهب بهما الى قفاه ثم ردهما الى المكان الذي بدأ منه و اللّه اعلم- و منها مسح الأذنين لحديث ابى امامة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال الأذنان من الراس و كان يمسح راسه مرة ............ و كان يمسح الماقين رواه احمد و اصحاب السنن و الحديث يدل على المواظبة و حديث مقدام بن معد يكرب مرفوعا توضأ فادخل إصبعيه فى حجرى اذنيه رواه النسائي و ابن ماجة و حديث على توضأ و مسح برأسه و اذنيه ثلثا و قال هكذا كان وضوء رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم

فان قيل ليس فى كثير من الأحاديث ذكر الأذنين

قلنا إذا ثبت المواظبة بحديث ابى امامة و على فعدم ذكر غيرهما لا ينتهض دليلا على النفي و لعل من لم يذكر مسح الأذنين اكتفى بذكر مسح الرأس بناء على قوله صلى اللّه عليه و سلم الأذنان من الراس و منها تخليل اللحية لحديث عثمان ان النبي صلى اللّه عليه و سلم كان يخلل لحيته رواه الترمذي و ابن ماجة و ابن خزيمة و الحاكم و ابن حبان و فى الباب حديث ابن عمر رواه ابن ماجة و الدارقطني و البيهقي و صححه ابن السكن و منها ان يدلك عارضيه بعض الدلك لحديث ابن عمر كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عرك عارضيه بعض العرك رواه ابن ماجة و الدارقطني و صححه ابن السكن و الحديث حسن- (فصل) و يستحب البداية بالتسمية لما ذكرنا من الأحاديث و حملناه على الندب و التيامن و كان القياس كونها سنة و لم يقل العلماء بسنيته لان مواظبته صلى اللّه عليه و سلم كان على سبيل العادة دون العبادة لحديث عايشة قالت كان النبىّ صلى اللّه عليه و سلم يحب التيامن ما استطاع فى شانه كله فى طهوره و ترجله و تنعّله متفق عليه و قال عليه السلام إذا توضأوا فابدءوا بميامنكم رواه احمد و ابو داود و غيرهما و إذا فرغ من الوضوء يستحب ان يقول اشهد ان لا اله الا اللّه وحده لا شريك له و اشهد ان محمدا عبده و رسوله اللّهم اجعلنى من التوابين و اجعلنى من المتطهرين- روى مسلم من حديث عقبة بن عامر عن عمر من توضأ فقال اشهد ان لا اله الا اللّه الى قوله رسوله فتحت له أبواب الجنة يدخلها من ايها شاء و رواه الترمذي من وجه اخر و زاد فيه اللّهم اجعلنى إلخ او يقول سبحانك اللّه و بحمدك اشهد ان لا اله الّا أنت استغفرك و أتوب إليك و يصلى ركعتين رواه ابن ماجة من حديث انس و النسائي و الحاكم من حديث ابى سعيد بلفظ من توضأ فقال سبحانك إلخ كتب فى رق ثم طبع بطابع فلم يكسر الى يوم القيامة و صحح النسائي الموقوف و المرفوع ضعيف لكن الموقوف له حكم الرفع-

(مسئلة) السواك سنة مؤكدة فى نفسه روى البخاري من حديث انس مرفوعا أكثرت عليكم فى السواك و مسلم من حديث عائشة كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا دخل بيته يبدأ بالسواك و الطبراني و البيهقي من حديث امّ سلمة ما زال جبرئيل يوصينى بالسواك حتى خشيت ان يدردنى «١» و ورد نحوه من حديث سهل بن سعد و ابى امامة و جبير بن مطعم و ابى الطفيل و ابن عبّاس و المطلب و عائشة و انس فى كتب الحديث و هذا يدل على كمال المواظبة خصوصا للمستيقظ فانه صلى اللّه عليه و سلم كان إذا قام من النوم استاك متفق عليه و يستحب السواك عند كل صلوة قال عليه السلام لو لا ان أشق على أمتي لامرتهم بالسواك عند كل صلوة رواه مسلم و ابو داود و عن عائشة مرفوعا فضل الصلاة التي يستاك بها على الصلاة التي لا يستاك بها سبعين ضعفا رواه احمد و ابن خزيمة و الحاكم و غيره و ليست السواك من سنن الوضوء لانه روى عن عثمان و على و عبد اللّه ابن زيد و غيرهم فى صفة الوضوء أحاديث كثيرة لم يرو عنهم السواك كما روى المضمضة و الاستنشاق و اللّه اعلم وَ إِنْ كُنْتُمْ وقت قيامكم الى الصلاة جُنُباً قد مر تفسيره فى سورة النساء

(١) الادراد إسقاط الأسنان ١٢.

فَاطَّهَّرُوا امر بالمبالغة فى التطهير فيجب غسل سائر البدن و يجب المضمضة و الاستنشاق ايضا امتثالا للمبالغة بالتطهير فان باطن الفم و الخيشوم ظاهر البدن من وجه إذا انفتح و باطنه إذا انضم فالحقنا فى الغسل بالظاهر رعاية للمبالغة و قال مالك و الشافعي رحمهما اللّه هما سنتان فى الغسل ايضا كما فى الوضوء لحديث أم سلمة قالت قلت يا رسول اللّه انى امراة أشد ضفر راسى فانقضه لغسل «١» الجنابة قال لا انما يكفيك ان تحثى على راسك ثلث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين رواه مسلم

قلنا انها سالت عن كيفية غسل الراس هل ينقض شعرها أم لا فورد جوابها من غير تعرض للمضمضة و الاستنشاق نفيا و لا اثباتا فلا حجة فيه- (مسئلة:) و يجب ايضا إيصال الماء فى الغسل الى اصول شعر الراس على الرجل و المرأة و كذا غسل باطن اللحية خلافا لمالك و الشافعي رحمهما اللّه فى رواية له القياس على الوضوء وجه الفرق عندنا الأمر بالمبالغة فى التطهير فى الغسل دون الوضوء و قوله صلى اللّه عليه و سلم انقوا البشر و حديث على سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول من ترك موضع شعرة من جنابة لم يصبها الماء فعل اللّه به كذا و كذا من النار قال على فمن ثم عاديت شعرى رواه ابو داؤد و ابن ماجة و اسناده صحيح و ما قيل الصواب وقفه

قلنا الرفع زيادة و الزيادة من الثقة مقبولة ثم الموقوف فى الباب له حكم الرفع لان عذاب الاخرة لا يدرك بالرأي و عن ابى ايّوب مرفوعا أداء الامانة غسل الجنابة فان تحت كل شعرة جنابة رواه ابن ماجه و اسناده ضعيف و فى الصحيحين عن عائشة فى صفة غسله صلى اللّه عليه و سلم ثم يدخل أصابعه فى الماء فيخلل بها اصول شعره و عن عائشة ان اسماء سالت النبي صلى اللّه عليه و سلم عن غسل المحيض فذكر الحديث و فيه فيدلك دلكا شديدا حتى يبلغ شؤن راسها رواه مسلم و فى الباب حديث ابى ذر إذا وجدت الماء فامسس بشرتك رواه احمد- (مسئلة:) و لا يجب الدلك عند الجمهور خلافا لمالك رحمه اللّه لنا قوله تعالى

(١) اخرج ابن ابى شيبة عن ابن عمر قال كنا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاتاه رجل جيد الثياب طيب الريح حسن الوجه فقال يا رسول اللّه ما الإسلام قال تقيم الصلاة و توتى الزكوة و تصوم رمضان و تحج البيت و تغتسل من الجنابة قال صدقت

و اخرج عبد بن حميد عن وهب الزمارى قال مكتوب فى الزبور من اغتسل من الجنابة فانه عبدى حقا و من لم يغتسل من الجنابة فانه عدوى حقا ١٢ منه.

حتى تغتسلوا و الاغتسال اسالة الماء و الدلك امر خارج من مفهومه و حديث جبير قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم امّا انا فاخذ ملأ كفى من الماء فاصب على راسى ثم أفيض بعد على سائر جسدى متفق عليه و ليس فى شى ء من أحاديث الغسل ما يدل على وجوب الدلك- (مسئلة:) و لا يجب على المرأة نقض الظفائر و غسل فروع الشعر اجماعا و اما على الرجل فنقض الظفائر و غسل فروع الشعر من الرأس و اللحية واجب بالإجماع و كان القياس وجوب غسل فروع الشعر بنقض الظفائر على الفريقين نظرا للامر بالمبالغة فى التطهير لكن سقط غسل فروع الشعر عن المرأة للحرج اللازم لها دونه كما دل عليه حديث أم سلمة المذكور و روى مسلم عن عبيد بن عمير قال بلغت عائشة ان عبد اللّه بن عمر يأمر النساء إذا اغتسلن ان ينقضين رؤسهن قالت أ فلا يأمرهن ان يحلقن رؤسهن لقد كنت اغتسل انا و رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من اناء واحد فما أزيد على ان افرغ على راسى ثلث فرغات و لم يسقط غسل فروع الشعر للرجال عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر و انقوا البشر رواه ابو داود و الترمذي و ابن ماجة و البيهقي لكنه ضعيف مداره على الحارث بن دحية و هو ضعيف جدا قال الدارقطني انما يروى هذا عن مالك بن دينار مرسلا و كذا رواه سعيد بن منصور عن هشيم عن يونس عن الحسن مرسلا و قال ابن الجوزي انما يروى هذا من قول ابى هريرة فهو مرسل صحيح و حديث موقوف صحيح و الحديث المتصل المرفوع ضعيف و المرسل حجة لاسيما عند الاعتضاد بالمسند و الأثر- (فصل) و السنة فى الغسل النية و الموالاة و ان يتوضأ الا رجليه ثم يفيض الماء على بدنه ثم يغسل رجليه لا فى المستنقع اما النية فالخلاف فيه كما فى الوضوء و قد مر و اما الموالاة فلمواظبته عليه السلام و اما باقى السنن فلحديث ميمونة قالت وضعت للنبىّ صلى اللّه عليه و سلم غسلا فاغتسل من الجنابة فاكفأ الإناء بشماله على يمينه فغسل كفيه ثلثا ثم أفاض على فرجه ثم مضمض و استنشق و غسل وجهه ثلثا و ذراعيه ثلثا ثم أفاض على راسه ثلثا ثم أفاض على سائر جسده الماء ثم تنحى فغسل رجليه متفق عليه و عن عائشة قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا غسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم توضأ كما يتوضأ للصلوة ثم يدخل أصابعه فى الماء فيخلل بها اصول شعره ثم يفيض الماء على جلده كله متفق عليه- (فائدة) و ازالة النجاسة الحقيقية عن بدنه انكانت فواجبة و لذا لم تذكر من سنن الغسل كما لم تذكر الاستنجاء من سنن الوضوء و تثليث غسل سائر البدن لم يظهر لى عليه دليل و اللّه اعلم وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ قد مر تفسيره فى سورة النساء زاد اللّه تعالى فى هذه السورة قوله مِنْهُ اى من الصعيد

قال البغوي فيه دليل على انه يجب مسح الوجه و اليدين بالصعيد و هو التراب قلت هذا مبنى على ان كلمة من للتبعيض و من هاهنا قال ابو يوسف و غيره لا يجوز التيمم على شى ء من جلس الأرض بلا نقع عليه و عن محمد رح روايتان

قلنا المحققون من اهل العربية على ان أصلها لابتداء الغاية و كونها للتبعيض او البيان موقوف على القرينة قال المحقق التفتازانيّ و هو من الشافعية ذهب بعض الفقهاء يعنى من الشافعية ان من اصل وضعها للتبعيض دفعا للاشتراك و هذا ليس بسديد لاطباق ائمة اللغة على انها حقيقة فى ابتداء الغاية انتهى كلامه قلت و معنى التبعيض هاهنا لا يصح لان ضابطة التبعيض جواز وضع لفظ البعض موضعها و ذالا يتصور لان المسح إمرار اليد فمعنى قوله تعالى فامسحوا بوجوهكم الاية امرروا ايديكم ملصقا بوجوهكم و ايديكم و هذا كلام تام لا يستدعى مفعولا به اخر حتى تجعل بعض الأرض مفعولا به

فان قيل قال صاحب الكشاف قولهم انها لابتداء الغاية تعسف و لا يفهم أحد من العرب من قول القائل مسحت برأسي من الدهن او من الماء او من التراب الا معنى التبعيض

قلنا فى الامثلة التي ذكر صاحب الكشاف انما يفهم التبعيض بالقرينة العقلية لا من كلمة من فان إمرار اليد ملصقا بالرأس مبتديا امراره عن الدهن او الماء او التراب يقتضى عند العقل تلطخ اليد ببعض هذه الأشياء لا باللفظ و اما لو قيل مسحت برأسي من الصخرة لا يفهم منه معنى التبعيض البتة بل يفهم معنى الابتداء كما لا يخفى و إذا ثبت ان من لابتداء الغاية ثبت جواز التيمم على الصخرة بلا نقع و اللّه اعلم ما يُرِيدُ اللّه بالأمر بالوضوء و الغسل و التيمم لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ من ضيق وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ من الأحداث و من الذنوب كما روينا من حديث عمرو بن عنبسة قوله صلى اللّه عليه و سلم ما منكم أحد يقرب وضوئه ثم يمضمض و يستنشق إلا خرت خطايا فمه و خياشيمه مع الماء الحديث و روى البغوي عن عثمان انه توضأ ثلثا ثلثا ثم قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول من توضأ وضوئي هذا خرجت خطايا من وجهه و يديه و رجليه وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بشرعية ما هو مطهر لا بد انكم و مكفر لذنوبكم و مفتاح لصلوتكم التي هو معراج لكم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تمام النعمة دخول الجنة و الفوز من النار رواه احمد و ابن ابى شيبة و الترمذي من حديث معاذ بن جبل و عن ابى هريرة قال انى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ان أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من اثار الوضوء فمن استطاع منكم ان يطيل غرّته فليفعل رواه البخاري و اللام فى المواضع الثلاثة مزيدة و ان بعدها مقدرة و المصدر مفعول به ليريد و ضعّف البيضاوي هذا التأويل مع كونه اظهر أخذا من عبارة الكافية حيث قال يقدر ان بعد لام كى و لام الجحود و

قال البيضاوي ان لا يقدر بعد المزيدة و قد صرح الرضى و صاحب الكشاف بالتقدير فى أمثاله مع كونها زائدة و فى التسهيل و يظهر ان و يضمر بعد لام الجر الغير الجحودية و

قال البيضاوي فى تاويل الاية ان مفعول يريد فى الموضعين محذوف و اللام للعلة و المعنى ما يريد اللّه الأمر بالطهارة تضييقا عليكم و لكن يريد الأمر المذكور ليطهركم و ليتم نعمته عليكم و لا شك ان بعد ورود الأمر بيان علة ارادة الأمر دون الأمر مستبعد جدا و اللّه اعلم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمته.

٧

وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ بإرسال الرسول و إنزال الكتاب و التوفيق للاسلام و سائر النعم ليذكركم المنعم و يرغبكم فى شكره عز و جلّ وَ مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ الذي اخذه على المسلمين حين بايعهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على السمع و الطاعة فى العسر و اليسر و المنشط و المكره أخرجه البخاري و مسلم من حديث عبادة بن الصامت او ميثاق ليلة العقبة الذي اخذه من الأنصار رواه البخاري و غيره او ميثاق بيعة الرضوان فى الحديبية كما نطق به القران

و قال مجاهد و مقاتل يعنى الميثاق الذي أخذ على العلمين حين أخرجهم من صلبادم إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا بيان للميثاق وَ اتَّقُوا اللّه فى نسيان العامة و نقض ميثاقه إِنَّ اللّه عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ من خطراتكم من الخير و الشر فضلا عن ظواهر أعمالكم فيه وعد و وعيد و اللّه اعلم.

٨

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للّه شُهَداءَ على أنفسكم و احبتكم بِالْقِسْطِ بالعدل و الصدق وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا جرم يجرم بمعنى كسب كاجترم يقال جرم لاهله كذا فى القاموس و عدى بعلى بتضمين فعل يتعدى به كانه قيل و لا يحملنكم شدة بغضكم لقوم مشركين على ترك العدل فيهم فتعتدوا عليهم بكسب ما لا يحل لكم منهم كالمثلة و القذف و قتل النساء و نقض العهد تشفيا لما فى قلوبكم على مقتضى اهوائكم اعْدِلُوا امر بالعدل و هو ضد الجور بعد النهى عن تركه تأكيدا هُوَ اى العدل أَقْرَبُ لِلتَّقْوى اى اقرب الى التقوى من غيره فان التقوى عبارة عن وقاية نفسه و قواه الظاهرة و الباطنة عن إتيان ما كره اللّه فى الدنيا حتى يكون ذلك وقاية لنفسه عن عذاب اللّه و سخطه فى الاخرة و مرجع العدل و الجور الى حقوق الناس و رعاية حقوق الناس أهم و ادخل فى التقوى و لذلك قال هو اقرب للتقوى وَ اتَّقُوا اللّه فيما امر و نهى إِنَّ اللّه خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فيجازيكم به فيه وعد و وعيد و تكرير هذا الحكم اما لاختلاف السبب كما قيل الاولى نزلت فى المشركين و هذه فى اليهود او لمزيد الاهتمام بالعدل و المبالغة فى اطفاء نائرة العقب.

٩

وَعَدَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ الجملة فى موضع المفعول الثاني من وعد لان الوعد نوع من القول فيقع على الجملة او هى مستانفة و المفعول الثاني لوعد محذوف يدل عليه هذه الجملة و جاز ان يكون الصالحات ثانى مفعولى وعد اى وعد المثوبات الصالحات و مفعول عملوا محذوف لظهور ان اعمال المؤمن انما هو ما آمن بحسنه.

١٠

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ يعنى لا يفارقونها هذا من قبيل عطف المعمولين على المعمولين السابقين على تقدير كون جملة لهم مغفرة فى موضع النصب على المفعولية و المعنى وعد اللّه المؤمنين بهذا القول و الكافرين بهذا القول و جاز ان يكون الموصول مبتدأ خبره أولئك اصحاب الجحيم و الجملة معطوفة على الجملة الاسمية السابقة و كلاهما مفعول ثان لوعد يعنى ان اللّه وعد المؤمنين بمغفرتهم و إهلاك أعدائهم و جاز ان يكون الذين كفروا معطوفا على الذين أمنوا و موعودهم محذوف يدل عليه أولئك اصحب الجحيم على تقدير حذف مفعول وعد فى الاول و جعل جملة لهم مغفرة مستانفة دليلا على المحذوف و يجوز ان يكون هذا كلاما مستانفا و الواو للاستيناف و من عادته سبحانه ذكر حال أحد الفريقين بعد ذكر الفريق الاخر لا تمام مقام الدعوة و اللّه اعلم-

قال البغوي قال مجاهد و عكرمة و الكلبي و ابن بشار عن رجاله انه بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المنذر بن عمر و الساعدي و هو أحد نقباء ليلة العقبة فى ثلثين ركبا من المهاجرين و الأنصار الى بنى عامر بن صعصعة فخرجوا و لقوا عامر بن الطفيل على بيرمعونة و هى من مياه بنى عامر و اقتتلوا فقتل المنذر و أصحابه الا ثلثة نفر كانوا فى طلب ضالة لهم أحدهم عمرو بن امية الضميري فلم يرعهم الا و الطير تحوم فى السماء يسقط من بين خراطيمها علق الدم فقال أحد النفر قتل أصحابنا ثم تولى يشتد حتى لقى رجلا فاختلفا ضربتين فلما خالطته الضربة رفع راسه الى السماء و فتح عينيه و قال اللّه اكبر الجنة و رب العلمين و رجع صاحباه فلقيا رجلين من بنى سليم و بين النبي صلى اللّه عليه و سلم و بين قومهما موادعة فانتسبا لهما ال بنى عامر فقتلاهما و قدم قومهما الى النبي صلى اللّه عليه و سلم يطلبون الدية فخرج النبي صلى اللّه عليه و سلم و ابو بكر و عمر و عثمان و على و طلحة و عبد الرحمن بن عوف حتى دخلوا على كعب ابن الأشرف و بنى النضير يستعينهم فى عقلهما و كانوا عاهدوا النبي صلى اللّه عليه و سلم على ترك القتال و على ان يعينوا فى الديات فقالوا نعم يا أبا القاسم قد ان لك ان تأتينا و تسالنا حاجة اجلس حتى نطعمك و نعطيك ما تسالنا فجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فخلا بعضهم ببعض فقالوا انكم لم تجدوا محمدا اقرب منه الان فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا فقال عمرو بن جحش انا فجاء الى رحا عظيمة ليطرحها عليه فامسك اللّه أيديهم و جاء جبرئيل و أخبره فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم راجعا الى المدينة ثم دعا عليّا و قال لا تبرح مقامك فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عنى فقل توجه الى المدينة ففعل ذلك على حتى تناثلوا اليه ثم اتبعوه فانزل اللّه تعالى.

١١

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ الآية ذكر القصة بطولها ابن إسحاق و ابن عمرو و ابن سعد و ذكروا فيها ان سلام بن مشكم نهاهم عن ذلك و قال لئن فعلتم ليخبرن بانا قد غدرنا به و ان هذا نقض للعهد الذي بيننا و بينه فلا تفعلوا

و اخرج ابن جرير عن عكرمة و يزيد بن زياد و نحوه عن عبد اللّه بن ابى بكر و عاصم بن عمر بن قتادة و مجاهد و عبد اللّه بن كثير و ابى مالك ان النبي صلى اللّه عليه و سلم خرج و معه ابو بكر الحديث كما ذكر البغوي و لم يذكر قصة قتل المنذر أصحابه

و اخرج ابو نعيم فى الدلائل عن ابن عباس و ابن إسحاق و البيهقي فى الدلائل عن يزيد بن رومان و الذي فى روايتهم ان المقتولين عبدان الا انهما كانا مسلمين

و اخرج ابن جرير عن قتادة قال ذكر لنا ان هذه الاية نزلت و رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ببطن نخل فى الغزوة السابعة فاراد بنو ثعلبة و بنو محارب ان «١» يفتكوا به و بأصحابه إذا اشتغلوا بالصلوة فاطلعه اللّه تعالى على ذلك و انزل صلوة الخوف

و اخرج ابو نعيم فى دلائل النبوة من طريق الحسن عن جابر بن عبد اللّه ان رجلا من محارب يقال له الغويرث بن الحارث قال لقومه اقتل لكم محمدا فاقبل على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو جالس و سيفه فى حجره فقال يا محمد انظر الى سيفك هذا قال نعم فاخذه فاستله فجعل يهزه و يهم به فيكبته «٢» اللّه تعالى فقال يا محمد اما تخافنى قال لا قال اما تخافنى و السيف فى يدى قال لا يمنعنى اللّه منك ثم غمد السيف ورده الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فانزل اللّه تعالى هذه الاية و ذكر هذه الرواية عن الحسن و قال كان النبىّ صلى اللّه عليه و سلم حينئذ محاصر غطفان بنخل

و اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم من طريق العوفى عن ابن عباس فى هذه الاية ان قوما من اليهود صنعوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و لاصحابه طعاما ليقتلوه فاوحى اللّه عز و جل بشانهم فلم يأت الطعام و امر أصحابه فلم يأتوه

و اخرج الشيخان من حديث جابر نحو

(١) الفتك ان يأتى الرجل صاحبه و هو غافل فيقتل ١٢ نهايه.

(٢) اى يذله اللّه و يصرفه عنه ١٢.

هذه القصة و ليس عندهما ذكر نزول الاية

و اخرج البيهقي فى الدلائل عن قتادة انها نزلت فى قوم من العرب أرادوا ان يفتكوا بالنبي صلى اللّه عليه و سلم فارسلوا اليه الاعرابى يعنى الذي جاءه و هو نائم فى بعض المنازل فاخذ سلاحه و قال من يحوله بينى و بينك فقال له اللّه فشام السيف و لم يعاقبه إِذْ هَمَّ قَوْمٌ الظرف متعلق بنعمة و مفعول هم قوله أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالقتل و الإهلاك يقال بسط اليه يده إذا بطش و بسط اليه لسانه إذا شتم فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ اى منع ورد مضرتها عَنْكُمْ وَ اتَّقُوا اللّه وَ عَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فانه الكافي لا يصال الخير و دفع الشر.

١٢

وَ لَقَدْ أَخَذَ اللّه مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ حين انزل عليهم التورية بعد الفراغ من امر فرعون و قد مرّ قصة أخذ الميثاق فى سورة البقرة حيث قال و إذ أخذنا ميثاقكم و رفعنا فوقكم الطور وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً و المراد به رئيس كل سبط يكون شاهدا ينقب عن احوال قومه و يفتش عنها و يكفل عنهم بالوفاء بما أمروا به و يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر على حسب امر نبيهم و نهيه وَ قالَ اللّه إِنِّي مَعَكُمْ يعنى ما دمتم مريدين الوفاء بالميثاق معية بلا كيف يوجب التوفيق لامتثال الأوامر و الانتهاء عن المناهي و شرح الصدر و الاطمينان و تم الكلام للابتداء بالشرط الداخل عليه اللام الموطّئة للقسم فى قوله تعالى لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي اى بموسى و من يأتي بعده مصدقا لما جاء به موسى من غير تفريق بين أحد منهم وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ اى عظمتموهم و قويتموهم و نصرتموهم فى القاموس العزر اللوم و التفخيم و التعظيم ضد و الاعانة و التقوية و النصر و فى الصحاح التعزير النصرة مع التعظيم و أصله الذب و الرد و فى النصرة رد الأعداء و سمى الزاجر ما دون الحد تعزيرا لان فيه منعه عن شنائع الأعمال و دفع الشنائع عنه و اللّه اعلم وَ أَقْرَضْتُمُ اللّه بالإنفاق فى سبيل الخير و قيل هو كل حسنة و جاز ان يكون معناه أقرضتم عباد اللّه بحذف المضاف او أقرضتم الناس للّه قَرْضاً حَسَناً يحتمل المصدر و المفعول و القرض الحسن ما يكون بلا منّ و عجب و رياء و غير ذلك مما يبطل العمل لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ جواب للقسم سادّ مسدّ جواب الشرط وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ اى بعد ذلك الميثاق و الوعد المؤكد المعلق بالوفاء فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ اضافة الصفة الى الموصوف يعنى ضل سبيلا مستويا و اخطأ طريق الحق و المراد به ضلالا بينا لا شبهة فيه و لا عذر معه يدل عليه التعبير عن المستقبل بالماضي و تأكيده بقد بخلاف من كفر قبل ذلك فانه يحتمل ان يكون له شبهة و يتوهم له معذرة.

١٣

فَبِما نَقْضِهِمْ ما زائدة أفاد التفخيم مِيثاقَهُمْ حيث كذب النصارى محمدا صلى اللّه عليه و سلم و اليهود إياه و عيسى و غيرهما من الأنبياء و نبذوا كتب اللّه و ضيعوا فرائضه لَعَنَّاهُمْ قال عطاء بعد ناهم عن رحمتنا و قال الحسن و مقاتل مسخناهم و قيل معناه ضربنا عليهم الجزية وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً غليظة لا تلين بذكر اللّه و لا تنفعل بالآيات و النذر من القسوة بمعنى غلظ القلب و أصله من حجر قاس كذا فى الصحاح و هو المراد بما فسر ابن عباس باليابسة قرا حمزة و الكسائي قسية بتشديد الياء من غير الف

قال البغوي هما لغتان كالزاكية و الزكية و معناهما واحد و

قال البيضاوي و هى اما مبالغة قاسية او بمعنى ردية من قولهم درهم قسى إذا كان مغشوشا قلت و هو ايضا من القسوة بمعنى الغلظ فان المغشوش فيه يبس و صلابة و قيل معناه ان قلوبهم ليست بخالصة للايمان بل ايمانهم مشوب بالكفر و النفاق كالدرهم المغشوش يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ يعنى كلمات اللّه التي فى التورية عَنْ مَواضِعِهِ قيل هو تبديل نعت النبي صلى اللّه عليه و سلم و قيل تحريفهم بسوء التأويل و الجملة مستأنفة لبيان قسوة قلوبهم فان تحريف كلام اللّه و الافتراء عليه مقتضى كمال القسوة و جاز ان يكون حالا من مفعول لعناهم لا عن القلوب إذ لا ضمير وَ نَسُوا تركوا حَظًّا نصيبا وافيا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فى التورية و على لسان الأنبياء من اتباع محمد صلى اللّه عليه و سلم او المعنى تركوا حظهم مما انزل إليهم لان حظ ابائهم كان اتباع موسى عليه السلام و حظ هؤلاء الموجودين فى زمان النبي صلى اللّه عليه و سلم كان اتباع محمد صلى اللّه عليه و سلم فلم ينالوه ذكر التحريف بلفظ المضارع و النسيان بلفظ الماضي لان الاول مترتب على الثاني فى الوجود و قيل معناه انهم حرفوا فنسو بشوم التحريف علوما كانوا يحفظونها مما ذكروا به روى احمد بن حنبل فى الزهد عن ابن مسعود لا حسب الرجل ينسى العلم كان يعلمها بالخطية يعملها و تلا هذه الاية وَ لا تَزالُ يا محمّد تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ الخائنة فاعلة بمعنى المصدر كالكاذبة و اللاعنة يعنى على خيانة او هى بمعناها و المعنى فرقة خائنة او نفس خائنة او فعلة ذات خيانة او معناه خائن و الهاء للمبالغة مِنْهُمْ الضمير عائد الى بنى إسرائيل أجمعين الموجودين فى زمن النبي صلى اللّه عليه و سلم و أسلافهم و الاطلاع أعم منه بالمشاهدة او بالأخبار يعنى ان الخيانة و الغدر من عادتهم و عادة أسلافهم لا تزال ترى ذلك منهم كان أسلافهم يخولون الرسل الماضين و هؤلاء يخونونك و كانت خيانة هؤلاء نقض ما عهدوا مع النبي صلى اللّه عليه و سلم و مظاهرتهم المشركين على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و همهم بقتله و سمّه و نحو ذلك إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ لم يخونوا و هم الصالحون من امة موسى و عيسى عليهما السّلام و الذين أمنوا بمحمد صلى اللّه عليه و سلم بعد مبعثه و قيل الاستثناء من قوله و جعلنا قلوبهم قاسية و هذا ليس بسديد لان جعل قلوبهم قاسية متفرع على نقضهم ميثاقهم و نقض الميثاق يستلزم القساوة البتة فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اصْفَحْ اى اعرض عنهم و لا تتعرض و لا تواخذهم بما اذوك و لا تعامل معهم الا ما أمرك اللّه به و العفو عما فعلوا فى شانه صلى اللّه عليه و سلم لا ينافى القتال بامر اللّه تعالى و قيل معناه اعف و اصفح عنهم ان تابوا و أمنوا او عاهدوا و التزموا الجزية و قيل هذا الحكم منسوخ باية السيف إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ تعليل للامر بالصفح و حث عليه و تنبيه على ان العفو عن الكافر الخائن احسان فضلا عن العفو عن غيره.

١٤

وَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ الجار و المجرور متعلق باخذنا و هو معطوف على قوله تعالى و لقد أخذ اللّه ميثاق بنى إسرائيل و ضمير ميثاقهم اما راجع الى الموصول يعنى و أخذنا من النصارى فى الإنجيل و على لسان عيسى عليه السلام ميثاق النصارى بامتثال ما أمروا فى الإنجيل مصدقا لما بين يديه من التورية و مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه احمد و اما راجع الى بنى إسرائيل المذكورين من قبل يعنى أخذنا من النصارى ميثاق من ذكر قبلهم من قوم موسى اى ميثاقا مثل ميثاقهم قال الحسن فيه دليل على انهم نصارى بتسميتهم أنفسهم لا بتسمية اللّه تعالى و الاولى ان يقال انه تعالى انما لم يقل و من النصارى أخذنا ميثاقهم ليدل على انهم يسمّون أنفسهم بذلك ادّعاء لنصرة اللّه تعالى و ليسوا كذلك و ليس هذا الا للتعريض على الموجودين فى زمن النبي صلى اللّه عليه و سلم لا على أسلافهم فان منهم من كانوا أنصار اللّه تعالى على الحقيقة و أخذ الميثاق على هؤلاء الموجودين انما كان تبعا لاخذ الميثاق على ابائهم فَنَسُوا يعنى اكثر هؤلاء الموجودين و بعض من قبلهم حَظًّا اى حظا وافيا او حظهم مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فى الإنجيل فكذبوا محمدا صلى اللّه عليه و سلم بعد البشارة بمبعثه و اتبعوا اهوائهم قبل ذلك فافترقوا فرقا منهم الملكائية و النسطورية و اليعقوبية قال بعضهم ان اللّه ثالث ثلثة و بعضهم عيسى ابن اللّه و بعضهم ان اللّه هو المسيح فَأَغْرَيْنا يعنى الصقنا و الزمنا من غرى الشي ء إذا لصق به و لزمه بَيْنَهُمُ قال مجاهد و قتادة يعنى بين اليهود و النصارى و قال الربيع بين فرق النصارى و هو الأظهر الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ لاجل اختلاف اهوائهم فى الدين إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّه بالجزاء و العقاب فى الاخرة بِما كانُوا يَصْنَعُونَ فى الدنيا من الكفر و المعاصي و ترك الاقتداء بالكتب السماوية التي مآلها واحد و اللّه اعلم اخرج ابن جرير عن عكرمة قال ان نبى اللّه صلى اللّه عليه و سلم أتاه اليهود يسالونه عن الرجم فقال أيكم اعلم فاشاروا الى ابن صوريا فناشده بالذي انزل التورية على موسى و الذي رفع الطور بالمواثيق الذي أخذت عليهم فقال انه لما كثر الزنا فينا جلدنا مائة و حلقنا الرؤوس فحكم عليهم بالرجم فانزل اللّه تعالى.

١٥

يا أَهْلَ الْكِتابِ الى قوله صراط مستقيم و المراد باهل الكتاب اليهود و النصارى و وحد الكتاب لانه للجنس قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد صلى اللّه عليه و سلم يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ اى التورية و الإنجيل مثل اية الرجم و نعت محمد صلى اللّه عليه و سلم فى التورية و بشارة عيسى بأحمد فى الإنجيل وَ يَعْفُوا اى يعرض عَنْ كَثِيرٍ مما يخفونه لا يخبر به إذا لم يتوقف عليه امر دينى او عن كثير منكم فلا يؤاخذ بجرمه قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّه نُورٌ يعنى محمد صلى اللّه عليه و سلم او الإسلام وَ كِتابٌ مُبِينٌ للاحكام او بين الاعجاز و هو القران و جاز ان يكون العطف تفسيريا و سمى محمدا صلى اللّه عليه و سلم و القران نورا لكونهما كاشفين لظلمات الكفر.

١٦

يَهْدِي بِهِ اللّه وحد الضمير لان المراد بهما اما واحد او كواحد فى الحكم مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ اى رضاه بالايمان منهم سُبُلَ السَّلامِ اى طرق السلامة من عذاب اللّه و قيل السلام هو اللّه تعالى و سبله شرائعه الموصلة اليه وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ اى ظلمات الكفر إِلَى النُّورِ نور الايمان بِإِذْنِهِ بإرادته و توفيقه وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ اى طريق موصل الى اللّه تعالى البتة و هو الإسلام.

١٧

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّه هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ و القائلون بهذا القول اليعقوبية من النصارى فانهم قائلون بالاتحاد و قيل لم يصرح به أحد و لكن لما زعموا ان فيه لاهوتا و قالوا لا اله الّا واحد لزمهم ان يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم توضيحا لجهلهم و تفضيحا لمعتقدهم قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ اى يقدر ان يدفع مِنَ اللّه شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً يعنى ان المسيح و امه عبدان مخلوقان من جنس سائر الممكنات فان عطف من فى الأرض عليهما يفيد انهما من جنسهم متصفان بالحدوث و اماراته من الابنيّة و الامومية قابلان للّهلاك و الغناء مقدوران للّه تعالى وحده إنشاء اللّه تعالى هلاكهما لا يستطيعان دفع الهلاك عن أنفسهما كسائر الممكنات وَ للّه مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ بغير مادة سبقت عليه كالسموات و الأرض او من مادة من غير جنسه كما خلق آدم من الطين او من ذكر وحده كما خلق حواء من آدم او من أنثى وحدها كما خلق عيسى بن مريم او من ذكر و أنثى كاكثر الحيوانات وَ اللّه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ من الاحياء و الاماتة فكيف يتصور اتحاد من ذلك شانه و ظهر احتياجه و إمكانه بمن هذا سلطانه و عزّ برهانه روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نعمان بن احيى و بحرى بن عمرو و شاس بن عدى فكلموه و كلمهم و دعاهم الى اللّه و حذرهم نقمته فقالوا ما تخوفنا يا محمد نحن و اللّه أبناء اللّه و احباؤه كقول النصارى فانزل اللّه تعالى.

١٨

وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللّه وَ أَحِبَّاؤُهُ الاية قيل أرادوا ان اللّه تعالى كالاب لنا فى الحنو و العطف و نحن كالابناء له فى القرب و المنزلة و قال ابراهيم النخعي ان اليهود وجدوا فى التورية يا أبناء احبارى فبدّلوا يا أبناء ابكارى فمن ذلك قالوا نحن أبناء اللّه و قيل معناه نحن أبناء رسل اللّه و قيل أرادوا انهم أشياع ابنيه عزير و المسيح كما قال لاشياع ابى الجنيب عبد اللّه بن الزبير الجنيبيون قُلْ يا محمد ان صح ما زعمتم فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ فان الأب لا يعذب ولده و الحبيب حبيبه و قد عذبكم اللّه فى الدنيا بالقتل و الاسر و المسح و أنتم مقرون انه سيعذبكم بالنار أياما معدودات فليس الأمر كما زعمتم بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ كسائر بنى آدم يحزون بالاساءة و الإحسان يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ ما دون الكفر فضلا وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ مدلا وَ للّه مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما كلها سواء فى المملوكية و المخلوقية و المملوكية تنافى البنوة فيه تنبيه على نفى بنوة عزير و عيسى وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ لكل مخلوق فيجازى على حسب اعماله فيه وعد و وعيد روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يهودا الى الإسلام و رغبهم فيه فقال معاذ بن جبل و سعد بن عبادة يا معشر يهود اتقوا اللّه فو اللّه انكم لتعلمون انه رسول اللّه لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه و تصفونه لنا بصفته فقال رافع بن حريملة و وهب بن يهود اما

قلنا لكم هذا و ما انزل اللّه من كتاب بعد موسى و لا أرسل بشرا بعده فانزل اللّه تعالى.

١٩

يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد صلى اللّه عليه و سلم يُبَيِّنُ لَكُمْ اعلام الهدى و شرائع الدين و حذف لظهوره او ما كتمتم و حذف لتقدم ذكره و يجوز ان لا يقدر مفعول و المعنى يبذل لكم البيان و الجملة فى موضع الحال اى جاءكم رسولنا مبينا لكم عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ متعلق بجاء اى جاءكم على حين فتور من المرسلين و انقطاع من الوحى او حال من الضمير فى يبين أَنْ تَقُولُوا يعنى كراهة ان تقولوا او لئلا تقولوا معتذرين ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ يعنى فلا تعتذروا فقد جاءكم بشير و نذير وَ اللّه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر على الإرسال تترى كما فعل بين موسى و عيسى و كان بينهما الف و سبعمائة او خمسمائة سنة و الف نبى اخرج ابن سعد و الزبير بن بكار و ابن عساكر عن الكلبي انه كان بين موسى بن عمران و مريم بنت عمران أم عيسى الف و سبعمائة سنة و ليسا من سبط واحد

و اخرج الحاكم عن ابن عبّاس بلفظ بين موسى و عيسى الف و خمسمائة سنة

و اخرج ابن ابى حاتم عن الأعمش قال كان بين موسى و عيسى الف نبى و يقدر على الإرسال على فترة كما فعل بين عيسى و محمد صلى اللّه عليهما و سلم و كان بينهما ستمائة سنة أخرجه ابن عساكر و ابن ابى حاتم عن قتادة او خمسمائة و ستون سنة أخرجه عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير من طريق معمر عن قتادة و لم يكن بعد عيسى رسول سوى رسولنا صلى اللّه عليه و سلم و فى الاية امتنان عليهم بان بعث إليهم حين انطمست اثار الوحى و كانوا أحوج ما يكونون اليه عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انا اولى الناس بعيسى بن مريم فى الاولى و الاخرة الأنبياء اخوة من علات أمهاتهم شتى و دينهم واحد و ليس بيننا نبى متفق عليه.

٢٠

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ بنى إسرائيل يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ فارشدكم و شرفكم بهم و لم يبعث فى امة ما بعث فى بنى إسرائيل من الأنبياء وَ جَعَلَكُمْ اى جعل منكم او فيكم مُلُوكاً و قد تكاثر فيهم الملوك بعد فرعون حتى قتلوا يحيى و همّوا بقتل عيسى عليهما السلام و قال ابن عباس أراد بالملوك اصحاب خدم و حشم قال قتادة كانوا اوّل من ملك الخدم و لم يكن لمن قبلهم خدم و روى ابن ابى حاتم عن ابى سعيد الخدري رضى اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال كان بنو إسرائيل إذا كان لاحدهم خادم و امرأة و دابة يكتب ملكا و له شاهد من مرسل زيد بن اسلم و قال عبد الرحمن الحبلى سمعت عبد اللّه بن عمرو بن العاص و سأله رجل فقال السنا من فقراء المهاجرين فقال له عبد اللّه أ لك امرأة تأوي إليها قال نعم قال أ لك مسكن تسكنه قال نعم قال فانت من الأغنياء قال فان لى خادما قال فانت من الملوك و قال السدى معناه و جعلكم أحرارا تملكون امر أنفسكم بعد ما كنتم فى أيدي القبط يستعبدونكم و قال الضحاك كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية فمن كان مسكنه واسعا فيها ماء جار فهو ملك وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ فى زمانهم لشرف صحبة الأنبياء من مراتب القرب عند اللّه مع الرفعة فى الدنيا و الكرامات مثل فلق البحر و إنزال انواع الرجز على أعدائهم دونهم.

٢١

يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ قال مجاهد هى الطور و ما حوله و قال الضحاك ايليا و بيت المقدس و قال عكرمة و السدى هى أريحا و قال الكلبي هى دمشق و فلسطين و بعض الأردن و قال قتادة هى الشام كلها و قال كعب وجدت فى كتاب اللّه المنزل ان الشام كنز اللّه من ارضه و بها كنز من عباده سميت بالمقدسة لانها مقر الأنبياء و مسكن المؤمنين الَّتِي كَتَبَ اللّه لَكُمْ اى كتب و فرض عليكم دخولها كما كتب الصوم و الصّلوة كذا قال قتادة و السدى وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ الى مصر او الى خلاف ما أمركم اللّه جبتا فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ ثواب الدارين يجوز فى فتنقلبوا الجزم على العطف و النصب على الجواب و قيل معنى كتب اللّه فى اللوح المحفوظ انها يكون مسكنا لكم و لا بد على هذا التأويل ان يقيد بشرط مقدر و هو ان أمنتم و أطعتم لقوله تعالى بعد ما عصوا انها محرمة عليهم و جاز ان يكون ضمير لكم عائدا الى بنى إسرائيل بالنسبة الى بعضهم يعنى المطيعين و ضمير محرمة عليهم بالنسبة الى بعض اخر يعنى العاصين او يقال التحريم مقيد بأربعين سنة ثم يكون مسكنا لهم و قال ابن إسحاق معنى كتب اللّه لكم وهب اللّه لكم و جعلها لكم قال الكلبي صعد ابراهيم جبل لبنان فقال له انظر فما أدركه بصرك فهو مقدس و هو ميراث لذريتك

قال البغوي ان اللّه عز و جل وعد موسى ان يورثه و قومه الأرض المقدسة و هى الشام و كان يسكنها الكنعانيون الجبارون فلما استقرت لبنى إسرائيل الديار بمصر يعنى بعد الفراغ من امر فرعون أمرهم اللّه بالمصير الى أريحا من ارض الشام و هى الأرض المقدسة و كانت بها الف قرية فى كل قرية الف بستان قلت لعل المراد بالألف الكثرة جدا دون العدد و اللّه اعلم و قال اللّه تعالى يا موسى انى كتبتها لكم دارا و قرارا فاخرج إليها و جاهد من فيها من العدو فانى ناصرك عليهم و خذ من قومك اثنا عشر نقيبا من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به فاختار موسى النقباء و سار ببني إسرائيل حتى إذا قربوا من أريحا بعث هؤلاء النقباء يتجسسون له الاخبار و يعلمون علمها فلقيهم رجل من الجبارين يقال له عوج بن عنق و كان طوله ثلاثة آلاف و ثلاثمائة و ثلثة و ثلثون ذراعا و ثلث ذراع و كان يحتجر بالسحاب و يشرب منه و يتناول الحوت من قرار البحر فيشويه يعنى بالشمس يرفعه إليها ثم يأكله و يروى ان الماء طبق على ما على الأرض من جبل و ما جاوز من ركبتى عوج و عاش ثلثة آلاف سنة حتى أهلكه اللّه على يدى موسى و ذلك ان جاء وقور «١» صخرة من الجبل على قدر عسكر موسى عليه السلام و كان فرسخا فى فرسخ و

(١) وقور فعول من الوقر بمعنى الثقل ١٢.

حملها ليطبقها عليهم فبعث اللّه الهدهد فنقر الصخرة بمنقاره فوقعت فى عنقه فصرعته فاقبل موسى عليه السلام و هو مصروع فقتله و كانت امه عنق احدى بنات آدم عليه السلام و كان مجلسها جريبا من الأرض قال فلما لقى عوج النقباء و على راسه حزمة حطب أخذ الاثني عشر و جعلهم فى حجزته و انطلق بهم الى امرأته و قال انظري الى هؤلاء الذين يزعمون انهم يريدون قتالنا و طرحهم بين يديها و قال الا اطحنهم برجلي فقالت امرأته لا بل خلّ عنهم حتى يخبروا قومهم بما راوا ففعل ذلك و روى انه جعلهم فى كمه و اتى بهم الى الملك فنشرهم بين يديه فقال الملك ارجعوا فاخبروهم بما رايتم و كان لا يحمل عنقودا من عنبهم إلا خمسة انفس منهم فى خشبة و يدخل فى شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة انفس قلت كذا ذكر البغوي فى عوج بن عنق و فيه مبالغات لا يقبلها العقل و ينكرها المحدثون غير انه أعظم جثة و أقوى قوة من الجبارين و كانوا اجراما عظيمة اولى بأس شديد فلما رجع النقباء الى موسى و اخبروه بما عاينوا قال لهم موسى اكتموا شانهم و لا تخبروا به أحدا من اهل العسكر فيفشلوا فاخبر كل رجل منهم قريبه و ابن عمه الا رجلان وفيا بما قال لهم موسى أحدهما يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف فتى موسى و الاخر كالب بن يوقنا ختن موسى على أخته مريم بنت عمران و كان من سبط يهود افعمت جماعة بنى إسرائيل ذلك و رفعوا أصواتهم بالبكاء و قالوا يا ليتنا متنا بمصر و ليتنا نموت و لا يدخلنا اللّه ارضهم فتكون نساءنا و أولادنا و أثقالنا غنيمة لهم و جعل الرجل يقول لصاحبه تعال نجعل علينا راسا و ننصرف الى مصر.

٢٢

قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها اى فى تلك الأرض قَوْماً جَبَّارِينَ الجبار فعال من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه و هو العالي الذي يجبر الناس على ما يريد و

قال البغوي الجبار المتعظم الممتنع عن القهر بحيث لا يتاتى مقاومته يقال نخلة جبارة إذا كانت طويلة ممتنعة عن وصول الأيدي إليها قلت كان امتناعهم اما بطولهم و قوة أجسادهم كما يدل عليه القصة او لكثرة جنودهم و أموالهم و آلات الحرب معهم

قال البغوي كانوا من العمالقة و بقية قوم عاد وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ إذ لا طاقة لنا بهم فلما قال بنو إسرائيل ذلك و هموا بالانصراف الى معه و خر موسى و هارون ساجدين و خرق كالب و يوشع ثيابهما و هما الذين اخبر اللّه تعالى عنهما فى قوله.

٢٣

قالَ رَجُلانِ يعنى كالب و يوشع مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ اللّه تعالى و يتقونه و قيل كانا رجلين من الجبابرة أسلما و صارا الى موسى فعلى هذا الواو لبنى إسرائيل و الراجع الى الموصول محذوف اى من الذين يخافهم بنو إسرائيل و يشهده قراءة سعيد ابن جبير يخافون بضم الياء أخرجه ابن جرير عنه و الحاكم و صححه عن ابن عباس أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمَا بالايمان و التثبت صفة ثانية لرجلين او اعتراض ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ باب قريتهم اى باغتوا و ضاغطوهم فى المضيق و امنعوهم عن الخروج الى الصحارى فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ ٥ لتعذر الكر عليهم فى المضايق و لان اللّه منجز وعده و انا رايناهم فكانت أجسامهم عظيمة و قلوبهم ضعيفة وَ عَلَى اللّه فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ به مصدقين بوعده

قال البغوي فاراد بنو إسرائيل ان يرجموهما بالحجارة و غضبوهما و.

٢٤

قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً نفوا دخولهم على التأكيد و التأبيد و قوله ما دامُوا فِيها بدل من ابدا بدل البعض فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ قيل قالوا ذلك استهانة باللّه و رسوله و عدم مبالاة بهما و هذا مستبعد جدا لانه يستلزم الكفر فلا يتصور بعد ذلك مصاحبة موسى و قد كانوا فى مصاحبته و نزل عليهم المن و السلوى و ظلل عليهم الغمام و انفجرت من الحجر عيونا لشربهم فالمعنى اذهب أنت و ربك يعينك و اللّه اعلم عن ابن مسعود قال شهدت من المقداد بن اسود مشهد الان أكون صاحبه لاحب الى مما عدل به اتى النبي صلى اللّه عليه و سلم و هو يدعوه على المشركين قال لا نقول كما قال قوم موسى اذهب أنت و ربك فقاتلا و لكنا نقاتل عن يمينك و عن شمالك و بين يديك و خلفك فرايت النبىّ صلى اللّه عليه و سلم أشرق وجهه و سره رواه البخاري و غيره فلما فعلت بنو إسرائيل ما فعلت من مخالفة امر اللّه و رسوله و هموا بيوشع و كالب غضب موسى و دعا عليهم.

٢٥

قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي يعنى و أخي لا يملك الا نفسه فاخى اما منصوب عطفا على اسم ان او مرفوع عطفا على الضمير المرفوع فى املك او مبتدأ خبره محذوف يعنى كذلك و جاز ان يكون معناه لا يطيعنى الا نفسى و أخي و حينئذ أخي اما منصوب عطفا على نفسى او مجرور عند الكوفيين عطفا على ياء المتكلم فى نفسى و الحصر إضافي بالنسبة الى القوم العاصين اخرج الكلام شكاية عنهم و لا يلزم منه عدم إطاعة الرجلين يوشع و كالب فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ بان تحكم لكل ما يستحقه من المدح و الثواب و الذم و العقاب او المعنى فافرق بالتبعيد بيننا و بينهم و تخليصنا من صحبتهم.

٢٦

قالَ اللّه تعالى فَإِنَّها اى الأرض المقدسة مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ تحريم منع لا تحريم تعبد يعنى انها ممنوعة منهم لا يدخلونها و لا يسكنونها بسبب عصيانهم أَرْبَعِينَ سَنَةً الظاهر انه متعلق بقوله محرمة فيكون التحريم موقتا غير موبد و لا يكون مخالفا لظاهر قوله تعالى التي كتب اللّه لكم على تاويل كتب اللّه فى اللوح المحفوظ كونها مسكنا لكم و يؤيد ذلك ما روى ان موسى فتح أريحا بمن بقي من بنى إسرائيل و كان يوشع على مقدمته و قاتل الجبابرة و اقام موسى فيها ما شاء اللّه ثم قبض كما سيجئ قصته و لا يعلم قبره أحد

قال البغوي و هذا أصح الأقاويل لاتفاق العلماء ان عوج بن عنق قتله موسى قلت و لقوله تعالى و إذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض الى قوله تعالى اهبطوا مصرا فان لكم ما سالتم فانه يدل على ان موسى كان حيا حين اهبطوا مصرا بعد خروجهم من التيه و ذلك يعد أربعين سنة و قيل الظرف متعلق بما بعده يعنى يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ اى يسيرون فيها يتحيرون لا يرون الطريق فيكون التحريم حينئذ مطلقا و لم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال لا ندخلها بل هلكوا فى التيه كلهم و انما قاتل الجبابرة أولادهم مع يوشع لما هلكوا كلهم و انقضت أربعون سنة و نشات النواشي من ذراريهم و لم يسر إليهم يوشع الا بعد موت موسى و مات موسى و هارون عليهما السلام فى التيه كذا اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم عن ابن عباس

قال البغوي على هذه الرواية فلما مات موسى و انقضت الأربعون سنة بعث اللّه يوشع نبيا فامرهم ان اللّه تعالى قد امر بقتال الجبابرة فصدقوه و بايعوه فتوجه بنوا إسرائيل الى أريحا و معه تابوت الميثاق فاحاط بمدينة أريحا ستة أشهر فلما كان السابع نفخوا فى القرن و ضجّ «١» الشغب ضجة واحدة فسقط سور المدينة و دخلوا فقاتلوا الجبارين فهزموهم و هجموا عليهم يقتلونهم و كانت العصابة

(١) الضجع الضياح عند المكروه و المشقة و الجزع و الشغب بسكون الغين تهيج الشر و الفتنة و الخصام ١٢ نهاية.

