سُورَةُ الْأَعْرَافِ مَكِّيَّةٌ

وَهِيَ مِائَتَانِ وَسِتُّ آياَتٍ

مكيّة و بعضها مدنيّة مائة و خمس اية نحمدك يا من لا اله الّا أنت و نسبّحك و نستعينك و نستغفرك و نشهد انّك مالك الملك تؤتى الملك من تشاء و تنزع الملك ممّن تشاء و تعزّ من تشاء و تذلّ من تشاء بيدك الخير انّك على كلّ شى ء قدير أنت ربّنا و ربّ السّموات و الأرض و من فيهنّ و نصلّى و نسلّم على رسولك و حبيبك سيّدنا و مولانا محمّد و على جميع النّبيّين و المرسلين و على عبادك الصّالحين

بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

_________________________________

١

المص سبق الكلام فى مثله فى سورة البقرة.

٢

كِتابٌ خبر مبتدأ محذوف اى هذا كتاب او خبر للحروف المقطعة ان كان المراد به السورة او القران أُنْزِلَ إِلَيْكَ صفة للكتاب فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ الحرج فى الأصل الضيق قال مجاهد المراد هاهنا الشك فان ضيق الصدر سبب للشك و شرح الصدر سبب لليقين و قد مر مسئلة شرح الصدر و ضيقه فى سورة الانعام فى تفسير قوله تعالى فمن يرد اللّه ان يهديه يشرح صدره للاسلام الاية و قال ابو العالية المراد منه مخافة الناس فى تبليغ القران من ان يكذبوه و يوذوه فان الخائف فى امر لا ينشط له و لا ينشرح صدره فى الإتيان به و قيل المراد المخافة فى القيام بحقه و الخطاب للنبى صلى اللّه عليه و اله و سلم و توجيه النهى الى الحرج للمبالغة كقولهم لا ارينك يعنى لا تشك فى انه منزل من اللّه تعالى او لا تخف أحدا من الناس و لا تبال بهم فنحن الحافظون لك او لا تخف ترك القيام بحقوقه فنحن نيسر لك و نوفقك و الفاء يحتمل العطف و الجواب كانه قيل إذا انزل إليك فلا تحرج صدرك لِتُنْذِرَ بِهِ متعلق بانزل او لا يكن لانه إذا أيقن انه من عند اللّه جسر على الانذار و كذا إذا لم يخفهم او علم انه موفق للقيام به وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ اى عظة لهم مرفوع عطفا على كتاب او خبر المحذوف او منصوب بإضمار تذكر اى تذكر ذكرى او مجرور عطفا على محل تنذر.

٣

اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ بتوسط الرسول صلى اللّه عليه و اله و سلم مِنْ رَبِّكُمْ وحيا جليا او خفيا فيعم السنة ايضا وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ اى دون اللّه تعالى حال من قوله أَوْلِياءَ من الجن و الانس تطيعونهم فى معصية اللّه تعالى خرج بقوله تعالى من دونه من كان ولايته من جهة اللّه تعالى كالانبياء و العلماء قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ اى تذكرا قليلا او زمانا قليلا و ما مزيدة لتاكيد القلة و ليست بمصدرية و الا لم ينتصب قليلا بتذكرون قرا ابو عمرو يتذكرون بالياء التحتانية على صيغة الغيبة و الخطاب مع النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم و الباقون بغير ياء على صيغة الخطاب بحذف أحد التاءين على انه خطاب مع الناس قلت نسبة قلة التذكر الى جميع الناس مبنى على كثرة تذكر قليل منهم و هم المؤمنون.

٤

وَ كَمْ خبرية مبتدأ مِنْ قَرْيَةٍ تميز لها أَهْلَكْناها خبر للمبتدا اى أردنا اهلاكها او خذلناها فَجاءَها اى جاء أهلها بَأْسُنا عذابنا و جاز ان يكون الفاء للبيان و التفسير كما فى قوله أحسنت الىّ فاعطينى فيكون قوله فجاءها بأسنا بدلا من قوله أهلكناها بَياتاً اى بائتين ليلا كقوم لوط مصدر وقع موقع الحال أَوْ هُمْ قائِلُونَ اى نائمون فى الظهيرة كقوم شعيب و القيلولة استراحة نصف النهار و ان لم يكن معه نوم و الجملة معطوفة على بيانا عطف الجملة على المفرد حال من القرية بمعنى أهلها و انما حذفت واو الحال استثقالا لاجتماع حرفى العطف فانها واو عطف استعيرت للوصل لا اكتفاء بالضمير فانه غير فصيح و معنى الاية انه جاءهم العذاب و هم غافلون غير متوقعين له و وجه تخصيص الوقتين بالذكر المبالغة فى بيان غفلتهم و امنهم من العذاب.

٥

فَما كانَ دَعْواهُمْ اى قولهم و دعائهم و تضرعهم قال سيبويه يقول العرب اللّهم أشركنا فى صالح دعوى المسلمين إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ يعنى الا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه و المعنى انهم لم يقدروا على رد العذاب بل اعترفوا بذنبهم حين لا ينفعهم الاعتراف.

٦

فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ اخرج البيهقي من طريق ابى طلحة عن ابن عباس انه قال نسأل الناس جميعا عما أجابوا المرسلين و لنسألن المرسلين عما بلغوا

و اخرج ابن المبارك عن وهب قال إذا كان يوم القيامة دعى اسرافيل ترعد فرائصه فيقال ما صنعت فيما ادى إليك اللوح فيقول بلغت جبرئيل فيدعى جبرئيل ترعد فرائصه فيقال ما صنعت فيما بلغك اسرافيل فيقول بلغت الرسل فيوتى بالرسل فيقال ما صنعتم فيما ادى جبرئيل فيقولون بلغنا الناس و هو قوله تعالى فلنسألن الذين أرسل إليهم و لنسألن المرسلين

و اخرج مسلم عن جابر ان النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم قال فى خطبته فى حجة الوداع أنتم تسألون عنى فهل أنتم قائلون قالوا نشهد انك قد بلغت و أديت و نصحت فقال اللّهم اشهد

و اخرج احمد عن معوية بن جيدة ان النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم قال ان ربى داعى و انه سائلى هل بلغت عبادى و انى قائل قد بلغتهم فليبلغ منكم الشاهد الغائب ثم انكم تدعون مقدمة أفواهكم بالغداة ان أول ما يبين عن أحدكم لفخذه و كفه

و اخرج ابو الشيخ فى العظمة عن ابى سنان قال أول من يحاسب يوم القيامة اللوح يدعى به ترعد فرائصه فيقال له هل بلغت فيقول نعم فيقول ربنا من يشهد لك فيقول اسرافيل فيدعى اسرافيل ترعد فرائصه فيقول هل بلغك اللوح قال نعم قال اللوح الحمد للّه الذي نجانى من سوء الحساب

و اخرج ابن المبارك فى الزهد عن ابى حبلة قال أول من يدعى يوم القيامة اسرافيل فيقول اللّه هل بلغت عهدى فيقول نعم قد بلغته جبرائيل فيدعى جبرائيل فيقال هل بلغك اسرافيل عهدى فيقول نعم فيخلى عن اسرافيل فيقول لجبرئيل ما صنعت فى عهدى فيقول يا رب بلغت الرسل فيدعى الرسل فيقول للرسل هل بلغكم جبرئيل عهدى فيقولون نعم فيقال لهم ما صنعتم فى عهدى فيقولون بلغناه الأمم فيقال لهم هل بلغكم الرسل فمكذب و مصدق فيقول الرسل لنا عليهم شهداء فيقول من فيقولون امة محمد صلى اللّه عليه و اله و سلم فتدعى امة محمد صلى اللّه عليه و اله و سلم فيقال لهم تشهدون ان الرسل قد بلغت الأمم فيقولون نعم فتقول الأمم يا ربنا كيف يشهد علينا من لم يدركنا فيقول اللّه كيف تشهدون عليهم و لم تدركوهم فيقولون يا ربنا أرسلت إلينا رسولا و أنزلت علينا كتابا و قصصت علينا ان قد بلغوا فذلك قوله تعالى و كذلك جعلناكم امة وسطا الاية و قد ذكرنا حديث ابى سعيد الخدري فى الشهادة فى سورة البقرة فى تفسير تلك الاية و جاز ان يكون المراد و لنسألن المرسلين عما اجابتهم الأمم نظيره قوله تعالى يوم يجمع اللّه الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا انك أنت علام الغيوب و قد مر تفسير الاية فى سورة المائدة.

٧

فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ اى على الرسل و المرسل إليهم حين يقول الرسل لا علم لنا او حين أنكر الأمم التبليغ و شهد عليهم امة محمد صلى اللّه عليه و اله و سلم بِعِلْمٍ اى بمعلومنا منهم او المعنى عالمين بظواهرهم و بواطنهم وَ ما كُنَّا غائِبِينَ عن الرسل فيما بلغوا او عن الأمم فيما أجابوا و فيما شهد عليهم امة محمد صلى اللّه عليه و اله و سلم و انما كان السؤال لتوبيخ الكفرة و تقريعهم و اظهار شرف الأنبياء و المسلمين و تفضيل امة محمد صلى اللّه عليه و سلم بالشهادة.

٨

وَ الْوَزْنُ اى وزن الأعمال بالميزان مبتدأ خبره يَوْمَئِذٍ اى كائن يوم إذا تحقق السؤال من المرسلين و المرسل إليهم الْحَقُّ صفة للمبتدأ و معناه العدل السوىّ او خبر لمحذوف اى هو الحق لا شبهة فيه يجب الايمان به اخرج البيهقي فى البعث عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنهما فى حديث سوال جبرئيل عن الايمان قال يا محمد ما الايمان قال ان تؤمن باللّه و ملئكة و رسله و تؤمن بالجنة و النار و الميزان و تؤمن بالبعث بعد الموت و تؤمن بالقدر خيره و شره قال فاذا فعلت هذا فانا مؤمن قال نعم قال صدقت

و اخرج ابن المبارك فى الزهد و الآجري فى الشريعة عن سلمان و ابو الشيخ فى تفسيره عن ابن عباس قال الميزان له لسان و كفتان و اختلفوا فى كيفية الوزن فقال بعضهم يوزن صحايف أعمالهم لما روى الترمذي و ابن ماجة و ابن حبان و الحاكم و صححه و البيهقي عن ابن عمر رضى اللّه عنهما قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم يجاء برجل من أمتي على رؤس الاشهاد يوم القيامة فينشر له تسعة و تسعون سجلا كل سجل مد البصر فيقول أ تنكر من هذا شيئا أ ظلمك كتبتى الحافظون فيقول لا يا رب فيقول بلى ان لك عندنا حسنة و انه لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها اشهد ان لا اله الا اللّه و اشهد ان محمدا عبده و رسوله فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقول انك لا تظلم فتوضع السجلات فى كفة و البطاقة فى كفة فطاشت السجلات و ثقلت البطاقة و لا يثقل مع اسم اللّه تعالى شى ء

و اخرج احمد بسند حسن عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم توضع الموازين يوم القيامة فيوتى بالرجل فيوضع فى كفة و يوضع ما احصى عليه فتمايل به الميزان فيبعث به الى النار فاذا أدبر به إذا صائح يصيح من عند الرحمن لا تعجلوا فانه قد بقي له فيوتى ببطاقة فيها لا اله الا اللّه فيوضع مع الرجل حتى يميل به الميزان

و اخرج ابن ابى الدنيا عن عبد اللّه بن عمرو قال ان لادم من اللّه موقفا عليه ثوبان أخضران كانه نخلة «١» سحوق ينظر الى لمن ينطلق به من ولده الى النار فبينما آدم على ذلك إذ نظر الى رجل من امة محمد صلى اللّه عليه و اله و سلم ينطلق به الى النار فينادى آدم يا احمد فاقول لبيك يا أبا البشر فيقول هذا رجل من أمتك ينطلق به الى النار فاشد الميزر اسرع فى اثر الملئكة و أقول يا رسل ربى قفوا فيقولون نحن الغلاظ الشداد الذين لا نعصى اللّه ما أمرنا و نفعل ما نومر فاذا ايس النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم قبض على لحيته بيده اليسرى و استقبل العرش بوجهه فيقول رب قد وعدتني ان لا تخزينى فى أمتي فيأتى النداء من عند العرش أطيعوا محمدا وردوا هذا العبد الى المقام فاخرج من حجرتى بطاقة بيضاء كالانملة فالقيها فى كفة الميزان اليمنى و انا أقول بسم اللّه فترجح الحسنات على السيئات فينادى سعد و سعد جده و ثقلت موازينه انطلقوا به الى الجنة فيقول يا رسل ربى قفوا حتّى اسأل هذا العبد الكريم على ربه فيقول بابى و أمي ما احسن وجهك و احسن خلقك من أنت فقد أفلتني و رحمت عزتى فاقول انا نبيك محمد و هذه صلوتك التي كنت تصليها علىّ وافتك أحوج ما تكون إليها و قال بعضهم يوزن الاشخاص لما روى الشيخان فى الصحيحين عن ابى هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم قال انه لياتى الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند اللّه جناح بعوضة ثم قرا فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا

و اخرج ابو نعيم و الا جرى فى قوله تعالى قال القوى الشديد الأكول الشروب يوضع فى الميزان فلا يزن شعيرة يدفع الملك عن أولئك سبعين الفا دفعة واحدة فى النار و قال بعضهم يوزن الأعمال أنفسها يعنى يجسّد الأعمال و توزن لما روى البخاري عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم كلمتان

(١) النخلة السحوق اى الطويلة بعد ثمرها على المجتنى ١٢.

خفيفتان على اللسان ثقيلتان فى الميزان حبيبتان عند الرحمن سبحان اللّه و بحمده سبحان اللّه العظيم و بحمده و روى مسلم عن ابى مالك الأشعري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم الطهور شطر الايمان و الحمد للّه يملأ الميزان و روى الاصبهانى فى الترغيب عن ابن عمر رضى اللّه عنهما قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم يقول سبحان اللّه نصف الميزان و الحمد للّه يملأ الميزان و روى ابن عساكر من حديث ابى هريرة مثله و

روى البزار و الحاكم عن ابن عمر و رضى اللّه عنهما ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم قال ان نوحا لما حضرته الوفاة دعا ابنيه فقال امر كما بلا اله الّا اللّه فان السموات و الأرض و ما فيها لو وضعت فى كفة الميزان و وضعت لا اله الا اللّه فى الكفة الاخرى كانت أرجح منها و روى ابو يعلى و ابن حبان و الحاكم و صححه عن ابى سعيد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم قال قال اللّه تعالى يا موسى لو ان السموات و عامرهن غيرى و الأرضين السبع فى كفة و لا اله الا اللّه فى كفة لمالت بهن لا اله الا اللّه و روى الطبراني عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و الذي نفسى بيده لوجئ بالسماوات و الأرض و ما فيهن و ما بينهن و ما تحتهن فوضعت فى كفة الميزان و وضعت شهادة ان لا اله الا اللّه فى الكفة الاخرى لرجحت بهن و روى ابو داؤد و الترمذي و صححه و ابن حبان عن ابى الدرداء رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم ما من شى ء أثقل فى الميزان من حسن الخلق و روى البزار و الطبراني و ابو يعلى و ابن ابى الدنيا و البيهقي بسند حسن انه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم يا أبا ذر الا ادلك على خصلتين هما خفيفتان على الظهر و أثقل فى الميزان من غيرهما قال بلى يا رسول اللّه قال عليك بحسن الخلق و طول الصمت فو الذي نفسى بيده ما عمل الخلائق بمثلهما

و اخرج احمد فى الزهد عن رجل يقال له حازم ان النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم نزل عليه جبرئيل و عنده رجل يبكى فقال من هذا قال فلان قال جبرئيل انما يوزن اعمال بنى آدم كلها الا البكاء فان اللّه يطفئ بالدمعة بحورا من نار

و اخرج البيهقي عن معقل بن يسار قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم ما إذ «١» رفت عين الا حرم اللّه سائر الجسد على النار و لا سالت قطرة على خدّها فترهق ذلك الوجه قتر و لا ذلة و لو ان باكيا بكى من امة من الأمم

(١) إذ رفت العين يعنى اجرى دمعها نهايه ١٢.

و ما من شى ء إلا و له مقدار و ميزان الا الدمعة فانها تطفئ بها بحار من نار قلت هذه الأحاديث و انكانت ظاهرة فى انه توزن الأعمال أنفسها لكنها يحتمل فيها وزن سجلات كتبت فيها الأعمال او اشخاص صدرت منهم

و اخرج فى انها تجسّد و توزن ما رواه البيهقي فى شعب الايمان من طريق السدى الصغير عن الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس رضى اللّه عنهما قال الميزان له لسان و كفتان يوزن فيه الحسنات و السيئات فيوتى بالحسنات فى احسن صورة فيوضع فى كفة الميزان فيثقل على السيئات «١» فيوخذ فيوضع فى الجنة عند منازله ثم يقال للمؤمن الحق بعملك فينطلق الى الجنة فيعرف منازله بعمله و يوتى بالسيئات فى أقبح صورة فتوضع فى كفة الميزان فتخفف و الباطل خفيف فتطرح فى جهنم الى منازله منها و يقال له الحق بعملك النار فياتى النار فيعرف منازله بعمله و ما أعد اللّه فيها من ألوان العذاب قال ابن عباس فلهم اعرف بمنازلهم فى الجنة و النار بعملهم من القوم ينصرفون يوم الجمعة راجعين الى منازلهم لكن الحديث ضعيف لاجل السدى الصغير و ما رواه ابن المبارك عن حماد بن ابى سليمان قال جاء رجل يوم القيامة فيرى عمله مختصرا فبينما هو كذلك إذ جاءه مثل السحاب حتى يقع فى ميزانه فقال هذا ما كنت تعلّم الناس من الخير فورثت بعدك فاجرت فيه

و اخرج ابن عبد الرزاق عن ابراهيم النخعي نحوه و ما روى الطبراني عن ابن عباس قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم يقول من تبع جنازة يوضع فى ميزانه قيراطان مثل أحد و ما روى الاصبهانى عن عايشة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم قال ان للصلوة المكتوبة عند اللّه وزنا من انتقص منها شيئا حوسب فيها على ما ينقص و فى حديث ابى هريرة مرفوعا عند ابى داؤد قال ان انتقص من فريضته شى ء قال الرب تبارك و تعالى انظروا هل لعبدى من تطوع فيكمل بها من انتقص من الفريضة و من الأحاديث ما يدل على ان الأجسام التي لها تعلق بالأعمال توضع فى الميزان منها ما روى الطبراني فى الأوسط عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم أول ما يوضع فى ميزان العبد يوم القيامة النفقة على اهله و ما فى الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم من احتبس فرسا فى سبيل اللّه ايمانا و تصديقا بوعده كان شبعه وريه و روثه و بوله فى ميزانه يوم القيامة و ما روى

(١) لعل المراد بالسيئات العقائد الفاسدة التي يزعمها صاحبها حقة و من الأعمال ما يزعمها صاحبها عبادة و هى عند اللّه باطلة غير معتد بها ١٢ نهايه.

الطبراني عن على رضى اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم من ارتبط فرسا فى سبيل اللّه فعلفه و اثره فى ميزانه يوم القيامة و ما فى حديث علىّ عند الاصفهانى بسند حسن انه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم لفاطمة قومى فاشهدى أضحيتك فان لك باول قطرة تقطر من دمها مغفرة لكل ذنب اما انه يجاء بدمها و لحمها فيوضع فى ميزانك سبعين ضعفا قال ابو سعيد يا رسول اللّه هذا لال محمد خاصة فقال لال محمد و للمسلمين عامة و ما اخرج البيهقي عن ابن مسعود موقوفا و ابن حبان فى صحيحه عن ابى ذر مرفوعا و ابن عساكر بسند ضعيف عن ابى هريرة انه قال عليه الصلاة و السلام من توضأ فمسح بثوب نضيف فلا بأس به و من لم يفعل فهو أفضل لان الوضوء يوزن يوم القيامة مع سائر الأعمال

و اخرج ابن ابى شيبة فى المصنف عن سعيد بن المسيب انه كره المنديل بعد الوضوء و قال هو يوزن

و اخرج الطبراني عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه قال أعطيت ناقة فى سبيل اللّه فاردت ان اشترى من نسبها فسألت النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم فقال دعها لتاتى يوم القيامة هى و أولادها جميعا فى ميزانك

و اخرج الذهبي عن عمران بن حصين قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم يوزن يوم القيامة مداد العلماء و دم الشهداء فيرجح مداد العلماء على دم الشهداء فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ جمع موزون يعنى اعماله التي توزن و المراد بها حسناته كذا قال مجاهد فانها هى المقصود بوجودها او هو جمع ميزان و على هذا ايضا المراد كفة الحسنات من ميزانه و على هذا التأويل تدل الاية على ان لكل أحد ميزان على حدة فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالنجاة و الثواب.

٩

وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ اى اعماله الحسنة او كفة حسناته و هذا و ان كان يعم الكافر الذي لا حسنة له أصلا و المؤمن الذي ترجحت سياته على حسناته لكن المراد به هاهنا هم الكفار جريا على عادة القران غالبا حيث يذكر الكفار فى مقابلة الأبرار و قيل ذكر الذين خلطوا عملا صالحا و اخر سيئا من المؤمنين فالكفارهم المحكوم عليهم بقوله تعالى فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتضيع الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها و ارتكاب موجبات العذاب بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ فيكذبون بالآيات بدل التصديق و قد ذكرنا تفسير الاية و ما يتعلق به فى سورة القارعة فى تفسير قوله تعالى فمن ثقلت موازينه فهو فى عيشة راضية و اما من خفت موازينه فامه هاويه فليرجع اليه قال ابو بكر الصديق رضى اللّه عنه حين حضره الموت فى وصيته لعمر بن الخطاب رضى اللّه عنه انما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق فى الدنيا و ثقله عليهم و حق لميزان يوضع فيه الحق غدا ان يكون ثقيلا و انما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل فى الدنيا و خفته عليهم و حق لميزان ان يوضع فيه الباطل غدا ان يكون خفيفا قلت لعل المعنى و حق لميزان اى كفة الحسنات ان يوضع فيه الباطل يعنى العقائد و الأعمال التي يراها العامل حسنات و هى عند اللّه كفريات و بدعات و قبائح ان يكون خفيفا فانها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتّى إذا جاءه لم يجده شيئا و وجد اللّه عنده قوفاه حسابه و اللّه اعلم.

١٠

وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ اى اقدرناكم على سكناها و زرعها و التصرف فيها وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ جمع معيشة اى أسبابا تعيشون بها ايام حياتكم من الزرع و الضرع و المآكل و المشارب و التجارات و المكاسب قَلِيلًا ما اى شكرا قليلا او فى زمان قليل تَشْكُرُونَ فيما صنعت لكم.

١١

وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ يعنى قدرناكم فى العلم فى المرتبة الأعيان الثابتة ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ يعنى أباكم آدم نزل تصويره منزلة تصويرا لكل و ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بان قدرنا آدم و صورناه و ذلك ابتداء تقديركم و تصويركم و قال ابن عباس خلقناكم اى أصولكم و اباءكم ثم صورناكم فى أرحام أمهاتكم كذا قال قتادة و الضحاك و السدى

و قال مجاهد خلقنكم يعنى آدم ذكره بلفظ الجمع لانه ابو البشر فخلقه خلق من يخرج من صلبه ثم صورناكم فى ظهر آدم و قيل صورناكم يوم الميثاق حين أخرجكم كالذر و قال عكرمة خلقنكم فى أصلاب الرجال ثم صورناكم فى أرحام النساء و قال يمان خلق الإنسان فى الرحم ثم صوره فشق سمعه و بصره و أصابعه و قيل كلمة ثم بمعنى الواو و المعنى خلقكم و صوركم فان بعض المخلوقات كالارواح لا صورة لها ثُمَّ

قُلْنا ان كان المراد بضمير الخطاب آدم وحده فلا كلام فيه و ان كان المراد الذرية فقيل كلمة ثم بمعنى الواو و قيل معناه ثم اخبرناكم انا

قلنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قد ذكرنا شرح الاية فى سورة البقرة لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ

١٢

قالَ اللّه تعالى يا إبليس ما مَنَعَكَ يعنى اى شى ء منعك أَلَّا تَسْجُدَ اى من ان تسجد و لا زائدة كما فى لئلا يعلم موكدة لمعنى الفعل الذي دخلت عليه و منبهة على ان الموبخ عليه ترك السجود و قيل الممنوع من الشي ء مضطر الى خلافه فكانه قيل ما اضطرك الى ان لا تسجد و جاز ان يكون تقدير الكلام ما منعك من الامتثال و بعثك على ان لا تسجد إِذْ أَمَرْتُكَ بالسجدة فيه دليل على ان مطلق الأمر للوجوب و السؤال عن المانع من السجود مع العلم به للتوبيخ و اظهار معاندته و كفره و استكباره قالَ إبليس أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ جواب من حيث المعنى استأنف به استبعادا لان يكون مثله مامورا بالسجود لمثله كانه قال المانع منه كونى خيرا منه و لا يحسن للفاضل ان يسجد للمفضول فلا يحسن ان يؤمر به ففى الكلام اعتراض على اللّه سبحانه فى الأمر بالسجود خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ جوهر نورانى مستعل وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ جوهر ظلمانى مستسفل قال ابن عباس أول من قاس إبليس فاخطأ فى القياس فمن قاس الدين بشئ من رايه قرنه اللّه مع إبليس و قال ابن سيرين ما عبدت الشمس الا بالمقايس قلت و ليس فى هذين القولين ابطال القياس بل تخطيته لقياسه فانه قياس فى مورد النص و لذلك قال من قاس الدين بشئ من رايه يعنى على خلاف النصوص الواردة و ايضا تعليل الفصل و الخيرية بالاضاءة و الاستعلاء باطل انما الفضل بيد اللّه يوتيه من يشاء و قد فضل اللّه تعالى آدم على جميع خلقه حيث خلقه بيده و نفخ فيه من روحه و جعله مستعد التعلم أسمائه كلها و مهبطا لتجلياته و متقربا من اللّه تعالى بالفرائض و النوافل بامتثال أوامره و الانتهاء عن مناهيه و متحملا لامانته التي أشفقت عنها السموات و الأرض و الجبال

فان قيل الخطأ فى الاجتهاد معفو

قلنا انما ذلك إذا كان القائس طالبا للحق باذلا جهده فى طلبه لا إذا كان متعنتا باغيا استعلاء نفسه و الزام الخصم الا ترى ان قول الملئكة أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك ايضا قياس فيه خطأ و لذا رد اللّه تعالى قولهم بقوله انى اعلم ما لا تعلمون و لم يردهم أنفسهم حيث لم يصدر ذلك القول منهم استكبارا و تعنتا بل لطلب الحق و استعلام الحكمة و لذلك قالوا عند ظهور الحكمة سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك أنت العليم الحكيم قالت الحكماء للطين فضل على النار من وجوه فان من جوهر الطين الرزانة و الوقار و الحلم و الصبر و هو الداعي لادم بعد السعادة التي سبقت له الى التوبة و التواضع و التضرع فاورثه الاحتباء و التوبة و الهداية و من جوهر النار الخفة و الطيش و الحدة و الارتفاع و هو الداعي لابليس بعد الشقاوة التي سبقت له الى الاستكبار و الإصرار فاورثه اللعنة و الشقاوة و لان الطين سبب لجمع الأشياء و النار سبب لتفرقها و لان الطين سبب لحيوة النبات و النار سبب لهلاكها و اضافة خلق الإنسان الى الطين و الشيطان الى النار باعتبار الجزء الغالب و تلك الاضافة تدل على ان العمدة فى اجزاء الإنسان انما هو عالم الخلق دون عالم الأمر و عالم الأمر تابع له و يتصف بالخيرية و الشرية بتبعيته و يتلون بلونه الا ترى ان الروح تعلق بجسد الإنسان كما تعلق بجسد الشيطان فتلون فى كل على هيئة و مثله كمثل الشمس تجلت فى المرآة فتصورت بصورتها و تلونت بلونها قال المجدد رضى اللّه عنه كمال الترقي بعالم الأمر الى ظلال الصفات الا الأخفى منها فانها ترتقى الى بعض الصفات و كمال الترقي للنفس المنبعث من لطائف عالم الخلق الى ظاهر الصفات و كمال الترقي للعناصر الثلاثة الى باطن الصفات اى من حيث قيامها بالذات و الترقي الى مرتبة الذات مختصة بعنصر الطين كما ان نور الشمس لا يظهر الا على أكثف الأشياء دون ألطفها و اللّه اعلم.

١٣

قالَ اللّه تعالى لابليس لما استكبر فَاهْبِطْ مِنْها اى من الجنة و قيل من السماء و الفاء جواب لقوله انا خير منه يعنى ان كنت متكبرا فاهبط منها فانه كان للمتواضعين المطيعين فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها اى لا يصح لك التكبر فيها ففيه تنبيه على ان التكبر لا يليق باهل الجنة فانه من خصائص الكبير المتعال و انه تعالى انما طرده و اهبط لتكبره عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم لا يدخل الجنة أحد فى قلبه مثقال ذرة من خردل من كبر رواه مسلم و فى رواية لمسلم فقال رجل ان الرجل يحب ان يكون ثوبه حسنا و نعله حسنا قال عليه السلام ان اللّه جميل يحب الجمال الكبر بطر «١» الحق و غمط «٢» الناس و عن حارثة بن وهب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم الا أخبركم باهل الجنة كل ضعيف متضعف لو اقسم على اللّه لا بره الا أخبركم باهل النار كل عتل «٣» جواظ «٤» مستكبر متفق عليه و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم الكبرياء ردائى و العظمة إزاري فمن نازعنى واحدا منهما أدخلته فى النار رواه مسلم و فى رواية له قذفته فى النار فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ اى اهل الصغار و الذل و الهوان على اللّه و على أوليائه يذمك كل انسان و يلعنك كل لسان و فى القاموس الصاغر الراضي بالمنزلة الدنية و كذا فى غيره من كتب اللغة و من هاهنا يعلم ان الصغار و الذل لازم للاستكبار قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم من تواضع للّه رفعه اللّه فهو

(١) بطر الحق هو ان يجعل ما جعله اللّه حقا من توحيده و عبادته باطلا ١٢ نهايه.

(٢) الغمط الاستهانة و الاستحقار ١٤ ١٢ نهايه.

(٣) العتل الشديد الجافي ١٢ نهايه.

(٤) الجواظ الجموح المنوع ١٢.

فى نفسه صغير و فى أعين الناس عظيم و من تكبر وضعه اللّه لهو فى أعين الناس صغير و فى نفسه كبير حتى لهو أهون عليهم من كلب و خنزير رواه البيهقي فى شعب الايمان عن عمر و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم بئس العبد تخيل «١» و اختال و نسى الكبير المتعال رواه الترمذي من حديث اسماء و قال حديث غريب و ليس اسناده بالقوى.

(١) تخيل و اختال اى تكبر الخيلاء الكبر و العجب ١٢ نهايه [.....].

١٤

قالَ إبليس عند ذلك أَنْظِرْنِي اى أمهلني و لا تمتنى إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ اى الناس من قبورهم يعنى الى النفخة الاخيرة أراد ان لا يذوق الموت.

١٥

قالَ اللّه تعالى إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ و بين اللّه سبحانه مدة هذه النظرة و المهلة فى موضع اخر فقال انك من المنظرين الى يوم الوقت المعلوم و هو النفخة الاولى حين يموت الخلق كلهم او وقت يعلمه اللّه انتهاء اجله فيه و فيه دليل على ان اجابة الدعاء غير مختص باهل الإسلام و الطاعة و انه لا يدل مطلقا على كون الداعي من المقبولين بل قد يكون استدراجا و فى اجابة دعائه ابتلاء العباد و تعريضهم للثواب بمخالفته.

١٦

قالَ إبليس فَبِما أَغْوَيْتَنِي الفاء للتعقيب و الباء للسببية متعلق بفعل قسم مقدر و ما مصدرية يعنى بعد ما أمهلتني فبسبب اغوائك إياي بواسطتهم تسمية او حملا على الغنى او تكليفا بما غويت لاجله اقسم بك لاجتهدن فى اغوائهم باى طريق يمكننى و ليس الباء متعلقا باقعدن فان اللام يصد عنه و قيل الباء للقسم اى اقسم باغوائك إياي يعنى بقدرتك على نفاذ سلطانك فى لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ جواب للقسم اى اجلس مترصدا بهم كما يقعد القطاع للسابلة صِراطَكَ اى طريق الإسلام و نصبه على الظرف كقوله كما عسل «٢» الطريق الثعلب و قيل بنزع الخافض تقديره على صراطك كقولهم ضرب زيد الظهر و البطن و القعود على الطريق كناية عن كمال اجتهاده فى صدهم عن السلوك عليه الْمُسْتَقِيمَ

(٢) عسل اى مشى سريعا ١٢.

١٧

ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ من جميع الجهات مثّل قصده إياهم بالتسويل و الإضلال من اى جهة يمكن بإتيان العدو من الجهات الأربع و لذلك لم يقل من فوقهم و من تحت أرجلهم قال اللّه تعالى فى الأولين من لابتداء الغاية و فى الأخريين عن لان عن تدل على الانحراف و قيل لم يقل من فوقهم لان الرحمة تنزل منه و لم يقل من تحتهم لان الإتيان منه توحش

قال البغوي قال على بن طلحة عن ابن عباس من بين أيديهم اى من قبل الاخرة فاشككهم فيها و من خلفهم اى من قبل دنياهم فارغبهم فيها و عن ايمانهم اى أشبه عليهم امر دينهم و عن شمائلهم اى أشهى لهم المعاصي و روى عطية عنه من بين أيديهم اى من قبل دنياهم اى أزينها فى قلوبهم و من خلفهم اى من قبل الاخرة فاقول لا بعث و لا جنة و لا نار و عن ايمانهم من حسناتهم و عن شمائلهم من قبل سياتهم و قال قتادة نحوه ثم قال أتاك يا ابن آدم من كل جهة غير انه لم يأتك من فوقك و لم يستطع ان يحول بينك و بين رحمة اللّه كذا ذكر السيوطي قول ابن عباس

و قال مجاهد من بين أيديهم و عن ايمانهم اى من حيث يبصرون و من خلفهم و عن شمائلهم اى من حيث لا يبصرون قال ابن جريح معنى قوله حيث يبصرون حيث يعلمون انهم يخطئون و حيث لا يبصرون اى لا يعلمون انهم يخطئون.

وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ اى مؤمنين قاله ظنا لقوله تعالى و لقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه الا قليلا.

١٨

قالَ اللّه تعالى اخْرُجْ مِنْها اى من الجنة مَذْؤُماً محقرا فى القاموس ذأمه كمنعه حقره و ذمه و طرده و خزاه و قال الجوهري ذأمه ذأما يعنى مهموز العين و ذمته أذيمه يعنى الأجوف اليائى و ذممته اذمه يعنى المضاعف معنى كل واحد

قال البغوي الذيم و الذام يعنى المهموز و الأجوف أشد العيب مَدْحُوراً اى مبعدا مطرودا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ اى من بنى آدم اللام توطية للقسم لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ اى منك و ممن تبعك فغلب المخاطب و الجملة جواب للقسم و ساد مسد جواب الشرط أَجْمَعِينَ

١٩

وَ يا آدَمُ تقديره و

قلنا يا آدم.

اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ حواء الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا يحتمل الجزم على العطف و النصب على الجواب اى فتصيرا مِنَ الظَّالِمِينَ مر شرح الاية فى سورة البقرة.

٢٠

فَوَسْوَسَ الوسوسة حديث النفس و الشيطان بما لا نفع فيه كذا فى القاموس

قال البغوي الوسوسة حديث يلقيه الشيطان فى قلبه و أصله صوت الحلي و الهمس الخفي يعنى فعل الوسوسة لَهُمَا اى لاجلهما الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما اى ليظهر لهما و اللام للعاقبة او للغرض على انه أراد ايضا بوسوسة ان يسوئهما بكشف ما وُورِيَ ما غطى عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما من عوراتهما و كانا لا يريانها من أنفسهما و لا أحدهما من الاخر و فيه دليل على ان كشف العورة فى الخلوة و عند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن فى الطباع لم يزل مستقبحا شرعا و عقلا ثم بين الوسوسة فقال وَ قالَ إبليس لادم و حواء ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا اى الا لئلا تكونا او كراهة ان تكونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ الباقين الذين لا يموتون كما قال فى موضع اخر هل ادلك على شجرة الخلد و استدل به على فضل الملئكة على الأنبياء و الجواب انه انما كانت رغبتهما فى ان يحصل لهما ما للملئكة من الكمالات و الاستغناء عن الاطعمة و الاشربة و ذلك لا يدل على الفضل الكلى فان الفضل الكلى عبارة عن كثيرة الثواب و الاقربية الى اللّه سبحانه لا غير.

٢١

وَ قاسَمَهُما اى فاقسم لهما باللّه إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ جواب للقسم ذكر القسم على زنة المفاعلة للمبالغة و قد ذكرنا القصة فى سورة البقرة قال قتادة حلف لهما باللّه حتى خدعهما و قد يخدع المؤمن باللّه و قال انى خلقت قبلكما و انا اعلم منكما فاتبعانى ارشدكما و إبليس أول من حلف باللّه كاذبا فلما حلف ظن آدم ان أحد الا يحلف باللّه كاذبا فاغتربه.

٢٢

فَدَلَّاهُما الشيطان

قال البغوي يعنى خدعهما يقال ما زال فلان يدلى لفلان بغرور يعنى ما زال يخدعه و يكلمه بزخرف القول بِغُرُورٍ اى باطل و قيل معنى دلّهما انزلهما من درجة عالية الى منزلة سافلة اى من مقام الطاعة الى مقام المعصية فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ اى فلما وجدا طعمها آخذين فى الاكل منها يعنى لم يستوفا الاكل حتّى أخذتهما العقوبة و شوم المعصية و تهافت عنهما لباسهما اخرج عبد بن حميد عن وهب بن منبه انه كان لباسهما من النور

و اخرج ابن ابى حاتم عن السدى عن الفريابي و ابن ابى شيبة و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ و ابن مردوية و البيهقي فى سننه و ابن عساكر فى تاريخه عن ابن عباس قال كان لباس آدم و حواء كالظفر فلما أكلا من الشجرة لم يبق عليهما الأمثل الظفر فلما وقع منهما الذنب بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما فاستحيا وَ طَفِقا اى أخذا يَخْصِفانِ يلزقان عَلَيْهِما اى على عوراتهما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ و هو ورق التين حتّى صار شبيه الثوب كذا اخرج ابن ابى شيبة و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ و ابن مردوية و البيهقي فى سننه و ابن عساكر فى تاريخه عن ابن عباس قال الزجاج يجعلان على ورقة ليسترا سواتهما روى ابى بن كعب رضى اللّه عنه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم كان آدم رجلا طوالا كانه نخلة سحوق شعر الراس فلما وقع فى الخطيئة بدت له سؤاته و كان لا يراها أحد فانطلق هاربا فى الجنة فعرضت له شجرة من شجر الجنة فحبسته شعره فقال أرسلني فقالت لست بمرسلك فناديه ربه تبارك و تعالى يا آدم ا تفر منى قال لا يا رب و لكنى استحييتك وَ ناداهُما رَبُّهُما أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ يعنى عن الاكل منها وَ أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ اى بيّن العداوة حيث أقر على نفسه و قال لاقعدن لهم صراطك المستقيم عتاب على مخالفة النهى و توبيخ على الاغترار بقول العدو و فيه دليل على ان مطلق النهى للتحريم قال محمد بن قيس ناداه ربه يا آدم لم أكلت منها و قد نهيتك قال يا رب أطعمتني حواء قال لحواء لم أطعمته قالت أمرتني الحية قال لحية لم أمرتها قال أمرني إبليس فقال اللّه تعالى اما أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة تدمين كل شهروا ما أنت يا حية فاقطع قوائمك فتمشين على وجهك و سيشدخ راسك من لقيك و اما أنت يا إبليس فملعون مدحور.

٢٣

قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ضررناها بالمعصية و التعريض للاخراج عن الجنة وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ اى الهالكين فيه دليل على ان الصغائر معاقب عليها ان لم تغفر و قالت المعتزلة لا يجوز المعاقبة عليها مع اجتناب الكبائر.

٢٤

قالَ اهْبِطُوا قيل الخطاب لادم و حواء لان إبليس هبط قبلهما و لعل إيراد صيغة الجمع لان هبوطهما سبب لهبوط ذريتهما و قيل الخطاب لهما و لابليس كرر له الأمر تبعا ليعلم انهم قرنا ابدا او خبر عما قال لهم متفرقا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فى موضع الحال اى متعادين وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ اى استقرار او موضع استقرار وَ مَتاعٌ اى تمتع إِلى حِينٍ انقضاء اجالكم.

٢٥

قالَ اللّه تعالى فِيها اى فى الأرض تَحْيَوْنَ وَ فِيها تَمُوتُونَ وَ مِنْها تُخْرَجُونَ للجزاء قرا حمزة و الكسائي و ابن ذكوان منها تخرجون و فى الزخرف كذلك تخرجون بفتح التاء و ضم الراء فيهما على البناء للفاعل و الباقون بضم التاء و فتح الراء على البناء للمفعول

قال البغوي كانت العرب فى الجاهلية تطوف بالبيت عراة يقولون لا نطوف فى ثياب عصينا اللّه فيها فكان الرجال يطوفون بالنهار و النساء بالليل عراة فنزلت.

٢٦

يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً و قال قتادة كانت المرأة تطوف و تضع يدها على فرجها و تقول اليوم يبدو بعضه او كله. و ما بدا منه لا أحله. فامر اللّه تعالى بالستر فقال قد أنزلنا عليكم لباسا يُوارِي سَوْآتِكُمْ يعنى عوراتكم واحدتها سوء سميت بها لانها يسوء صاحبه انكشافها و معنى أنزلنا خلقناه لكم بتدبيرات سماوية و اسباب نازلة و نظيره قوله تعالى و أنزلت لكم من الانعام و قوله تعالى و أنزلنا الحديد قلت و يمكن ان يقال معناه انزل عليكم ان تلبسوا لباسا يوارى سوءاتكم و لعله ذكر قصة آدم تمهيدا للنهى عن كشف العورة حتى يعلم ان انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من الشيطان و انه أغواهم فى ذلك كما اغوى أبويهم وَ رِيشاً اى لباسا فاخرا كذا فى القاموس يعنى أنزلنا لباسا يوارى سوأتكم و أنزلنا لباسا فاخرا تتجملون فيها

قال البيضاوي الريش الجمال و قيل مالا و منه تريّش الرجل إذا تمول كذا قال ابن عباس و مجاهد و الضحاك و السدى وَ لِباسُ التَّقْوى قرأ نافع و ابن عامر و الكسائي بالنصب عطفا على ريشا يعنى و أنزلنا لباس التقوى و الباقون بالرفع على الابتداء و خبره ذلِكَ خَيْرٌ او ذلك صفة للمبتدأ و خير خبره و اختلفوا فى لباس التقوى قال قتادة و السدى لباس التقوى هو الايمان و قال الحسن هو الحياء لانه يبعث على التقوى و قال عطية عن ابن عباس و هو العمل الصالح و عن عثمان ابن عفان هو السمت الحسن و قال عروة بن الزبير لباس التقوى خشية اللّه و قال الكلبي هو العفاف و المعنى لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به مما خلق له من اللباس و التجمل و قال ابن الأنباري لباس التقوى هو اللباس الاول و انما إعادة اخبارا ان ستر العورة خير من التعري فى الطواف و ان اللباس سبب للتقوى عن معصية التعري و قال زيد بن على لباس التقوى اللباس التي يتقى بها فى الحرب من الدرع و المغفر و الساعدين و الساقين و قيل لباس التقوى هو الصوف و الثياب الخشنة التي يلبسها الزهاد ذلِكَ اى إنزال اللباس مِنْ آياتِ اللّه الدالة على فضله و رحمته لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيعرفون نعمته و يتورعون عن القبائح.

٢٧

يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ اى لا يخدعنكم و لا يضلنكم الشَّيْطانُ بان لا تدخلوا الجنة كَما فتن

و أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ آدم و حواء مِنَ الْجَنَّةِ و النهى فى الظاهر للشيطان و فى المعنى لبنى آدم لا تفتتنوا و لا تختدعوا و لا تضلوا باتباع الشيطان يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما اى ليرى كل واحد منهما سوءة الاخر و الجملة حال من فاعل اخرج او من مفعوله اسناد نزع الى الشيطان للتسبب إِنَّهُ يعنى الشيطان يَراكُمْ يا بنى آدم هُوَ وَ قَبِيلُهُ جنوده قال ابن عباس ولده و قال قتادة قبيلة الجن مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ و الجملة فقيل للنهى و تأكيد للتحذير من فتنة و قبيله فان عدوا يرانا و لا نراه لشديد المئونة الا من عصم اللّه فحينئذ كيده ضعيف قال ذو النون ان كان هو يريك من حيث لا تراه فاستعن بمن يراه من حيث لا يراه و هو اللّه القهار الستار إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بما أوجدنا بينهم من التناسب فى اتباع الباطل و التنافر من الحق او بإرسالهم عليهم و تمكينهم من خذلانهم و حملهم على ما سولوا لهم.

٢٨

وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً اى امرا بالغا الى النهاية فى القبح و ذلك هو الشرك و قال ابن عباس و مجاهد هى طوافهم بالبيت عريانا و الظاهر انه يعم كل كبيرة قالُوا إذا نهوا عن فعل الفاحشة وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللّه أَمَرَنا بِها يعنى احتجوا بامرين تقليد الآباء و الافتراء على اللّه فاعرض عن الاول لظهور فساده و قد ردّه فى موضع اخر او لو كان ابائهم لا يعلمون شيئا و لا يهتدون ورد الثاني فقال قُلْ إِنَّ اللّه لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ فان الأمر بالقبيح قبيح و اللّه تعالى منزه عن القبائح و فيه دليل على ان الحسن و القبح و ان كانا بخلق اللّه تعالى لكنه يدرك بالعقل ايضا و المراد بالقبيح هاهنا ما يتنفر عنه الطبع السليم و يستنقصه العقل المستقيم و قيل هما جوابا سوالين مترتبين كانه قيل لهم لم فعلتم فقالوا وجدنا عليه آباءنا فقيل و من اين أخذ اباءكم فقالوا اللّه أمرنا بها و على الوجهين يمنع التقليد إذا قام الدليل على خلافه لا مطلقا أَ تَقُولُونَ عَلَى اللّه ما لا تَعْلَمُونَ من غير دليل يوجب العلم اليقيني فيه انكار يتضمن النهى عن الافتراء على اللّه تعالى.

٢٩

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ قال ابن عباس بلا اله الا اللّه و قال الضحاك بالتوحيد

و قال مجاهد و السدى بالعدل و هو الوسط من كل امر المتجافى عن طرفى الافراط و التفريط وَ أَقِيمُوا تقديره و قال اقيموا و هو مقولة للقول المذكور يعنى و قل اقيموا او معطوف على معنى بالقسط يعنى أقسطوا و اقيموا او معطوف على مقدر تقديره فاقبلوا و اقيموا وُجُوهَكُمْ اى أخلصوا له تعالى سجودكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ اى عند كل وقت صلوة و سجودا و كل مكان سجود

و قال مجاهد و السدى وجهوا وجوهكم حيث ما كنتم فى الصلاة الى الكعبة و قال الضحاك إذا حضرت الصلاة و أنتم عند مسجد فصلوا فيه و لا يقولن أحدكم أصلي فى مسجدى و به قال ابو حنيفة رحمه اللّه غير انه قال من كان اماما لمسجد اخر او رجل يختل بفقده جماعة مسجد اخر جاز له الخروج من المسجد بعد الاذان و قيل معناه توجهوا الى عبادة اللّه مستقيمين غير عادلين الى غيره وَ ادْعُوهُ اعبدوه تعالى مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ اى الطاعة و العبادة من الشرك براء من الرياء و السمعة فانه خلقكم و اليه المصير كَما بَدَأَكُمْ اى خلقكم أول مرة من تراب ثم من نطفة تَعُودُونَ احياء باعادته بعد الموت فيجازيكم على أعمالكم شبه الاعادة بالابداء تقرير الا مكانها و القدرة عليها و قيل كما بدأكم حفاة عراة غرلا تعودون لحديث عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم تحشرون يوم القيامة حفاة عراة فقلت يا رسول اللّه الرجال و النساء ينظر بعضهم الى بعض قال يا عائشة الأمر يومئذ أشد من ذلك متفق عليه و فى الصحيحين و سنن الترمذي عن ابن عباس قال قام رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم و قال يايها الناس تحشرون الى اللّه حفاة مشاة عراة غرلا ثم قرا كما بدانا أول خلق نعيده الاية و أول من يكسى من الخلائق ابراهيم عليه السلام و فى الباب أحاديث كثيرة صحيحة و ما رواه ابو داؤد و الحاكم و صححه و ابن حبان و البيهقي عن ابى سعيد الخدري انه لما احتضر دعا بثياب جدد فلبسها ثم قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم يقول ان الميت يبعث فى ثيابه التي يموت فيها

و اخرج ابن ابى الدنيا بسند حسن عن معاذ بن جبل انه دفن امه فامر بها فكفنت فى ثياب جدد و قال أحسنوا أكفان موتاكم فانهم يحشرون فيها

و اخرج سعيد بن منصور فى سننه عن عمر بن الخطاب قال أحسنوا أكفان موتاكم فانهم يبعثون فيها يوم القيامة فليس فى القوة مثل ما ورد فى الحشر عراة قال اكثر العلماء هذه الأحاديث محمولة على الشهيد و ان أبا سعيد سمع الحديث فى الشهيد فحمله على العموم و قال البيهقي يجمع الأحاديث بان بعضهم يبعث عاريا و بعضهم بثيابه و قال بعضهم يخرجون من قبورهم بثيابه ثم تتناثر عنهم عند ابتداء المحشر فيحشرون عراة و قال بعضهم حديث ان الميت يبعث فى ثيابه محمول على العمل الصالح كقوله تعالى و لباس التقوى ذلك خير و قال جابر معنى الاية يبعثون على ما ماتوا عليه رواه مسلم فى صحيحه و ابن ماجة و البغوي عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم يبعث كل عبد على ما مات عليه المؤمن على إيمانه و الكافر على كفره و قال ابن عباس فى تفسير الاية ان اللّه تعالى بدأ خلق بنى آدم مؤمنا و كافرا كما قال هو الذي خلقكم فمنكم كافر و منكم مؤمن ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمنا و كافرا و قال ابو العالية عادوا الى علمه فيهم و قال سعيد بن جبير معناه كما كتب عليكم تكونون قال محمد بن كعب من ابتدأ اللّه خلقه على الشقاوة صار إليها و ان عمل بعمل اهل السعادة كما ان إبليس كان يعمل بعمل اهل السعادة ثم صار الى الشقاوة و من ابتدأ خلقه على السعادة صار إليها و ان عمل بعمل اهل الشقاوة كما ان السحرة كانوا يعملون بعمل اهل الشقاوة فصاروا الى السعادة عن سهل بن سعد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم ان العبد ليعمل عمل اهل النار و انه من اهل الجنة و يعمل عمل اهل الجنة و انه من اهل النار و انما الأعمال بالخواتيم متفق عليه و يناسب هذا التأويل اخر الاية حيث قال.

٣٠

فَرِيقاً منكم هَدى اى أراد بعلمه القديم هدايتهم فوفقهم الايمان و الأعمال الصالحة وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ بمقتضى القضاء السابق و انتصابه بفعل يفسره ما بعده اى أضل فريقا حق عليهم الضلالة إِنَّهُمُ اى الفريق الثاني اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ اى الكفار من الجن و الانس أَوْلِياءَ أنصارا مِنْ دُونِ اللّه اى غيره وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ فيه دليل على ان الجهل ليس بعذر و ان الكافر المخطى و المعاند سواء فى استحقاق الذم و اللّه اعلم روى مسلم عن ابن عباس قال كانت امرأة تطوف بالبيت فى الجاهلية و هى عريانة و على فرجها خرقة و هى تقول اليوم يبدوا بعضه او كله. و ما بدأ منه فلا أحله. فنزلت.

٣١

يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ و نزلت قل من حرم زينة اللّه الآيتين و المراد بالزينة ما يوارى العورة من الثياب بإجماع اهل التفسير قال مجاهد ما يوارى عورتك و لو عباءة و كذا قال الكلبي و روى البيهقي فى هذه الاية عن ابن عباس ان المراد بها الثياب و المراد بالمسجد قيل موضع السجود و لذا قيل معناه خذوا ثوبكم عند كل مسجد لطواف او صلوة و على هذا قال ابن الهمام الاية نزلت فى الطواف تحريما لطواف العريان و العبرة و ان كان لعموم اللفظ لا لخصوص السبب لكن لا بد ان يثبت الحكم فى السبب اولا و بالذات لانه المقصود به قطعا ثم فى غيره على ذلك الوجه و الثابت عندنا فى الستر فى الطواف الوجوب يعنى لا على سبيل الاشتراط لصحة الطواف حتى لو طاف عريانا اثم و حكم بسقوطه و فى الصلاة الافتراض يعنى الاشتراط حتّى لا تصح بدونه فالاوجه الاستدلال بالإجماع على الافتراض فى الصلاة كما نقله غير واحد من ائمة النقل الى ان حدث بعض المالكية فخالف كالقاضى اسمعيل و هو لا يجوز بعد تقرر الإجماع و الحديث عن عائشة يرفعه لا تقبل اللّه صلوة حائض بخمار رواه ابو داؤد و الترمذي و حسنه و الحاكم و صححه و ابن خزيمة فى صحيحه رواه ابو داؤد و الترمذي و حسنه و الحاكم و صححه و ابن خزيمة فى صحيحه و الظاهر عندى ان المسجد مصدر ميمى بمعنى السجدة اطلق على الصلاة تسمية الجزء على الكل كما فى قوله تعالى و اركعوا مع الراكعين يعنى صلوا مع المصلين و قوله تعالى فاقرءوا ما تيسر من القران يعنى صلوا ما تيسر من الصلاة فهذه الاية بعبارته يوجب ستر العورة عند كل صلوة خاصة و البحث فى سبب النزول ان قوله تعالى يا بنى آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى سوءاتكم و ريشا الى قوله تعالى قل انما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها و ما بطن الآيات كلها نزلت حين كانت العرب فى الجاهلية تطوف بالبيت عراة يقولون لا نطوف فى ثياب عصينا اللّه فيها و طافت المرأة عريانة واضعة يدها على فرجها بل ذكر قصة آدم ايضا توطية لذلك حتى يعلم ان انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من الشيطان و الآيات كلها ناطقة ان خلق اللباس للانسان لاجل ستر عورته نعمة من اللّه تعالى و ذلك هو التقوى و كشف العورة و ترك الستر فتنة و إضلال من الشيطان قد عمل اولا بأبيكم آدم و ثانيا بكم و انه فاحشة تفعله العرب تقليدا بآبائهم و افتراء على اللّه تعالى و اللّه تعالى لا يأمر بالفحشاء لكن فريقا من الناس هديهم اللّه و فريقا حق عليهم الضلالة فهذه الآيات تدل على ان كشف العورة فاحشة حرام مطلقا قبيح مستهجن طبعا و عقلا و شرعا فارتكابها فى الطواف و غير ذلك من العبادات أقبح و افحش و أشد حرمة بالطريق الاولى موجب للاثم و ما كانت العرب يدعون ان لبس الثياب فى الطواف حرام و أكل اللحم و الدسم فى الحج حرام فهو باطل أنكر عليه سبحانه بقوله من حرم زينة الاية و قوله انما حرم ربىالفواحش و منها كشف العورة لكن شى من هذه الآيات لا تدل على اشتراط ستر العورة فى الطواف و من ثم قال ابو حنيفة رحمه اللّه لو طاف عريانا اثم ويحكم بسقوطه و قال اكثر الائمة لا يحكم بسقوطه لحديث ابى هريرة ان أبا بكر الصديق رضى اللّه عنهما بعثه فى الحجة التي امره عليها رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم قبل حجة الوداع بعام يوم النحر فى رهط يوذن فى الناس ان لا يحج بعد العام مشرك و لا يطوف بالبيت عريان متفق عليه قالوا الطواف عريانا منهى عنه فلا يتادى به الواجب كما لا يجوز قضاء الصوم فى يوم النحر و قضاء الصلاة فى وقت الطلوع و الاستواء و الغروب و اما هذه الاية خذوا زينتكم عند كل مسجد يقتضى اشتراط ستر العورة فى الصلاة و عدم جواز الصلاة بدونها لما ذكرنا ان كونه فرضا واجبا مطلقا و كون كشف العورة فاحشة حراما مطلقا ثبت قبل ذلك من الآيات و لا مساس لهذه الاية بالطواف الا إذا ضم معها قوله صلى اللّه عليه و اله و سلم الطواف بالبيت صلوة الا ان اللّه أباح فيه الكلام رواه الترمذي و الحاكم و الدارقطني من حديث ابن عباس و صححه ابن خزيمة و ابن حبان و نزول هذه الاية فى ضمن آيات نزلت فى استقباح كشف العورة مطلقا و كون سبب نزولها طواف العرب عريانا لا تقتضى كون هذه الاية ايضا فى الطواف فان ما ورد فى حادثة او بعد سوال يجب ان يفيد حكم تلك الحادثة و جواب ذلك السؤال و لا يجب ان لا يذكر حكما زائدا على ما ورد فيه و لا شك ان حكم الطواف عريانا ظهر بغير تلك الاية من الآيات فما أورده ابن الهمام من الاشكال غير وارد

(مسئلة) ذكر فى رحمة الامة ان ستر العورة شرط الصلاة عند ابى حنيفة و الشافعي و احمد و اختلف اصحاب مالك فمنهم من قال كما قال الجمهور انه من الشرائط مع القدرة على الستر فمن صلى مكشوف العورة مع القدرة على الستر فصلوته باطلة و منهم من قال انه واجب فى نفسه ليس شرطا للصلوة فمن صلى مكشوف العورة مع القدرة على الستر عامدا كان عاصيا لكن يسقط عنه الفرض و المختار عند متاخرى أصحابه انه لا يصح الصلاة مع كشف العورة بحال و قد ذكر ابن الهمام اجماع الامة على ذلك و الخلاف المتأخر لا يرفع الإجماع المقدم.

(فصل) أفادت الاية على وجوب ستر العورة فى الصلاة لكنه مجمل فى مقدار العورة التي وجب سترها و جاء بيان ذلك من الأحاديث فنقول.