من بنى إسرائيل يجتمعون على عنق رجل يضربونها لا يقطعونها فكان القتال يوم الجمعة فبقيت منه بقية و كادت الشمس تغرب و تدخل ليلة السبت فقال اللّهم اردد الشمس علىّ و قال للشمس انك فى طاعة اللّه و انا فى طاعته فسال الشمس ان تقف حتى ينتقم من اعداء اللّه قبل دخول السبت فردت عليه الشمس و زيد فى النهار ساعة حتى قتلهم أجمعين روى احمد فى مسنده مرفوعا ان الشمس لم تحبس على بشر الا ليوشع ليالى سار الى بيت المقدس

قال البغوي و تتبع ملوك الشام فقتل منهم واحد او ثلثين ملكا حتى غلب على جميع ارض الشام و فرق العمال فى نواحيها و جمع الغنائم فلم تنزل النار فاوحى اللّه الى يوشع ان فيها غلولا فمرهم فليبايعوك فبايعوه فالتصق يد رجل منهم بيده فقال هلم ما عندك فاتاه برأس ثور من ذهب مكلل بالجواهر و اليواقيت كان قد غله فجعله فى القربان و جعل الرجل معه فجاءت النار فاكلت الرجل و القربان ثم مات يوشع و دفن فى جبل افرائيم و كان عمره مائة و ستا و عشرين سنة و تدبيره امر بنى إسرائيل بعد موسى ستا و عشرين سنة فَلا تَأْسَ اى لا تحزن عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ خاطب به موسى لما ندم على الدعاء عليهم و بين انهم احقّاء بذلك لفسقهم روى انهم لبثوا أربعين سنة فى ستة فراسخ و كانوا يسيرون كل يوم جادين فاذا امسوا كانوا فى الموضع الذي ارتحلوا عنه كذا اخرج ابن جرير و ابو الشيخ فى العظمة عن وهب بن منبه بدون ستة فراسخ

قال البغوي كانوا ستمائة الف مقاتل قيل ان موسى و هارون لم يكونا فيهم و الأصح انهما كانا فيهم و لم يكن لهما عقوبة بل كان روحا لهما و زيادة لدرجتهما و انما كانت العقوبة لهؤلاء القوم و كان الغمام يظللّهم من الشمس فى التيه قدر خمسة فراسخ او ستة كذا اخرج ابن جرير عن الربيع ابن انس و كان يطلع بالليل عمود من النور فيضئ لهم و كان طعامهم المن و السلوى و مائهم من الحجر الذي يحملونه حتى انقضت مدة التيه و أمروا بان يهبطوا مصرا ثم قاتل موسى الجبابرة و فتح أريحا و أمروا ان يدخلوا الباب سجّدا و قولوا حطّة (قصّة وفات هارون عليه الصلاة و السلام) قال السدى اوحى اللّه الى موسى انى متوفى هارون عليه السلام فآت به جبل كذا و كذا فانطلق موسى و هارون نحو ذلك الجبل فاذا هما بشجرة لم ير مثلها و إذا بيت مبنى و فيه سرير عليه فرش و إذا فيه ريح طيبة فلما نظر هارون الى ذلك أعجبه قال يا موسى انى أحب ان أنام على هذا السرير قال فنم عليه فقال انى أخاف ان يأتي رب هذا البيت فيغضب على قال موسى لا ترهب انى أكفيك رب هذا البيت قال يا موسى فنم أنت معى فان جاء رب البيت غضب علىّ و عليك جميعا فلما ناما أخذ هارون عليه السلام الموت فلما وجد معه قال يا موسى خذ عينى فلما قبض رفع البيت و ذهب تلك الشجرة و رفع السرير الى السماء فلما رجع موسى الى بنى اسراءيل و ليس معه هارون قالوا ان موسى قتل هارون و حسده لحب بنى إسرائيل له فقال موسى ويحكم كان أخي أ فترونني اقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا اللّه تعالى و نزل السرير حتى نظروا اليه بين السماء و الأرض فصدقوه و عن على بن ابى طالب رضى اللّه عنه قال صعد موسى و هارون عليهما السلام الجبل فمات هارون فقالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام أنت قتلته فآذوه فامر اللّه تعالى الملئكة فحملته حتى مروا به على بنى إسرائيل فكلمت الملائكة بموته حتى عرف بنوا إسرائيل انه قد مات فبراه اللّه مما قالوا ثم ان الملائكة حملوه و دفنوه فلم يطلع على موضع قبره الا الرخم فجعله اللّه أصم ابكم و قال عمرو بن ميمون مات هارون و موسى عليهما السّلام فى التيه مات هارون قبل موسى و كانا قد خرجا الى بعض الكهوف فمات هارون و دفنه موسى و انصرف الى بنى إسرائيل فقالوا قتلته لحبنا إياه و كان محبا فى بنى إسرائيل فتضرع موسى عليه السلام الى ربه عز و جل فاوحى اللّه اليه انطلق بهم الى قبره فنادى يا هارون فخرج من قبره ينفض راسه فقال انا قتلتك قال لا و لكنى مت قال فعد الى مضجعك و انصرفوا- (قصّة وفات موسى ) قال ابن إسحاق كان صفى اللّه موسى يكره الموت فاراد اللّه ان يحبب اليه الموت فنبأ يوشع بن نون فكان يغدو و يروح عليه فيقول له موسى يا نبى اللّه ما أحدث اللّه إليك فيقول له يوشع يا نبى اللّه الم أصحبك كذا و كذا سنة فهل كنت اسألك عن شى ء ما أحدث إليك حتى تكون أنت الذي تبتدى به و تذكره و لا يذكر له شيئا فلما رأى موسى ذلك كره الحيوة و حبب الموت و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم جاء ملك الموت الى موسى فقال له أجب ربك قال فلطم موسى عليه السلام عين ملك الموت ففقأها قال فرجع الملك الى اللّه سبحانه و تعالى فقال انك أرسلتني الى عبد لك لا يريد الموت و قد فقأ عينى قال فرد اللّه اليه عينه و قال ارجع الى عبدى فقل له الحيوة تريد فان كنت تريد الحيوة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعره فانك تعيش بها سنة قال ثم مه قال ثم تموت قال فالآن من قريب قال رب أدنني من الأرض المقدسة رمية الحجر قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو انى عنده لاريتكم قبره الى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر متفق عليه و قال وهب خرج موسى لبعض حاجته فمر برهط من الملائكة يحفرون قبر الم ير شيئا احسن منه و لا مثل ما فيه من الخضرة و النضرة و البهجة فقال لهم يا ملائكة اللّه لمن تحفرون هذا القبر قالوا لعبد كريم على ربه قال ان هذا العبد من اللّه بمنزل ما رايت كاليوم مضجعا فقال الملائكة يا صفى اللّه أ تحب ان يكون لك قال وددت قالوا فانزل و اضطجع فيه و توجه الى ربّك قال فاضطجع و توجه الى ربه ثم تنفس أسهل تنفس فقبض اللّه تبارك و تعالى روحه ثم سوت عليه الملائكة و قيل ان ملك الموت أتاه بتفاحة من الجنة فشمها و قبض روحه و كان عمر موسى مائة و عشرين سنة و اللّه اعلم-.

٢٧

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ هابيل و قابيل بِالْحَقِّ صفة مصدر محذوف اى تلاوة متلبسة بالحق او حال من الضمير فى اتل او من نبأ اى متلبسا بالصدق موافقا لما فى كتب الأولين إِذْ قَرَّبا قُرْباناً ظرف لنبأ او حال منه او بدل على حذف مضاف اى اتل نبأهم نبا ذاك الوقت و القربان اسم ما يتقرب بها الى اللّه تعالى من ذبيحة او غيرها كما ان الحلوان اسم لما يحلى اى يعطى و هو فى الأصل مصدر و لذلك لم يثن و قيل تقديره إذ قرب كلو أحد منهما قربانا و كان سبب قربانهم على ما ذكر اهل العلم ان حواء كانت تلد لآدم عليه السلام فى بطن غلاما و جارية و كان جميع ما ولد أربعين ولدا فى عشرين بطنا أولهم قابيل و توامته إقليما و ثانيهم هابيل و توامته لبودا و آخرهم ابو المغيث و توامته أم المغيث قال ابن عباس لم يمت آدم حتى بلغ ولده و ولد ولده أربعين الفا قال محمد بن اسحق عن بعض اهل العلم بالكتاب الاوّل انه ولد قابيل و أخته فى الجنة فلم تجد حواء عليهما وجعا و لا وصبا و لا طلقا و لم تر معهما دما فلما هبطا الى الأرض حملت بهابيل و أخته فوجدت عليهما الوجع و الوصب و الطلق و الدم و قال غيره غشى آدم حواء بعد مهبطهما الى الأرض بمائة سنة فولدت له قابيل و أخته فى بطن ثم هابيل و أخته فى بطن و كان بينهما سنتان فى قول الكلبي و كان آدم إذا شب أولاده يزوج غلام هذا البطن جارية بطن اخرى فكان الرجل منهم يتزوج اية أخواته شاء الا توامته فلما بلغ قابيل و هابيل النكاح اوحى اللّه تعالى الى آدم ان يزوج كلواحد منهما توامة الاخر فرضى هابيل و سخط قابيل لان توامته كانت أجمل و قال انا أحق بها و نحن من ولادة الجنة و هما من ولادة الأرض فقال له أبوه انها لا تحل لك فابى ان يقبل ذلك و قال ان اللّه لم يأمره بهذا و انما هو برأيه فقال آدم فقربا قربانا فمن يقبل قربانه فهو احقّ بها و كانت القربان إذا قبلت نزلت نار من السماء بيضاء فاكلته و إذا لم تقبل لم تنزل النار و أكله الطير و السباع فخرجا ليقربا و كان قابيل صاحب زرع فقرب صبرة من طعام من أردى زرعه و أضمر فى نفسه لا أبالي أ يقبل قربانى أم لم يقبل لا يتزوج أختي ابدا و كان هابيل صاحب غنم فعمد الى احسن كبش من غنمه فقرب به و أضمر رضوان اللّه تعالى فوضعا قربانهما على الجبل ثم دعا آدم عليه السلام فنزلت نار من السماء فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما يعنى هابيل أكلت النار قربانه وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ يعنى من قابيل قربانه فغضب قابيل لرد قربانه و كان يضمر الحسد فى نفسه الى ان اتى آدم مكة لزيارة البيت فلما غاب آدم اتى قابيل هابيل قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ هابيل لم قال لان اللّه تعالى قبل قربانك ورد قربانى و تنكح أختي الحسناء و انكح أختك الذميمة فيتحدث الناس انك خير منى و يفتخر ولدك على ولدي فقال هابيل و ما ذنبى إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللّه القربان مِنَ الْمُتَّقِينَ و فيه اشارة الى ان الحاسد ينبغى ان يرى حرمانه من تقصيره و يجتهد فى تحصيل ما به صار المحسود محظوظا لا فى ازالة حظه فان ذلك مما يضره و لا ينفعه و ان الطاعة انما يتقبل من مومن متق عن الرذائل و المناهي عند اخلاص النية اخرج ابن ابى شيبة عن الضحاك فى قوله تعالى انما يتقبل اللّه من المتقين قال الذين يتقون الشرك قلت لعل المراد بقوله تعالى انما يتقبل اللّه من المتقين ان القربان لا يتقبل الا ممن كان محقا من الخصمين لا من المبطل و اللّه اعلم و سئل موسى بن أعين عن قوله تعالى انما يتقبل اللّه من المتّقين قال تنزهوا عن أشياء من الحلال مخافة الحرام

و اخرج ابن ابى الدنيا عن على بن ابى طالب قال لا يقل عمل مع تقوى و كيف يقل ما يتقبّل

و اخرج ابن ابى الدنيا عن عمر بن عبد العزيز انه كتب الى رجل أوصيك بتقوى اللّه الذي لا يقبل غيرها و لا يرحم الا أهلها و لا يثاب الا عليها فان الواعظون بها كثير و العاملون بها قليل

و اخرج ابن ابى حاتم عن ابى الدرداء قال لان استقر انّ اللّه قد تقبل منى صلوة واحدة أحب الى من الدنيا و ما فيها ان اللّه يقول انما يتقبل اللّه من المتقين

و اخرج ابن عساكر عن هشام بن يحيى عن أبيه قال دخل سائل الى ابن عمر فقال لابنه أعطه درهما فاعطاه فلما انصرف قال ابنه تقبل منك يا أبتاه قال لو علمت ان اللّه يقبل سجدة واحدة او صدقة درهم لم يكن غائب أحب الى من الموت تدرى ممن يتقبل اللّه انما يتقبل اللّه من المتقين

و اخرج ابن عساكر عن ابن مسعود قال لان أكون اعلم ان اللّه يتقبل منى عملا أحب الى من ان أكون لى ملأ الأرض ذهبا و عن عامر بن عبد اللّه انه بكى حين حضره الوفاة عليه السلام فقيل له و ما يبكيك و قد كنت و كنت يعنى كنت كثير العبادة قال انى اسمع اللّه يقول انما يتقبل اللّه من المتقين و قال هابيل فى جوابه.

٢٨

لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ قرأ نافع و ابو عمرو و حفص بفتح الياء و الباقون بالإسكان إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي قرأ نافع و ابن كثير و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بالإسكان أَخافُ اللّه رَبَّ الْعالَمِينَ قال عبد اللّه بن عمرو و ايم اللّه ان كان المقتول لاشد الرجلين و لكن منعه التحرج ان يبسط يده الى أخيه يعنى استلم له خوفا من اللّه تعالى اما لان الدفع لم يبح بعد قال مجاهد كتب عليهم فى ذلك الوقت إذا أراد الرجل قتل رجل ان لا يمتنع و يصبر و اما تحريا لما هو الأفضل قال عليه السلام كن عبد اللّه المقتول و لا تكن عبد اللّه القاتل أخرجه ابن سعد فى الطبقات من حديث عبد اللّه و هذا جائز فى شريعتنا ان ينقاد و يستسلم كما فعل عثمان رضى اللّه عنه اخرج ابن سعد عن ابى هريرة قال دخلت على عثمان يوم الدار فقلت جئت لانصرك فقال يا أبا هريرة أ يسرك ان تقتل الناس جميعا و إياي معهم قلت لا قال فان قتلت رجلا واحدا فكانما قتلت الناس جميعا

و اخرج عبد الرزاق و ابن جرير عن الحسن قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان ابني آدم ضربا مثلا لهذه الامة فخذوا بالخير منهما

و اخرج عبد بن حميد عنه بلفظ فتشبهوا بخيرهما و لا تشبهوا بشرهما و انما قال ما انا بباسط فى جواب لئن بسطت للتبرى عن هذا الفعل الشنيع راسا و التحرز من ان يوصفبه و يطلق عليه و لذا أكد النفي بالباء.

٢٩

إِنِّي فتح الياء نافع و اسكن غيره أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ الى ربك بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ كلاهما فى موضع الحال من فاعل تبوء اى ترجع متلبسا بالاثمين حاملا لهما يعنى إذا قتلتنى ترجع حاملا اثم خطاياى التي عملتها و اثم خطاياك التي عملتها من قتلى و غير ذلك كذا روى ابن نجيح عن مجاهد فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ فان المظلوم يعطى من حسنات الظالم يوم القيمة جزاء لظلمه و ان لم يكن للظالم حسنات او كانت و لكن فنيت قبل أداء جميع حقوق الناس يطرح على الظالم اثم خطايا المظلوم و يلقى فى النار عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان المفلس من أمتي من يأتى يوم القيامة بصلوة و صيام و زكوة و يأتى قد شتم هذا و أكل مال هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا فيعطى هذا من حسناته و هذا من حسناته فان فنيت حسناته قبل ان يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح فى النّار رواه مسلم

فان قيل لا يجوز لمسلم ارادة معصية أخيه و شقاوته فكيف أراد هابيل هكذا

قلنا ليس الكلام على حقيقته و لم يكن مراد هابيل ان يقتله اخوه البتة و يكون اخوه قاتلا عاصيا بل انه لما علم انه يكون قاتلا او مقتولا لا محالة أراد نفى كونه قاتلا عن نفسه لا كون أخيه قاتلا فالمراد بالذات ان لا يكون عليه اثم.

٣٠

فَطَوَّعَتْ اى أسمعت و انقادت لَهُ نَفْسُهُ و له لزيادة الربط كقولك حفظت لزيد ماله قَتْلَ أَخِيهِ كانه دعا نفسه اليه فطاوعته و اطاعته قال فى الصحاح طوعت ابلغ من اطاعت فلما قصد قابيل قتله لم يدر كيف يقتله قال ابن جريح فتمثل له إبليس فاخذ طيرا فوضع راسه على حجر ثم شدخ راسه بحجر اخر و قابيل ينظر اليه فعلمه القتل فرضخ قابيل راس هابيل بين حجرين قيل و هو مستسلم و قيل اغتاله فى النوم فشدخ راسه فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ فى الدنيا حيث بقي مدة عمره مطرودا محزونا و فى الاخرة حيث بدل جنته بالنار و كان هابيل يوم قتل ابن عشرين سنة قال ابن عباس قتله على جبل نود و قيل عند عقبة حراء فلما قتله تركه بالعراء و لم يدر ما يصنع به لانه كان أول ميت على وجه الأرض من بنى آدم و قصده السباع فجعله فى جراب على ظهره أربعين يوما و قال ابن عبّاس سنة حتى تعير و عكفت عليه الطير و السباع تنتظر متى يرمى به فتاكله فبعث اللّه غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ثم حفر له بمنقاره و برجله حتى مكن له ثم ألقاه فى الحفرة و واراه و قابيل ينظر اليه و ذلك قوله تعالى.

٣١

فَبَعَثَ اللّه غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ الضمير المرفوع راجع الى اللّه سبحانه او الى الغراب كَيْفَ حال من الضمير فى يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قدم عليه لاقتضائه صدر الكلام و الجملة ثانى مفعولى ليريه و الروية هاهنا بمعنى العلم دون الابصار إذ الابصار لم يتحقق بمواراة سوأة أخيه بل بمواراة الغراب و لا بد هاهنا من مفعول ثالث لتعديته بهمزة الافعال فتقول جملة كيف يوارى قائم مقام المفعولين كما فى قولك علمت ان زيدا قائم و معنى الكلام ليريه توارى سوأة أخيه متكيفا بتلك الكيفية و المراد بسوأة أخيه جسده الميت فانه مما يستقبح ان يرى و قيل المراد به عورته و ما لا يجوز ان ينكشف من جسده و لم يلهم اللّه سبحانه قابيل ما الهم الغراب ازدراء به و تنبيها على انك أهون على اللّه من الغراب و ابعد منزلة منه حتى جعلك تلميذا له يدل عليه قوله قالَ يا وَيْلَتى كلمة جزع و تحسر و الالف منه بدل من ياء المتكلم و المعنى يا ويلتى احضرى هذا أوانك و نجنى من الم العجز و الويل الهلاك و هو منادى مستغاث او كلمة ندبة مثل يا حسرتا أَ عَجَزْتُ و الاستفهام للتعجب أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ عطف على ان أكون و ليس جواب الاستفهام إذ ليس المعنى لو عجزت لو اريت سَوْأَةَ أَخِي يعنى لست انا اهتدى الى ما اهتدى اليه الغراب فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ على حمله على عاتقه سنة و قيل ندم على فراق أخيه و قيل ندم على القتل لانه أسخط والديه و ما انتفع بقتله شيئا و لم يكن ندم على القتل من حيث ركوب الذنب قال المطلب بن عبد اللّه بن حنطب لما قتل ابن آدم أخاه رجفت الأرض بما عليها ثم شربت الأرض دمه كما يشرب الماء فناداه اللّه اين أخوك هابيل قال ما أدرى ما كنت عليه رقيبا فقال ان دم أخيك لينادينى من الأرض فلم قتلت أخاك قال فاين دمه ان كنت قتلته فحرم اللّه عز و جل على الأرض يومئذ ان يشرب دما بعده ابدا و روى انه لما قتله اسود جسده فسأله آدم عن أخيه فقال ما كنت عليه وكيلا فقال بل قتلته و لذلك اسود جسدك و تبرأ عنه و مكث بعد ذلك مائة سنة لا يضحك و قال مقاتل ابن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس لما قتل قابيل هابيل و آدم بمكة اشتاك الشجر و تغيرت الاطعمة و حمضت الفواكه و امرّ الماء و اغبرت الأرض فقال آدم قد حدث فى الأرض حدث فاتى الهند فاذا قابيل قتل هابيل فانشا يقول و هو أول من قال شعرا

تغيرت البلاد و من عليها فوجه الأرض مغبر قبيح

تغير كل ذى طعم و لون و قل بشاشة الوجه المليح

و روى عن ميمون بن مهران عن ابن عبّاس قال من قال ان آدم قال شعرا فقد كذب على اللّه و رسوله فان محمدا و الأنبياء كلهم فى الشعر سواء لكنه لما قتل هابيل رثاه آدم و هو سريانى فلما قال آدم مرثية قال لشيث يا بنى انك وصيي احفظ هذا الكلام ليتوارث فيرق الناس عليه فلم يزل ينقل حتى وصل الى يعرب بن قحطان و كان يتكلم بالعربية و السريانية و هو أول من خط بالعربية و كان يقول الشعر فرد المقدم

الى المؤخر و المؤخر الى المقدم و جعله موزونا و زيد فيه أبيات منها

و مالى لا أجود بسكب دمع و هابيل تضمنه الضريح

ارى طول الحياة علىّ غما فهل انا من حياتى مستريح

فلما مضى من عمر آدم مائة و ثلثون سنة و ذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له حواء شيثا و اسمه هبة اللّه يعنى انه خلف من هابيل علمه اللّه ساعات الليل و النهار و علمه عبادة الحق فى كل ساعة منها و انزل عليه خمسين صحيفة فصار وصى آدم و ولى عهده فاما قابيل فقيل له اذهب طريدا شريدا فزعا مرعوبا لا تأمن من تراه فاخذ بيد أخته إقليما و هرب بها الى عدن من ارض اليمن فاتاه إبليس فقال له انما أكلت النّار قربان هابيل لانه كان يعبد النار فانصب أنت ايضا نارا تكون لك و لعقبك فبنى بيتا للنار فهو اوّل من عبد النار و اتخذ أولاد قابيل آلات اللّهو من اليراع و الطبول و المزامير و العيدان و الطنابير و انهمكوا فى اللّهو و شرب الخمر و عبادة النار و الزنا و الفواحش حتى غرقهم اللّه بالطوفان ايام نوح و بقي نسل شيث عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يقتل نفس ظلما الا كان على ابن آدم الاوّل كفل من دمها لانه اوّل من سن القتل رواه البخاري و غيره و روى البيهقي فى شعب الايمان عن ابن عمر و ابن آدم القاتل يقاسم اهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم

و اخرج ابن عساكر عن ابى هريرة عن النبىّ صلى اللّه عليه و سلم قال من هجر أخاه سنة لقى اللّه بخطية قابيل لا يفكه شى ء دون و لوج النار.

٣٢

مِنْ أَجْلِ ذلِكَ قرأ ابو جعفر من أجل بكسر النون موصولا و إلقاء الهمزة و العامة بسكون النون و فتح الهمزة مقطوعا اى بسبب وقوع ذلك الجناية العظيمة من ابن آدم و سد باب القتل و أجل فى الأصل مصدر أجل شرا بأجل إذا اجناه اى جره اليه فى القاموس أجل للشر عليهم ياجله جناه إذا ثاره و هيجه ثم استعمل فى تعليل الجنايات ثم اتسع فيه فاستعمل فى كل تعليل و من ابتدائية متعلقة بقوله كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ اى ابتداء الكتب و انشأه من أجل ذلك أَنَّهُ الضمير للشان مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ اى بغير قتل نفس يوجب القصاص أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ و هو يشتمل فساد اهل الحرب و اهل البغي و قطاع الطريق وزنا يعنى بغير هذه الأشياء الموجبة للقتل فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ «١» جَمِيعاً

قال البغوي اختلفوا فى تأويلها

(١) اخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن مجاهد فى قوله تعالى فكانما قتل الناس جميعا قال هذه مثل التي فى سورة النساء و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها و غضب اللّه عليه و لعنه و اعدله عذابا عظيما يقول لو قتل الناس لم يزد على مثل ذلك ١٢ منه.

فقال ابن عباس فى رواية عن عكرمة من قتل نبيا او امام عدل فكانما قتل الناس جميعا و من شد على عضد نبىّ او امام عدل فكانما أحيا الناس جميعا

و قال مجاهد من قتل نفسا محرمة يصل النار بقتلها كما يصل لو قتل الناس جميعا و من أحياها يعنى من سلم من قتلها فقد سلم من قتل الناس جميعا و قال قتادة عظم اللّه أجرها و عظم وزرها معناه من استحل قتل مسلم بغير حقه فكانما قتل الناس جميعا فى الإثم لانهم لا يسلمون منه وَ مَنْ أَحْياها اى تورع عن قتلها او استنقذها من بعض اسباب الهلاك كالقتل بغير حق او غرق او حرق او هدم او نحو ذلك فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً فى الثواب لسلامتهم منه و قال الحسن فكانما قتل الناس جميعا يعنى انه يجب عليه القصاص بقتلها مثل الذي يجب عليه لو قتل النّاس جميعا و من أحياها اى عفا عمن وجب عليه القصاص له فلم يقتله فكانما احيى الناس جميعا و المقصود من هذه الاية تعظيم قتل النفس و إحياءها فى القلوب ترهيبا عن التعرض لها و ترغيبا فى المحاماة عليها عن البراء بن عازب ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لزوال الدنيا أهون على اللّه من قتل مؤمن بغير حق رواه ابن ماجة بسند حسن و البيهقي و زاد و لو ان اهل سموته و اهل ارضه اشتركوا فى دم مؤمن لادخلهم النار و فى رواية له من سفك دم بغير حق و لمسلم من حديث عبد اللّه بن عمر مثل الاول و النسائي من حديث بريدة قتل المؤمن أعظم عند اللّه من زوال الدنيا و لابن ماجة من حديث عبد اللّه بن عمر و رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يطوف بالكعبة و يقول ما اطيبك و ما أطيب ريحك و ما أعظمك و ما أعظم حرمتك و الذي نفسى بيده لحرمة المؤمن أعظم من حرمتك و ماله و دمه قال سليمان بن على قلت للحسن فى هذه الآية يا أبا سعيد أ هي لنا كما كانت لبنى إسرائيل قال اى و الذي لا اله غيره ما كان دماء بنى إسرائيل أكرم على اللّه من دمائنا وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ يعنى بنى إسرائيل رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الواضحات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ اى بعد ما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل أمثال تلك الجناية و أرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحات تأكيدا للامر و تجديدا للعهد كى يتحاموا عنها كثير منهم فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ بالقتل لا يبالون به و الإسراف التباعد عن حد الاعتدال فى الأمر.

٣٣

إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّه وَ رَسُولَهُ «١» اى يحاربون عباد اللّه و يحاربون رسوله فانه صلى اللّه عليه و سلم هو الحافظ للطرق و الخلفاء و الملوك بعده نوابه او المعنى يحاربون اللّه و رسوله انهم يخالفون أمرها و يهتكون حرمة دماء و اموال ثبت باثباتهما

قال البيضاوي اصل الحرب السلب و فى القاموس الحرب معروف و السلب و هذا يدل على كونه مشتركا و كلام البيضاوي يدل على كونه منقولا وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً اى مفسدين او للفساد و جاز ان يكون منصوبا على المصدرية لان سعيهم كان فسادا و قيل يفسدون فى الأرض فسادا و اختلفوا فى نزول هذه الاية اخرج ابن جرير عن يزيد بن ابى حبيب ان عبد الملك بن مردان كتب الى انس يسأله عن هذه الاية فكتب اليه انس ان هذه الاية نزلت فى العرنيين ارتدّوا عن الإسلام و قتلوا الراعي و استاقوا الإبل الحديث ثم اخرج عن جرير مثله

و اخرج عبد الرزاق نحوه عن ابى هريرة و كذا ذكر البغوي قول سعيد بن جبير روى البخاري و غيره عن انس قال لما قدم على النبىّ صلى اللّه عليه و سلم نفر عن عكل فاسلموا فاجتوت «٢» المدينة فامرهم النبي صلى اللّه عليه و سلم ان يأتوا ابل الصدقة فيشربوا من أبوالها و ألبانها ففعلوا فصحوا فارتدوا و قتلوا رعاتها و استاقوا

(١) اخرج الخرابطى فى مكارم الأخلاق عن ابن عباس ان قوما من عرينة جاؤا الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فاسلموا و كان قد شلت أعضائهم و اصفرت وجوههم و عظمت بطونهم فامر بهم النبىّ صلى اللّه عليه و سلم الى ابل الصدقة يشربون من ألبانها و أبوالها فشربوا حتى صحوا و سمنوا فعمدوا الى راعى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقتلوا و استاقوا الإبل و ارتدوا عن الإسلام و جاء جبرئيل فقال يا محمد ابعث فى اثارهم فبعث ثم قال ادع بهذا الدعاء اللّهم ان السماء سماءك و الأرض أرضك و المشرق مشرقك و المغرب مغربك اللّهم ضيق عليهم الأرض برحبها حتى تجعلها عليهم أضيق من سك جمل حتى تقدرنى عليهم فجاؤا بهم فانزل اللّه تعالى انما جزاؤ الذين الاية فامر جبرئيل من أخذ المال و قتل يصلب و من قتل و لم يأخذ يقتل و من أخذ المال و لم يقتل يقطع يده و رجله من خلاف قال ابن عباس هذا الدعاء لكل ابق و لكل من ضلت له ضالة من انسان او غيره يدعو بهذا الدعاء و يكتب فى شى ء و يدفن فى مكان نظيف الا قدره اللّه عليه ١٢.

(٢) اى أصابهم الجوى و هو المرض و داء الجوف إذا تطاول و ذلك إذا لم يوافقهم هواء المدينة ١٢ نهايه.

فبعث النبي صلى اللّه عليه و سلم فى اثارهم فاتى بهم فقطع أيديهم و أرجلهم ثم أمرهم بمسامير فكحلهم بها و طرحهم بالحرة يستسقون فما يسقون حتى ماتوا قال ابو قلابة قتلوا و سرقوا و حاربوا اللّه و رسوله وسعوا فى الأرض فسادا و اختلفوا فيما فعل بالعرنيين فقال بعضهم منسوخ بهذه الاية لان المثلة لا يجوز و قال بعضهم حكم ثابت الا السمل و المثلة و هذا القول لا يتصور الا إذا كان الامام مخيرا بين الاحكام الاربعة المذكورة فى هذه الاية و روى قتادة عن ابن سيرين ان ذلك كان قبل ان ينزل الحدود و قال ابو الزناد لما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ذلك بهم انزل اللّه الحدود و نهاه عن المثلة فلم يعدو عن قتادة قال بلغنا ان النبي صلى اللّه عليه و سلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة و ينهى عن المثلة و قال سليمان التيمي عن انس انما سمل النبي صلى اللّه عليه و سلم أعينهم لانهم سملوا أعين الرعاة و قال الليث بن سعد نزلت هذه الاية معاتبة لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و تعليما منه إياه عقوبتهم و قال انما جزاؤهم هذه لا المثلة و قال الضحاك نزلت هذه الاية فى قوم من اهل الكتاب كان بينهم و بين رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عهد فنقضوا العهد و قطعوا السبيل و أفسدوا فى الأرض و قال الكلبي نزلت فى قوم هلال بن عويمر و ذلك ان النبي صلى اللّه عليه و سلم و ادع هلال بن عويمر و هو ابو برزة الأسلمي على ان لا يعينه و لا يعين عليه و من مر بهلال بن عويمر الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فهوا من لا يهاج فمر قوم من بنى كنانة يريدون الإسلام بناس من اسلم من قوم هلال ابن عويمر و لم يكن هلال شاهدا فنهدوا إليهم فقتلوهم و أخذوا أموالهم فنزل جبرئيل عليه السلام بالقضية فيهم و اللّه اعلم- (فائدة) اجمعوا على ان المراد بالمحاربين المفسدين فى هذه الاية قطاع الطريق سواء كانوا مسلمين او من اهل الذمة و اتفقوا على ان من برزو شهر السلاح مخيفا مغيرا خارج المصر بحيث لا يدركه الغوث فهو محارب قاطع للطريق جارية عليه احكام هذه الاية و اختلفوا فيمن قطع الطريق ليلا او نهارا فى المصر او بين الكوفة و الحيرة مثلا فقال مالك رح و الشافعي رح و احمد رح هو قاطع محارب و قال ابو حنيفة رح لا يثبت هذا الحكم الا فيمن يكون خارج المصر بعيدا منه بحيث لا يلحقه الغوث كذا ذكر صاحب رحمة الامة و

قال البغوي المكابرون فى الأمصار داخلون فى حكم هذه الاية و هو قول مالك و الأوزاعي و الليث ابن سعد و الشافعي رح و قال ابن همام هذا مذهب الشافعي رح فان فى وجيزهم من أخذ فى البلد مالا مغالبة فهو قاطع طريق و على ظاهر الرواية من مذهب ابى حنيفة رح يشترط ان يكون بين مكان القطع و بين المصر مسيرة سفر و عن ابى يوسف رح انه إذا كان خارج المصر و لم يقرب منه يجب الحد لانه لا يلحقه الغوث لانه محارب بل مجاهرته هاهنا اغلظ من مجاهرته فى المفازة و لا تفصيل فى النصّ فى مكان القطع و عن مالك كل من أخذ المال على وجه لا يمكن لصاحبه الاستعانة فهو محارب و عنه لا محاربة الا على قدر ثلثة أميال من العمران و توقف احمد مرة و عند اكثر أصحابه ان يكون بموضع لا يلحقه الغوث و عن ابى يوسف رح فى رواية اخرى ان قصد بالسلاح نهارا فى المصر فهو قاطع و ان قصد بخشب و نحوه فليس بقاطع و فى الليل يكون قاطعا بالخشب و الحجر لان السلاح لا يلبث فيتحقق القطع قبل الغوث و الغوث يبطى بالليل فيتحقق القطع فيها بلا سلاح و فى شرح الطحاوي الفتوى على قول ابى يوسف رح يعنى هذا قال فى الهداية قول ابى حنيفة رح استحسان و القياس قول الشافعي رح لوجود قطع الطريق حقيقة و وجه الاستحسان ان قطع الطريق بقطع المادة و لا يتحقق ذلك فى المصر و يقرب منه لان الظاهر لحوق الغوث انتهى كلامه و قال ابن همام و أنت تعلم ان الحد المذكور فى الاية لم ينط بمسمى قطع الطريق و انما هو اسم من الناس و انما ينط بمحاربة عباد اللّه على ما ذكرنا من تقدير المضاف و ذلك يتحقق فى خارجه ثم هذا الدليل المذكور لا يفيد تعيين مسيرة ثلثة ايّام بين المصر و بين القاطع قلت و حديث العرنيين يابى عن اشتراط هذه المسافة بين المصر و مكان القطع و اللّه اعلم- (مسئلة:) و يشترط كونهم ذا منعة جماعة تمنعين او واحد يقدر على الامتناع لا مختلسون يتعرضون لاخر القافلة يعتمدون المهرب و الذين يغلبون شرذمة بقوتهم فهم قطاع فى حقهم و ان لم يكونوا قطاعا فى حق قافلة عظيمة و هذا الشرط يستفاد من الاية فان المحاربة و الفساد فى الأرض لا يتحقق بدون المنعة و القدرة على الامتناع أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ يعنى أيديهم الايمان و أرجلهم الإيسار بإجماع الامة أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذهب قوم الى ان الامام بالخيار فى امر المحاربين بين القتل و الصلب و القطع و النفي كما هو المستفاد من ظاهر الاية بكلمة او فانها للتخيير و لا يحتاج حينئذ الى تقدير تقييد و هو قول سعيد ابن المسيب و عطاء و داود و الحسن و الضحاك و النخعي و مجاهد و ابو ثور و قال مالك انه يفعل فيهم الامام على ما يراه و يجتهد فمن كان منهم ذا راى و قوة قتله فان راى زيادة سياسة صلب و من كان ذا قوة و جلدة بلا رأى قطعه من خلاف و من كان لا راى له و لا قوة نفاه و المراد بالنفي عنده ان يخرج من البلد الذي كان فيه الى غيره و يحبس فيه كما سنذكر قول محمد بن جبير و يشترط عند مالك فى المال المأخوذ ان يكون جملتها نصابا و لا يشترط عنده ان يكون نصيب كلواحد من المحاربين نصابا و قال ابو حنيفة رح و الشافعي رح و احمد رح و الأوزاعي و قتادة كلمة او للتوزيع على احوال القاطع ان قصدوا قطع الطريق و أخافوا فاخذوا قبل ان يأخذوا مالا او يقتلوا نفسا ينفوا من الأرض و المراد بالنفي عند ابى حنيفة رح ان يحبس حتى يظهر منه التوبة لانه نفى عن وجه الأرض بدفع شرهم عن أهلها قال مكحول ان عمر بن الخطاب أول من حبس فى السجون و قال احبسه حتى اعلم منه التوبة و لا انفيه الى بلد فيوذيهم و قال محمد بن جبير ينفى من بلده الى غيره و يحبس فى السجن فى البلد الذي نفى اليه حتى يظهر توبته و على هذا القول يلزم الجمع بين الحقيقة و المجاز و قال اكثر العلماء هو ان يطلبه الامام ففى كل بلد يوجد ينفى عنه و لا يتمكنون من القرار فى موضع و ان أخذوا مال مسلم او ذمى و لم يقتلوا و المأخوذ إذا قسم على جماعتهم أصاب كل واحد نصاب السرقة و هو عشرة دراهم عند ابى حنيفة رح و ربع دينار عند الشافعي رح و احمد رح او ثلثة دراهم كما سنذكره إن شاء اللّه تعالى اقطع الامام أيديهم و أرجلهم من خلاف و ان قتلوا و لم يأخذوا مالا قتلهم الامام حدا و لا يلتفت الى عفو الأولياء و ان باشر القتل او الاخذ أحدهم اجرى الحد على جميعهم عند ابى حنيفة رح و مالك و احمد رح لانه جزاء المحاربة و هى يستحقق بان يكون البعض ردا للبعض حتى لو زالت أقدامهم انحازوا إليهم و انما الشرط القتل من واحد منهم و التشديد فى قوله تعالى ان يقتّلوا او يصلّبوا او تقطع يفيدان يجرى الحد بمباشرة بعضهم على كلهم واحدا بعد واحد فان التفعيل للتكثير و ايضا يفيد المبالغة فلا يجوز عفوه و قال الشافعي رح لا يجب على الرد أغير التعزير بالحبس و التغريب و غير ذلك و ان قتلوا و أخذوا المال فعند ابى حنيفة رح و ابى يوسف الامام بالخيار ان شاء قطع أيديهم و أرجلهم من خلاف و قتلهم و صلبهم و ان شاء قتلهم و ان شاء صلبهم و عنه الشافعي رح و احمد رح قتلوا و صلبوا و لا قطع فيه و هو الظاهر من الاية و قال محمد يقتل او يصلب و لا يقطع لانه جناية واحدة فلا توجب حدين و لان ما دون النفس يدخل فى النفس فى باب الحد كحد السرقة و الرجم وجه قول ابى حنيفة رح ان هذه عقوبة واحدة تغلظت لتغلظ سببها و هو تفويت الا من على التناهى بالقتل و أخذ المال و لهذا كان قطع اليد و الرجل فى السرقة الكبرى حدا واحدا و ان كان فى الصغرى حدين و التداخل انما يكون فى حدين لا فى حد واحد و عن ابى يوسف رح انه يقتل و يصلب البتة و لا يترك الصلب لانه منصوص عليه و المقصود به التشهير ليعتبر به غيره و قال ابو حنيفة رح اصل التشهير بالقتل و المبالغة فى الصلب فيخير فيه و صفة الصلب عند الشافعي رح انه يقتل ثم يصلب و قيل عنده يصلب حيا ثم يطعن برمح حتى يموت و كلا الروايتين عن ابى حنيفة رح الاولى مختار الطحاوي رح توقيا عن المثلة و الثانية مروى عن الكرخي رح و هو الأصح لدخول كلمة او بين القتل و الصلب و لا يصلب فوق ثلثة ايّام عند ابى حنيفة رح لانه يتغير بعدها فيتاذى به الناس و عن ابى يوسف رح انه يترك على خشبة حتى ينقطع فيسقط ليعتبر به غيره

قلنا يحصل الاعتبار بالصلب و النهاية غير مطلوبة و هذا التفسير الذي اختاره الجمهور رواه الشافعي رح عن ابن عباس قال فى قطاع الطريق إذا قتلوا و أخذوا المال قتلوا و صلبوا و إذا قتلوا و لم يأخذوا المال قتلوا و لم يصلبوا و إذا أخذوا المال و لم يقتلوا قطعت أيديهم و أرجلهم من خلاف و إذا أخافوا السبيل و لم يأخذوا مالا نفوا من الأرض و رواه البيهقي من طريق محمد بن سعد العوفى عن ابائه الى ابن عبّاس فى هذه الاية قال إذا حارب و قتل فعليه القتل إذا ظهر عليه قبل توبته و إذا حارب و أخذ المال و قتل فعليه الصلب و ان لم يقتل فعليه قطع اليد و الرجل من خلاف و ان حارب و أخاف السبيل فعليه النفي و روى محمد عن ابى يوسف رح عن الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس قال و ادع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أبا بردة هلال بن عويمر الأسلمي فجاء أناس يريدون الإسلام فقطع عليهم اصحاب ابى بردة الطريق فنزل جبرئيل على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بالحدان من قتل و أخذ المال صلب و من قتل و لم يأخذ قتل و من أخذ مالا و لم يقتل قطعت يده و رجله من خلاف و من جاء مسلما هدم الإسلام ما كان منه فى الشرك و فى رواية عطية عن ابن عباس و من أخاف الطريق و لم يقتل و لم يأخذ المال نفى رواه احمد بن حنبل فى تفسيره عن ابى معاوية عن عطية و ايضا القول بالتوزيع موافق لقواعد الشرع دون التخيير لان هذه الجناية يتفاوت خفة و غلظا و القول بالتخيير يقتضى جوازان يترتب على اغلظ الجنايات أخف الاجزية و بالعكس و القتل بالقتل و القطع بالأخذ و الجمع بين الصلب و القتل بالجمع امر معقول و انما أجاز ابو حنيفة رح الاكتفاء بالقتل و ترك الصلب بحديث العرينين حيث لم يصلبهم النبي صلى اللّه عليه و سلم.

(مسئلة:) و ان لم يقتل القاطع و لم يأخذ مالا و قد جرح اقتص منه مما فيه القصاص و أخذ الأرش مما فيه الأرش و ذلك الى المجنى عليه فيجوز عفوه قال فى الهداية لانه لا حد فى هذه الجناية فظهر حق العبد و هو ما ذكرناه و يرد عليه ان حد هذه الجناية النفي بسبب الاخافة فقوله لاحد فى هذه الجناية ممنوع.

(مسئلة:) و ان أخذ ما لا ثم جرح قطعت يده و رجله و بطلت الجراحات لانه لما وجب الحد حقا للّه تعالى سقطت عصمة النفس حقا للعبد كما يسقط عصمة المال عند ابى حنيفة رح و قال الشافعي رح لا يسقط حق العبد بالحد فيستوفى الجراحات مع الحد و على هذا الخلاف إذا قتل القاطع حدا او قطعت يده و رجله لا ضمان عليه فى مال أخذ و هلك عنده او استهلك عند ابى حنيفة رح و عند الشافعي رح و احمد رح عليه الضمان و ان كان المال موجودا يرد على المالك اجماعا و سنذكر هذا الخلاف فى حد السرقة ان شاء اللّه تعالى.

(مسئلة:) ان كان فى قطاع الطريق امرأة فوافقتهم فقتلت و أخذت قال مالك رح و الشافعي رح و احمد رح تقتل حدا و قال ابو حنيفة رح تقتل قصاصا و تضمن المال.

(مسئلة:) و ان كان من قطاع الطريق صبى او مجنون يحد الباقون عند الائمة الثلاثة و قال ابو حنيفة و زفر يسقط الحد عن الباقين و عن ابى يوسف رح لو باشر العقلاء يحد الباقون و كذا الخلاف لو كان من قطاع الطريق ذو رحم محرم من بعض اهل القافلة لابى حنيفة رح انه جناية واحدة قامت بالكل فاورثت شبهة فى الباقين و عند الجمهور لا عبرة بهذه الشبهة إذ حينه عن ينسد باب الحد.

(مسئلة:) إذا قطع بعض القافلة على البعض لا يجب الحد لان القافلة حرز واحد فصار كسارق سرق متاع غيره و هو معه فى دار واحدة و إذا لم يجب الحد وجب القصاص و الضمان ذلِكَ الذي ذكر لَهُمْ من الحد خِزْيٌ ذل و فضيحة فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم ذنبهم.

٣٤

إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ

قال البغوي من ذهب ان الاية نزلت فى الكفار قال معناه الا الذين تابوا من الشرك و اسلموا قبل القدرة عليهم فلا سبيل عليهم بشئ من الحدود و لا تبعة عليهم فيما أصابوا فى حال الكفر من دم او مال قلت و كذا ان تاب الكافر الحربي عن الشرك بعد القدرة و يثبت هذا الحكم من غير هذه الاية و اما قطاع الطريق من المسلمين و اهل الذمة فمن تاب منهم من قطع الطريق قبل القدرة عليه اى قبل ان يظفر به الامام فبمقتضى هذا الاستثناء يسقط عنه الحد المذكور حقا للّه تعالى اجماعا كما يدل عليه قوله تعالى فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ و اما حقوق العباد فقال بعضهم يسقط و لا يكون لاحد عليه تبعة فى دم او مال الا ان يوجد معه مال بعينه فيرده الى صاحبه و هو المروي عن على فى حارثة بن بدر كان خرج محاربا فسفك الدماء و أخذ الأموال ثم جاء تائبا قبل ان يقدر عليه فلم يجعل عليه على عليه السلام تبعة كذا روى ابن ابى شيبة و عبد بن حميد و ابن ابى الدنيا و ابن جرير و ابن ابى حاتم عن الشعبي عن على

و اخرج ابن ابى شيبة و عبد بن حميد عن اشعث عن رجل عن ابى موسى الأشعري نحوه و عند الجمهور لا يسقط عنه حقوق العباد فان كان قد قتل و أخذ المال و تاب قبل ان يظفر به يستوفى الولي القصاص او يعفو و يجب ضمان المال إذا هلك فى يده او استهلكه قال ابو حنيفة سقوط القصاص و الضمان انما كان مبنيا على وجوب الحد و كونه خالص حق اللّه تعالى فاذا ظهر بالاستثناء ان الحد لم يجب ظهر حق العبد فى النفس و المال و يجب القصاص فى النفس و الأطراف و الضمان فى الأموال تغير هذه الاية و اللّه اعلم.

٣٥

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ اى التقرب رواه الحاكم عن حذيفة و كذا روى الفرياني و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن ابى حاتم عن ابن عباس قلت يعنى تقربا ذاتيا بلا كيف فى القاموس الوسيلة المنزلة عند الملك و الدرجة و القربة و الواسل الراغب و فى الصحاح الوسيلة التوصل الى شى ء برغبة و هى أخص من الوصيلة لتضمنها معنى الرغبة و فى الحديث الوسيلة درجة عند اللّه ليس فوقها درجة فسلوا اللّه ان يوتينى الوسيلة رواه احمد بسند صحيح عن ابى سعيد الخدري مرفوعا و روى مسلم عن عبد اللّه ابن عمرو بن العاص قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علىّ فانه من صلى علىّ صلوة صلى اللّه عليه بها عشرا ثم سلوا اللّه لى الوسيلة فانها منزلة فى الجنة لا ينبغى الا لعبد من عباد اللّه و أرجو ان أكون انا هو فمن سال لى الوسيلة حلت عليه الشفاعة

فان قيل هذه الأحاديث تدل على ان الوسيلة درجة ليست فوقها درجة و لا جرم انها مختصة بالنبي صلى اللّه عليه و سلم كما يدل عليه النصوص و الإجماع و قوله تعالى و ابتغوا اليه الوسيلة امر بطلبه و يظهر بذلك جواز حصوله لغيره فما الوجه لتخصيصه قلت المرتبة المختصة بالنبي صلى اللّه عليه و سلم لا يمكن حصولها لاحد من الناس بالاصالة و لكن جاز حصولها لكمل افراد أمته بالتبعية و الوراثة و من طلب زيادة شرح هذا المقام فليرجع الى مكاتيب سيدى و امامى القيوم الرباني المجدد للالف الثاني و من هاهنا يتلاشى كثير من اعتراضات المعاندين المتعصبين الغافلين عن حقيقة الأمر عن كلامه و يمكن ان يقال الوسيلة تعم درجات قربه تعالى و ما طلبه النبي صلى اللّه عليه و سلم لنفسه هو أعلى افرادها و اللّه اعلم- (فائدة) و كون الرغبة و المحبة داخلة فى مفهوم الوسيلة كما ذكره الجوهري فى الصحاح يفيدك ان الترقي الى هنالك منوط بالمحبة لا بشئ اخر و يؤيده ما قال المجدد رض ان السير يعنى النظري فى مرتبة اللاتعين التي هى أعلى مراتب القرب التي ليس فوقها درجة و هى المكنى عنها بقوله صلى اللّه عليه و سلم لى مع اللّه وقت لا يسعنى فيه ملك مقرب و لا نبى مرسل منوط بالمحبة لا غير و اللّه اعلم و المحبة ثمرة اتباع السنة قال اللّه تعالى فاتبعونى يحببكم اللّه فكمال متابعة النبي صلى اللّه عليه و سلم ظاهرا و باطنا يفيد حصول تلك المرتبة لمن يشاء اللّه تعالى تبعا و وراثة وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ مع اعداء اللّه سبحانه عن النفس و الشياطين و الكفار لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ و تفوزون الى ما هو مقصودكم من الخلوص لعبودية اللّه تعالى و كمال التقوى و ابتغاء الوسيلة.

٣٦

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ ثبت أَنَّ لَهُمْ فى الاخرة ما فِي الْأَرْضِ من صنوف المحبوبين عنده جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ و بذلوه يدل عليه سياق الكلام لِيَفْتَدُوا بِهِ و وحد الضمير و المذكور شيئان اما لاجرائه مجرى اسم الاشارة فى نحو قوله تعالى عوان بين ذلك او لان الواو فى و مثله بمعنى مع من قبيل كل رجل وضيعة معطوف على اسم ان و كلمة معه للتاكيد و التنبيه على ان الواو بمعنى مع

فان قيل الواو بمعنى مع يفيد المعية فى الثبوت لا المعية فى الافتداء

قلنا رجوع الضمير الى ما معه الشي ء يفيد تعلق الحكم الذي تعلق به بما معه التزاما مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ المترتب على كمال بعدهم من اللّه و كونهم ملعونين مطرودين عن رحمته ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ جواب لو و لو بما فى حيّزه خبر ان و المعنى ان الكافرين الذين اختاروا فى الدنيا محبوبين غير اللّه سبحانه من الأنفس و الأولاد و الأموال و غيرها و ما بذلوها فى الدنيا رغبة فى اللّه تعالى لو بذلوها فى الاخرة ما تقبل منهم لذهاب وقته

فان قيل هذا المعنى يحصل فى القول بان الذين كفروا لو افتدوا بما فى الأرض و مثله معه ما تقبل منهم مع كونه اخصر

قلنا فى هذا الأسلوب فائدتان جليلتان أحدهما انهم لو حصلوا ما فى الأرض و مثله للبذل و الافتداء و كانوا خائفين من اللّه و حفظوا الفدية له و تفكروا فى الافتداء و رعاية أسبابه كما هو شان من يصدر منه امر بهم ما تقبل منه فضلا عند كونه غافلين عن تحصيل الفدية ثانيهما ان لا يتوهم ان عدم قبول الفدية لانها ليست عندهم ما يفتدوا به و اللّه اعلم وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعنى انه كما لا يندفع به عذابهم لا يخفف عنهم عن انس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال يقول اللّه لاهون اهل النار عذابا يوم القيامة لو ان لك ما فى الأرض من شى ء أ كنت تفتدى به فيقول نعم فيقول أردت منك أهون من هذا و أنت فى صلب آدم ان لا تشرك بي شيئا فابيت ان لا تشرك بي متفق عليه.

٣٧

يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ اى يقصدون الخروج كما فى قوله تعالى كلما أرادوا ان يخرجوا منها أعيدوا فيها او يتمنون و يطلبون من اللّه كما فى قوله تعالى اخبارا عنهم ربنا أخرجنا منها وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها أورد الجملة الاسمية بدل و ما يخرجون للمبالغة و الجملة حال من فاعل يريدون وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ اى دائم فيه تصريح لما علم ضمنا من الجملة السابقة و فيها إفادة انه كما لا يندفع و لا يخفف عذابهم لا يندفع دوامه و لا يزول عنهم.

٣٨

وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما كان المختار عند النحاة فى مثل هذا الموضع اعنى فى اسم يقع بعده فعل مشتغل عنه بضميره و كان الفعل إنشاء النصب بإضمار الفعل على شريطة التفسير لان الإنشاء لا يقع خبرا الا بإضمار و تاويل و قد اتفق القراء هاهنا على الرفع فاحتاج النحاة هاهنا الى تكلف فقال سيبويه الاية جملتان السارق و السارقة مبتدأ خبره محذوف تقديره حكمهما فيما يتلى عليكم و قوله فاقطعوا جزاء شرط محذوف اى ان ثبت سرقتهما فاقطعوا و قال المبرد هى جملة واحدة و كون الفعل إنشاء و ان كان يقتضى النصب لكن يعارضه ان الفاء يمنع عن المنع فيما قبله فقوله تعالى السارق و السارقة مبتدأ تضمن معنى الشرط و لذا دخل الفاء على خبره اى الذي سرق و التي سرقت فاقطعوا قال المحقق التفتازانيّ الإنشاء فى مثل هذا الموضع يقع خبر مبتدأ بلا تكلف لكونه فى الحقيقة جزاء للشرط اى ان سرق أحد فاقطعوه و لم يدرج اللّه سبحانه الإناث هاهنا و كذا فى حد الزنا فى التعبير عن الذكور كما هو داب القران فى كثير من المواضع لان الحدود تندرئ بالشبهات فلابد فيه من التصريح و بدأ بذكر الرجل هاهنا و اخر فى الزانية و الزاني لان فى السرقة لا بد من الجرأة و هى فى الرجال اكثر و فى الزنا من الشهوة و هى فى النساء أوفر و قطعت اليد لانها فمعز الدولة السرقة و لم يقطع فمعز الدولة الزنا تعاديا عن قتل النسل و اليد اسم للعضو الى المنكب و لذلك ذهب الخوارج الى ان المقطع هو المنكب لكن توارث العمل و انعقد الإجماع على ان القطع من الرسغ و مثله لا يطلب له سند بخصوصه و قد روى فيه خصوص متون امر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قطع السارق من المفصل رواه الدارقطني فى حديث رداء صفوان و ضعف بالعذرى و رواه ابن عدى فى الكامل عن عبد اللّه بن عمر و فيه عبد الرحمن بن سلمة قال ابن القطان لا اعرف له حالا

و اخرج ابن ابىشيبة عن رجاء بن حيوة ان النّبى صلى اللّه عليه و سلم قطع رجلا من المفصل و انما فيه الإرسال

و اخرج عن عمر و على انهما قطعا من المفصل و قيل اليد اسم مشترك يطلق على ما الى المنكب و ما الى الرسغ بل الإطلاق الثاني أشهر من الاول حتى يتبادر عند الإطلاق و إذا كان مشتركا فالقطع من الرسغ عملا بالمتيقن و درأ للزائد عند احتمال عدمه و المراد بايديهما إيمانهما اجماعا عملا بقراءة ابن مسعود فاقطعوا إيمانهما و هى مشهورة يجوز به تقييد المطلق إذا كانا فى الحكم و اتحدت الحادثة و ليس هذا من بيان المجمل إذ لا إجمال فيه و قد قطع النبي صلى اللّه عليه و سلم و كذلك الصحابة اليمين فلو كان الإطلاق مرادا دون التقييد باليمين لقطع اليسار البتة طلبا لليسر للناس ما أمكن فان اليمين انفع من اليسار و اللّه اعلم و لما كان المراد إيمانهما جاز وضع الجمع موضع المثنى كما فى قوله تعالى صغت قلوبكما اكتفاء بتثنية المضاف اليه و احترازا عن تكرير التثنية و ذلك انما يجوز عند عدم اللبس فلا يقال عند ارادة التثنية افراسكما و غلمانكما و لو كان الإطلاق مرادا لم يجز ذلك لاجل اللبس فان أيدي الشخصين اربعة جاز ارادة الجمع ايضا و اللّه اعلم و السرقة أخذ مال الغير من حرز مختفيا قال فى القاموس سرق منه الشي ء و استرقه جاء مستترا الى حرز فاخذ مال غيره فالاخذ مال الغير على وجه الخفية من حرز داخل فى مفهومه فلهذا يشترط فى السرقة كون المال مملوكا لغيره لا يكون للسارق فيه ملك و لا شبهة ملك و كون المال فى حرز لا شبهة فيه و ما كان حرز الشي ء من الأموال فهو حرز لجميعها عند ابى حنيفة رح و عند الائمة الثلاثة الحرز يختلف باختلاف الأموال و مبناه على العرف فلو سرق لؤلؤا من إصطبل او حظيرة غنم يقطع عند ابى حنيفة لا عندهم و الحرز قد يكون بالمكان المعدلة و قد يكون بالحافظ كمن جلس فى الطريق او المسجد و عنده متاعه فهو محرز به و قد قطع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من سرق رداء سفيان من تحت راسه و هو نائم فى المسجد رواه مالك فى المؤطا و احمد من غير وجه و الحاكم و ابو داؤد و النسائي و ابن ماجة قال صاحب التنقيح حديث صحيح و له طرق كثيرة و ألفاظه مختلفة و ان كان فى بعضها انقطاع و فى بعضها ضعف و كون الاخذ مختفيا اما ابتداء و انتهاء ان كان السرقة بالنهارا و ابتداء فقط ان كانت بالليل فانه إذا نقب الجدار ليلا على الاستسرار أو أخذ المال من المالك جهارا مكابرة فهو سرقة و هذه الشروط مراعى بالإجماع لكونها ماخوذة فى مفهوم السرقة و ما قيدنا من عدم الشبهة فى الملك او الحرز فمستفاد من الأحاديث المرفوعة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فان وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله فان الامام لان يخطى فى العفو خير من ان يخطى فى العقوبة رواه الشافعي رح و الترمذي و الحاكم و البيهقي و صححه من حديث عائشة و روى ابن ماجة من حديث ابى هريرة مرفوعا بسند حسن ادفعوا الحدود عن عباد اللّه ما وجدتم له مدفعا و عن على مرفوعا ادرءوا الحدود و لا ينبغى للامام تعطيل الحدود رواه الدارقطني و البيهقي بسند حسن و روى ابن عدى فى جزء له من حديث اهل المصر بسند ضعيف و الجربزة عن ابن عباس مرفوعا ادرءوا الحدود بالشبهات و أقيلوا الكرام عثراتهم الا فى حد من حدود اللّه و روى صدره ابو مسلم الكحى و ابن السمعاني فى الذيل عن عمر بن عبد العزيز مرسلا و مسدد عن ابن مسعود موقوفا و قد انعقد الإجماع على درء الحدود بالشبهات و إذا تمهد ما ذكرنا من الشروط فى السرقة فليتفرع عليها مسائل منها انه لا قطع على منتهب و لا مختلس لانه يجاهر بفعله فليس بسرقة و لا على خائن و جاحد وديعة لقصور فى الحرز لانه قد كان فى يد الخائن و حرزه لا حرز المالك باعتبار انه احرزه بايداعه عنده لكنه حرز ماذون للسارق فيه الدخول فيه و فى ما ذكرنا حديث جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليس على المنتهب قطع و من انتهب نهبة مشهورة فليس منا رواه ابو داود و عنه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ليس على خائن و لا منتهب و لا مختلس قطع رواه احمد و الترمذي و قال حسن صحيح و النسائي و ابن ماجة و الدارمي و له شاهد من حديث عبد الرحمان بن عوف رواه ابن ماجة بإسناد صحيح و اخر من رواية الزهري عن انس أخرجه الطبراني فى الأوسط و رواه ابن الجوزي فى العلل من حديث ابن عباس و ضعفه و قال احمد يجب القطع على جاحد العارية لحديث عائشة قالت كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع و تجحده فامر النبي صلى اللّه عليه و سلم بقطع يدها فاتى أهلها اسامة بن زيد فكلموه فكلم اسامة النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال يا اسامة لا أراك تكلمنى فى حد من حدود اللّه ثم قام النبي صلى اللّه عليه و سلم خطيبا فقال انما هلك من كان قبلكم بانه إذا سرق فيهم الشريف تركوه و إذا سرق فيهم الضعيف قطعوه و الذي نفسى بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها فقطع يد المخزومية رواه مسلم و عن ابن عمر قال كانت مخزومية تستعير المتاع و تجحده فامر النبي صلى اللّه عليه و سلم بقطع يدها و أجاب الجمهور عن هذا الحديث بان المرأة كانت متصفة مشهورة بجحد العارية فعرفتها عائشة بوصفها المشهور و المعنى امرأة كانت وصفها جحد العارية سرقت فامرت بقطعها و لو سلمنا حملها على الظاهر فهذا الحديث يعارضه ما ذكرنا من حديث جابر لا قطع على الخائن و قد تلقته الامة بالقبول و العمل به فيحمل هذا الحديث على كونه منسوخا درا للحد و منها انه لا قطع على النباش بشبهة فى الملك و الحرز و به قال ابو حنيفة و محمد لان الكفن ليس ملكا للورثة لتاخر تعلق حقهم بالتركة من التجهيز بل من الديون و الوصايا ايضا و لا ملكا للميت فانه فى احكام الدنيا ملحق بالجمادات ليس أهلا للملك و القبر حفرة من الصحراء مامور للعموم المرور به ليلا و نهارا و لا غلق عليه و لا حارس فلا حرز و قالت الائمة الثلاثة و ابو يوسف بقطع النباش لقوله صلى اللّه عليه و سلم من نبش قطعناه و هو حديث منكر رواه البيهقي فى المعرفة من حديث البراء بن عازب و قال فى اسناده بعض من يجهل حاله و قال البخاري فى التاريخ قال هشيم حدثنا سهل شهدت ابن الزبير قطع نباشا و سهل ضعيف قال عطاء نتهمه بالكذب و روى احمد بن حنبل بسنده عن هشيم عن يونس عن الحسن و ابن سيرين قالا النباش يقطع و روى ايضا عن معاوية بن فروة قال يقطع النباش و لم يصح فى الباب حديث مرفوع و منها انه لا يقطع السارق من بيت المال عند ابى حنيفة و الشافعي و احمد و النخعي و الشعبي و قال مالك يقطع

قلنا انه مال عامة و السارق منهم

و اخرج ابن ابى شيبة عن عمر انه قال لا قطع عليه يعنى على سارق من بيت المال ما من أحد الا و له فيه حق و روى البيهقي عن على ليس على من سرق من بيت المال قطع

و اخرج ابن ماجة عن ابن عبّاس ان عبدا من رقيق الخمس سرق من المغنم فرفع الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فلم يقطعه و قال مال اللّه سرق بعضه بعضا و عن ابن مسعود فيمن سرق من بيت المال قال أرسله فما من أحد إلا و له فى هذا المال حق و منها انه لا يقطع السارق إذا كان للسارق فيه شركة بان سرق أحد الشريكين من حرز الاخر مالا مشتركا بينهما و منها انه من له على اخر دراهم فسرق مثلها لم يقطع لانه استوفى حقه و كذا لو سرق اكثر من حقه لان فى الزيادة يكون شريكا بحقه و منها انه لا يقطع الآباء و الأمهات و ان علوا فيما سرقوا من مال أولادهم لقوله صلى اللّه عليه و سلم أنت و مالك لابيك و كذا ان سرق الفرع مال أصله عند الثلاثة للبسوطة فى المال و فى الدخول فى الحرز و قال مالك يقطع و كذا من سرق من ذى رحم محرم كالاخ و العم عند ابى حنيفة للبسوطة فى الدخول فى الحرز و لذا أباح الشرع النظر الى مواضع الزينة الظاهرة و عند الائمة الثلاثة يقطع الحاقا لها بالقرابة البعيدة و مما يدل على نقصان الحرز فى المحارم من ذوى الأرحام قوله تعالى و لا على أنفسكم ان تأكلوا من بيوتكم او بيوت ابائكم او بيوت أمهاتكم او بيوت إخوانكم او بيوت أخواتكم او بيوت أعمامكم او بيوت عماتكم او بيوت أخوالكم او بيوت خالاتكم او ما ملكتم مفاتحه او صديقكم فانه يفيد اطلاق الدخول و جواز الاكل او يورث شبهة عند قيام دليل المنع كما فى قوله عليه السلام أنت و مالك لابيك

فان قيل فعلى هذا ينبغى ان لا يجب القطع من بيت الصديق ايضا

قلنا لما سرق من ماله فقد عاداه فلم يبق صديقا وقت السرقة و منها انه لو سرق من بيت ذى الرحم مال غيره لا يقطع و لو سرق من بيت غير ذى الرحم مال ذى رحمه يقطع عند ابى حنيفة رح اعتبارا للحرز و عدمه و منها انه لا يقطع أحد الزوجين بسرقة مال الاخر سواء سرق من بيت خاص لاحدهما او من البيت الذي هما فيه عند ابى حنيفة رح و هى رواية عن احمد رح و قول للشافعى و قال مالك رح و الشافعي رح و هى رواية عن احمد اخرى ان سرق من بيت خاص قطع و من بيت سكناها لا يقطع و فى قول للشافعى يقطع الزوج خاصة دون الزوجة لقوله صلى اللّه عليه و سلم لهند امرأة ابى سفيان خذ من ماله ما يكفيك و ولدك و وجه قول ابى حنيفة الاذن فى الدخول عادة فاختل الحرز و فى موطأ مالك عن عمر انه اتى بغلام سرق مراة امرأة سيده فقال ليس عليه شى ء خادمكم سرق متاعكم فاذا لم يقطع خادم الزوج فالزوج اولى و منها انه لا يقطع العبد بسرقة مال سيده او زوجة سيده او زوج سيدتها للاذن فى الدخول و لا الضيف إذا سرق ممن اضافه لوجود الاذن فى الدخول و لا من سرق من بيت اذن فى الدخول منه كحوانيت التجار نهارا و منها انه إذا سرق نصابا ثم ملكه بشراء او هبة مع القبض او ارث او غيره قبل الترافع او بعده و بعد القضاء لا يقطع عند ابى حنيفة و محمد و عند الائمة الثلاثة و ابى يوسف يقطع لان السرقة قد تمت انعقادا و ظهورا فلا شبهة و لحديث صفوان بن امية قال بينا أنارا قد إذ جاء السارق فاخذ ثوبى من تحت راسى فادركته فاتيت النبي صلى اللّه عليه و سلم فقلت ان هذا السرق ثوبى فامر به النبي صلى اللّه عليه و سلم ان يقطع فقلت يا رسول اللّه ليس هذا أردت هو عليه صدقة قال هلا قبل ان تأتيني به رواه مالك و احمد و ابو داؤد و ابن ماجة زاد النسائي فى روايته فقطعه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و روى ابو داؤد من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب و أجاب ابن همام بان حديث صفوان المذكور فى رواية كما ذكر و فى رواية الحاكم فى المستدرك انا أبيعه و انسئه ثمنه و سكت عليه و فى كثير من الروايات لم يذكر هذا بل قال ما كنت أريد هذا او قال أ يقطع رجل من العرب فى ثلثين درهما فكان فى هذه الزيادة اضطرابا و الاضطراب موجب للضعف و استيفاء الحدود من تمام القضاء و ملك السارق قبل القضاء توجب شبهة البتة.

(فصل) و يشترط للقطع ان يكون المال المسروق نصابا بإجماع اهل السنة و عند الخوارج لا يشترط ذلك و به قال ابن بنت الشافعي و داؤد و هو المروي عن الحسن البصري لاطلاق الاية و لقوله صلى اللّه عليه و سلم لعن اللّه السارق يسرق الحبل فيقطع يده و يسرق البيضة و يقطع يده متفق عليه من حديث ابى هريرة

قلنا الاية ليست على إطلاقه اجماعا و قول الخوارج لا عبرة بها و كذا قول داؤد و الحسن لا يصلحان خارقا للاجماع (مسئلة:) لو سرق جماعة نصابا واحدا او اكثر و أصاب كل واحد منهم اقل قال احمد يقطع أيديهم أجمعين و هو محمل حديث ابى هريرة عنده و قال مالك ان كانوا أخذوا نصابا واحدا و أخرجوه معا و كان المأخوذ مما يحتاج اليه المعاونة فيه قطعوا جميعا و الا لا يقطع ما لم يصب كلواحد نصابا و عند ابى حنيفة و الشافعي لا قطع على واحد من الجماعة بحال ما لم يصب كلواحد منهم نصابا.

(مسئلة:) نصاب السرقة عشرة دراهم او دينارا و ما يبلغ قيمة أحدهما عند ابى حنيفة رحمه اللّه و عند مالك و احمد فى اظهر الروايات عنه ربع دينار او ثلثة دراهم او ما يبلغ قيمة أحدهما و عند الشافعي ربع دينار من الدراهم و غيرها لحديث عائشة مرفوعا يقطع اليد فى ربع دينار فصاعدا و يروى لا يقطع اليد الا فى ربع دينار متفق عليه باللفظين معا و فى لفظ لن يقطع يد السارق على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى ادنى من ثمن المجن و فى لفظ لمسلم لا يقطع اليد الا فى ربع دينار فما فوقه و فى مسند احمد فى حديثها اقطعوا فى ربع دينار و لا تقطعوا فيما هو ادنى من ذلك و فى حديث ابن عمران رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قطع سارقا فى مجن قيمته ثلثة دراهم متفق عليه و روى مالك فى المؤطا عن عمرة بنت عبد الرحمن ان سارقا سرق فى زمن عثمان اترجة فامر بها عثمان فقومت بثلاثة دراهم من ضرب اثنا عشر بدينار فقطع عثمان يده وجه قول ابى حنيفة ان الاخذ بالأكثر فى هذا الباب اولى احتيالا للدرء و قد روى فى ثمن المجن اكثر مما ذكر روى الحاكم فى المستدرك عن مجاهد عن ايمن قال لم يقطع اليد على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الا فى ثمن المجن و ثمنه يومئذ دينار و روى احمد و الشافعي عن ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان قيمة المجن كان على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عشرة دراهم

و اخرج الدار قطنى و احمد من طريق سالم بن قتيبة حدثنا زفر بن هذيل حدثنا الحجاج بن ارطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يقطع السارق الا فى عشرة دراهم و روى ابن ابى شيبة فى مصنفه فى كتاب اللقطة عن سعيد ابن المسيب عن رجل من مزينة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ما بلغ ثمن المجن قطعت يد صاحبه و كان ثمن المجن عشرة دراهم و روى عبد الرزاق و الطبراني عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود موقوفا لا قطع الا فى دينار او عشرة دراهم و هو موقوف منقطع فان القاسم لم يسمع من ابن مسعود و الحق ان الأحاديث التي احتج بها الجمهور صحاح غاية الصحة و هذه الأحاديث ضعاف و لا ترجيح و لا أخذ بالأحوط الا عند المعارضة فان ابن إسحاق و سالم و زفر و الحجاج من رواة حديث عمرو بن شعيب كلهم ضعاف و ايضا قول الراوي قيمة المجن كان على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عشرة دراهم ظن و تخمين من الراوي و لا شك ان ثمن المجن قد يكون ثلثة دراهم و قد يكون عشرة و قد يكون اكثر من ذلك على اختلاف كيفية المجن فعلى هذا حديث لن يقطع يد السارق على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى ادنى من ثمن المجن كان مجملا و و الحديث بلفظ يقطع فى ربع دينار و بلفظ لا يقطع الا فى ربع دينار و بلفظ اقطعوا فى ربع دينار و لا تقطعوا فيما هو ادنى من ذلك محكم لا يعارضه الا لفظ لا يقطع السارق الا فى عشرة دراهم ان صح لكن بهذا اللفظ لا يصح مرفوعا و الموقوف فى الخلافيات لا يكون حجة اجماعا نقل عن الشافعي انه قال لمحمد بن الحسن هذه سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان يقطع فى ربع دينار فصاعدا فكيف قلت لا يقطع الا فى عشرة دراهم فصاعدا فاحتج محمد بحديث مجاهد عن ايمن بن أم ايمن أخي اسامة بن زيد لامه فاجاب الشافعي ان ايمن ابن أم ايمن قتل مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوم حنين قبل ان يولد مجاهد و قد ذكر ابو حاتم ان ايمن راوى هذا الحديث غير ايمن الذي قتل يوم حنين و هذا تابعي لم يدرك زمن النبي صلى اللّه عليه و سلم و لا زمن أحد من الخلفاء الاربعة قلت و من لم يدرك زمن الخلفاء كيف تلده أم ايمن مولاة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هى كانت حاضنة للنبى صلى اللّه عليه و سلم اكبر سنا منه و قيل ايمن كان اسما لرجلين من التابعين أحدهما مولى ابن الزبير و ثانيهما مولى ابن ابى عمر و ابن ابى حاتم و ابن حبان جعلاهما واحدا و الحاصل ان هذا الحديث لا يصلح كونه معارضا لحديث عائشة و ابن عمر.

(مسئله) و لا قطع عند ابى حنيفة رحمه اللّه فيما يوجد تافها مباحا فى تلك الديار كالخشب و الحشيش و القصب و السمك و الطير و الصيد و الجص و النورة و لا فيما يتسارع اليه الفساد من الاطعمة كاللبن و اللحم و الفواكه و الثمار الرطبة و الرطاب و عند الائمة الثلاثة يقطع فى كل ذلك انكانت محرزة لعموم الاية وجه قول ابى حنيفة ان الاية ليست على عمومها اجماعا حيث خص منها ما دون النصاب فيختص هذه الأشياء ايضا بحديث عائشة لم يكن السارق يقطع على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى الشي ء التافه رواه ابن ابى شيبة فى مصنفه من حديث عبد الرحمن بن سليمان عن هشام بن عروة عنها و رواه مرسلا ايضا عن وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه و رواه عبد الرزاق فى مصنفه أخبرنا ابن جريح عن هشام به و كذا اسحق بن راهويه قال أخبرنا عيسى بن يونس عن هشام و رواه ابن عدى فى الكامل مسندا عن عبد اللّه بن قبيصة الفزاري عن هشام بن عروة عن عائشة و لم يقل فى عبد اللّه هذا شيئا الا انه قال لم يتابع عليه و لم ار للمتقدمين فيه كلاما قال ابن همام لا يخفى ان هذه المرسلات كلها حجة و قد وصله ابن ابى شيبة و ما روى عبد الرزاق بسند فيه جابر الجعفي عن عبد اللّه بن يسار قال اتى عمر بن عبد العزيز برجل سرق دجاجة فاراد ان يقطعه فقال له سلمة بن عبد الرحمن قال عثمان لا قطع فى الطير و روى ابن ابى شيبة عن عبد الرحمن بن مهدى عن زهير بن محمد عن يزيد بن حفصة قال اتى عمر بن عبد العزيز برجل قد سرق طيرا فاستفتى فى ذلك السائب بن يزيد فقال ما رايت أحدا قطع فى الطير و ما عليه فى ذلك قطع فتركه عمر

و اخرج ابو داود فى المراسيل عن جرير بن حازم عن الحسن البصري ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال انى لا اقطع فى الطعام و ذكره عبد الحق و لم يعله بغير الإرسال و المرسل عندنا حجة و حديث رافع ابن خديج قال قال النبي صلى اللّه عليه و سلم لا قطع فى ثمر و لا كنز رواه الترمذي عن ليث بن سعد و النسائي و ابن ماجة عن سفيان بن عيينة كلاهما عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع و رواه ابن حبان فى صحيحه و عند تعارض الانقطاع و الوصل الوصل اولى لانه زيادة و من الثقة مقبولة قال الطحاوي هذا الحديث تلقته الامة بالقبول قالوا المراد بالثمر فى هذا الحديث الثمر المعلق بالشجر لعدم الحرز بدليل حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد اللّه بن عمرو انه عليه الصلاة و السلام سئل عن الثمر المعلق فقال من أصاب بفيه من ذى حاجة غير متخذ خبنة «١» فلا شى ء عليه و من خرج بشئ منه فعليه غرامة مثليه و من سرق منه شيئا بعد ان يوويه الجرين «٢» فبلغ تمن المجن فعليه القطع رواه ابو داود عن ابن عجلان و الوليد بن كثير و عبيد اللّه بن الأخنس و محمد بن اسحق اربعتهم عن عمرو بن شعيب و رواه النسائي من طريق وهب عن عمرو بن الحارث و هشام بن سعد عن عمرو بن شعيب و فى روايته ان رجلا من مزينة سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن الحريسة «٣» التي تؤخذ فى مراتعها فقال فيها ثمنها مرتين و ضرب و نكال و ما أخذ من عطته ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن قالوا يا رسول اللّه فالثمار و ما أخذ منها فى أكمامها فقال من أخذ بفيه و لم يتخذ خبنة فليس عليه شى ء و من احتمل فعليه ثمنه مرتين و ضرب و نكال و ما أخذ من اجرانه ففيه القطع رواه احمد و النسائي و فى لفظ ما ترى فى الثمر المعلق فقال ليس فى شى ء من الثمر المعلق قطع الا ما اواه الجرين فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع و ما لم يبلغ ثمن المجن غرامة مثليه و جلدات نكال و رواه الحاكم بهذا المتن و قال قال اما منا اسحق بن راهويه إذا كان الراوي عن عمرو بن شعيب ثقة فهو كايوب عن نافع عن ابن عمر و رواه ابن ابى شيبة و وقفه على عبد اللّه بن

(١) يعطف الإزار و طرف الثوب اى لا يأخذ منه فى ثوبه ١٢ نهاية.

(٢) موضع بخفيف التثمر.

(٣) الحريسة يقال للشاة التي يدركها الليل قبل ان يصل الى مراحها و فلان يأكل الحرساة إذا سرق أغنام الناس و أكلها ١٢ نهاية.

عمرو و قال ليس فى شى ء من الثمار قطع حتى يأوي الجرين و أخرجه عن ابن عمر مثله سواء و هذا الحديث حجة للائمة الثلاثة حيث أوجبوا القطع فى الثمار بعد الاحراز و ايضا يؤيد مذهبهم ما رواه مالك فى المؤطأ ان سارقا سرق اترجة فى عهد عثمان فامر بها عثمان فقومت ثلثة دراهم من ضرب اثنى عشر درهما بدينار فقطع يده قال مالك و هى الا ترجة التي يأكلها الناس و قال ابن كنانة كانت اترجة من ذهب قدر الحمصة يجعل فيها الطيب ورد عليه بانه لو كانت من ذهب لم يقوم و أجاب عنه الحنفية بوجوه أحدها ان هذا الحديث متروك الظاهر بنص الكتاب حيث وجب الحديث فى الثمر غرامة مثليه و فى الحريسة ثمنها مرتين و قد قال اللّه تعالى فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم و هذا انقطاع معنوى فى الحديث يوجب ترك العمل به ثانيها ان الحديث معارض بإطلاق ما روينا لا قطع فى ثمر و لا كنز و هو يشمل ما يوويه الجرين و غيره فالسبيل فى دفع التعارض اما التوزيع فيحمل عدم القطع على الرطب و القطع على اليابس و اما ترجيح مالا يوجب القطع درأ للحد و اللّه اعلم و المراد بالطعام فى الحديث الذي يوجب عدم القطع ما يتسارع اليه الفساد للاجماع على انه يقطع فى الحنطة و غيرها من الحبوب و السكر الا فى عام سنة فانه لا يقطع فيها لانه عن ضرورة ظاهرا و هى تبيح التناول و عنه صلى اللّه عليه و سلم انه لا قطع فى مجاعة مضطر و عن عمر رضى اللّه تعالى عنه لا قطع فى عام سنة.

(مسئلة:) و إذا سرق ثانيا بعد القطع فى الاولى او سرق اولا و هو مقطوع اليد اليمنى يقطع رجله اليسرى اجماعا لا بهذه الاية لان المأمور بالآية قطع اليد و المراد به قطع اليد اليمنى خاصة بدليل قراءة ابن مسعود و الإجماع فلا يجب القطع لفوات المحل بل بالسنة و الإجماع و ان كان السارق مقطوع اليد اليمنى و الرجل اليسرى او سرق ثالثا بعد القطع لا يقطع عند ابى حنيفة و احمد رحمهما اللّه بل يسجن و يعزر و قال مالك و الشافعي يقطع رجله اليسرى ثانيا ثم ان سرق ثالثا يقطع يده اليسرى ثم ان سرق رابعا يقطع رجله اليمنى و هو رواية عن احمد ثم ان سرق خامسا يعزر و يحبس عندهما ايضا كقولنا فى الثالثة و حكى عن عطاء و عمرو بن العاص و عثمان و عمرو بن عبد العزيز يقتل فى الخامسة احتج مالك و الشافعي بحديث جابر بن عبد اللّه قال اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بسارق فقطع يده ثم اتى به قد سرق فقطع رجله ثم اتى به قد سرق فقطع يده ثم اتى به قد سرق فقطع ثم اتى به قد سرق فامر به فقتل رواه الدارقطني و فى اسناده محمد بن يزيد بن سنان و هو ضعيف و رواه ابو داود و النسائي بغير هذا السياق بلفظ جئ بسارق الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال اقتلوه فقالوا يا رسول اللّه انما سرق قال اقطعوه فقطع به ثم جئ به الثانية فقال اقتلوه فقالوا يا رسول اللّه انما سرق قال اقطعوه ثم جئ به الثالثة فقال اقتلوه فقالوا انما سرق قال اقطعوه فقطع ثم جئ به الرابعة فقال اقتلوه فقالوا يا رسول اللّه انما سرق فقال اقطعوه فقطع ثم جئ به الخامسة فقال اقتلوه قال جابر فانطلقنا به الى مربد النعم فاستلقى على ظهره فقتلناه ثم اجتررناه فالقيناه فى بير و رمينا عليه الحجارة و فى اسناده مصعب بن ثابت قال النسائي ليس بالقوى و الحديث منكر لا اعلم فيه حديثا صحيحا و فى الباب عن الحارث بن حاطب الحجبي عند النسائي و الحاكم و عن عبد اللّه بن زيد عند ابى نعيم فى الحلية و قال ابن عبد البر حديث القتل منكر لا اصل له و قد قال الشافعي هذا الحديث منسوخ لا خلاف فيه عند اهل العلم قال ابن عبد البر هذا يدل على ان ما حكاه ابو مصعب عن عثمان و عمرو بن عبد العزيز انه يقتل لا اصل له لانهم لا يخالفون الإجماع و بحديث ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم إذا سرق السارق فاقطعوا يده فان عاد فاقطعوا رجله فان عاد فاقطعوا يده فان عاد فاقطعوا رجله رواه الدارقطني و فى اسناده الواقدي قال احمد كذاب و رواه الشافعي عن بعض أصحابه عن ابن ابى ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن ابى مسلمة عن ابى هريرة مرفوعا نحوه و فى الباب عن عصمة بن مالك رواه الطبراني و البيهقي و اسناده ضعيف و روى الدارقطني عن ابن عباس قال شهدت عمر بن الخطاب فقطع بعد يد و رجل يدا و روى مالك فى المؤطا عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه ان رجلا من اليمن اقطع اليد و الرجل قدم فنزل على ابى بكر فشكا اليه ان عامل اليمن ظلمه فكان يصلى بالليل و يقول ابو بكر و أبيك و ما ليلك بليل سارق ثم انهم فقدوا عقد الأسماء بنت عميس فجعل الرجل يطوف معهم و يقول اللّهم عليك بمن بيت اهل هذا البيت الصالح فوجد الحلي عند صائغ زعم ان الأقطع جاء به فاعترف الأقطع و شهد عليه فامر به ابو بكر فقطعت يده اليسرى قال ابو بكر لدعائه على نفسه أشد عليه من سرقته و فى سنده انقطاع و رواه عبد الرزاق نحوه و قال محمد بن الحسن فى مؤطاه قال الزهري و يروى عن عائشة رض قالت انما كان الذي سرق حلى اسماء اقطع اليد اليمنى فقطع ابو بكر رجله اليسرى قال و كان ابن شهاب اعلم بهذا الحديث من غيره و لنا ما رواه محمد فى كتاب الآثار انا ابو حنيفة عن عمرو بن مرة عن عبد اللّه بن سلمة عن على رض قال إذا سرق السارق قطعت يده اليمنى فان عاد قطعت رجله اليسرى فان عاد ضمنته السجن حتى يحدث خيرا انى لاستحيى من اللّه ان ادعه ليس له يد يأكل بها و يستنجى بها و رجل يمشى عليها و روى عبد الرزاق فى مصنفه أخبرنا معمر عن جابر عن الشعبي قال كان على لا يقطع الا اليد و الرجل و ان سرق بعد ذلك سجنه و يقول انى لاستحيى من اللّه الحديث

و اخرج ابن ابى شيبة فى مصنفه حدثنا حاتم بن اسمعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن على مثل ما قال الشعبي عنه

و اخرج البيهقي عن عبد اللّه بن سلمة عن على انه اتى بسارق فقطع يده ثم اتى به فقطع رجله ثم اتى به فقال اقطع يده باى شى ء يتمسح و باى شى ء يأكل اقطع رجله على اى شى ء يمشى انى لاستحيى من اللّه ثم ضربه و خلده فى السجن و فى تنقيح عبد الهادي قال سعيد بن منصور حدثنا ابو معشر عن سعيد بن ابى سعيد المقبري عن أبيه قال حضرت على بن ابى طالب اتى برجل مقطوع اليد و الرجل قد سرق قال لاصحابه ما ترون فى هذا قالوا اقطعه يا امير المؤمنين قال قتلته إذا و ما عليه القتل باى شى ء يأكل الطعام باى شى ء يتوضأ للصلوة باى شى ء يغتسل من جنابته باى شى ء يقوم على حاجته فرده الى السجن أياما ثم استخرجه فاستشار الصحابة فقالوا مثل قولهم الاوّل و قال لهم مثل ما قال اوّل مرّة فجلده جلدا شديدا ثم أرسله و قال سعيد ايضا حدثنا ابو الأحوص عن سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عامر قال اتى عمر بن الخطاب باقطع اليد و الرجل قد سرق فامر به ان يقطع رجله فقال على قال اللّه تعالى انما جزاؤا الذين يحاربون اللّه و رسوله الاية فقد قطعت يد هذا و رجله فلا ينبغى ان يقطع رجلا فتدعه ليس له قائمة يمشى عليها اما ان تعزره و اما ان تودعه السجن فاستودعه السجن و روى هذا البيهقي

و اخرج ابن ابى شيبة عن سماك ان عمر استشارهم فى سارق فاجمعوا على مثل قول علىّ

و اخرج عن مكحول ان عمر قال إذا سرق فاقطعوا يده ثم ان عاد فاقطعوا رجله و لا تقطعوا يده الاخرى و ذروه يأكل بها و يستنجى بها و لكن احبسوه عن المسلمين و روى ابن ابى شيبة عن ابن عباس مثل قول على فظهران ما قال علىّ انعقد عليه الإجماع و رجع اليه عمر و ما احتج به الشافعي اما لا اصل له و اما منسوخ و لو كان عند الصحابة علم بفعل النبي صلى اللّه عليه و سلم لاحتجوا به على علىّ و لم يجز لعلى القول بانى لاستحيى اللّه الى آخره قال اللّه تعالى لا تأخذكم بهما رأفة فى دين اللّه و اللّه اعلم و بما استدل به على يستفاد ان من كان يده اليسرى او إبهامه او رجله اليمنى اقطع او شلاء و سرق اوّل مرة لا يقطع يمناه لانه إهلاك معنى و ما عليه القتل و اللّه اعلم- (مسئلة:) و يجب ان يحسم بعد القطع كيلا يودى الى التلف و عن الشافعي و احمد انه مستحب و روى الحاكم من حديث ابى هريرة انه صلى اللّه عليه و سلم اتى بسارق سرق شملة فقال عليه السلام ما إخاله سرق فقال السارق بلى يا رسول اللّه فقال اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ايتوني فقطع ثم حسم ثم اتى به فقال تب الى اللّه فقال تبت الى اللّه فقال تاب اللّه عليك و قال صحيح على شرط مسلم و رواه ابو داؤد فى المراسيل و رواه القاسم ابن سلام فى غريب الحديث

و اخرج الدارقطني عن على موقوفا انه قطع أيديهم من المفصل ثم حسمهم-

(مسئلة:) يجب القطع بإقراره مرة عند ابى حنيفة و محمد و مالك و الشافعي و اكثر العلماء و قال احمد و ابو يوسف و ابن ابى ليلى و زفر و ابن شبرمة لا يقطع الا بإقراره مرتين و يروى عن ابى يوسف اشتراط كون الإقرار مرتين فى مجلسين ليستدلوا بحديث ابى امية المخزومي انه صلى اللّه عليه و سلم اتى بلصّ قد اعترف فقال عليه السلام ما إخالك سرقت قال بلى يا رسول اللّه فاعادها عليه السلام مرتين او ثلثا فامر به فقطع فلم يقطع الا بعد تكرار إقراره و أسند الطحاوي الى على ان رجلا أقر عنده بسرقة مرتين فقال قد شهدت على نفسك شهادتين فامر به فقطع فعلقها فى عنقه و بالقياس على الشهادة فى الزنا اعتبر عدد الإقرار فيه بعدد الشهود و الجواب ان حديث ابى امية المخزومي قال الخطابي فى اسناده مقال و قال الحديث إذا رواه مجهول لم يكن حجة و لم يجب الحكم به و اما القياس فلا يصح لانه مع الفارق فان اعتبار العدد فى الشهادة للتهمة و لا تهمة فى الإقرار و اشتراط العدد فى الإقرار بالزنا معدول عن سنن القياس بالنص و ايضا يعارضه القياس على حد القذف و القصاص و الحجة لابى حنيفة ما ذكرنا من حديث ابى هريرة فى مسئلة الحسم حيث قطعه بإقراره مرة- جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللّه منصوبان على المفعول له او المصدرية و دل على فعلهما فاقطعوا و

قال البغوي منصوبان على الحال يعنى من فاعل فاقطعوا بتأويل اسم الفاعل و فى المدارك جزاء منصوب على المفعول له و نكالا بدل منه و فى القاموس نكّل تنكيلا صنع به صنعا يحذر غيره و نحاه عن ما قبله و النكال ما نكلت به غيرك كائنا ما كان قال المحقق التفتازانيّ ترك العطف اشعارا بان القطع للجزاء و القطع على قصد الجزاء للنكال و المنع عن المعاودة و لمنع الغير عن مثله قلت فعلى هذا الاولى ان يقال جزاء مفعول له لقوله فاقطعوا و نكالا مفعول له لقوله جزاء و قال بعض المحققين لم يعطف لان العلة مجموعهما و الجزاء اشارة الى ان فيه حق العبد و النكال اشارة الى ان فيه حق اللّه تعالى.

(مسئلة:) القطع يسقط عصمة المال المسروق عند ابى حنيفة رحمه اللّه و لا يجتمع القطع مع الضمان عنده و عند الائمة الثلاثة لا يسقط العصمة بالقطع و يجتمع القطع مع الضمان فان كان المال المسروق موجود أ يسترد المالك من السارق اجماعا قبل لقطع و بعده و ان هلك المال او استهلكه السارق لا ضمان على السارق عند ابى حنيفة خلافا لهم و ان سرق السارق الاول المال المسروق المردود الى المالك منه ثانيا بعد القطع فى السرقة الاولى و هو كذلك لا يقطع ثانيا عند ابى حنيفة لزوال العصمة و عندهم يقطع احتج ابو حنيفة بوجوه أحدها الاستدلال بهذه الاية قالوا الجزاء إذا اطلق فى موضع العقوبة يراد به ما يجب حقا خالصا للّه لا يكون فيه حق العبد و كذا النكال فكان القطع خالص حق اللّه تعالى فوجب ان يكون الجناية على حقه خالصا بان يكون محلها حراما لعينه كالخمر لا حراما لغيره و الا كان مباحا فى ذاته بالاباحة الاصلية و هو لا يوجب الجزاء للّه و ايضا لو كان مباحا لذاته ينتفى القطع للشبهة و ايضا الجزاء اما مشتق من جزى بمعنى قضى او من جزأ بمعنى كفى و كلواحد منهما يدل على الكمال و الكمال بالحرمة لعينه و إذا كان محرما لعينه لم يبق معصوما كالخمر و الميتة فلا ضمان عند الهلاك و الاستهلاك ثانيها انه لو وجب الضمان بعد القطع يتملك السارق المسروق بأداء الضمان مستندا الى وقت الاخذ فتبين انه ورد السرقة على ملكه فينتفى القطع و ما يؤدى الى انتفائه فهو المنتفى و ثالثها بحديث عبد الرحمن ابن عوف قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا غرم على السارق بعد قطع يمينه رواه الدارقطني و رواه النسائي بلفظ لا يغرم صاحب سرقة إذا أقيم عليه الحد و البزار بلفظ لا يضمن السارق سرقته بعد اقامة الحد و مدار هذا الحديث على سعيد بن ابراهيم يرويه عن أخيه مسور بن ابراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن جده عبد الرحمن بن عوف قال الدارقطني سعيد بن ابراهيم مجهول و مسور لم يذكر عبد الرحمن بن عوف و قالو يروى هذا من وجوه كلها لا يثبت و قال ابن همام سعيد بن ابراهيم انه الزهري قاضى المدينة أحد الثقات الإثبات و أجاب الشافعية عن الاستدلال بالآية بان قولكم الجزاء إذا اطلق فى معرض العقوبة يراد به ما يجب خالصا حقا للّه تعالى ممنوع كيف و قد قال اللّه تعالى و جزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفى و أصلح فاجره على اللّه فانه صريح فى كون الجزاء حقا للعبد حتى يتصور العفو منه و الظاهر ان الجزاء اشارة الى حق العبد و النكال اشارة الى حق اللّه تعالى كما ذكرنا و الجزاء و ان دل على الكمال لكن الكمال فى الجناية ان يجنى على كلا الحقين حق اللّه تعالى و حق العبد سلمنا ان القطع خالص حق اللّه تعالى لكن لا يلزم منه ان يكون المحل حراما لعينه حتى لا يترتب عليه الضمان بل القطع حق الشرع و سببه ترك الانتهاء عما نهى عنه و الضمان حق العبد و سببه أخذ المال الذي تعلق به حق العبد كاستهلاك صيد مملوك فى الإحرام سلمنا حرمة المحل لكن لاجل النهى لا لمعنى فيه كيف و لو حرم لعينه لم يحل للمسروق منه حال بقائه بعد القطع و لم يحل للزوج و طى المزنية بعد رجم الزاني لقوله تعالى فيه نكالا و ايضا لو كانت الحرمة لعينه كالخمر و الميتة يجب ان لا يجب القطع إذ لا قطع فى الخمر و الميتة فينتفى القطع و ما يودى الى انتفائه فهو المنتفى و لو يفرق بعصمة المسروق قبل السرقة بخلاف الخمر لقول سقوط العصمة ان لم يمنع القطع فلا اقل من ايراث الشبهة سلمنا الحرمة لعينه كالخمر لم لا يجوز ان يحرم بحرمتين او ثلث كشرب الخمر المملوكة للذمى فى صوم رمضان و الزنا بامة غيره فى رمضان و أجابوا عن الاستدلال الثاني بانا لا نسلم ان السارق يملك المسروق مستندا من وقت الاخذ بل انما يجب عليه ضمان الاتلاف بالهلاك و الاستهلاك و عن الثالث بان الحديث ضعيف و لو صح الحديث فلا يصادم عموم قوله تعالى فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم و قوله عليه السلام على اليد ما أخذت حتى يوديه رواه احمد و اصحاب السنن الاربعة بسند صحيح و الحاكم عن سمرة بن جندب وَ اللّه عَزِيزٌ غالب لا يعارض فى حكمه حَكِيمٌ فيما حكم اخرج احمد و ابن جرير و ابن ابى حاتم عن عبد اللّه بن عمر و ان امرأة سرقت على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقطعت يدها اليمنى فقالت هل لى من توبة يا رسول اللّه قال نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فانزل اللّه تعالى.

٣٩

فَمَنْ تابَ من السرقة و غيرها مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ اى معصية من السرقة و غيرها و المراد بالتوبة الندم على ما وقع منه من المعصية و رد المظلمة و الاستغفار من اللّه تعالى و العزم على تركها وَ أَصْلَحَ امره بعد ذلك فَإِنَّ اللّه يَتُوبُ عَلَيْهِ اى يرجع عليه بالرحمة و قبول التوبة فلا يعذبه فى الاخرة و هل يسقط عنه القطع فى الدنيا أم لا فقال احمد يسقط القطع عن السارق و كل حد بالتوبة لهذه الاية و لقوله تعالى و اللذان يأتيانها منكم فاذوهما فان تابا و أصلحا فاعرضوا عنهما و لقوله عليه السلام التائب من الذنب كمن لا ذنب له و فى قول للشافعى يسقط الحد إذا مضى على التوبة سنة و عند ابى حنيفة و مالك و هو رواية عن احمد و قول للشافعى لا يسقط شى ء من الحدود بالتوبة الأحد قاطع الطريق بالاستثناء المذكور فى الاية قالوا هذه الاية لا تدل على سقوط الحد و قوله تعالى و اللذان يأتيانها كان فى اوّل الأمر ثم نسخ و نحن نقطع بان رجم ما عز و الغامدية كان بعد توبتهما.

(مسئلة:) و من سرق سرقة و رد المسروق الى المالك قبل الارتفاع الى الحاكم لم يقطع و عن ابى يوسف يقطع اعتبارا بما إذا ردها بعد المرافعة وجه الظاهر ان الخصومة شرط الظهور السرقة فكانت شرطا فى القطع و الخصومة لا تتصور بعد الرد بخلاف ما لوردها بعد المرافعة و سماع البينة و القضاء فانه يقطع و كذا بعد سماعها قبل القضاء استحسانا لظهور السرقة عند القاضي بالشهادة بعد الخصومة.

(مسئلة:) قطع السارق هل يكون له توبة اولا فقال مجاهد نعم لحديث عبادة ابن الصامت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و حوله عصابة من أصحابه بايعونى على ان لا تشركوا باللّه شيئا و لا تسرقوا و لا تزنوا و لا تقتلوا أولادكم و لا تأتوا ببهتان تفترونه بين ايديكم و أرجلكم و لا تعصوا فى معروف فمن و فى منكم فاجره على اللّه و من أصاب من ذلك شيئا فعوقب على ذلك فى الدنيا فهو كفارة له و من أصاب من ذلك شيئا ثم ستره اللّه فهو الى اللّه ان شاء عفى عنه و ان شاء عاقبه فبايعناه على ذلك متفق عليه و

قال البغوي الصحيح ان القطع للجزاء على الجناية كما قال اللّه تعالى جزاء بما كسبا و لا بد من التوبة بعده و يدل عليه حديث ابى هريرة الذي ذكرناه فى مسئلة الحسم بعد القطع حيث قال له النبي صلى اللّه عليه و سلم بعد القطع بالإقرار تب الى اللّه فقال تبت الى اللّه تعالى فقال تاب اللّه عليك إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ

٤٠

أَ لَمْ تَعْلَمْ ايها النبي و المراد به الامة او المراد الم تعلم ايها الإنسان خطابا لكل واحد.

أَنَّ اللّه لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه من العصاة سواء ارتكب صغيرة او كبيرة فانه عدل مقتضى المعصية وَ يَغْفِرُ بفضله صغيرة كانت او كبيرة بالتوبة و بلا توبة لِمَنْ يَشاءُ مغفرته وَ اللّه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من التعذيب و المغفرة قَدِيرٌ لا يجب عليه شى ء قدم التعذيب لان استحقاق التعذيب مقدم على المغفرة و لان المقصود وصفه تعالى بالقدرة و القدرة فى تعذيب من يشاء اظهر من القدرة فى مغفرته لانه لا اباء فى المغفرة و فى التعذيب اباء و اللّه اعلم روى احمد و مسلم و غيرهما عن البراء ابن عازب قال مر على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يهودى محمم مجلود فدعاهم فقال هكذا تجدون حد الزاني فى كتابكم قالوا نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال أنشدك باللّه الذي انزل التورية على موسى هكذا تجدون حد الزاني فى كتابكم قال لا و اللّه و لو لا انك نشدتنى لم أخبرك نحد حد الزاني فى كتابنا الرجم و لكنه كثر فى اشرافنا فكنا إذا أخذ الشريف تركناه و إذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا نجعل شيئا نقيمه على الشريف و الوضيع فاجتمعنا على التحميم و الجلد فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم اللّهم انى أول من احيى أمرك إذا أماتوه فامر به فرجم فانزل اللّه تعالى يا ايها الرسول لا يحزنك الى قوله ان أوتيتم هذا فخذوه يقولون ايتوا محمدا فان افتاكم بالتحميم و الجلد فخذوه و ان افتاكم بالرجم فاحذروا الى قوله و من لم يحكم بما انزل اللّه فأولئك هم الظالمون و ذكر البغوي هذه القصة بان امرأة و رجلا من اشراف خيبر زنيا و كانا محصنين و كان حدهما فى التورية الرجم فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما فارسلوا الى إخوانهم بنى قريظة و قالوا سلوا محمدا عن الزانيين إذا احصنا ما حدهما فان أمركم بالجلد فاقبلوا منه و ان أمركم بالرجم فاحذروا و لا تقبلوا منه و أرسلوا معهم الزانيين فقالت قريظة و النضير إذا و اللّه يأمركم بما تكرهون ثم انطلق منهم كعب بن اشرف و سعيد بن عمرو و مالك بن الضيف و لبابة بن ابى الحقيق و غيرهم الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالوا يا محمد أخبرنا عن الزاني و الزانية إذا احصنا ما حدهما فى كتابك فقال هل ترضونى بقضائي قالوا نعم فنزل جبرئيل بالرجم فاخبرهم بذلك فابوا ان يأخذوا به فقال جبرئيل جعل بينك و بينهم ابن صوريا و وصفه له فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هل تعرفون شابا امرد ابيض اعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا قالوا نعم قال فاى رجل هو فيكم قالوا هو اعلم يهودى بقي على وجه الأرض بما انزل اللّه سبحانه على موسى فى التورية قال فارسلوا اليه فاتاهم فقال له النبي صلى اللّه عليه و سلم أنت ابن صوريا قال نعم قال و أنت اعلم اليهود قال كذلك يزعمون قال أ تجعلونه بينى و بينكم قالوا نعم فقال له النبي صلى اللّه عليه و سلم أنشدك باللّه الذي لا اله الا هو الذي انزل التورية على موسى و أخرجكم من مصر و فلق لكم البحر و أنجاكم و أغرق ال فرعون و الذي ظلل عليكم الغمام و انزل عليكم المن و السلوى و انزل عليكم كتابه فيه حلاله و حرامه هل تجدون فى كتابكم الرجم على من أحصن قال ابن صوريا نعم و الذي ذكرتنى لو لا خشيه ان يحرقنى التورية ان كذبت و غيرت ما اعترفت لك و لكن كيف هى فى كتابك يا محمد قال إذا شهد اربعة رهط عدول انه قد ادخله فيها كما يدخل الميل فى المكحلة وجب عليه الرجم قال ابن صوريا و الذي انزل التورية على موسى هكذا انزل اللّه فى التورية على موسى فقال له النبي صلى اللّه عليه و سلم فماذا كان أول ما ترخصتم به امر اللّه قال كنا إذا أخذنا الشريف تركناه و إذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فكثر الزناء فى اشرافنا حتى زنى ابن عم ملك لنا فلم نرجمه ثم زنى رجل اخر فى اسرة من الناس فاراد ذلك الملك رجمه فقام دونه قومه فقالوا و اللّه لا ترجمه حتى ترجم فلانا لابن عم الملك فقلنا تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرجم يكون على الوضيع و الشريف فوضعنا الجلد و التحميم فامر بها النبي صلى اللّه عليه و سلم فرجم بهما عند باب مسجده و قال اللّهم انى أول من احيى أمرك إذا ماتوه فانزل اللّه عز و جل.

٤١

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ صنيع الَّذِينَ يُسارِعُونَ يقعون سريعا فِي الْكُفْرِ اى فى انكار ما يجب فى الشرع إقراره و الاعتقاد به إذا وجدوا منه فرصة روى البغوي بسنده عن ابن عمر قال ان اليهود جاؤا الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فذكروا له ان رجلا منهم و امراة زنيا فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما تجدون فى التورية فى شان الرجم قال نفضحهم و يجلدون قال عبد اللّه بن سلام كذبتم ان فيها لاية الرجم فاتوا بالتورية فنشروها فوضع أحدهم يده على اية الرجم فقرأ ما قبلها و ما بعدها فقال له عبد اللّه ارفع يدك فرفع يده فاذا فيها اية الرجم قالوا صدق محمد فيها اية الرجم فامر بهما رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فرجما فقال عبد اللّه فرايت الرجل يحنى على المرأة يقيها الحجارة

و اخرج احمد فى مسنده عن جابر بن عبد اللّه قال زنى رجل من اهل فدك فكتب اهل فدك الى ناس من اليهود بالمدينة ان سألوا محمدا عن ذلك فان أمركم بالجلد فخذوه عنه و ان أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه فسألوه عن ذلك فذكر نحو حديث مسلم فامر به فرجم فنزلت فان جاءوك فاحكم بينهم الاية

و اخرج البيهقي فى الدلائل من حديث ابى هريرة نحوه و

قال البغوي و قيل سبب نزول الاية القصاص و ذلك ان بنى نضير كان لهم فضل على بنى قريظة فقال بنو قريظة إخواننا بنى النضير أبونا واحد و ديننا واحد و نبيّنا واحد و إذا قتلوا منا قتيلا لم يقيدونا و اعطون ديته سبعون و سقا من تمر و إذا قتلنا منهم قتلوا القاتل و أخذوا منا الضعف مائة و أربعين و سقا من تمر و إن كان القتيل امرأة قتلوا بها رجلا منا و بالرجل رجلين و بالعبد حرامنا و جراحاتنا على التضعيف من جراحاتهم فاقض بيننا و بينهم فانزل اللّه عز و جل هذه الاية كذا روى احمد و ابو داؤد عن ابن عباس قال أنزلها اللّه فى طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الاخرى فى الجاهلية حتى ارتضوا و اصطلحوا على ان كل قتيل قتلته العزيزة فديته خمسون و سقا و كل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق فكانوا على ذلك حتى قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا فارسلت العزيزة ان ابعثوا الدية مائة وسق فقال الذليلة و هل كان ذلك فى حيين قط دينهما واحد و نسبتهما واحدة و بلدهما واحد دية بعضهم نصف دية بعض انا أعطيناكم هذا ضيما «١» منكم لنا و فرقا «٢» فاما إذا قدم محمد فلا تعطيكم فكادت الحرب تهيج و بينهما ثم ارتضوا على ان جعلوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بينهما فارسلوا اليه ناسا من المنافقين ليختبروا رايه فانزل اللّه عز و جل يا ايها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر مِنَ الَّذِينَ قالُوا بيان لقوله الذين يسارعون آمَنَّا مقولة قالوا بِأَفْواهِهِمْ متعلق بقالوا لا بآمنا وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ فى محل النصب على الحال من فاعل قالوا و يحتمل العطف على قالوا وَ مِنَ الَّذِينَ هادُوا عطف على من الذين قالوا يعنى من المنافقين و اليهود سَمَّاعُونَ خبر مبتدأ محذوف اى هم سماعون و الضمير للفريقين او للذين يسارعون و يجوز ان يكون مبتدأ و من الذين هادوا خبره اى من اليهود قوم سماعون لِلْكَذِبِ اللام اما مزيدة للتاكيد او لتضمين السماع معنى القبول اى قابلون لما يفتريه الأحبار او للعلة و المفعول محذوف اى سماعون كلامك ليكذبوا عليك فيها بالزيادة و النقصان و التغير و التبديل و قيل اللام بمعنى الى اى سماعون الى كذب أحبارهم سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ من اليهود لَمْ يَأْتُوكَ اى لم يحضروك و تجافوا عنك تكبرا او افراطا فى البغض و اللام فى لقوم اما لتضمن السماع معنى القبول اى مصغون لقوم آخرين قابلون كلامهم و اما للعلة اى سماعون لاجلهم و الإنهاء إليهم

(١) الضيم الظلم ١٢ قاموس.

(٢) الفرق بالفتحتين الخوف ١٢ نهاية [.....].

اى هم يعنى بنى قريظة جواسيس لقوم آخرين و هم اهل خيبر و يجوز ان يتعلق اللام بالكذب و سماعون الثاني مكرر للتاكيد اى سماعون كلامك ليكذبوا عليك لقوم آخرين أمي للانهاء إليهم يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ المنزلة فى التورية من اية الرجم و القصاص و غير ذلك و الكلم اسم جنس او اسم جمع و ليس بجمع و لذلك أفرد الضمير نظرا الى لفظه فى قوله تعالى مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ اى من بعد وضعه اللّه تعالى مواضعه معنى يحرفون الكلم عما هو فى التورية اما لفظا بان يغيروه بغيره او معنى بان يحملوه على غير ما أريد منه و الجملة صفة اخرى لقوم او صفة لسماعون او حال من الضمير فيه او استيناف لا موضع من الاعراب او فى موضع الرفع خبرا عن مبتدأ محذوف اى هم يحرفون و كذلك قوله تعالى يَقُولُونَ و جاز ان يكون حالا من الضمير فى يحرفون إِنْ أُوتِيتُمْ يعنى ان أتاكم محمد صلى اللّه عليه و سلم حكما مثل هذا المحرف فَخُذُوهُ اى اعملوا به وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ يعنى افتاكم محمد صلى اللّه عليه و سلم بخلافه فَاحْذَرُوا قبول ما افتاكموه وَ مَنْ يُرِدِ اللّه فِتْنَتَهُ ضلالته او هلاكه او عذابه فَلَنْ تَمْلِكَ يا محمد لَهُ مِنَ اللّه شَيْئاً اى لن تقدر و لن تستطيع له شيئا من الاستطاعة كائنة من اللّه تعالى فى دفع مراده او لن تقدر دفع شى ء من مراده تعالى فقوله تعالى أمن اللّه اما متعلق بقوله تملك و من ابتدائية او ظرف مستقر حال من شيئا و شيئا منصوب على المصدرية او المفعولية فيه حجة لنا على المعتزلة فى ان مراد اللّه لا ينفك عن إرادته أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّه أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ من الكفر اية محكمة دالة على فساد قول المعتزلة ان اللّه يريد من كل عباده الايمان دون الكفر لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ هوان بالقتل كما وقع فى بنى قريظة او بالجزية و الخوف من المؤمنين وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ و هو الخلود فى النار و الضمير للذين هادوا على تقدير الاستيناف بقوله و من الذين هادوا و الا فللفريقين

٤٢

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ كرر للتأكيد اى هم سماعون و مثله. أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ قرأ ابن كثير و ابو عمرو و الكسائي و ابو جعفر فى المواضع الثلاثة بضم الحاء و الباقون بإسكانها و معناه الحرام و أصله الهلاك قال اللّه تعالى فيسحتكم بعذاب قال الأخفش السحت كل كسب لا يحل نزلت الاية فى حكام اليهود كعب بن الأشرف و أمثاله كانوا يرتشون و يقضون لمن رشاهم و يسمعون الكذب و يقبلونه من الراشي و لا يلتفتون الى خصمه و قال الحسن و مقاتل و قتادة و الضحاك السحت هو الرشوة فى الحكم و قال الحسن انما ذلك فى الحكم إذا رشوته ليحق لك باطلا او يبطل عليك حقا فاما ان يعطى الرجل الوالي يخاف ظلمه ليدرأ به عن نفسه الظلم فلا بأس به يعنى لا بأس به على المعطى فى دفعه وقاية لنفسه و ماله و اما على الاخذ فحرام اخذه قلت و كذا إذا كان المدعى محقا يرى ان القاضي لا يحكم له بحقه و لا يدفع عنه ظلم خصمه الا بدفع الرشوة فلا بأس له فى الدفع و حرام على القاضي الاخذ لان الحكم بالحق و دفع الظلم واجب عليه لا يجوز له ان يأخذ عليه شيئا قال ابن مسعود من يشفع شفاعة ليرد بها حقا او يدفع بها ظلما فاهدى له فقبل فهو سحت فقيل له يا باعبد الرحمن ما كنا نرى ذلك الا الاخذ على الحكم فقال الاخذ على الحكم كفر قال اللّه عز و جل و من لم يحكم بما انزل اللّه فاولئك هم الكافرون و عن مسروق قال قلت لعمر بن الخطاب ارايت الرشوة فى الحكم من السحت هى قال لا و لكن كفر انما السحت ان يكون للرجل عند السلطان جاه و منزلة و يكون للاخر الى السلطان حاجة فلا يقضى حاجته حتى يهدى اليه هدية و عن عمر قال بابان من السحت يأكلهما الناس الرشا فى الحكم و مهر الزانية و عن ليث قال تقدم الى عمر بن الخطاب خصمان فاقامهما ثم عادا فاقامهما ثم عادا ففصل بينهما فقيل له فى ذلك فقال تقدما الى فوجدت لاحدهما ما لم أجد لصاحبه فكرهت ان افصل بينهما على ذلك ثم عادا فوجدت بعض ذلك فكرهت ثم عادا قد ذهب ذلك ففصلت بينهما و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لعنة اللّه على الراشي و المرتشي فى الحكم رواه احمد و الترمذي و صححه و الحاكم عن ابى هريرة و روى البغوي نحوه عن عبد اللّه بن عمر و مرفوعا و روى احمد بإسناد ضعيف عن ثوبان مرفوعا لعن اللّه الراشي و المرتشي و الرائش الذي يسعى بينهما.