(مسئلة) عورة الرجل بين السرة و الركبة عند ابى حنيفة و الشافعي و عن مالك و احمد روايتان إحداهما ما قال ابو حنيفة و الثانية انها القبل و الدبر احتجوا بحديث انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم غزا خيبر و ذكر الحديث بطوله و فيه ثم حسر رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم الا زارعن فخذه حتى لانى انظر الى بياض فخذ النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم رواه البخاري و روى مسلم بلفظ انحسر الا زاد على البناء للمفعول و كذا عند احمد و حديث عائشة قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم مضطجعا فى بيته كاشفا عن فخذيه او ساقيه فاستاذن ابو بكر فاذن له و هو على تلك الحال فتحدث ثم استاذن عمر فاذن له و هو كذلك فتحدث ثم استاذن عثمان فجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم و سوى ثيابه الحديث رواه مسلم و هذا الحديث ليس بحجة لمكان الترديد بقوله فخذيه او ساقيه لكنه عند احمد بلفظ كاشفا عن فخذيه من غير ترديد و كذا عند احمد من حديث حفصة

و اخرج الطحاوي و البيهقي عن حفصة بنت عمر قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم عندى يوما و قد وضع ثوبه عن فخذيه فدخل ابو بكر فذكر الحديث نحوه و حديث ابى موسى ان النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم كان قاعدا فى مكان فيه ماء قد انكشف عن ركبته او ركبتيه فلما دخل عثمان غطاها رواه البخاري و احتج الجمهور بحديث على رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم لا تبرز فخذك و لا تنظر الى فخذ حى و لا ميت رواه ابو داؤد و ابن ماجة و الحاكم و البزار و صحح بعض العلماء هذا الحديث و هو من حديث ابن جريج عن حبيب بن ثابت عن عاصم بن ضمرة عنه قال الحافظ فيه انقطاع بين ابن جريج و حبيب و قال ابو حاتم فى العلل ان الواسطة بينهما الحسن بن ذكوان و هو ضعيف و قال لا يثبت لحبيب رواية عن عاصم فهذه علة اخرى و قال ابن معين ان حبيبا لم يسمع من عاصم و ان بينهما رجلا ليس بثقة و بيّن البزار ان الواسطة هو عمرو بن خالد الواسطي و حديث ابن عباس قال مر رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم على رجل فخذه خارجة فقال غط فخذك فان فخذ الرجل من عورته رواه الترمذي و احمد و الحاكم و صححه بعض العلماء و فى اسناده ابو يحيى القتات ضعيف و حديث جرهد ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم مر على جرهد و فخذ جرهد مكشوفة فى المسجد فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم يا جرهد غط فخذك فان الفخذ عورة رواه احمد و فيه زرعة مجهول و حديث محمد بن جحش عن النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم انه مر على معمر محتبيا كاشفا عن طرف فخذه فقال له النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم خمر فخذك يا معمر فان الفخذ عورة رواه احمد و البخاري فى التاريخ و الحاكم فى المستدرك قال الحافظ رجاله رجال الصحيح غير ابى كثير و قد روى عنه جماعة لكن لم أجد فيه تصريحا بتعديل او جرح و حديث ابى أيوب قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم يقول ما فوق الركبتين من العورة و ما أسفل السّرّة من العورة رواه الدارقطني و فى اسناده سعيد بن راشد و عباد بن كثير متروكان و حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم إذا زوج الرجل منكم عبده الحديث بطوله و فيه فانما تحت السرة الى الركبة من العورة رواه الدار قطنى و فيه سوار بن داؤد لينه العقيلي لكن و ثقه ابن معين و لا شك ان هذه الأحاديث لا يصادم شيئا منها ما تقدم من حديث كشف الفخذ لكن لما تعاضد بعضها ببعض و تلقته الامة بالقبول أخذناه احتياطا و من هاهنا قال البخاري حديث انس أسند و حديث جرهد أحوط و لاجل قوة حديث انس و ما فى معناه قال ابو حنيفة العاري يصلى قاعدا واضعا يديه على قبله يومى للركوع و السجود حيث قال بترك القيام و الركوع و السجود مع القدرة عليها الى القعود و الإيماء رعاية لستر العورة الذي هو فرض مطلقا فى الصلاة و خارجها و اللّه اعلم-

(مسئلة) الركبة عورة عند ابى حنيفة و قال الشافعي و احمد ليست بعورة لما تقدم من حديث ابى أيوب و عمرو بن شعيب و احتج أصحابنا بحديث على رضى اللّه عنه سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم يقول الركبة من العورة و فيه عقبة بن علقمة ضعفه ابو حاتم الرازي و النصر بن منصور قال ابو حاتم الرازي مجهول يروى أحاديث مناكير و قال ابن حبان لا يحتج به

قلنا الركبة ملتقى عظم العورة و غيرها فاجتمع الحرام و الحلال فقدمنا الحرمة احتياطا.

(مسئلة) المرأة الحرة كلها عورة الا وجهها و كفيها عند مالك و الشافعي و احمد و فى رواية عنهم الا وجهها فقط و كفاها من العورة و اما القدمان فليستامن العورة عندهم و قال ابو حنيفة الا وجهها و كفيها و قدميها قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم لا يقبل صلوة حائض الا بخمار و قد مرّ و قال عليه السلام المرأة عورة رواه الترمذي من حديث ابن مسعود و روى ابو داود مرسلا ان الجارية إذا حاضت لم يصلح يرى منها الا وجهها و يديها الى المفصل و روى الدارقطني عن أم سلمة انها سالت النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم اتصلي المرأة فى درع و خمار و ليس لها إزار قال إذا كان الدرع سابغا يغطى ظهور قدميها و فيه عبد الرحمن بن عبد اللّه ضعفه يحيى و قال ابو حاتم لا يحتج به و الظاهر انه غلط فى رفع الحديث و رواه مالك و جماعة عن أم سلمة من قولها.

(مسئلة) قال فى النوازل نغمة المرأة عورة و لهذا قال عليه السلام التسبيح للرجال و التصفيق للنساء قال ابن الهمام و على هذا لو قيل ان المرأة إذا جهرت بالقراءة فى الصلاة فسدت كان متجها.

(مسئلة) عورة الامة كعورة الرجل مع بطنها و ظهرها عند ابى حنيفة و قال مالك و الشافعي هى كعورة الرجل و به قال احمد و قال بعض اصحاب الشافعي كلها عورة الا مواضع التقليب منها و هو الرأس و الساعدات و الساق روى البيهقي عن نافع ان صفية بنت ابى عبيد حدثته قالت خرجت امرأة متخمرة بتحلية فقال عمر من هذا فقيل له جارية لفلان رجل من بنيه فارسل الى حفصة فقال ما حملك ان تخمرى هذه الامة و تجليبها تشبيها بالمحصنات حتى هممت ان أقع بها لا احسبها الا من المحصنات لا تشبهوا الإماء بالمحصنات قال البيهقي الآثار عن عمر بذلك صحيحة.

(مسئلة) يجب عند احمد ستر المنكبين فى الفرض و فى النفل عنه روايتان لحديث ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم قال لا يصلى أحدكم فى الثوب الواحد ليس على منكبيه منه شى ء رواه احمد و فى الصحيحين نحوه لكن لفظ البخاري ليس على عاتقه منه شى ء و فى حديث مسلم عاتقيه و حمل الجمهور على التنزيه قال الكرماني ظاهر النهى يقتضى التحريم لكن الإجماع منعقد على جواز تركه قال الحافظ قد غفل الكرماني عما ذكره بعد قليل عن النووي من حكاية مذهب احمد و نقل ابن المنذر عن محمد بن على عدم الجواز و عقد الطحاوي له بابا فى شرح معانى الآثار و نقل عن ابن عمر ثم عن طاؤس و النخعي و نقل غيره عن ابن وهب و ابن جرير و نقل الشيخ تقى الدين السبكى وجوب ذلك عن نص الشافعي و اختاره لكن المعروف فى كتب الشافعية خلافه.

(مسئلة) يستحب ان يصلى الرجل فى ثياب الزينة كما يشير اليه هذه الاية فان اللّه سبحانه سمى الثوب زينة و امر باتخاذه فى الصلاة فالواجب و ان كان ادنى منها و هو ما يستر العورة فما زاد عليه يستحب روى الطحاوي عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه فان اللّه أحق ان يزين له الحديث و روى البخاري عن ابى هريرة قال قام رجل الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم فسأله عن الصلاة فى الثوب الواحد فقال او كلكم يجد ثوبين ثم سأل رجل عمر فقال له إذا وسع اللّه فاوسعوا جمع رجل عليه ثيابه صلى رجل فى إزار و رداء فى إزار و قميص فى إزار و قباء فى سراويل و رداء فى سراويل و قميص فى سراويل و قباء فى تبان و قميص قال و احسبه فى تبان و رداء و اللّه اعلم

قال البغوي قال الكلبي كانت بنو عامر لا يأكلون فى ايام حجهم من الطعام الا قوتا و لا يأكلون دسما يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون نحن أحق ان نفعل ذلك يا رسول اللّه فانزل اللّه تعالى وَ كُلُوا يعنى اللحم و الدسم وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا بتحريم ما أحل اللّه لكم من اللحم و الدسم و زينة اللباس و غير ذلك إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ الذين يفعلون ذلك اى لا يرتضى فعلهم

و اخرج ابن المنذر عن عكرمة فى قوله تعالى قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى سواتكم قال نزلت فى الخميس من قريش الى ان قال و بنى عامر بن صعصعة و بطون كنانة بن بكرة كانوا لا يأكلون اللحم و لا يأتون البيوت الا من أدبارها قال ابن عباس كل ما شئت و البس ما شئت ما اخطاتك خصلتان سرف و مخيلة أخرجه ابن ابى شيبة فى المصنف و عبد بن حميد فى تفسيره و «١» عن ابن عمر مرفوعا كلوا و اشهبوا و تصدقوا و البسوا من غير إسراف و لا مخيلة رواه احمد بسند صحيح و ابن ماجة و الحاكم روى «٢» انه كان للرشيد طبيب نصرانى حاذق فقال لعلى بن الحسن بن واقد ليس فى كتابكم من علم الطب شى ء و العلم علمان علم الأبدان و علم الأديان فقال له علىّ قد جمع اللّه الطب كله فى نصف اية من كتابه و هو قوله تعالى كلوا و اشربوا و لا تسرفوا فقال النصراني و لم يرو من رسولكم شى ء فى الطب فقال قد جمع رسولنا الطب فى ألفاظ يسيرة و هى قوله عليه السلام المعدة بيت الداء و الحمية راس كل دواء و اعط كل بدن ما عودته فقال النصراني ما ترك كتابكم و لا نبيكم لجالينوس طبا.

(١) عن الحسن قال دخل عمر على اخر ابنه عبد اللّه إذا عندهم لحم فقال ما هذا اللحم فقال أشتهيه و كلما اشتهيت شيئا أكلته كفى بالمرأ إسرافا ان يأكل كل ما اشتهى ١٢.

(٢) و عن عمر بن الخطاب قال إياكم و البطنة فى الطعام و الشراب فانها مفسدة للجسد مورثة للقسم مكسلة عن الصلاة و عليكم بالقصر فيهما فانه أصلح للحمد و ابعد من السرف و ان اللّه ليبغض الجسد السمين و ان الرجل لن يهلك حتى يوثر شهوته على دينه ١٢.

٣٢

قُلْ يا محمد إنكارا عليهم مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّه اى الثياب و سائر ما يتجمل به الَّتِي أَخْرَجَ أصولها كالقطن و الكتان من الأرض و الصوف من ظهر الغنم و القز من الدود لِعِبادِهِ اى لاجل انتفاعهم و تزينهم و تجملهم

وَ اخرج الطَّيِّباتِ اى المستلذات مِنَ الرِّزْقِ من المآكل و المشارب يعنى لم يحرمها الذي هو خالقها و مالكها و لا يقدر أحد غيره على التحريم و التحليل فما لهولاء الكفار يحرمون الثياب فى الطواف و اللحم و الدسم فى الحج و السوائب و نحو ذلك و بهذه الاية يثبت ان الأصل فى المطاعم و المشارب و الملابس الحل ما لم يثبت تحريمها من اللّه تعالى قُلْ يا محمد هِيَ اى الزينة و الطيبات كائنة مخلوقة لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا حتى يتمتعون بها و يشكرون اللّه تعالى عليها و يتقوون بها على عبادته و ليست للكفار الا تبعا للمؤمنين شاركهم اللّه تعالى فيها ابتلاء و استدراجا خالِصَةً قرا نافع بالرفع على انه خبر بعد خبر لهى و الباقون بالنصب على انه حال مقدرة يعنى مقدرين الخلوص من التنغيص و الغم يَوْمَ الْقِيامَةِ و اما فى الدنيا فهى مشوبة بالغم و التنغيص او المعنى مقدرين الخلوص لهم لا يشاركهم الكفار كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ يعنى ميزنا الحلال من الحرام هاهنا حيث أمرنا بإتيان الحلال و ترك الحرام و نهينا عن الإسراف و إتيان الحرام كذلك نفصل سائر الاحكام لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ انه لا شريك للّه تعالى أحد.

٣٣

قُلْ يا محمد إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ قرأ حمزة بإسكان الياء و الباقون بفتحها الْفَواحِشَ اى ما تزايد قبحه ما ظَهَرَ مِنْها كطواف الرجل بالنهار عريانا وَ ما بَطَنَ كطواف النساء بالليل عريانا و قيل الزنا سرا و علانية عن ابن مسعود يرفعه قال لا أحدا غير من اللّه فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و لا أحد أحب اليه المدحة من اللّه فلذلك مدح نفسه وَ الْإِثْمَ اى ما يوجب الإثم يعنى الذنب و المعصية تعميم بعد تخصيص و قال الضحاك الإثم الذنب الذي لا حدّ فيه و قال الحسن الإثم الخمر قال الشاعر:

شربت الإثم حتى ضل عقلى كذلك الإثم يذهب بالعقول

وَ الْبَغْيَ الظلم او الكبر أفرده بالذكر مبالغة او المراد البغي على سلطان عادل بِغَيْرِ الْحَقِّ متعلق بالبغي موكد له معنى وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللّه ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ اى باشراكه سُلْطاناً حجة فيه تهكم بالمشركين و تنبيه على تحريم اتباع ما لم يدل عليه برهان وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّه ما لا تَعْلَمُونَ فى تحريم الحرث و الانعام و الطواف عريانا و غير ذلك و قال مقاتل هو عام فى تحريم القول فى الدين من غير يقين.

٣٤

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ يعنى لكل امة من الكفار مدة و وقت معين فى علم اللّه تعالى لنزول العذاب بهم و عيد لاهل مكة فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ اى حان وقت عذابهم لا يَسْتَأْخِرُونَ عنه ساعَةً اى لا يتاخرون اقصر وقت و ان طلبوا الامهال وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ و لا يتقدمون ذلك و ان سألوا العذاب لقولهم اللّهمّ ان كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء او ائتنا بعذاب اليم «١»

(١) و عن ابن المسيب قال لما طعن عمر قال كعب لو دعا اللّه عمر لاخر فى اجله فقيل له أ ليس قد قال اللّه تعالى فاذا جاء أجلهم لا يستاخرون ساعة و لا يستقدمون قال كعب و قد قال اللّه و ما يعمر من معمر و لا ينقص من عمره الا فى كتاب مبين فان اللّه يوخر ما يشاء و ينقص ما يشاء فاذا جاء أجلهم لا يستاخرون و لا يستقدمون و عن ابى مليكة قال لما طعن عمر جاء كعب فجعل يبكى و يقول و اللّه لو ان امير المؤمنين ليقسم على اللّه ان يوخره لاخره فدخل ابن عباس عليه فقال يا امير المؤمنين هذا كعب يقول كذا و كذا قال إذا و اللّه لا اسأله ٥.

٣٥

يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ ما زايدة زيدت لتاكيد الشرط و لذلك أكد فعلها بالنون ذكر اللّه سبحانه بحرف الشك للتنبيه على ان إتيان الرسل جائز غير واجب و لا يجب على اللّه شى ء رُسُلٌ مِنْكُمْ اى من بنى آدم يَقُصُّونَ اى يقرءون عَلَيْكُمْ آياتِي من الكتب صفة لرسل و جواب الشرط فَمَنِ اتَّقى منكم يعنى من الشرك و تكذيب الرسل وَ أَصْلَحَ عمله اى أخلصه للّه تعالى و اتى به كما امره فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ حين يخاف الناس فى القبر و يوم القيامة وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ إذا حزنوا فى النار.

٣٦

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا منكم وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها اى عن الايمان بها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ادخل الفاء فى الجزاء الاول دون الثاني للمبالغة فى الوعد و المسامحة فى الوعيد.

٣٧

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّه كَذِباً اى جعل له شريكا او قال اتخذ اللّه صاحبة و ولدا او قال اللّه أمرنا بتحريم السوائب و الطواف عريانا و نحو ذلك و اللفظ يشتمل الروافض الذين يفترون على اللّه و على رسوله و يقولون انزل اللّه فى القران آيات كثيرة القاها الصحابة من القران أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ المنزلة و الترديد لمنع الخلو أُولئِكَ يَنالُهُمْ فى الدنيا نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ اى حقهم مما كتب لهم فى صحف الملئكة الموكل بهم من الأرزاق و التمتعات و الأعمال و الاكساب و المصائب و الآجال و قيل الكتاب اللوح المحفوظ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يعنى ملك الموت و أعوانه يَتَوَفَّوْنَهُمْ يقبضون أرواحهم قالُوا جواب إذا يعنى قالت الرسل للكفار أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه ما موصولة وصلت باين الاستفهامية فى خط المصحف و كان حقها الفصل و الاستفهام للتوبيخ يعنى اين الذين كنتم تعبدونها من دون اللّه من الأصنام و غيرها قالُوا اى الكفار ضَلُّوا اى غابوا عَنَّا وَ شَهِدُوا يعنى الكفار اعترفوا عند معاينة العذاب عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ

٣٨

قالَ اللّه تعالى يوم القيمة او ملك الموت حين التوفى.

ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ اى كائنين فى جملة امم قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ يعنى الكفار الأمم الماضية من الفريقين فِي النَّارِ متعلق بادخلوا كُلَّما دَخَلَتْ النار أُمَّةٌ كافرة من الأمم لَعَنَتْ أُخْتَها فى الدين التي ضلت هذه الامة باقتدائها فيلعن اليهود اليهود و النصارى النصارى و يلعن الاتباع القادة حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا اى تداركوا و تلاحقوا و اجتمعوا فِيها اى فى النار جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ دخولا و هم الاتباع لِأُولاهُمْ دخولا و هم القادة فانهم يدخلون النار او لا و قال ابن عباس اخر كل امة لاولها زمانا الذين شرعوا ذلك الدين الباطل رَبَّنا هؤُلاءِ يعنى القادة أَضَلُّونا عن الهدى فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً اى مضاعفا يعنى مثلى ما نحن فيه مِنَ النَّارِ لانهم ضلوا و أضلوا قالَ اللّه تعالى لِكُلٍّ منكم و منهم ضِعْفٌ ما يرى الاخر فان للعذاب ظاهرا و باطنا و كل يدرك من الاخر الظاهر دون الباطن فيقدر انه ليس له العذاب الباطن او المعنى لكل ضعف ما يقتضيه ضلاله اما لقادة فبكفرهم و تضليلهم و اما لاتباع فبكفرهم و تقليدهم اهل الباطل دون اهل الحق وَ لكِنْ لا تَعْلَمُونَ اى لا يعلم أحد منكم ما لغيره من العذاب قرا ابو بكر عن عاصم بالياء للغيبة على الانفصال و الباقون بالتاء على الخطاب.

٣٩

وَ قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ عطفوا كلامهم على جواب اللّه تعالى لاخريهم و رتبوا عليه فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ يعنى فقد ثبت بقول اللّه تعالى ان لا فضل لكم علينا و انه كل متساوون فى استحقاق العذاب فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ يحتمل ان يكون من قول القادة او من قول اللّه تعالى للفريقين.

٤٠

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها اى عن الايمان بها لا تُفَتَّحُ قرأ ابو عمرو بالتاء لتانيث الفاعل لكونه جمعا بالتخفيف من المجرد و حمزة و الكسائي بالياء لان الفاعل مؤنث غير حقيقى و مفعول من المجرد ايضا و الباقون بالتاء كابى عمرو و التشديد من التفعيل لكثرة الأبواب لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ لاوعيتهم و لا لاعمالهم و لا لارواحهم و قال ابن عباس لارواحهم لانها خبيثة لا يصعد بها بل يهوى بها الى سجين عن البراء بن عازب فى حديث طويل رواه مالك و النسائي و البيهقي فى البعث و النشور قوله صلى اللّه عليه و اله و سلم فى ذكر العبد الكافران الملئكة سود الوجوه إذا قبضت نفسه جعلوها فى المسوح و يخرج منها كنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملئكة الا قالوا ما هذا الروح الخبيث فيقولون فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها فى الدنيا حتى ينتهى بها الى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له ثم قرا رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم لا يفتح لهم أبواب السماء و لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل فى سم الخياط فيقول اللّه عز و جل اكتبوا كتابه فى سجين فى الأرض السفلى فتطرح روحه طرحا ثم قرا و من يشرك باللّه فكانما خرمن السماء فتخطفه الطير او تهوى به الريح فى مكان سحيق لحديث و فى حديث ابى هريرة عند ابن ماجة نحوه وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ اى حتّى يدخل ما هو مثل فى عظم الجثة و هو البعير فيما هو مثل فى ضيق المنفذ و هو ثقبة الابرة و ذلك لا يكون فكذا ما علق به بدل ذلك على تأكيد المنع يعنى لا يدخلون ابدا وَ كَذلِكَ اى مثل ذلك الجزاء القطيع يعنى الياس من رحمة اللّه تعالى نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ

٤١

لَهُمْ اى للمجرمين مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ فراش وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ لحف منها و التنوين عوض من الياء المحذوفة عند سيبويه و للصرف عند غيره يعنى النار محيط بهم من كل جانب نظيره قوله تعالى من فوقهم ظلل من النار و من تحتهم ظلل وَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ذكر الجرم مع الحرمان من الجنة و الظلم مع التعذيب بالنار تنبيها على انه أعظم من الاجرام ثم أورد اللّه سبحانه وعد المؤمنين بعد وعيد الكفار كما هو عادته فقال.

٤٢

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مبتدأ و لما كان الجمع المحلى باللام من صيغ العموم موهما لاختصاص الوعد بمن عمل جميع الصالحات أورد معترضا بين المبتدأ و الخبر لدفع ذلك التوهم قوله لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها اى بقدر طاقتها بحيث لا تحرج و لا يشق عليها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خبر للمبتدأ هُمْ فِيها خالِدُونَ

٤٣

وَ نَزَعْنا اى أخرجنا صيغة ماض وضع موضع مستقبل تحقيقا لوقوعه ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ اى حسد و عداوة كانت بينهم فى الدنيا حتى لا يكون بينهم الا التواد لا يحسد بعضهم على بعض على شى ء خص اللّه به بعضهم اخرج سعيد بن منصور و ابو نعيم فى الفتن و ابن ابى شيبة و الطبراني و ابن مردوية عن على رضى اللّه عنه انه قال انى أرجو أن أكون انا و عثمان و طلحة و الزبير منهم قلت قال ذلك على رضى اللّه عنه لما وقع بينهم فساد ظن فى فتنة شهادة عثمان رضى اللّه عنه اخرج البخاري و الإسماعيليّ فى مستخرجه و اللفظ له عن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم فى قوله تعالى و نزعنا ما فى صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين قال يخلص المؤمنون من النار فيحسون على قنطرة بين الجنة و النار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم حتى إذا هذبوا وقفوا اذن لهم فى دخول الجنة فو الذي نفس محمد بيده لاحدهم اهدى بمنزله فى الجنة منه بمنزله فى الدنيا قال قتادة راوى الحديث كان يقال ما يشبه بهم الا اهل الجمعة انصرفوا عن جمعتهم

و اخرج ابن ابى حاتم عن الحسن البصري قال بلغني ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم قال يحبس اهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يوخذ لبعضهم من البعض ظلماتهم فى الدنيا و يدخلون الجنة ليس فى قلوب بعضهم على بعض غل قال القرطبي هذا فى حق من لم يدخل النار اما من دخلها ثم اخرج منها فانهم لا يحاسبون بل إذا خرجوا اذهبوا على نهار الجنة قال ابن حجر قوله يخلص المؤمنون من النار اى ينجون من السقوط بمجاورة الصراط و اختلف فى القنطرة المذكورة فقيل انها من تتمة الصراط و هى طرفه الذي يلى الجنة و قيل الصراط اخر و به جزم القرطبي و قال السيوطي و الاول هو المختار قلت و ذلك لان القصاص انما يكون بالحسنات و السيئات فانه ليس ثمه دينار و لا درهم ان كان له يعنى للظالم عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمة و ان لم يكن له حسنة أخذ من سيأت صاحبه فحمل عليه كذا روى البخاري من حديث ابى هريرة مرفوعا و عند مسلم و الترمذي عنه مرفوعا فان فنيت حسناته قبل ان يقتص ما عليه من الخطايا أخذ من خطاياهم فتطرح عليه ثم طرح فى النار قلت و الطرح فى النار لا يتصور بعد مجاورة الصراط بتمامه و اللّه اعلم قلت و ليس نزع الغل من الصدور منحصرا فى صورة القصاص و دفع الحسنات و السيئات من البعض الى البعض بل قد يكون بغير ذلك كما

قال البغوي قال السند فى هذه الاية الكريمة ان اهل الجنة إذا سبقوا الى الجنة وجدوا عند بابها شجرة فى اصل ساقها عينان فشربوا من أحدهما فينزع ما فى صدورهم من غل و هو الشراب الطهور و من الاخرى فجرت عليهم نضرة النعيم ان يشعثوا و لن يشحبوا بعدها ابدا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ من تحت منازلهم بعد ما دخلوا الجنة الْأَنْهارُ حال من هم فى صدورهم فيها بمعنى الاضافة وَ قالُوا اى اهل الجنة الْحَمْدُ للّه الَّذِي هَدانا لِهذا اى الى هذا يعنى الجنة و قال سفيان الثوري معناه هدانا لعمل ثوابه هذا وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ اللام للجحود لتاكيد النفي كما فى قوله تعالى ما كان اللّه ليعذبهم بعدها ان المصدرية مقدرة و المصدر بمعنى الفاعل او بتقدير المضاف خبر لكان تقديره ما كنا ذا اهتداء او مهتدين لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللّه و جواب لو لا محذوف دل عليه ما قبله يعنى لو لا هداية اللّه ما كنا مهتدين قرا ابن عامر ما كنا بغير واو على انها صبية للاولى و الباقون بالواو على انه حال من مفعول هدانا لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فاهتدينا بإرشادهم يقولون ذلك تبجحا حين رأوا ما وعدهم الرسل عيانا وَ نُودُوا اى اهل الجنة قيل هذا النداء إذا راوا الجنة من بعيد و قيل هذا النداء يكون فى الجنة و اختاره السيوطي فى البدور السافرة أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ ان فى المواضع الخمسة هى المفسرة لان المناداة و التأذين بمعنى القول و جاز ان يكون مخففة أُورِثْتُمُوها أعطيتموها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى بسبب أعمالكم الجملة حال من الجنة و العامل فيه معنى الاشارة او خبر و الجنة صفة تلكم قال صاحب المدارك سماها ميراثا لانها لا تستحق بالعمل بل هى محض فضل اللّه تعالى وعده على الطاعات كالميراث من الميت ليس بعوض عن شى ء بل هو صلة خالصة اخرج مسلم عن ابى سعيد الخدري و ابى هريرة رضى اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ينادى مناد ان لكم ان تصحوا فلا تسقموا ابدا و لكم ان تحيوا فلا تموتوا ابدا و ان لكم ان تشبوا فلا تهرموا ابدا و ان لكم ان تنعّموا فلا تباسوا «١» ابدا فذلك قوله تعالى و نودوا ان تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون

و اخرج ابن ماجة و البيهقي بسند صحيح عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم ما منكم من أحد الا له منزلان منزل فى الجنة و منزل فى النار فاذا مات فدخل النار ورث اهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى أولئك الوارثون.

(١) بئس يبئس بالضم فيهما بأسا اشتد و المبتئس الكارة و الحزين ١٢ نهايه.

٤٤

وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا من الثواب حَقًّا متحققا فى الواقع حال فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ من العذاب حَقًّا قالوا ذلك تبجحا بحالهم و شماتة باصحاب النار تقديره وعدكم حذف كم لدلالة وعدنا ربنا عليه او يقال لم يقل وعدكم كما قال وعدنا لان ما ساهم من الموعود لم يكن بامره وعده مخصوصا بهم كالبعث و الحساب و نعيم الجنة قالُوا نَعَمْ قرأ الكسائي بكسر العين حيث وقع و الباقون بفتحها و هما لغتان فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ اى نادى مناد قيل هو صاحب الصور بَيْنَهُمْ اى بين الفريقين بحيث اسمع الفريقين أَنْ لَعْنَةُ اللّه قرأ البزي عن ابن كثير و ابن عامر و حمزة و الكسائي بتشديد انّ و نصب اللعنة و الباقون بتخفيفها و الرفع عَلَى الظَّالِمِينَ

٤٥

الَّذِينَ يَصُدُّونَ اى يمتنعون او يمنعون الناس عَنْ سَبِيلِ اللّه اى دينه صفة للظلمين مقررة او ذم مرفوع او منصوب وَ يَبْغُونَها عِوَجاً زيعا و ميلا عما هو عليه مفعول ثان ليبغون اى يطلبون لها الاعوجاج و التناقض قال ابن عباس يصلون لغير اللّه و يعظمون ما لم يعظمه اللّه قلت تقديره الذين كانوا يصدون عن سبيل اللّه لان ذلك كان منهم فى الدنيا لا حين يقال لهم ذلك و العوج بالكسر فى المعاني و الأعيان ما لم يكن منتصبة كالّذين و الأرض و بالفتح فى الأعيان المنتصبة كالحائط و الرمح و نحوهما وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ باللّه او الاخرة كافِرُونَ

٤٦

وَ بَيْنَهُما اى بين الجنة و النار و قيل بين اهل الجنة و اهل النار حِجابٌ و هو سور الذي ذكره اللّه تعالى فى سورة الحديد فضرب بينهم بسور له باب و قد ذكر هناك تفسيره وَ عَلَى الْأَعْرافِ اى على اعراف الحجاب يعنى على أعالي السور المضروب بينهما جمع عرف مستعار من عرف الفرس اخرج هناد من طريق مجاهد عن ابن عباس قال الأعراف سور كعرف الديك و قيل العرف ما ارتفع من الشي ء فانه يكون لظهوره اعرف من غيره رِجالٌ اختلف الأقوال فى هؤلاء الرجال أوجهها انهم قوم استوت حسناتهم و سيئاتهم منعت حسناتهم من دخول النار و تقاصرت من دخول الجنة كذا اخرج ابن مردوية عن جابر بن عبد اللّه عنه صلى اللّه عليه و اله و سلم

و اخرج ابن جرير و البيهقي من طريق ابى طلحة عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم الأعراف سور بين الجنة و النار و أصحابه رجال كانت لهم ذنوب عظام حبسهم امر اللّه يقومون على الأعراف يعرفون اهل النار لسواد الوجوه و اهل الجنة ببياض الوجوه فاذا نظروا الى اهل الجنة طمعوا ان يدخلوها و إذا نظروا الى النار تعوذوا باللّه تعالى منها فادخلهم اللّه الجنة فذلك قوله تعالى هؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم اللّه برحمة يعنى اصحاب الأعراف ادخلوا الجنة لا خوف عليكم و لا أنتم تحزنون

و اخرج هناد و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ فى تفاسيرهم من طريق عبد اللّه بن الحارث عن ابن عباس قال الأعراف السور الذي بين الجنة و النار و اصحاب الأعراف المحبوسون بذلك حتى إذا بدأ اللّه تعالى ان يعافيهم انطلق بهم الى نهر يقال له الحيوة حافتاه الذهب مكلل باللؤلؤ ترابه المسك فالقوا فيه حتى يصلح ألوانهم و تبدوا فى نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها حتى إذا صلحت ألوانهم اتى بهم الرحمن تعالى فقال تمنوا ما شئتم فيتمنون حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم لكم الذي تمنيتم و مثله و سبعون ضعفا فيدخلون الجنة فى نحورهم شامة «١» بيضاء يعرفون بها يسمون مساكين اهل الجنة

و اخرج ابو الشيخ من طريق ابن المنكدر عن رجل من مزينة ان النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم سئل عن الأعراف فقال هم قوم خرجوا عصاة بغير اذن ابائهم فقتلوا فى سبيل اللّه و هم لابائهم عاصون فمنعوا الجنة بمعصية ابائهم و منعوا النار

(١) الشامة الخال فى الجسد ١٢.

لقتلهم فى سبيل اللّه

و اخرج الطبراني بسند ضعيف عن ابى سعيد الخدري قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن اصحاب الأعراف فقال هم رجال قتلوا فى سبيل اللّه و و هم عصاة لابائهم فمنعتهم الشهادة ان يدخلوا النار و منعتهم المعصية ان يدخلوا الجنة و هم على سور بين الجنة و النار حتى تذبل «١» لحومهم و شحومهم حتى يفرغ اللّه من حساب خلقه و لم يبق غيرهم تغمد اللّه برحمته فادخلهم الجنة برحمته

و اخرج سعيد بن منصور و ابن جرير و ابن ابى حاتم و ابن مردوية و ابو الشيخ فى تفاسيرهم و الطبراني و الحارث بن اسامة فى مسنده و البيهقي من عبد الرحمن المزني قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم عن اصحاب الأعراف فقال هم أناس قتلوا فى سبيل اللّه قلت لعل المراد بهذا الذين قتلوا فى سبيل اللّه الذين هم عصاة لابائهم جمعا بين هذا و بين ما سبق و ليعلم ان الذين قتلوا فى سبيل اللّه عصاة لابائهم افراد ممن استوت حسناتهم و سيئاتهم فذكرهم على وجه التمثيل لا على وجه الحصر لما مر من الأحاديث و لما اخرج ابن ابى داؤد و ابن جرير عن ابن عمر بن حزم بن جرير قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم فقال هم اخر من يفصل بينهم من العباد فاذا فرغ رب العلمين من الفصل بين العباد قال أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار و لم تدخلوا الجنة و أنتم عتقاء فارعوا من الجنة حيث شئتم قال السيوطي مرسل حسن

و اخرج ابن مردوية و ابو الشيخ من طريقين عن جابر بن عبد اللّه قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم عمن استوت حسناتهم و سيئاتهم فقال أولئك اصحب الأعراف لم يدخلوها و هم يطمعون

و اخرج البيهقي عن حذيفة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم يجمع اللّه الناس بينهم يوم القيامة فيومر باهل الجنة الجنة و باهل النار النار ثم قال لاصحاب الأعراف ما تنتظرون قالوا ننتظر أمرك فيقال لهم ان حسناتكم تجاوزت بكم النار ان تدخلوها و

(١) ذبلت بشرته اى قل ماء جلد و رهبت نضارته ١٢ نهايه.

حالت بينكم و بين الجنة خطاياكم فادخلوا بمغفرتى و رحمتى

و اخرج سعيد بن منصور و ابن جرير و ابو الشيخ و البيهقي و هناد و حذيفة قال اصحاب الأعراف قوم قصرت سيأتهم عن الجنة و تجاوزت بهم حسناتهم عن النار جعلوا هناك حتى ينقضى اللّه تعالى بين الناس فبينما هم كذلك إذا طلع عليهم ربهم فقال لهم قوموا فادخلوا الجنة فانى غفرت لكم

و اخرج عبد الرزاق عن حذيفة قال اصحاب الأعراف قوم استوت حسناتهم و سيأتهم على سور بين الجنة و النار و هم على طمع من دخول الجنة و هم داخلون و روى البغوي بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن مسعود قال يحاسب الناس يوم القيمة فمن كانت حسناته اكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة و من كانت سيئاته اكثر من حسناته بواحدة دخل النار ثم قرا قال اللّه عز و جل فمن ثقلت موازينه فاولئك هم المفلحون و من خفت موازينه فاولئك الذين خسروا أنفسهم ثم قال ان الميزان يخف حسناته و سيئاته بمثقال حبة و يرجح قال و من حسناته و سيئاته كان من اصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط ثم عرفوا اهل الجنة و اهل النار فاذا نظروا الى اهل الجنة نادوا سلام عليكم و إذا صرفوا أبصارهم الى اصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين فاما اصحاب الحسنات فانهم يعطون نورا يمشون به أيديهم و بايمانهم و يعلى كل عبد يومئذ نورا فاذا أتوا على الصراط سلب اللّه نور كل منافق و منافقة فلما رأى اهل الجنة ما بقي المنافقون قالوا ربنا أتمم لنا نورنا فاما اصحاب الأعراف فان النور لم ينزع من بين أيديهم و منعهم سيأتهم ان يمشوا فبقى فى قلوبهم الطمع إذ لم ينزع من بين أيديهم فهناك يقول اللّه عز و جل لم يدخلوها و هم يطمعون و كان الطمع للنور الذي بين أيديهم ثم ادخلوا الجنة و كانوا اخر اهل الجنة دخولا و اماما اخرج هناد عن مجاهد قال اصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء و الأعراف سور بين الجنة و النار فلعل المراد من القوم الصالحين المؤمنين الفقهاء العلماء ارتكبوا السيئات بحيث تساوت حسناتهم خلطوا عملا صالحا و اخر سيئا عسى اللّه ان يتوب عليهم و اماما اخرج البيهقي عن ابى مجلز انه قال الأعراف مكان مرتفع عليه رجال من الملئكة يعرفون اهل الجنة بسيماهم و اهل النار بسيماهم فليس بشئ إذ لا يقال للملئكة رجال و قد سماهم اللّه تعالى برجال و ايضا يرده ما روينا من الأحاديث و اماما قال بعضهم انهم رجال من الأنبياء او الأولياء او الشهداء فيطلعون على اهل الجنة و اهل النار جميعا و يطلعون احوال الفريقين فيرده ما روينا من الأحاديث و ما سيتلى عليك من الآيات و اماما قال بعضهم انهم أطفال المشركين يرده قوله تعالى رجال و ما ذكرنا من الأحاديث يَعْرِفُونَ اى اصحاب الأعراف كُلًّا اى كل فريق من المؤمنين و الكافرين بِسِيماهُمْ اى بعلامتهم يعرفون اهل الجنة ببياض وجوههم و اهل النار بسواد وجوههم مشتق من سام ابله إذا أرسلها فى المرعى معلمة او من وسم على القلب كالجاه من الوجه وَ نادَوْا اصحاب الأعراف أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ يعنى سلّموا عليهم إذا نظروا إليهم لَمْ يَدْخُلُوها يعنى اصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وَ هُمْ يَطْمَعُونَ دخولها حيث خلصوا من النار قال الحسن لم يطمعهم الا للكرامة يريدها بهم و الجملة مستانفة لا محل لها من الاعراب كانّ سائلا سأل عن اصحاب الأعراف فقال لم يدخلوها و هم يطمعون و جاز ان يكون حالا من الضمير المرفوع فى نادوا او صفة لرجال و من قال ان اصحاب الأعراف الأنبياء و الملئكة قال هذه الجملة حال من مفعول نادوا يعنى اصحاب الجنة.

٤٧

وَ إِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ اى أبصار اصحاب الأعراف فيه اشارة الى ان صارفا يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيدوا تِلْقاءَ ظرف اى الى جانب أَصْحابِ النَّارِ و رأوا ما هم فيه من العذاب تعوذوا باللّه و فرعوا الى رحمته قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعنى لا تجعلنا فى النار مع الكافرين سياق الاية تدل على ان اصحاب الأعراف فى خوف و رجاء و ذلك مقتضى استواء حسناتهم و لا يتصور ذلك فى الأنبياء و الشهداء و الصلحاء الذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون.

٤٨

وَ نادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا كانوا عظماء فى الدنيا من الكفار يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا اى اصحاب الأعراف بيان لنادى ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ اى كثرتكم و اعوانكم و أولادكم و جمعكم المال وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ عن الحق او على الخلق قال الكلبي ينادون على السوريا وليد بن مغيرة يا أبا جهل بن هشام يا فلان ثم ينظرون الى الجنة فيرون فيها الفقراء و الضعفاء ممن كانوا يستهزءون بهم مثل سلمان و صهيب و خباب و بلال و أشباههم فيقول اصحاب الأعراف لهؤلاء الكفار.

٤٩

أَ هؤُلاءِ يعنى هؤلاء الضعفاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ و حلفتم لا يَنالُهُمُ اللّه بِرَحْمَةٍ اى حلفتم انهم لا يدخلون الجنة ثم يقال لاهل الأعراف ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ قلت و جاز ان يكون هذا من تتمة كلام اصحاب الأعراف يعنى هؤلاء الضعفاء الذين أقسمتم لا ينالهم اللّه برحمة و قد قيل لهم ادخلوا الجنة الاية

قال البغوي و فيه قول اخر و هو ان اصحاب الأعراف إذا قالوا لاهل النار قالوا قال لهم اهل النار ان دخل أولئك الجنة فانتم لم تدخلوها فيعيرونهم و يقسمون انهم يدخلون النار فيقول الملئكة الذين حبسوا اصحاب الأعراف على الصراط لاهل النار أ هؤلاء يعنى اصحاب الأعراف الذي أقسمتم يا اهل النار انه لا ينالهم رحمة اللّه ثم قالت الملئكة لاصحاب الأعراف ادخلوا الجنة لا خوف عليكم و لا أنتم تحزنون فيدخلون الجنة

قال البغوي قال عطاء عن ابن عباس رضى اللّه عنهما انه لما صار اصحاب الأعراف الى الجنة طمع اهل النار فى الفرج و قالوا يا رب ان لنا قرابات من اهل الجنة فاذن لنا حتى نريهم و نكلمهم فنظروا الى قراباتهم فى الجنة و ما هم فيه من النعيم فعرفوهم و لم يعرفوا اهل الجنة اهل النار بسواد وجوههم.

٥٠

وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ بأسمائهم و اخبروهم بقراباتهم أَنْ أَفِيضُوا اى صبوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه من سائر الاشربة ليلا يم الاضافة او من طعام الجنة فهو من قبيل علفتها تبنا و ماء باردا قالُوا يعنى اصحاب الجنة إِنَّ اللّه حَرَّمَهُما اى الماء و الطعام عَلَى الْكافِرِينَ

قال البيضاوي معناه منعهما عنهم منع المحرم على المكلف و قال فى المدارك هو تحريم منع كما فى قوله و حرمنا عليه المراضع قلت و منه قوله تعالى حرام على قرية أهلكناها انهم لا يرجعون

و اخرج ابن ابى الدنيا و الضيا كلاهما فى صفة النار عن زيد بن رفيع ان اهل النار إذا دخلوا النار عكوا الدموع زمانا ثم بكوا الفيح زمانا فيقول لهم الخزنة يا معشر الأشقياء تركتم البكاء فى الدنيا هل تجدون اليوم من تستغيثون به فيعرفون به أصواتهم يا اهل الجنة يا معشر الآباء و الأمهات و الأولاد خرجنا من القبور عطاشا و كنا طول الموقف عطاشا و نحن اليوم عطاش فافيضوا علينا من الماء او مما رزقكم اللّه فيدعون أربعين لا يجيبهم ثم يجيبهم أنتم ماكثون فيئسون من كل خير

و اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم عن ابن عباس رضى اللّه عنهما فى هذه الاية قال ينادى الرجل أخاه فيقول يا أخي أغثني فانى قد أحرقت فيقول ان اللّه حرمهما على الكفرين.

٥١

الَّذِينَ اتَّخَذُوا مجرور وصفا للكافرين او مرفوع او منصوب على الذم دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً بتحريم البحيرة و أخواتها و المكاء و التصدية حول البيت و الطواف عريانا و أكل الميتة و الاستسقام بالأزلام و غير ذلك من الأمور التي كانوا يفعلونها فى الجاهلية و قيل معناه اتخذوا عيدهم لهوا و لعبا

قال البيضاوي اللّهو صرف الهم بما لا يحسن ان يصرف به و اللعب طلب الفرح بما لا يحسن ان يطلب به وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا و نسوا الاخرة و زعموا ان لا حيوة الا الحيوة الدنيا و لا الخير و لا الشر الا فيها فَالْيَوْمَ يوم القيامة نَنْساهُمْ نتركهم ترك الناسي فى النار كَما نَسُوا اى نسيانا كنسيانهم لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا حتى تركوا العمل بما ينفعهم يومهم هذا وَ ما كانُوا و كما كانوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ يعنى ككونهم جاحدين باياتنا منكرين انها من عند اللّه.

٥٢

وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ يعنى القران فَصَّلْناهُ بينا معانيه و ميزنا حلاله و حرامه و مواعظه و قصصه و أوضحنا العقائد الحقة من الباطلة عَلى عِلْمٍ عالمين بوجه تفصيله حتى جاء حكيما او عالمين بمصالحهم فهو حال من فاعل فصلناه او مشتملا على علم فهو حال من مفعوله هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ حال من مفعول فصلناه.

٥٣

هَلْ يَنْظُرُونَ اى هل ينتظرون فى الايمان بالقران إِلَّا تَأْوِيلَهُ يعنى الا ما يؤل اليه امره من تبين صدقة و ظهور ما ينطق به من الوعد و الوعيد قال مجاهد جزاءه يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ اى جزاءه و ما يؤل اليه أمرهم و ذلك يوم موتهم او يوم القيامة يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ اى تركوه ترك الناسي و لم يؤمنوا به قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ قد تبين لهم انهم جاؤا بالحق فاعترفوا حين لا ينفعهم الاعتراف فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ عطف على جملة قبلها داخلة معها فى حكم الاستفهام كانه قيل فهل لنا من شفعاء او هل نرد و رافعه وقوعه موقعا يصلح للاسم كقولك ابتداء هل يضرب زيدا و عطف على تقدير هل يعنى هل يشفع لنا شافع او هل نرد الى الدنيا فَنَعْمَلَ جواب للاستفهام الثاني غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ نوحد اللّه و نترك الشرك و المعاصي قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بصرف أعمارهم فى الكفر وَ ضَلَّ و بطل و اضمحل عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ان اللّه تعالى أمرهم به او فى ادعاء الشريك.

٥٤

إِنَّ رَبَّكُمُ اللّه الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ اى مقدار ستة ايام من ايام الدنيا و قيل ستة ايام كايام الاخرة كل يوم الف سنة قال سعيد بن جبير كان اللّه عز و جل قادرا على خلق السموات و الأرض فى لمحة و لحظة فخلقهن فى ستة ايام تعليما لخلقه التثبت و التأني فى الأمور و قد جاء فى الحديث التأني من الرحمن و العجلة من الشيطان رواه البيهقي فى شعب الايمان مرفوعا عن انس ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ

قال البغوي اولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء و اما اهل السنة يقولون الاستواء على العرش صفة للّه تعالى بلا كيف يجب على الرجل الايمان به و يكل العلم فيه الى اللّه عز و جل سأل رجل مالك بن انس عن قوله تعالى الرحمن على العرش استوى كيف استوى فاطرق راسه مليا ثم قال الاستواء غير مجهول و الكيف غير معقول و الايمان به واجب و السؤال عنه بدعة و ما أظنك الا ضالا ثم امر به فاخرج و روى عن سفيان الثوري و الأوزاعي و الليث بن سعيد و سفيان بن عيينة و عبد اللّه و غيرهم من علماء اهل السنة فى هذه الآيات التي جاءت فى الصفات المتشابهة أمروها كما جاءت بلا كيف و العرش فى اللغة سرير الملك و هو جسم عظيم من عظائم المخلوقات كريم على اللّه تعالى لاختصاصه بانواع من التجليات و لذا سمى بعرش الرحمن و أضيف اليه تعالى تشريفا و تكريما كما أضيف اليه الكعبة و سمى بيت اللّه و قد ذكرنا بعض ما ورد فيه من الاخبار فى اية الكرسي فى سورة البقرة يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ اى يغطيه به و لم يذكر عكسه للعلم به او لان اللفظ يحتملهما و

قال البغوي فيه حذف و يغشى النهار الليل و لم يذكر لدلالة الكلام عليه قرا حمزة و الكسائي و ابو بكر و يعقوب يغشى بالتشديد هاهنا و فى سورة الرعد للدلالة على التكرير و الباقون بالتخفيف يَطْلُبُهُ اى يعقبه فان أحدهما إذا كان يعقب الاخر و يخلفه فكانه يطلبه حَثِيثاً اى سريعا بلا مهلة و هو صفة مصدر محذوف اى طلبه حثيثا او حال من الفاعل بمعنى حاثا او المفعول بمعنى محثوثا وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ اى مذللات بِأَمْرِهِ بقضائه و تصريفه قرا ابن عامر برفع الاربعة على الابتداء و الخبرية و الباقون بنصب الثلاثة بالعطف على السموات و نصب مسخرات على الحال و كذلك فى سورة النحل أَلا لَهُ الْخَلْقُ جميعا لا خالق غيره وَ الْأَمْرُ كله بيده يحكم ما يريد لا يجوز لاحد الاعتراض عليه قالت الصوفية المراد بالخلق و الأمر عالم الخلق يعنى الجسمانية العرش و ما تحته من السموات و الأرض و ما بينهما و أصولها العناصر الاربعة النار و الهواء و الماء و التراب و يتولد منها النفوس الحيوانية و النباتية و المعدنية و هى أجسام لطيفة سارية فى أجسام كثيفة و عالم الأمر يعنى المجردات من القلب و الروح و السر و الخفي و الأخفى التي هى فوق العرش سارية فى النفوس الانسانية و الملكية و الشيطانية سريان الشمس فى المرآة سميت بعالم الأمر لان اللّه تعالى خلقها بلا مادة بامره كن

قال البغوي قال سفيان بن عيينة فرق بين الخلق و الأمر فمن جمع بينهما فقد كفر تَبارَكَ اللّه رَبُّ الْعالَمِينَ اى تعالى اللّه بالوحدانية فى الالوهية و تعظم بالتفرد فى الربوبية مشتق من البركة بمعنى النماء و الزيادة و من لوازمه العظمة قيل معناه ان البركة يكتسب و يناول بذكره و عن ابن عباس رضى اللّه عنهما معناه قال جاء بكل بركة و قال الحسن البركة من عنده و قيل تبارك اى تقدس و القدس الطهارة و قيل تبارك اللّه تعالى اى باسمه تبرك فى كل شى ء قال المحققون معنى هذه الصفة ثبت و دام بما لم يزل و لا يزال و اصل البركة الثبوت و منه البركة و يقال تبارك اللّه و لا يقال على اللّه المبارك و المبارك توفيقا على السمع.

٥٥

ادْعُوا رَبَّكُمْ يعنى اذكروه و اعبدوه و اسألوا منه حوائجكم تَضَرُّعاً حال من فاعل ادعوا اى ذوى تضرع او متضرعين تفعل من الضرع من ضرع الرجل ضراعة ضعف و ذل فهو ضارع و ضرع و تضرع اظهر الضراعة فى القاموس ضرع اليه يثلث ضرعا محركة و ضراعة خضع و ذل و استكان وَ خُفْيَةً قرأ ابو بكر بكسر الخاء و الباقون بالضم اى ذوى إخفاء او مخفين فان الإخفاء دليل الإخلاص و ابعد من الرياء اعلم ان الذكر مطلقا عبادة سواء كان جهرا إذا لم يخالطه الرياء او سرا عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم يقول اللّه تعالى انا عند ظن عبدى بي و انا معه إذا ذكرنى فان ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى و ان ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منهم متفق عليه فان هذا الحديث يفيد ذكر الجهر و الخفي كليهما و زعم بعض الناس ان هذا الحديث يدل على افضلية الجهر من الخفي و ليس بشئ إذ لا مزية لذكر اللّه عبده فى ملأ على ذكره إياه فى نفسه بل الأمر على العكس و يدرك ذوق هذا الكلام من ذاق كاس العشق و قوله تعالى فاذكروا اللّه كذكركم اباءكم او أشد ذكرا ليس فيه التشبيه فى الجهر بل فى إكثار الذكر ثم اجمع العلماء على ان الذكر سرا هو الأفضل و الجهر بالذكر بدعة الا فى مواضع مخصوصة مسّت الحاجة فيها الى الجهر به كالاذان و الاقامة و تكبيرات التشريق و تكبيرات الانتقال فى الصلاة للامام و التسبيح للمقتدى إذا ناب نائبة و التلبية فى الحج و نحو ذلك ذكر ابن الهمام فى حواشى الهداية ان أبا حنيفة أخذ فى تكبيرات التشريق بقول ابن مسعود انه كان يكبر من صلوة الفجر يوم عرفة الى صلوة العصر من يوم النحر الحديث رواه ابن ابى شيبة و الصاحبان أخذا بقول على رضى اللّه عنه انه كان يكبر بعد الفجر يوم العرفة الى صلوة العصر من اخر ايام التشريق رواه ابن ابى شيبة و كذا روى محمد بن الحسن عن ابى حنيفة بسنده عنه فقال ابن الهمام من جعل الفتوى على قولهما فقد خالف مقتضى الترجيح فان الخلاف فيه مع رفع الصوت لا فى نفس الذكر و الأصل فى الاذكار الإخفاء و الجهر به بدعة فاذا وقع التعارض فى الجهر يرجح الأقل و يدل على كون ذاكر السر أفضل و مجمعا عليه من الصحابة من تبعهم قول الحسن ان بين دعوة السر و دعوة العلانية سبعون ضعفا و لقد كان المسلمون يجتهدون فى الدعاء و ما يسمع لهم صوتا ان كان الا همسا بينهم و بين ربهم و ذلك ان اللّه سبحانه و تعالى يقول ادعوا ربكم تضرعا و خفية و ان اللّه ذكر عبدا صالحا و رضى فعله فقال إذ نادى ربه نداء خفيا و ايضا يدل على فضل الذكر الخفي حديث سعد بن ابى وقاص قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم خير الذكر الخفي و خير الرزق ما يكفى رواه احمد و ابن حبان فى صحيحه و البيهقي فى شعب الايمان و حديث ابى موسى قال لما غزا رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم خيبر اشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم اربعوا «١» على أنفسكم انكم لا تدعون أصم و لا غائبا انكم تدعون سميعا قريبا رواه البغوي قلت هذا الحديث و ان كان دالا على افضلية الذكر الخفي لكن قوله اربعوا على أنفسكم يدل على ان النهى عن الجهر و الأمر بالإخفاء انما هو شفقة لا لعدم جواز الجهر أصلا و كذا حديث خير الذكر الخفي (فصل) اعلم ان الذكر على ثلثة مراتب أحدها الجهر و رفع الصوت بها و ذلك مكروه اجماعا الا إذا دعت اليه داعية و اقتضته حكمة فحينئذ قد يكون أفضل من الإخفاء كالاذان و التلبية و نحو ذلك و لعل الصوفية الچشتية قدس اللّه تعالى أسرارهم اختاروا الجهر للمبتدى لاقتضاء حكمة و هى طرد الشيطان و دفع الغفلة و النسيان و حرارة القلب و اشتغال نائرة الحب بالرياضة و مع ذلك يشترط لذلك الاحتراز عن الرياء و السمعة ثانيها الذكر باللسان سرّا و هو المراد بقوله صلى اللّه عليه و اله و سلم لا يزال لسانك رطبا من ذكر اللّه رواه الترمذي و ابن ماجة و روى احمد و الترمذي قيل اى الأعمال أفضل قال ان تفارق الدنيا و لسانك رطب من ذكر اللّه و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه

(١) اربعوا اى ارفقوا و اقتصروا ١٢ النهاية.

عليه و اله و سلم ان للّه ملئكة يطوفون فى الطرق يلتمسون اهل الذكر فاذا وجدوا قوما يذكرون اللّه تنادوا هلموا الى حاجتكم قال فيحفونهم بأجنحتهم الى سماء الدنيا قال فيسئلهم ربهم و هو اعلم بهم ما يقولون عبادى قال يقولون يسبحونك و يكبرونك و يحمدونك و يمجدونك قال فيقول هل رأونى قال فيقولون لا و اللّه ما رأوك قال فيقول كيف لو رأونى قال فيقولون لو رأوك كانوا أشد لك عبادة و أشد لك تمجيدا و اكثر لك تسبيحا قال فيقول فما يسئلون قالوا يسئلونك الجنة قال فيقول و هل رأوها قال فيقولون لا و اللّه يا رب ما رأوها قال يقول فكيف لو رأوها قال يقولون لو انهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا و أشد لها طلبا و أعظم فيها رغبة قال فمم يتعوذون قال يقولون من النار قال فيقول فهل راوها قال يقولون لا و اللّه يا رب ما رأوها قال يقول فكيف لو رأوها قال يقولون لو رأوها كانوا أشد منها فرارا و أشد لها مخافة قال فيقول فاشهدوا انى قد غفرت لهم قال يقول ملك من الملئكة فيهم فلان ليس بينهم انما جاء لحاجة قال هم الجلساء لا يشقى جليسهم رواه البخاري و مسلم نحوه و ثالثها الذكر بالقلب و الروح و النفس و غيرها الذي لا مدخل فيه للسان و هو الذكر الخفي الذي لا يسمعه الحفظة اخرج ابو يعلى عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم لفضل الذكر الخفي الذي لا يسمعه الحفظة سبعون ضعفا إذا كان يوم القيامة و جمع اللّه الخلائق لحسابهم و جاءت الحفظة بما حفظوا و كتبوا قال لهم انظروا هل بقي له من شى ء فيقولون ما تركنا شيئا مما علمناه و حفظناه الا و قد أحصيناه و كتبناه فيقول اللّه تعالى ان له حسنا لا تعلمه و أخبرك به هو الذكر الخفي قلت و هذا الذكر هو الذي لا انقطاع لها و لا فتور فيها إِنَّهُ تعالى لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ قيل المعتدين فى الدعاء كمن سأل منازل الأنبياء او الصعود الى السماء او دخول الجنة قبل ان يموت و نحو ذلك مما يستحيل عقلا او عادة او يسأل امور الا فائدة فيها معتدا بها روى البغوي بسنده من طريق ابى داود السجستاني عن ابى نعامة ان عبد اللّه بن مغفل يسمع ابنه يقول اللّهم انى أسئلك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال يا بنىّ سل اللّه الجنة و تعوذ به من النار فانى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم يقول انه سيكون فى هذه الامة قوم يعتدون فى الطهور و الدعاء كذا روى ابن ماجة و ابن حبان فى صحيحه و روى ابو يعلى فى مسنده من حديث سعد قوله صلى اللّه عليه و اله و سلم سيكون قوم يعتدون فى الدعاء حسب المرأ ان يقول اللّهم انى أسئلك الجنة و ما قرب إليها من قول او عمل و أعوذ بك من النار و ما قرب إليها من قول او عمل قال ابو يعلى لا أدرى قوله و حسب المرأ ان يقول اللّهم الى آخره هو من قول سعد او من قول النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم و قال عطية هم الذين يدعون على المؤمنين ما لا يحل فيقولون اللّهم العنهم اللّهم العنهم و البالغ فى هذا الاعتداء الروافض الذين يلعنون الصحابة و بعض اهل البيت و قال ابن جريج الاعتداء رفع الصوت و النداء بالدعاء و الصياح لما مر فى حديث ابى موسى قوله صلى اللّه عليه و اله و سلم اربعوا على أنفسكم انكم لا تدعون أصم و لا غائبا قلت الاعتداء التجاوز عن حدود الشرع فيعم جميع اقسام الاعتداء منها ما ذكر و منها غير ذلك نحو ان يدعو ما فيه ثم او قطيعة رحم او يقول دعوت فلم يستجب لى او يدعوا اللّه بأسماء لم يرد الشرع بها او يدعو قائلا انه يستجاب له.