(فائدة) قال ابن همام الرشوة على اقسام منها ما هو حرام على الاخذ و المعطى و هو الرشوة فى تقليد القضاء فلا يصير قاضيا و ارتشاء القاضي ليحكم فلا ينفذ قضاؤه فى تلك الواقعة و ان حكم بحق لانه واجب عليه فلا يحل أخذ المال عليه و لا إعطائه و منها ما هو حرام على الاخذ دون المعطى كما إذا اعطى المال ليسوى امره عند السلطان دفعا للضرر او جلبا للنفع و حيلة حلها للاخذ ان يستاجر يوما الى الليل او يومين فيصير منافعه مملوكة له ثم يستعمله فى الذهاب الى السلطان للامر الفلاني و كذا إذا ما اعطى المال لدفع الخوف من المدفوع اليه على نفسه او ماله حرام على الاخذ دون المعطى لان دفع الضرر على المسلم واجب و لا يجوز أخذ المال على الفعل الواجب.

(فائدة) و فى المحيط الرشوة على انواع نوع منها ان يهدى الرجل الى رجل مالا لابتغاء التودد و التحبب و هذا حلال من جانب المهدى و المهدى اليه قلت و فى الباب قوله صلى اللّه عليه و سلم تهادوا تحابوا و نوع منها ان يهدى الرجل الى رجل ما لا بسبب ان ذلك الرجل قد خوفه فيهدى اليه ما لا ليدفع الخوف عن نفسه او يهدى الى السلطان مالا ليدفع ظلمه عن نفسه او ماله و هذا النوع لا يحل للاخذ و عامة المشايخ على انه يحل للمعطى لانه بذل ماله وقاية لنفسه و ماله و نوع منها ان يهدى الرجل الى رجل مالا يسوى امره فيما بينه و بين السلطان و يعينه فى حاجته فان كان حاجته حراما لا يحل من الجانبين الاخذ و الإعطاء و ان كان مباحا فان كان قد اشترط انه انما يهدى اليه ليعينه عند السلطان لا يحل الاخذ و هل يحل الإعطاء تكلموا فيه فمنهم من قال يحل و منهم من قال لا يحل و الحيلة فيه ان يستاجره صاحب الحادثة يوما الى الليل ليقوم بعمله و ان لم يشترط لكن انما يهدى اليه ليعينه عند السلطان فقال عامة المشايخ لا يكره اخذه و قيل يكره كذا نقل عن ابن مسعود فَإِنْ جاؤُكَ يا محمد يعنى اليهود لتحكم بينهم فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً خيّر اللّه سبحانه رسوله صلى اللّه عليه و سلم إذا تحاكم اليه الكفار بين الحكم و الاعراض

قال البغوي اختلفوا فى حكم هذه الاية اليوم هل للحاكم الخيار فى الحكم بين اهل الذمة إذا تحاكموا إلينا فقال اكثر اهل العلم هو حكم ثابت و ليس فى سورة المائدة منسوخ حكام المسلمين بالخيار فى الحكم بين اهل الكتاب ان شاؤا حكموا و ان شاؤا لم يحكموا و ان حكموا حكموا بحكم الإسلام و هو قول النخعي و الشعبي و عطاء و قتادة و قال قوم يجب على حكام المسلمين ان يحكم بينهم و الاية منسوخة نسخها قوله تعالى و ان احكم بينهم بما انزل اللّه و هو قول مجاهد و عكرمة و روى ذلك عن ابن عباس و قال لم ينسخ من المائدة الا آيتان قوله تعالى لا تحلوا شعائر اللّه نسخها قوله تعالى اقتلوا المشركين كافة و قوله تعالى فان جاؤك فاحكم بينهم او اعرض عنهم نسخها

قوله تعالى و ان احكم بينهم بما انزل اللّه

قال البيضاوي قيل لو تحاكما الكتابيان الى القاضي لم يجب عليه الحكم و هو قول الشافعي و الأصح وجوبه إذا كان الترافعان او أحدهما ذميا لانا التزمنا الذنب عنهم و دفع الظلم منهم و الاية ليست فى اهل الذمة و عند ابى حنيفة رحمه اللّه يجب مطلقا قلت إذا ترافع الى القاضي كافران ذميان او حربيان يجب على القاضي الحكم بينهما بالعدل لانه التزم من السلطان القضاء بالحق و كذا إذا ترافع أحدهما و المدعى عليه مسلم او ذمى لالتزامه حكم الشرع بالإسلام او الاستسلام بخلاف ما إذا كان المدعى عليه حربيا حيث لم يلتزم أحكامنا و اما إذا ترافع مسلمان او ذميان او حربيان او مختلفان الى رجل من المسلمين غير الحكام ليحكم بينهم لا يجب عليه قبول التحكيم بل هو بالخيار ان شاء حكم بينهم و ان شاء اعرض عنهم وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ بالعدل إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ العادلين قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان المقسطين عند اللّه على منابر من نور رواه مسلم عن عبد اللّه بن عمرو و عن عمر بن الخطاب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان أفضل عباد اللّه عند اللّه منزلة يوم القيامة امام عادل رفيق و ان شر الناس عند اللّه منزلة امام جائر خرق «١» رواه البيهقي فى شعب الايمان.

(١) الخرق بالضم الجهل و الحمق ١٢.

٤٣

وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللّه تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به و الحال انهم يعلمون حكم اللّه فان عندهم التورية فيها حكم اللّه و هو الرجم و هم لا يعملون به و الحاصل انه ليس غرضهم من تحكيمهم إياك إصابة الحق و اقامة الشرع بل انما يطلبون ما يكون أهون عليهم و ان لم يكن حكم اللّه و قوله فيها حكم اللّه حال من التورية ان رفعتها بالظرف و ان جعلتها مبتدأ فمن ضميرها المستكن فى الظرف و تانيثها لكونها نظيرة المؤنث فى كلام العرب كرماة ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ عطف على يحكمونك داخل فى التعجيب يعنى ثم يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ اى بعد تحكيمك وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ٦ بشئ من كتب اللّه تعالى لا بالتورية و الا لعملوا بها و أمنوا بما يصدقه و يوافقه و لا بكتابك.

٤٤

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً الى الحق وَ نُورٌ ينكشف به احكام اللّه تعالى و يجتلى به القلوب الغير القاسية يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ موسى و من بعده من الأنبياء آخرهم محمد صلى اللّه عليه و سلم قضى عليهم بالرجم و قال الحسن و السدى أراد به محمدا صلى اللّه عليه و سلم حكم على اليهود بالرجم و ذكر بلفظ الجمع كما فى قوله تعالى ان ابراهيم كان امة قانتا و يحكم بصيغة المضارع يدل على ان حكم محمّد صلى اللّه عليه و سلم ايضا داخل فى المقصود بالآية و قيل ان المراد بالنبيين هاهنا الذين بعثوا بعد موسى قبل عيسى ليحكموا بالتورية بقرينة قوله تعالى و قفينا على اثارهم بعيسى و على تقدير شمول كلمة النبيين المذكورة محمدا صلى اللّه عليه و سلم و غيره لا بد من التأويل فى قوله تعالى و قفينا على اثارهم بان الضمير راجع إليهم بالنسبة الى بعض افرادهم كما فى قوله تعالى و بعولتهن أحق بردهن و من هاهنا قال ابو حنيفة يجب علينا العمل بشرائع من قبلنا ما لم يظهر نسخه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انا اولى الناس بعيسى بن مريم فى الاولى و الاخرة الأنبياء اخوة من علات أمهاتهم شتى و دينهم واحد الحديث متفق عليه يعنى دينهم واحد و هو ما قضى اللّه به سبحانه و طرق ظهور ذلك الدين فى الدنيا شتى بعدد تعينات الأنبياء الَّذِينَ أَسْلَمُوا اى انقادوا الحكم اللّه صفة أجريت على النبيين مدحا لهم و تنويها لشان المسلمين و تعريضا لليهود حيث لا يحكمون بما فى التورية و لا ينقادون لحكم اللّه تعالى لِلَّذِينَ هادُوا اى تابوا من الكفر متعلق بانزلنا او بالظرف المستقر أعنى فيها هدى و نورا و بيحكم اى يحكمون بها فى تحاكمهم و على التقدير الثالث قيل اللام بمعنى على كما فى قوله تعالى و ان أسأتم فلها يعنى فعليها و قوله تعالى أولئك لهم اللعنة اى عليهم قلت و على هذا التأويل جاز ان يكون معنى الاية يحكم النبيون بالتورية على اليهود بكفرهم فان التورية يحكم عليهم انه إذا جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به و لتنصرنه

قال البيضاوي هذا القيد يعنى للذين هادوا يدل على ان المراد بالنبيين فى هذه الاية أنبياء بنى إسرائيل الذين بعثوا بعد موسى عليه السلام ليحكموا بما فى التورية لا من لم يومر بما فى التورية و منهم عيسى و محمد صلى اللّه عليهما و سلم و كذا قوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا و هذا القول منه مبنى على مذهب الشافعي رح ان شرائع من قبلنا لا يكون حجة علينا

قلنا قوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا لا يدل على نسخ جميع احكام التورية بل على بعضها او أكثرها و ما لم يظهر نسخ حكم ثبت بالكتاب او السنة ان اللّه تعالى حكم به لا بد من العمل به لقوله تعالى فبهدئهم اقتده و اللّه اعلم وَ الرَّبَّانِيُّونَ اى الصوفية الزهاد يحكم بها المسترشدين منهم فيما يتعلق بتهذيب الأخلاق و تجلية القلوب وَ الْأَحْبارُ جمع حبر بفتح الحاء و كسرها و الكسر افصح هو العالم المحكم للشئ و قيل الحبر بمعنى الجمال فى الحديث يخرج من النار رجل قد ذهب حبره و صبره اى حسنه و هيئته و منه التحبير للتحسين و يقال للعالم حبرا لما عليه من جمال العلم و العلماء جمال الامة بِمَا اسْتُحْفِظُوا العائد الى الموصول محذوف و بيانه من قوله تعالى مِنْ كِتابِ اللّه الجار و المجرور متعلق بيحكم و الباء للسببية و الضمير المرفوع فى استحفظوا راجع الى النبيين و الربانيين و الأحبار و الاستحفاظ منهم تكليفهم بحفظه و العمل به و منعهم عن نسيانه و عن ترك العمل به و عن التضييع و التحريف يعنى يحكم بها الأنبياء و من تبعهم بسبب أمرهم اللّه تعالى بان يحفظوه وَ كانُوا عَلَيْهِ اى على الاستحفاظ من اللّه او على كتاب اللّه شُهَداءَ رقباء يعلمونه و يبينونه فَلا تَخْشَوُا ايها الحكام النَّاسَ فى الحكومة على خلاف مرادهم وَ اخْشَوْنِ فى ترك العمل بكتابي و احكامى اثبت الياء فى الوصل فقط ابو عمرو و حذفها الجمهور فى الحالين اخرج ابن عساكر و الحكيم الترمذي عن ابن عباس انه قال انما يسلط على ابن آدم من خافه ابن آدم فان لم يخف الا اللّه لم يسلط عليه غيره و انما و كل ابن آدم بمن رجا ابن آدم فان لم يرج ابن آدم الا اللّه لم يكله الى سواه وَ لا تَشْتَرُوا اى لا تستبدلوا بِآياتِي باحكامى التي أنزلتها ثَمَناً قَلِيلًا من متاع الدنيا على سبيل الرشوة و نحو ذلك هذا صريح فى ان حكام هذه الامة مأمورون بالحكم بما ثبت كونه فى التورية و لم يثبت نسخه وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه مستهينا به جاحدا له كذا قال عكرمة فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ان لم يحكم بالاستهانة و قيل المراد بالكفر الفسق و جاز ان يكون المراد بالكفر ستر الحق قال ابن عباس و طاووس ليس بكفر ينقل عن الملة بل إذا فعل فهو به كفر يعنى ستر الحق و ليس كمن كفر باللّه و اليوم الاخر.

٤٥

وَ كَتَبْنا اى فرضنا عَلَيْهِمْ اى على بنى إسرائيل فِيها اى فى التورية أَنَّ النَّفْسَ القاتلة حرا كانت او رقيقا ذكرا كانت او أنثى مسلما كانت او ذميا تقتل بِالنَّفْسِ المقتولة كيفما كانت و قد مرحكم هذه المسألة فى شريعتنا فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى الحر بالحر الاية وَ الْعَيْنَ تقفأ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ تجدع بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ تقطع بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ تقلع بِالسِّنِّ قرأ الكسائي العين و الانف و الاذن و السن بالرفع على انها جمل متعاطفة عطفت على ان و ما فى حيزها كانه قيل كتبنا عليهم النفس بالنفس فان الكتابة و القراءة يقعان على الجمل كالقول او مستانفة و معناها و كذلك العين مقفوة بالعين و الانف مجدوعة بالأنف و الاذن مقطوعة بالاذن و السن مقلوعة بالسن او على ان المرفوع منها معطوف على المستكن فى قوله بالنفس و انما ساغ لانه فى الأصل مفصول عنه بالظرف و الجار و المجرور مبنية للمعنى و الباقون بالنصب

و قرا نافع الاذن بالاذن و فى اذنيه بإسكان الذال حيث وقع و الباقون بضمها وَ الْجُرُوحَ ذات قِصاصٌ قرأ ابن كثير و الكسائي و ابو عمرو و ابن عامر و ابو جعفر بالرفع على انه إجمال للحكم بعد التفصيل و الباقون بالنصب عطفا على اسم ان و هذا تعميم بعد التخصيص و لفظ القصاص ينبئ عن المماثلة فكل ما أمكن فيه رعاية المماثلة يجب فيه القصاص و مالا فلا فاليد ان قطع من المفصل عمدا قطعت يد الجاني من ذلك المفصل و انكانت يده اكبر من اليد المقطوعة و كذلك الرجل و مارن الانف و الاذن و السن لامكان رعاية المماثلة و من ضرب عين رجل فقلعها لا قصاص عليه لامتناع المماثلة فى القلع فان كانت العين قائمة و ذهب ضوءها فعليه القصاص لا مكان المماثلة فتحمى له المرأة و يجعل على وجهه قطن رطب و يقابل عينه بالمرءاة فيذهب ضوءها و هو ماثور عن جماعة الصحابة رضوان اللّه عليهم أجمعين قال فى الكفاية هذه حادثة وقعت فى زمن عثمان فسأل الصحابة عنها فلم يكن عندهم جواب فحضر على رض فاجاب بهذا فقضى عثمان بهذا و لم ينكر عليه أحد فصار اجماعا و لا قصاص فى عظم الا فى السن.

(مسئلة:) و لا يقتص من الجراحة الا بعد الاندمال عند ابى حنيفة و احمد و قال الشافعي يقتص فى الحال لنا حديث جابر ان رجلا جرح فاراد ان يستقيد منه فنهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح رواه الدارقطني.

(مسئلة:) من قطع يد رجل من نصف الساعد او جرحه جائفة فبرأ منها فلا قصاص عليه لانه لا يمكن اعتبار المماثلة فيه إذ الاول كسر العظم و لا ضابطة فيه و كذا البرأ نادر فيفضى الثاني الى الهلاك ظاهرا و قال الشافعي لو كسر عضده و ابانه قطع من المرفق و له حكومة الباقي و كذا فى كسر الساعد و غيره من العظام ان له قطع اقرب مفصل من موضع الكسر و حكومة الباقي.

(مسئلة:) لا قصاص عند ابى حنيفة فى اللسان و لا فى الذكر الا ان يقطع الحشفة لانهما ينقبضان و ينبسطان فلا يمكن اعتبار المماثلة و عن ابى يوسف انه إذا قطع اللسان او الذكر من أصله يجب القصاص و به قال الشافعي و احمد لانه يمكن اعتبار المساواة و الشفة ان استقصاها بالقطع يجب القصاص لامكان اعتبار المماثلة بخلاف ما إذا قطع بعضها لانه يتعذر اعتبارها.

(مسئلة:) و لا يقطع اليد الصحيحة باليد الشلاء و لا يمين بيسار و لا يسار بيمين اجماعا- (مسئلة:) فى العين القائمة بلا نور و اليد الشلاء و لسان الأخرس و الذكر الأشل و الإصبع الزائدة حكومة عدل عند الجمهور و عند احمد فيها ثلث دية العضو الصحيح لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قضى فى العين العوراء السادة مكانها إذا طمست ثلث ديتها و فى اليد الشلاء إذا قطعت بثلث ديتها و فى السن السوداء إذا نزعت بثلث ديتها رواه البيهقي من طريق النسائي و عن ابن عباس موقوفا فى اليد الشلاء ثلث الدية و فى العين القائمة إذا حشفت ثلث الدية رواه الدارقطني.

(مسئلة:) ان كانت يد المقطوع صحيحة و يد القاطع شلاء او ناقصة الأصابع فالمقطوع بالخيار عند ابى حنيفة رحمه اللّه ان شاء قطع اليد المعيبة و لا شى ء غيرها و ان شاء أخذ الأرش كاملا لان استيفاء الحق كملا متعذر فله ان يتجوز بدون حقه و له ان يعدل الى البدل و عند الشافعي يجب الأرش لا غير.

(مسئلة:) من شج رجلا فاستوعبت الشجة ما بين قرنيه و هى لا تستوعب ما بين قرنى الشاج فالمشجوج بالخيار ان شاء اقتص بمقدار شجته يبتدئ بها من اى الجانبين شاء و ان شاء أخذ الأرش و فى عكسه يخير ايضا.

(مسئلة:) و يجرى القصاص فى كسر السن كما يجرى فى قلعها عند ابى حنيفة رحمه اللّه و قال الشافعية لا قصاص فى الكسر لامتناع التماثل

قلنا يمكن التماثل إذا يبرد بالمبرد و فى الباب حديث انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قضى بالقصاص فى السن رواه النسائي و عن انس ايضا قال كسرت الربيع و هى عمة انس بن مالك ثنية جارية من الأنصار فاتوا النبي صلى اللّه عليه و سلم فامر بالقصاص فقال انس بن النضر عم انس ابن مالك لا تكسر ثنيتها يا رسول اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يا انس كتاب اللّه القصاص فرضى القوم و قبلوا الأرش فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان من عباد اللّه من لو اقسم على اللّه لا بره متفق عليه.

(مسئلة:) ليس فيما دون النفس شبهة عمد انما هو عمدا و خطاء لان شبه العمد فيما دون النفس عمد.

(مسئلة:) لا قصاص بين الرجل و المرأة فيما دون النفس و لا بين الحر و العبد و لا بين العبدين عند ابى حنيفة رحمه اللّه و عند الائمة الثلاثة يجرى القصاص فى جميع ذلك الا فى الحر يقطع طرفا للعبد جريا على أصلهم من انه لا يقتص حر لعبد لقوله تعالى الحر بالحر و هذه الاية بعمومها يعنى العين بالعين حجة لهم على ابى حنيفة و وجه قول ابى حنيفة ان الأطراف يسلك بها مسلك الأموال فينعدم التماثل بالتفاوت فى القيمة و هو معلوم قطعا بتقويم الشرع فامكن اعتباره بخلاف الأنفس لان المتلف به الحيوة بازهاق الروح و لا تفاوت فيه.

(مسئلة:) يجب القصاص فى الأطراف بين المسلم و الذمي عند ابى حنيفة رحمه اللّه للتساوى بينهما فى الأرش عنده و قال الشافعي و احمد ان قطع المسلم طرف كافر فلا قصاص لعدم جريان القصاص بينهما فى الأنفس و قد مر المسألة فى سورة البقرة فَمَنْ تَصَدَّقَ من اصحاب الحق بِهِ اى بالقصاص و عفا عن الجاني فَهُوَ اى التصدق كَفَّارَةٌ لَهُ اى للمتصدق كذا قال عبد اللّه بن عمرو بن العاص و الحسن و الشعبي و قتادة اخرج ابن مردويه عن رجل من الأنصار عن النبي صلى اللّه عليه و سلم فى قوله فمن تصدق به فهو كفارة له قال هو الرجل يكسر سنه او يقطع يده او يقطع شى ء منه او يجرح فى بدنه فيعفو عن ذلك فيحط عنه قدر خطاياه فان كان ربع الدية فربع خطاياه و إن كان الثلث فثلث خطاياه و انكانت الدية حطت عنه خطاياه كذلك و روى الطبراني فى الكبير بسند حسن عن عبادة بن الصامت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من تصدق من جسده بشئ كفر اللّه بقدره من ذنوبه و الطبراني و البيهقي عن سنجرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من ابتلى فصبروا عقل فشكر و ظلم فغفر و ظلم فاستغفر أولئك لهم الا من و هم مهتدون و روى الترمذي و ابن ماجة عن ابى الدرداء

قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ما من رجل يصاب بشئ فى جسده فتصدق به إلا رفعه اللّه به درجة و حط عنه خطيئة و كما أصيب شيخنا «١» و امامنا بجراحة توفى بها و استشهد أرسل اليه امير «٢» الأمراء و قال لاقيدن ممن جنى عليك ايها الشيخ فقال الشيخ رضى اللّه تعالى عنه لا تعرضوا بمن جنى علىّ فتصدق الشيخ به و قيل الضمير عائد الى الجاني المفهوم مما سبق معنى عفوه كفارة لذنب الجاني لا يوخذ به فى الاخرة كما ان القصاص كفارة له و اما اجر العافي فعلى اللّه قال اللّه تعالى فمن عفا و أصلح فاجره على اللّه

قال البغوي روى ذلك عن ابن عباس و به قال مجاهد و ابراهيم و زيد بن اسلم و جاز ان يكون معنى الاية فمن تصدق به اى انقاد للقصاص لمن وجب له القصاص فهو كفارة له من ذنوبه قال اللّه تعالى و لكم فى القصاص حيوة يأولى الألباب وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه من القصاص و غيره فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بالامتناع من ذلك.

(١) المراد به مرزاجا نجانا مظهر مرحوم ١٢.

(٢) نواب مرزا نجف خان ١٢.

٤٦

وَ قَفَّيْنا اى اتبعناهم يعنى النبيين حذف المفعول لدلالة الجار و المجرور عليه اعنى عَلى آثارِهِمْ اى على اثار النبيين الذين اسلموا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مفعول ثان عدى اليه الفعل بالباء مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ فى موضع النصب على الحال من الإنجيل وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ اى الإنجيل مِنَ التَّوْراةِ عطف على فيه هدى و كذا قوله وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً و جاز نصبهما على العلية عطفا على محذوف يعنى رحمة للناس و هدى و موعظة لِلْمُتَّقِينَ لانهم هم المنتفعون به او تعلقا بمحذوف تقديره و اتيناه هدى و موعظة و على تقدير نصبهما على العلية عطفا عليهما.

٤٧

وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللّه فِيهِ فى قراءة حمزة بكسر اللام و نصب يحكم يعنى و لكى يحكم و على التأويل الاول لام كى متعلق بمحذوف تقديره و اتيناه ليحكم و اما على قراءة الجمهور بسكون اللام و الجزم على انه صيغة امر و الجملة مستانفة

فان قيل الإنجيل نسخ بالقران و صيغة الأمر للحال او للاستقبال فكيف يتصور الأمر بالحكم بما فى الإنجيل

قلنا لا نسلم انه منسوخ بجميع أحكامه و ما نسخ منه فتركه باتباع القران محكوم فيه فالحكم بالناسخ الذي ورد فى القران حكم بما انزل اللّه فى الإنجيل و الحكم بالمنسوخ بعد النسخ ترك العمل بالإنجيل و اهل الإنجيل هم امة عيسى عليه السلام قبل بعثة النبي صلى اللّه عليه و سلم و امة محمّد صلى اللّه عليه و سلم بعد بعثته بدليل قوله تعالى لعيسى و جاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا الى يوم القيامة وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن حكمه او عن الايمان بالاستهانة.

٤٨

وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا محمد الْكِتابَ القران متلبسا بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ اى من جنس الكتب المنزلة فاللام الاولى للعهد و الثانية للجنس وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ روى الوالبي عن ابن عباس رضى اللّه عنهما اى شاهدا و هو قول مجاهد و قتادة و السدى و الكسائي و قال عكرمة دالا و قال سعيد بن جبير و ابو عبيدة موتمنا عليه و قال الحسن أمينا و قال سعيد بن المسيّب و الضحاك قاضيا و قال الخليل رقيبا و حافظا و المعنى متقاربة و معنى الكل ان كل كتاب يشهد به القران و يصدقه فهو كتاب اللّه قال ابن جريح القران أمين على ما قبله من الكتب فما اخبر اهل الكتاب من كتابهم فانكان فى القران فصدقوه و الا فكذبوه يعنى الكان فى القران تصديقه فصدقوه و إن كان فى القران تكذيبه فكذبوه و ان كان القران ساكتا عنه فاسكتوا عنه لاحتمال الصدق و الكذب من اهل الكتاب قيل اصل مهيمن ما يمن مفيعل من الامانة فقلبت الهمزة هاء فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ اى بين الناس بِما أَنْزَلَ اللّه فى القران فانه اما موافق لما سبق من الاحكام او ناسخ له وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ اى أهواء الناس ان أرادوا منك الحكم على خلاف ما انزل اللّه عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ متعلق بقوله لا تتبع لتضمنه معنى لا تنحرف او حال من فاعله اى لا تتبع أهواءهم معرضا عما جاءك من الحق لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ اى جعلنا لكل امة منكم ايها الناس شِرْعَةً اى شريعة و هى الطريق الى الماء شبه الدين لانه طريق الى ما هو سبب للحيوة الا بدية وَ مِنْهاجاً طريقا واضحا فى الدين من نهج الأمر إذا وضح استدل البيضاوي بهذه الاية على انا غير متعبدين بالشرائع المتقدمة و نحن نقول إذا ثبت بالقران او السنة ان اللّه تعالى حكم بشئ فى شى ء من الكتب السابقة و لم يثبت نسخه فنحن متعبدون به بناء على انه من احكام شريعتنا و القول بترك جميع ما نزل فى الكتب السابقة لا يساعده عقل و لا نقل و اختلاف الشرائع انما هو باختلاف اكثر الفروع مع اتحاد الأصول لا محالة وَ لَوْ شاءَ اللّه لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً جماعة متفقة على جميع الفروع فى جميع الاعصار من غير نسخ و تبديل وَ لكِنْ لم يشأ ذلك و جعلكم امما شتى على شرائع مختلفة لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ من الاحكام المناسبة لكل عصر و قرن اى ليعلم من يتبع حكم اللّه ممن ينقلب على عقبيه جمودا على دين ابائهم و قيل معناه و لو شاء اللّه اجتماعكم على الإسلام لاجبركم عليه و لكن لم يجبر ليبلوكم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ يعنى بادروا الى الأعمال الصالحة اغتناما للفرصة و حيازة لفضل السبق و التقدم فانه من سن سنة حسنة فله أجرها و اجر من عمل بها من غير ان ينقص من أجورهم شى ء إِلَى اللّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً استيناف فيه تعليل للاستباق و وعد و وعيد للمبادرين و المقصرين فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ بالجزاء الفاصل بين المحق و المبطل روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال قال كعب بن اسد و عبد اللّه بن صوريا و شاس بن قيس اذهبوا بنا الى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فاتوه فقالوا يا محمد انك قد عرفت انا أحبار اليهود و اشرافهم و ساداتهم و انا ان اتبعناك اتبعنا يهود و لم يخالفونا و ان بيننا و بين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فتقضى لنا عليهم و نؤمن لك فابى ذلك فانزل اللّه تعالى.

٤٩

وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ الى قوله يوقنون عطف على الكتاب اى أنزلنا إليك الكتاب و أنزلنا إليك الحكم او على الحق اى أنزلناه بالحق و بان احكم و جاز ان يكون جملة بتقدير و أمرنا ان احكم بينهم بِما أَنْزَلَ اللّه وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عطف على احكم و كذا وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ اى ان يضلوك و يصرفوك و ان مع صلته بدل اشتمال من الضمير المنصوب يعنى احذر فتنتهم او مفعول له يعنى احذرهم مخافة ان يفتنوك او لئلا يفتنوك عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللّه إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الحكم المنزل و أرادوا غيره فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللّه أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ اى يعجل لهم اللّه العقوبة فى الدنيا ببعض ذنوبهم هاهنا وضع المظهر موضع المضمر و المعنى يريد اللّه ان يصيبهم به اى بذلك التولي فى الدنيا و هذا الإبهام لتعظيم التولي و التنبيه على ان لهم ذنوب كثيرة واحدها هذا وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ يعنى من اليهود لَفاسِقُونَ المتمردون المعتدون فى الكفر.

٥٠

أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ قرأ ابن عامر بالتاء الفوقانية على الخطاب و الباقون بالتحتانية على الغيبة و المراد بالجاهلية الملة الجاهلية و هى متابعة الهوى قيل نزلت فى قريظة و بنى النضير طلبوا من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان يحكم بما كان يحكم به اهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى و الاستفهام للانكار يعنى لا تفعل ذلك وَ مَنْ أَحْسَنُ يعنى لا أحد احسن مِنَ اللّه حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ٤ اى عندهم و اللام للبيان كما فى قولك هيئت لك اى هذا الاستفهام لقوم يوقنون فانهم هم الذين يتدبرون فى الأمور و يتحققون فى الأشياء بانظارهم فيعلمون ان لا احسن حكما من اللّه تعالى اخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال اسلم عبد اللّه بن ابى ابن سلول ثم انه قال ان بينى و بين قريظة و النضير حلف و انى أخاف الدوائر فارتد كافرا و قال عبادة بن الصامت انى ابرأ الى اللّه من حلف قريظة و النضير و أتولى اللّه و رسوله و المؤمنين فانزل اللّه تعالى هذه الاية الى قوله فترى الذين فى قلوبهم مرض الاية و قوله انما وليكم اللّه الاية و قوله لو كانوا يؤمنون باللّه و النبي و ما انزل اليه ما اتخذوهم اولياء

و اخرج ابن اسحق و ابن جرير و ابن ابى حاتم و البيهقي عن عبادة بن الصامت قال لما حاربت بنو قينقاع نشب بامرهم عبد اللّه بن ابى ابن سلول و قام دونهم و مشى عبادة بن الصامت الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و تبرأ الى اللّه و رسوله و من حلفهم و كان أحد بنى عوف بن الخزرج و له من حلفهم مثل الذي لهم من عبد اللّه بن ابى فتبرأ من حلفائه الكفار و ولايتهم قال ففيه و فى عبد اللّه بن ابى نزلت.

٥١

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا «١» الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ اى لا تعتمدوا عليهم و لا تعاشروهم معاشرة الأحباب بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ايماء الى علة النهى يعنى انهم متفقون على خلافكم و اضراركم و توالى بعضهم بعضا لاتحادهم فى الدين وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ يعنى عبد اللّه بن ابى فَإِنَّهُ مِنْهُمْ يعنى كافر منافق فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم يا أبا الحباب ما نفست «٢» من ولاية

(١) عن عياض ان عمر امر أبا موسى الأشعري ان يرفع اليه ما أخذ و ما اعطى فى أديم واحد و كان له كاتب نصرانى فرفع اليه ذلك فعجب عمر و قال ان هذا لحفيظ بل أنت قارى لنا كتابا فى المسجد جاء من الشام فقال انه لا يستطيع ان يدخل المسجد قال عمرا جنب قال لا بل نصرانى قال فنهزنى و ضرب فخذى ثم قال أخرجه ثم قرا لا تتخذوا اليهود و النصارى اولياء الاية أخرجه ابن ابى حاتم و البيهقي فى شعب الايمان ١٢.

(٢) اى ما صرت مرغوبا من ولاية اليهود على عباده ١٢.

اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه قال إذا اقبل و جاز ان يكون قوله تعالى و من يتولهم منكم فانه منهم مبنيا على التجوز يعنى من يتولهم فهو فاسق و الفاسق يشابه الكافر و الغرض منه التشديد فى وجوب مجانبتهم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انا برئ من كل مسلم اقام مع المشركين لا ترا انا راهما رواه الطبراني برجال ثقات عن خالد بن الوليد

و اخرج ابو داؤد و الترمذي و النسائي عن جرير بن عبد اللّه إِنَّ اللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار و ظلموا المؤمنين بموالاة أعدائهم.

٥٢

فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعنى عبد اللّه ابن ابى ابن سلول و أصحابه من المنافقين يُسارِعُونَ فِيهِمْ اى فى موالاة اليهود و معاونتهم مفعول ثان لترى إن كان من الروية بمعنى العلم و الا فهو حال من فاعله يَقُولُونَ حال من فاعل يسارعون نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ من دوائر الزمان بان ينقلب الأمر و يكون الدولة للكفار و لا يتم امر محمّد فيدور علينا كذا قال ابن عباس و قيل معناه نخشى ان يدور الدهر علينا بمكروه فنحتاج الى نصرهم او يصيبنا جدب و قحط فلا يعطونا الميرة اخرج ابن جرير من حديث عطية و ابن اسحق ان عبادة بن الصامت قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان لى موالى من اليهود كثيرا عددهم و انى ابرأ الى اللّه و رسوله من ولايتهم و أو الى الى اللّه و رسوله فقال ابن ابى انى رجل أخاف الدوائر لا ابرأ من ولاية موالى

قال البغوي فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم يا أبا الحباب ما نفست من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه قال إذا اقبل قال اللّه تعالى فَعَسَى اللّه أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ قال قتادة و مقاتل بالقضاء الفصل من نصر محمد صلى اللّه عليه و سلم على من خالفه و قال الكلبي و السدى فتح مكة و قال الضحاك فتح قرى ليهود خيبر و فدك و غيرها أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ اى اظهار اسرار المنافقين و قتلهم و تفضيحهم او قتل بنى قريظة و اجلاء بنى النضير و استيصال اليهود من جزيرة العرب فَيُصْبِحُوا اى هؤلاء المنافقين منصوب بان مقدرة بعد فاء السببية الواقعة بعد عسى لانه بمعنى لعل و هو من ملحقات التمني كما فى قوله تعالى لعلى ابلغ الأسباب اسباب السموات فاطلع بالنصب و جاز ان يكون معطوفا على الفتح تقديره عسى اللّه ان يأتي بالفتح و صيرورة المنافقين نادمين و جاز ان يكون معطوفا على يأتي و هذا اما على تقدير كون ان يأتي اسم عسى بدلا من اللّه مغنيا عن الخير بما تضمنه من الحدث و اما على تنزيل عسى اللّه ان يأتي منزلة عسى ان يأتي اللّه لان كليهما بمعنى واحد فالتقدير عسى ان يأتي اللّه بالفتح و عسى ان يصبحوا الا على تقدير كون يأتي خبر عسى لانه حينئذ لا بد من الضمير فى خبر عسى عائدا الى اسمه و جاز ان يقال لفظة اللّه فى قوله اقسموا باللّه مظهر فى موضع الضمير و اللّه اعلم عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ استبطنوه من النفاق و موالاة الكفار فضلا عما أظهروه مما أشعر على نفاقهم نادِمِينَ خبر ليصبحوا و الجار و المجرور متعلق به.

٥٣

وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا قرأ الكوفيون بالواو و يقول بالرفع على انه كلام مبتدأ

و قرا ابن كثير و نافع و ابن عامر بغير واو و هكذا فى مصاحفهم و يقول بالرفع على الاستيناف كانه فى جواب قائل يقول فماذا يقول المؤمنون حينئذ

و قرا ابو عمرو و يعقوب بالواو و يقول بالنصب على انه معطوف على يصبحوا و المعنى إذا جاء اللّه بالفتح يصير المنافقون نادمين و يقول المؤمنون متعجبين او على احتمالات اخر ذكرناها فى فيصبحوا و التقدير عسى ان يأتي اللّه بالفتح و قول المؤمنين كذلك او عسى ان يأتي اللّه بالفتح او عسى ان يقول المؤمنون او عسى اللّه ان يقول المؤمنون أ هؤلاء المنافقون الذين اقسموا به تعالى كذلك أَ هؤُلاءِ يعنى المنافقين الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمانِهِمْ اى أغلظها مصدر قائم مقام الجملة الواقعة حالا تقديره اقسموا باللّه يجتهدون جهدا ايمانهم و لذلك جاز كونه معرفة او منصوب على المصدرية من اقسموا لانه بمعناه إِنَّهُمْ اى المنافقين لَمَعَكُمْ هذه الجملة جواب للقسم يعنى يقول المؤمنون بعضهم لبعض تعجبا من حال المنافقين حيث كانوا يقسمون بانهم لمع المؤمنين و تبجّحا بما منّ اللّه عليهم من الإخلاص او يقولون لليهود فان المنافقين كانوا يحلفون لليهود بالمعاضدة و يقولون لهم ان أخرجتم لنخرجن معكم و ان قوتلتم لننصرنكم حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ فى الدنيا و الاخرة هذه الجملة اما من مقولة المؤمنين او من مقولة اللّه تعالى شهادة لهم بحبوط أعمالهم و خسرانهم.

٥٤

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ «١» قرا نافع

(١) عن قتادة انه قال انزل اللّه هذه الاية و قد علم انه سيرتد مرتدون من الناس فلما قبض النبي صلى اللّه عليه و سلم ارتد عامة العرب عن الإسلام الا ثلثة مساجد اهل المدينة و اهل مكة و اهل جواثا من عبد القيس و قال الذين ارتدوا نصلى الصلاة و لا تزكى و اللّه لا يغصب أموالنا فكلم ابو بكر فى ذلك يتجاوز عنهم و قيل اما انهم لو قد فقهوا أدوا الزكوة فقال و اللّه لا افرق بين شى ء جمعه اللّه لو منعونى عقالا مما فرض اللّه و رسوله لقاتلتهم عليه فبعث اللّه بعصائب مع ابى بكر فقاتلوا حتى قتلوا و أقروا بالماعون و هو الزكوة قال قتادة فكنا نتحدث ان هذه الاية نزلت فى ابى بكر و أصحابه فسوف يأتي اللّه بقوم يحبهم و يحبونه أخرجه عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابو الشيخ و البيهقي فى سننه و ابن عساكر ١٢ منه (فائده) لم يوجد قتال مع المرتدين الا فى زمن ابى بكر و قد لامه الصحابة و كرهوا ذلك القتال فى الابتداء فلم يخف لومتهم ثم حمدوه فى الانتهاء ١٢ منه و عن ابى موسى الأشعري قال قلت عند النبي صلى اللّه عليه و سلم فسوف يأتي اللّه بقوم يحبونه و يحبهم قال هؤلاء من اهل اليمن ثم من كندة ثم من السكون ثم من تجيب و عن القاسم ابن محمره قال أتيت عمر فرجت فى ثم تلا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي اللّه بقوم يحبهم و يحبونه ثم ضرب على منكبى و قال احلف باللّه انهم لمنكم اهل اليمن ثلثا أخرجه البخاري فى تاريخه قلت وقع قتال عسكر ابى بكر مع اهل الردة بامداد اهل اليمن ١٢ منه.

و ابن عامر يرتددبفك الإدغام و الباقون بالإدغام بفتح الدال مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ يعنى عن الإسلام الى الكفر قال الحسن علم اللّه تبارك و تعالى ان قوما يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم فاخبر انه سياتى فَسَوْفَ يَأْتِي اللّه بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ العائد الى عن محذوف تقديره فسوف يأتي اللّه اى يقيم اللّه تعالى لمدافعتهم قوما منكم يحبهم و يحبونه و اختلفوا فى ذلك القوم من هم قال على رض ابن ابى طالب و الحسن و الضحاك و قتادة هم ابو بكر و أصحابه الذين قاتلوا اهل الردة و مانعى الزكوة و ذلك ان النبي صلى اللّه عليه و سلم لما قبض ارتد عامة العرب الا اهل مكة و المدينة و البحرين من عبد القيس و منع بعضهم الزكوة و همّ ابو بكر بقتالهم فكره ذلك اصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم و قال عمر كيف تقاتل الناس و قد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا اللّه فمن قاله فقد عصم منى ماله و نفسه الا بحقه و حسابه على اللّه عز و جل فقال ابو بكر رض و اللّه لا قاتلن من فرق بين الصلاة و الزكوة فان الزكوة حق المال و اللّه لو منعونى عناقا كانوا يؤدونها الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لقاتلتهم على منعها قال انس بن مالك كرهت الصحابة قتال مانعى الزكوة و قالوا اهل القبلة فتقلد ابو بكر رض سيفه و خرج وحده فلم يجدوا بدا من الخروج على اثر قال ابن مسعود رض كرهنا ذلك فى الابتداء ثم حمدناه عليه فى الانتهاء قال ابو بكر بن عياش سمعت أبا حفص يقول ما ولد بعد النبيين مولود أفضل من ابى بكر رض قام بعد النبي صلى اللّه عليه و سلم فى قتال اهل الردة و قال قد ارتد فى حيوة النبي صلى اللّه عليه و سلم ثلث فرق منهم مذحج و رئيسهم ذو الحمار عبهلة بن كعب العنسي و يلقب بالأسود و كان كاهنا مشعبدا فتبنّى باليمن و استولى على بلاده فكتب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الى معاذ بن جبل و من معه من المسلمين و أمرهم ان يحثوا الناس على التمسك بدينهم و على النهوض الى حرب الأسود فقتله فيروز الديلمي على فراشه قال ابن عمر فاتى الخبر النبي صلى اللّه عليه و سلم من السماء الليلة التي قتل فيها و قال النبي صلى اللّه عليه و سلم قتل الأسود البارحة قتله رجل مبارك قيل و من هو قال فيروز و فاز فيروز فبشر النبي صلى اللّه عليه و سلم أصحابه بهلاك الأسود و قبض صلى اللّه عليه و سلم من الغد و اتى خبر مقتل العنسي المدينة فى اخر شهر ربيع الاول بعد مخرج اسامة و كان ذلك أول فتح جاء أبا بكر رض و الفرقة الثانية بنو حنيفة باليمامة و رئيسهم مسيلمة الكذاب و كان قد تنبى فى حيوة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى اخر سنة عشر و زعم انه أشرك مع محمد صلى اللّه عليه و سلم فى النبوة و كتب الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من مسيلمة رسول اللّه الى محمد رسول اللّه اما بعد فان الأرض نصفها لى و نصفها لك و بعث بذلك اليه رجلين من أصحابه فقال لهما رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو لا ان الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ثم أجاب من محمد رسول اللّه الى مسيلمة الكذاب اما بعد فان الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين و مرض رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و توفى فبعث ابو بكر خالد بن الوليد الى مسيلمة فى جيش كثير حتى أهلكه اللّه على يدى وحشي غلام مطعم بن عدى الذي قتل حمزة بن عبد المطلب بعد حرب شديد و كان وحشي يقول قتلت خير الناس فى الجاهلية و شر الناس فى الإسلام و الفرقة الثالثة بنو اسد و رئيسهم طليحة بن خويلد و كان طليحة اخر من ارتد و ادعى النبوة فى حيوة النبي صلى اللّه عليه و سلم و أول من قوتل بعد وفات النبي صلى اللّه عليه و سلم من اهل الردة فبعث ابو بكر خالد بن الوليد اليه فهزمهم خالد بعد قتال شديد و أفلت طليحة فمر على وجهه هاربا نحو الشام ثم انه اسلم بعد ذلك و حسن إسلامه و قد ارتد بعد وفات النبي صلى اللّه عليه و سلم فى خلافة ابى بكر رض خلق كثير سبع فرق فزارة قوم عيينة بن حصين و غطفان قوم قرة بن سلمة القشيري و بنو سليم قوم الفجاة بن عبد ياليل و بنو يربوع قوم مالك بن نويرة و بعض تميم قوم شجاج بنت المنذر المتنبية زوجة مسيلمة و أسلمت آخرا و كندة قوم الأشعث بن قيس و بنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطيم حتى كفى اللّه بالمسلمين أمرهم و نصر دينه على يدى ابى بكر رض قالت عائشة توفى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ارتدت العرب و اشرب النفاق و نزل بابى ما لو نزل بالجبال الراسيات «١» لها ضمها «٢» و ارتد فى خلافة عمر غسان قوم جبلة ابن الابهم لما اجرى عليه عمر حكم القصاص تنصر و صار الى الشام و قال قوم المراد «٣» بقوم يحبهم و يحبونه هم الأشعريون روى عن عياض بن غنم قال لما نزلت هذه الاية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قوم هذا و أشار الى ابى موسى الأشعري رواه ابن جرير فى سننه و الطبراني و الحاكم و كانوا من اليمن عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال أتاكم اهل اليمن هو أضعف قلوبا و ارق افئدة الايمان يمان و الحكمة يمانية متفق عليه و قال الكلبي هم احياء من اليمن الفان من النخع و و خمسة آلاف من كندة و بحيلة و ثلثة آلاف من إفناء الناس فجاهدوا فى سبيل اللّه يوم القادسية فى ايام عمر رض أَذِلَّةٍ جمع ذليل من ذل يذل ذلا و ذلالة بالضم و ذلة بالكسر و مذلة و ذلالة بالفتح بمعنى هان كذا فى القاموس و الذلة انكانت على الإنسان من نفسه فهى محمودة قال اللّه تعالى و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة اى كن كالمقهور لهما و انكانت من غيره عليه فعليه عذاب قال اللّه تعالى ترهقهم ذلة و ضربت عليهم الذلة و المسكنة و ضد الذلة العز بمعنى الغلبة و العزيز الذي يقهر و لا يقهر و هى إن كان للانسان من نفسه لنفسه فمذموم قال اللّه تعالى بل الذين كفروا فى عزة و شقاق و قد يستعار

(١) اى القائمات ١٢.

(٢) اى كسرها ١٢.

(٣) اخرج ابن سعد و ابن ابى شيبة و احمد و الطبراني و البيهقي فى الشعب عن ابى ذر قال أمرني رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بسبع يحب المساكين و ان ادنوا منهم و ان انظر الى من هو أسفل منى و لا انظر الى من هو فوقى و ان اصل رحمى و ان جفانى و ان اكثر من قول لا حول و لا قوة الا باللّه فانها من كنز تحت العرش و ان أقول الحق و ان كان مرا و لا أخاف فى اللّه لومة لائم و ان لا أسأل الناس شيئا ١٢ منه.

حينئذ للحمية قال اللّه تعالى أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم و ان كانت من اللّه تعالى فكمال و نعمة قال اللّه تعالى و للّه العزة و لرسوله و للمؤمنين و قال عز و جل من كان يريد العزة فللّه العزة جميعا و قال عليه السلام كل عز ليس من اللّه فهو ذل

قال البيضاوي هو جمع ذليل لا ذلول فان جمعه ذلل لكن قال فى القاموس جمع ذليل ذلال و أذلاء و اذلة و جمع ذلول ذلل و اذلة فاذلة جمع لكليهما قلت فان كان جمع ذلول فهو ضد صعب و معناهما متقارب و حاصل المعنى انهم متواضعون لينون رحماء متعاطفون عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كان القياس للمؤمنين فاورد على هاهنا بمعنى اللام للمشاكلة التي دعى إليها المقابلة و تنبيها لاختصاص ذلهم بالمؤمنين مع علو مرتبتهم و فضلهم على من يذلون لهم أو هي بمعناها أورد لتضمن الذل معنى العطف و الحنوا و يقال ذكر الاذلة فى مقابلة الاعزة تنبى عن نفى عزهم على المؤمنين كانه قيل غيرا عزة على المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ اى أشداء عليهم متغلبين ما استكانوا لهم و ما ضعفوا فى مقابلتهم نظير هذه الاية قوله تعالى أشداء على الكفار رحماء بينهم يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه حال من الضمير فى اعزة و جاز ان يكون صفة اخرى لقوم وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ الواو يحتمل ان يكون للحال يعنى يجاهدون و حالهم انهم لا يخافون لوم الكفار كما هو حال المنافقين كانوا يخرجون فى جيوش الإسلام اما خوفا من ظهور نفاقهم او طمعا فى الغنيمة و مع ذلك يخافون لومة اولياء هم من اليهود فلا يعملون شيئا مما يعلمون انه يلحقهم لوم من جهتهم او هى عاطفة عطف على يجاهدون بمعنى انهم هم الجامعون بين المجاهدة فى سبيل اللّه و التصلب فى دينهم عن عبادة بن الصامت قال بايعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على السمع و الطاعة و ان نقوم او نقول بالحق حيث ما كنا لا نخاف فى اللّه لومة لائم متفق عليه و اللومة المرّة من اللوم و فى تنكيرها و تنكير لائم مبالغتان كانه قال لا يخافون شيئا قط من لوم أحد من اللوام ذلِكَ يعنى محبتهم و محبوبيتهم للّه تعالى و ذلهم للمؤمنين و قهرهم على الكفار و مجاهدتهم فى سبيل اللّه و عدم خوفهم من لومة لائم بعد ارتداد قوم منهم و ضعف شوكتهم فَضْلُ اللّه عليهم و عطائه يُؤْتِيهِ يمنحه و يوفق به مَنْ يَشاءُ من عباده فمن راى فيه شيئا من ذلك الأوصاف يجب عليه ان يشكر اللّه تعالى و لا يعجب بنفسه و انى يكون العجب لمن اتصف بهذه الأوصاف وَ اللّه واسِعٌ فضله و قدرته و قالت الصوفية واسع و سعة بلا كيف يتجلى كمالاته فى المظاهر كلها عَلِيمٌ بمواقع اعمال قدرته لا يفوته ما يقتضيه الحكمة.

٥٥

إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّه وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا متصل بقوله تعالى لا تتخذوا اليهود و النصارى اولياء و ما بينهما اما لتاكيد النهى كقوله تعالى و من يتولهم منكم فانه منهم و قوله تعالى فترى الذين فى قلوبهم الاية و اما لتوطية تعيين من هو حقيق للولاية كقوله تعالى فسوف يأتي اللّه بقوم يحبهم و يحبونه الاية و هذه الاية لتعيين من هو حقيق بالولاية و النفي المستفاد بانما هو على قول البصريين لتاكيد النهى المستفاد مما سبق و انما قال وليكم و لم يقل أوليائكم للتنبيه على ان الولاية للّه خاصة على الاصالة و ما هو لرسوله و للمؤمنين فبالتبع الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ صفة للذين أمنوا لانه جار مجرى الاسم و لو قدر له موصوف يكون صفة ثانية لموصوفه او بدل منه و يجوز نصه على المدح و كذا رفعه بتقدير المبتدأ يعنى هم او الاستيناف فى جواب من الذين أمنوا وَ هُمْ راكِعُونَ الواو للعطف على يقيمون الصلاة و يؤتون الزكوة و المعنى هم مصلون صلوة ذات ركوع بخلاف صلوة اليهود و النصارى فانها لا ركوع فيها او المعنى هم خاضعون متخشعون فى صلوتهم و زكوتهم قال الجوهري يستعمل الركوع تارة فى التواضع و التذلل و جاز ان يكون الواو للحال من فاعل يؤتون اى يؤتون الزكوة فى حال ركوعهم فى الصلاة مسارعة الى الإحسان اخرج الطبراني فى الأوسط بسند فيه مجاهيل عن عمار بن ياسر قال وقف على على بن ابى طالب سائل و هو راكع فى تطوع و نزع خاتمه و أعطاه السائل فنزلت انما وليكم اللّه و رسوله الاية و له شواهد قال عبد الرزاق بن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس فى قوله تعالى انما وليكم اللّه قال نزلت فى على ابن ابى طالب و روى ابن مردويه عن وجه اخر عن ابن عباس مثله

و اخرج ايضا عن على مثله

و اخرج ابن جرير عن مجاهد و ابن ابى حاتم عن سلمة بن كهيل مثله و روى الثعلبي عن ابى ذر و الحاكم فى علوم الحديث عن على رض فهذه شواهد يقوى بعضها بعضا و هذه القصة تدل على ان العمل القليل فى الصلاة لا يبطلها و عليه انعقد الإجماع و على ان صدقة التطوع تسمى زكوة و نزول هذه الاية فى على رض لا يقتضى تخصيص الحكم به لان العبرة لعموم اللفظ دون خصوص المورد كما يدل عليه صيغة الجمع و لعل ذكر الركوع هاهنا على سبيل التمثيل و على مقتضى الحادثة الواردة فيه و المراد منه يؤتون الزكوة فورا على السؤال بلا مهلة و

قال البيضاوي ان صح انه نزل فى على رض فلعله جيئى بلفظ الجمع ليرغب الناس فى مثل فعله فيندرجوا فيه قلت و لو كان المراد به على رض فالحصر المستفاد بانما على قول البصريين حصر إضافي بالنسبة الى اليهود و النصارى دون المؤمنين كما فى قوله تعالى و ما محمّد الا رسول و ذكر البغوي انه روى عن ابن عباس انها نزلت فى عبادة ابن الصامت رضى اللّه عنه و عبد اللّه بن ابى ابن سلول حين تبرّأ عبادة من اليهود و قال أتولى اللّه و رسوله و الذين أمنوا فنزل فيهم من قوله يا ايها الذين أمنوا لا تتخذوا اليهود و النصارى اولياء الى قوله انما وليكم اللّه و رسوله و الذين أمنوا الاية يعنى عبادة و سائر اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قال جاء عبد اللّه بن سلام الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال يا رسول اللّه ان قومنا قريظة و النضير قد هجرونا و فارقونا و اقسموا ان لا يجالسونا فنزلت هذه الاية فقال رضينا باللّه و برسوله و بالمؤمنين اولياء و قال جويبر عن الضحاك فى قوله تعالى انما وليكم اللّه و رسوله و الذين أمنوا قال هم المؤمنون بعضهم اولياء بعض و قال ابو جعفر محمد بن على الباقر رضى اللّه عنهما نزلت فى المؤمنين فقيل له ان ناسا يقولون انها نزلت فى على ابن ابى طالب رض فقال هو من المؤمنين رواه عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابو نعيم فى الحلية و روى عن عكرمة انها نزلت فى ابى بكر رض

قال البغوي و على هذه الروايات أراد بقوله و هم راكعون مصلون صلوة التطوع باليل و النهار.