٥٦

وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالكفر و المعاصي و البغي و الدعاء الى غير طاعة اللّه بَعْدَ إِصْلاحِها اى إصلاح اللّه سبحانه إياها ببعث الرسل و بيان الشريعة و الدعاء الى طاعة اللّه عز و جل و بالنهى عن الاعتداء فى الدعاء

قال البغوي هذا معنى قول الحسن و السدى و الضحاك و الكلبي و قال عطية لا تعصوا فى الأرض فيمسك اللّه المطر و يهلك الحرث بمعاصيكم فعلى هذا معنى قوله تعالى بعد إصلاح اللّه تعالى إياها بالمطر و الخصب وَ ادْعُوهُ خَوْفاً اى خائفين من رد الدعاء لقصور أعمالكم و عدم استحقاقكم وَ طَمَعاً اى طامعين فى الاجابة تفضلا و إحسانا لفرط رحمة إِنَّ رَحْمَتَ اللّه قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ترجيح للطمع و تنبيه على ما يتوسل به الى الاجابة و اشارة الى ان رد الدعاء من الكريم الجواد ليس الا لشوم أعمالكم و ترك إحسانكم ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم الرجل يطيل السفر اشعث اغبر يمديده الى السماء يا رب يا رب و مطعمه حرام و مشربه حرام و ملبسه حرام و غذى بالحرام فانّى يستجاب لذلك رواه مسلم و الترمذي من حديث ابى هريرة و روى مسلم و الترمذي عن ابى هريرة عنه صلى اللّه عليه و اله و سلم قال لا يزال يستجاب العبد ما لم يدع بإثم او قطيعة رحم و ما لم يستعجل قيل يا رسول اللّه و ما الاستعجال قال يقول فلم أر تستجاب لى فيستحسر عند ذلك و يدع عند ذلك و روى احمد عن عبد اللّه بن عمرو ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم قال القلوب اوعية و بعضها اوعى من بعض فاذا سألتم اللّه عز و جل ايها الناس فاسئلوه و أنتم موقنون بالاجابة فان اللّه لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل و عند الترمذي من حديث ابى هريرة نحوه

فان قيل قد ذكرت انه لا يجوز لقائل ان يقول يستجاب دعاى البتة و قد ورد فى الحديث فاسئلوه و أنتم موقنون بالاجابة فكيف التوفيق قلت معنى أنتم موقنون فى الاجابة ان اللّه تعالى جواد كريم لا يتصور منه البخل و ليس عدم الاجابة الا لاجل غفلتكم و معصيتكم فالطمع فى الاجابة و اليقين بها نظرا الى رحمته وجوده تعالى و عدم التيقن بالاجابة و خوف الرد لاجل شوم أنفسنا فلا منافاة و تذكير قريب لان الرحمة بمعنى الرحم الثواب فيرجع النعت الى المعنى او لانه صفة محذوف اى امر قريب او للاضافة الى المذكّر او على التشبيه بالفعيل الذي هو المصدر كالنقيض او للفرق بين القريب من النسب و القريب من غيره قال ابو عمرو بن العلا القريب يكون بمعنى القريب من حيث النسب و من حيث المسافة فيقول العرب هذه امرأة قريبة منك إذا كانت بمعنى القرابة و قريب منك إذا كان بمعنى المسافة.

٥٧

وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي الريح على الوحدة و الباقون على الجمع بُشْراً قرأ عاصم بالباء التحتانية الموحدة المضمومة و اسكان الشين حيث وقع و هو تخفيف بشر بضم الشين جمع بشير يعنى انها تبشر بالمطر قال اللّه تعالى الرياح مبشرات

و قرا نافع و ابن كثير و ابو عمرو بالنون مضمومة و ضم الشين جمع نشور حيث وقع بمعنى ناشر قال اللّه تعالى و الناشرات نشرا ............... .. ............... ............... .......

و قرا حمزة و الكسائي بالنون مفتوحة و اسكان الشين حيث وقع على انه مصدر فى موضع الحال بمعنى ناشر او مفعول مطلق فان الإرسال و النشر متقاربان بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ اى قدام نعمته يعنى المطر فان الصبا تثير السحاب و الشمال تجمعه و الجنوب تدره و الدبور تفرقه عن ابى هريرة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم يقول الريح من روح اللّه يأتي بالرحمة و العذاب فاذا رايتموه فلا تسبوها و اسئلوا اللّه خيرها و استعيذوا باللّه من شرها رواه البخاري فى الأدب و ابو داود و الحاكم و صححه و رواه البغوي من طريق الشافعي و عبد الرزاق حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ اى حملت الرياح و اشتقاقه من القلة فان المقل للشئ يستقله سَحاباً ثِقالًا بالماء جمعه لان السحاب بمعنى السحائب سُقْناهُ اى السحاب أفرد الضمير نظرا الى لفظه لِبَلَدٍ اى لاجله او لاحيائه او لسقيه و قيل معناه الى بلد مَيِّتٍ قرأ نافع و حمزة و الكسائي و حفص بالتشديد و الباقون بالتخفيف و المراد بالميت ما لا نبات فيه فَأَنْزَلْنا بِهِ اى بالبلد و الباء للسببية او بالسحاب او بالسوق او بالريح و الباء للالصاق الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ اى بالبلد او بالسحاب او بالسوق او بالريح او بالماء فاذا كان الضمير للبلد فالباء للظرفية و الا فللسببية مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ اى كاخراج الثمرات او كاحياء البلد الميت نُخْرِجُ الْمَوْتى من القبور لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فتستدلون بقدرته تعالى على خلق ما خلق فى الدنيا على قدرته على إعادة ما يريد إعادته فى الاخرة

قال البغوي قال ابو هريرة و ابن عباس إذا مات الناس كلهم بالنفخة الاولى أرسل اللّه عليهم مطرا كمنى الرجال من ماء تحت العرش يدعى ماء الحيوان فينبتون فى قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح ثم يلقى عليهم نومة فينامون فى قبورهم ثم يحشرون بالنفخة الثانية و هم يجدون طعم النوم فى رؤسهم و أعينهم فعند ذلك يقولون يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا و فى الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم ما بين النفختين أربعون قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما قال أبيت قالوا أربعون شهرا قال أبيت قالوا أربعون عاما قال أبيت ثم ينزل اللّه من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل و ليس من الإنسان شى ء الا يبلى الا عظما واحدا و هو عجب الذنب و منه يركب الخلق يوم القيامة

و اخرج ابن ابى داود فى البعث هذا الحديث و فيه بين النفختين أربعون عاما فيمطر اللّه فى تلك الأربعين

و اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس قال يسيل واد من اصل العرش من ماء فيما بين الصيحتين و مقدار ما بينهما أربعون عاما فينبت منه كل خلق بلى من الإنسان او طير او دابة و لو مر عليهم مارّ قد عرفهم قبل ذلك لعرفهم على وجه الأرض فينبتون ثم ترسل الأرواح فتزوج بالأجساد فذلك قول اللّه تعالى فاذا النفوس زوجت

و اخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير نحوه قال الحليمي اتفقت الروايات على ان بين النفختين أربعون سنة كذا اخرج ابن المبارك عن الحسن مرسلا.

٥٨

وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يعنى الأرض الكريمة التربة يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ بمشيته و تيسيره و هو فى موضع الحال عبر به عن كثرة نباته و حسنه و جلالة نفعه كما يدل عليه ما يقابله فكانه قال يخرج نباته حسنا وافيا بإذن ربه وَ البلد الَّذِي خَبُثَ يعنى الأرض الخبيثة السبخة و الحرة او نحو ذلك لا يَخْرُجُ نباته فحذف المضاف و أقيم المضاف اليه مقامه فصار مرفوعا مستترا إِلَّا نَكِداً الا قليلا لا منفعة فيه فى القاموس النكد بالضم قلة العطاء و بفتح و عطاء منكود قليل يقال نكد عيشهم كفرح اشتد و عسر و البير قل ماءها و نكد زيد حاجة عمرو منعه إياه و فلانا منعه ما ساله او لم يعطه الا اقله و رجل نكد شوم عسر كَذلِكَ اى تصريفا مثل ذلك التصريف نُصَرِّفُ الْآياتِ نرددها و نكررها لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ نعمة اللّه و هم المؤمنون لما كانت الآيات السابقة لبيان كمال قدرته تعالى على ما أراد و عموم فيضه و رحمته عقبها بهذه الاية لبيان تفاوت الاستعدادات فى قبول الفيض من المبدأ الفياض ليظهر ان النقصان انما هو من جهة المتأثر كما ان نبات الأرض يتفاوت بتفاوت استعداد الأرض مع اتحاد فيضان المطر كذلك تصريف الآيات و نصب الدلايل و بعث الرسل و ان كان رحمة للعالمين عامة لكن الانتفاع بها مختص بالمؤمنين الشاكرين فانهم لحسن استعداداتهم المستفادة من ظلال اسم اللّه الهادي يهتدون بها و يتفكرون فيها و يعتبرون بها روى الشيخان فى الصحيحين عن ابى موسى قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم مثل ما بعثني اللّه به من الهدى و العلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت منها طايفة طيبة قبلت الماء فانبتت الكلاء و العشب الكثير و كانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع اللّه بها الناس فشربوا و سقوا و زرعوا و أصاب منها طايفة اخرى انما هى قيعان لا تمسك ماء و لا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه فى دين اللّه و نفعه ما بعثني اللّه به فعلم و علم و مثل من لم يرفع بذلك راسا و لم يقبل هدى اللّه الذي أرسلت به.

٥٩

لَقَدْ أَرْسَلْنا جواب قسم محذوف اى و اللّه لقد أرسلنا و لا تكاد تطلق هذا اللام الا مع قد لانها مظنة التوقع فان المخاطب إذا سمعها توقع وقوع ما صدر بها نُوحاً إِلى قَوْمِهِ و هو نوح بن لامك و قيل لمك بن متثولخ و امه عونة و قيل قينوس بنت براليك بن قشولخ و عند بعضهم متوشخ بن خنوخ و قيل أخنوخ و هو إدريس عليه السلام و هو أول نبى خط بالقلم ابن مهليل و قيل مهلائيل بن قينن و قيل قينان و قيل قانن بن انوش و قيل مانيش بن شيث عليه السلام بن آدم عليه السلام و فى المستدرك عن ابن عباس قال كان بين آدم و نوح عشرة قرون كذا روى الطبراني عن ابى ذر مرفوعا و مما ذكرنا من سلسلة النسب يظهر ان نوحا بعد إدريس عليهما السلام كذا ذكر البغوي و اسم نوح سكن لان الناس سكنوا اليه بعد آدم و قيل اسمه شاكر و قيل يشكر و ذكر السيوطي فى الإتقان نقلا عن المستدرك للحاكم ان اسمه عبد الغفار و اكثر الصحابة على انه قيل إدريس و انما سمى نوحا لكثرة نوحه على نفسه و قومه قيل كان نوحه لهول القيامة و قيل انه راى كلباسئ المنظر فقال له زنم إقليما اى كلب السوء فانطقه اللّه تعالى و قال العيب منى او من خالقى فلما سمعه من الكلب أغمي عليه فلما أفاق كثر النوح على نفسه و ذكر البغوي انه مر بكلب مجذوم فقال اخسأ يا قبيح فاوحى اللّه تعالى اعبتنى أم عبت الكلب و قيل ناح لدعوته على قومه بالهلاك و قيل لمراجعة ربه فى شان ابنه كنعان و اللّه اعلم بعث اللّه تعالى نوحا و هو ابن أربعين سنة كذا قال ابن عباس فى المستدرك عنه مرفوعا بعث اللّه نوحا و هو ابن أربعين سنة فلبث فى قومه الف سنة الا خمسين عاما يدعوهم و عاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس و فشوا و قيل بعث و هو ابن خمسين سنة و عاش بعد الطوفان اربعمائة و خمسين فجميع عمره الفا و اربعمائة و خمسين و قيل بعث و هو ابن اربعمائة و خمسين او ستين كذا فى شرح خلاصة السير و قيل بعث و هو ابن مائتى و خمسين سنة و عاش بعد الطوفان مائتى و خمسين سنة و كان عمره الفا و اربع مائة و خمسين سنة و قال مقاتل بعث و هو ابن مائة سنة و ذكر ابن جرير ان تولد نوح كان بعد وفاة آدم بثمانمائة و ستة و عشرين سنة قلت فعلى هذا وفاة نوح من بدو خلق آدم بعد الفين و ثمانمائة و ست و خمسين سنة لما فى الحديث ان آدم عمره الف سنة الا أربعين عاما التي وهبها لابنه داود عليهم السلام كما سيذكر فى حديث فى قصة إخراج ذرية آدم من صلبه و فى تهذيب النووي انه أطول الأنبياء عمرا فَقالَ نوح لقومه يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّه وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قرأ ابو جعفر و الكسائي بخفض غيره حملا على لفظ الا له إذا كان قبله جارة حيث وقع و وافقها حمزة فى سورة فاطر هل من اله غير اللّه و الباقون بالرفع حملا على المحل كانه قيل ما لكم اله غيره فلا تعبدوا معه غيره إِنِّي قرأ نافع و ابن كثير و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها أَخافُ عَلَيْكُمْ ان لم تعبدوا اللّه وحده عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ اى يوم القيامة او يوم الطوفان.

٦٠

قالَ الْمَلَأُ اى الاشراف فانهم يجتمعون على رأى فيملأون العيون رواء و النفوس جلالة مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ اى زوال عن الحق مُبِينٍ بين.

٦١

قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ لم يقل ضلال حتى يكون ابلغ فى نفى الضلال عن نفسه اى ليس فى شى ء من الضلال و بالغ فى النفي لما بالغوا فى الإثبات و عرض لهم به يعنى بل أنتم فى ضلال عن الحق وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ استدراك لتاكيد نفى الضلال لان كونه رسولا من اللّه مبلغا لرسالاته فى معنى كونه على أقصى الغايات من الهدى و الصراط المستقيم.

٦٢

أُبَلِّغُكُمْ قرأ ابو عمرو بالتخفيف من الإبلاغ و الباقون بالتشديد من التبليغ حيث كان رِسالاتِ رَبِّي جمع الرسالات لاختلاف أوقاتها او لتنوع معانيها كالعقائد و المواعظ و الاحكام او لان المراد بها ما اوحى اليه و الى الأنبياء كصحف شيث و إدريس عليهم السلام قوله أبلغكم كلام مستانف لبيان كونه رسولا من اللّه وَ أَنْصَحُ لَكُمْ النصح تحرى قول او فعل فيه صلاح و خير لصاحبه

قال البغوي ان يريد لغيره من الخير ما يريد لنفسه و هو متعدى بنفسه و باللام لكن فى زيادة اللام دلالة على إمحاض النصح لهم وَ أَعْلَمُ مِنَ اللّه اى ذاته و قدرته على الثواب و العذاب و هذه بطشة بحيث لا يطاق من أحد رده او من جهته بالوحى ما لا تَعْلَمُونَ اى أشياء لا علم لكم بها.

٦٣

أَ وَ عَجِبْتُمْ الهمزة للانكار و الواو للعطف على محذوف يعنى أكذبتمونى و عجبتم من أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ قال ابن عباس موعظة و قيل بيان و قيل رسالة عَلى رَجُلٍ اى منزلا على رجل مِنْكُمْ اى من جملتكم او من جنسكم فانهم كانوا يتعجبون من إرسال اللّه تعالى البشر و يقولون لو شاء اللّه لانزل ملئكة ما سمعنا بهذا فى ابائنا الأولين لِيُنْذِرَكُمْ اى ليخوفكم عاقبة الكفر و المعاصي وَ لِتَتَّقُوا من عذاب اللّه الموعود على الكفر و المعاصي بسبب الانذار وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بالتقوى أورد حرف الترجي للدلالة على ان التقوى غير موجب للترحم بل الترحم من اللّه تفضل و ان المتقى لا ينبغى ان يعتمد على تقواه و لا يأمن من عذاب اللّه اخرج ابو نعيم عن على رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم ان اللّه تعالى اوحى الى نبى من أنبياء بنى إسرائيل قل لاهل طاعتى من أمتك ان لا يتكلوا على أعمالهم فانى لا انا صب عند الحساب يوم القيامة أشاء ان أعذبه الا عذبته قل لاهل معصيتى من أمتك لا تلقوا بايديكم فانى اغفر الذنوب العظيمة و لا أبالي.

٦٤

فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ يعنى نوحا من الطوفان وَ الَّذِينَ مَعَهُ و هم أربعون رجلا و أربعون امرأة و قيل ثمانية و قيل عشرة و قيل اثنان و سبعون و قيل ثلثة بنيه سام و حام و يافث و ثلث أزواجهم و قيل ثلثة ابنائه و ستة من أمن به فِي الْفُلْكِ متعلق بمعه او بانجينا او حال من الموصول او الضمير فى معه وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بالطوفان إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ اى كفارا عميت قلوبهم عن معرفة اللّه و عن ادراك الحق حقا و الباطل باطلا أصله عميين فخفف.

٦٥

وَ إِلى عادٍ قبيلة و هم عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح و هو عاد الاولى أَخاهُمْ فى النسب لا فى الدين عطف على نوحا الى قومه هُوداً عطف بيان لاخاهم و هو هود بن عبد اللّه بن رياح بن الخلود بن عاد بن عوص المذكور و قال ابن اسحق هو ابن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح قال الشيخ ابو بكر فى شرح خلاصة السير أن هودا عليه السلام اسمه عابر بفتح الباء الموحدة و قيل بكسرها على وزن ناصر و قيل عيبر بالعين المفتوحة و الياء التحتانية المثناة الساكنة و الباء الموحدة المفتوحة و قيل بالغين المعجمة بدل المهملة ابن شالخ بن قينان بن ارفخشد بن سام بن نوح عليه السلام كذا فى جميع التواريخ و الأنساب الا ما شذ عن بعض ان هودا هو هود بن خالد بن الخلود بن العيص بن العمليق بن عاد بن عوض بن ارم بن سام و اللّه اعلم و أم هود مكعبة بنت عويلم بن سام بن نوح و كان نور النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم ساطعا فى جبين هود فلما رأوا ذلك النور فى جبينه قالوا ان هذا رجل تعبد اللّه تعالى وحده و تكسر الأصنام و عظموه و لم يكن بعده نبى مائة سنة الى زمان صالح عليه السلام و كان ذلك الزمان ملوك و أقوام يعبدون الأصنام و بعضهم يعبدون الشمس و آخرون يعبدون النار الى ان بعث اللّه صالحا عليه السلام الى ثمود و كان هود على شريعة نوح عليهما السلام و بلغ من العمر اربعمائة سنة و قيل اربعمائة و ستين سنة و فى التاريخ الشامي انه قال ابن حبيب انه عاش مائة و أربعا و ثلثين سنة و قال ابن الكلبي اربعمائة و ثلثا و ستين و امه مرجانة و كانت من الطاهرات و قبره بحضرموت و قيل بمكة انتهى كلام الشيخ ابى بكر

قال البغوي روى عن على ان قبر هود بحضرموت فى كثيب احمر و قال عبد الرحمن بن سابط بين الركن و المقام و زمزم قبر تسعة و تسعين نبيا و ان قبر هود و صالح و شعيب فى تلك البقعة و يروى ان نبيّا من الأنبياء إذا هلك قومه جاء هو و الصالحون معه الى مكة يعبدون اللّه فيها حتى يموتوا و المراد بالأخ على ما ذكر ابن اسحق فى نسب هود و ذكر الشيخ ابو بكر واحدا من جنسهم و انما جعل منهم لانهم افهم لقوله و اعرف بحاله و ارغب فى اقتفائه قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّه وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ استأنف به و لم يعطف كما فى قصة نوح حيث قال فقال كانه جواب سائل قال فما قال لهم حين أرسل و كذلك جوابهم أَ فَلا تَتَّقُونَ عذاب اللّه و كان قومه اقرب من قوم نوح.

٦٦

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ وصف الملأ بالذين كفروا للتقييد فان من اشراف قوم هود من أمن به منهم مرتد بن سعد و لم يكن فى اشراف قوم نوح مؤمن إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ اى خفة عقل حيث نهجر دين قومك و تدعى امرا مستحيلا يعنى رسالة اللّه تعالى جعلت السفاهة ظرفا مجازا يعنى انك متمكن فيها غير منفك عنها وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ فى ادعائك الرسالة.

٦٧

قالَ هود يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ

٦٨

أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ فيما أدعوكم اليه أَمِينٌ على الرسالة ذكر هاهنا صيغة اسم الفاعل لقولهم انا لنظنك من الكاذبين ليقابل الاسمية الاسمية قال الكلبي معناه كنت فيكم قبل اليوم أمينا فلا وجه لكم لسوء الظن فىّ بالكذب و فى اجابة الأنبياء الكفرة عن كلماتهم المسبّة بالحلم و حسن الأدب و الاعراض عن مقابلتهم بمثل ما قالوا مع علمهم بان خصومهم أضل الناس و أسفهم كمال النصح و الشفقة و هضم النفس و حسن المجادلة و جذب القلوب الى الهداية و اخبار اللّه تعالى ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء أكذبتمونى.

٦٩

وَ عَجِبْتُمْ من أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ إهلاك قَوْمِ نُوحٍ فى الأرض وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً اى طولا و قوة قال الكلبي و السدى كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع و قامة القصير منهم سبعون ذراعا و قال ابو حمزة اليماني سبعون ذراعا و عن ابن عباس ثمانون ذراعا و قال مقاتل كان طول كل رجل اثنا عشر ذراعا قال وهب كان راس أحدهم مثل القبة العظيمة و كان عين الرجل ليفرخ فيه الضباع و كذلك مناخرهم فَاذْكُرُوا آلاءَ اللّه اى نعمه واحدها الىّ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ اى لكى يفضى بكم ذكر النعمة شكرها المودي الى الفلاح.

٧٠

قالُوا أَ جِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللّه وَحْدَهُ وَ نَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام و معنى المجي ء اما المجي ء من مكان اعتزل من قومه او من السماء على التهكم او القصد على المجاز كقولهم ذهب يسبنى فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب المدلول عليه فى قوله أ فلا تتقون او يكون مذكورا صريحا فى كلامه عليه السلام إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيه.

٧١

قالَ هود قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ اى قد وجب او حق عليكم او نزل عليكم على ان المتوقع المعلوم كالواقع مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ اى عذاب مشتق من الارتجاس و هو الاضطراب و قيل السين مبدلة من الزاء و فى الصحاح رجس و رجز الصوت الشديد وَ غَضَبٌ اى ارادة انتقام أَ تُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ اى أشياء مسميات سَمَّيْتُمُوها الهة يعنى الأصنام او يقال فى اسماء سميتموها لا حقيقة لها و ليس تحتها مسميات كما تقول الفلاسفة بالعقول العشرة و اهل الهند ديبى و بهواني و نحو ذلك يزعمون الأصنام حاكية عنها او يزعمونها حالة الأصنام أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ بدل من الضمير المرفوع فى سميتموها ما نَزَّلَ اللّه بِها مِنْ سُلْطانٍ من حجة و برهان تدل على انها الهة او مستحقة للعبادة و مبنى هذا القول انهم كانوا يعتقدون لوجود اللّه سبحانه و كونه خالقا للسموات و الأرض و كانوا يزعمون الأصنام شركاء للّه فى الالوهية و الخالقية او فى استحقاق العبادة لكونها شفعاء عند اللّه فقال نبى اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم هذا الذي تزعمون امر لا دليل عليه انما هو من مخترعاتكم او مخترعات ابائكم الجهال فَانْتَظِرُوا نزول العذاب الذي وعدتكم و تطلبونه إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ كذلك.

٧٢

فَأَنْجَيْناهُ يعنى هودا من العذاب الذي نزل بقومه وَ الَّذِينَ مَعَهُ فى الدين يعنى المؤمنين به بِرَحْمَةٍ مِنَّا عليهم وَ قَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدابر الأصل او الكائن خلف الشي ء و قطع الدابر عبادة عن الاستيصال و إهلاك كلهم بحيث لا يبقى منهم أحد وَ ما كانُوا مُؤْمِنِينَ تعريض بمن أمن منهم و تنبيه على ان الفارق بين من نجا و من هلك هو الايمان و قصة عاد على ما ذكر محمد ابن اسحق و غيرهم انهم كانوا ينزلون اليمن و كانت مساكنهم بالأحقاف و هى رمال بين عمان و حضرموت و كانوا قد أفسدوا فى الأرض كلها و قهروا أهلها بفضل قوتهم التي أتاهم اللّه عز و جل و كانوا اصحاب أوثان يعبدونها يقال لها صدا و سمود و الهبا فبعث اللّه تعالى إليهم هودا عليه السلام نبيا و هو من أوسطهم نسبا و أفضلهم حسبا فامرهم ان يوحدوا اللّه و يكفوا عن ظلم الناس و لم يأمرهم بغير ذلك فكذبوه و قالوا من أشد منا قوة بنوا المصانع و بطشوا بطشة الجبارين فلما فعلوا ذلك امسك اللّه عنهم المطر ثلث سنين حتى جهدهم ذلك و كان الناس فى ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء و طلبوا منه الفرج انابوا الى اللّه عز و جل عند بيته الحرام بمكة مسلمهم و مشركهم فيجتمع بمكة ناس كثير مختلفة الأديان كلهم معظمين لمكة و اهل مكة يومئذ العماليق أبناء عمليق بن لاود بن سام بن نوح و كان سيدهم معاوية بن بكر و كانت أم معاوية كلهدة بنت الخير رجل من عاد فلما قحط المطر عن عاد و جهدوا قالوا جهزوا وفدا منكم الى مكة فليستقر لكم فبعثوا له قيل بن عنز و يقيم بن هزال بن هزيل و عتيل بن ضد بن عاد الأكبر و مرثد بن سعد بن عفير و كان مسلما يكتم إسلامه و جثيمة بن الجيثر خال معاوية بن بكر ثم بعثوا لقمان بن عاد الأصغر بن هاد الأكبر فانطلق كل رجل من هؤلاء و معه رهط من قومه حتى بلغ عدة وفدهم سبعين رجلا فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر و كانوا أخواله و اصهاره فاقاموا عنده شهرا يشربون الخمر و يغنيهم الجرادتان «١» قينتا لمعاوية بن بكر فكان مسيرهم شهرا و مقامهم شهرا فلما راى معاوية بن بكر طول مقامهم و قد بعثهم قومهم يتغوثون بهم من البلاء الذي أصابهم شق ذلك عليه و قال هلك أخوالي و اصهارى و هؤلاء مقيمون عندى و هم ضيفى و اللّه ما أدرى كيف اصنع بهم استحيى ان أمرهم بالخروج الى ما بعثوا اليه فيظنون انى ضيق من مقامهم و قد هلك من ورائهم من قومهم جهدا و عطشا فشكا ذلك من أمرهم الى فينته «٢» الجرادتين فقالتا قل شعرا نغنيهم لا يدرون من قاله لعل ذلك يحركهم فقال معاوية بن بكر شعر

الا يا قيل ويحك قم فهينم لعل اللّه يسقينا غماما

فيسقى ارض عاد ان عادا قد امسوا ما يبيتون الكلاما

من العطش الشديد فليس نرجوا به الشيخ الكبير و لا الغلاما

و قد كانت نسائهم بخير فقد امست نسائهم غياما «٣»

و ان الوحش يأتيهم جهارا و لا يخشى لعادى سهاما

و أنتم هاهنا فيما اشتهيتم نهاركم و ليلكم التماما

فقبح وفدكم من وفد قوم و لا لقوا التحية و السلاما

(١) فى النهاية الجرادتان هما مغنيتان كانتا بمكة فى الزمن الاول مشهورتان بحسن الصوت و الغناء ١٢.

(٢) القينة المغنية ١٢.

(٣) الغيمة شدة العطش نهاية ١٢.

فلما غنتهم الجرادتان بهذا قال بعضهم لبعض يا قوم انما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم و قد أبطأتم عليهم فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم فقال مرثد بن مسعود بن عفير و كان قد أمن بهود عليه السلام سرا انكم و اللّه لا تسقون بدعائكم و لكن ان أطعتم نبيكم و تبتم الى ربكم سقيتم فاظهر اسلام عند ذلك فقال شعر

عصت عاد رسولهم فامسوا عطاشا ما يبلهم السماء

لهم صنم يقال له صمود يقابله صداء و الهباء

فبصرنا الرسول سبيل رشد فابصرنا الهدى و حلى العماء

و ان اله هود هو الهى على اللّه التوكل و الرجاء

فقالوا لمعاوية بن بكر احبس عنا مرثد بن سعد فلا يقد من معنا مكة و خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية حتى أدركهم قبل ان يدعوا اللّه فيجابوا بشر مما خرجوا له فلما انتهى إليهم قام يدعوا اللّه و وفد عاد يدعون فقال اللّهم أعطني سوالى وحدي و لا تدخلنى فى شى ء مما يدعوك به وفد عاد و كان قيل بن عنز راس وفد عاد فقال وفد عاد اللّهم أعط قيلا ما سألك و اجعل سوء لنا مع سؤله و قد كان تخلف عن وفد عاد حين دعوا لقمان بن عاد و كان سيد عاد حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام فقال اللّهم انى جئتك وحدي فى حاجتى فاعطنى سؤلى و سأل اللّه طول العمر فعمر عمر سبعة أنسر و قال قيل بن عنز حين دعايا الهنا ان كان هود صادقا فاسقنا فانا قد هلكنا فانشأ اللّه سحائب ثلثا بيضاء و حمراء و سوداء ثم ناداه مناد من السحاب يا قيل اختر لنفسك و قومك من هذا السحائب فقال قيل اخترت السحابة السوداء فانها اكثر السحاب ماء فناداه مناد اخترت رمادا رمدا لا يبقى من ال عاد أحد و ساق اللّه السحابة السوداء التي اختارها قيل بما فيها من النقمة الى عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا و قالوا هذا عارض ممطرنا يقول اللّه عز و جل بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب اليم تدمر كل شى ء بامر ربها اى كل شى ء مرت به و كان من ابصر ما فيها و عرف انها ريح مهلكة امرأة من عاد يقال لها مهدر فلما تبينت ما فيها صاحت ثم ضعفت فلما أفاقت قالوا لها ماذا رأيت قالت رأيت ريحا فيها كشهب النار امامها رجال يقودونها فسخر اللّه عليهم سبع ليال و ثمانية ايام حسوما فلم تدع من عاد أحدا الا هلك و اعتزل هود و من معه من المؤمنين فى حظيرة «١» ما يصيبه و من معه من الريح الا ما يلين عليه الجلود و تلتذ الأنفس و انها لتمر من عاد بالظعن «٢» فتحملهم بين السماء و الأرض فتدمغهم بالحجارة و خرج وفد عاد من مكة

(١) حظيرة الموضع الذي يحاط عليه لتاوى اليه الغنم و الإبل يقيها البرد و الحرّة نهايه ١٢.