٥٦

وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللّه وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا قال ابن عباس يريد المهاجرين و الأنصار يعنى من يتخذهم اولياء فَإِنَّ حِزْبَ اللّه هُمُ الْغالِبُونَ تقديره فانهم هم الغالبون وضع المظهر موضع المضمر تنبيها على البرهان عليه كانه قيل و من يتول هؤلاء فهم حزب اللّه و حزب اللّه هم الغالبون ينتج فهم هم الغالبون و تنويها بذكرهم و تعظيما لشانهم و تشريفا لهم بهذه الاسم و تعريضا لمن تولى غير هؤلاء بانهم حزب الشيطان فى القاموس الحزب بالكسر الورد و الطائفة و السلاح و جند الرجل و أصحابه الذين على رايه قلت و هذا هو المراد هاهنا

قال البيضاوي الحزب القوم يجتمعون لامر حزبه فى القاموس حزبه الأمر يعنى نابه و اشتد عليه احتجت الروافض بهذه الاية على انحصار الخلافة فى على رض قالوا المراد بالولى المتولى لامور المسلمين و المستحق للتصرف فيهم فاللّه سبحانه كما اثبت الولاية لنفسه و للرسول اثبت لعلى رض و ذكر بكلمة انما للحصر و لا شك ان ولاية اللّه و الرسول عامة فكذلك ولاية على و هو الامام دون غيره و احتجوا بحديث البراء بن عازب و زيد ابن أرقم ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لما نزل بغدير خم أخذ بيد على فقال أ لستم تعلمون انى اولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال أ لستم تعلمون انى اولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى فقال اللّهم من كنت مولاه فعلى مولاه اللّهم وال من والاه و عاد من عاداه فلقيه عمر بعد ذلك فقال له هنيئا يا ابن ابى طالب أصبحت و أمسيت مولى كل مؤمن و مؤمنة رواه احمد و غيره و قد بلغ هذا الحديث مبلغ التواتر رواه جمع من المحدثين فى الصحاح و السنن و المسانيد برواية نحو من ثلثين من اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم منهم على بن ابى طالب و بريدة بن حصيب و ابو أيوب و عمرو ابن مرة و ابو هريرة و ابن عباس و عمار بن بريدة و سعد بن وقاص و ابن عمر و انس و جرير بن مالك بن الحويرث و ابو سعيد الخدري و طلحة و ابو الطفيل و حذيفة بن أسيد و غيرهم و فى بعض الروايات من كنت اولى به من نفسه فعلى وليه اللّهم وال من والاه و عاد من عاداه قالت الروافض هذا الحديث حديث غدير خم نص جلى فى خلافة على رض و عن عمران بن حصين ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ان عليا منى و انا منه و هو ولى كل مؤمن رواه الترمذي و ابن ابى شيبة و هذين الحديثين اولى بالاحتجاج من الاية لانه نص محكم فى وجوب ولاية على رض غير شامل لغيره بخلاف الاية فانها على تقدير صحة نزولها فى على شاملة لجميع المؤمنين فان العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص المورد لكن استدلال الروافض بالحديثين و الاية على نفى خلافة غيره باطل فان الولي و المولى مشتقان من الولي بمعنى القرب و الدنو قال فى القاموس الولي اسم من الولي و يقال الولي للمحب و الصديق و النصير و فى الصحاح الولاء و التوالي ان يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما و يستعار ذلك للقرب من حيث المكان و من حيث النسبة و من حيث الدين و من حيث الصداقة و النصرة و الاعتقاد و الولاية و النصرة و يطلق ايضا على تولى الأمر و فى القاموس المولى المالك و العبد و المعتق و المعتق على البناء للفاعل و المفعول و الصاحب و القريب كابن العم و نحوه و الجار و الحليف و ابن العم و النزيل و الشريك و ابن الاخت و الولي و الرب و الناصر و المنعم و المنعم عليه و المحب و التابع و الصديق و قد ورد فى القران و نسبة المحبة و القرب التي بين العبد و اللّه سبحانه يطلق عليه الولاية و يطلق الولي على المؤمن فيقال ولى اللّه و على اللّه فيقال اللّه ولى الذين أمنوا و اطلق المولى فى القران على اللّه سبحانه حيث قال نعم المولى و نعم النصير و على العباد فيما بينهم ايضا حيث قال ان اللّه هو موليه و جبريل و صالح المؤمنين فهذه الاية و هذه الأحاديث لا يدل شى ء منها على خلافة على فضلا عن نفى خلافة غيره بل انما يدل الاية على استحقاق محبته و الحديث على وجوب محبته و حرمة عداوته كما يدل الاية على حرمة ولاية اليهود و النصارى اعنى محبتهم و مناصرتهم اخرج ابو نعيم المدائنى عن الحسن المثنى بن الحسن المجتبى انه لما قيل له ان خبر من كنت مولاه نص فى امامة على قال اما و اللّه لو يعنى النبي صلى اللّه عليه و سلم بذلك الامامة و السلطان لافصح لهم فانه صلى اللّه عليه و سلم كان افصح الناس للمسلمين و كان سبب خطبة النبي صلى اللّه عليه و سلم بغدير خم ان النبي صلى اللّه عليه و سلم بعث عليا الى اليمن امير العسكر فتسرى جارية من الخمس و شكى بذلك بعض الناس فغضب النبي صلى اللّه عليه و سلم لاجل شكايته و قال ما تريدون من رجل يحب اللّه و رسوله و يحبه اللّه و رسوله و خطب تلك الخطبة ليتمكن محبة على فى قلوب المؤمنين و يزول شكايتهم و قوله صلى اللّه عليه و سلم أ لستم تعلمون انى اولى بكل مؤمن الغرض منه تنبيه المسلمين على وجوب امتثال امره فى محبة على رض و كذا دعائه صلى اللّه عليه و سلم فى اخر الحديث للتاكيد فى محبته قلت و هذه الاية تدل على ابطال مذهب الروافض بوجهين أحدهما ان قوله تعالى اذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين يجاهدون فى سبيل اللّه و لا يخافون لومة لائم يستاصل بنيان التقية التي عليها بناء مذهبهم فان عليا رض تابع الخلفاء الثلاثة و صلى معهم و جاهد معهم الى ثلث و عشرين سنة و انكح ابنته عمر رض فان كان ذلك بالتقية خوفا من الناس لا يكون على داخلا فى حكم هذه الاية و لا مجال بهذه القول الباطل الا للروافض خذلهم اللّه و اللّه اعلم و ثانيهما ان قوله تعالى فان حزب اللّه هم الغالبون يدل على ان الفرقة الناجية ليست الا اهل السنة و الجماعة دون الروافض و غيرهم من اهل الأهواء لبداهة غلبة اهل السنة فى القرون و الأمصار بل الروافض يعترفون بذلك حيث قالوا ان عليا كان مع الخلفاء الثلاثة تقية مقهورا مغلوبا و الائمة بعده لم يظهروا دينهم خوفا و علّموا أصحابهم دينهم خفية و يأمرونهم بالإخفاء و يقولون للجدر أذان كذا رووا عن الباقر و الصادق فى كتبهم و قالوا صاحب الأمر اختفى فى سرد دابة سر من راى نحوا من الف سنة و اللّه اعلم روى ابن جرير عن ابن عباس قال كان رفاعة بن زيد بن التابوت و سويد بن الحارث قد اظهر الإسلام نفاقا و كان رجال من المسلمين يوادونهما فانزل اللّه تعالى.

٥٧

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ الى قوله تكتمون هُزُواً وَ لَعِباً مهزوا به و ملعوبا حيث يظهرون الايمان و يضمرون الكفر رتب النهى عن موالاتهم على استهزائهم أيماء الى علة النهى من باب ترتب الحكم على العلة و تنبيها على ان هذا الوصف يوجب المعادات فكيف يجوز موالاتهم مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعنى اليهود وَ الْكُفَّارَ يعنى المشركين يؤيده قراءة ابن مسعود و من الذين أشركوا قرا ابو عمرو و الكسائي بالجر عطفا على الموصول الثاني و الباقون بالنصب عطفا على الموصول الاول عبّر المشركين بالكفار لتضاعف كفرهم و جاز ان يكون المراد بالكفار أعم من اهل الكتاب و اهل الشرك فهو تعميم بعد تخصيص على قراءة النصب تنبيها على ان الاستهزاء و الكفر كلواحد منهما يقتضى المعادات و يمنع الموالاة أَوْلِياءَ وَ اتَّقُوا اللّه بترك المناهي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرط استغنى عن الجزاء بما سبق يعنى ان الايمان باللّه و بوعده و وعيده يوجب التقوى عن المناهي المقتضية للوعيد قال الكلبي كان منادى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا نادى للصلوة و قام المسلمون إليها قالت اليهود قد قاموا لا قاموا و صلوا لا صلوا على طريق الاستهزاء و ضحكوا فانزل اللّه عز و جل.

٥٨

وَ إِذا نادَيْتُمْ عطف على اتخذوا دينكم يعنى لا تتخذوا الذين إذا ناديتم إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها يعنى الصلاة او المناداة هُزُواً وَ لَعِباً اخرج ابن ابى حاتم عن السدى ان نصرانيا بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول اشهد ان محمدا رسول اللّه قال احرق اللّه الكاذب فدخل خادمه ذات ليلة بنار و هو و اهله ينام فتطائرت منها شرارة فاحترق هو و اهله قيل ان الكفار لما اسمعوا الاذان حسدوا المسلمين فدخلوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالوا يا محمد لقد أبدعت شيئا لم يسمع به فيما مضى من الأمم فان كنت تدعى النبوة فقد خالفت فيما أحدثت الأنبياء قبلك و لو كان فيه خيرا لكان اولى الناس به الأنبياء فمن اين ذلك صياح كصياح العنز فما أقبح من صوت و ما استبهج من امر فانزل اللّه تعالى و من احسن قولا ممن دعا الى اللّه و عمل صالحا و انزل اللّه هذه الاية ذلِكَ الاستهزاء بالحق بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ فان مقتضى العقل ترك الاستهزاء و التأمل فى حسن الشي ء و قبحه و فى هذه الاية دليل على ان الكافرين مع كونهم عاقلين فى امور الدنيا كما يشهده البداهة لا يعقلون شيئا من امور الدين و بهذا يظهر ان صرف الحواس و العقل و النظر فى المقدمات ليست علة موجبة لحصول العلم بالمطالب كما يزعمه الفلاسفة بل هو امر عادى يخلق اللّه العلم بعد النظر ان شاء و اللّه اعلم روى ابن جرير عن ابن عباس قال اتى النبي صلى اللّه عليه و سلم نفر من اليهود فيهم ابو ياسر بن اخطب و رافع بن ابى رافع و عارى بن عمرو فسألوه عمن يؤمن به من الرسل قال او من باللّه و ما انزل الى ابراهيم و اسمعيل و اسحق و يعقوب و الأسباط و ما اوتى موسى و عيسى و ما اوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم و نحن له مسلمون فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته و قالوا لا نؤمن بعيسى و لا بمن أمن به و فى رواية قالوا و اللّه ما نعلم اهل الكتاب اقل حظّا فى الدنيا و الاخرة منكم و لا دينا شرا من دينكم فانزل اللّه تعالى.

٥٩

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ قرأ الكسائي بإدغام لام هل و بل فى التاء كما فى هذه الاية و قوله تعالى هل تعلم و الثاء و السين و الزاء و الطا و الضاد و النون نحو هل ثوب و بل سولت و بل زين و بل طبع و بل ظننتم و بل ضلوا و هل ندلكم و هل ننبئكم و هل نحن و شبهه و ادغم حمزة فى التاء و الثاء و السين فقط و اختلف عن خلاد عند الطاء فى قوله بل طبع و ادغم ابو عمرو هل ترى من فطور فهل ترى لهم فى الملك و الحاقة لا غير و اظهر الباقون عند اليمانية و الاستفهام للانكار بمعنى النفي و النقمة العيب المنكر المكروه و الأسقام مكافاته و معنى ما تنقمون ما تنكرن و تكرهون و تعيبون مِنَّا اى من اعمالنا و صفاتنا شيئا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللّه وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ يعنى الا ايمانا باللّه و بكل ما انزل اللّه من الكتب و ذلك هو الحسن البين حسنه وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ الواو للحال من فاعل هل تنقمون يعنى لا تكرهون الا أيماننا و الحال ان أكثركم فاسقون اى كافرون فمالكم لا تعلمون انكم على أقبح الصفات من انكار الكتب السماوية و نحن على أحسنها و مع ذلك تكرهون الحسن و لا تكرهون القبيح او هى للعطف على ان أمنا و كان المستثنى لازم الامرين و هو المخالفة يعنى لا تنكرون منا الا مخالفتكم حيث دخلنا فى الايمان و أنتم خارجون عنه او كان تقديره و اعتقاد انّ أكثركم فاسقون فحذف المضاف او على علة أمنا بتقدير فعل منصوب يعنى الا ان أمنا و اعتقدنا ان أكثركم فاسقون او هو معطوف على علة محذوفة و التقدير هل تنقمون منا الا ان أمنا لعدم اتصافكم و لان أكثركم فاسقون فهو منصوب بنزع اللام الخافض او منصوب بإضمار فعل دل عليه هل تنقمون اى و لا تنقمون ان أكثركم فاسقون او هى بمعنى مع يعنى هل تنقمون الا ان أمنا مع ان أكثركم فاسقون قيل لا يتم هذا على ظاهر كلام النحاة حيث يشترطون فى المفعول معه المصاحبة فى معمولية الفعل و يتم على مذهب الأخفش حيث اكتفى فى المفعول معه المقارنة فى الوجود مطلقا

قلنا الاشتراط فى المفعول معه لا يوجب ان يشترط فى كل واو بمعنى مع فليكن الواو بمعنى مع للعطف و لا يكون مفعولا معه عند النحاة لانتفاء شرطه و يكون عند الأخفش و جاز ان يكون مجرورا معطوفا على ما يعنى ما تنقمون منا الا الايمان باللّه و بما انزل و بان أكثركم فاسقون و جاز ان يكون مرفوعا على الابتداء و الخبر محذوف تقديره و معلوم عندكم ان أكثركم فاسقون لكن حب الرياسة و المال يمنعكم عن الانصاف و جاز ان يكون تقدير الكلام و ما تنقمون منا شيئا لشئ الا لان أمنا و لان أكثركم فاسقون يعنى علة انكار شى ء تنكرونه منا ليس الا المخالفة فى الدين.

٦٠

قُلْ يا محمد لمعشر اليهود هَلْ أُنَبِّئُكُمْ أخبركم بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ المتقوم المكروه عندكم مَثُوبَةً جزاء و هى مختصة بالخير كالعقوبة بالشر وضعت هاهنا موضع العقوبة استهزاء بهم كقوله تعالى بشّرهم بعذاب اليم و المثوبة منصوب على التميز عن بشر

قال البغوي لما كان قول اليهود لم نر اهل دين اقل خطا فى الدنيا و الاخرة و لا دينا شرا من دينكم فذكر الجواب بلفظ الابتداء و ان لم يكن الابتداء شراكما فى قوله تعالى أ أنبئكم بشر من ذلكم النار عِنْدَ اللّه متعلق بشر مَنْ لَعَنَهُ اللّه بدل من شر على حذف المضاف هاهنا او فيما قبل تقديره بشر من ذلك دين من لعنه اللّه او بشر من اهل ذلك من لعنه اللّه او خبر مبتدأ محذوف على حذف مضاف ايضا تقديره هو دين من لعنة اللّه وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ فالقردة اصحاب السبت و الخنازير كفار مائدة عيسى عليه السلام و روى عن على بن ابى طلحة عن ابن عباس ان المسخين كلاهما فى اصحاب السبت فشبّانهم مسخوا قردة و مشايخهم مسخوا خنازير وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ قرأ حمزة عبد بضم الباء و الطاغوت بكسر التاء على الاضافة عطفا على القردة و عبد بضم الباء قيل مفرد كعبد بسكون الباء و هما لغتان كسبع و سبع و قيل هو اسم موضوع للمبالغة كحذر و فطن للبليغ فى الحذر و الفطانة و قيل هو جمع عبد ذكره فى القاموس من صيغ الجمع كندس و قيل أصله عبدة فحذف التاء للاضافة تحرزا عن اجتماع الزيادتين من التاء و الاضافة مثل أخلفوك عد الأمر الذي وعدوا اى عدة الأمر

و قرا الباقون بفتح الباء على الماضي و نصب الطاغوت عطفا على صلة من و المراد بالطاغوت اما العجل استعير له من الشيطان بجامع المعبودية الباطلة او المراد الشيطان فان عبادتهم العجل كان بتزيين الشيطان و قيل المراد به الكهنة و كل من أطاعوه فى معصية اللّه أُولئِكَ ملعونون شَرٌّ مَكاناً من كل شرير جعل مكانهم شرا ليكون ابلغ فى الدلالة على شرارتهم وَ أَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ من كل ضال عن السبيل السوي و نزلت فى المنافقين قوله تعالى.

٦١

وَ إِذا جاؤُكُمْ يعنى المنافقين قالُوا آمَنَّا بك و هم يسرّون الكفر وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ الجملتان حالان من فاعل قالوا و بالكفر و به حالان من فاعلى دخلوا و خرجوا يعنى قالوا أمنا بك و الحال انهم كاذبون فى هذا القول و قد دخلوا عندك متلبسين بالكفر و خرجوا لذلك لم يوثر فيهم ما سمعوا منك وَ اللّه أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ فيه وعيد لهم بالفضيحة فى الدنيا و العذاب فى الاخرة.

٦٢

وَ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يعنى من اليهود او من المنافقين يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ قيل الإثم المعاصي و العدوان الظلم و قيل الإثم ما كتموا من التوراة و العدوان ما زادوا فيها وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ الحرام خصه بالذكر للمبالغة فى الذم فان أكلهم الرشى منعهم عن الايمان بالنبي صلى اللّه عليه و سلم و بعثهم على تحريف التوراة و الكذب على اللّه و صد غيرهم عن الايمان لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ اى لبئس شيئا بما يعملونه وصفهم بسوء الأعمال بعد وصفهم بسوء الاعتقاد ليستدل بها على نفاقهم.

٦٣

لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ يعنى العلماء قيل الربانيون علماء النصارى و الأحبار علماء اليهود تخصيص لعلمائهم عن النهى عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ يعنى الكذب وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ الحرام و فيه كمال توبيخ عليهم حيث كان منصبهم النهى عن المنكر و هم يأمرون به و يفعلونه لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ هذا ابلغ مما سبق فان الصنع عمل الإنسان بعد تدرب فيه و تعود و تحرى اجادة و لذلك ذم به خواصهم ذكر فى المدارك انه روى عن ابن عباس هى أشد اية فى القران حيث انزل تارك النهى عن المنكر منزلة مرتكب المنكر فى الوعيد بل ابلغ منه

قال البيضاوي ترك الحسنة أقبح من الوقوع فى المعصية لان النفس يلتذ بها و تميل إليها و لا كذلك فى ترك الإنكار عليها فكان جديرا بأبلغ الذم.

٦٤

وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّه مَغْلُولَةٌ قال ابن عباس و عكرمة و الضحاك و قتادة ان اللّه تعالى قد بسط على اليهود حتى كانوا من اكثر الناس مالا و اخصبهم ناحية فلما عصوا اللّه فى محمد صلى اللّه عليه و سلم و كذبوه كف اللّه عنهم ما بسط عليهم من السعة فعند ذلك نسبوه الى البخل و قال فنحاص بن عازورا راس يهود قينقاع يد اللّه مغلولة اى محبوسة مقبوضة عن الرزق كذا اخرج ابو الشيخ ابن حبان فى تفسيره عن ابن عباس

و اخرج الطبراني عن ابن عباس قال قال رجل من اليهود يقال له النباش بن قيس ان ربك بخيل لا ينفق فانزل اللّه تعالى هذه الاية قيل انما قال هذه المقالة فنحاص او النباش و لكن لما لم ينهه الآخرون و رضوا بقوله اشركهم اللّه فى نسبة القول إليهم و غل اليد و بسطها مجاز عن البخل و الجود و منه قوله تعالى و لا تجعل يدك مغلولة الى عنقك و لا تبسطها كل البسط غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دعاء عليهم بالبخل او بالفقر و المسكنة او بغل الأيدي حقيقة بالأسر فى الدنيا او بالاغلال فى أعناقهم و السلاسل فى نار جهنم وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يد اللّه صفة من صفاته تعالى كالسمع و البصر و الوجه لا يدرى كنهها الا اللّه تعالى و لا تذهب نفسك الى الجارحة و تكيّفها و يجب على العباد الايمان بها و التسليم قال ائمة السلف من اهل السنة فى هذه الصفات امرّوا كما جاءت بلا كيف عن عمرو بن عنبسة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول عن يمين الرحمن و كلتا يديه يمين رجال ليسوا بانبياء و لا شهداء يغشى بياض وجوههم نظر الناظرين يغبطهم النبيون و الشهداء بمقعدهم و قربهم من اللّه قيل يا رسول اللّه و من هم قال جمّاع «١» من نزاع القبائل يجتمعون على ذكر اللّه فيبتغون

(١) اى جماعات نزاع القابل جمع نازع و نزيع و هو القريب الذي نزع من اهله و عشيرته اى بعد و غاب نهاية.

اطائب الكلام كما ينبغى أكل «١» أطائبه رواه الطبراني بسند جيد و المتأخرون يؤلونه بما يليق به تعالى من القدرة و نحوها قالوا بسط اليدين كناية عن الجود وثنى اليد مبالغة فى الرد و نفى البخل عنه و اثباتا لغاية الجود فان غاية ما يبذله السخي من ماله ان يعطيه بيديه و تنبيها على منح الدنيا و الاخرة و على ما يعطى للاستدراج و ما يعطى للاكرام يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ يوسع تارة و يضيق اخرى على مقتضى حكمته و الجملة تأكيد للجود و دفع لتوهم البخل عند التضيق وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً كما ان الغذاء الصالح يزيد للصحيح قوة و للمريض مرضا و ضعفا كذلك القران لفساد بواطنهم يزيد هو طغيانا و كفرا قيل معناه انه كلما نزلت اية كفروا بها فازدادوا طغيانا و كفرا و قيل انهم عند نزول القران يحسدون و يتمادون فى الجحود فاسند الفعل الى السبب البعيد مجازا وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعنى بين اليهود «٢» و النصارى قال الحسن و مجاهد و قيل بين طوائف اليهود جعلهم اللّه مختلفين فى دينهم فلا يتوافق قلوبهم و لا يتطابق

(١) المراد به الصوفية العلية اهل الخانقاهات و طلبة العلم اهل المدارس ١٢ منه.

(٢) قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تفرقت امة موسى على احدى و سبعين ملة سبعون منها فى النار و واحدة فى الجنة و تفرقت امة عيسى ع على اثنتين و سبعين ملة واحدة منها فى الجنة و احدى و سبعون فى النار و ستفرق أمتي على ثلث و سبعين ملة واحدة فى الجنة و ثنتان و سبعون فى النار قالوا من هم يا رسول اللّه قال الجماعات الجماعات رواه ابن مردويه من طريق يعقوب بن زيد بن طلحه عن زيد بن اسلم عن انس و قال يعقوب بن زيد كان على ابن ابى طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تلا فيه قرانا قال و لو ان اهل الكتاب أمنوا و اتقوا الى قوله ساء ما كانوا يعملون قال العبد الضعيف ثناء اللّه يعنى على رض ان الفرقة الناجية المتمسكون بكتاب اللّه ذكر النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال ذلك عند ذهاب العلم قال زياد بن لبيد كيف يذهب العلم و نحن نقرأ القران و نقرأه أبنائنا و يقرأه أبناء أبنائنا أبنائهم الى يوم القيامة قال ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد ان كنت لاراك من افقه رجل بالمدينة او ليس هذه اليهود و النصارى يقرؤن التورية و الإنجيل و لا ينتفعون مما فيهما بشى ء رواه عن لبيد و روى ابن جرير عن جبير بن نفير و فيه ثم قرا و لو انهم أقاموا التورية و الإنجيل الاية ١٢ منه.

أقوالهم كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ ظرف مستقر صفة لنار او لغو متعلق باوقدوا أَطْفَأَهَا اللّه قال الحسن معناه كلما أرادوا حرب الرسول صلى اللّه عليه و سلم و اثارة شر عليه أوقع بينهم منازعة كف بها عنه شرهم فردهم و قهرهم و نصر نبيه و دينه و قال قتادة هذا عام فى كل حرب طلبته اليهود و ذلك انهم أفسدوا و خالفوا حكم التورية فبعث اللّه عليهم ضطنوس الرومي ثم أفسدوا فسلطا للّه عليهم المجوس ثم أفسدوا فبعث اللّه المسلمين فلا تلقى اليهود فى بلد الا وجدتهم اذلّ الناس وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً اى للفساد او مفسدين و هو اجتهادهم فى اثارة الحروب و الفتن و جاز ان يكون يسعون بمعنى يطلبون و فسادا منصوبا على المفعولية يعنى يطلبون الفساد و الكفر و يجتهدون فى محو دين الإسلام و ذكر النبي صلى اللّه عليه و سلم من كتبهم وَ اللّه لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ فلا يجازيهم الأشرار.

٦٥

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا محمد صلى اللّه عليه و سلم و بالقران وَ اتَّقَوْا الكفر و المعاصي لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ التي فعلوها قبل ذلك و ان جلت عن عمرو بن العاص قال أتيت النبي صلى اللّه عليه و سلم فقلت ابسط يمينك فلا بايعك فبسط يمينه فقبضت يدى فقال مالك يا عمرو قلت أردت ان اشترط قال تشترط ماذا قلت ان يغفر لى قال اما علمت يا عمرو ان الإسلام يهدم ما كان قبله و ان الهجرة تهدم ما كان قبلها و ان الحج يهدم ما كان قبله رواه مسلم وَ لَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ فان دخول الجنة مشروط بالايمان قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و الذي نفس محمد بيده لا يسمع بي يهودى و لا نصرانى ثم يموت و لم يؤمن بالذي أرسلت به الا كان من اصحاب النار رواه مسلم من حديث ابى هريرة.

٦٦

وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ يعنى أقاموا حدودها و أحكامها و عملوا بما فيها و لم يحرفوها و لم يكتموها و من جملة إقامتها ان يؤمنوا بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و بينوا ما وصفه اللّه تعالى فى التورية وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ يعنى القران و الزبور و سائر الكتب السماوية فانهم مكلفون بالايمان بجميع الكتب فهى كالمنزل إليهم لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ قال الفراء أراد به كمال التوسعة فى الرزق كما يقال فلان فى الخير من القرن الى القدم و قال ابن عباس لا نزلت عليهم المطر من فوقهم و أخرجت بنات الأرض من تحتهم نظيره قوله تعالى و لو ان اهل القرى أمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض و الحاصل ان ما كف اللّه عنهم من الرزق بشوم كفرهم و معاصيهم لا لبخل به تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ عادلة غير غالية و لا مقتصرة و هم عبد اللّه بن سلام و أشباهه مؤمنوا اهل الكتاب وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ ٤ اى ساء ما يعملونه او ساء شيئا عملهم و هى المعاندة و تحريف كتاب اللّه عز و جل و الاعراض عنه و الافراط فى عداوة النبي صلى اللّه عليه و سلم و اللّه اعلم اخرج ابو الشيخ عن الحسن ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ان اللّه بعثني برسالته فضقت بها ذرعا و عرفت ان الناس مكذبى فوعدنى لا بلغن او ليعذبنى فنزلت.

٦٧

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعنى كل شى ء انزل إليك لا يفوت منه شى ء غير منتظر مضرتك و لا خائف من أحد مكروها روى عن مسروق قال قالت عائشة من حدثك ان محمدا كتم شيئا مما انزل اللّه فقد كذب و هو يقول يا ايها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك و قيل بلغ ما انزل من الرجم و القصاص نزلت فى قصة يهود و قيل نزلت فى امر زينب بنت جحش و نكاحها «١» و قيل نزلت فى

(١)

و اخرج ابن ابى حاتم و ابن مردوية و ابن عساكر عن ابى سعيد الخدري قال نزلت هذه الاية يا ايها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك يوم غدير خم فى على بن ابى طالب

و اخرج ابن مردوية عن ابن مسعود قال كنا نقرأ على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يا ايها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك ان عليا مولى المؤمنين و ان لم تفعل فما بلغت رسالته و اللّه يعصمك من الناس ليكن هذه الرواية التي تدل على نزول الاية يوم غدير خم يأباه النقل و العقل و سوق هذه الاية بل سياق تمام السورة- اما النقل فاصح الروايات ما رواه البخاري عن عائشة رضى اللّه عنها تقول كان النبي صلى اللّه عليه و سلم سهرا فلما قدم المدينة الحديث و يطابقه ما اخرج الترمذي و الحاكم عن عائشة و ما اخرج الطبراني عن ابى سعيد الخدري فان هذه الروايات تدل على نزول الاية فى غزوة الخندق- و اما اباء العقل فان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حين نزل غدير خم لم يكن شيئا من التبليغ باقيا فى ذمته بل قد تم قبل ذلك و نزل يوم عرفة فى حجة الوداع اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتى و رضيت لكم الإسلام دينا فكيف يقال له بلغ ما انزل إليك من ربك و ان لم تفعل فما بلغت رسالته و لم يكن حينئذ فى جزيرة العرب مشرك فكيف يقال له و اللّه يعصمك من الناس ان اللّه لا يهدى القوم الكافرين- و ايضا قبل هذه الاية و بعد هذه الاية مخاطبات فى شان اليهود و النصارى من قوله تعالى يا ايها الذين أمنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ هم قوم ان يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم الاية فالظاهر ان المراد بالتبليغ اية الرجم و القصاص التي نزلت فى قصة اليهود كما رواه ابو الشيخ عن الحسن و بعد هذه الاية قال اللّه تعالى يا اهل الكتاب لستم على شى ء حتى تقيموا التورية و الإنجيل الاية ١٢.

الجهاد و ذلك ان المنافقين كرهوه كما قال اللّه تعالى فاذا أنزلت سورة محكمة و ذكر فيها القتال رايت الذين فى قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت و كرهه بعض المؤمنين قال اللّه تعالى الم تر الى الذين قيل لهم كفوا ايديكم الاية و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يمسك من الحث على الجهاد لما علم من كراهية بعضهم فانزل اللّه هذه الاية

و اخرج ابن ابى حاتم عن مجاهد قال لما نزلت يا ايها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك قال يا رب كيف اصنع و انا وحدي يجتمعون على فنزلت وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ الاية قرا نافع و ابن عامر و ابو بكر و يعقوب رسالاته على الجمع و الباقون رسالته على التوحيد يعنى ان لم تفعل تبليغ كل شى ء و تركت بعضه فكانما ما بلغت شيئا من رسالاته لان كتمان بعضها يضيع ما ادى منها كترك بعض اركان الصلاة و ذلك لان ترك تبليغ البعض يستلزم كفر الناس بذلك البعض و انكارهم كونه من اللّه تعالى و الايمان ببعض الكتاب مع الكفر بالبعض لا يعد ايمانا كقول اليهود نؤمن ببعض الكتاب و نكفر ببعض او لان كتمان البعض يستجلب العقاب مثل كتمان الكل نظيره قوله تعالى فكانما قتل الناس جميعا وَ اللّه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فلا تخفهم فى التبليغ و ان كنت وحدك لا يستطيعون قتلك فلا يرد ان يقال انه صلى اللّه عليه و سلم قد شج راسه و كسرت رباعيته و أوذي بضروب من الأذى و قيل نزلت هذه الاية بعد ماشج راسه لان سورة المائدة من اخر القران نزولا

و اخرج الترمذي و الحاكم عن عائشة قالت كان النبي صلى اللّه عليه و سلم يحرس حتى نزلت هذه الاية و اللّه يعصمك من الناس فاخرج راسه من القبة فقال يا ايها الناس انصرفوا فقد اعصمنا اللّه فى هذا الحديث انها ليلية فراشية و روى البخاري عن عائشة تقول كان النبي صلى اللّه عليه و سلم سهرا فلما قدم المدينة قال ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسنى الليلة إذ سمعنا صوت سلاح فقال من هذا قال انا سعد بن ابى وقاص جئت لاحرسك و نام النبي صلى اللّه عليه و سلم

و اخرج الطبراني عن ابى سعيد الخدري قال كان العباس عم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فيمن يحرسه فلما نزلت و اللّه يعصمك من الناس ترك الحرس

و اخرج ايضا عن عصمة بن مالك الحطمى قال كنا نحرس رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بالليل حتى نزلت و اللّه يعصمك من الناس فترك الحرس

و اخرج ابن حبان فى صحيحه عن ابى هريرة قال كنا إذا صحبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى سفر تركنا أعظم شجر و أظلها فينزل تحتها فنزل ذات يوم تحت شجرة و علق سيفه فيها فجاء رجل فأخذه فقال يا محمد من يمنعك منى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اللّه يمنعنى منك ضع السيف فوضعه فنزلت و اللّه يعصمك من الناس

قال البغوي و روى محمد بن كعب القرظي عن ابى هريرة نحوه و فيه فرعدت يد الاعرابى و سقط السيف من يده و جعل يضرب برأسه الشجرة حتى انتشر دماغه فانزل اللّه عز و جل هذه الاية

و اخرج ابن ابى حاتم و ابن مردويه عن جابر بن عبد اللّه قال لما غزا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بنى انمار نزل ذات الرقيع بأعلى نخل فبينما هو جالس على راس بير قد دلى رجليه فقال الوارث من بنى النجار لاقتلن محمدا فقال له أصحابه كيف تقتله قال أقول له أعطني سيفك فاذا أعطانيه قتلته فاتاه فقال يا محمد أعطني سيفك أشمه فاعطاه إياه فرعدت يده فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حال بينى و بينك ما تريد فانزل اللّه يا ايها الرسول بلغ الاية و روى البخاري نحو هذه القصة و ليس فيها ذكر نزول الاية و من غريب ما ورد فى سبب نزولها ما أخرجه ابن مردويه و الطبراني عن ابن عباس قال كان النبي صلى اللّه عليه و سلم يحرس و كان يرسل معه ابو طالب كل يوم رجلا من بنى هاشم يحرسونه حتى نزلت هذه الاية فاراد عمه ان يرسل معه من يحرسه فقال يا عم ان اللّه عصمنى من الجن و الانس

و اخرج ابن مردوية عن جابر بن عبد اللّه نحوه و هذا يقتضى ان الاية مكية و الظاهر خلافه إِنَّ اللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ اى لا يمكنهم ما يريدون من قتلك و محو دين الإسلام

قال البغوي دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اليهود الى الإسلام فقالوا اسلمنا قبلك و جعلوا يستهزءون به فيقولون تريد ان نتخذك حنانا كما اتخذ النصارى عيسى حنانا فلما رأى النبي صلى اللّه عليه و سلم ذلك سكت فنزلت يا ايها الرسول بلغ الاية و امره ان يقول يا اهل الكتاب لستم على شى ء الاية و روى ابن جرير و ابن ابى حاتم عن ابن عباس قال جاء رافع و سلام بن مشكم و مالك بن الضيف فقالوا يا محمد الست تزعم انك على ملة ابراهيم و دينه و تؤمن بما عنده قال بلى و لكنكم أحدثتم و جحدتم بما فيها و كتمتم ما أمرتم ان تبينوه للناس قالوا فانا ناخذ بما فى أيدينا فانا على الهدى و الحق فانزل اللّه تعالى.

٦٨

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْ ءٍ اى على دين معتد به عند اللّه او يقال إذا لم يكن دينهم معتدا به عند اللّه تعالى و الدين كالصلوة له وجود اعتباري باعتبار الشرع لا وجود له سواه كان باطلا فصدق لستم على شى ء من الدين حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ و من إقامتها الايمان بما فيها من اصول الدين و منها الايمان بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و القران و العمل بمقتضاها من بيان نعت محمد صلى اللّه عليه و سلم و فى فروع الايمان الأعمال المأمورة فى التورية ما لم يثبت نسخها و بعد النسخ العمل بالناسخ مما انزل اللّه و هذه الاية تدل على وجوب العمل بالشرائع المتقدمة وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعنى القران طُغْياناً وَ كُفْراً و قد مر شرحه فَلا تَأْسَ فلا تحزن عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ لزيادة طغيانهم ترحّما عليهم و لا خوفا من شرهم.

٦٩

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئُونَ قد مر تفسير هذه الاية فى سورة البقرة بقي الكلام فى رفع الصابئين و كان حقه و الصابئين فذهب الكوفيون الى انه يجوز للعطف على اسم ان بالرفع نظرا الى محله من غير اشتراط مضى الخبر فان ان عندهم لا تعمل الا فى الاسم و عند الكسائي و المبرد يجوز ذلك ان كان اسم ان مبنيا لعدم ظهور عملها فيه فكانها لم تعمل فلا إشكال على مذهب هؤلاء و عند البصريين لا يجوز ذلك من غير مضى الخبر كيلا يجتمع العاملان فى الخبران و معنى الابتداء فاحتاجوا الى تكلف فقال سيبويه هو مرفوع على الابتداء و خبره محذوف و النية فيه التأخير تقديره ان الذين أمنوا و الذين هادوا وَ النَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللّه وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و الصابئون كذلك و هذه الجملة انما قدمت من مقامها لتدل على ان الصابئين مع ظهور ضلالتهم و ميلهم عن الأديان كلها يغفر لهم و يثاب عليهم ان صح ايمانهم و عملوا صالحا فغيرهم اولى بذلك و جاز ان يكون و النصارى ايضا مرفوعا عطفا على الصابئون و ما بعدهما خبرهما و خبران مقدرة دل عليه ما بعده كقول الشاعر نحن بما عندنا و أنت بما عندك راض و الرأي مختلف و جاز ان يكون الصابئون معطوفا على الموصول مع الصلة بحذف الموصول و صدر الصلة تقديره و الذين هم الصابئون و قيل ان بمعنى نعم و ما بعدها فى موضع الرفع على الابتداء و قيل و الصابئون منصوب بالفتحة و ذلك كما جوز بالياء جوز بالواو.

٧٠

لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ فى التورية بالتوحيد و العمل بما فيها و الايمان بالأنبياء كلهم و بمحمد صلى اللّه عليه و سلم وَ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ليذكروهم و ليبينوا لهم امر دينهم كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فى هذا الكلام دلالة على انهم خالفوا التورية و نقضوا المواثيق فكلما جاءهم رسول بما فى التورية مخالفا لهواهم فَرِيقاً منهم كَذَّبُوا و لم يقتلوه وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ بعد تكذيبهم هذا جواب الشرط و الجملة الشرطية صفة رسلا و العائد محذوف اى كلما جاءهم رسول منهم و قيل الجواب محذوف و الشرطية مستانفة و انما جئ بيقتلون موضع قتلوا على حكاية الحال الماضية استحضارا لها و استعظاما للقتل و تنبيها على ان هذا ديدنهم ماضيا و مستقبلا و محافظة على رؤس الآي او المراد انهم يريدون قتل محمد صلى اللّه عليه و سلم يحاربونه و يجعلون فى طعامه سما و يسحرونه.

٧١

وَ حَسِبُوا يعنى بنى إسرائيل أَلَّا تَكُونَ قرأ ابو عمرو و حمزة و الكسائي بالرفع على ان هى المخففة من الثقيلة و الحسبان نزل منزلة العلم لتمكنه فى قلوبهم تقديره انه لا تكون و ان بما فى حيزها ساد مسد مفعوليه و الباقون بالنصب على انه مصدرية و كان تامة فاعله فِتْنَةٌ اى لا تصيبهم عذاب و بلاء بقتل الأنبياء و تكذيبهم فَعَمُوا عن الدين و الدلائل وَ صَمُّوا عن استماع الحق لاجل حسبانهم الباطل بعد موسى عليه السلام ثُمَّ تابَ اللّه عَلَيْهِمْ حين تابوا و أمنوا بعيسى عليه السلام ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا كرة اخرى بعد عيسى عليه السلام و كفروا بمحمد صلى اللّه عليه و سلم كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدل من الضمير او فاعل و الواو علامة الجمع كقولهم أكلوني البراغيث او خبر مبتدأ محذوف اى أولئك كثير منهم وَ اللّه بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازيهم على حسب أعمالهم.

٧٢

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّه هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ يعنى الملكائية و اليعقوبية منهم زعموا بالحلول و الاتحاد وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللّه رَبِّي وَ رَبَّكُمْ يعنى مربوب مثلكم و لا يمكن اتحاد الرب مع المربوب و حلوله فيه إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّه اى بمرتبة التنزيه الصرف غيره فى استحقاق العبادة او فى وجوب الوجود او فيما يختص به من الصفات و الافعال فَقَدْ حَرَّمَ اللّه عَلَيْهِ الْجَنَّةَ التي أعدت للموحدين المتقين يعنى جعل دخولها عليه ممتنعا بالغير وَ مَأْواهُ النَّارُ التي أعدت للمشركين وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ وضع الظاهر موضع الضمير تنبيها على انهم ظلموا أنفسهم و من زائدة يعنى ما لهم ناصر و ذكر الأنصار موضع ناصر مبنى على زعمهم ان لهم أنصارا كثيرة تهكما بهم و قيل فيه اشارة الى انه لا بد لهم جمع كثير ينصرهم و ليس لهم ذلك و قوله انه من يشرك باللّه الى آخره يحتمل ان يكون من كلام اللّه تعالى و ان يكون من تمام كلام عيسى عليه السلام اخبر اللّه تعالى بذلك حكاية عنه تنبيها على انهم قالوا ما قالوا تعظيما لعيسى عليه السلام و تقربا اليه فى زعمهم و هو يخاصمهم فيه و يعاديهم بذلك فما ظنك لغيره.

٧٣

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّه ثالِثُ ثَلاثَةٍ اى ثالث الهة ثلاثة يعنى المرقوسية و النسطورية القائلون بالأقانيم الثلاثة قيل المراد بالثلاثة اللّه يعنى مرتبة الذات و عيسى و هو عبارة عن صفة العلم على زعمهم و جبرئيل و هو عبارة عن صفة الحيوة على زعمهم و قيل الثلاثة هو اللّه و عيسى و مريم كما يدل عليه قوله تعالى للمسيح أ أنت قلت للناس اتخذوني و أمي الهين من دون اللّه وَ ما مِنْ إِلهٍ من مزيدة للاستغراق و اله فى محل الرفع على انه اسم ما و خبره محذوف اى ما اله فى الوجود اى ما فى الوجود و الإمكان العام اله واجب وجوده مستحق للعبادة من حيث وجوب وجوده و كونه مبدأ لوجود كل موجود يغائره إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ موصوف بالوحدانية متعال عن قبول الشركة لا فى ذاته و ماهيته و لا فى شى ء من صفاته وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ من كلمات الشرك و لم يوحدوا لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ من للبيان او للتبعيض بناء على ان الذين داموا على الكفر بعض منهم و وضع المظهر موضع المضمر تكريرا للشهادة على كفرهم و تنبيها على ان من دام على الكفر حتى مات فله عَذابٌ أَلِيمٌ و لذلك عقبه بقوله.

٧٤

أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللّه من الشرك وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ عمّا صدر منهم موحدين منزهين عن الاتحاد و الحلول بعد هذا التقرير و التهديد وَ اللّه غَفُورٌرَحِيمٌ يغفر لهم و يرحمهم ان تابوا و فى هذا الاستفهام تعجيب من إصرارهم.

٧٥

مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ يعنى هو منحصر فى صفة الرسالة ليست له صفة الالوهية كما زعمته النصارى خذلهم اللّه فالحصر إضافي بالنسبة الى ما يصفه به النصارى قَدْ خَلَتْ اى مضت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ و هو يمضى ايضا الجملة صفة لرسول يعنى ما هو الا رسول من جنس الذين خلوا من قبله ممكن حادث جائز العدم خصه اللّه ببعض المعجزات كابراء الأبرص و الأكمه و احياء الموتى كما خص غيره بغير ذلك فان اللّه احيى على يد موسى عصاه و جعلها حية تسعى و ذلك اعجب من احياء الموتى و ان خلقه من غير اب فقد خلق آدم من غير اب و أم وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ يعنى كانت امرأة كسائر النساء فضلت على أكثرهن بكثرة الصدق و تصديق آيات اللّه و أنبيائه كما ينبغى كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ و يفتقران اليه كسائر الحيوانات بيّن اولا أقصى ما لهما من الكمال و بين انه لا يوجب الالوهية و ان كثيرا من الناس يشاركهما فى مثله ثم بين نقصهما و ما فيهما من امارة الحدوث و منافى الربوبية و كونهما من جملة المركبات الكائنة الفاسدة ثم تعجب ممن يدعى الربوبية لهما مع هذه الادلة الظاهرة فقال انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ الدالة على بطلان قولهم ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن استماع الحق و تأمله و ثم لتفاوت ما بين العجبين يعنى بياننا عجيب و اعراضهم عنها اعجب منه فانهم مع بداهة كونه من الحوادث اليومية الممكنة المفتقرة الى علة الإيجاد و الإبقاء لا يحكمون عليه بالإمكان و الحدوث و مع بون بعيد بين الرب و المربوب لما نظروا الى بعض صفاته الكاملة المستعارة من اللّه سبحانه حكموا عليه بالالوهيّة.

٧٦

قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً يعنى عيسى عليه السلام فان أفعاله مخلوقة للّه تعالى كسائر العباد فلا يملك فى الحقيقة شيئا و ان ملك بعض الأشياء بتمليك اللّه تعالى و صدر على يده بخلق اللّه تعالى و هو لا يملك مثل ما يضر اللّه به من البلايا و المصائب فى الدنيا و التعذيب بالنار فى الاخرة و لا مثل ما ينفع اللّه به من الصحة و السعة فى الدنيا و الجنة فى الاخرة و عبّر بكلمة ما و هو بغير ذوى العقول توطية لنفى القدرة عنه راسا و تنبيها على انه من هذا الجنس و من كان له مجانسة بالممكنات فهو بمعزل عن الالوهية و قدم الضرر لان دفع الضرر أهم من جلب النفع وَ اللّه هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بالأقوال و العقائد فيجازى على حسبها و ضمير الفصل للحصر يدل على ان عيسى ليس له فى حد ذاته سمعا و لا بصرا و لا علما و لا غير ذلك من صفات الكمال بل هى مستعارة من اللّه تعالى.

٧٧

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ الغلو التجاوز عن الحد بالإفراط او التفريط فان من جملة الدين الصحيح عند اللّه الايمان بان عيسى عبد اللّه و رسوله فاليهود فرطوا فى دينهم و أنكروا رسالته و بهتوا امه و النصارى افرطوا فيه و ادعوا له الالوهية و قيل الخطاب للنصارى فقط غَيْرَ الْحَقِّ منصوب على المصدرية اى غلوا باطلا غير الحق و فيه تأكيد و الا فالغلو لا يكون الا باطلا و جاز ان يكون حالا من دينكم يعنى لا تغلوا فى دينكم حال كونه غير الحق و الغلو فى الدين الباطل الإصرار عليه وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ يعنى أسلافهم الذين ضلوا قبل بعثة محمد صلى اللّه عليه و سلم فى شريعتهم وَ أَضَلُّوا كَثِيراً ممن تابعهم على البدع و الضلال وَ ضَلُّوا بعد بعثة النبي صلى اللّه عليه و سلم لما كذبوه و بغوا عليه عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ ٤ يعنى عن دين الإسلام الذي هو ظاهر الحقية و قيل الضلال الاول كفرهم و الضلال الثاني اضلالهم غيرهم و قيل الاول اشارة الى ضلالهم عن مقتضى العقل و الثاني اشارة الى ضلالهم عما نطق به الشرع.

٧٨

لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ يعنى اليهود عَلى لِسانِ داوُدَ يعنى فى الزبور او المراد بهم اهل ايلة لما اعتدوا فى السبت قال داؤد عليه السلام اللّهم العنهم و اجعلهم اية فمسخوا قردة وَ على لسان عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فى الإنجيل او المراد بهم كفار اصحاب مائدة لما لم يؤمنوا قال عيسى عليه السلام اللّهم العنهم و اجعلهم اية فمسخوا خنازير و كانوا خمسة آلاف رجل ذلِكَ اللعن بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ اى بسبب عصيانهم و اعتدائهم ثم فسر العصيان و الاعتداء بقوله.

٧٩

كانُوا لا يَتَناهَوْنَ اى لا ينهى بعضهم بعضا عَنْ مُنكَرٍ يعنى عن معاودة منكرا و عن مثل منكر فَعَلُوهُ او المعنى عن منكر أرادوا فعله فان جريمة ترك النهى عن المنكر يقتضى عذاب كلهم أجمعين عن ابى بكر الصديق رضى اللّه عنه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ان الناس إذا راوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك ان يعمهم اللّه بعقاب رواه الاربعة قال الترمذي حسن صحيح و صححه ابن حبان و لفظ النسائي القوم إذا راوا المنكر فلم يغيروه و فى لفظ لابى داؤد ما من قوم يعمل فيهم المعاصي و هم يقدرون على ان يغيروا فلم يغيروا او شك ان يعمهم اللّه العذاب و جاز ان يكون المعنى لا ينتهون عن منكر بل يصرون عليه من قولهم تناهى عن الأمر و انتهى عنه إذا امتنع منه لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ تعجب من سوء فعلهم مؤكد بالقسم ذمهم عن عبد الرحمن بن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان فيمن قبلكم من بنى إسرائيل إذا عمل العامل منهم الخطية نهاه الناهي تعذيرا فاذا كانوا من الغد جالسه و أكله و شاربه كانه لم يره على الخطيئة بالأمس فلما راى اللّه تبارك و تعالى ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض و جعل منهم القردة و الخنازير و لعنهم على لسان داؤد و عيسى بن مريم ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون و الذي نفسى بيده لتامرن بالمعروف و لتنهون عن المنكر و لتاخذن على يد السفيه و لتاطرن على الحق اطرا او ليضربن اللّه قلوب بعضكم على بعض و يلعنكم كما لعنهم رواه البغوي و رواه الترمذي و ابو داؤد من حديث عبد اللّه بن مسعود مرفوعا.

٨٠

تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يعنى من اليهود كعب بن الأشرف و أصحابه يَتَوَلَّوْنَ اى يوالون الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى مشركى مكة حين خرجوا إليهم يستجيشون على النبي صلى اللّه عليه و سلم و قال ابن عباس و مجاهد و الحسن فى منهم ضمير للمنافقين فانهم كانوا يتولون اليهود لَبِئْسَ اى شيئا ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللّه عَلَيْهِمْ وَ فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ ان مع صلته مخصوص بالذم و المراد بالسخط موجب سخط اللّه و عذابه المخلد او المخصوص محذوف و هذا علة الذم اى لبئس شيئا قدمت لهم أنفسهم ذلك لان ذلك يوجب السخط و الخلود فى العذاب.

٨١

وَ لَوْ كانُوا هؤلاء اليهود او المنافقون يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَ النَّبِيِّ يعنى نبيهم و ان كانت الاية فى المنافقين فالمراد به نبينا صلى اللّه عليه و سلم وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ من التورية او القران مَا اتَّخَذُوهُمْ يعنى ما اتخذ اليهود كفار مكة على بغض النبي صلى اللّه عليه و سلم او المنافقون اليهود أَوْلِياءَ إذ الايمان بالأنبياء و الكتب السماوية يمنع ذلك وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن امتثال امر اللّه سبحانه.