(٢) الظعينة الراحلة التي ترحل و يقال للّهودج و للمرأة ١٢.

حتى مروا بمعاوية بن بكر فنزلوا عليه فبينما هم عنده إذا قبل رجل على ناقته فى ليلة مقمرة هى ثالثة من مصاب عاد فاخبرهم الخبر فقالوا له فاين فاين فارقت هود و أصحابه فقال فارقتهم بساحل البحر فكانهم شكّوا فيما حدثهم به فقالت هرملة بنت بكر صدق و رب مكة و ذكروا ان مرثد بن سعد و لقمان بن عاد و قيل بن عنز حين دعوا بمكة قيل لهم قد أعطيتم مناكم فاختاروا لانفسكم الا انه لا سبيل الى الخلود و لا بد من الموت فقال مرثد اللّهم أعطني صدقا و برا فاعطى ذلك و قال لقمان أعطني يا رب عمرا فقيل له اختر فاختار عمر سبعة أنسر و كان يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضة فياخذ الذكر منها لقوته حتى إذا مات أخذ غيره فلم يزل يفعل ذلك حتى اتى على السابع و كان كل نسر يعيش ثمانين سنة و كان آخرها لبد فلما مات لبد مات لقمان معه و اما قيل فانه قال اختار ان لقنى ما أصاب قومى فقيل له انه الهلاك فقال لا أبالي لا حاجة فى البقاء بعدهم فاصابه الذي أصاب عادا من البلاء و العذاب فهلك قال السدى فبعث اللّه على عاد الريح العقيم فلما دنت منهم نظروا الى الإبل و الرجال تطيرهم الريح بين السماء و الأرض فلما رأوها تبادروا البيوت فدخلوها و أغلقوا أبوابهم فجاءت الريح فقلعت أبوابهم فدخلت عليهم فاهلكتهم فيها ثم أخرجتهم عن البيوت فلما اهلكهم اللّه أرسل عليهم طيرا سوداء فحملتهم الى البحر فالقتهم فيه و روى ان اللّه تعالى امر الريح فامالت عليهم الرمال فكانوا تحت الرمل سبع ليال و ثمانية ايام لهم انين تحت الرمل ثم امر الريح فكشفت عنهم الرمال فاحتملتهم و رمت بهم فى البحر و لم يخرج ريح قط الا بمكيال الا يومئذ فانها عتت على الخزنة فغلبتهم فلم يعلموا كم كان مكيالها.

٧٣

وَ إِلى ثَمُودَ قبيلة اخرى من العرب أبناء ثمود بن عاثر بن ارم بن سام قال ابو عمرو بن العلا سميت ثمود نقلة مائها و ثمد الماء القليل و كان مساكنهم الحجر بين الحجاز و الشام الى واد القرى أَخاهُمْ فى النسب لا فى الدين صالِحاً عليه السلام عطف بيان و هو صالح بن عبيد بن أسف بن ماسح و قيل بن رباح بن عبيد بن حاذر بن ثمود قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ حجة ظاهرة الدلالة على صدقى لكونها معجزة مِنْ رَبِّكُمْ كانه قيل ما تلك البينة فقال استينافا هذِهِ ناقَةُ اللّه أضافها اليه تعالى لتعظيمها و لانها جاءت فى الوجود من اللّه تعالى بلا وسائط الأسباب المعهودة و لذلك كانت اية مبتدأ او خبر و جاز ان يكون ناقة اللّه بدلا او عطف بيان و الخبر لَكُمْ آيَةً نصب على الحال و العامل فيها معنى الاشارة على تقدير كون ناقة اللّه خبرا و على التقدير الثاني لكم عامل فيه فَذَرُوها يعنى الناقة تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّه العشب «١» وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ نهى عن المس الذي هو مقدمة الاصابة بالسوء الجامع لانواع الأذى مبالغة فى النهى و ازاحة للعذر فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ جواب للنهى.

(١) العشب كلا الرطب ١٢ [.....].

٧٤

وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَ بَوَّأَكُمْ اسكنكم اللّه تعالى فِي الْأَرْضِ ارض حجر تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها اى تبنون فى سهول الأرض او سهولة الأرض بما تعملون منها كاللبن و الاجر قُصُوراً وَ تَنْحِتُونَ الْجِبالَ اى تثقبون فى الجبال و تجعلونها بُيُوتاً كانوا يسكنون فى الصيف فى بيوت الطين و فى الشتاء فى بيوت الجبال المنقورة فانتصاب بيوتا على المفعولية لتضمين تنحتون معنى تجعلون و جاز ان يكون منصوبا على الحال المقدرة كما فى قوله خطت هذا الثوب قميصا فان الجبل لا يكون بيتا حال التحت و لا الثوب قميصا حال الخياطة فَاذْكُرُوا آلاءَ اللّه وَ لا تَعْثَوْا العثو أشد الفساد فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ

٧٥

قالَ الْمَلَأُ قرأ ابن عامر و قال الملأ بالواو و الباقون بلا واو.

الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ يعنى الاشراف و القادة الذين يتعظمون عن الايمان بصالح عليه السلام لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا يعنى الاتباع الذين استضعفوهم لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من الذين استضعفوا بدل الكل ان كان الضمير لقومه و بدل البعض ان كان للذين أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالوه استهزاء قالُوا يعنى المؤمنين المستضعفين إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ عدلوا عن قولهم نعم للاشعار بان كونه مرسلا ليس مما يشك فيه عاقل او يخفى على ذى راى.

٧٦

قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ على المقابلة و وضعوا أمنتم به موضع أرسل به ردا لما جعلوا معلوما مسلّما.

٧٧

فَعَقَرُوا النَّاقَةَ اى نحروها قال الأزهري العقر هو قطع عرقوب «٢» البعير ثم جعل النحر عقرا لان الناد من البعير يعقر ثم ينحر و فى القاموس العقر الجرح و اثر فى قوائم الفرس و الإبل و فى الصحاح عقر الدار و الحوض أصلها و منه عقرت النخل قطعته من أصلها و عقرت البعير نحرته أسند العقر الى جميعهم و ان كان العاقر قذار بن سالف لانه كان برضاهم و قد كان قذار احمر ازرق قصيرا كما كان

(٢) هو الوتر الذي خلف الكعبين من مفصل القدم و الساق من ذوات الأربع و هى من الإنسان موضع العقب ١٢.

فرعون كذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم لعلى أشقى الأولين عاقر ناقة صالح و أشقى الآخرين قاتلك وَ عَتَوْا العتو الغلو فى الباطل يقال عتى يعتوا عتوا إذا استكبر فى القاموس عتوا و عتيا و عتيا استكبر و جاوز الحد و المعنى استكبر عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ اى عن امتثاله و هو ما بلغهم صالح عليه السلام بقوله فذروها وَ قالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ

٧٨

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ اى زلزلة الأرض و حركتها و اهلكوا بالصيحة و الرجفة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ قيل أراد الدنيا و قيل أراد ارضهم و بلدتهم و لذلك وحد الدار جاثِمِينَ خامدين ميتين فى القاموس جثم الطائر و الإنسان لزم مكانه فلم يبرح و قيل معناه ميتين قعودا يقال الناس جثم اى قعود لا حراكة بهم و لا يتكلمون قيل سقطوا على وجوههم موتى عن آخرهم.

٧٩

فَتَوَلَّى اى اعرض عَنْهُمْ صالح وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ

فان قيل كيف خاطبهم بقوله أبلغتكم رسالة ربى و نصحت لكم بعد ما اهلكوا بالرجفة قيل كما خاطب النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم قتلى بدر بعد ما القوا فى القليب روى الشيخان فى الصحيحين عن ابى طلحة انه قال لما كان من يوم بدر الثالث امر رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم براحلة فشد عليها رحلها ثم مشى و معه أصحابه و قالوا ما نرى لينطلق الا لبعض حاجته حتى قام على سفير القليب فجعل يناديهم يا أبا جهل بن هشام و يا امية بن خلف يا عتبة بن ربيعة و يا شيبة بن ربيعة أ يسركم انكم أطعتم اللّه و رسوله هل وجدتم ما وعد اللّه و رسوله حقا فانى وجدت ما وعدني ربى حقا بئس عشيرة التي كنتم لنبيكم كذبتمونى و صدقنى الناس و قاتلتمونى و نصرنى الناس فجزاكم اللّه عنى من إصابة شرا خوفتمونى أمينا و كذبتمونى صادقا فقال عمر يا رسول اللّه أ تناديهم بعد ثلث كيف تكلم أجسادا لا روح فيها فقال ما أنتم باسمع لما أقول منهم انهم الان يسمعون ما أقول لهم غير انهم لا يستطيعون ان يردوا علينا شيئا و قيل خاطبهم ليكون عبرة لمن خلفهم و قيل فى الاية تقديم و تأخير تقديرها فتولى عنهم فقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربى الاية فاخذتهم الرجفة و كان قصة ثمود على ما ذكره محمد بن إسحاق و وهب و غيرهما كذا اخرج ابن جرير و الحاكم من طريق حجاج عن ابى بكر بن عبد اللّه عن شهر بن حوشب عن عمرو بن خارجة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم ان عادا لما أهلكت عمّرت ثمود بلادهم و خلفوهم و كثروا و عمّروا حتى جعل أحدهم يبنى المسكن من المدر فينهدم و الرجل حىّ فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا و كانوا فى سعة من معاشهم فعتوا و أفسدوا فى الأرض و عبدوا غير اللّه فبعث اللّه إليهم صالحا و كانوا قوما عربا و كان صالح من أوسطهم نسبا و أفضلهم حسبا و موضعا فبعثه اللّه إليهم غلاما شابا فدعاهم الى اللّه عز و جل حتى شمط «١» لا يتبعه منهم الا قليل مستضعفون فلما ألح عليهم صالح بالدعاء و التبليغ و اكثر لهم التحذير و التخويف سألوه ان يريهم اية تكون مصداقا لما تقول فقال لهم اى اية تريدون قالوا تخرج معنا غدا الى عيدنا و كان لهم عيد يخرجون فيه بأصنامهم فى يوم معلوم من السنة فتدعو إلهك و ندعوا الهتنا فان استجيب لك اتبعناك و ان استجيب لنا تتبعنا فقال لهم صالح نعم فخرجوا باوثانهم الى عيدهم و خرج صالح معهم فدعوا أوثانهم و سألوها ان لا يستجاب لصالح فى شى ء مما يدعو به ثم قال جندع بن عمرو بن جواس و هو يومئذ سيد ثمود يا صالح اخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة فى ناحية الحجر يقال لها الكاثبة ناقة مخترجة جوفاء و براء عشراء و المخترجة ما شاكلت البخت من الإبل فان فعلت صدقناك و أمنا بك فاخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقنتى و لتؤمنن بي قالوا نعم فصلى صالح ركعتين دعا ربه فتمخضت «٢» الصخرة تمخض النتوج بولدها ثم تحركت الهضبة فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء و و براء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها الا اللّه تعالى عظ و هم ينظرون ثم نتجت ولدا مثلها فى العظم فامن به جندع بن عمرو و رهط من قومه و أراد اشراف ثمود ان يؤمنوا و يصدقوه فنهاهم ذواب بن عمرو بن لبيد و الحباب صاحب أوثانهم و رباب بن ميمعر و كان كاهنهم و كانوا من اشراف ثمود فلما خرجت الناقة قال لهم صالح هذه ناقة لها شرب و لكم شرب يوم معلوم فمكثت الناقة مع ولدها فى ارض ثمود ترعى الشجرة و تشرب الماء و كانت ترد الماء غبا فاذا كان يومها وضعت الناقة راسها فى بير فى حجر يقال لها بير الناقة فلا ترفع راسها حتى تشرب كل ماء فيها فلا تدع قطرة ثم تتفجح «٣» فيحلبون ما شاؤا من لبن فيشربون و يدخرون حتى تملأ أوانيهم كلها ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه لا تقدر ان تصدر من حيث ترد تضيق عنها حتى إذا كان الغد كان يومهم فيشربون ما شاؤا من الماء و يدخرون ما شاء و اليوم الناقة فهم من ذلك

(١) الشمط الشيب ١٢.

(٢) فتمخضت يعنى أخذها المخاض هو الطلق عند الولادة ١٢.

(٣) تتفجح اى تتباعد فخذيها الفجح تباعد ما بين الفخذين ١٢.

و كانت الناقة تصيف إذا كانت الحر بظهر الوادي فتهرب منها المواشي اغنامهم و بقورهم و إبلهم فتهبط الى بطن الوادي فى حرة وجد به و تشتو ببطن الوادي إذا كان الشتاء فتهرب مواشيهم الى ظهر الوادي فى البرد و الجدب فاضر ذلك بمواشيهم للبلاء و الاختبار فكبر ذلك عليهم فعتوا عن امر ربهم و حملهم ذلك على عقر الناقة فاجمعوا على عقرها و كانت امرأتان من ثمود إحداهما يقال لها عنيزة بنت غنم بن مجلذ تكنى أم غنم و كانت امرأة ذواب بن عمرو و كانت عجوزة مسنة و كانت ذات بنات حسان و ذات مال من ابل و بقر و غنم و امرأة اخرى يقال لها صدوف بنت المختار و كانت جميلة ذات مواش كثيرة و كانتا أشد الناس عداوة لصالح عليه السلام و كانتا تحبان عقر الناقة لما اضرتهما من مواشيهما فحملتا فى عقر الناقة فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له الحباب قال لها اعقر الناقة و عرضت عليه نفسها ان هو فعل فابى عليها فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهرج بن المختار و جعلت له نفسها على ان يعقر الناقة و كانت من احسن الناس و أكثرهم مالا فاجابها الى ذلك و دعت عنيزة بنت غنم قذار بن سالف و كان رجلا احمر ازرق قصيرا يزعمون انه كان لزينة و انه لم يكن لسالف لكنه ولد على فراشه فقالت أعطيك اى بناتي شئت على ان تعقر الناقة و كان قذار عزيزا منيعا فى قومه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم فى تفسير قوله تعالى إذا انبعث أشقاها انبعث رجل عزيز عازم منيع فى قومه مثل ابى زمعة رواه البخاري من حديث عبد اللّه بن زمعة فانطلق قذار بن سالف و مصدع ابن مهرج فاستتبعوا بأعوان ثمود فاتبعهم سبعة نفر و كانوا تسعة رهط فانطلق قذار و مصدع و أصحابهما فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء و قد كمن لها قذار فى اصل صخرة على طريقها و كمن لها مصدع فى طريق اخر فمرت على مصدع فرمى بسهم فانتظم به عضلة ساقها و خرجت أم غنم عنيزة و أمرت ابنتها و كانت من احسن الناس فاسفرت لقذار ثم زمرته فشد على الناقة بالسيف فكشف عرقوبها فخرت و رغت واحدة تحذر ولدها ثم طعن فى لبتها فنحرها و خرج اهل البلدة و اقتسموا لحمها و طبخوه فلما رأى ولدها ذلك انطلق حتى اتى جبلا منيعا يقال له صور و قيل اسمه فازه فاتى صالح و قيل له أدرك الناقة فقد عقرت فاقبل و خرجوا يتلقونه و يعتذرون اليه يا نبى اللّه انما عقرها فلان و لا ذنب لنا فقال صالح انظروا هل تدركون فصيلها فان أدركتموه فعسى ان يرفع عنكم العذاب فخرجوا يطلبونه فلما رأوا على الجبل ذهبوا لياخذوه فاوحى اللّه تعالى الجبل فتطاول فى السماء حتى ما يناله الطير و جاء صالح فلما رأه الفصيل بكى حتى سالت دموعه ثم رغى ثلثا و انفجرت الصخرة فدخلتها فقال صالح لكل رغوة أجل يوم تمتعوا فى داركم ثلثة ايام ذلك وعد غير مكذوب قال ابن إسحاق اتبع السقب اربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة و فيهم مصدع بن مهرج و اخوه ذاب بن مهرج فرماه مصدع بسهم فانتقم قلبه ثم جره برجله فانزلوه فالقوا لحمه مع لحم امه فقال لهم صالح انتهكتم حرمة اللّه فابشروا بعذاب اللّه و نقمته قالوا و هم يستهزءون به و متى ذلك يا صالح و ما اية ذلك و كانوا يسمون الأيام فيهم الأحد الاول و الاثنين العون و الثلاثا دبار و الأربعاء حبار و الخميس مونس و الجمعة العروبة و السبت شيار و كانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء فقال لهم صالح حين قالوا ذلك تصبحون غداة يوم المونس و وجوهكم مصفرة ثم تصبحون يوم العروبة و وجوهكم محمرة ثم تصبحون يوم شيار و وجوهكم مسودة ثم يصبحكم العذاب يوم أول فلما قال لهم صالح ذلك قال التسعة الذين عقروا الناقة هلم فلتقتل صالحا فان كان صادقا عجلناه قتلا و ان كان كاذبا قد كنا الحقناه بناقته فاتوه ليلا ليبيتوه فى اهله فدفعتهم الملئكة بالحجارة فلما أبطئوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح أنت قتلتهم ثم هموا به فقامت عشيرته دونه و لبسوا السلاح و قالوا لهم لا تقتلونه ابدا فقد وعدكم ان العذاب نازل بكم بعد ثلث فان كان صادقا لم تزيدوا ربكم عليكم الا غضبا و ان كان كاذبا فانتم من وراء ما تريدون فانفرقوا عنهم ليلتهم فاصبحوا يوم الخميس و وجوهم مصفرة كانما طليت بالخلوف صغيرهم و كبيرهم ذكرهم و أنثاهم و أيقنوا بالعذاب و عرفوا ان قد صدقهم فطلبوا ليقتلوه و خرج صالح هاربا منهم حتى جاء الى بطن من ثمود يقال لهم بنو غنم فنزل على سيدهم رجل منهم يقال له نفيل و يكنى بابى هدب و هو مشرك فغيّبه و لم يقدروا عليه فغدوا على اصحاب صالح يعذبونهم ليدلوهم عليه فقال رجل من اصحاب صالح يقال له ميدع بن هرم يا نبى اللّه انهم ليعذبوننا لندلهم عليك أ فندلهم قال نعم قل عندى صالح و ليس لكم عليه سبيل فاعرضوا عنه و تركوه و شغله عنه ما انزل اللّه بهم من عذابه فجعل بعضهم يخبر بعضا بما يرون فى وجوههم فلما امسوا صاحوا بأجمعهم الا و قد مضى من الاجل يوم فلما أصبحوا اليوم الثاني إذا وجوههم محمرة كانما خضبت بالدماء فصاحوا و بكوا انه العذاب فلما امسوا صاحوا بأجمعهم الا و قد مضى يومان من الاجل و حضركم العذاب فلما أصبحوا اليوم الثالث إذا وجوههم مسودة كانما طليت بالقار فصاحوا جميعا الا و قد حضركم العذاب فلما كان ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم و من اسلم معه الى الشام فنزل رملة فلسطين فلما أصبح القوم تكفنوا و تحنطوا و القوا أنفسهم الى الأرض يقلبون أبصارهم الى السماء مرة و الى الأرض مرة لا يدرون من اين يأتيهم العذاب فلما اشتد الضحى من يوم الأحد اخذتهم الرجفة فاصبحوا فى ديارهم جاثمين و أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة و صوت كل شى ء فى الأرض فتقطعت قلوبهم فى صدورهم فلم يبق منهم صغير و لا كبيرا لاهلك الا جارية مقعدة يقال لها ذريقة بنت سلف و كانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه السلام فانطلق اللّه رجليها بعد ما عاينت العذاب فخرجت كاسرع ما يرى شى ء قط حتى أتت فرخ و هو وادي القرى فاخبرتهم بما عاينته من العذاب و ما أصابت ثم استسقت من الماء فسقيت فلما أشربت ماتت و ذكر السدى فى عقر الناقة قال فاوحى اللّه تعالى الى صالح ان قومك سيعقرون ناقتك فقال لهم ذلك فقالوا ما كنا لنفعل فقال صالح انه يولد فى شهركم هذا غلام فسيعقرها فيكون هلاككم على يديه فقالوا لا يولد لنا ولد فى هذا الشهر الا قتلناه فولد عشرة قتلوا منها تسعة و بقي واحد ازرق احمر فنبت نباتا سريعا فكان إذا مر بآباء التسعة و رأوه قالوا لو كان أبنائنا احياء لكانوا مثل هذا فغضب التسعة على صالح لانه كان سبب قتل أبنائهم فتقاسموا باللّه لنبيتنه و اهله قالوا نخرج فيرى الناس انا قد خرجنا الى سفر فناتى الغار فنكون فيه حتى إذا كان الليل و خرج صالح الى مسجده اتيناه فقتلناه ثم رجعنا الى الغار و كنا فيه ثم انصرفنا الى رحالنا فقلنا ما شهدنا مهلك اهله و انا لصادقون فيصدقوننا و يظنون انا قد خرجنا الى سفر و كان صالح لا ينام معهم فى القرية كان يبيت فى مسجد يقال له مسجد صالح فاذا أصبح أتاهم فوعظهم و ذكرهم فاذا امسى خرج الى المسجد فبات فيه فانطلقوا فدخلوا الغار فسقط عليهم فقتلهم قال اللّه تعالى فمكروا مكرا و مكرنا مكرا و هم لا يشعرون فانطلق ممن قد اطلع على ذلك منهم فاذا هم رضخ فرجعوا يصيحون فى القرية اى عباد اللّه اما رضى صالح ان أمرهم بقتل أولادهم حتى قتلهم فاجتمع اهل القرية على قتل الناقة و قال ابن اسحق انما تقاسم التسعة على تبيت صالح بعد عقرهم الناقة كما ذكرنا قال السدى و غيره فلما ولد ابن العاشر يعنى قذارشب فى اليوم شباب غيره فى الجمعة و شب فى الشهر شباب غيره فى السنة فلما كبر جلس مع الناس يصيبون من الشراب فارادوا ماء يمزجون به شرابهم و كان ذلك اليوم شرب الناقة فوجدوا الماء قد شربته الناقة فاشتد ذلك عليهم و قالوا ما نفعل باللبن لو كنا ناخذ هذا الماء الذي تشربه الناقة فنسقيه أنعامنا و حروثنا كان خيرا لنا فقال ابن العاشر هل لكم فى ان اعقرها لكم قالوا نعم فعقرها روى البخاري فى الصحيح من حديث عبد اللّه بن دينار عن ابن عمه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم لما نزل الحجر فى غزوة تبوك أمرهم ان لا يشربوا من بيرها و لا يسقوا منها فقالوا قد عجنا و استقينا فامرهم ان يطرحوا ذلك العجين و يهريقوا ذلك الماء

قال البغوي و قال نافع عن ابن عمر فامرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم ان يهريقوا ما استقوا من بيرها و ان يعلفوا الإبل العجين و أمرهم ان يسقوا من البير التي كانت تردها الناقة قال و روى ابو الزبير عن جابر قال لما مر النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم بالحجر فى غزوة تبوك قال لاصحابه لا يدخلن أحد منكم هذه القرية و لا تشربوا من مائهم و لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين الا ان تكونوا باكين خائفين ان يصيبكم مثل الذي أصابهم ثم قال اما بعد فلا تسألوا رسولكم الآيات هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم فبعث اللّه الناقة فكانت ترد من هذا الفج و تصدر من هذا الفج و تشرب مائهم يوم وردها فعتوا عن امر ربهم فعقروها فاهلك اللّه سبحانه من تحت أديم السماء من مشارق الأرض و مغاربها الا رجلا واحدا يقال له ابو رغال و هو ابو ثقيف كان فى حرم اللّه فمنعه الحرام من عذاب اللّه فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن و دفن معه غصن من ذهب و أراهم قبر ابى رغال فنزل القوم فابتدروا بأسيافهم و حفروا عنه فاستخرجوا ذلك الغصن و كانت الفرقة المؤمنة من قوم صالح اربعة آلاف خرج بهم صالح الى حضرموت فلما دخلها مات صالح فسمى حضرموت ثم بنى الاربعة آلاف مدينة يقال له حاصورا و قال قوم من اهل العلم توفى صالح بمكة و هو ابن ثمان و خمسين سنة و اقام فى قومه عشرين سنة.

٨٠

وَ لُوطاً يعنى و أرسلنا لوطا و هو لوط بن هار من بن تارخ ابن أخي ابراهيم عليه السلام إِذْ قالَ اى وقت قوله لِقَوْمِهِ و هم اهل سدوم و قيل معناه و اذكر لوطا و على هذا إذ بدل منه أَ تَأْتُونَ انكار و توبيخ و تفريع الْفاحِشَةَ يعنى إتيان الرجال فى ادبارهم ما سَبَقَكُمْ بِها بتلك الفعلة الباء للتعدية مِنْ أَحَدٍ من زائدة لتاكيد النفي و الاستغراق مِنَ الْعالَمِينَ من للتبعيض و الجملة استيناف مقرر للانكار او حال من الفاحشة كانه وبخهم اولا بإتيان الفاحشة ثم ما اختراعها فانه أسوأ قال عمرو بن دينار ما يرى ذكر على ذكر فى الدنيا حتى كان من قوم لوط .

٨١

ا انكم قرا نافع و حفص بهمزة واحدة مكسورة على الخبر على الاستيناف و الباقون بهمزتين على الاستفهام بيان لقوله أ تأنون الفاحشة و هو ابلغ فى الإنكار و التوبيخ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ أ تجامعونهم فى ادبارهم يقال اتى المرأة إذا غشيها شَهْوَةً منصوب على العلية اى للشهوة لا حامل لكم على ذلك الا لمجرد الشهوة من غير حكمة او مصدر فى موقع الحال يعنى لشهوتهم شهوة ردية غير مفيدة مِنْ دُونِ النِّساءِ اى من غير النساء يعنى لا تأتونهن مع ما فيه من الحكمة من انتفاء الولد و بقاء النوع و لا ذم أعظم منه لانه وصف لهم بالبهيمة الصرفة قلت و من هذه الاية ثبت حرمة إتيان النساء فى أدبارهن بدلالة النص لانه مثل إتيان الرجال خبيثة غير مفيد أصلا و قد ذكرنا هذه المسألة فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى و يسئلونك عن المحيض قل هو أذى الاية و هو قوله تعالى فاتوا حرثكم انى شئتم بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ إضراب عن الإنكار الى الاخبار عن حالهم الذي يوجب ارتكاب أمثال ذلك القبائح يعنى أنتم عادتكم الإسراف و التجاوز عن الحدود المعقولة و المشروعة فى الشي ء حتى تجاوزتم فى النكاح عن المعتاد المفيد الى غير المعتاد الذي لا خير فيه أصلا او إضراب عن الإنكار فى ما ذكر الى الذم على جميع اوصافهم او عن محذوف تقديره لا عذر لكم بل أنتم قوم عادتكم الإسراف.

٨٢

وَ ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ اى ما جاءوا بما يصلح جوابا عن كلام إِلَّا أَنْ قالُوا استثناء منقطع يعنى لكنهم قابلوا النصيحة بقول بعضهم لبعض أَخْرِجُوهُمْ يعنى لوطا و من معه من المؤمنين مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ من الفواحش قالوا ذلك استهزاء.

٨٣

فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ يعنى اتباعه من المؤمنين و قيل ابنتاه إِلَّا امْرَأَتَهُ و اهله استثناء من الأهل فانها كانت منافقة تستر الكفر كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ اى من الذين بقوا فى ديارهم فهلكوا و قيل معناه كانت من الباقين فى العذاب و قيل معناه كانت من الباقين المعمرين قد اتى عليها دهر طويل قبل ذلك فهلكت مع من هلك من قوم لوط و التذكير لتغليب الذكور.