٨٢

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ اخرج ابو الشيخ و ابن مردويه عن ابى قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما خلا يهودى بمسلم الأحدث نفسه بقتله وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يعنى مشركى العرب لانهما كهم فى اتباع الهوى و ركونهم الى التقليد و بعدهم عن التحقيق و تمرنهم على تكذيب الأنبياء و معاداتهم وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى

قال البغوي لا يريد جميع النصارى لانهم فى عداوة المسلمين كاليهود فى قتل المسلمين و اسرهم و تخريب بلادهم و هدم مساجدهم و إحراق مصاحفهم فلا كرامة لهم بل الاية فيمن اسلم منهم مثل النجاشي و أصحابه

و اخرج النسائي و ابن ابى حاتم و الطبراني عن عبد اللّه بن زبير قال نزلت هذه الاية فى النجاشي و أصحابه إذا سمعوا الاية و روى ابن ابى حاتم و غيره عن مجاهد قال هم الوفد الذين جاؤا مع جعفر و أصحابه من ارض الحبشة و كذا اخرج عن عطاء انما يراد به النجاشي و أصحابه و قيل نزلت فى جميع اليهود و جميع النصارى لان اليهود أقسى قلبا و النصارى ألين قلبا منهم و كانوا اقل مظاهرة للمشركين من اليهود قلت عموم لفظ الاية يقتضى ان لا يراد بهم جماعة معينة منهم و ان كان سبب النزول قصة النجاشي كيف و الجماعة المعينة من اليهود يعنى الذي اسلموا منهم كعبد اللّه بن سلام و أصحابه و كعب الأحبار ايضا بهذه الصفة فلا وجه للتفرقة بين اليهود و النصارى بل الظاهر ان المراد بالنصارى هاهنا الذين هم كانوا على الدين الحق دين عيسى قبل مبعث النبي صلى اللّه عليه و سلم منهم النجاشي و أصحابه دون القائلين بان المسيح هو اللّه او ثالث ثلثة فان تلك الفرق من النصارى مثل اليهود فى كونهم على الباطل قاسية قلوبهم متبعين أهواءهم كاهل نجران و اما من كان منهم على الدين الحق و وصية عيسى عالمين بالإنجيل منتظرين ظهور رسول يأتي من بعد عيسى اسمه احمد صلى اللّه عليه و سلم مشتغلين بالعلم و العمل معرضين عن الدنيا كانت قلوبهم صافية لاجل ايمانهم بعيسى قبل مبعث سيد الرسل عليهم الصّلوة و السّلام يدل عليه قوله تعالى ذلِكَ القرب مودة للمؤمنين بِأَنَّ اى بسبب ان مِنْهُمْ اى من النصارى قِسِّيسِينَ

قال البغوي القس و القسيس العالم بلغة الروم و فى القاموس هو رئيس النصارى فى العلم و القس مثلثة تتبع الشي ء و طلبه فى الصحاح هو العالم العابد من رؤس النصارى و اصل القس تتبع الشي ء و طلبه بالليل كانهم سموا بذلك لان العلماء و العباد يطلبون العلم و وحدة الوجهة الى اللّه سبحانه فى ظلمات الليالى وَ رُهْباناً جمع راهب كالركبان جمع راكب و هم العباد اصحاب الصوامع فى القاموس رهب كعلم خاف و الترهب التعبد وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن قبول الحق إذا دعوا اليه و يتواضعون و لا يتكبرون كاليهود قال قتادة نزلت هذه الاية فى ناس من اهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى عليه السلام فلما بعث اللّه سبحانه محمدا صلى اللّه عليه و سلم صدقوه و أمنوا به فاثنى اللّه عز و جل عليهم بقوله ذلك بان منهم قسيسين الاية قلت و هؤلاء القوم من النصارى الذين كانوا على الدين الحق قبل البعثة و أمنوا بالنبي صلى اللّه عليه و سلم بعدها هم المراد باهل الكتاب فى قوله صلى اللّه عليه و سلم ثلثة لهم أجران رجل من اهل الكتاب أمن بنبيه و أمن بمحمد الحديث متفق عليه عن ابى موسى الأشعري و اللّه اعلم قال اهل التفسير ائتمرت قريش ان يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يوذونهم و يعذبونهم فافتتن من افتتن و عصم اللّه منهم من شاء و منع اللّه تعالى رسوله بعمه ابى طالب فلما راى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما بأصحابه و لم يقدر على منعهم و لم يؤمر بعد بالجهاد أمرهم بالخروج الى ارض الحبشة و قال ان بها ملكا صالحا لا يظلم و لا يظلم عنده أحد فاخرجوا اليه حتى يجعل اللّه للمسلمين فرجا و أراد به النجاشي و اسمه اصحمة و هو بالحبشة عطية و انما النجاشي اسم الملك مثل قيصر و كسرى فخرج إليها سرّا أحد عشر رجلا و اربع نسوة و هم عثمان ابن عفان و امرأته رقية بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و الزبير بن العوام و عبد اللّه بن مسعود و عبد الرحمن بن عوف و ابو حذيفة بن عتبة و امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو مصعب بن عمير و ابو سلمة بن عبد الأسد و امرأته أم سلمة بنت امية و عثمان بن مظعون و عامر بن ربيعة و امرأته ليلى بنت ابى حشمة و حاطب بن عمر و سهيل ابن بيضا رضى اللّه عنهم أجمعين فخرجوا الى البحر و أخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار فى رجب من السنة الخامسة من البعثة و هذه الهجرة الاولى ثم خرج جعفر بن ابى طالب و تتابع المسلمون إليها و كان جميع المهاجرين الى الحبشة من المسلمين اثنين و ثمانين رجلا سوى النساء و الصبيان فلما علمت قريش بذلك وجهوا عمرو بن العاص و صاحبه بالهدايا الى النجاشي و بطارقته ليردهم إليهم فعصمهم اللّه و ذكرت القصة فى تفسير سورة ال عمران فى تفسير قوله تعالى ان اولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي الاية ......... فلما انصرفا اقام المسلمين هناك بخير و احسن جوار الى ان هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و علا امره و كتب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الى النجاشي على يدى عمرو بن امية الضميري سنة ست من الهجرة ليزوجه أم حبيبة بنت ابى سفيان و قد هاجرت مع زوجها فمات زوجها و ليبعث من عنده من المسلمين فارسل النجاشي الى أم حبيبة جارية له يقال لها ابرهة تخبرها بخطبة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاعطتها اوضاحا لها سرورا بذلك فاذنت خالد بن سعيد بن العاص حتى انكحها على صداق اربعمائة دينار فانقد إليها النجاشي اربعمائة دينار على يد ابرهة فلما جاءتها بها أعطتها خمسين دينارا فردته و قالت أمرني الملك ان لا أخذ منك شيئا و قالت انا صاحبة دهن الملك و ثيابه و قد صدقت و محمدا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و امنت به و حاجتى منك ان تقرئيه منى السلام قالت نعم و قد امر الملك نسائه ان يبعثن إليك بما عندهن من عود و عنبر و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يراه عليها و عندها فلا ينكر و قالت أم حبيبة فخرجنا الى المدينة و رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بخيبر فخرج من خرج اليه و أقمت بالمدينة حتى قدم النبي صلى اللّه عليه و سلم فدخلت عليه فكأن يسألنى عن النجاشي فقرأت عليه من ابرهة السلام فرد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فانزل اللّه تعالى عسى اللّه ان يجعل بينكم و بين الذين عاديتم منهم يعنى أبا سفيان مودة يعنى بتزويج أم حبيبة و لما جاء أبا سفيان تزويج أم حبيبة قال ذلك الفحل لا يقرع انفه و بعث النجاشي بعد قدوم جعفر الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ابنه ارها بن اصحمة ابن الجر فى ستين رجلا من الحبشة و كتب اليه يا رسول اللّه اشهد انك رسول اللّه صادقا مصدقا و قد بايعتك و بايعت ابن عمك و أسلمت للّه رب العلمين و قد بعثت إليك بابني ارها و أنت ان شئت ان اتيك بنفسي فعلت و السلام عليك يا رسول اللّه فركبوا سفينة فى اثر جعفر و أصحابه حتى إذا كانوا فى وسط البحر غرقوا و وافى جعفر و أصحابه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى سبعين رجلا عليهم ثياب الصوف منهم اثنان و ستون من الحبشة و ثمانية من اهل الشام فقرأ عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سورة يس الى آخرها فبكوا حين سمعوا القران و أمنوا و قالوا ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه السلام فانزل اللّه تعالى هذه الاية و لتجدن أقربهم مودة للذين أمنوا الذين قالوا انا نصارى يعنى وفد النجاشي الذين قدموا مع جعفر و هم سبعون و كانوا اصحاب الصوامع و قال مقاتل و الكلبي كانوا أربعين رجلا اثنان و ثلثون من الحبشة و ثمانية من اهل الشام و قال عطاء كانوا ثمانين رجلا أربعون من اهل نجران من بنى الحارث و اثنان و ثلثون من اهل الحبشة و ثمانية من اهل الشام روميون

و اخرج ابن ابى شيبة و ابن ابى حاتم و الواحدي من طريق ابن شهاب عن سعيد بن المسيب و ابى بكر بن عبد الرحمن و عروة بن الزبير مرسلا قالوا بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عمرو بن امية الضمري و كتب معه كتابا الى النجاشي فقدم على النجاشي فقرأ كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثم دعا جعفر بن ابى طالب و المهاجرين معه و أرسل الى الرهبان و القسيسين ثم امر جعفر ابن ابى طالب فقرأ عليهم سورة مريم فامنوا بالقران و قاضت أعينهم من الدمع فهم الذين انزل فيهم لتجدن أقربهم مودة الى قوله فاكتبنا مع الشاهدين و روى ابن جرير و ابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير قال بعث النجاشي فلاس رجلا من خيار أصحابه الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقرأ عليه سورة يس فبكوا فنزلت فيهم الاية

و اخرج النسائي عن عبد اللّه بن الزبير قال نزلت هذه الاية فى النجاشي و أصحابه.

٨٣

وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ و روى الطبراني عن ابن عباس نحوه ابسط منه قلت و نزول الاية فى النجاشي او فى الذين وفدهم لا يقتضى اختصاصهم بهذا الحكم فان العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص المورد قوله و إذا سمعوا عطف على لا يستكبرون و هو بيان لرقة قلوبهم و شدة خشيتهم و مسارعتهم الى قبول الحق و عدم تابيهم عنه و الفيض هو انصباب عن امتلاء فوضع موضع الامتلاء للمبالغة او جعلت أعينهم من فرط البكاء كانها تفيض بانفسها و تفيض فى موضع النصب على الحال ....

لان الروية بمعنى الابصار و قيل من للابتداء و الظاهر انها للتعليل اى من أجل الدمع مِمَّا عَرَفُوا من للابتداء او للتعليل اى من أجل المعرفة و ما موصولة يعنى من الذي عرفوه كائنا مِنَ الْحَقِّ من اما للبيان او للتبعيض يعنى انهم عرفوا بعض الحق فابكاهم فكيف إذا عرفوه كله قال ابن عباس فى رواية عطاء به يريد بالسامعين النجاشي و أصحابه قرا عليهم جعفر بالحبشة كهيعص فما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر من القراءة يَقُولُونَ حال من الضمير الفاعل فى عرفوا رَبَّنا آمَنَّا بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و بما انزل عليه منك و المراد إنشاء الايمان و الدخول فيه و انما قالوا ربنا ليكونوا مومنين فيما بينهم و بين اللّه لا كالمنافقين فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ يعنى مع امة محمد صلى اللّه عليه و سلم الذين يشهدون للرسل على سائر الأمم قالوا ذلك لانهم وجدوا ذكر امة فى الإنجيل كذلك او المعنى مع الشاهدين بنبوته و بان القران حق من عند اللّه تعالى و الشهادة ما يكون عن صميم القلب و لذلك قال اللّه تعالى فى المنافقين و اللّه يشهد ان المنافقين لكاذبون ففيه تنزيه لانفسهم عن النفاق ثم أظهروا الحجة على ان ايمانهم ايمان الشهداء لا المنافقين بقولهم.

٨٤

وَ ما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللّه وَ ما جاءَنا على لسان محمّد مِنَ الْحَقِّ يعنى القران وَ نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا الجنة مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ اى مع مؤمنى امة محمد صلى اللّه عليه و سلم الذين قال اللّه تعالى فيهم و لقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر انّ الأرض يرثها عبادى الصّالحون قوله ما لنا مبتدأ و خبر و لا نؤمن حال اى غير مؤمنين كقولك مالك قائما و نطمع معطوف على نؤمن يعنى ما لنا لا نؤمن و لا نطمع او عطف على نؤمن اى ما لنا نجمع بين عدم الايمان و الطمع فانهما متنافيان فان الطمع مع عدم الايمان باطل او خبر مبتدأ محذوف اى نحن و الواو للحال و جملة و نحن نطمع حال من ضمير الفاعل فى نؤمن و فيه انكار و استبعاد لانتفاء الايمان مع قيام موجبه و هو الطمع فى انعام اللّه تعالى و قيل جواب سوال ذكر البغوي ان اليهود عيّرهم و قالوا لم أمنتم فاجابوا و قيل انهم لما رجعوا الى قومهم لاموهم فاجابوا بذلك و يرد عليه انه كيف جاء الجواب بالعاطف و الجواب مبنية للفصل و غاية التوجيه ان يقال تقديره مالك لا تؤمن و ما لنا لا نؤمن.

٨٥

فَأَثابَهُمُ اللّه اى جزاهم اللّه بِما قالُوا بعد خلوص الاعتقاد المدلول عليه بقوله ترى أعينهم تفيض من الدمع بما عرفوا من الحق و قيل القول يستعمل فى قول عن اعتقاد يقال هذا قول فلان اى معتقده جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ الجنات جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ الذين يعبدون اللّه تعالى بكمال الخشوع و الحضور قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك ثم ذكر جزاء الكافرين المكذبين كما هو داب المثاني و القران العظيم من الجمع بين الترغيب و الترهيب و لما كان فيما مضى ذكر التصديق بالقلب و معرفة الحق مع الإقرار باللسان عقبه بما يضاده من جحود الحق و التكذيب فقال.

٨٦

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا اى جحدوا الحق بقلوبهم وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بألسنتهم أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ع روى الترمذي و غيره عن ابن عباس ان رجلا اتى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال يا رسول اللّه انى إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء و أخذتني شهوتى فحرمت علىّ اللحم فانزل اللّه تعالى.

٨٧

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّه لَكُمْ اى ما طاب و لذّ و تشتهيها الأنفس من الحلال و فى ترتيب الآيات لطافة فانه تضمن ما قبله مدح النصارى على ترهبهم و الحث على كسر النفس و رفض الشهوات ثم عقبه النهى عن الافراط فى ذلك و الاعتداء عما حد اللّه تعالى بجعل الحلال حراما فقال وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ و يجوز ان يراد به و لا تعتدوا حدود ما أحل اللّه لكم الى ما حرم عليكم فتكون الاية ناهية عن تحريم ما أحل و تحليل ما حرم داعية الى القصد بينهما و جاز ان يكون المعنى و لا تسرفوا فى تناول الطيبات اخرج ابن جرير من طريق العوفى انّ رجالا من الصحابة منهم عثمان بن مظعون حرموا النساء و اللحم على أنفسهم و أخذوا الشفار ليقطعوا مذاكيرهم لكى ينقطع الشهوة عنهم و يتفرغوا للعبادة فنزلت هذه الاية

و اخرج ابن جرير نحو ذلك من مرسل عكرمة و ابى قلابة و مجاهد و ابى مالك و النخعي و السدى و غيرهم و فى رواية السدى انهم كانوا عشرة منهم ابن مظعون و على ابن ابى طالب و فى رواية عكرمة منهم ابن مظعون و على و ابن مسعود و المقداد بن الأسود و سالم مولى حذيفة و فى رواية مجاهد منهم ابن مظعون و عبد اللّه بن عمرو

و اخرج ابن عساكر فى تاريخه من طريق السدى الصغير عن الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس قال نزلت هذه الاية فى رهط من الصحابة منهم ابو بكر و عمر و على و ابن مسعود و عثمان بن مظعون و المقداد بن الأسود و سالم مولى ابى حذيفة توافقوا على ان يجبوا أنفسهم و يعتزلوا النساء و لا يأكلوا لحما و لا دسما و يلبسوا المسوح و لا يأكلوا من الطعام الا قوتا و ان يسيحوا فى الأرض كهيئة الرهبان فنزلت و ذكر البغوي عن اهل التفسير ان النبي صلى اللّه عليه و سلم ذكر الناس يوما و وصف القيامة فرق الناس له و بكوا فاجتمع عشرة من الصحابة فى بيت عثمان بن مظعون الجمحي و هم أبو بكر الصديق و على بن ابى طالب و عبد اللّه بن مسعود و عبد اللّه بن عمر و ابو ذر الغفاري و سالم مولى ابى حذيفة و المقداد بن الأسود و سلمان الفارسي و معقل ابن مقرن رضى اللّه عنهم أجمعين و تشاوروا و اتفقوا على ان يترهبوا و يلبسوا المسوح و يجبوا مذاكيرهم و يصوموا الدهر و يقوموا الليل و لا يناموا على الفراش و لا يأكلوا اللحم و الودك و لا يقربوا النساء و الطيب و يسيحوا فى الأرض فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه فقال لامرأته أم حكيم بنت ابى امية و اسمها الخولاء و كانت عطارة أحق ما بلغني عن زوجك و أصحابه فكرهت ان تكذب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و كرهت ان تبدى على زوجها فقالت يا رسول اللّه إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك فانصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فلما دخل عثمان أخبرته بذلك فاتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هو و أصحابه فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الم أنبأكم انكم اتفقتم على كذا و كذا قالوا بلى يا رسول اللّه و ما أردنا الا الخير فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انى لم اومر بذلك ثم قال لانفسكم عليكم حقا فصوموا و أفطروا و قوموا و ناموا فانى أقوم و أنام و أصوم و أفطروا كل اللحم و الدسم و اتى النساء و من رغب عن سنتى فليس منى ثم جمع الناس و خطبهم فقال ما بال أقوام حرموا النساء و الطعام و الطيب و النوم و شهوات الدنيا اما انى لست أمركم ان تكونوا قسيسين و رهبانا فانه ليس فى دينى ترك اللحم و النساء و لا اتخاذ الصوامع و ان سياحة أمتي الصوم و رهبانيتهم الجهاد و اعبدوا اللّه تعالى و لا تشركوا به شيئا و حجوا و اعتمروا و اقيموا الصلاة و أتوا الزكوة و صوموا رمضان و استقيموا يستقم لكم فانما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد اللّه عليهم فاولئك بقاياهم فى الديارات و الصوامع فانزل اللّه عز و جل هذه الاية و روى البغوي بسنده عن سعد بن مسعود ان عثمان بن مظعون رض اتى النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ائذن لنا فى الاختصاء فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليس منا من خصى و لا من اختصى ان خصاء أمتي الصيام فقال يا رسول اللّه ائذن لنا فى السياحة فقال ان سياحة أمتي الجهاد فى سبيل اللّه قالوا يا رسول اللّه ائذن لنا فى الترهب فقال ان ترهب أمتي الجلوس فى المساجد و انتظار الصلاة و فى الصحيحين عن انس قال جاء ثلثة رهط الى ازواج النبي صلى اللّه عليه و سلم يسألون عن عبادة النبىّ صلى اللّه عليه و سلم فلمّا أخبروا بها كانهم تقالّوها فقالوا اين نحن من النبىّ صلى اللّه عليه و سلم و قد غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر فقال أحدهم اما انا فاصلى الليل ابدا و قال الاخر انا أصوم النهار و لا أفطر و قال الاخر انا اعتزل النساء فلا أتزوج ابدا فجآء النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال أنتم الذي قلتم كذا و كذا اما و اللّه انى لاخشاكم للّه و أتقاكم له و لكنى أصوم و أفطر و أصلي و ارقد و أتزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى و روى ابو داؤد عنه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان يقول لا تشددوا على أنفسكم فيشدد اللّه عليكم فان قوما شددوا على أنفسهم فشدد اللّه عليهم فتلك بقاياهم فى الصوامع و الديار رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم و فى الصحيحين عن عائشة قالت صنع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم شيئا فرخص فيه فتنزه عنه قوم فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فخطب فحمد اللّه ثم قال ما بال أقوام يتنزهون عن الشي ء اصنعه فو اللّه انى لاعلمهم باللّه و أشدهم خشية و روى ابن ابى حاتم عن زيد ابن اسلم ان عبد اللّه بن رواحة أضاف ضيفا من اهله و هو عند النبي صلى اللّه عليه و سلم ثم رجع الى اهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارا له فقال لامرأته حبست ضيفى من اجلى و هو حرام على فقالت امرأته هو على حرام قال الضيف هو على حرام فلما رأى ذلك وضع يده و قال كلوا بسم اللّه ثم ذهب الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فذكر الذي كان منهم ثم انزل اللّه يايها الذين أمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم و لا تعتدوا ان اللّه لا يحب المعتدين.

٨٨

وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه حَلالًا طَيِّباً قال عبد اللّه بن مبارك الحلال ما أخذته من وجهه يعنى من وجه مشروع و الطيب ماغذ او نما فاما الجوامد كالطين و التراب و ما لا يغذى فمكروه الا على وجه التداوى حلالا مفعول كلوا و مما رزقكم حال منه قدمت لكون ذى الحال نكرة و من للتبعيض و فيه تصريح ان بعض الرزق يكون حلالا دون بعض كما يقوله اهل الحق و يجوز ان يكون من ابتدائية متعلقة بكلوا و يجوز ان يكون مفعولا و حلالا حال من الموصول و العائد محذوف او صفة لمصدر محذوف يعنى أكلا حلالا و على الوجوه كلها لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة وَ اتَّقُوا اللّه توكيد للتوصية بما امر به و زاده توكيدا بقوله الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ لان مقتضى الايمان التقوى فيما امر به و نهى عنه روى البغوي بسنده عن عائشة قالت كان النبي صلى اللّه عليه و سلم يحب الحلوا و العسل رواه البخاري و عن ابن عباس قال كان أحب الطعام الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الثريد من الخبز و الثريد من الحيس رواه ابو داؤد و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الطاعم الشاكر كالصائم الصابر رواه الترمذي و رواه ابن ماجة و الدارمي عن سنان بن سنة عن أبيه

قال البغوي قال ابن عباس لما نزلت لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم قالوا يا رسول اللّه فكيف نصنع بايماننا التي حلفنا عليها و كانوا حلفوا على ما أنفقوا عليه فانزل اللّه تعالى.

٨٩

لا يُؤاخِذُكُمُ «١» اللّه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ قرأ ابن ذكوان عاقدتم من المفاعلة بمعنى فعل

و قرا ابو بكر و حمزة و الكسائي عقدتم بغير الف مخففا على وزن ضربتم و الباقون مشددا من التفعيل و قد مر تفسير الاية فى سورة البقرة و اقسام الايمان و أحكامها و ان المراد بالمؤاخذة المؤاخذة الاخروية و بما عقدتم الايمان ما تعلق القصد بتوثيقه و الزام شى ء من فعل او ترك به على نفسه صيانة لذكر اسم اللّه تعالى فتكون لا محالة فى الإنشاء و هذا القسم من اليمين يوجب ذلك الفعل او الترك على الحالف بقوله تعالى يا ايها الذين أمنوا أوفوا بالعقود و قوله تعالى و لكن يواخذكم بما عقدتم يعنى بنكث ما عقدتم او يواخذكم بما عقدتم ان حنثتم و حذف للعلم.

(١) روى ابو الشيخ و عبد بن حميد عن سعيد بن جبير ان اللغو ان تحرم ما أحل اللّه لكم تكفر عن يمينك و لا تحرمه لا يؤاخذكم اللّه به و لكن بما عقدتم الايمان فان مت عليه أخذت به ١٢ [.....].

(مسئلة:) ينعقد اليمين عند جمهور العلماء و الائمة الاربعة بحرف القسم ملفوظا او مقدرا مقترنا باسم من اسماء اللّه تعالى او ما يدل على ذاته تعالى نحو و الذي نفسى بيده و الذي لا اله غيره و مقلب القلوب و رب السموات و الأرض و نحو ذلك و قال بعض مشائخ الحنفية كل اسم لا يسمى به غيره تعالى فهو يمين و ما يسمى به غيره ايضا كالحليم و العليم و القادر و الوكيل و الرحيم و نحو ذلك لا يكون يمينا الا بالنية او العرف او دلالة الحال و كذا ينعقد عند الجمهور بكل صفة من صفاته و قال ابو حنيفة ينعقد بكل صفة يحلف بها عرفا كعزة اللّه و جلاله و عظمته و كبريائه لا بما لا يحلف عرفا كعلم اللّه و إرادته و مشيته و لمشايخ العراق هاهنا تفصيل اخر و هو ان الحلف بصفات الذات يكون يمينا و بصفات الفعل لا يكون يمينا و صفات الذات ما لا يوصف اللّه تعالى بضده كالقدرة و الجلال و الكبرياء و العظمة و العزة و صفات الفعل ما يوصف به و بضده كالرحمة و الغضب و الرضاء

و السخط و القبض و البسط.

(مسئلة) لو حلف بالقران يكون يمينا عند الائمة الثلاثة و عند ابى حنيفة لا يكون يمينا لعدم العرف و قال ابن همام و لا يخفى ان الحلف بالقران الان متعارف فيكون يمينا يعنى عنه ابى حنيفة ايضا كما هو قول الائمة الثلاثة و كذا الكلام لو حلف بالمصحف فان المراد به القران دون القراطيس و حكى ابن عبد البر فى التمهيد فى المسألة اقوال الصحابة و التابعين و اتفاقهم على إيجاب الكفارة فيها قال و لم يخالف فيها الا من لا يعتد بقوله و اختلفوا فى قدر الكفارة فقال مالك و الشافعي يلزم كفارة واحدة و عن احمد رح روايتان إحداهما كالجمهور و الثانية يلزم بكل اية كفارة و لو قال و حق اللّه كان يمينا عند الثلاثة خلافا لابى حنيفة و لو قال لعمر اللّه و ايم اللّه قال ابو حنيفة يمين نوى او لم ينو و هى رواية عن احمد و قال بعض اصحاب الشافعي و هى رواية عن احمد ان لم ينو لا يكون يمينا.

(مسئلة) من حلف بالكعبة او بالنبي لا يكون يمينا و لا يجب عليه الكفارة عند الائمة الثلاثة و هى رواية عن احمد و فى اظهر الروايتين عنه الحلف بالنبي يكون يمينا لنا قوله صلى اللّه عليه و سلم من كان حالفا فليحلف باللّه او ليصمت متفق عليه من حديث ابن عمر و عنه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من حلف بغير اللّه فقد أشرك رواه ابو داؤد و عن ابن مسعود موقوفا لان احلف باللّه كاذبا أحب الىّ ان احلف بغير اللّه صادقا قال صاحب الهداية هذا إذا قال و النبي اما لو قال ان فعلت كذا فهو برئ عن النبي صلى اللّه عليه و سلم او عن الكعبة او هو يهودى او نصرانى او كافر يكون يمينا لانه لما جعل الشرط علما على الكفر فقد جعله واجب الامتناع و قد أمكن القول بوجوبه لغيره فجعلناه يمينا كما نقول فى تحريم الحلال فان تحريم الحلال عند نايمين و قال الشافعي رح تحريم الحلال لا يكون يمينا لنا ان النبي صلى اللّه عليه و سلم حرم مارية و شرب العسل فنزل يا ايها النبي لم تحرم ما أحل اللّه لك قد فرض اللّه لكم تحلة ايمانكم كذا فى الصحيحين و غيرهما و سنذكر فى سورة التحريم ان شاء اللّه تعالى.

(مسئلة) و لو قال ان فعلت كذا فهو يهودى او برئ من الإسلام او نحو ذلك فى شى ء قد فعله فهو الغموس و لا يكفر عند ابى حنيفة اعتبارا بالمستقبل و قيل يكفر لانه تنجيز معنى قال صاحب الهداية و الصحيح انه لا يكفر إن كان يعلم انه يمين و إن كان عنده انه يكفر بالحلف يكفر لانه رضى بالكفر عن بريدة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من قال انى برئ من الإسلام فان كان كاذبا فهو كما قال و ان كان صادقا لن يرجع الى الإسلام سالما رواه ابو داؤد و النسائي و ابن ماجة.

(مسئلة) لو ذكر فعل القسم على صيغة الماضي مقترنا باسم اللّه او صفة من صفاته فقال أقسمت باللّه او حلفت باللّه او شهدت باللّه او عزمت باللّه لا فعلن كذا فهو يمين بلا خلاف و لو قالبصيغة المضارع نحو اقسم باللّه او احلف باللّه او اشهد باللّه او اعزم باللّه فهو يمين عند ابى حنيفة و احمد و عند الشافعي لا يكون يمينا الا بالنية لاحتمال ان يريد بالمستقبل الوعد قالت الحنفية المضارع حقيقة فى الحال مجاز فى الاستقبال لا ينصرف اليه الا بقرينة السين او سوف او نحو ذلك.

(مسئلة) لو قال أقسمت او اقسم او حلفت او احلف و نحو ذلك من غير ذكر اسم اللّه تعالى و صفة فهو يمين عند ابى حنيفة نوى او لم ينو شيئا و ان نوى غيره يصدق ديانة لا قضاء و قال مالك و احمد فى رواية و زفران نوى يكون يمينا و الا فلا لاحتمال اليمين بغير اللّه و قال الشافعي لا يكون يمينا و ان نوى

قلنا الحلف باللّه هو المعهود و المشروع و بغيره محظور فيصرف الى المشروع عند عدم النية و احتج فى هذه المسألة بحديث ابن عباس ان رجلا راى رويا فقصها على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال ابو بكر ايذن لى فاعبرها فاذن له فعبرها ثم قال أصبت يا رسول اللّه قال أصبت و اخطأت قال أقسمت يا رسول اللّه لتخبرنى قال لا تقسم هكذا رواه احمد و قد اخرج فى الصحيحين بلفظ اخر فانه قال و اللّه لتخبرنى بالذي اخطأت قال لا تقسم و اللّه اعلم فَكَفَّارَتُهُ اى كفارة نكثه او كفارة معقود الايمان او كفارة ما عقدتم الايمان إذا حنثتم و الكفارة الفعلة التي من شانها ان يكفر الخطيئة و يذهب إثمها و يسترها إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ و الإطعام جعل الغير طاعما سواء كان بالتمليك او الإباحة و من ثم قال ابو حنيفة لو غدّاهم و عشّاهم اكلتين مشبعتين من غير تمليك جاز قليلا أكلوا او كثيرا كذا ذكر الكرخي بإسناده الى الحسن خلافا للشافعى رحمه اللّه فعنده يشترط التمليك اعتبارا بالزكاة و صدقة الفطر و لان التمليك ادفع للحاجة فلا ينوب منابه الإباحة

قلنا المنصوص عليه فى الزكوة الإيتاء و فى صدقة الفطر الأداء و هما للتمليك حقيقة بخلاف الإطعام لانه حقيقة فى التمكين من الطعم

فان قيل لما كان الإطعام حقيقة فى التمكين ينبغى ان لا يجوز التمليك و إلا لزم الجمع بين الحقيقة و المجاز

قلنا فى التمليك من الطعم ايضا او يقال جواز التمليك انما هو بدلالة النص و الدلالة لا يمنع العمل بالحقيقة كما فى حرمة الضرب و الشتم مع التأفيف لان النص ورد فى دفع حاجة الاكل فالتمليك الذي هو لدفع كل حاجة و منها الاكل اجوز اخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن جرير و ابن ابى حاتم عن على بن ابى طالب رض فى قوله تعالى فكفارته اطعام عشرة مساكين قال يغديهم و يعشيهم ان شئت خبزا و لحما او خبزا و زيتا او خبزا و سمنا او خبزا و تمرا-

(مسئلة) لو كان فيمن أطعمهم صبيا فطيما لا يجزيه لانه لا يستوفى كاملا-

(مسئلة) لا بد من الادام فى خبز غير الحنطة ليمكنهم الاستيفاء الى الشبع فى صورة الإباحة و فى خبز الحنطة لا يشترط ان كان اوسط طعام اهله بغير ادام.

(مسئلة) ان اعطى مسكينا واحدا عشرة ايام يجوز عند ابى حنيفة و ان اطعم فى يوم واحد عشر مرات لا يجوز و قيل هذا إذا كان بالاباحة و اما إذا كان بالتمليك فيجوز لان الحاجة الى التمليك يتجدد فى يوم واحد و لا يتجدد الحاجة الى الاكل فى يوم واحد عشر مرات و إذا دفع الى فقير و أحد طعام عشرة مساكين دفعة واحدة فى يوم واحد و لو بالتمليك لا يجوز هذا كله قول ابى حنيفة وجه قوله ان المقصود سدخلة المحتاج و الحاجة يتجدد فى كل يوم فالدفع اليه فى اليوم الثاني كالدفع الى غيره و لا يتجدد الحاجة فى يوم الى الاكل عشر مرات و قال مالك و الشافعي و هو الصحيح من مذهب احمد و به قال اكثر اهل العلم لا يجوز اطعام مسكين واحد عشرة ايام و لو بالتمليك لانه تعالى نص على عشرة مساكين و بتكرر الحاجة فى مسكين واحد لا يصير هو عشرة مساكين و التعليل بان المقصود سدخلة المحتاج الى اخر ما ذكر مبطل لمقتضى النص فلا يجوز.

(مسئلة) و إذا ملك الطعام عشرة مساكين فالقدر الواجب لكل مسكين عند اهل العراق مدان و هو نصف صاع

قال البغوي يروى ذلك عن عمرو على و قال ابو حنيفة نصف صاع من بر او صاع من شعير او تمر و هو قول الشعبي و النخعي و سعيد بن جبير و مجاهد و الحكم و قال مالك مد و هو رطلان بالبغدادي و قال احمد مد من حنطة او دقيق و مدان من شعير او تمر و رطلان من خبز اى خبز حنطة و قال الشافعي مد النبي صلى اللّه عليه و سلم و هو رطل و ثلث رطل من غالب قوة البلد و لا يجوز عنده دفع الخبز و لا الدقيق بل إعطاء الحب

قال البغوي و هو قول زيد بن ثابت و ابن عباس و ابن عمر و به قال سعيد بن المسيب و القاسم و سليمان بن يسار و عطاء و الحسن و كذلك الخلاف فى جميع الكفارات و يجوز دفع القيمة من الدراهم و الدنانير عند ابى حنيفة خلافا لغيره و ذكر الكرخي بإسناده الى عمر قال صاع من تمر او شعير او نصفه من بر و بإسناده الى علىّ قال كفارة اليمين نصف صاع من حنطة و بإسناده الى مجاهد قال كل كفارة فى القران فهو نصف صاع من بر لكل مسكين و روى ابن الجوزي فى التحقيق بسنده عن سليمان بن يسار قال أدركت الناس و هم يعطون فى طعام المساكين مدا مدا و يروى ان ذلك يجزى عنهم و فى الباب حديث ابى سلمة ان سليمان بن صخر و يقال له سلمة بن صخر البياضي جعل امرأته كظهر امه حتى يمضى رمضان فلما مضى نصف من رمضان وقع عليها ليلا فاتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فذكر ذلك له فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أعتق رقبة قال لا أجدها قال فصم شهرين متتابعين قال لا أستطيع قال اطعم ستين مسكينا قال لا أجد فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لعروة بن عمرو أعطه ذلك الفرق و هو مكتل يأخذ خمسة عشر صاعا او ستة عشر صاعا يطعم ستين مسكينا رواه الترمذي و روى ابو داؤد و ابن ماجة و الدارمي عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر نحوه قال كنت أصبت من النساء ما لا يصيب غيرى و هذا الحديث حجة للشافعى و غيره من قال ان لكل مسكين هذا احتج ابو حنيفة بحديث رواه الطبراني عن أوس بن الصامت قال فاطعم ستين مسكينا ثلثين صاعا قال لا املك ذلك الا ان تعيننى فاعانه النبي صلى اللّه عليه و سلم بخمسة عشر صاعا و أعانه الناس حتى بلغ انتهى قلت لعل كان ذلك من الحنطة و روى ابو داؤد من طريق ابن إسحاق عن معمر بن عبد اللّه بن حنظلة عن يوسف بن عبد اللّه بن سلام فى حديث أوس بن الصامت انه قال صلى اللّه عليه و سلم فانى ساعينه بفرق من تمر قال يا رسول اللّه و انا أعينه بفرق اخر قال أحسنت قال الفرق ستون صاعا

و اخرج الحديث ايضا بهذا الاسناد الا انه قال و المكتل ثلثون صاعا قال ابن همام و هذا أصح لانه لو كان ستين لم يحتج الى معاونتهما ايضا بفرق اخر فى الكفارة

و اخرج ابو داؤد عن ابى سلمة بن عبد الرحمن قال الفرق زنبيل يأخذ خمسة عشر صاعا

و اخرج ابو داؤد فى حديث سلمة بن صخر البياضي قال فاطعم و سقا من تمر بين ستين مسكينا قال و الذي بعثك بالحق لقد بتنا وحشيين ما املك لنا طعاما قال فانطلق الى صاحب صدقة بنى زريق فليدفعها إليك فاطعم ستين مسكينا و سقا من تمر و كل أنت و عيالك بقيتها الحديث أخرجه احمد و ابو داؤد

(مسئلة) يجوز دفع الطعام و تمليكه لصغير يقبل عنه وليه و هل يجزى بصغير لم يطعم الطعام قال الثلاثة نعم و قال احمد لا.

(مسئلة) ان ادى الى ذمى قال ابو حنيفة يجوز لاطلاق النص و قد قال اللّه تعالى لا ينهاكم اللّه عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين الاية و عند الجمهور لا يجوز قياسا على الزكوة فانه لا يجوز صرف الزكوة الى الذمي اجماعا مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ محله النصب لانه صفة مفعول محذوف تقديره ان تطعموا عشرة مساكين طعاما من اوسط ما تطعمون او الرفع على البدل من اطعام

قال البغوي اى من خير قوة عيالكم قلت و الظاهر ان المراد المتوسط فى الكيفية لا أعلى و لا ادنى فمن كان غنيا يأكل اهله أطعمة لذيذة يجب فى التغدي و التعشي ان يطعم الفقراء على غالب قوة اهله و هذا الكلام يدل على ما قال ابو حنيفة بجواز عطاء الفقير على وجه الإباحة اخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن ابى حاتم عن ابن عباس فى قوله تعالى من اوسط ما تطعمون قال من عسركم و يسركم و فى رواية ليس بارفعه و لا أدناه و جمع الأهل بالياء و النون شاذ لعدم العلمية أَوْ كِسْوَتُهُمْ عطف على اطعام او على من اوسط ان جعل بدلا لان البدل هو المقصود و ادنى الكسوة ما يجوز به الصلاة عند مالك و احمد و هو المروي عن محمد ففى الرجل يجزى السراويل فقط او الإزار فقط او القميص فقط و فى المرأة لا بد من ثوبين قميص و خمار و عند ابى حنيفة و ابى يوسف أدناه ما يستر عامة البدن فلا يجوز السراويل و ان صح صلوته فيه لان لابسه يسمى فى العرف عريانا و المأمور به جعله مكتسيا و يجوز ان يعطى قميصا سابلا للمرأة و ان لم يصح صلوتها بدون الخمار لانها مكتسية عرفا لا عريانة اخرج ابن مردويه عن حذيفة قال

قلنا يا رسول اللّه او كسوتهم ما هو قال عباءة و كذا اخرج الطبراني و ابن مردوية عن عائشة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال عباءة لكل مسكين و عند الشافعي رح يجوز اقل ما يقع عليه اسم الكسوة فيجوز عنده العمامة فحسب و السراويل فقط و القميص فقط و فى القلنسوة لاصحابه وجهان ان اطعم خمسا و كسى خمسا قال ابو حنيفة و احمد يجوز و قال مالك و الشافعي لا يجوز أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ يعنى اعتاق انسان و يجوز فى كفارة اليمين و الظهار اعتاق رقبة كافرة عند ابى حنيفة لاطلاق النص و عند مالك و الشافعي و احمد لا يجوز الا مؤمنا حملا للمطلق على المقيد الوارد فى كفارة القتل

قلنا المطلق يجرى على إطلاقه و المقيد على تقئيده و لا وجه لحمل أحدهما على الاخر.

(مسئلة) مقتضى كلمة او إيجاب احدى الخصال الثلث مطلقا و يخير المكلف فى التعيين اخرج ابن مردوية عن ابن عباس قال لما نزلت اية الكفارة قال حذيفة يا رسول اللّه نحن بالخيار قال أنت بالخيار ان شئت كسوت و ان شئت أطعمت فمن لم يجد فصيام ثلثة ايام متتابعات فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شيئا من ذلك و عجز عنها بان لا يفضل ماله عن الديون و عن قوته و قوة عياله و حوائجه ما يطعم او يكسو او يعتق و قال بعض العلماء إذا ملك ما يمكنه الإطعام او أحد أخواته و ان لم يفضل عن كفاية فليس هو بعاجز و هو قول الحسن و سعيد بن جبير و روى ابو الشيخ عن قتادة ان كان عنده خمسون درهما فهو ممن يجد و يجب عليه الإطعام و انكانت اقل فهو ممن لا يجد و يصوم

و اخرج ابو الشيخ عن ابراهيم النخعي قال إذا كان عنده عشرون درهما فعليه ان يطعم.

(مسئلة) العبد لا كفارة له الا الصوم لانه لا يقدر على الإطعام و الاكساء و الاعتاق لعدم مالكية المال و لو أعتق عنه مولاه او اطعم او اكسى لا يجزيه و كذا المكاتب و المستسعى.

(مسئلة) لو صام العبد فعتق قبل ان يفرغ و لو بساعة فاصاب مالا وجب عليه استيناف الكفارة و كذا الفقير إذا صام فاصاب مالا قبل ان يفرغ من الصيام استأنف الكفارة.

(مسئلة) المعتبر عندنا كونه واجدا عند ارادة التكفير و عند الشافعي عند الحنث لنا ان الصوم خلف عن المال كالتيمم فانما يعتبر فيه وقت الأداء فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ خبر مبتدأ محذوف و الجملة جزاء للشرط يعنى فكفارته صيام ثلثة ايام.

(مسئلة) لا يجب عند مالك التتابع فى الصيام لاطلاق النص بل يستحب و عن الشافعي قولان الجديد الراجح انه يستحب و لا يجب و قال ابو حنيفة و احمد و هو أحد قولى الشافعي رح انه يجب وجه قول احمد و رواية الشافعي حمل المطلق على المقيد الوارد فى كفارة القتل و الظهار و وجه القول الجديد للشافعى ان هذه الكفارة يحاذيها الاصلان فى التتابع و عدمه فحمله على كفارة القتل و الظهار يقتضى التتابع و حمله على صوم المتعة بناء على انه دم جبر عنده يوجب التفرق فترك الحمل على كل منهما و عمل بإطلاق النص هاهنا و وجه قول ابى حنيفة العمل بقراءة ابن مسعود فانه قرا ثلثة ايام متتابعات و هى مشهورة يجوز به تقئيد مطلق النص لانه داخل على الحكم دون السبب.

(مسئلة) يمين الكافر لا ينعقد و لا يلزمه الكفارة عند ابى حنيفة و قال الائمة الثلاثة ينعقد يمينه و يلزمه الكفارة بالحنث لنا انه ليس باهل اليمين لانها تنعقد لتعظيم اسم اللّه تعالى و مع الكفر لا يكون معظما و يرد عليه انه فى الدعاوى يستحلف الكافر المنكر اجماعا و لانه ليس أهلا للكفارة لكونها عبادة قلت و مقتضى هذا الدليل انه لو حلف الكافر ثم اسلم و حنث بعد الإسلام يلزمه الكفارة و اللّه اعلم.

ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ و حنثتم فان الكفارة لا تجب الا بعد الحنث اجماعا استدل احمد و الشافعي بهذه الاية على جواز تقديم الكفارة قبل الحنث و هو أحد الروايتين عن مالك لانه أضيف الكفارة الى اليمين دون الحنث و الاضافة دليل بسببية المضاف اليه للمضاف الواقع حكما شرعيا او متعلقه كما فى ما نحن فيه فان الكفارة متعلق الحكم الذي هو الوجوب و إذا ثبت سببيته جاز تقديم الكفارة على الحنث لانه حينئذ شرط و التقديم على الشرط بعد وجود السبب ثابت شرعا كما فى الزكوة جاز تقديمها على الحول بعد وجود السبب الذي هو ملك النصاب و كما فى تقديم التكفير بعد الجرح على المقتول قبل الموت و بناء على هذا الدليل لا فرق بين الكفارة بالمال و الصوم و عند مالك و احمد و به قال الشافعي فى القديم و فى القول الجديد للشافعى يجوز تقديم الكفارة بالمال قبل الحنث و لا يجوز بالصوم لان تقديم الأداء على الوجوب بعد السبب لم يعرف شرعا الا فى العبادة المالية و لا يجوز تقديم الصوم و الصلاة قبل وجوبهما و عند ابى حنيفة لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث مطلقا هو يقول ان سبب الكفارة هو الحنث دون اليمين لان الكفارة انما وجبت لستر الجناية و دفع الإثم و لا جناية و لا اثم الا بالحنث و اليمين ليست بسبب للحنث و لا للكفارة بل للبر إذا قل ما فى السبب ان يكون مفضيا اليه و اليمين ليس كذلك لانه مانع عن عدم المحلوف عليه فكيف يكون مفضيا اليه نعم قد يتفق تحققه اتفاقا و الاضافة قد يكون الى الشرط كما فى صدقة الفطر و لو سلم ان اليمين سبب فلا شك فى ان الحنث شرط للوجوب فلا يقع التكفير واجبا قبله فلا يسقط الوجوب قبل ثبوته و لا عند ثبوته بفعل وجد قبله و لم يكن واجبا و كان مقتضى هذا الدليل عدم جواز أداء الزكوة قبل الحول و صدقة الفطر قبل الفطر لكن ثبت جواز ادائهما قبل وجوبهما بالنص على خلاف القياس فيقتصر على موردهما اما الزكوة فلحديث على رضى اللّه عنه ان العباس سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى تعجيل صدقة قبل ان تحل فرخص له فى ذلك رواه ابو داؤد و الترمذي و ابن ماجة و الدارمي و اما صدقة الفطر فلما رواه البخاري عن ابن عمر فرض رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صدقة الفطر الى ان قال فى آخره و كانوا يعطون قبل الفطر بيوم او يومين و هذا مما لا يخفى على النبي صلى اللّه عليه و سلم بل لا بد من كونه بإذن سابق فان الاسقاط قبل الوجوب مما لا يعقل فلم يكونوا يقدمون الا بسمع قبله كذا قال ابن همام و الصحيح عندى ان اليمين سبب للكفارة كما يدل عليه الاضافة غير ان الحنث شرط لكونه سببا كما حقق فى اصول الفقه ان التعليق بالشرط فى قوله ان دخلت الدار فانت طالق مانع عن السبب دون الحكم عند ابى حنيفة و عند الشافعي مانع عن الحكم فهذا الكلام لا يكون سببا للطلاق الا بعد دخول الدار و زوال المانع و قبل ذلك كان سببا لمنع المرأة عن الدخول كذلك الحلف باللّه تعالى سبب للبر و بعد فوات البر و الحنث تصير سببا للكفارة فالكفارة قبل الحنث أداء قبل السبب بخلاف الزكوة فان سببه المال و بخلاف صدقة الفطر فان سببه الراس و قد يستدل على جواز التكفير قبل الحنث بحديث ابى الأحوص عوف بن مالك عن أبيه قال قلت يا رسول اللّه أ رأيت ابن عم لى اتيه اسأله فلا يعطينى و لا يصلنى ثم يحتاج الىّ فياتينى فيسألنى و قد حلفت ان لا أعطيه و لا أصله فامرنى ان اتى الذي هو خير و اكفر عن يمينى رواه النسائي و ابن ماجة و فى رواية قال قلت يا رسول اللّه يأتينى ابن عمى فاحلف ان لا أعطيه و لا أصله قال كفر عن يمينك و عن ابى موسى قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انى و اللّه إنشاء اللّه لا احلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها الا كفرت عن يمينى و اثبت الذي هو خير متفق عليه و عن عبد الرحمن بن سمرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك و ات الذي هو خير و فى رواية فات الذي هو خير و كفر عن يمينك متفق عليه و عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال من حلف على يمين فرأى خيرا منها فليكفر عن يمينه و ليفعل رواه مسلم و الاحتجاج بهذه الأحاديث على جواز تقديم الكفارة على الحنث لذكر الكفارة فى بعض الروايات قبل ذكر الحنث ليس بشئ لان الواو لمطلق الجمع دون الترتيب

فان قيل قد ورد فى بعض الروايات بكلمة ثم روى ابو داؤد حديث عبد الرحمن بن سمرة بلفظ فكفر عن يمينك ثم ات الذي هو خير و فى المستدرك من حديث عائشة كان عليه الصلاة و السلام إذا حلف لا يحنث حتى انزل اللّه كفارة اليمين فقال لا احلف الى ان قال الا كفرت عن يمينى ثم أتيت الذي هو خير

قلنا هى رواية شاذة مخالفة لما فى الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن سمرة و قد ذكرنا و لما فى البخاري من حديث عائشة و فيه العطف بالواو و قد شذت الرواية بثم لمخالفتهما روايات الصحيحين و السنن و المسانيد وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ قيل أراد به ترك الحلف اى لا تحلفوا لكل امر و الصحيح ان المراد منه حفظ اليمين عن الحنث و إيفاء ما أوجب على نفسه القيام بمقتضاه و يؤيده قوله تعالى يا ايها الذين أمنوا أوفوا بالعقود و الحكم فى الباب ان المحلوف عليه ان كان طاعة لزمه الوفاء بها و هل له ان يعدل عن الوفاء الى الكفارة مع القدرة على الوفاء قال ابو حنيفة و احمد ليس له ذلك عملا بهذه النص و قال الشافعي الاولى ان لا يعدل فان عدل جاز و لزمه الكفارة و عن مالك روايتان كالمذهبين و كذا ان حلف على امر مباح ليس تركه خيرا من فعله و ان كان المحلوف عليه معصية يجب عليه ان يحنث و يكفر لان اثم المعصية لازم و اثم الحنث مكفر بالكفارة و ان حلف على ترك امر مستحب فالاولى ان يحنث و يكفر قال اللّه تعالى لا نجعلوا اللّه عرضة لايمانكم يعنى حاجزا مانعا من الحسنات و قال عليه السلام كفر عن يمينك و ات بالذي هو خير عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه قال انى احلف لا اعطى أقواما ثم يبدو لى ان أعطيهم فاطعم عشرة مساكين صاعا من شعير او صاعا من تمر او نصف صاع من قيح و عن عائشة قالت كان ابو بكر إذا حلف لم يحنث حتى نزلت اية الكفارة و كان بعد ذلك يقول لا احلف على يمين فارى غيرها خيرا منها الا أتيت الذي هو خير و قبلت رخصة اللّه رواه ابن ابى شيبة و عبد الرزاق و البخاري و ابن مردوية.

(فصل فى النذر) إذا نذر شيئا معلقا بشرط يريد وجوده كما يقول ان شفى مريضى فعلىّ صوم يجب عليه الوفاء كما يجب بالنذر المنجز اجماعا و ان نذر شيئا معلقا بشرط يريد عدمه كما يقول ان فعلت كذا يريد ترك ذلك الفعل فعلىّ حج فعن ابى حنيفه انه لزمه الوفاء و الصحيح انه رجع عن هذا القول و قال أجزأه كفارة يمين و هو قول محمد و به قال احمد فيخرج بالوفاء و بالكفارة يميل الى أيهما شاء و فى رواية عن احمد ان الواجب الكفارة لا غير و عن الشافعي كالروايتين الأخريين و قال مالك فى صدقة المال يلزمه الثلث و فى غيره يلزمه الوفاء احتج مالك بحديث ابى لبابة انه قال للنبى صلى اللّه عليه و سلم ان من توبتى ان اهجر دار قومى التي أصبت فيها الذنب و ان انخلع مالى كله صدقة قال عليه السلام يجزى عنك الثلث و الحجة لجواز الكفارة حديث عقبة بن عامر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كفارة النذر كفارة اليمين رواه مسلم و حديث عمران بن حصين لا نذر فى غضب و كفارته كفارة اليمين رواه احمد و النسائي نحوه.

(مسئلة) من نذر نذرا لا يمكنه وفائه اما بان لا يطيقه كحج ماشيا و صوم الدهر او كان النذر بمعصية يكفر عنه كفارة يمين لان النذر إيجاب شى ء على نفسه و إيجاب شى ء يقتضى تحريم ضده و التحريم يمين و اللام المستعمل فى النذر فى قوله للّه علىّ كذا يجئى بمعنى القسم قال اللّه تعالى لعمرك و فى الباب حديث عائشة لا نذر فى معصية و كفارته كفارة اليمين رواه احمد و ابو داؤد و الترمذي و النسائي و روى النسائي عن عمران بن حصين نحوه و عن ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال من نذر نذر الم يسمه فكفارته كفارة يمين و من نذر نذرا فى معصية فكفارته كفارة يمين و من نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين و من نذر نذرا اطاقه فليف به رواه ابو داؤد و ابن ماجة و وقفه بعضهم على ابن عباس و عن عبد اللّه بن مالك ان عقبة بن عامر سأل النبي صلى اللّه عليه و سلم عن اخت له نذرت ان تحج حافية غير مختمرة قال مروها فتخمر و لتركب و لتصم ثلثة ايام رواه اصحاب السنن الاربعة و الدارمي.

(مسئلة) من حلف على يمين و قال إنشاء اللّه متصلا بيمينه فلا حنث عليه لحديث ابن عمران رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال من حلف على يمين فقال إنشاء اللّه فلا حنث عليه رواه اصحاب السنن الاربعة و الدارمي و ذكر الترمذي ان جماعة وقفوه على ابن عمر كَذلِكَ اى مثل ذلك البيان يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آياتِهِ اى اعلام شرايعه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ على نعمة التعليم او نعمة أداء الواجب و فراغ الذمة و حصول مرضاة اللّه تعالى و درجات القرب و الثواب فان مثل هذا التبين يسهل الأداء.

٩٠

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ «١» قد مر تفسيرهما و حكمهما فى تفسير سورة البقرة وَ الْأَنْصابُ اى الأصنام التي نصبت للعبادة وَ الْأَزْلامُ سبق تفسيرها فى أول السورة رِجْسٌ قذر يعاف عنه العقول السليمة و الطباع المستقيمة و افراده لانه خبر للخمر و خبر المعطوفات محذوف او بحذف المضاف كانه قال انما تعاطى الخمر و الميسر مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ اى من تسويله و تزئينه فكانه عمله فَاجْتَنِبُوهُ الضمير للرجس او لما ذكر او للتعاطى لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكى تفلحوا بالاجتناب عنه ان اللّه سبحانه أكد تحريم الخمر و الميسر فى هذه الاية بان صدر الجملة بانما و قرنهما بالانصاب و الأزلام و سماهما رجسا و جعلهما من عمل الشيطان تنبيها على ان الاشتغال بهما شربحت او غالب و امر بالاجتناب عن أعينهما و جعله سببا يرجى منه الفلاح ثم بين ما فيهما من المفاسد الدينية و الدنيوية المقتضية للاجتناب فقال.

(١) اخرج الترمذي عن عمر بن الخطاب انه قال اللّهم بين لنا فى الخمر بيان شفاع فنزلت التي فى البقرة يسئلونك عن الخمر و الميسر قل فيهما اثم كبير و منافع للناس الاية فدعى عمر فقرأت عليه ثم قال اللّهم بين لنا فى الخمر بيان شفاء فنزلت التي فى النساء يا ايها الذين أمنوا لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى الاية فدعى عمر فقرأت عليه ثم قال اللّهم بين لنا فى الخمر بيان شفاء فنزلت التي فى المائدة انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة و البغضاء فى الخمر و الميسر الى قوله فهل أنتم منتهون فدعى عمر فقرأت عليه فقال انتهينا انتهينا

و اخرج النسائي عن عبد الرحمن بن الحارث قال سمعت عثمان بن عفان رضى اللّه عنهما يقال اجتنبوا الخمر فانها أم الخبائث انه كان رجل ممن خلا قبلكم يتعبد فعلقته امرأة غرية فارسلت اليه جاريتها فقالت له انا ندعوك للشهادة فانطلق مع جاريتها فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه حتى افضى الى امرأة وضية عندها غلام و باطية خمر فقالت انى و اللّه ما دعوتك للشهادة و لكن دعوتك لتقع علىّ او تشرب الخمر كأسا او تقتل هذا الغلام قال فاسقينى من هذا الخمر فسقته كاسا قال رويدنى فلم يزل حتى وقع عليها و قتل النفس فاجتنبوا الخمر فانها و اللّه لا يجتمع الايمان و إدمان الخمر الا ليوشك ان يخرج أحدهما صاحبه ١٢.

٩١

إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ كما فعل الأنصاري «١» الذي شج راس سعد بن ابى وقاص بلحى الجمل و فيه نزلت هذه الاية و قد مرت القصة فى سورة البقرة وَ الْمَيْسِرُ قال قتادة كان الرجل يقاهر على الأهل و المال ثم يبقى حزينا مسلوب الأهل و المال مغتاظا على حرفائه خصهما باعادة الذكر و شرح ما فيهما من الفساد تنبيها على انهما هما المقصودان بالبيان هاهنا و انما ذكر الأنصاب و الأزلام هاهنا للدلالة على انهما مثلهما فى الحرمة و الشرارة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم شارب الخمر كعابد الوثن أخرجه البزار من حديث عبد اللّه بن عمرو و رواه ابن ماجة بلفظ مد من الخمر و رواه الحارث بلفظ شارب الخمر كعابد اللات و العزى وَ يَصُدَّكُمْ اى الشيطان بارتكاب الخمر و الميسر عَنْ ذِكْرِ اللّه وَ عَنِ الصَّلاةِ و ذلك انه من اشتغل بالخمر و القمار الهاه عن ذكر اللّه و شوش عليه صلوته كما فعل باضياف عبد الرحمن بن عوف قدم رجلا ليصلى بهم صلوة المغرب بعد ما شربوا فقرأ قل يا ايها الكافرون اعبد بحذف لا كما مرت القصة فى سورة البقرة و خص الصلاة من بين الذكر للتعظيم و الاشعار بان الصاد منها كالصاد من الايمان من حيث انها شعار المؤمنين و عماد الدين و الفارق بين المؤمن و الكافر صورة

(١) عن ابن عباس ان الشّراب كانوا يضربون على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بالأيدي و النعال و العصا حتى توفى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال ابو بكر لو فرضنا لهم حدا فتوخى نحو ما كانوا يضربون على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فكان ابو بكر جلدهم أربعين حتى توفى ثم كان عمر من بعدهم فجلدهم كذلك أربعين حتى اتى برجل من المهاجرين الأولين قد شرب فامر به ان يجلد فقال لم تجلدنى بينى و بينك كتاب اللّه عز و جل قال و فى اى كتاب تجدان لا أجلدك قال ان اللّه يقول فى كتابه ليس على الذين أمنوا و عملوا الصّلحت جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا و أمنوا الاية فانا من الذين أمنوا و عملوا الصالحات ثم اتقوا و أحسنوا شهدت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بدرا و أحدا و الخندق و المشاهد قال عمر الا تردون عليه فقال ابن عباس هؤلاء آيات نزلت عذرا للماضين و حجة فى الباقين عذرا للماضين لانهم لقوا اللّه قبل ان يحرم عليهم الخمر و حجة على الباقين لان اللّه يقول انما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام حتى بلغ الاية الاخرى فكان من الذين أمنوا و عملوا الصّلحت ثم اتقوا و أحسنوا فان اللّه قد نهى ان يشرب الخمر قال عمر فماذا ترون فقال على بن ابى طالب نرى انه إذا شرب سكر و إذا سكر هذى و إذا هذى افترى و على المفترى ثمانون جلدة فامر عمر فجلد ثمانين رواه ابو الشيخ و ابن مردوية و الحاكم و صححه ١٢.