٨٤

وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ اى على قوم لوط مَطَراً اى نوعا من المطر عجيبا يعنى حجارة من سجيل مسومة قال وهب الكبريت و النار قال ابو عبيدة يقال فى العذاب أمطر و فى الرحمة مطر فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ الكفرين روى ان لوطا لما هاجر مع عمه ابراهيم عليهما السلام من أرض بابل الى الشام نزل بالأردن فارسله اللّه الى اهل سدوم ليدعوهم الى اللّه و ينهاهم عما اخترعوا من الفاحشة فلم ينتهوا عنها فامطر اللّه عليهم الحجارة فهلكوا أخرجه اسحق بن بشر و ابن عساكر عن ابن عباس نحوه و قيل خسف بالمقيمين منهم و أمطرت الحجارة على مسافريهم قال محمد بن اسحق كانت لهم ثمار و قرى لم يكن فى الأرض مثلها فقصدهم الناس فاذوهم فعرض لهم إبليس فى صورة فقال ان فعلتم بهم كذا نجوتم فابوا فلما ألح اى لزم الناس إياهم إلخ الناس عليهم قصدوهم فاصابوا غلمانا صبيانا فاخبثوا فاستحكم ذلك فيهم قال الحسن كانوا لا يناكحون الا العرباء قال الكلبي ان أول من عمل عمل قوم لوط إبليس لان بلادهم أخصبت فانتجعها اهل البلدان فتمثل لهم إبليس فى صورة شاب ثم دعا الى دبره فنكح فى دبره فامر اللّه السماء ان تحصبهم و امر الأرض تخسف بهم.

٨٥

وَ إِلى مَدْيَنَ يعنى و أرسلنا الى أولاد مدين بن ابراهيم خليل الرحمن

قال البغوي هم اصحب الايكة أَخاهُمْ فى النسب شُعَيْباً قال عطاء هو شعيب بن توبة بن ابراهيم خليل الرحمن و قال ابن اسحق هو شعيب بن ميكيل بن يشجر بن مدين بن ابراهيم عليه السلام و له ميكيل بنت لوط عليه السلام و قيل هو شعيب ابن يثرون بن نوس بن مدين و كان شعيب عليه السلام أعمى و كان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه و كان قومه اهل كفر و بخس للمكيال و الميزان اخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم إذا ذكر شعيبا يقول ذلك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّه وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعنى معجزة كانت لشعيب عليه السلام و لم يذكر فى القران ما هى و قيل أراد بالبينة مجئ شعيب عليه السلام بالحكمة و الموعظة و فصل الخطاب فَأَوْفُوا يعنى أتموا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ مصدر بمعنى الوزن كالميعاد بمعنى الوعد او المضاف محذوف يعنى وزن الميزان او المراد بالكيل فمعز الدولة الكيل على الإضمار او اطلق الكيل على المكيال كالعيش على المعاش وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ اى لا تنقصوهم حقوقهم البخس يتعدى الى مفعولين و هما الناس و أشياءهم يقال بخست زيدا حقه اى نقصته إياه و انما قال اشيائهم للتعميم تنبيها على انهم كانوا يبخسون الجليل و الحقير و القليل و الكثير و قيل كانوا مكاسين لا يدعون شيئا الا مكسوه وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالكفر و الظلم بَعْدَ إِصْلاحِها يعنى بعد ما بعث اللّه نبيا يأمر الناس بالمعروف و ينهاهم عن المنكر و الاضافة الى مكر الليل و النهار ذلِكُمْ الذي ذكرت لكم و أمرتكم خَيْرٌ لَكُمْ مما كنتم عليه من الظلم و البخس فان ذلك و ان كان فيه نوع منفعة فى الدنيا لكنه يجلب مضرة عظيمة فى الدارين و ما أمرتكم فيه صلاح الدنيا و الاخرة جميعا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدقين لى فافعلوا ما أمرتكم و كانوا يعلمون ان شعيبا عليه السلام يكذب قط قبل كانوا يجلسون على الطريق فمن جاء الى شعيب عليه السلام ليومن به منعوه و قالوا ان شعيبا كذاب فلا يفتنك عن دينك كانوا يتوعدون المؤمنين بالقتل و يخوفونهم كذا اخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم عن ابن عباس نحوه فقال اللّه تعالى.

٨٦

وَ لا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ مع ما عطف عليه فى موضع الحال من فاعل تقعدوا وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّه عن الايمان باللّه مَنْ آمَنَ بِهِ اى باللّه تعالى تنازع فيه الفعلان فى المفعولية توعدون و تصدون فاعمل الثاني و لذا لم يقل و تصدونهم وَ تَبْغُونَها اى تطلبون سبيل اللّه عِوَجاً بإلقاء الشبه او وصفها للناس بانها معوجة و قيل معنى قوله تعالى لا تقعدوا بكل صراط اى بكل طريق من طرق الدين كالشيطان و سبيل الحق و ان كان واحدا لكنه تنشعب الى معارف و حدود و احكام و كانوا إذا رأوا واحدا يسعى فى شى ء منها وعدوه بالقتل و التعذيب و على هذا ففى قوله تعالى و يصدون عن سبيل اللّه وضع الظاهر موضع الضمير بيانا لكل صراط و دلالة على عظيم ماى صدون عنه و تقبيحا لما كانوا عليه وَ اذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا عددكم او عدكم فَكَثَّرَكُمْ اللّه بالبركة فى النسل و المال وَ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ من الأمم قبلكم قوم لوط و غيرهم فاعتبروا بهم.

٨٧

وَ إِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَ طائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا به فَاصْبِرُوا اى فتربصوا حَتَّى يَحْكُمَ اللّه بَيْنَنا بنصر المحقين على المبطلين فهو وعد للمؤمنين و وعيد للكافرين وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لا معقب لحكمه.

٨٨

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا اى و اللّه ليكونن أحد الامرين اما إخراجكم من القرية او عودكم فى الكفر و شعيب لم تكن فى ملتهم قط لان الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر لكن غلبوا الجماعة الذين أمنوا معه عليه مخاطبة مع قومه بخطابهم و على ذلك اجرى الجواب و قيل معناه او لتدخلن فى ملتنا و عاد بمعنى صار قالَ أَ وَ لَوْ كُنَّا كارِهِينَ الهمزة للانكار و الواو للحال بل للعطف على محذوف و الجملة فى موضع الحال تقديره أ تعيدوننا فى ملتكم لو كنا طائعين و لو كنا كارهين فحذف أحد المعطوفين الذي هما حالان من فاعل كنا و علق الحكم بأبعد النقيضين ليدل على عدم الحكم ثم قال شعيب.

٨٩

قَدِ افْتَرَيْنا اى اختلقنا عَلَى اللّه كَذِباً بإثبات الشريك له تعالى إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّه مِنْها شرط حذف جوابه بدليل ما سبق و كلمة افترينا ماض بمعنى المستقبل جعل كانه الواقع للمبالغة و ادخل عليه قد لتقربه من الحال اى قد افترينا الحال ان أردنا العود بعد ما أنقذنا اللّه تعالى منها و بيّن لنا ان ما كنا عليه كان باطلا و ما صرنا عليه حق و قيل انه جواب قسم بحذف اللام تقديره و اللّه لقد افترينا وَ ما يَكُونُ لَنا اى ما يثبت لنا ابدا أَنْ نَعُودَ فِيها بيان عزم على الاستقامة على الإسلام و الاجتناب عن الكفر و لما كان فى الكلام شائبة تزكية النفس و عدم خوف ما يؤل اليه الأمر قال إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللّه رَبُّنا خذلاننا و ارتدادنا و يكون سبق فى مشيته ذلك و فيه دليل على ان الكفر بمشية اللّه و قيل أراد به حسم طمعهم فى العود بالتعليق بما لا يكون وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً فهو يعلم ما يؤل اليه امر عباده من الايمان الى الكفر او من الكفور الى الايمان قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم و الذي لا اله غيره ان أحدكم ليعمل بعمل اهل النار حتى ما يكون بينه و بيها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل الجنة فيدخلها متفق عليه من حديث ابن مسعود عَلَى اللّه تَوَكَّلْنا فى ان يثبتنا على الايمان و يوفقنا لازدياد اليقين قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم ان قلوب بنى آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم اللّهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك رواه مسلم ثم دعا عليهم شعيب عليه السلام بعد ما ايس من فلاحهم فقال رَبَّنَا افْتَحْ اى احكم من الفتاحة بمعنى الحكم و الفتاح القاضي يفتح الأمر المتعلق او المعنى اظهر الأمر حتى ينكشف الحق من المبطل من فتح المشكل إذا بينه بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ

٩٠

وَ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ للسفلة لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً فى دينه و تركتم دينكم إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ لاستبدال ضلالته بهديكم او لفوات ما يحصل لكم المنفعة بالبخس و التطفيف و هو ساد مسد جواب الشرط و القسم الذي وطأته اللام فى لئن اتبعتم.

٩١

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قال الكلبي الزلزلة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ اى مدينتهم جاثِمِينَ ميتين قال ابن عباس و غيره فتح اللّه عليهم بابا من جهنم فارسل عليهم حرا شديدا فاخذ بانفاسهم فلم ينفعهم ظل و لا ماء و كانوا يدخلون الأسراب ليتبرّدوا فيها فاذا دخلوها وجدوها أشد حرا من الظاهر فخرجوا هرابا الى البرية فبعث اللّه سحابة فيها ريح طيبة فاظلتهم و هى الظلة فوجدوا لها بردا و نسيما فنادى بعضهم بعضا حتى اجتمعوا تحت السحابة رجالهم و نسائهم و صبيانهم فالهب اللّه تعالى عليهم نارا و جفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلى و قال يزيد الجريري سلط اللّه عليهم الريح سبعة ايام ثم سلط عليهم الحر و رفع عليهم جبل من بعيد فاتاه رجل فاذا تحته انهار و عيون فاجتمعوا تحته كلهم فوقع ذلك الجبل عليهم فذلك يوم الظلة قال قتادة بعث اللّه شعيبا الى اصحاب الايكة و اهل مدين فاما اصحاب الايكة فاهلكوا بالظلة و اما اصحاب مدين فاخذتهم الرجفة صاح بهم جبرئيل صيحة فهلكوا جميعا.

٩٢

الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً مبتدأ خبره كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا اى استوصلوا كان لم يقيموا و لم ينزلوا فيها من قولهم غنيت بالمكان إذا أقمت به و المغانى المنازل واحدها مغنى الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ دنيا و دينا الا الذين صدقوه و اتبعوه كما زعموا فانهم الرابحون فى الدارين و للتنبيه على وجه الاختصاص و المبالغة فيه كرر الموصول و لم يكتف بالعطف و استأنف بالجملتين و اتى بهما اسميتين.

٩٣

فَتَوَلَّى اى اعرض عَنْهُمْ شعيب شاخصا بين أظهرهم حين أتاهم العذاب وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ قال ذلك تأسفا بهم بشدة حزنه عليهم ثم أنكر على نفسه فقال فَكَيْفَ آسى احزن عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ فانهم ليسوا أهلا لان يحزن عليهم لاستحقاقهم ما نزل بهم او قاله اعتذارا عن شدة حزنه عليهم يعنى بعد ما بلغت فى الإبلاغ و النصيحة لما لم يتبعونى و اثروا لانفسهم العذاب فكيف اسى عليهم.

٩٤

وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ فيه إضمار يعنى فكذبوه إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ اى الفقر وَ الضَّرَّاءِ اى المرض كذا

قال البغوي عن ابن مسعود و قيل البأساء الحرب و الضراء الجدب لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ لكى يتوبوا الى اللّه يتضرعوا من هاهنا يظهر بطلان قول من قال ان عسى و كاد و لعل من اللّه واجبة الوقوع.

٩٥

ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ اى البأساء و الضراء الْحَسَنَةَ السعة و الا من و الخصب استدراجا و ابتلاء لهم بالأمرين حَتَّى عَفَوْا اى كثروا عددا و مالا يقال عفت النبات إذا كثرت و منه إعفاء اللحية وَ قالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَ السَّرَّاءُ اى هكذا كانت عادة الدهر قديما يعاقب فى الناس بين الضراء و السراء و نسوا خالق الأرض و السماء و منشئ النعمة و البلاء فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فجأة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بنزول العذاب.

٩٦

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى اللام للعهد الخارجي يعنى اهل القرى التي أرسلنا فيها الأنبياء آمَنُوا بالأنبياء وَ اتَّقَوْا عذاب اللّه بالطاعة و ترك المعاصي لَفَتَحْنا قرأ ابن عامر بالتشديد للتكثير و الباقون بالتخفيف عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ اى لو سعنا عليهم الخير من كل جانب و داومناه لهم و قيل بركات السماء المطر و بركات الأرض النبات و الزرع و اصل البركة الزيادة و المواظبة على شى ء وَ لكِنْ كَذَّبُوا الرسل فَأَخَذْناهُمْ بالعقوبة بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الكفر و المعاصي.

٩٧

أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى عطف على قوله فاخذناهم بغتة و هم لا يشعرون و ما بينهما اعتراض و المعنى ابعد ما أخذنا اهل القرى من الكافرين السابقين أمن اهل القرى من الكافرين بنبوة خاتم النبيين محمد صلى اللّه عليه و اله و سلم يعنى اهل مكة و ما حولها أَنْ يَأْتِيَهُمْ بأسنا عذابنا بَياتاً اى تبيتا او وقت بيات يعنى ليلا او مبيتا او مبيتين و هو فى الأصل بمعنى البيتوتة و يجئ بمعنى التبيت كالسلام بمعنى التسليم وَ هُمْ نائِمُونَ غافلون عنه حال من ضمير هم البارز او المستتر فى بياتا.

٩٨

أَ وَ أَمِنَ قرأ نافع و ابن عامر او بسكون الواو على الترديد و الباقون بفتح الواو على ان الهمزة للاستفهام للتوبيخ و الواو للعطف و الجمع أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى اى نهارا وقت الضحى وقت انبساط الشمس وَ هُمْ يَلْعَبُونَ اى غافلون مشتغلون بما لا ينفعهم.

٩٩

أَ فَأَمِنُوا تقريره لقوله أ فأمن اهل القرى مَكْرَ اللّه اى استدراجه إياهم بما أنعم عليهم فى الدنيا الى حين ثم أخذهم من حيث لا يحتسبون بالعذاب بغتة كما فعل بأشياعهم من قبل فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّه إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا أنفسهم بالكفر و المعاصي و تركوا النظر و الاعتبار.

١٠٠

أَ وَ لَمْ يَهْدِ قرأ قتادة و يعقوب نهد بالنون على التكلم و التعظيم و الباقون بالياء على الغيبة و الهمزة فى المواضع الاربعة للتوبيخ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ بالسكنى مِنْ بَعْدِ هلاك أَهْلِها الذين قبلهم عدى الهداية باللام لانه بمعنى البيان أَنْ مخففة من المثقلة اسمه ضمير الشان فاعل ليهد على تقدير الغيبة و مفعوله على تقدير التكلم يعنى او لم يبين للذين ورثوا السابقين انه لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ اى أخذناهم بالعذاب و العقوبة بِذُنُوبِهِمْ اى بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم وَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ عطف على ما دل عليه او لم يهد اى يغفلون عن الهداية و نختم على قلوبهم و قال الزجاج هو منقطع مما قبله يعنى و نحن نطبع و لا يجوز عطفه على أصبناهم على انه بمعنى و طبعناهم لانه لو كان فى سياق جواب لو لزم نفى الطبع عنهم فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ الانذار و لا يقبلون الموعظة.

١٠١

تِلْكَ الْقُرى قرى اللامم الماضية قوم نوح و عاد و ثمود و قوم لوط و شعيب الموصوف مع الصفة مبتدأ خبره نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها يعنى نقص عليك بعض اخبار أهلها لكى تعتبروا لا كلها و جاز ان يكون القرى خبرا و نقص خبرا ثانيا او حال من القرى و العامل فيه معنى الاشارة وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ اى بالآيات و المعجزات الشاهدة على رسالتهم فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا منصوب بان مقدرة بعد لام الجحود لتاكيد النفي و المصدر اما بمعنى الفاعل او محمول بتقدير ذى اى ما كانوا مؤمنين او ذا ايمان عند مجيئهم بها بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ اى بما كذبوه من قبل الرسل يعنى التوحيد بل كانوا مستمرين على التكذيب و الإشراك او فما كانوا ليؤمنوا مدة عمرهم بما كذبوا به اولا يعنى بالرسالة و الشرائع كلها حين جاءتهم الرسل بها و لم يؤثر فيهم قط دعوتهم المتطاولة و الآيات المتتابعة و

قال البغوي قال ابن عباس و السدى يعنى فما كان هؤلاء الكفار الذين أهلكناهم ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا من قبل يوم أخذهم ميثاقهم حين اخرجوا من ظهر آدم فاقرءوا باللسان و اضمروا بالتكذيب

و قال مجاهد معناه فما كانوا لو احييناهم بعد هلاكهم ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل هلاكهم كقوله تعالى و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه و قال يمان بن ذباب هذا على معنى ان كل نبى انذر قومه بالعذاب فكذبوه فاهلكناهم فلما جاء بعدهم من رسول بالبينات ما كانت الأمم اللاحقة ليؤمنوا بما كذب به اوائلهم من الأمم الخالية بل كذبوا بما كذب به اوائلهم نظيره قوله تعالى ما اتى الذين من قبلهم من رسول الا قالوا ساحرا و مجنون كَذلِكَ اى مثل ذلك الطبع الشديد الذي طبعنا على قلوب الذين أهلكناهم من قبل يَطْبَعُ اللّه عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ الذين كتبنا عليهم من قومك ان لا يؤمنوا فلا يلين قلوبهم بالآيات و النذر.

١٠٢

وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ اى لاكثر الناس و الاية اعتراض او لاكثر الأمم المذكورين مِنْ عَهْدٍ اى من وفاء بالعهد الذي عاهدناهم يوم الميثاق حين اخرجوا من صلب آدم عليه السلام او ما عهدوا اليه حين كانوا فى ضر و مخافة لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشكرين وَ إِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ قال الكوفيون ان نافية و اللام بمعنى الا يعنى ما وجدنا أكثرهم الا فاسقين ناقضين للعهد و قال البصريون ان مخففة من المثقلة و اللام فارقة و على هذا وجدنا بمعنى علمنا لان ان المخففة من المثقلة لا تدخل الا على الافعال الداخلة على المبتدأ و الخبر.

١٠٣

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ الضمير للرسل فى قوله و لقد جاءتهم رسلهم و المراد نوح و هود و صالح و لوط و شعيب عليهم السلام او للامم و المراد أقوامهم مُوسى بن عمران عليه السلام بِآياتِنا يعنى المعجزات التي تذكر بعد ذلك إِلى فِرْعَوْنَ و هو لقب لملك مصر ككسرى لملك فارس و كان اسمه قابوس و قيل الوليد بن مصعب بن الريان وَ مَلَائِهِ اى شرفاء قومه فَظَلَمُوا بِها اى بالآيات و الظلم وضع الشي ء فى غير موضعه و لما كانت الآيات لوضوحها من حقها الايمان بها و هم كفروا بها مكان الايمان قال اللّه تعالى ظلموا بها مكان كفروا بها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ حيث اغرقوا فى اليم.

١٠٤

وَ قالَ مُوسى لما دخل على فرعون يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ

١٠٥

حَقِيقٌ عَلى قرأ نافع علىّ بفتح الياء مشددة يعنى واجب على فهو مستانفة فى جواب تكذيبه إياه فى دعوى الرسالة و انما لم يذكر تكذيبه لدلالة قوله فظلموا بها عليه

و قرا الباقون على مقصورة كانّ أصله حقيق علىّ كما قرأه نافع فقلب لا من اللبس او يقال على هاهنا جارة وضع مكان الباء لافادة التمكن كقولهم رميت على القوس مكان رميت بالقوس يدل عليه قراءة ابى و الأعمش حقيق بان لا أقول او يقال عدى حقيق بعلى لتضمين معنى حريص و على هذا حقيق اما خبر مبتدأ محذوف يعنى انا حقيق اى جدير و الجملة مستانفة او صفة لرسول.

أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللّه إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ شاهد على رسالتى فَأَرْسِلْ مَعِيَ قرأ حفص بفتح الياء و الباقون بإسكانها بَنِي إِسْرائِيلَ اى اطلق عنهم و خلّهم يرجعون الى الأرض المقدسة هى وطن ابائهم و كان فرعون قد استخدمهم فى الأعمال الشاقة من ضرب اللبن و نقل التراب و غيرها.

١٠٦

قالَ فرعون مجيبا لموسى عليه السلام إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ من عند اللّه فَأْتِ بِها بتلك الاية إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فى دعواك شرط استغنى من الجزاء بما مضى.

١٠٧

فَأَلْقى موسى عَصاهُ من يده فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ الثعبان الذكر العظيم من الحيّة و كان يتحرك كانها جان اى حيّة صغيرة و لهذا قال فى موضع اخر كانها جان قال ابن عباس و السدى انه لما القى العصا صارت حيّة عظيمة صفراء شعراء عرفاء فاغرافاه بين لحييها ثمانون ذراعا و ارتفعت من الأرض قد رميل و اقامت على ذنبها واضعة لحيها الأسفل فى الأرض و الأعلى على سور القصر و توجهت نحو فرعون لياخذ و روى انها أخذت قبة فرعون بين نابيها فوثب فرعون هاربا و أخذت اخذة البطن فى ذلك اليوم اربعمائة مرة و حملت على الناس فانهزموا و صاحوا و مات منهم خمسة و عشرون الفا قتل بعضهم بعضا و دخل فرعون البيت و صاح يا موسى أنشدك بالذي أرسلك خذها و انا أمن بك و أرسل معك بنى إسرائيل فاخذها موسى فعادت عصاكما كانت كذا اخرج عبد الرزاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم من طريق معمر عن قتادة ثم قال فرعون هل معك اخرى قال نعم.

١٠٨

وَ نَزَعَ يَدَهُ من تحت جيبه بعد ما أدخلها فيه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ بياضا عجيبا خارجا عن العادة لها شعاع غلب نور الشمس يعجب الناظرين لحسن منظره ثم أدخلها فى جيبه فصارت أدما كما كانت.

١٠٩

قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ماهر فى السحر يأخذا عين الناس حتّى يخيل إليهم العصا حيّة و الادم ابيض و يرى الشي ء على خلاف ما هو عليه فى الواقع أسند القول المذكور هاهنا الى الملأ و فى سورة الشعراء الى فرعون فالظاهر ان القول صدر منه و منهم جميعا على سبيل التشاور فحكى قوله ثمه و قولهم هاهنا و قاله فرعون ابتداء فتلقته منه الملأ فقالوه فيما بينهم و لاتباعهم.

١١٠

يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ يا معشر القبط مِنْ أَرْضِكُمْ يعنى مصر فَما ذا تَأْمُرُونَ يحتمل ان يكون هذا بقية الكلام السابق الذي قال الملأ لفرعون و خاصته فيكون الأمر على حقيقته او قالوه فيما بينهم او لاتباعهم فيكون تأمرون بمعنى تشيرون و المستشار من حيث انه معلم و مرشد امير على المسترشد و يحتمل ان يكون قوله فماذا تأمرون كلام المخاطبين فى جواب قولهم هذا ساحر عليم يريد ان يخرجكم من أرضكم فعلى هذا اما ان يكون كلام لفرعون او لغيره ثم بعد ما قال فرعون و ملائه ما ذكر اجتمع راى الملأ أجمعين على ان.

١١١

قالُوا لفرعون أَرْجِهْ قرأ ابن كثير و هشام هذا و فى الشعراء ارجئه بالهمز و ضم الهاء بعدها و وصلها بواو الإشباع و ابو عمرو كذلك لكن من غير صلة و ابن ذكوان بالهمز و كسر الهاء و لا يصلها بياء و هذه القراءة على خلاف القياس لان الهاء لا يكسر الا إذا كان قبلها كسرة او ياء ساكنة لكن الهمزة كانت تقلب ياء أجريت مجريها

و قرا قالون بغير همز باختلاس الكسرة و ورش و الكسائي نحوه لكن يشبعان الكسرة ياء و عاصم و حمزة بغير همز و اسكان الهاء و الهاء فى الوقف ساكنة بلا خلاف الا فى مذهب من ضمها سواء وصلها او لم يصلها فان الروم و الإشمام جائز ان فيها التشبيه المنفصل بالمتصل و معناه اخر امره يعنى لا تعجل فى الايمان به و لا فى قتله و عقوبته حتّى يظهر امره فى القاموس ارجأ الأمر آخره وَ أَخاهُ هارون عليه السلام وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ مدائن الصعيد من نواحى مصر كان هناك رؤساء السحرة حاشِرِينَ اى شرطا و رجالا جامعين السحرة.

١١٢

يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ جواب لقوله أرسل يعنى ان ترسل إليهم حاشرين يجمعون إليك من فيها من السحرة فان غلبهم موسى صدقناه و ان غلبوا عليه علمنا انه ساحر قرا حمزة و الكسائي هنا و فى سورة يونس بكل سحار بالألف بعد الحاء على المبالغة كما اتفق عليه القراء فى الشعراء و الباقون فى هاتين ساحر على وزن فاعل

قال البغوي قال ابن عباس و السدى و ابن إسحاق لمار أي فرعون سلطان اللّه فى العصا ما راى قال انا لا نغالب موسى الا بمن هو منه فاتخذ غلمانا من بنى إسرائيل فبعث بها الى قرية يقال لها الغرماء يعلمونهم السحر فعلموهم سحرا كثيرا و واعد موسى موعدا فبعث الى السحرة فجاؤا و معهم معلمهم فقال لهم ماذا صنعتم قالوا قد علمنا سحرا لا يطيقه سحرة اهل الأرض الا ان يكون امرا من السماء فانه لا طاقة لهم به ثم بعث فرعون فى مملكته فلم يترك فى سلطانه ساحرا الا اتى به قال مقاتل كانوا اثنين و سبعين اثنان منهم من القبط هما راس القوم أحدهما شمعون و سبعون من بنى إسرائيل و قال الكلبي كان الذين يعلمونهم رجلين محبوسين من اهل نينوى و كانوا سبعين غير رئيسهم و قال كعب كانوا اثنى عشر الفا و قال السدى كانوا بضعة و ثلثين الفا و قال عكرمة سبعين الفا و قال محمد بن المنكدر كانوا ثمانين الفا.

١١٣

وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ مع الحاشرين بعد ما أرسلهم فى طلبهم قالُوا يعنى السحرة استيناف كانه فى جواب سائل قال ما قالوا إذا جاؤا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قرا نافع و ابن كثير و حفص ان لنا بهمزة واحدة على الخبر و إيجاب الاجر كانهم قالوا لا بد لنا من اجر و التنكير للتعظيم

و قرا الباقون اان بهمزتين على الاستفهام و هم على مذاهبهم المذكورة فى الهمزتين المفتوحتين و لم يختلفوا فى الشعراء انه بالاستفهام.

١١٤

قالَ فرعون نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عطف على جملة سد مسدها نعم يعنى ان لكم اجرا و انكم لمن المقربين فى المنزلة الرفيعة عندى زاد على الجواب لتحريضهم قال مقاتل قال موسى لكبير السحرة تومن بي ان غلبتك قال لاتين بسحر لا يغلبه ساحر و لئن غلبتنى لا و منن بك و فرعون ينظر.

١١٥

قالُوا اى السحرة يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ عصاك وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ عصينا و حبالنا خيروا موسى إظهارا للجلادة و لكن كان رغبتهم فى ان يلقوا قبل موسى يدل عليه تغير النظم الى ما هو ابلغ و تعريف الخبر و توسيط الفصل او تاكيدهم الضمير المتصل بالمنفصل فلذلك.

١١٦

قالَ موسى بل أَلْقُوا ازدراء بهم وثوقا على شانه فَلَمَّا أَلْقَوْا السحرة حبالهم و عصيهم سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ اى صرفوها عن ادراك حقيقة ما القوه و تخيل للناس حبالهم و عصيهم حيات و أفاعي أمثال الجبال قد ملأ الوادي فى ميل يركب بعضها فى بعض وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ اى خوفوهم ارهابا شديدا كانهم طلبوا رهبتهم وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ فى فنه.

١١٧

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى حين أوجس فى نفسه خيفة أَنْ أَلْقِ عَصاكَ و لا تخف انك أنت الا على انما صنعوا كيد ساحر و لا يفلح الساحر حيث اتى فالقاها فَإِذا هِيَ حية عظيمة قد سدت الأفق تسعى قال ابن زيد كان اجتماعهم بالاسكندرية و يقال بلغ ذنب الحية من وراء البحيرة ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا تَلْقَفُ قرأ حفص هاهنا و فى طه و الشعراء بإسكان اللام و تخفيف القاف من المجرد و الباقون بفتح اللام و تشديد القاف من التفعل بحذف احدى التاءين أصله تتلقف اى تبتلع ما يَأْفِكُونَ اى ما يزورونه من الافك بمعنى قلب الشي ء من وجهه و يجوز ان يكون ما مصدرية و المصدر بمعنى المفعول روى انها تلقفت حبالهم و عصيهم و ابتلعها بأسرها ثم أقبلت على الحاضرين فهربوا و ازدحموا حتى هلك جمع عظيم ثم أخذها موسى فصارت عصا كما كانت فقالت السحرة لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا و عصينا فلما نفدت علموا ان ذلك من اللّه تعالى و ذلك قوله تعالى.

١١٨

فَوَقَعَ الْحَقُّ اى ثبت و ظهر امره وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ السحرة.

١١٩

فَغُلِبُوا يعنى فرعون و قومه هُنالِكَ وَ انْقَلَبُوا اى رجعوا الى المدينة صاغِرِينَ أذلاء مقهورين.

١٢٠

وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ألقاهم اللّه تعالى ساجِدِينَ للّه تعالى لم يقل سجدوا للّه تنبيها على ان ظهور الحق اضطرهم الى السجود حيث لم يبق لهم تمالك و قيل الهمهم اللّه ان يسجدوا فسجدوا و قال الأخفش من سرعة ما سجدوا كانهم القوا.

١٢١

قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ

١٢٢

رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ ابدلوا الثاني بالأول لئلا يتوهم انهم أرادوا به فرعون قال ابن عباس لما امنت السحرة اتبع موسى ستمائة الف من بنى إسرائيل.