قال اللّه تعالى و ما كان اللّه ليضيع ايمانكم يعنى صلوتكم و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بين العبد و بين الكفر ترك الصلاة رواه مسلم و ابو داؤد و الترمذي و ابن ماجة من حديث جابر و روى احمد من حديث عبد اللّه بن بريدة نحوه و فيه فمن تركها فقد كفر و روى احمد من حديث عبد اللّه بن عمرو عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه ذكر الصلاة يوما فقال من حافظ عليها كانت له نورا و برهانا و نجاة يوم القيامة و من لم يحافظ عليها لم يكن له نورا و لا نجاة و كان يوم القيامة مع قارون و فرعون و هامان و ابى بن خلف ثم أعاد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتبا على ما تقدم من انواع المفاسد فقال فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ لفظة استفهام و معناه امر بأبلغ الوجوه كانه قيل فهل أنتم بعد ما ذكر من المفاسد منتهون أم لا كانكم لم توعظوا.

٩٢

وَ أَطِيعُوا اللّه وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فى الانتهاء عن الخمر و الميسر و سائر المناهي و إتيان الواجبات وَ احْذَرُوا عن مخالفتهما فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ عن إطاعة اللّه و الرسول فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ فتوليكم لا يضر بالرسول و انما يضر بانفسكم عن ابن عمر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال كل مسكر حرام و ان حتما على اللّه ان لا يشربه عبد فى الدنيا الا سقاه اللّه عن طينة الخبال هل تدرون ما طينة الخبال قال عرق اهل النار رواه البغوي و عنه ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال من شرب الخمر فى الدنيا ثم لم يتب منها حرمها اللّه فى الاخرة رواه البغوي و عنه انه قال اشهد انى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو يقول لعن اللّه الخمر و شاربها و ساقيها و بايعها و مبتاعها و عاصرها و معتصرها و حاملها و المحمول اليه و أكل ثمنها رواه ابن ماجة و روى ابو داؤد و ليس فيه و أكل ثمنها و فى الباب عن انس بن مالك و روى الترمذي و ابن ماجة عن ابن عباس و الحاكم عن ابن مسعود و عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من شرب الخمر لم يقبل اللّه له صلوة أربعين صباحا فان تاب تاب اللّه عليه فان عاد لم يقبل اللّه له صلوة أربعين صباحا فان تاب تاب اللّه عليه فان عاد لم يقبل اللّه له صلوة أربعين صباحا فان تاب تاب اللّه عليه فان عاد فى الرابعة لم يقبل اللّه له صلوة أربعين صباحا فان تاب لم يتب اللّه عليه و سقاه من نهر الخبال رواه الترمذي و رواه النسائي و ابن ماجة و الدارمي عن عبد اللّه بن عمرو و عن عبد اللّه بن عمرو عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال لا يدخل الجنة عاق و لا قمار و لا مد من خمر رواه الدارمي و عن ابى امامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه بعثني رحمة للعالمين و هدى للعلمين و أمرني ربى بمحق المعازف و المزامير و الأوثان و الصليب و امر الجاهلية و حلف ربى عز و جل بعزتي لا يشرب عبد من عبيد جرعة من خمر إلا سقيته من الصديد مثلها و لا يتركها من مخافتى الا سقيته من حياض القدس رواه احمد و عن ابن عمر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ثلثة قد حرم اللّه عليهم الجنة مد من الخمر و العاق و الديوث رواه احمد و النسائي و عن ابى موسى الأشعري مثله و فيه مد من الخمر و قاطع الرحم و مصدق بالسحر رواه احمد و قد ذكرنا فى سورة البقرة ما أخرجه احمد عن ابى هريرة قال قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المدينة و هم يشربون الخمر الحديث الى ان قال ثم نزلت اغلظ من ذلك يا ايها الذين أمنوا انما الخمر و الميسر الى قوله فهل أنتم منتهون قالوا انتهينا ربنا فقال الناس ناس قتلوا فى سبيل اللّه و ماتوا على فراشهم و كانوا يشربون الخمر و يأكلون الميسر و قد جعله اللّه رجسا من عمل الشيطان فانزل اللّه تعالى ليس على الذين أمنوا الاية و روى النسائي و البيهقي عن ابن عباس قال انما نزل تحريم الخمر فى القبيلتين من قبائل الأنصار شربوا فلما ان ثمل «١» القوم عبث بعضهم ببعض فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر فى وجهه و راسه و لحيته فيقول صنع بي هذا أخي فلان و كانوا اخوه ليس فيهم ضغائن فيقول و اللّه لو كان بي رءوفا رحيما ما صنع بي هذا حتى وقعت الضغائن فى قلوبهم فانزل اللّه يا ايها الذين أمنوا انما الخمر و الميسر الاية فقال ناس من المتكلفين هى رجس و هى فى بطن فلان و قد قتل يوم أحد فانزل اللّه تعالى.

(١) ثمل اى اخذه منه الشراب و السكر ١٢.

٩٣

لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا اى شربوا من الخمر و أكلوا من مال الميسر قبل تحريمهما إِذا مَا اتَّقَوْا الشرك وَ آمَنُوا باللّه وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بعد الايمان ثُمَّ اتَّقَوْا الخمر و الميسر بعد التحريم وَ آمَنُوا بتحريمهما ثُمَّ اتَّقَوْا سائر المحرمات او الاولى عن الشرك و الثاني عن المحرمات و الثالث عن الشبهات وَ أَحْسَنُوا الى الناس او المعنى أحسنوا الأعمال بان عبدوا ربهم كانهم يرونه وَ اللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ع فلا يؤاخذهم بشئ و فيه تنبيه على انه من فعل ذلك صار محسنا و من صار محسنا صار للّه محبوبا و نزلت عام الحديبية و كانوا محرمين بالعمرة فى ذى القعدة سنة ست.

٩٤

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّه بِشَيْ ءٍ اى شى ء يسير ليس من العظائم التي يدحض الاقدام كالابتلاء ببذل الأنفس و الأموال مِنَ الصَّيْدِ يرسله إليكم صفة لشئ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ صفة بعد صفة فكانت الوحوش «١» تغشاهم فى رحالهم بحيث يتمكنون من أخذها بايديهم و طعنها برماحهم لِيَعْلَمَ اللّه مَنْ يَخافُهُ متعلق بيبلوا فان ذلك الابتلاء انما هو لينميز الخائف من عقاب اللّه ممن لا يخافه فذكر العلم و أراد وقوع المعلوم و ظهوره او تعلق العلم او المعنى ليعلم خوف الخائف موجودا كما كان يعلمه قبل وجوده انه يوجد حتى ليثبه على عمله لا على علم نفسه فيه بِالْغَيْبِ اى متلبسا ذلك الخائف بالغيب يعنى غائبا من العذاب او من اللّه سبحانه يعنى يخافه و لم يره اخبر اللّه سبحانه بذلك الابتلاء ليكونوا اصبر على الانتهاء عن المعصية اعانة للمؤمنين فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ الابتلاء بالصيد فصاده او بعد ذلك الاخبار من اللّه سبحانه بالابتلاء فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ فانه لم يملك نفسه فى مثل ذلك الشي ء اليسير و لم يراع حكم اللّه فيه فكيف يملك نفسه فيما يكون النفس اليه أميل

قال البغوي روى عن ابن عباس انه قال يوسع جلد ظهره و بطنه جلدا او يسلب ثيابه ذكر البغوي ان رجلا يقال له ابو اليسر شدّ على حمار وحش فقتله فنزلت.

(١) اخرج ابن ابى حاتم عن مقاتل بن حبان قال نزلت هذه الاية فى عمرة الحديبية فكانت الوحش و الطير و الصيد تغشاهم فى رحالهم لم يروا مثله قط فنهاهم اللّه عن قتلها و هم محرمون يعلم اللّه من يحافه بالغيب ١٢.

٩٥

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ يعنى الحيوان الممتنع المتوحش فى اصل الخلقة سواء كان ماكول اللحم او لا كذا فى القاموس و به قال ابو حنيفة رحمه اللّه غير انه خص منه ما ورد فى الحديث جواز قتلها و هى الحية و العقرب و الفارة و الحداة و الغراب و الذئب السبع العادي دون غير العادي فيجوز قتل الكلب لا سيما العقور و الظاهر انه صيد و استيناسها عارضى و قيل انه ليس بصيد فانه غير متوحش بالطبع فى الصحيحين عن ابن عمر سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عما يقتل المحرم من الدواب فقال لا جناح فى قتلهن على من قتلهن العقرب و الفارة و الغراب و الحداة و الكلب العقور و فيهما عن عائشة و عن حفصة نحوه قال ابن الجوزي المراد بالكلب السبع مطلقا لانه يطلق الكلب على السبع قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى قصة عتبة بن ابى لهب اللّهم سلط عليه كلبا من كلابك و قال اللّه تعالى من الجوارح مكلبين قال ابو حنيفة لو سلمنا جواز اطلاق الكلب على السبع لغة لكن فى العرف غلب استعماله فى الحيوان المخصوص و حمل الحديث على العرف العام اولى

و اخرج ابو عوانة فى المستخرج من طريق البخاري عن عائشة ذكر فيها ستا و زاد الحية و روى ابو داؤد من حديث ابى سعيد الخدري قال عليه السلام يقتل المحرم الحية و العقرب و الفويسقة و الكلب العقور و الحداة و السبع العادي و يرمى الغراب و لا يقتله و رواه الترمذي و لم يذكر السبع العادي و قال الحسن و يحمل الغراب المنهي عن قتله على غراب الزرع و روى ابن خزيمة و ابن المنذر من حديث ابى هريرة زيادة ذكر الذئب و النمر على الخمس المشهورة لكن قال ابن خزيمة ذكر الذئب و النمر من تفسير الراوي للكلب العقور و فى مرسل سعيد بن المسيب عن النبي صلى اللّه عليه و سلم يقتل المحرم الحية و الذئب أخرجه ابن ابى شيبة و سعيد بن منصور و ابو داؤد و رجاله ثقات

و اخرج مسلم عن عائشة ذكر أربعا و أسقط العقرب عن الخمس المشهور

فان قيل كيف يجوز تخصيص الكتاب على اصل ابى حنيفة بأحاديث الآحاد

قلنا هذه الحديث تلقته الامة بالقبول فصار فى حكم الحديث المشهور جاز به تخصيص الكتاب او يقال ثبت بالإجماع ان بعض الصيد يجوز قتله للمحرم فصار العام مخصوصا بالبعض فخصصناه بالأحاديث و قال الشافعي و احمد انما يحرم على المحرم قتل ما يحل أكله دون ما لا يحل أكله لان فى الأحاديث اعيان بعضها سباع ضارة و بعضها هو أم قاتلة و بعضها طير لا يدخل فى معنى السباع بل هو حيوان مستخبث اللحم فرتبنا الحكم على استخباث اللحم و خصصنا الاية بالقياس بعد التخصيص بالحديث قلت التعليل فى اباحة القتل باستخباث اللحم غير مناسب لعدم استلزامه المصلحة فلا يجوز القياس و المختار عندى للفتوى ما قال صاحب البدائع ان الحيوان البرى ينقسم الى ماكول و غير ماكول و الثاني الى ما يبتدى بالاذى غالبا و ما ليس كذلك و انما يجوز فى الإحرام قتل ما يبتدى بالاذى غالبا من غير المأكول و هى رواية عن ابى يوسف كذا فى فتاوى قاضى خان و مثله عن مالك و العلة المؤثرة فى القياس البداية بالاذى قلت و الإيذاء على انواع مختلفة فكان النبي صلى اللّه عليه و سلم نبه بالعقرب على ذوات السموم كالزنبور و كل ما يلدغ و بالفارة ما يشاركها فى النقب و التقرض كابن عرس و بالغراب و الحداة على ما يشاركهما فى الاختطاف كالصقر و بالكلب العقور على كل سبع عادى و السنور الأهلي ليس بصيد عند ابى حنيفة لعدم توحشها و الصحيح انها متوحشة و استيناسها عارضى بخلاف المتوحش من الانعام فانها مستأنسة خلقة.

(مسئلة) و يلتحق بقتل الصيد الاشارة اليه و الدلالة عليه للذى يريد قتله اجماعا لانه فى معنى القتل إذ هو ازالة الا من عن الصيد لانه أمن بتوحشه و بعده عن الأعين روى الشيخان فى الصحيحين حديث ابى قتادة و فيه أحرموا كلهم الا أبا قتادة لم يحرم فبينما هم يسيرون إذ راوا حمر وحش فحمل ابو قتادة على الحمر فعقر منها أتانا فاكلوا من لحمها الحديث و فيه فلما أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم امنكم أحد امره ان يحمل عليها او أشار إليها قالوا لا قال فكلوا ما بقي من لحمها ففى الحديث ان النبي صلى اللّه عليه و سلم علق اباحة الاكل بعدم الاشارة.

(مسئلة) و يلتحق بالصيد بيض الطائر و قال داؤد لا يضمن و سنذكر ما ورد من الحديث و الآثار فى ضمان البيص.

(مسئلة) اجمعوا على ان المحرم إذا اصطاد صيدا او ذبحه كان حكمه حكم الميتة لا يجوز أكله للحلال و لا للمحرم و قال الثوري و ابو ثور و طائفة يجوز أكله و هو كذبيحة السارق و هو وجه للشافعية لنا انه اثم فى ذبحه بمنزلة تارك التسمية عامدا فصار فى معنى ما ذبح فسقا اهل لغير اللّه بخلاف السارق فان الذبح له فى نفسه و انما المانع هناك حق العبد و هو ينجبر بالضمان.

(مسئلة) و ان اصطاده حلال و كان امره بالقتل محرم او دل عليه او أشار اليه يحرم أكله للمحرم لما ذكرنا من حديث ابى قتادة حيث علق النبي صلى اللّه عليه و سلم اباحة الاكل للمحرم بعدم الأمر و الاشارة و يجوز أكله للحلال اجماعا وَ مَنْ قَتَلَهُ يعنى الصيد مِنْكُمْ يعنى من المؤمنين المحرمين مُتَعَمِّداً قال سعيد بن جبير و داؤد و ابو ثور و ابو منذر من الشافعية و هى رواية عن احمد بن حنبل ان هذا القيد يفيد انه لا يجب الجزاء إذا قتل مخطيا او ناسيا إحرامه او مكرها او نحو ذلك

و قال مجاهد و الحسن انما الجزاء انما يجب إذا قتله عامدا فى قتله ناسيا إحرامه و اما إذا قتله ذاكرا إحرامه فلا حكم عليه و امره الى اللّه تعالى لانه أعظم من ان يكون له كفارة و جمهور العلماء و الائمة الاربعة على انه يجب الجزاء سواء قتله عامدا او ناسيا إحرامه او مكرها او مخطيا او جاهلا للحرمة قال الزهري الجزاء على المتعمد بالكتاب و على المخطى بالسنة و المفهوم ليس بحجة عند ابى حنيفة و عند القائلين به المفهوم دليل ظنى و منطوق الحديث أقوى منه و الإجماع أقوى من الكل لكونه دليلا قطعيا و استدل ابن الجوزي بحديث جابر قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن الضبع فقال هى صيد و جعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا رواه الترمذي و قال هذا حديث صحيح و الاستدلال بإطلاق الحكم قيل قوله تعالى متعمدا توطية لقوله تعالى و من عاد فينتقم اللّه منه.

(مسئلة) إذا دل المحرم على صيد «١» من يريد قتله باللسان او باليد يجب عليه الجزاء كما يجب بالقتل عند ابى حنيفة و احمد و قال مالك و الشافعي لا يلزم الجزاء على الدال و ان كان يا ثم كمن دل صائما على امرأة فجامعها لا يلزم الكفارة على الدال و لا يفسد صومه و لكن يأثم فكذا هاهنا لان الدلالة ليس بقتل و الجزاء انما هو على القتل بالنص

قلنا الدلالة فى معنى القتل و النبي صلى اللّه عليه و سلم سوى بين الاشارة و القتل كما مر فى حديث ابى قتادة و لانه محظورات الإحرام اجماعا فلو لم يجب عليه الجزاء لا يرتفع إثمه و يرتفع اثم القتل بالجزاء فيلزم مزية الدلالة على القتل

فان قيل فعلى هذا يلزم ان يجب الكفارة على الدال و ان لم يتعقبه القتل

قلنا الدلالة فانية ان يكون كالرمى الى الصيد من اسباب القتل و ذلك ليس بموجب للجزاء ما لم يتعقبه القتل فانه إذا لم يتعقبه القتل لم ينعقد سببا فَجَزاءٌ خبر مبتدأ محذوف يعنى فالواجب عليه جزاء او مبتدأ خبره ظرف مقدم عليه او فاعل ظرف مقدم عليه يعنى فعليه جزاء و الجملة خبر لمن و الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط قرا الجمهور مضافا الى مِثْلُ ما قَتَلَ قيل الاضافة بيانية و الظاهر انه اضافة المصدر الى مفعوله يعنى فعليه ان يجزى مثل ما قتل

و قرا الكوفيون فجزاء منونا و مثل مرفوعا بدلا منه او صفة له و مال القرائتين واحد معنى و المراد بالمثل القيمة عند ابى حنيفة و ابى يوسف لان المثل المطلق صورة و معنى هو المشارك فى النوع غير مراد هاهنا اجماعا فبقى ان يراد المثل معنى و هو القيمة و لان القيمة فى قتل بعض الصيد واجب اجماعا و هو ما لا يكون له مثل من النعم و ما كان أصغر من الحمامة كالعصفور و الجراد فلا بد ان يقال بوجوب القيمة فى الجميع كيلا يلزم الجمع بين الحقيقة و المجاز او عموم المشترك و لان المعهود فى الشرع فى اطلاق المثل ان يراد المشارك فى النوع او القيمة قال اللّه تعالى فى ضمان

(١) عن الحكم ان عمر كتب ان يحكم عليه فى جزاء الصيد فى الخطاء و العمد ١٢.

العدوان فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل اعتدى عليكم و المراد الأعم اعنى المماثل فى النوع إذا كان المتلف مثليا و القيمة إذا كان قيميا بناء على انه مشترك معنوى و فى الحيوانات أهدر المماثلة الكائنة فى تمام الصورة اجماعا تغليبا للاختلاف الباطني بين افراد نوع واحد فجعل من القيميات فما ظنك إذا انتفى المشاركة فى النوع ايضا و لم يكن هناك الا مشاكلة فى العوارض كطول العنق و الرجلين فى النعامة مع البدنة و ان يعب و يهدر فى الحمامة مع الشاة و عند مالك و الشافعي و احمد و محمد بن الحسن المراد بالمثل حيوان من النعم الاهلية يشابهه الصيد المقتول من حيث الخلقة لان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال الضبع صيد و فيه شاة رواه ابو داؤد عن عبد اللّه و كذا روى اصحاب السنن و الحاكم فى المستدرك و احمد و ابن حبان عن جابر و لفظ الحاكم الضبع صيد فاذا أصابه المحرم ففيه كبش و يوكل و قال صحيح الاسناد و روى مالك فى الموطأ و الشافعي بسند صحيح عن عمر بن الخطاب انه قضى فى الضبع بكبش و فى الغزال بمعز و روى الشافعي و البيهقي عن ابن مسعود قضى فى اليربوع بجفر او جفرة

و اخرج البيهقي عن ابن عباس قال فى حمامة الحرم شاة و فى البيضتين درهم و فى النعامة جزور و فى البقر بقرة و فى الحمار بقرة و روى الشافعي و البيهقي عن عثمان بن عفان انه قضى فى أم جنين بحلان من الغنم و لان قوله تعالى مِنَ النَّعَمِ اى الإبل او البقر او الغنم صفة لمثل بيان له و القيمة لا يكون من النعم و أجاب الحنفية عن استدلالهم بان التقديرات المذكورة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم و عن الصحابة انما هى باعتبار القيمة دون المشاكلة الصورية و بانا لا نسلم ان قوله تعالى من النعم صفة لمثل بل هو حال من الضمير المنصوب المحذوف اى مثل ما قتله حال كون المقتول من النعم اى ذات قوائم الأربع و النعم يطلق على الوحشي كما يطلق على الأهلي كذا قال ابو عبيدة و كذا فى القاموس و يرد عليه ان الكلام فى جزاء الصيد مطلقا سواء كان من النعم او من الطير فجعله حالا من المقتول ينافى المقصود قلت و عندى انه صفة لمثل و المراد بالمثل حيوان من النعم الاهلية يماثل المقتول فى القيمة دون بعض العوارض لما ذكر ابو حنيفة من الدليل فعندى انه إذا اختار الجاني الهدى فعليه ان يهدى من النعم الأهلي امثلها و أقربها قيمة من الصيد المقتول ففى حمار الوحش و بقر الوحش و كل ما زاد قيمته على قيمة الشاة سواء كانت قيمته مثل قيمة البقر او دونه يهدى بقرة جيدة او ردية بشرط ان لا يكون قيمة الهدى اقل من قيمة الصيد و فيما زاد على البقر فى القيمة سواء كان مثل البدنة فى القيمة او اقل منها يهدى بدنة و فيما زاد على البدنة يهدى شاة مع بدنة او بقرة و شاة او بدنة و بقرة او بدنتين او بقرتين او شاتين او نحو ذلك يعنى يكون قيمة الهدى مثل قيمة الصيد او اكثر منه و ما كان قيمته كقيمة الشاة جائز التضحية يهدى شاة كذلك و ما يكون قيمته اقل من قيمة الشاة كالضبع و الوبر و اليربوع و الغزال و أم جنين و الحرباء و الضب و الثعلب يهدى عناقا او جفرة او حملا اعنى ما يكون قيمته كقيمة الصيد او اكثر منه من نوع الغنم و فى الحمامة و ما دونه إذا اختار الهدى يهدى ادنى ما يطلق عليه اسم الشاة هذا على اصل الجمهور انه لا يشترط ان يكون الهدى جائز التضحية و هو المختار عندى للفتوى و اما على اصل ابى حنيفة رحمه اللّه فلا بد ان يهدى فى كل ما يكون قيمته اقل من قيمة الشاة شاة جائز التضحية و به قال مالك ان المقتول سواء كان صغيرا او كبيرا صحيحا او معيبا الواجب انما هو الهدى جائز التضحية الكبير الصحيح وجه قولهما ان مطلق الاسم ينصرف اليه و لذا لا يجوز فى هدى المتعة و سائر الجنايات فى الحج ان يهدى الا جائز التضحية لنا ان الصحابة رضوان اللّه عليهم أجمعين أوجبوا عناقا و جفرة و لا نسلم ان المذكور فى النص مطلق اسم الهدى حتى ينصرف الى الكامل كما فى هدى المتعة و نحوه بل المذكور هاهنا مثل ما قتل من النعم هديا فالمراد الهدى المماثل بالمقتول اما صورة كما قال الشافعي او قيمة كما

قلنا فلا وجه لايجاب الكبير جائز التضحية و ما ذكرنا من التفسير للاية لا يزاحمه اقوال الصحابة فان الصحابة انما حكموا فى الأرنب بعنز لأن العنز يماثل قيمة بقيمة الأرنب و فى الحمامة بشاة لان الشاة ادنى اقسام الهدى و أشبهها و أقربها بالحمامة قيمة بالنسبة الى البقرة و البدنة فلو أراد الهدى يهدى ادنى افراد الشاة و لا دليل على انهم اعتبروا المماثلة فى الخلقة

فان قيل روى البيهقي بسند حسن عن ابن عباس و روى ايضا من عطاء الخراسانى عن عمر و عثمان و على و زيد بن ثابت و ابن عباس و معاوية انهم قالوا فى النعامة يقتلها المحرم بدنة و رواه مالك من طريق ابى عبيدة بن عبد اللّه بن مسعود مكاتبة عن أبيه و قال مالك لم ازل اسمع ان فى النعامة بدنة و لا شك ان حكمهم فى النعامة ببدنة ليس الا لرعاية المشابهة فى طول العنق و الرجلين دون القيمة

قلنا فى الأثر ضعف و انقطاع و قال الشافعي هذا غير ثابت عند اهل العلم بالحديث و بالقياس

قلنا ان فى النعامة بدنة او يقال لعل بعض افراد النعامة فى بعض الازمنة بلغ قيمة شى ء من الإبل فحكم بعض الصحابة ان فى النعامة بدنة ثم تبعه جماعة من التابعين زعما منهم ان ذلك الصحابي انما حكم بالبدنة عملا بالمماثلة الصورية فشاع ذلك فيهم حتى قال مالك ثم ازل اسمع ان فى النعامة بدنة

فان قيل روى البيهقي عن عكرمة قال جاء رجل الى ابن عباس فقال انى قتلت أرنبا و انا محرم فكيف ترى فقال هى تمشى على اربع و العناق تمشى على اربع و هى تجتر «١» و العناق تجتر و يأكل الشجر و كذا العناق اهد مكانها عناقا و هذا صريح فى رعاية المماثلة الصورية و روى ابن ابى شيبة من طريق عطاء ان رجلا اغلق بابه على حمامة و فرخيها ثم انطلق الى عرفات و منى و رجع و قد ماتوا فاتى ابن عمر فجعل عليه ثلثة من الغنم و حكم معه رجل و روى الثوري و ابن ابى شيبة و الشافعي و البيهقي من حديث ابن عباس مثله و هذا ايضا يدل على ان وجوب الشاة فى الحمامة ليس من حيث القيمة و الا لكفت شاة واحدة فى ثلث حمامات و اكثر منها

قلنا نعم بعض الآثار تدل على رعاية المشابهة فى الصورة و ذلك عن راى لا عن رواية و ليس علينا اتباع بعض الصحابة مع مخالفة الكتاب و قد قال اللّه تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم و نحن نتيقن ان البدنة ليست مثلا للنعامة و لا الشاة للحمامة فى الصورة و لا فى المعنى و المشابهة فى بعض صفات لا يعبأ بها غير معتبرة عرفا و لغة و الا فجميع الحيوانات لا يخلوا عن مشابهة ما فى صفة من الصفات البتة يَحْكُمُ بِهِ اى بالجزاء او بالمثل ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ «٢» جملة واقعة صفة للجزاء او للمثل لان المثل لا يتعرف بالاضافة فجاز وصفها و وصف ما أضيف إليها بالجملة او حالا من ضمير الجزاء فى خبره او منه إذا رفعته بظرف على الفاعلية قال

(١) الاجترار كشيدن و نشخوار كردن شتر و چريدن ١٢.

(٢) عن ميمون بن مهران ان أعرابيا اتى أبا بكر فقال قتلت صيدا انا محرم فما ترى علىّ من الجزاء فقال ابو بكر و ابى بن كعب و هو جالس عنده ما ترى فيها فقال الاعرابى أتيتك و أنت خليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اسألك فاذا أنت تسأل غيرك فقال ابو بكر فما تنكر يقول اللّه عز و جل يحكم به ذوا عدل منكم فشاورت صاحبى حتى إذا اتفق على شى ء امرناك به و عن ابى بكر المزني قال كان رجلان محرمين فحاش أحدهما ظبيا فقتله الاخر و أتيا عمر و عبد الرحمن بن عوف عنده فقال له عمر ما ترى قال شاة قال و انا ارى ذلك فاهديا شاة فلما مضيا قال أحدهما لصاحبه مادرى امير المؤمنين ما يقول حتى سأل صاحبه فسمعها عمر فردهما و اقبل على القائل ضربا بالدرة قال تقتلون الصيد و أنتم حرم و تغمصون الفتيا ان اللّه تعالى يقول يحكم به ذوا عدل منكم ثم قال ان اللّه لم يرض لعمر وحده فاستعنت لصاحبى ١٢ منه.

اكثر الحنفية الواحد يكفى لاعتبار المماثلة كما روى عن كثير من الصحابة انهم حكموا وحدانا و الاثنان أحوط و ابعد من الغلظ و قال الشافعي و جمهور العلماء انه يشترط العدد و العدالة و هو المختار للفتوى اتباعا للنص و اقتداء بعمل الصحابة كما يشهد به الآثار روى مالك عن محمد بن سيرين ان عمر سأله رجل عن جزاء الظبى قال عمر لعبد الرحمن بن عوف تعال حتى احكم انا و أنت فحكما عليه بعنز فقال الرجل هذا امير المؤمنين لا يستطيع ان يحكم فى ظبى حتى دعا رجلا يحكم معه فسمع عمر قوله فدعاه فسأله هل تقرأ سورة المائدة فقال لا فقال عمر لو انك أخبرتني انك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضربا قال اللّه تعالى فى كتابه يحكم به ذوا عدل منكم.

(مسئلة:) اختلف القائلون بالمثل خلقة فقال مالك يحكم الحكمان فى كل زمان حكما مستانفا و قال أكثرهم ان الحكم فى ذلك ما حكم به السلف لا يتجاوز عنه و ما لم يحكموا فيه يستانف فيه الحكم و ما اختلف فيه مجتهد فيه و قال الثوري الاختيار فى ما اختلف فيه السلف الى الحكمين فى كل زمان و القران يبطل هذه الأقوال كلها فان الحكم فى كل زمان مستانفا غير مفيد عند اعتبار المماثلة خلقة إذ الخلقة لا تتفاوت و الاخذ بما حكم به السلف يرده قوله تعالى يحكم به ذوا عدل منكم فانه يقتضى ان يحكم العدلان فى كل زمان مستانفا و لو كان الحكم مرة يكفى للابد لحكم النبي صلى اللّه عليه و سلم فى جميع الصيود او فى اكثر منه و لم يحتج الى حكم الحكمين فى كل مرة فالاية دليل على ان المراد بالمثل هو المثل من حيث القيمة حتى يتصور الاحتياج الى حكم الحكمين فى كل زمان و مكان لاختلاف القيمة باختلاف الازمنة و الامكنة هَدْياً حال من الضمير الراجع الى الى الجزاء او الى المثل او من جزاء و ان نوّن لتخصيصه بالصفة او بدل عن مثل باعتبار محله قال الشافعي و غيره هذا يدفع قول ابى حنيفة ان المراد بالمثل القيمة فان القيمة لا يكون هديا قلت و لا يرد ذلك على ما ذكرت من التفسير للمثل بالحيوان من النعم يماثل الصيد فى القيمة فانه يكون هديا على انه لو كان المراد بالمثل القيمة كما قاله ابو حنيفة فيجوز ان يكون هديا حالا مقدرة اى صائرا ذلك القيمة هديا بواسطة الشراء بها لا يقال حينئذ يحتاج الى التقدير بقوله صائرا من غير ضرورة

قلنا الضرورة ثابتة لما ذكرنا و ايضا التقدير لازم على تفسير الشافعي ايضا إذ لا يصح حكمهما بالهدى موصوفا ببلوغه الى الكعبة حال حكمهما به على التحقيق فالتقدير على تفسيركم انه يحكمان به مقدرا بلوغه فلزوم التقدير ثابت غير انه يختلف محله على الوجهين.

(مسئلة:) هل يجب فى الهدى السوق أم يجوز ان يشترى بمكة فقال مالك يجب فيه السوق عملا بظاهر قوله تعالى هديا بالِغَ الْكَعْبَةِ وصف به هديا لان إضافته لفظية و قال الجمهور لا يجب السوق بل انما ذكر قوله هديا بالغ الكعبة للدلالة على ان الحرم شرط لذبح الهدى و عليه انعقد الإجماع و كونه مهدى من خارج غير مقصود قلت و الدليل على ان السوق ليس بشرط قصة حجة الوداع ان النبي صلى اللّه عليه و سلم لما قدم مكة قال للناس من كان منكم اهدى فانه لا يحل من شى ء حرم منه حتى يقضى حجه و من لم يكن منكم اهدى فليطف بالبيت و بالصفا و المروة و ليقصر و ليحلل ثم ليهل بالحج و ليهدو من لم يجد هديا فليصم و هذا صريح فى ان بعض الصحابة لم يسق الهدى و اشتروا هديا بمكة و من لم يجد هديا صام و قد سماه النبي صلى اللّه عليه و سلم هديا حيث قال ثم ليهل بالحج و ليهدو قد قال اللّه تعالى فى التمتع ايضا فما استيسر من الهدى و ما قاله مالك فيمن اشترى الهدى من الحرم الواجب ان يخرج به إذا حج الى عرفة امر لا دليل عليه.

(مسئلة) هل يجب التصدق بلحم الهدى على فقراء مكة فقال الجمهور يجب ذلك لان صفة بلوغ الهدى الكعبة يشعر ان ينفق اللحم على مساكين الحرم و قال ابو حنيفة لا يجب ذلك بل يتصدق على من يشاء من المساكين فى الحرم و غيره لان الذبح عبادة غير معقولة فلا بد فيه من رعاية المكان حتى انه من ذبح فى غير الحرم لا يجزيه الا ان يبلغ اللحم قيمة الصيد فينفقه بنية الإطعام و اما انفاق اللحم فعبادة معقولة و لا دليل على التخصيص بمساكين الحرم و ما ذكروا من الاشعار ممنوع أَوْ كَفَّارَةٌ عطف على جزاء قرا نافع و ابن عامر بالاضافة الى طَعامُ مِسْكِينٍ اضافة بيانية و الباقون بتنوين كفارة و رفع طعام على انه عطف بيان او بدل منه او خبر مبتدأ محذوف اى هى طعام مساكين و كلمة او للتخيير «١» تفيد ان الجاني مخير

(١) و العطف بكلمة او للتخيير اى تخيير الجاني بين الخصال الثلاثة تخفيفا عليه كما فى خصال كفارة اليمين هذا عند ابى حنيفة و ابى يوسف رح و قال محمد و الشافعي رح الخيار فى تعيين شى ء من الخصال الى الحكمين و لا دليل لهذا القول فى الاية بل الاية تدل على ان المراد بالمثل القيمة و تقدير القيمة مفوض الى الحكمين فاذا حكما بمقدار القيمة فالخيار الى الجاني ان شاء يشترى بها هديا بالغ الكعبة و ان شاع يشترى بها طعاما للمساكين و ان شاء صام مكان كل مسكين يوما و لا مدخل للحكمين فى التعيين فان الحاكم هو اللّه لا غير و انما التخيير للتخفيف رحمة من اللّه تعالى و ذلك فى تخيير الجاني ١٢ منه.

بين ان يجزى مثل ما قتل من النعم و بين ان يكفر فيطعم المساكين و بين ان يصوم و قال الشعبي و النخعي جزاء الصيد على الترتيب و الاية حجة لنا عليهما.

(مسئلة) اجمعوا على ان بناء الإطعام على القيمة و على ان الصيد إذا لم يكن له مثل من النعم فالمعتبر قيمة الصيد يشترى به طعاما و اما إذا كان له مثل من النعم فعند الجمهور يعتبر قيمة مثله لا قيمته لان الواجب عندهم المثل لا قيمة الصيد و الإطعام بدل عنه فمن قتل حمامة و اختار الإطعام يطعم عندهم قيمة شاة لا قيمة حمامة إذا النظير هو الواجب عينا و عند ابى حنيفة رح يعتبر قيمة الصيد مطلقا لانها هو الواجب عنده و اما على ما قلت ان الواجب على تقدير اختيار الهدى مثله من النعم فالمراد مثله فى القيمة فما زاد الهدى على قيمة الصيد انما التزمه تطوعا او لزمه ضرورة عدم التجزى فى الهدى و لا ضرورة و لا التزام عند اختيار الإطعام فيعتبر قيمة الحمامة لا قيمة الشاة لان المتلف هو المضمون فلا معنى لتقويم غيره لجبره و لا نسلم ان النظير هو الواجب عينا فانه من قتل حمامة لو اهدى بعيرا أجزأه البتة و لو كانت الشاة هى الواجبة عينا لم يجزه البعير على ان القول بان النظير هو الواجب عينا لا يتصور الا إذا كان الواجب على الترتيب كما قال الشعبي و النخعي فيجب اولا النظير فان لم يجد النظير يقضيه بالاطعام و ان لم يجد فبالصيام قضاء غير معقول و ليس كذلك بل الواجب أحد الخصال الثلاثة على التخيير كما ذكرنا فاعتبار احدى الخصال فى الاخرى بلا دليل شرعى باطل و انما اعتبر قدر الإطعام فى الصيام بقوله تعالى أَوْ عَدْلُ ذلِكَ الطعام صِياماً معطوف على جزاء قال الفراء العدل بالكسر المثل من جنسه و بالفتح المثل من غير جنسه.

(مسئلة:) اختلفوا فى مقدار طعام كل مسكين فقال الشافعي ليطعم كل مسكين مدا كما هو كذلك عنده فى كفارة الصوم و الظهار و اليمين و قال ابو حنيفة يطعم كل مسكين نصف صاع من بر او صاعا من شعير او تمر كما هو عنده فى صدقة الفطر و حمل على ذلك الكفارات كلها و الاولى ان يقال نصف صاع من غالب قوت البلد للاجماع على انه هو المقدار للاطعام فى باب الجنايات إذا حلق المعذور راسه حيث امر النبي صلى اللّه عليه و سلم كعبا بتفريق الفرق بين ستة و قد مر الحديث فى سورة البقرة و الحمل على هذا اولى من الحمل على صدقة الفطر لاتحاد جنس الجناية و يشترط عند الجمهور للاطعام مساكين الحرم كما فى انفاق لحم الهدى و لا يشترط ذلك عند ابى حنيفة لما

قلنا.

(مسئلة:) و لو كان قيمة الصيد اقل من طعام مسكين واحد او فضل شى ء يسير من طعام مسكين او مساكين يعطى ذلك القدر اليسير مسكينا و لا يجب عليه جبر الكسر اجماعا و ان صام عنه صام يوما لان الصوم لا يتجزى و كذا لو اهدى يهدى ادنى ما يطلق عليه اسم الشاة على ما قلت و شاة جائز للتضحية عند ابى حنيفة و مالك لِيَذُوقَ متعلق بمحذوف يعنى أوجبنا ذلك الجزاء او الكفارة ليذوق الجاني وَبالَ أَمْرِهِ اى ثقل فعله و سوء عاقبته هتكه حرمة اللّه و اصل الوبل الثقل يقال طعام و بيل اى ثقيل و منه أخذناه أخذا و بيلا عَفَا اللّه عَمَّا سَلَفَ من قتل الصيد محرما فى الجاهلية او قبل التحريم او فى هذه المرة وَ مَنْ عادَ الى قتل الصيد بعد ذلك المرة فَيَنْتَقِمُ اللّه مِنْهُ خبر مبتدأ محذوف تقديره فهو ينتقم اللّه منه لان الفاء لا تدخل على المضارع إذا وقع جزاء ذهب ابن عباس على ظاهر هذه الاية حيث روى عنه انه إذا قتل المحرم صيدا متعمدا يسأله هل قتلت قبله شيئا من الصيد فان قال نعم لم يحكم و قال له اذهب فينتقم اللّه منك و ان قال لم اقتل قبله شيئا من الصيد حكم عليه فان عاد بعد ذلك لم يحكم عليه و لكن يملأ ظهره و صدره ضربا وجيعا كذا

قال البغوي قلت و الاولى ان يقال فى تفسير الاية عفا اللّه عما سلف بأداء الجزاء و من عاد فينتقم اللّه منه يعنى يوجب عليه الجزاء مرة ثانية فان لم يود الجزاء يعذبه فى الاخرة وَ اللّه عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ ممّن أصر على عصيانه.

٩٦

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ اى الاصطياد «١» من البحر لانه هو المراد من صيد «٢» البر كما سنذكر وَ طَعامُهُ

(١) و عن انس عن ابى بكر الصديق فى الاية قال صيده ما حويت عليه و طعامه ما لفظ إليك رواه ابو الشيخ ١٢ منه.

(٢) عن الحارث بن نوفل قال حج عثمان بن عفان فاتى بلحم صيد صاده حلال فاكل منه عثمان و لم يأكل على فقال عثمان و اللّه ما صدنا و لا أمرنا و لا أشرنا فقال على و حرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما و عن الحسن ان عمر بن الخطاب لم يكن يرى بأسا بلحم الصيد للمحرم إذا صيد لغيره و كرهه ابن ابى طالب رواه ابن ابى شيبة ١٢ منه.

اى ما يطعم منه الضمير اما عائد الى الصيد او الى البحر اى ما يطعم من صيد البحر او من البحر و قيل المراد بصيد البحر كل حيوان لا يعيش الا فى الماء و طعامه أكله و احتج به مالك على جواز أكل كل حيوان بحرى و قد مرت المسألة فى أول السورة و قال عمر رضى اللّه عنه صيد البحر ما اصطيد و طعامه ما رمى به و عن ابن عباس و ابن عمر و ابى هريرة طعامه ما قذفه الماء الى الساحل ميتا و قال سعيد بن جبير و سعيد بن المسيب و عكرمة و قتادة و النخعي و مجاهد صيده طريه و طعامه مالحه مَتاعاً لَكُمْ مفعول له لاحلّ يعنى أحل ذلك تمتيعا لكم اى للمقيمين منكم يأكلونه طريا وَ لِلسَّيَّارَةِ اى للمسافرين منكم يتزودونه قد يدا وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً قيل معنى الاية حرم صيد البر مطلقا على المحرم و ان اصطاده حلال من غير امر المحرم و لا اعانته و لا إشارته و لا لاجله يروى ذلك عن ابن عباس و هو قول طاووس و سفيان الثوري و يويده حديث ابن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي انه اهدى لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حمارا وحشيا و هو بالأبواء او بودان فرد عليه فلما رأى ما فى وجهه قال انا لم نرده عليك الا انا حرم متفق عليه و عند النسائي لا تأكل الصيد و فى رواية سعيد عن ابن عباس لو لا انا محرمون لقبلناه منك و أجيب بما ترجم البخاري فى الباب انه حمل الحديث على ان الحمار كان حيا و المحرم لا يجوز له ذبح الصيد الحي كذا نقلوا التأويل عن مالك و هذا التأويل لا يصح لانه رواه إسحاق فى مسنده بسنده عن موسى عن محمد بن عمرو بن علقمة عن الزهري فقال لحم حمار

و اخرج الطبراني عن الزهري فقال رجل حمار وحش و فى رواية عند مسلم عجز حمار وحش تقطر دما و فى رواية عند مسلم رجل حمار وحش

و اخرج مسلم من طريق حبيب بن ابى ثابت عن سعيد فقال تارة حمار وحش و تارة شق حمار وحش و اتفقت الروايات كلها على انه رده الا ما رواه وهب و البيهقي من طريقه بإسناد حسن من طريق عمرو بن امية ان النبي صلى اللّه عليه و سلم اهدى له عجز حمار وحش و هو بالجحفة فاكل منه و أكل القوم و الجمع بينهما بالحمل على القصتين اولى لان القصة المروية فى الصحيحين كانت بالأبواء او بودان و فى رواية وهب انه بالجحفة و بين الجحفة و الأبواء ثلثة و عشرون ميلا و بين جحفة و ودان ثمانية أميال و فى الباب حديث على قال انشد من كان هاهنا من أشجع أ تعلمون ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اهدى اليه عضو صيد فلم يقبله قال انا حرم قال نعم رواه ابو داؤد و الطحاوي و روى مسلم نحوه لكن اجمع المسلمون بعد القرن الاول ان ما صاده الحلال لاجل نفسه يحل للمحرمين أكله و قد صح الأحاديث ان النبي صلى اللّه عليه و سلم أكل من لحم الصيد و امر أصحابه باكله منها حديث ابى قتادة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كلوا ما بقي من لحمها و فى بعض الروايات الصحيحة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم أكلها و منها ما ذكرنا من حديث الصعب بن جثامة انه وقع فى بعض رواياته ان النبي صلى اللّه عليه و سلم أكل منها و منها ما رواه مسلم عن معاذ ابن عبد الرحمن بن عثمان التيمي عن أبيه قال كنا مع طلحة بن عبد اللّه و نحن حرم فاهدى له طير و طلحة راقد فمنا من أكل و منا من تورع فلما استيقظ طلحة وافق من أكله و قال أكلناه مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و منها حديث عمرو بن سلمة الضميري عن البهزى ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خرج يريد مكة و هو محرم حتى إذا كان بالروحا إذا حمار وحشي عقير فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم دعوه فانه يوشك ان يأتى صاحبه فجاء البهزى و هو صاحبه فقال يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم شانكم بهذا الحمار فامر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أبا بكر فقسمه بين الرفاق الحديث رواه مالك و اصحاب السنن و صححه ابن خزيمة فتفسير الاية و حرم عليكم صيد البر أي اصطياده.

(مسئلة) ما اصطاد الحلال لاجل المحرم اختلف فيه فقال ابو حنيفة يحل أكله مطلقا حتى يحل لمن صيد لاجله ايضا و قال مالك لا يحل أكله لا للحلال و لا للمحرم و قال الشافعي و احمد ما صيد لاجل المحرم قبل إحرامه او بعده يحرم على ذلك المحرم أكله و لا يحرم أكله لغير المحرم و لا لمن لم يصد له من المحرمين و مذهب الشافعي و احمد مروى عن عثمان روى مالك فى الموطإ عن عبد اللّه بن ابى بكر عن عبد اللّه بن عامر قال رايت عثمان بن عفان بالعرج و هو محرم فى صائف قد غطى وجهه بقطيفة ثم اتى بلحم صيد فقال لاصحابه كلوا فقالوا اولا تأكل أنت قال لست كهيئتكم انما صيد من اجلى و ما روى عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه أكل من لحم الصيد و روى انه رده و لم يأكله قال الائمة الثلاثة وجه الجمع بين الروايتين انه أكل ما صاده الحلال لاجل نفسه و لم يأكل ما صاد لاجل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم او لغيره من المحرمين

قلنا لا دليل فى شى ء من الأحاديث المذكورة على هذا التفصيل و وجه الجمع عندى ان أكل لحم الصيد مطلقا إذا صاده الحلال مباح للمحرم لكن تركه أفضل فبالاكل تارة علّم النبي صلى اللّه عليه و سلم الجواز و بترك الاكل منه اخرى نبه على الاستحباب

فان قيل إذا تعارض الأحاديث و لا ترجيح كان القياس الاخذ بالمحرم احتياطا

قلنا نعم لكنا انما لم نقل هكذا حتى لا يلزمنا مخالفة الإجماع فانهم اجمعوا على ان أكل بعض الصيد للمحرم حلال احتج الائمة الثلاثة على حرمة ما صيد لاجل المحرم بحديث جابر ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال صيد البر لكم حلال و أنتم حرم ما لم تصيدوا او يصاد لكم أخرجه الترمذي و النسائي و ابن خزيمة و احمد نحوه قال مالك سوى النبي صلى اللّه عليه و سلم بين ما صاده المحرم و ما صيد له حالة إحرامه فثبت ان ما صيد لاجل المحرم حكمه حكم ما صاده المحرم بنفسه فهو حرام على جميع الناس كالميتة و قال الشافعي و احمد ان انقسام الآحاد على الآحاد يقتضى ان كل محرم يحرم عليه ما صاده و ما صيد له و اما ما صاده محرم غيره او حلال او صيد لغيره من محرم او حلال فلا يثبت من هذا الحديث فيه شى ء و انما يعرف حكمه من خارج و

قلنا هذا الحديث لا يصلح للاحتجاج فان مداره على عمرو بن ابى عمرو فرواه احمد عنه عن رجل من الأنصار عن جابر و رواه الترمذي و غيره عنه عن المطلب عن جابر ففى رواية احمد راوى عن جابر مجهول و فى رواية الترمذي قال الترمذي لا يعرف للمطلب سماع من جابر ثم عمرو بن ابى عمرو و هو مولى المطلب قال يحيى بن معين لا يحتج بحديثه و قال مرة هو و ابو داؤد انه ليس بالقوى لكن قال احمد ما به بأس ثم هو استدلال بمفهوم الغاية و الاستدلال بالمفهوم لا يجوز عندنا و قد يحتجون بحديث ابى قتادة قال خرجت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم زمن الحديبية فاحرم أصحابي و لم احرم فرايت حمارا فحملت عليه فاصطدته فذكرت شانه لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ذكرت انى لم أكن أحرمت و انى انما اصطدته لك فامر النبي صلى اللّه عليه و سلم أصحابه فاكلوا او لم يأكل منه حين أخبرته انى اصطدته لك أخرجه إسحاق و ابن خزيمة و الدارقطني و الجواب انه قال ابن خزيمة و ابو بكر النيسابورى و الدارقطني انه تفرد بهذه الزيادة معمر و لا اعلم أحدا ذكر قوله اصطدته لك و قوله و لم يأكل منه غيره فلعل هذا من اوهامه قال الذهبي معمر بن راشد له أوهام قلت و قد ورد فى الروايات المتفقة على صحتها ان النبي صلى اللّه عليه و سلم أكلها و ما استدلوا برواية معمر حجة على مالك لا له حيث قال فامر أصحابه فاكلوا فان مالكا يجعل ما صيد لاجل المحرم حراما على جميع الناس.

وَ اتَّقُوا اللّه الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ

٩٧

جَعَلَ اى صير اللّه الْكَعْبَةَ سميت لتربعها و العرب تسمى كل بيت مربع كعبة و قال مقاتل سميت كعبة لانفرادها من البناء و قيل سميت كعبة لارتفاعها من الأرض و أصلها الخروج و الارتفاع و منه سمى الكعب فى الرجل كعبا لارتفاعه من جانبى القدم و منه قيل للجارية إذا قاربت البلوغ و خرج ثديها تكعبت الْبَيْتَ الْحَرامَ عطف بيان على جهة المدح او بدل او المفعول الثاني سمى به لان اللّه حرمه و عظم حرمته قال النبي صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه حرم مكة يوم خلق السموات و الأرض قِياماً لِلنَّاسِ منصوب على انه مفعول ثان او حال قرا ابن عامر قيما بلا الف و الباقون بالألف اى قواما لهم و هو ما يقوم به امر دينهم و دنياهم اما الدين فلان به يقوم الحج و المناسك و اما الدنيا فلانهم كانوا يأمنون فيه من النهب و الغارة و لا يتعرض أحد لهم فى الحرم وَ الشَّهْرَ الْحَرامَ يعنى جنس الأشهر الحرم و هى رجب و ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم جعلها قياما للناس يأمنون فيه من القتال وَ الْهَدْيَ وَ الْقَلائِدَ سبق تفسيرها فى اوّل السورة يأمنون الناس بها من التعرض ذلِكَ اشارة الى الجعل او الى ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام و غيره و قال الزجاج راجع الى ما سبق فى هذه السورة من الاخبار عن الغيوب و كشف الاسرار مثل قوله سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين و مثل اخباره بتحريفهم الكتب و نحو ذلك لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّه يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فان شرع الاحكام لدفع المضار قبل وقوعها و جلب المنافع المترتبة عليهما دليل على حكمة الشارع و كمال علمه و كذا الاخبار بالغيب دليل على علمه الكامل الشامل وَ أَنَّ اللّه بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ تعميم بعد تخصيص و مبالغة بعد اطلاق.

٩٨

اعْلَمُوا أَنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقابِ وَ أَنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ وعد و وعيد لمن انتهك محارمه و لمن حافظ عليها و لمن أصر عليها و لمن انقلع عليها اخرج ابو الشيخ عن الحسن ان أبا بكر الصديق حين حضرته الوفاة قال الم تر ان اللّه ذكر اية الرخاء عند اية الشدة و اية الشدة عند اية الرخاء ليكون المؤمن راغبا راهبا لا يتمنى على اللّه غير الحق و لا يلقى بايديه الى التهلكة.

٩٩

ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ و قد فرغ الرسول ما وجب عليه من التبليغ و قامت عليكم الحجة و لا عذر لكم فى التفريط فيه تشديد فى إيجاب القيام بما امر به وَ اللّه يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ من تصديق و تكذيب و فعل و عزيمة اخرج الواحدي و الاصبهانى فى الترغيب عن جابر ان النبي صلى اللّه عليه و سلم ذكر تحريم الخمر فقام أعرابي فقال انى كنت رجلا كانت هذه تجارتى فاعتقيت منها ما لا فهل ينفع ذلك المال ان عملت فيه بطاعة اللّه فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه لا يقبل الا الطيب فانزل اللّه تصديقا لرسوله.

١٠٠

قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ «١» وَ الطَّيِّبُ

(١) اخرج ابن ابى حاتم ثنا يونس بن عبد الأعلى ثنا ابن وهب ثنى يعقوب الإسكندر انى قال كتب الى عمر بن عبد العزيز بعض عماله ان الخراج قد انكسر فكتب اليه عمر ان اللّه يقول لا يستوى الخبيث و الطيب و لو أعجبك كثرة الخبيث فان استطعت ان تكون فى العدل و الإحسان و الإصلاح بمنزلة من كان قبلك فى الظلم و الفجور و العدول فافعل و لا قوة الا باللّه ١٢ منه.

لفظه عام فى نفى المساوات عند اللّه بين الردى من الاشخاص و الأعمال و بين جيدها رغب به فى صالح العمل و الحلال من المال وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فان العمل القليل الصّالح بالإخلاص خير من كثير بلا اخلاص و انفاق مال قليل حلال خير من الكثير الحرام عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من تصدق بعدل تمرة و لا يقبل اللّه الا الطيب فان اللّه يقبلها بيمينه و يربيها لصاحبه كما يربى أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل متفق عليه و المخلصون و الصالحون من الناس خير عند اللّه من ملأ الأرض من الخبيثين عن سهل بن سعد قال مر رجل على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال لرجل عنده جالس ما رأيك فى هذا فقال رجل من اشراف الناس هذا و اللّه حرى ان خطب ان ينكح و ان شفع ان يشفع قال فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثم مر رجل فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما رأيك فى هذا فقال يا رسول اللّه رجل من فقراء المسلمين هذا حرى ان خطب ان لا ينكح و ان شفع ان لا يشفع و ان قال لا يسمع لقوله فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هذا خير من ملأ الأرض مثل هذا متفق عليه فَاتَّقُوا اللّه حتى تكونوا عند اللّه من الطيبين و اثروا الطيب و ان قل من العمل و المال على الخبيث و ان كثر

قال البغوي يعنى فاتقوا اللّه و لا تتعرضوا للحجاج و ان كانوا مشركين و قد مضت قصة شريح فى اوّل السورة يا أُولِي الْأَلْبابِ اصحاب العقول السليمة لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ع اى راجين ان تبلغوا الفلاح بالتقوى روى احمد و الترمذي و الحاكم عن على عليه السلام و ابن جرير مثله من حديث ابى هريرة و ابى امامة و ابن عباس انه لما نزلت و للّه على الناس حج البيت قالوا يا رسول اللّه فى كل عام فسكت قالوا يا رسول اللّه فى كل عام قال لا و لو قلت نعم لوجبت و فى رواية قال النبي صلى اللّه عليه و سلم ما يومنك ان أقول نعم و اللّه لو قلت نعم لوجبت و لو وجبت ما استطعتم فاتركونى ما تركتكم فانما هلك من كان قبلكم بكثرة سوالهم و اختلافهم على أنبيائهم فاذا أمرتكم بشئ فاتوا منه ما استطعتم و إذا نهيتكم عن شى ء فاجتنبوه فانزل اللّه تعالى عز و جل.

١٠١

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ و القائل عكاشة بن محصن كذا فى حديث ابى هريرة عند ابن جرير يعنى لا تسألوا عن أشياء يشق عليكم إتيانها كالحج فى كل عام قال الخليل و سيبويه و جمهور البصريين أصله شئياء على وزن فعلاء بهمزتين بينهما الف و همزته الثانية للتأنيث و لذا لم ينصرف كحمراء و هى مفردة لفظا جمع معنى يعنى اسم جمع و لما استثقلت الهمزتان المجتمعان قدمت الاولى التي هى لام الكلمة فجعلت قبل الشين فصار و زنها لفعاء و قيل أصله أشياء على وزن افعلاء جمع لشى ء على ان أصله شيئ كهيئ او شييئ كصديق فخفف و قيل افعال جمع لشئ من غير تغيير كبيت و أبيات و منع عن الصرف على الشذوذ لعدم السببين إِنْ تُبْدَ لَكُمْ اى تظهر لكم ذلك الأشياء الشاقة بان تومروا بإتيانها تَسُؤْكُمْ اى تغمكم و يصعب عليكم إتيانها وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها عن هذه التكليفات الشاقة حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ و الرسول بين أظهركم تُبْدَ لَكُمْ يعنى يحتمل ان تبد لكم و تومروا بما سألتم من التكاليف الشاقة الجملتان الشرطيتان المتعاطفتان صفتان لاشياء و هما كالمقدمتين المنتجتين لمنع السؤال.

(مسئلة) الأمر المطلق لا يقتضى التكرار على اصل ابى حنيفة و لا يحتمله فمعنى قوله صلى اللّه عليه و سلم لو قلت نعم لوجبت و قوله تعالى ان تبد لكم تسؤكم انه لو قال النبي صلى اللّه عليه و سلم نعم يجب الحج كل عام و يظهر ذلك الأمر لكان ناسخا للامر المطلق لا بيانا له و يدل عليه قوله تعالى و ان تسألوا عنها حين ينزل القران تبد لكم فانه لو كان بيانا لامتنع تاخره عن وقت الحاجة من غير سؤال و لان البيان قد يكون بالعقل و التأمل و تتبع اللغة و بما ذكرنا ظهر ان السؤال و الاستفسار للمجمل او المشكل او الخفي لا بأس به قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انما شفاء العي السؤال و انما الممنوع السؤال عن تكليف لم يرد الشرع به كالحج فى كل عام و كالسؤال عن لون البقرة المامورة ذبحها لبنى إسرائيل و نحو ذلك عَفَا اللّه عَنْها اى عن الأشياء الشاقة المذكورة حيث لم يأمر بإتيانها صفة اخرى لاشياء و جاز ان يكون استينافا اى عفا اللّه عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا الى مثلها وَ اللّه غَفُورٌ حَلِيمٌ لا يعاجلكم بتفريط و افراط منكم و يعفوا.

١٠٢

قَدْ سَأَلَها «١» الضمير راجع الى الأشياء بحذف الجار اى عنها او الى المسألة التي دل عليها لا تسألوا «٢» فلم يعد بعن قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ

قال البيضاوي الظرف متعلق بسألها و ليس صفة لقوم لان ظرف الزمان لا يكون صفة الجثة و لا حالا منها و لا خبرا عنها و قيل فيه نظر لان الظرف يسند الى الجثة التي لا يتعين وجودها فيه نحو الهلال يوم الجمعة فيصح كونه صفة لقوم سأل بنو إسرائيل حين أمروا بذبح البقرة بما هى و ما لونها و ما هى فشق ذلك عليهم و سأل ثمود صالحا الناقة و قوم عيسى المائدة و سأل بنو إسرائيل بعد موسى ابعث لنا ملكا نقاتل فى سبيل اللّه مع جالوت ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها اى بمسبها كافِرِينَ حيث لم يأتمروا بما أمروا بعد سوالهم قال ابو ثعلبة الخشني ان اللّه فرض فرايض فلا تسبقوها يعنى بالسؤال و نهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدود أ فلا تعتدوها

(١) قال قتادة فى قراءة ابى بن كعب قد سألها قوم بنيت لهم فاصبحوا بها كافرين أخرجه ابن جرير و ابن المنذر و غيرهما ١٢ منه.

(٢) عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خرج و هو غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر فقام اليه رجل فقال اين ابائى قال فى النار فقام اخر فقال من ابى فقال أبوك فلان فقام عمر بن الخطاب فقال رضينا باللّه ربا و بالإسلام دينا و بمحمد نبيا و بالقران اماما انا يا رسول اللّه حديث عهد بالجاهلية و الشرك و اللّه اعلم من آبائنا فسكن غضبه و نزلت يا ايها الذين أمنوا لا تسألوا عن أشياء الاية ١٢ منه.

و عفا عن أشياء بغير نسيان فلا تبحثوا عنها و روى البخاري عن قتادة عن انس بن مالك قال سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتى احفوه بالمسألة فغضب فصعد المنبر فقال لا تسألونى اليوم عن شى ء إلا بينته لكم فجعلت انظر يمينا و شمالا فاذا كل رجل لان راسه فى ثوبه يبكى فاذا رجل كان إذا لاحى الرجال يدعى لغير أبيه فقال يا رسول اللّه من ابى قال حذافة ثم انشأ عمر فقال رضينا باللّه ربا و بالإسلام دينا و بمحمد رسولا نعوذ باللّه من الفتن فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما رايت فى الخير و الشر كاليوم قط انه صورت لى الجنة و النار حتى رايتهما وراء الحائط و كان قتادة يذكر عند هذا الحديث هذه الاية يا ايها الذين أمنوا لا تسألوا عن أشياء الاية و قال يونس عن ابن شهاب أخبرني عبيد اللّه بن عبد اللّه قالت أم عبد اللّه بن حذافة لعبد اللّه بن حذافة ما سمعت بابن قط اعق منك امنت ان تكون أمك قد فارقت بعض ما تقارف نساء اهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس قال عبد اللّه بن حذافة و اللّه لو الحقنى بعبد اسود للحقته و روى ان عمر قال يا رسول اللّه انا حديث العهد بالجاهلية فاعف عنا يعف اللّه سبحانه عنك فسكن غضبه و روى البخاري ايضا عن ابن عباس قال كان قوم يسألون رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم استهزاء فيقول الرجل من ابى و يقول الرجل ضلت ناقة اين ناقتى فانزل اللّه تعالى هذه الاية قال الحافظ ابن حجر لا مانع ان تكون نزلت فى الامرين و حديث ابن عباس فى ذلك أصح اسنادا قلت و قصة السؤال عن الحج فى كل عام أوفق بسياق الكتاب و انكانت الاية نزلت فى السؤال عن أبيه فمعنى لا تسألوا عن أشياء ان تبد لكم تسؤكم انه ان تبد لكم نسبكم الى غير أبيكم تفضحوا و تسؤكم

و قال مجاهد هذه الاية نزلت حين سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن البحيرة و السائبة و الوصيلة و الحام الا تراه ذكرها.

١٠٣

ما جَعَلَ اللّه مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ كلمة من زائدة يعنى ما شرع هذه الأشياء و وضع لها احكاما قال ابن عباس البحيرة الناقة التي ولدت خمسة ابطن كانوا بحروا اذنها اى شقوها و تركوا الحمل عليها و لم يركبوها و لم يجزوا وبرها و لم يمنعوها الماء و الكلاء فان كان خامس ولدها ذكرا نحروه و أكله الرجال و النساء و ان كان أنثى بحروا اذنها اى شقوها قال ابو عبيدة السائبة البعير الذي يسيب و ذلك ان الرجل من اهل الجاهلية إذا مرض او غاب له قريب نذر فقال ان شفانى اللّه او شفى مريضى أورد غائبى فناقتى هذه سائبة ثم تسيب فلا تحبس عن رعى و ماء و لا يركبها أحد فكانت بمنزلة البحيرة و قيل الناقة إذا نتجت ثنتى عشرة إناثا سيبت و لم يركب ظهرها و لم يجز و برها و لم يشرب لبنها الا ضيف فما نتجت بعد ذلك شق اذنها ثم خلى مع أمها فهى البحيرة بنت السائبة فعل بها كما فعل بامها و قال علقمة العبد يسيب على ان لا ولاء عليه و لا عقل و لا ميراث و قال عليه السلام الولاء لمن أعتق و السائبة الفاعلة بمعنى المفعولة و هى المسيبة نحو عيشة راضية اى مرضية و اما الوصيلة فمن الغنم كان الشاة إذا ولدت سبعة ابطن نظروا فان كان السابع ذكرا ذبحوه فاكله الرجال و النساء و ان كانت أنثى تركوها فى الغنم و انكانت ذكرا مع أنثى استحيوا الذكر من أجل الأنثى و قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوه و كان لبن الأنثى حراما على النساء فان مات منها شى ء أكله الرجال و النساء جميعا و اما الحام فهو الفحل إذا ركب ولد ولده و يقال إذ انتج من صلبه عشرة ابطن قالوا حمى ظهره فلا يركب و لا يحمل عليه و لا يمنع من كلأ و لا ماء فاذا مات أكله الرجال و النساء روى البخاري عن سعيد بن المسيب قال البحيرة التي تمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس و السائبة كانوا يسيبونها لالهتهم لا يحمل عليها شى ء و الوصيلة الناقة البكر تبكر فى أول نتاج الإبل ثم تثنى بعده بالأنثى و كانوا يسيبونها لطواغيتهم ان وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر و الحام فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فاذا قضى ضرابه دعوه للطواغيت و اعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شى ء و سموه بالحام قال ابو هريرة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رايت عمرو بن عامر الخزاعي يجز قصبه فى النار كان أول من سيب السوائب

قال البغوي روى عن محمد بن إسحاق عن محمد بن ابراهيم التيمي عن ابى صالح السمان عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لاكثم بن جون الخزاعي يا أكثم رايت عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف يجر قصبه فى النار فما رايت من رجل أشبه برجل منك به و لا به منك و ذلك انه أول من غير دين اسمعيل و نصب الأوثان و بحر البحيرة و سيب السوائب و وصل الوصيلة و حمى الحامى فلقد رأيته فى النار يؤذى اهل النار بريح قصبه فقال أكثم أ يضرني شبهه يا رسول اللّه فقال لا انك مؤمن و هو كافر وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ فى قولهم ان اللّه أمرنا بها وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وجه التحليل و التحريم بل يقلدون كبارهم الجهال و فيه اشارة ان بعضهم يعرفون بطلان ذلك و لكن يمنعهم حب الرياسة و تقليد الآباء ان يعترفوا به.

١٠٤

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللّه وَ إِلَى الرَّسُولِ فى التحليل و التحريم قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا حسبنا مبتدأ و الخبر ما وجدنا يعنى الذي وجدنا عليه آباءنا بيان «١» لقصور عقلهم و ان لا استدلال لهم سوى التقليد أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ الواو للحال و الهمزة دخلت عليها لانكار التقليد على هذا الحال يعنى ا يحسبهم ما وجدوا عليه اباؤهم و لو كانوا جهلة ضالين يعنى اى يحسبهم الجهل و الضلال الذي كان عليه اباؤهم و الحاصل ان الاقتداء لا يليق الا بالعلماء المهتدين.

(١) اخرج ابن ابى حاتم عن عمر مولى عفرة قال انما نزلت هذه الاية يايها الذين أمنوا عليكم أنفسكم لان الرجل كان يسلم و يكفر أبوه او اخوه فلما دخل فى قلوبهم حلاوة الايمان دعوا آباءهم و إخوانهم الى الإسلام فقالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا فانزل اللّه هذه الاية ١٢ [.....].

١٠٥

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ الجار و المجرور اسم فعل جعلا اسما لالزموا فلذلك نصب أنفسكم يعنى الزموا إصلاحها و احفظوها لا يَضُرُّكُمْ يحتمل الرفع على انه مستانف و الجزم على انه جواب امر او على انه نهى ضمت الراء اتباعا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قيل نزلت الاية لما كان المؤمنون يتحسرون على الكفار و يتمنون ايمانهم اخرج احمد و الطبراني و غيرهما عن ابى عامر الأشعري قال سالت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن هذه الاية فقال لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم

و قال مجاهد و سعيد بن جبير الاية فى اليهود و النصارى يعنى عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من اهل الكتاب إذا اهتديتم فخذوا منهم الجزية و اتركوهم و قيل كان الرجل إذا اسلم يقال سفهت أباك اخرج ابن ابى حاتم عن عمر مولى عفرة قال انما نزلت هذه يا ايها الذين أمنوا عليكم أنفسكم لان الرجل كان ليسلم و يكفر أبوه او اخوه فلما دخل فى قلوبهم حلاوة الايمان دعوا ابائهم و إخوانهم الى الإسلام فقالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا فانزل اللّه هذه الاية و ليست الاية فى ترك الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر لان من الاهتداء الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر على حسب طاقته عن ابى بكر الصديق رضى اللّه عنه قال يا ايها الناس انكم تقرءون هذه الاية يا ايها الذين أمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم و انكم تضعون على غير موضعها فانى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ان الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك ان يعمهم اللّه بعقابه رواه ابن ماجة و الترمذي و صححه و فى رواية ابى داؤد إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك ان يعمهم اللّه بعقاب و فى اخرى له ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على ان يغيروا ثم لا يغيرون الا يوشك ان يعمهم اللّه بعقاب و فى اخرى له ما من قوم يعمل فيهم المعاصي و هم اكثر ممن يعمله الحديث و فى رواية ليأمرون بالمعروف و لينهن عن المنكر او ليسلطن سبحانه عليكم شراركم فليسومونكم سوء العذاب ثم ليدعن اللّه عز و جل خياركم فلا يستجاب لكم و

قال البغوي روى عن ابن عباس انه قال فى هذه الاية مروا بالمعروف و انهوا عن المنكر ما قبل منكم فان رد عليكم فعليكم أنفسكم ثم قال ان القران نزل منه اى قد مضى تأويلهن قبل ان ينزلن و منه اى وقع تأويلهن على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و منه اى وقع تأويلهن بعد النبي صلى اللّه عليه و سلم بيسير و منه اى يقع تأويلهن بعد اليوم و منه اى يقع تأويلهن فى اخر الزمان و منه اى يقع تأويلهن يوم القيامة ما ذكر من الحساب و الجنة و النار فما دامت قلوبكم و اهوائكم واحدة و لم تلبسوا شيعا و لم يذق بعضكم بأس بعض فامروا و انهوا و إذا اختلفت القلوب و الأهواء و البستم شيعا و ذاق بعضكم بأس بعض فامرأ و نفسه فعند ذلك جاء تاويل هذه الاية و روى عبد بن حميد و ابن جرير و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ و البيهقي فى الشعب عن ابى العالية هذه القصة عن عبد اللّه بن مسعود و روى الترمذي و ابن ماجة عن ابى ثعلبة الخشني فى قوله تعالى عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فقال اما و اللّه لقد سالت عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال بل ائتمروا بالمعروف و تناهوا عن المنكر حتى إذا رايت شحا مطاعا و هوى متبعا و دنيا مؤثرة و إعجاب كل ذى راى برايه و رايت امر الابد لك منه فعليك نفسك و دع امر العوام فان ورائكم ايام الصبر فمن صبر فيهن قبض على الجمر للعامل فيهن اجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله قالوا يا رسول اللّه اجر خمسين منهم قال اجر خمسين منكم و قيل نزلت الاية فى اهل الأهواء قال ابو جعفر الرازي دخل على صفوان بن محرز شاب من اهل الأهواء فذكر شيئا من امره فقال صفوان الا ادلك على خاصة اللّه تعالى خص بها أوليائه يا ايها الذين أمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إِلَى اللّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً الضال و المهتدى فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيجزى كل على حسب عمله ولا يؤاخذ أحد بذنب غيره فيه وعد و وعيد للفريقين ذكر البغوي

و اخرج نحوه البخاري و ابو داؤد و الترمذي عن ابن عباس رضى اللّه عنهما ان تميما الداري و عدى بن بدا خرجا الى الشام للتجارة و كانا حينئذ نصرانيين و معهما بديل مولى عمرو بن العاص و كان مسلما فلما قدموا الشام مرض بديل و دوّن ما معه فى صحيفة و طرحها فى متاعه و لم يخبرهما به و اوصى إليهما ان يدفعها متاعه الى اهله و مات بديل ففتّشا متاعه و أخذا منه اناء فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذهب فغيباه ثم قضيا حاجتهما فانصرفا الى المدينة فدفعا الى اهل الميت ففتّشوا فاصابوا صحيفة فيها تسمية ما كان معه فجاؤا تميما و عديا فقالوا هل باع صاحبنا شيئا من متاعه قالا لا قالوا فهل اتجر تجارة قالا لا قالوا فهل طال مرضه فانفق على نفسه قالا لا فقالوا انا وجدنا فى متاعه صحيفة فيها تسمية ما معه و انا قد فقدنا منها اناء من فضة مموها بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال من فضة قالا لا ندرى انما اوصى لنا بشئ فامرنا ان ندفعه إليكم فدفعناه و ما لنا من علم بالاناء فجحدوا فترافعوا الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فنزلت.

١٠٦

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ شهادة بينكم مبتدأ خبره اثنان بحذف المضاف و اقامة المضاف اليه مقامه تقديره شهادة بينكم شهادة اثنين لفظه خبر و معناه امر اى ليشهد اثنان و جاز ان يكون اثنان فاعل المصدر يعنى شهادة بينكم و المصدر مبتدا خبره محذوف مقدم عليه تقديره فيما أمرتم شهادة اثنين اى ان يشهد اثنان و اتسع فى بين فاضيف اليه المصدر و المراد بالشهادة الاشهاد بمعنى الإحضار للايصاء إليهما يدل عليه سياق القصة المنزلة فيها كما فى قوله تعالى و ليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين و عدد الاثنان مبنى على الأحوط و الواحد يكفى للوصية اجماعا و إذا حضر ظرف الشهادة اى الاشهاد و معنى إذا حضر أحدكم الموت إذا ظهرت اماراته و قوله حين الوصية ظرف لحضر او بدل من إذا حضر و فى إبداله تنبيه على ان الوصية مما ينبغى ان لا يتهاون فيه يعنى وقت حضور الموت وقت الوصية ضرورة ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ اى من اهل دينكم يا معشر المؤمنين صفتان للاثنان فان المسلمين العدول اولى للاستيمان أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ مرفوع بفعل مضمر يفسره ما بعده ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ اى سافرتم فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ فاوصيتم إليهما و دفعتم إليهما ما لكم فاتهمهما بعض الورثة و ادعوا عليهما خيانة و أنكر الخيانة يدل على هذا التقدير سبب النزول حيث أصاب اهل بديل الصحيفة فطالبوهما الإناء فجحد الوصيان تَحْبِسُونَهُما صفة لاثنان او آخران يعنى لكل اثنين عادلين من الحاضرين للايصاء سواء كان منكم او من غيركم و لا وجه لجعله صفة لاخرين فقط و المعنى تقفون الوصيين المنكرين للخيانة مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ من زائدة و المراد بالصلوة صلوة العصر لانه وقت اجتماع الناس و تصادم ملئكة الليل و ملئكة النهار و قيل اى صلوة كان فَيُقْسِمانِ اى الوصيان بِاللّه إِنِ ارْتَبْتُمْ شرط استغنى عن الجزاء بما سبق يعنى ان ارتاب الوارث منكم و يتهم الوصيين بالخيانة و ينكر انها يستحلف الوصيين الحاكم فيقسمان باللّه و ان لم يرتابوا و لم يتهموا فلا حاجة الى تحليفهما فقوله ان ارتبتم اعتراض و جواب القسم لا نَشْتَرِي بِهِ اى لا نستبدل بالقسم او باللّه ثَمَناً عرضا من الدنيا اى لا نحلف باللّه كاذبا لطمع وَ لَوْ كانَ الوصي ذا قُرْبى من الميت و ادعى الورثة عليه الخيانة يعنى الاستخلاف لا يختص بالاجنبى عند انكار الخيانة و اللّه اعلم وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّه اى الشهادة التي امر اللّه بإقامتها و المراد بالشهادة هاهنا اظهار الحق و الاخبار بالصدق و لو على أنفسهم قرا يعقوب شهادة اللّه ممدودا جعل همزة الاستفهام عوضا عن حرف القسم اى و اللّه إِنَّا إِذاً اى إذا كتمنا الحق لَمِنَ الْآثِمِينَ فلما نزلت هذه الاية فصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صلوة العصر دعا تميما و عديا فاستحلفهما عند المنبر باللّه الذي لا اله الا هو انهما لم يختانا شيئا مما دفع إليهما فحلفا على ذلك و خلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سبيلهما ثم وجد الإناء فى أيديهما بعد ما طال الزمان و روى سعيد بن جبير عن ابن عباس انه وجد بمكة فقالوا اشترينا عن تميم و عدى فبلغ ذلك بنى سهم فاتوهم فى ذلك فقالا انا كنا اشترينا منه هذا فقالوا الم تزعما ان صاحبنا لم يبع شيئا من متاعه قالا لم يكن عندنا بينة فكرهنا ان نقر لكم به فكتمنا لذلك فرفعوهما الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فنزلت.

١٠٧

فَإِنْ عُثِرَ اى اطلع و اصل العثر الوقوع على الشي ء عَلى أَنَّهُمَا يعنى الوصين اسْتَحَقَّا اى استوجبا و فعلا ما أوجب إِثْماً بخيانتهما و إيمانهما الكاذبة و ادعيا دعوى بالشراء او نحو ذلك ليدفع عنهما تهمة الخيانة فَآخَرانِ فشاهدان اخر ان يَقُومانِ ليحلفا مَقامَهُما مقام الوصيين سمى الاثنان من الورثة شاهدين لانهما بدعوى حقهما و تصديق الشرع لهما فى ان الحق لهما يظهر ان اثم الشاهدين السابقين كانهما شاهدان على إثمهما و تخصيص الحلف باثنين من أقارب الميت لخصوص الواقعة التي نزلت لها فانكان وارث الميت واحد أ يحلف هو او اكثر من الاثنين يحلفوا جميعا حيث أنكروا ما ادعيا الوصيان من الشراء من الميت او نحو ذلك مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ قرأ حفص على البناء للفاعل يعنى من اهل الميت الذين استحق عَلَيْهِمُ اى على الورثة الْأَوْلَيانِ من بين الورثة بالشهادة و ذلك بسبب كونهما اقرب الى الميت غير محجوبين بغيرهما من الورثة استحقا على سائر الورثة بان يجردوهما للقيام بالشهادة و يظهروا بهما كذب الوصيين و على هذه القراءة الاوليان فاعل لاستحق و الجار و المجرور متعلق به

و قرا الباقون استحقّ على البناء للمفعول أسند الى عليهم و على حينئذ بمعنى فى كما فى قوله تعالى على ملك سليمان اى فى ملكه يعنى استحق الحالفان الإثم فيهم اى بسببهم و الاوليان صفة للاخرين و انما جاز ذلك مع ان الاوليان معرفة و آخران نكرة لانه لما وصف الآخران بقوله تعالى من الذين صار معرفة و الظاهران أوليان بدل من آخران او من الضمير فى يقومان و لا يلزم خلو الصفة عن الضمير لان المبدل منه موجود و ان كان فى حكم المطروح و لكون البدل عين المبدل منه فهو يسد مسده كالظاهر موضع الضمير او خبر مبتدأ محذوف اى هما الاوليان و المراد بالاوليان الاقربان الى الميت الذين لم يحجبهما غيرهما

و قرا ابو بكر عن عاصم و حمزة و يعقوب الأولين على انه صفة الذين او بدل منه او من الأولين الذين استحق عليهم و سموا أولين لانهم كانوا أولين فى الذكر فى قوله شهادة بينكم فَيُقْسِمانِ بِاللّه على خيانة الوصيين و كذبهما فى دعوى الشراء و نحو ذلك و يقولان لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما يعنى يميننا أحق بالقبول من يمينهما كما فى قوله تعالى فشهادة أحدهم اربع شهادات باللّه انه لمن الصادقين وَ مَا اعْتَدَيْنا اى ما تجاوزنا الحق فى أيماننا إِنَّا إِذاً اى إذا اعتدينا لَمِنَ الظَّالِمِينَ الواضعين الباطل موضع الحق فلما نزلت هذه الاية قام رجلان من اولياء السهمي فحلفا هكذا فى رواية البخاري و فى رواية الترمذي فقام عمرو بن العاص و رجل اخر منهم فحلفا و سمى البغوي الاخر المطلب بن وداعة السهمي حلفا باللّه بعد العصر و لعل حلف السهميان على عدم علمهما ببيع بديل الإناء من الوصيين و روى الترمذي و ضعفه غيره من حديث ابن عباس عن تميم الداري فى هذه الاية قال يرى الناس منها غيرى و غير عدى بن بدا كنا نصرانيين يختلفان الى الشام قبل الإسلام فاتينا الشام لتجارتنا و قدم علينا مولى لبنى سهم يقال له بديل بن ابى مريم بتجارة و معه جام من فضة فمرض فاوصى إلينا و أمرنا ان تبلغا ما ترك اهله فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه انا و عدى بن بدا فلما قدمنا الى اهله دفعنا إليهم ما كان معنا و فقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا غير هذا ما دفع إلينا فلما أسلمت و تاثمت من ذلك فاتيت اهله فاخبرتهم الخبر و أديت إليهم خمسمائة درهم و أخبرتهم ان عند صاحبى مثلها فاتوا به رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فسألهم البينة فلم يجدوا فامرهم ان يستحلفوه فحلف فانزل اللّه تعالى يا ايها الذين أمنوا شهادة بينكم الى قوله ان ترد ايمان بعد ايمانهم فقام عمرو بن العاص و رجل اخر فحلفا فنزعت الخمسمائة درهم من عدى بن بدا.

١٠٨

ذلِكَ الحكم بتحليف الوصيين عند ارتياب الورثة و تحليف الورثة عند دعوى الوصيين بالشراء و نحوه. أَدْنى اى اقرب من أَنْ يَأْتُوا اى يأتي الأوصياء بِالشَّهادَةِ اى بإظهار الحق و بيان ما اوصى إليهم الميت عَلى وَجْهِها على نحو ما حملوها من غير خيانة فيها أَوْ يَخافُوا عطف على يأتوا اى او ادنى ان يخافوا أَنْ تُرَدَّ على الورثة أَيْمانٌ على انكار ما ادعاه الوصي بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَ اتَّقُوا اللّه عطف على محذوف اى احفظوا احكام اللّه و اتقوا اللّه وَ اسْمَعُوا ما أمركم اللّه سماع اجابة وَ اللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ يعنى ان لم تتقوا و لم تسمعوا كنتم قوما فاسقين و اللّه لا يهدى القوم الفاسقين الى حجة او الى طريق الجنة و على هذا التفسير الذي ذكرت تطابق الاية سبب نزولها و لا يلزم النسخ لان يمين الوصي عند إنكاره الخيانة و يمين الوارث عند إنكاره دعوى الوصي الشراء و نحوه حكم ثابت محكم و قد تقرر عند القوم ان شيئا من سورة المائدة لم ينسخ و قيل معنى الاية ليستشهد الميت عند احتضاره إذا اوصى لاحد رجلين ليوديا الشهادة عند القاضي للموصى له و يدل عليه ظاهر قوله تعالى لا نشترى به ثمنا و لو كان ذا قربى يعنى و لو كان الموصى له ذا قربى منا لا نشهد له بالزيادة على الوصية طمعا و على هذا التأويل قيل معنى ذوا عدل منكم اى من حى الموصى او آخران من غيركم اى من غير حيكم و عشيرتكم و هو قول الحسن و الزهري و عكرمة.

(مسئلة:) و لا يجوز شهادة كافر على مسلم فى شى ء من الاحكام و قال اكثر المفسرين معنى قوله تعالى منكم اى من اهل دينكم و ملتكم و من غيركم اى من غير ملتكم و به قال ابن عباس و ابو موسى الأشعري و سعيد بن المسيب و ابراهيم النخعي و سعيد ابن جبير و مجاهد و عبيدة فقال النخعي و جماعة هى منسوخة و كانت شهادة اهل الذمة مقبولة فى الابتداء ثم نسخت فان شهادة الكافر على المسلم لا يسمع و ذهب قوم الى انها ثابتة و قالوا إذا لم يجد مسلمين ليشهد كافرين قال شريح من كان بأرض غربة و لم يجد مسلما يشهد على وصية فاشهد كافرين فشهادتهما جائزة و لا يجوز شهادة كافر على مسلم الا على وصية و عن الشعبي ان رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا و لم يجد مسلما يشهده على وصية فاشهد رجلين من اهل الكتاب فقدما الكوفة بتركته و أتيا الأشعري فاخبراه و قد ما بتركته و وصيته فقال الأشعري هذا امر لم يكن بعد الذي كان فى عهد النبي صلى اللّه عليه و سلم فاحلفهما و امضى شهادتهما قلت و لو كان حكم هذه الاية ثابتة يجب ان يرد اليمين على الورثة ان ظهر كذب الشاهدين فى الشهادة على الوصية بوجه.

١٠٩

يَوْمَ يَجْمَعُ اللّه الرُّسُلَ يعنى يوم القيامة ظرف متعلق بلا يهدى يعنى لا يهدى الى طريق الجنة يوم يجمع او بدل من مفعول اتقوا بدل اشتمال او مفعول لا سمعوا على حذف مضاف يعنى و اسمعوا خبر يوم يجمع او منصوب بإضمار اذكروا او احذروا فَيَقُولُ اللّه تعالى للرسل ما ذا أُجِبْتُمْ ماذا منصوب بأجبتم نصب المصدر او بنزع الخافض اى اىّ اجابة اجابتكم أمتكم او باى شى مما دعوتم قومكم اجابتكم قومكم و هذا السؤال لتوبيخ قومهم كما يسئل الموؤدة باى ذنب قتلت لتوبيخ الوائدة قالُوا يعنى الرسل لا عِلْمَ لَنا قال ابن عباس و الحسن و مجاهد و السدى ان للقيامة اهو الا و زلازل يزول فيها القلوب عن مواضعها فيفزعون من هول ذلك اليوم و يذهلون عن الجواب و يقولون لا علم لنا ثم بعد ما ثابت إليهم عقولهم يشهدون على أممهم و قال ابن جريج معناه لا علم لنا بعاقبة أمرهم و بما أحدثوا بعدنا و بما اضمروا فى قلوبهم إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ تعلم ما غاب عنا و نحن لا نعلم الا ما نشاهده قرا ابو بكر و حمزة الغيوب بكسر الغين حيث وقع و الباقون بضمها عن انس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ليردن علىّ ناس من أصحابي الحوض حتى عرفتهم اختلجوا دونى فاقول أصيحابي أصيحابي فيقول لا تدرى ما أحدثوا بعدك رواه البخاري و غيره و نظيره قوله تعالى حكاية عن عيسى كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم و روى عن ابن عباس انه قال معناه لا علم لنا الا علما أنت اعلم به منا و قيل المعنى لا علم لنا الى جنب علمك و قيل لا علم لنا بوجه الحكمة عن سوالك إيانا عن امر أنت اعلم به منا.

١١٠

إِذْ قالَ اللّه بدل من يوم يجمع يعنى يوبخ الكفرة يومئذ بسوال الرسل عن اجابتهم و تعديد ما اظهر عليهم من الآيات فكذبتهم طائفة و سموهم سحرة و غلا آخرون فاتخذوهم الهة او منصوب بإضمار اذكر يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي لفظه واحد و معناه جمع إذ المراد به الجنس عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ مريم حيث طهرتها و اصطفيتها على نساء العلمين قال الحسن ذكر النعمة شكرها إِذْ أَيَّدْتُكَ اى قويتك ظرف لنعمتى او حال منه بِرُوحِ الْقُدُسِ اى جبريل عليه السلام او بالكلام الذي يحيى به النفوس حيوة ابدية و يطهرها من الآثام و لذا أضاف الروح الى القدس لانه سبب الطهر و الذي يحيى به المولى تُكَلِّمُ النَّاسَ حال من مفعول أيدتك فِي الْمَهْدِ اى كائنا فى المهد صبيا وَ كَهْلًا نبيّا يعنى يكلمهم فى الطفولية و الكهولة على سواء الحق حاله فى الطفولية بحال الكهولة فى كمال العقل و التكلم بالحكمة و به يستدل على انه سينزل فانه رفع قبل الكهولة قال ابن عباس أرسله اللّه و هو ابن ثلثين سنة فمكث فى رسالته ثلثين شهرا ثم رفعه اللّه اليه قال بعض الأفاضل لا دلالة فى النظم على التسوية بين كلام الطفولية و الكهولة و الاولى ان يجعل و كهلا تشبيها بليغا اى يكلمهم كائنا فى المهد و كائنا كالكهل و حينئذ لا دلالة فيه على انه سينزل وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ عطف على إذ أيدتك الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً قرأ نافع و يعقوب طائرا بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي سبق تفسيره فى سورة ال عمران وَ إِذْ كَفَفْتُ عطف على إذ علمتك يعنى إذ منعت و صرفت بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ يعنى اليهود حين هموا بقتلك إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعنى المعجزات المذكورات الدالة على نبوته ظرف لكففت فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا يعنى ما هذا الذي جئت به إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ قرأ حمزة و الكسائي هاهنا و فى سورة هود و الصف الا ساحر فالاشارة الى عيسى عليه السلام و فى هود الى محمد صلى اللّه عليه و سلم.

١١١

وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ عطف على إذ كففت و معنى أوحيت ألهمتهم و قذفت فى قلوبهم كذا روى عبد بن حميد عن قتادة و ابو الشيخ عن السدى و قيل معناه امرتهم على لسان عيسى أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي ان مصدرية و يجوز ان يكون مفسرة لاوحيت قالُوا حين امرتهم و وفقتهم آمَنَّا باللّه و برسوله وَ اشْهَدْ يا عيسى بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ مخلصون.

١١٢

إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ منصوب باذكر او ظرف لقالوا يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ قرأ الجمهور يستطيع على الغيبة و ربّك مرفوعا على الفاعلية يعنى هل يطيعك ربك ان سألته فاستطاع بمعنى أطاع كاستجاب بمعنى أجاب اخرج ابن ابى حاتم عن عامر الشعبي ان عليا كان يقرأ هل يستطيع ربك قال هل يطيعك ربك و فى الآثار من أطاع اللّه أطاعه و يؤيده قراءة الكسائي هل تستطيع بصيغة الخطاب لعيسى و ربك منصوبا على المفعولية بحذف المضاف و هى قراءة على و عائشة و ابن عباس و مجاهد و رواه الحاكم من معاذ بن جبل يعنى هل تستطيع سوال ربك من غير صارف يصرفك عن سواله فيفعل ربك اجابة سوالك قالت عائشة كان الحواريون اعلم باللّه من ان يقولوا هل يستطيع ان تدعوه رواه ابن ابى شيبة و ابو الشيخ و غيرهما و قيل هذه الاستطاعة على ما يقتضيه الحكمة و الارادة لا على ما يقتضيه القدرة فلم يقولوا شاكين فى قدرة اللّه بل كما يقول الرجل لصاحبه هل تستطيع ان تنهض معى و هو يعلم انه يستطيع و هو يريد هل تفعل ذلك و اجرى بعضهم على الظاهر فقالوا كان ذلك قبل استحكام المعرفة و كانوا بشرا حديث عهد بالجاهلية و من ثم قال عيسى استعظاما لقولهم اتقوا اللّه ان كنتم مؤمنين يعنى لا تشكوا فى قدرته تعالى أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ المائدة الخوان إذا كان عليه الطعام فاعلة من ماده يميده إذا أعطاه و أطعمه كانها تميد اى تطعم من يقدم عليه فالمائدة بمعنى المعطية المطعمة للاكلين الطعام و سمى الطعام ايضا مائدة على التجوز كما يقال جرى النهر و قال اهل الكوفة سميت مائدة لانها تميد بالاكلين اى تتحرك و قال اهل البصرة فاعلة بمعنى المفعولة يعنى مميدة بالاكلين قالَ عيسى اتَّقُوا اللّه عن أمثال هذا السؤال الذي لم يسأل مثله الأمم السابقة نهاهم عن اقتراح الآيات إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فانه لا يجوز للمؤمنين اقتراح الآيات او المعنى اتقوا و لا تشكوا فى قدرته ان كنتم مؤمنين بكمال قدرته و صحة نبوتى أو ان كنتم صدقتم فى ادعاء الايمان اخرج الحكيم الترمذي فى نوادر الأصول و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ فى العظمة و ابو بكر الشافعي فى الفيلانيات عن سلمان الفارسي قال لما سأل الحواريون عيسى ابن مريم المائدة كره ذلك جدا و قال اقنعوا بما رزقكم اللّه تعالى فى الأرض و لا تسألوا المائدة فانها ان نزلت عليكم كانت اية من ربكم و انما هلكت ثمود حين سألوا نبيّهم اية فابتلوا بها قابوا الا ان يأتيهم بها فلذلك.

١١٣

قالُوا اى الحواريون انما سألنا لانا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا بانضمام علم المشاهدة الى علم الاستدلال بكمال قدرته وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا فى ادعاء النبوة اى نزداد ايمانا او يقينا قيل ان عيسى أمرهم ان يصوموا ثلثين يوما فاذا أفطروا لا يسألون اللّه شيئا الا أعطاهم ففعلوا و سألوا المائدة و قالوا و نعلم ان قد صدقتنا بمعنى صدقتنا ان اللّه يجيب دعوتنا بعد ما صمنا ثلثين يوما وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ للّه بالوحدانية و القدرة و لك بالنبوة بعد ما أمنا بذلك بالغيب او من الشاهدين لك عند بنى إسرائيل إذا رجعنا إليهم قيل ان عيسى حينئذ اغتسل و لبس المسيح و صلى ركعتين و طأطأ رأسه و غض بصره و بكى.

١١٤

قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللّهمَّ رَبَّنا نداء ثان لا صفة و لا بدل لان اللّهم لا يوصف و لا يبدل منه كذا قال التفتازانيّ أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً قال السدى معناه تتخذ ذلك اليوم عيدا نعظمه نحن و من بعدنا و العيد السرور بعد الغم و قيل يوم السرور سمى به للعود من الترح الى الفرح قيل كان هو يوم الأحد و لذا اتخذه النصارى عيدا و قيل عيدا اى عائدة من اللّه حجة و برهانا لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً بدل من لنا باعادة الجار اى يكون عيدا لمتقدمنا و متاخرنا يعنى اهل زماننا و من جاء بعدنا على ملتنا قال ابن عباس يأكل منها اخر الناس كما أكل أولهم و الظاهر ان لنا خبر كان و عيدا خبر ثان و لاولنا و آخرنا صفة ليعد او اية عطف على عيدا مِنْكَ صفة لاية اى دلالة و حجة كائنة منك على كمال قدرتك و صحة نبوتى وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ

١١٥

قالَ اللّه تعالى مجيبا لعيسى .

إِنِّي مُنَزِّلُها يعنى المائدة قرا نافع و ابن عامر و عاصم مشدّدا من التفعيل و التفعيل يدل على التكثير مرة بعد اخرى و الباقون مخففا من الافعال عَلَيْكُمْ اجابة الى سوالكم فَمَنْ يَكْفُرْ بعد نزول المائدة بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً اى تعذيبا مصدر للجنس و يجوز ان يجعل مفعولا به على السعة اى أعذبه بعذاب و يراد بالعذاب ما يعذب به لا أُعَذِّبُهُ صفة لعذابا و الضمير للمصدر او للعذاب بمعنى ما يعذب به على حذف حرف الجر أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ع اى من عالمى زمانهم او العلمين مطلقا فانهم مسخوا قردة و خنازير لما كفروا بعد نزول المائدة و لم يعذب بمثل ذلك غيرهم و تمام حديث سلمان الفارسي المذكور انه لما سأل عيسى ذلك ربه نزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها و غمامة من تحتها و هم ينظرون إليها و هى تهوى منقضة حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى عليه السلام و قال اللّهم اجعلنى من الشاكرين اللّهم اجعلها رحمة و لا تجعلها عقوبة و اليهود ينظرون الى شى ء لم يروا مثله قط و لم يجدوا ريحا أطيب من ريحه فقال عيسى عليه السلام ليقم أحسنكم عملا فيكشف عنها و يذكر اسم اللّه تعالى فقال شمعون الصفار راس الحواريين أنت اولى بذلك منا يا رسول اللّه فقام عيسى عليه السلام فتوضأ و صلى صلوة طويلة و بكى كثيرا ثم كشف المنديل عنها و قال بسم اللّه خير الرازقين فاذا هو سمكة مشوية ليس عليها قلوسا و لا شوك عليها يسيل من الدسم و عند راسها ملح و عند ذنبها خل و حولها من ألوان البقول ما خلا الكراث و إذا خمسة ارغفة على واحد زيتون و على الثاني عسل و على الثالث سمن و على الرابع جبن و على الخامس قديد فقال شمعون يا روح اللّه أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الاخرة فقال ليس شى ء مما ترون من طعام الدنيا و لا من طعام الاخرة و لكنه شى ء افتعله اللّه تعالى بالقدرة الغالبة كلوا مما سألتم يمددكم و يزدكم من فضله قالوا يا روح اللّه كن أول من يأكل منها فقال عيسى عليه السلام معاذ اللّه ان أكل منها و لكن يأكل منها من سألها فخافوا ان يأكلوا منها فدعا لها عيسى اهل الفاقة و المرض و اهل البرص و الجذام و المقعدين و المبتلين و قال كلوا من رزق اللّه و لكم المهناء و لغيركم البلاء فاكلوا و صدر عنها الف و ثلاثمائة رجل و امراة من فقير و مريض و زمن و مبتلى كلهم الشبعان و إذا السمكة كهيئتها حين نزلت ثم طارت المائدة صعدا و هم ينظرون إليها حتى توارت فلم يأكل منها زمن و لا مريض و لا مبتلى الا عوفى و لا فقير الا استغنى و ندم من لم يأكل منها فلبث أربعين صباحا ينزل ضحى فاذا نزلت اجتمع الأغنياء و الفقراء و الصغار و الكبار و الرجال و النساء و لا تزال منصوبة توكل منها حتى إذا فاء الفي ء طارت المائدة صعدا و هم ينظرون إليها فى ظلها حتى توارت عنهم و كانت تنزل غبا تنزل يوما و لا تنزل يوما كناقة ثمود فاوحى اللّه الى عيسى عليه السلام اجعل مائدتى و رزقى للفقراء دون الأغنياء فعظم ذلك على الأغنياء حتى شكوا و شككوا الناس فيها و قالوا ترون المائدة حقا ينزل من السماء فاوحى اللّه تعالى الى عيسى انى شرطت ان من كفر بعد نزولها عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين فقال عيسى عليه السلام ان تعذبهم فانهم عبادك و ان تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم فمسخ منهم ثلاثمائة و ثلثة و ثلثون رجلا باتوا من ليلتهم على فرشهم مع نسائهم فاصبحوا خنازير يسعون فى الطرقات و الكناسات و يأكلون العذرة فى الحشوس فلما رأى الناس ذلك فزعوا الى عيسى عليه السلام و بكوا فلما أبصرت خنازير عيسى بكت و جعلت تطيف بعيسى عليه السلام فجعل عيسى يدعوهم بأسمائهم فيشيرون برؤسهم و يبكون و لا يقدرون على الكلام فعاشوا ثلثة ايام ثم هلكوا و

قال البغوي روى خلاس بن عمرو عن عمار بن ياسر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انها نزلت خبزا و لحما و قيل لهم انها مقيمة لكم ما لم تخونوا و تخبئوا فما مضى يومهم حتى خانوا و خبئوا فمسخوا قردة و خنازير و قال ابن عباس ان عيسى عليه السلام قال لهم صوموا ثلثين يوما ثم سلوا اللّه ما شئتم يعطكموه فصاموا فلما فرغوا قالوا يا عيسى لو عملنا لاحد فقضينا عمله لاطعمنا و سألوا المائدة فاقبلت الملئكة بمائدة يحملونها عليها سبعة ارغفة و سبعة أخوات حتى وضعتها بين أيديهم فأكل اخر الناس كما أكل أولهم و قال كعب الأحبار نزلت مائدة منكوسة تطير بها الملئكة بين السماء و الأرض عليها كل الطعام الا اللحم و قال سعيد بن جبير عن ابن عباس انزل على المائدة كل شى ء الا الخبز و اللحم و قال قتادة كان عليها ثمر من ثمار الجنة و قال عطية العوفى نزلت من السماء سمكة فيها طعم كل شى ء و قال الكلبي كان عليها خبز رز و قال وهب بن منبه انزل اللّه أقرصة من شعير و حيتانا و كان قوم يأكلون ثم يخرجون و يجئى آخرون فياكلون حتى أكلوا بأجمعهم و فضل و عن الكلبي و مقاتل انزل اللّه خبزا و سمكا و ارغفة فاكلوا ما شاء اللّه سبحانه و تعالى و الناس الف و نيف فلما رجعوا الى قراهم و نشروا الحديث ضحك منهم من لم يشهد و قالوا و يحكم انما سحرا عينكم فمن أراد اللّه به الخير ثبته على بصيرة و من أراد فتنة رجع الى كفره فمسخوا خنازير ليس فيهم صبى و لا امرأة فمكثوا بذلك ثلثة ايام ثم هلكوا و لم يتوالدوا و لم يأكلوا و لم يشربوا و كذلك كل ممسوخ و قال قتادة كانت المائدة تنزل عليهم بكرة و عشيا حيث كانوا كالمن و السلوى لبنى إسرائيل هكذا اقوال اكثر العلماء

و قال مجاهد و الحسن لم تنزل المائدة فان اللّه عز و جل لما أوعدهم على كفرهم بعد نزول المائدة خافوا ان يكفر بعضهم فاستعفوا و قالوا لا نريدها فلم ينزل و معنى قوله تعالى انى منزلها عليكم يعنى ان سألتم و الصحيح هو الذي عليه الأكثرون انها نزلت لقوله تبارك و تعالى انى منزلها عليكم و لا خلف فى خبره تعالى و لتواتر الاخبار به عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه و التابعين.

١١٦

وَ إِذْ قالَ اللّه

قال البغوي اختلفوا فى هذا القول متى يكون فقال السدى قاله اللّه تعالى ذلك حين رفعه الى السماء يدل عليه كلمة إذ فانها للماضى و صيغة قال و قال سائر المفسرين انما يقول اللّه تعالى له ذلك يوم القيامة يريد به توبيخ الكفرة و تبكيتهم بدليل قوله تعالى يوم يجمع اللّه الرسل و قوله تعالى هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم و أراد بها يوم القيامة و قد يجئى إذ مع صيغة الماضي فى المستقبل للدلالة على إتيانها لا محالة كانها كائنة نظيره قوله تعالى و لو ترى إذ فزعوا يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ توبيخ للكفرة قدمت المسند اليه على المسند الفعلى لتقوية النسبة لان نسبة هذا القول الى عيسى كانت مستبعدة فاحتاجت الى التقوية ففيه توبيخ للكفرة قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ لم يقل و مريم مكان أمي للتوبيخ بانك مع كونك مولودا و هى والدة كيف وسعك دعوى الالوهية مع وجوب تنزه الإله عن التوالد و التماثل مِنْ دُونِ اللّه صفة لالهين او صلة اتخذوني او حال من فاعل اتخذوني او من مفعوله يعنى حال كونكم متجاوزين اللّه فى الاتخاذ او حال كونى الهادون اللّه و معنى دون المغايرة فيكون فيه تنبيها على ان عبادة اللّه مع عبادة غيره بمنزلة العدم فمن عبد اللّه مع عيسى و مريم فكانه لم يعبد اللّه و جاز ان يكون دون للقصور فانهم لم يعتقدوا عيسى و مريم مستقلين باستحقاق العبادة بل زعموا ان عبادتهما توصل الى عبادة اللّه قال ابو روق إذا يسمع عيسى هذا الخطاب ترعد مفاصله و تتفجر من اصل كل شعر على جسده عين من دم ثم يقول كما حكى اللّه تعالى عنه قالَ عيسى سُبْحانَكَ يعنى أسبحك سبحانا و أنزهك تنزيها من ان يكون لك شريك او تنزيها من ان تكون فى العلم بالحقيقة محتاجا الى الاستفهام و البيان ما يَكُونُ لِي اى ما ينبغى لى أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ اى قولا لا يحق لى إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ يعنى لا حاجة لى الى الاعتذار لانك تعلم انى لم اقله و لو قلته لعلمته لانك تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ يعنى تعلم ما اخفيه فى نفسى و لا اعلم ما تخفيه من المعلومات و المراد بالنفس الذات و تعبيره بالنفس للمشاكلة إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مر اختلاف القراءة فى الغيوب ما كان منها و ما يكون الجملة خبر و أنت تأكيد لاسم ان تقرير للجملتين السابقين بالمنطوق و المفهوم.

١١٧

ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ تصريح بنفي المستفهم عنه بعد تقديم ما يدل عليه أَنِ اعْبُدُوا اللّه رَبِّي وَ رَبَّكُمْ يعنى وحدوه و لا تشركوا به شيئا و هو خالقى كما هو خالقكم ان مع صلته عطف بيان للضمير فى به او بدل منه و ليس من شرط البدل جواز طرح المبدل منه مطلقا حتى يلزم بقاء الموصول بلا عائد أو خبر مبتدأ محذوف اعنى هو او منصوب بتقدير اعنى و لا يجوز إبداله من ما أمرتني به فان المصدر لا يكون مقول القول و لا ان يكون ان مفسرة لان الأمر مسند الى اللّه و هو لا يقول اعبدوا اللّه ربى و ربكم و القول لا يفسر بان اللّهم الا ان يقال القول مأول بالأمر تقديره ما امرتهم الا ما أمرتني به ثم فسر عيسى امر نفسه بقوله ان اعبدوا اللّه و فى وضع قلت موضع أمرت نكتة جليلة و هى التحاشى عن ان يجعل نفسه كالرب فى كونه امرا وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً رقيبا و مشاهدا لاحوالهم من الكفر و الايمان مرشدهم الى الحق مانعهم من القول و الاعتقاد الباطل ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي يعنى قبضتنى و رفعتنى إليك و التوفى أخذ الشي ء وافيا و الموت نوع منه قال اللّه تعالى اللّه يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت فى منامها كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ المحافظ بأعمالهم و المراقب لاحوالهم فتمنع من أردت عصمته بالإرشاد الى الدلائل و إرسال الرسل و إنزال الكتب و التوفيق وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ من قولى و فعلى و قولهم و فعلهم.

١١٨

إِنْ تُعَذِّبْهُمْ «١» فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ و لا اعتراض على المالك المطلق بما فعل بملكه كيف و قد عبدوا غيرك و أنت خلقتهم و شكروا سواك و أنت أنعمت عليهم وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ القادر الغالب القوى على الثواب و العقاب فمغفرتك ليست عن عجز حتى يستقبح الْحَكِيمُ لا تفعل الا بمقتضى الحكمة يعنى ان عذبت

(١) اخرج ابن مردوية عن ابى ذر قال قلت يا رسول اللّه بابى أنت و أمي قمت الليلة باية من القران لو فعل هذا بعضنا وجدنا عليه قال دعوت لامتى قال فماذا أجبت قال أجبت بالذي لو اطلع كثير منهم عليه لتركوا الصلاة قال أ فلا ابشر الناس قال بلى قال عمر يا رسول اللّه انك ان تبعث الى الناس بهذا اتكلوا عن العبادة فناداه ان ارجع فرجع و تلا الاية التي يتلوها ان تعذبهم فانهم عبادك و ان تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم

و اخرج مسلم و النسائي عن عبد اللّه ابن عمرو بن العاص نحوه ١٢ منه.

فعدل و ان غفرت ففضل و عدم غفران المشرك بمقتضى الوعيد لا ينافى جواز المغفرة لذاته حتى يمتنع الترديد و التعلق بان و ليس فيه طلب المغفرة للكفار و من ثم لم يقل فانك أنت الغفور الرحيم بل فيه تسليم الأمر و تفويضه الى ارادة اللّه تعالى و حكمته و كان ابن مسعود يقرأ ان تغفر لهم فانهم عبادك و ان تعذبهم فانك أنت العزيز الحكيم و كانّ هذه القراءة كان نظرا الى مناسبة العزيز الحكيم بالتعذيب دون المغفرة و لذلك قيل فى الاية تقديم و تأخير و قد عرفت ان المستحسن المناسب هو الذي فى القراءة المتواترة عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص ان النبي صلى اللّه عليه و سلم تلى قوله تعالى فى ابراهيم عليه السلام رب انهن اضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فانه منى و من عصانى فانك غفور رحيم و فى عيسى قال ان تعذبهم فانهم عبادك و ان تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم فقال اللّهم أمتي أمتي و بكى فقال اللّه سبحانه يا جبرئيل اذهب الى محمد و ربك اعلم فاسئله ما يبكيك فاتاه جبرئيل فسأله فأخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بما قال فقال اللّه تعالى يا جبرئيل اذهب الى محمد فقل انا سنرضيك فى أمتك و لا نسوءك.

١١٩

قالَ اللّه هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ قرأ نافع يوم بالفتح اما على انه منصوب ظرفا لقال اى قال اللّه هذا الكلام لعيسى يوم ينفع و جاز ان يكون خبر هذا محذوف يعنى قال اللّه هذا حق يعنى ما قال عيسى حق قال ذلك يوم ينفع تصديقا لعيسى و مزيد توبيخ لامة او ظرفا مستقرا واقعا خبرا لهذا يعنى هذا الذي مر من كلام عيسى واقع يوم ينفع فالجملة تأكيد لما سبق و اما على انه مرفوع خبرا لهذا لكنه بنى على الفتح لاضافته الى المبنى لا يقال انه مضاف الى المضارع و هو معرب لانا نقول المضاف اليه هو .......

الجملة الفعلية لا المضارع فحسب

و قرا الجمهور بالرفع بالضم على انه خبر هذا و فيه رد لما يفهم من الاستغفار فى حق الكفار يعنى هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم دون الكاذبين الكفار حيث لا مغفرة لهم و يحتمل ان يراد به ازالة خوف عيسى من صورة هذا السؤال و المعنى هذا يوم ينفع الصادقين فى الدنيا صدقهم فى الاخرة و اما الكاذبون فى الدنيا لو صدقوا فى الاخرة و قالوا لم نك من المصلين و لم نك نطعم المسكين و قال الشيطان ان اللّه وعدكم وعد الحق و وعدتكم الاية لا ينفعهم صدقهم و كذا لا ينفعهم كذبهم بل لو كذبوا و قالوا و اللّه ربنا ما كنا مشركين يختم على أفواههم و نطقت جوارحهم فافتضحوا قيل أراد بالصادقين النبيين و قال الكلبي ينفع المؤمنين ايمانهم و قال عطاء يوم من ايام الدنيا لان الاخرة دار جزاء لا دار عمل ثم بين اللّه نفعهم و ثوابهم فقال لَهُمْ جَنَّات ٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ لاجل المحبة من الجانبين كذا قالت الصوفية و قال العامة رضى اللّه عنهم بالسعي المشكور و رضوا عنه بالجزاء الموفور ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لانه باق بخلاف الفوز فى الدنيا ثم عظم اللّه نفسه و نبه على كذب النصارى و بطلان دعويهم فى عيسى و امه فقال.

١٢٠

للّه مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما فِيهِنَّ لم يقل من فيهن تغليبا للعقلاء و قال ما فيهن اتباعا لهم غير العقلاء تنبيها لغاية قصورهم عن مرتبة الالوهية بسبب مجالستهم لغير العقلاء فى الإمكان و القصور فى العلم و الارادة و نحو ذلك بل الصفات الكاملة فى الممكن بمنزلة العدم قال اللّه تعالى انك ميت و انهم ميتون يعنى فى حد ذواتكم و لان كلمة ما تطلق على الأجناس كلها فهى اولى لارادة العموم وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ من المنع و الإعطاء و الإيجاد و الافناء.

تمّت سورة المائدة و عمت الفائدة و نرجوا العائدة إنشاء اللّه تعالى فى السادس عشر من ذى القعدة سنة الف و مائة و ثمان و تسعين.

﴿ ٠