١٢٣

قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ اى باللّه او بموسى قرا قنبل و أمنتم به فى حال الوصل يبدل من همزة الاستفهام واوا مفتوحة و مد بعدها مدة فى تقدير الفين

و قرا فى طه على الخبر بهمزة واحدة و الف

و قرا فى الشعراء على الاستفهام بهمزة و مدة مطولة فى تقدير الفين و حفص فى الثلاثة بهمزة و الف على الخبر و ابو بكر و حمزة و الكسائي فيهن على الاستفهام بهمزتين محققتين بعدهما الف و الباقون على الاستفهام بهمزة و مدة مطولة بعدها فى تقدير الفين و لم يدخل أحد منهم ألفا بين الهمزة المخففة و الملينة فى هذه المواضع الثلاثة كما أدخلها من أدخلها فى اانذرتهم و بابه لكراهة اجتماع ثلث الفات بعد الهمزة فالاستفهام للانكار و الاستبعاد و الخبر على التوبيخ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ اى هذا الصنيع لحيلة احتملتموها أنتم و موسى فِي الْمَدِينَةِ اى فى مصر قبل ان تخرجوا للميعاد لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها يعنى القبط و يخلص مصر لكم و لبنى إسرائيل فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة ما فعلتم تهديد مجمل تفصيله.

١٢٤

لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ من كل شق طرفا ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ فى جذوع النخل على شاطئ نهر مصر تفضيحا لكم و تنكيلا لامثالكم قيل انه أول من سن ذلك أخرجه ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم عن ابن عباس.

١٢٥

قالُوا يعنى السحرة لفرعون إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ بالموت لا محالة نرجوا ثوابه فلا نبالى بوعيدك او المعنى مصيرنا و مصيركم الى ربنا فيحكم بيننا.

١٢٦

وَ ما تَنْقِمُ اى ما تنكر مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا و هو خير الأعمال و اصل المناقب لا يجوز عليها الإنكار و لا يجوز لنا العدول عنها لابتغاء مرضاتك او خوف وعيدك ثم فزعوا الى اللّه فقالوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً اى اصبب علينا صبرا كما يصب الماء كيلا يمنعنا وعيد فرعون عن الايمان و يطهرنا من الآثام وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ ثابتين على الإسلام ذكر الكلبي ان فرعون قطع أيديهم و أرجلهم و صلبهم و ذكر غيره انه لم يقدر عليهم لقوله تعالى لا يصلون اليكما أنتما و من اتبعكما الغالبون.

١٢٧

وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بتغير الناس عليك و دعوتهم الى مخالفتك وَ يَذَرَكَ عطف على يفسدوا او جواب للاستفهام بالواو كقولهم هل عندكم ماء و اشربه و المعنى أ يكون منك ترك موسى و يكون تركه إياك وَ آلِهَتَكَ اى معبوداتك فلا يعبدون لك و لا لها قال ابن عباس كان لفرعون بقرة يعبدها و كانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم ان يعبدوها و لذلك اخرج السامري لهم عجلا و قال الحسن كان قد علق على عنقه صليبا يعبده و قال السدى كان فرعون قد اتخذ لقومه أصناما و أمرهم بعبادتها و قال لقومه هذه الهتكم و انا ربكم و ربها و لذلك قال انا ربكم الأعلى و قيل كانوا يعبدون الكواكب

و قرا ابن مسعود و ابن عباس و الشعبي و الضحاك و يذرك و الهتك بكسر الالف على وزن عبادتك و معناه و قيل أراد بالهتك الشمس و كانوا يعبدونها قالَ فرعون سَنُقَتِّلُ قرأ نافع و ابن كثير بفتح النون و ضم التاء مخففا من المجرد و الباقون بضم النون و كسر التاء مشددا من التفعيل على التكثير أَبْناءَهُمْ وَ نَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ اى نتركهن احياء كما نفعل من قبل وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ غالبون و هم مقهورون تحت أيدينا قال ابن عباس كان فرعون يقتل أبناء بنى إسرائيل فى العام الذي قيل له يولد مولود يذهب به ملكك فقال فرعون أعيد عليهم القتل ليعلموا انا على ما كنا عليه من القهر و الغلبة و لا يتوهم أحد ان موسى هو المولود الذي حكم المنجمون و الكهنة بذهاب ملكنا على يديه فلما أعاد عليهم القتل شكت ذلك بنو إسرائيل الى موسى فحينئذ.

١٢٨

قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّه بالتضرع اليه و الدعاء و التوكل عليه وَ اصْبِرُوا على ما يصيبكم من فرعون و قومه فان ذلك بارادة اللّه و مشيته و ابتلائه إِنَّ الْأَرْضَ للّه يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ كافرا كان او مسلما لا يجوز الاعتراض عليه تعالى وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ يعنى جزاء الحسنات و السعادة الابدية التي لا تنقطع و الجنة للمتقين فابتغوا الدار الاخرة الباقية و اصبروا على ما أصابكم فى الدنيا الفانية سمى جزاء الفعل العقبى و العاقبة لانه يعقب العمل لكنهما مختصان بالثواب و خير الجزاء على الحسنات كذلك العقب مختص بالثواب كما ان العقوبة و المعاقبة و العقاب مختصة بالعذاب و سوء الجزاء قال اللّه تعالى أولئك لهم عقبى الدار و نعم عقبى الدار و خير عقبا و قال فحق عقاب شديد العقاب و ان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم و جاز ان يكون قوله ان الأرض للّه الى آخره وعد البنى إسرائيل بان يرثوا ارض مصر بعد فرعون و يكون لهم النصر و الظفر عاقبة الأمر كالاية الثانية.

١٢٩

قالُوا يعنى قوم موسى أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بالرسالة بقتل الأبناء وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا باعادة القتل علينا و قيل ان المراد منه ان فرعون كان يسخرهم قبل مجئ موسى الى نصف النهار فلما جاء موسى استسخرهم جميع النهار بلا اجر و ذكر الكلبي انهم كانوا يضربون اللبن بطين فرعون فلما جاء موسى عليه السلام اجبرهم ان يضربوه من طين من عندهم قالَ لهم موسى عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ فرعون وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ اى يسكنكم بعد هلاكه فِي الْأَرْضِ ارض مصر فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ من شكر و طاعة او كفران و معصية وعدهم اللّه تعالى بالنصر و الظفر و أشار الى إيجاب الشكر عند ابتلائه بالخير و إيجاب الصبر على الابتلاء بالشر فانجز اللّه وعده حتى أغرق فرعون و استخلفهم فى ديارهم و أموالهم فعبدوا العجل و روى ان مصر فتح لهم فى زمن داؤد .

١٣٠

وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ اى اتباعه بِالسِّنِينَ بالجدوب و القحوط و السنة غلبت على عام القحط لكثرة ما يذكر عنه و يورخ به ثم اشتق منه فيقال سنت القوم إذا قحطوا و يقال مستهم السنة اى جدب السنة و قيل أراد بالسنين القحط سنة بعد سنة وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ بكثرة الآفات و العاهات قال قتادة اما سنين فلا هل البوادي و اما نقص الثمرات فلا هل الأمصار لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ لكى ينتبهوا على ان ذلك بشوم كفرهم و معاصيهم فيتعظوا او يرق قلوبهم بالشدائد فيفزعوا الى اللّه و يرغبوا فيما عنده.

١٣١

فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ يعنى الخصب و السعة و العافية قالُوا اى ال فرعون لَنا هذِهِ اى لاجلنا و نحن مستحقوها على العادة التي جرت لنا فى سعة أرزاقنا و لم يروها تفضلا من اللّه تبارك و تعالى ليشكروا عليها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ جدب و بلاء يكرهونه يَطَّيَّرُوا اى يتشاءموا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ قالوا لم يصبنا بلاء حتى رايناهم فهذا من شوم موسى و قومه و قال سعيد بن جبير و محمد بن المنكدر و كان ملك فرعون اربعمائة سنة و عاش ستمائة و عشرين سنة لا يرى مكروها و لو كان له فى تلك المدة جوع يوم او حمى يوم او وجع ساعة لما ادعى الربوبية قط و لم يكن هذا القول منهم الا لكمال إغراقهم فى الغباوة و القساوة فانهم بعد مشاهدة الآيات لم ينتبهوا على انه ما كانت الحسنة الا تفضلا من اللّه تعالى و ابتلاء فلما لم يشكروها و دعاهم الرسول المويد بالمعجزات الباهرة الى الشكر و الطاعة فلم يطيعوه و تمادوا فى العصيان اخذتهم السنة لشوم أعمالهم عقوبة من عند اللّه تعالى كما قال أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ اى شومهم عِنْدَ اللّه اى من عنده بكفرهم و معاصيهم كذا قال ابن عباس وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ لفرط غباوتهم ان الذي أصابهم عقوبة من اللّه تعالى و قيل معنى الاية ان طائرهم اى انصبائهم من الخير و الشر كله من عند اللّه و فى القاموس الطائر ما تيمنت به او تشاءمت و الخط و عمل الإنسان و رزقه او سبب خيرهم و شرهم عنده و هو حكمه و مسببه او سبب شومهم عند اللّه و هو أعمالهم المكتوبة عنده فانها التي ساقت إليهم ما يسوئهم و قيل معناه الشوم العظيم هو الذي لهم عند اللّه من عذاب النار

قال البيضاوي انما عرف الحسنة و ذكرها مع اداة التحقيق يعنى إذا الكثرة وقوعها و تعلق الارادة بها بالذات لسعة رحمة اللّه تعالى و نكر السيئة و اتى بها مع حرف الشك يعنى ان لندرتها و عدم تعلق القصد بها الا بالتبع.

١٣٢

وَ قالُوا يعنى فرعون و اله لموسى عليه السلام مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ اى معجزة و علامة على صدقك فى دعوى النبوة انما سموها اية على زعم موسى عليه السلام او استهزاء به لا على اعتقادهم و لذلك قالوا لِتَسْحَرَنا بِها أعيننا و تشبه علينا و تلفتنا عما نحن عليه من الذين و الضمير فى به و بها لما ذكره قبل التبئين اى كلمة مهما ذكره باعتبار اللفظ و انثه باعتبار المعنى فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ بمصدقين فدعا موسى عليهم.

١٣٣

فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَ الْجَرادَ وَ الْقُمَّلَ وَ الضَّفادِعَ وَ الدَّمَ آياتٍ نصب على الحال من الأسماء المذكورة مُفَصَّلاتٍ مبينت لا يخفى على العاقل انها من اللّه تعالى و نقمته او منفصلات لامتحان أحوالهم و كان بين كل ايتين منها ثلاثون يوما أخرجه ابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير و كان امتداد كل منها اسبوعا أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس بلفظ يمكث فيهم سبتا الى سبت ثم يرفع عنهم شهرا و قيل ان موسى لبث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل

قال البغوي قال ابن عباس و سعيد بن جبير و قتادة و محمد بن اسحق دخل كلام بعضهم فى بعض لما امنت السحرة و رجع فرعون و قومه مغلوبا ابى هو و قومه لا الاقامة على الكفر و التمادي فى الشر فتابع اللّه عليهم الآيات و أخذهم بالسنين و نقص من الثمرات فلما عالج منهم بالآيات الأربع العصا و اليد و السنين و نقص من الثمرات فابوا ان يؤمنوا فدعا عليهم موسى عليه السلام فقال يا رب ان عبدك فرعون علا فى الأرض و طغى و عتى و ان قومه قد نقضوا عهدك فخذهم بعقوبة تجعلها لهم نقمة و لقومى عظة و لمن بعدهم اية و عبرة فبعث عليهم الطوفان و هو الماء أرسل اللّه عليهم المطر و بيوت بنى إسرائيل و بيوتهم مشتبكة مختلطة فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا فى الماء و ركد الماء على أراضيهم لا يقدرون على ان يحرثوا و لا يزرعوا شيئا و دام ذلك عليهم سبعة ايام من السبت الى السبت

و قال مجاهد و عطاء الطوفان الموت كذا اخرج ابن جرير عن عائشة عن النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم و قال وهب الطوفان الطاعون بلغة اليمن و قال ابو قلابة الطوفان الجدري و هم أول من عذبوا به فبقى فى الأرض و قال مقاتل الطوفان الماء طفا فوق حروثهم و روى ابو ظبيان عن ابن عباس قال الطوفان امر من اللّه عز و جل طاف بهم ثم قرا فطاف عليهم طائف من ربك و هم نائمون قال نحاة الكوفة الطوفان مصدر لا يجمع كالرجحان و النقصان و قال اهل البصرة هو جمع واحدها طوفانة فقالوا لموسى ادع لنا ربك يكشف عنا المطر فنؤمن بك و نرسل معك بنى إسرائيل فدعا ربه فكشف الطوفان فانبت اللّه لهم فى تلك السنة شيئا لم ينبت قبل ذلك من الكلأ و الزروع و الثمار و أخصبت بلادهم فقالوا ما كان هذا الماء الا نعمة علينا و خصبا فلم يومنوا و قاموا شهرا فى عافية فبعث اللّه عليهم الجراد و أكل عامة زروعهم و ثمارهم و أوراق الشجر حتى كانت تأكل الأبواب و سقف البيت و الخشب و النبات و الامتعة و مسامير الأبواب من الحديد حتى يقع دونهم و ابتلى الجراد بالجوع فكانت لا تشبع و لا يصيب بنى إسرائيل شى ء من ذلك فعجوا «١» و ضجوا «٢» و قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك و اعطوا عهد اللّه و ميثاقه فدعا موسى فكشف اللّه عنهم الجواد بعد ما اقام عليهم سبعة ايام من السبت الى السبت و فى الخبر مكتوب على صدر كل جراد جند اللّه الأعظم و يقال ان موسى برز الى الفضاء فاشار بعصاه نحو المشرق و المغرب فرجعت الجراد من حيث

(١) العج رفع الصوت ١٢.

(٢) الضج الصياح عند المكروه و المشقة و الجزع ١٢.

جاءت و كانت قد بقيت من زروعهم و غلاتهم بقية فقالوا قد بقي لنا ما هو كافينا فما نحن بتاركي ديننا فلم يفوا بما عاهدوا و عادوا الى أعمالهم السوء فاقاموا شهرا فى عافيه ثم بعث اللّه عليهم القمل و اختلفوا فى القمل فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال القمل السوس الذي يخرج من الحنطة

و قال مجاهد و السدى و قتادة و الكلبي الدباء قالوا الجراد الطيارة التي لها اجنحة و الدباء صغارها التي لا اجنحة لها و قال عكرمة هى بنات الجراد و قال ابو عبيدة هو الحمنان و هو ضرب من القراد و قال عطاء الخراسانى هو القمل و به قرا الحسن و القمل بفتح القاف و سكون الميم قالوا امر اللّه تعالى موسى ان يمشى الى كثيب «١» اعفر «٢» بقرية من قرى مصر تدعى عين الشمس فمشى موسى الى ذلك الكثيب و كان اهيل «٣» فضربه بعصاه فانتال عليهم بالقمل فتتبع ما بقي من حروثهم و أشجارهم و نباتهم فاكله و كان يدخل بين ثوب أحدهم و جلدهم فيعضه و كان أحدهم يأكل الطعام فيمتلى قملا قال سعيد بن المسيب القمل السوس الذي يخرج من الحبوب و كان الرجل يخرج عشرة أقفزة الى الرحى فلم يرد منها الا ثلثة أقفزة فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من القمل و انحزت أشعارهم و أبصارهم و أشفار عيونهم و حواجبهم و لزم جلودهم كالجدرى عليهم و منعهم النوم و القرار فصرخوا و صاحوا الى موسى انا نتوب فادع اللّه لنا ربك يكشف عنا البلاء فدعى موسى فرفع اللّه القمل عنهم بعد ما اقام سبعة ايام من السبت الى السبت فنكثوا و عادوا الى أخبث أعمالهم و قالوا ما كنا قطان نستيقن انه ساحر منا اليوم يجعل الوصل دوابا فدعا موسى عليهم بعد ما أقاموا شهرا فى عافية فارسل اللّه عليهم الضفادع فامتلأت منها بيوتهم و أفنيتهم و أطعمتهم و آنيتهم فلا يكشف أحد اناء و لا طعاما الا وجد فيه الضفادع و كان الرجل يجلس فى الضفادع الى ذقنه و يهم ان يتكلم فيثب الضفدع فى فيه و كانت تثبت فى قدورهم فيفسد عليهم طعامهم و

(١) الكثيب الرمل المستطيل المحدوب ١٢.

(٢) اعفر ابيض ليس بناصع ١٢.

(٣) الا هيل السائل من الرمل ١٢.

يطفئ نيرانهم و كان أحدهم يضطجع فيركبه الضفادع فتكون عليه ركاما حتى ما يستطيع ان ينصرف الى شقه الاخر و يفتح فاه لاكله فيسبق الضفادع أكلته الى فيه و لا يعجن عجينا الا تشدخت فيه و لا يفتح قدرا الا امتلأت ضفادع فلقوا منها أذى شديدا و روى عكرمة عن ابن عباس قال كانت الضفادع برية فلما أرسلها اللّه على ال فرعون سمعت و اطاعت تقذف نفسها فى القدر و هى تغلى و فى التنانير و هى تفور فاثابها لحسن طاعتها يرد الماء

فلما رأوا ذلك بكوا و شكوا الى موسى و قالوا هذه المرة نتوب و لا نعود تأخذ عهودهم و مواثيقهم ثم دعا ربه فكشف عنهم الضفادع بعد ما أقاموا سبعا من السبت الى السبت فاقاموا شهرا فى عافية ثم نقضوا العهود و عادوا الى كفرهم فدعا عليهم موسى فارسل اللّه عليهم الدم فسال النيل عليهم دما و صارت مياهم دما فما يستسقون من الآبار و الأنهار الا وجدوا دما عبيطا «١» احمر فشكوا الى فرعون فقال انه قد سحركم فقال القوم من اين سحرنا و نحن لا تجد فى أعيننا من الماء الا دما كان يجمع بين القبطي و الاسرائيلى على الإناء الواحد فيكون ما يلى الاسرائيلى ماء و ما يلى القبطي دما و يقومان الى جب فيه الماء فيخرج للاسرائيلى ماء و القبطي دم حتّى تكون المرأة من ال فرعون تأتي المرأة من بنى إسرائيل حين جهدهم العطش فتقول اسقيني من مائك فتصب لها من قربتها فيعود فى الإناء دما حتى كانت تقول اجعليه فى فيك ثم مجيه فى فىّ فتاخذ فى فيها فاذا مجته فى فيها صارد ما و ان فرعون اعتراه العطش حتى انه كان يضطر الى مضغ الأشجار الرطبة فاذا مضغ يصير مائها فى فيه ملحا أجاجا فمكثوا فى ذلك سبعة ايام لم يشربوا الا الدم قال زيد بن اسلم الدم الذي كان سلط اللّه عليهم كان رعافا فاتوا موسى و قالوا يموسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنومن بك و نرسل معك بنى إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم فَاسْتَكْبَرُوا عن الايمان بموسى وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ

(١) العبيط الدم الطري ١٢.

١٣٤

وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ اى نزل بهم جنس العذاب الذي ذكر من الطوفان و غيرها و قال سعيد بن جبير الرجز هو الطاعون و هو العذاب السادس بعد الآيات الخمس مات منهم سبعون الفا فى يوم واحد فامسوا و هم يتدافنون روى الشيخان فى الصحيحين و الترمذي و البغوي عن اسامة بن زيد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم الطاعون رجزا رسل على بنى إسرائيل و على من كان قبلكم فاذا سمعتم به من ارض فلا تقدموا عليه و إذا وقع بأرض و أنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه و روى احمد و البخاري عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم الطاعون كان عذابا يبعثه اللّه على من يشاء و ان اللّه جعله رحمة للمؤمنين فليس من أحد يقع الطاعون فيمكث فى بلده صابرا محتسبا يعلم انه لا يصيبه الا ما كتب اللّه له الا كان له مثل اجر شهيد قلت لكن الحديثين المذكورين لا يدلان على ان الطاعون أرسل على القبط بل يدلان على انه أرسل على بنى إسرائيل و لعله ذلك بعد فرعون قلت و لو صح قول سعيد بن جبير فحينئذ بعد السنين و نقص من الثمرات اية واحدة ثالثة بعد العصا و اليد بعضها على اهل القرى و هو السنين و بعضها على اهل الأمصار هو نقص من الثمرات و بعدها ست آيات من الطوفان الى الرجز فهى الآيات التسع المرادة بقوله تعالى و لقد اتينا موسى تسع آيات.

قالُوا يعنى فرعون و اتباعه يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ كشف العذاب عنا ان أمنا او بعهده عندك و هو النبوة كذا قال عطاء او بالذي عهده إليك من اجابة دعوتك و هو صلة لادع او حال من الضمير فيه بمعنى ادع اللّه متوسلا اليه بما عهد عندك او متعلق بفعل محذوف دل عليه التماسهم مثل اسعفنا الى ما نطلب منك بحق ما عهد عندك او قسم جوابه لَئِنْ كَشَفْتَ يعنى اقسمنا بعهد اللّه عندك لئن كشفت عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ الى ارض الشام و كان استعبدهم.

١٣٥

فَلَمَّا كَشَفْنا بدعاء موسى عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ اى حد من الزمان هُمْ بالِغُوهُ يعذبون فيه او يهلكون و هو وقت الغرق او الموت و قيل الى أجل عينوه لايمانهم إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ جواب للما اى فلما كشفنا عنهم الرجز فاجئوا النكث و نقض العهد و الإصرار على الكفر من غير توقف و تأمل فيه.

١٣٦

فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ يعنى أخذناهم بالنقمة و العذاب بيانه فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ اى البحر الذي لا يدرك قعره و هو لجة البحر المالح و معظم مائه و اشتقاقه من التيمم لان المشفعين به يقصدونه بِأَنَّهُمْ اى بسبب انهم كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها اى عن الآيات غافِلِينَ يعنى انهم لم يتفكروا فيها حتى صاروا كالغافلين عنها و قيل الضمير للنقمة المدلول عليها بقوله فانتقمنا.

١٣٧

وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ يعنى بنى إسرائيل بالاستعباد و ذبح الأبناء و استخدام النساء مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها بالأنهار و الأشجار و الثمار و الخصب و سعة العيش يعنى ارض مصر و الشام ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة و العمالقة و تمكنوا فى نواحيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة اى مضت عليهم يقال تم الأمر إذا مضى عليه و اتصلت بالانجاز و استمرت عدته إياهم بالنصرة و التمكين و هو قوله و نريد ان نمن الى قوله ما كانوا يحذرون المذكور فى القصص و قوله عسى ربكم ان يهلك عدوكم و يستخلفكم فى الأرض عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا اى بسبب صبرهم على دينهم و الشدائد من فرعون و قومه وَ دَمَّرْنا خربنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ من القصور و العمارات وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ من الثمار و الأعناب فى الجنات كذا قال الحسن او ما كانوا يرفعون من البناء كصرح هامان و غير ذلك من القصور و البيوت كذا قال مجاهد قرا ابو بكر و ابن عامر يعرشون بضم الراء هنا و فى النحل و الباقون بكسرها و هذا اخر قصة فرعون و قومه و يتلوه ما أحدثه بنو إسرائيل من الأمور الشنيعة بعد ما من اللّه عليهم بالنعم الجسم و أراهم من الآيات العظام تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم فيما يرى منهم و ايقاظا للمؤمنين حتى لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم و مراقبة أحوالهم و فى قوله تعالى بما صبروا حث على الصبر و دلالة على ان من قابل البلاء بالصبر فرجه اللّه عنه و دمر عدوه و من قابله بالجزع و كله اللّه اليه و اللّه تعالى اعلم.

١٣٨

وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ قال الكلبي عبر بهم موسى البحر يوم عاشوراء بعد ما هلك فرعون و قومه فصام شكر اللّه عز و جل فَأَتَوْا فمروا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ اى يقيمون قرا حمزة و الكسائي بكسر الكاف و الباقون بضمها و هما لغتان عَلى عبادة أَصْنامٍ أوثان لَهُمْ قال ابن جريج كانت تماثيل بقر و ذلك أول شان العجل و كذا اخرج ابن جرير و ابن المنذر عن ابن جبير و زاد من نحاس و القوم قيل كانوا من العمالقة الذين امر موسى بقتالهم

و اخرج ابن ابى حاتم و ابو الشيخ من ابن عمر ان الجونى قال هم لخم و جذام و

قال البغوي قال قتادة كان أولئك القوم من لخم و كانوا نزولا بالرقة فقالت بنو إسرائيل لما رأوا ذلك قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً اى مثالا نعبده كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ما كافة للكاف و لذلك وقعت الجملة بعدها

قال البغوي و لم يكن ذلك شكا من بنى إسرائيل فى وحدانية اللّه تعالى و انما معناه اجعل لنا شيئا نعظمه و نتقرب الى اللّه بتعظيمه و ظنوا ان ذلك لا يضر الديانية و كان ذلك لخفة عقلهم و شدة جهلهم و لذلك قالَ لهم موسى تعجبا من قولهم على اثر ما رأوا من الآيات إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وصفهم بالجهل و أكده بقوله.

١٣٩

إِنَّ هؤُلاءِ القوم مُتَبَّرٌ اى مهلك ما هُمْ فِيهِ يعنى اللّه يهدم دينهم الذي هم عليه و يحطم أصنامهم و يجعلها رضاضا وَ باطِلٌ مضمحل ما كانُوا يَعْمَلُونَ من عبادتها يعنى ليس ذلك مقربا الى اللّه تعالى بالغ فى هذا الكلام بايقاع هؤلاء اسم ان و الاخبار عما هم فيه بالتبار و عما فعلوا بالبطلان و تقديم الخبرين فى الجملتين الواقعين خبر الان للتنبيه على ان الذمار لاحق لما هم فيه لا محالة لا يعدوهم و ان الإحباط الكلى لازم لما مضى عنهم تنقيرا و تحذيرا عما طلبوا ثم.

١٤٠

قالَ موسى توبيخا و تعجبا أَ غَيْرَ اللّه أَبْغِيكُمْ إِلهاً اطلب لكم معبودا وَ هُوَ اى اللّه سبحانه فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ اى عالمى زمانكم يعنى و الحال انه خصكم بنعم لم يعطها غيركم و فيه تنبيه على سوء مقابلتهم حيث قابلوا تخصيص اللّه إياهم من بين أمثالهم بما لم يستحقوه تفضلا بما قصدوا ان يشركوا به احسن شى ء من مخلوقاته و هو ليس كمثله شى ء عنواقد الليثي قال خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم قبل حنين فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول اللّه اجعل لنا ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط و كان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة يعكفون حولها فقال النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم اللّه اكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا الها كما لهم الهة انكم تركبون سنن من قبلكم رواه البغوي بسنده و اذكروا صنيعه معكم الان.

١٤١

إِذْ أَنْجَيْناكُمْ قرأ ابن عامر من الافعال على الغيبة و هكذا فى مصاحف اهل الشام و الباقون أنجيناكم على التكلم و التعظيم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ استيناف لبيان ما أنجاهم منه او حال من المخاطبين او من ال فرعون او منها سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ قرأ نافع بفتح الياء و اسكان القاف و ضم التاء الفوقانية من المجرد و الباقون بضم الياء و فتح القاف و كسر التاء مشددا من التفعيل للتكثير أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ جملة يقتلون مع ما عطف عليه بدل من يسومونكم مبين له وَ فِي ذلِكُمْ العذاب او الانجاء بَلاءٌ محنة او نعمة مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ

١٤٢

وَ واعَدْنا مُوسى قرأ ابو عمرو وعدنا من المجرد و الباقون من المفاعلة ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ اخرج ابن ابى حاتم عن ابى العالية يعنى ذى القعدة و عشرا من ذى الحجة قال السيوطي وعد اللّه موسى ان يكلمه عند انتهاء ثلثين ليلة و

قال البغوي وعد موسى بنى إسرائيل و هم بمصر ان اللّه إذا أهلك عدوهم أتاهم بكتاب فيه بيان ما يأتون و ما يذرون فلما فعل اللّه ذلك سال موسى ربه الكتاب فامر اللّه عز و جل ان يصوم ثلثين يوما فلما تمت ثلثون وجد خلوفا فتسوك بعود خروب و قال ابو العالية أكل من لحاء شجرة فقالت له الملئكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فافسدته بالسواك فامر اللّه ان يصوم عشرة ايام من ذى الحجة و قال اما علمت ان خلوف فم الصائم أطيب عندى من ريح المسك و كانت فتنتهم فى العشر الذي زاده و كذا اخرج الديلمي عن ابن عباس معناه فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ اى وقت وعده بكلامه و إيتاء الكتاب أَرْبَعِينَ حال لَيْلَةً تميز وَ قالَ مُوسى عند انطلاقه الى الجبل للمناجاة لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي اى كن خليفتى فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ ما يجب ان يصلح من أمورهم او كن مصلحا او أصلحهم بحملك إياهم على طاعة اللّه و قال ابن عباس يريد الرفق بهم و الإحسان إليهم وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ يعنى لا تتبع من عصى اللّه و لا تطع من دعاك الى المعصية و الإفساد.

١٤٣

وَ لَمَّا جاءَ مُوسى الى طور سيناء لِمِيقاتِنا اللام للاختصاص اى اختص مجيئه لميقاتنا اى وقتنا الذي وقتنا له ان أكلمه فيه قال اهل التفسير ان موسى عليه السلام تطهر و طهر ثيابه لميعاد ربه وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ فى القصة ان اللّه انزل ظلمة على سبعة فراسخ و طرد عنه الشياطين و طوّر هو أم الأرض و نحى عنه الملكين و كشط له السماء فراى الملئكة قياما فى الهواء و رأى العرش بارزا فكلمه اللّه و ناجاه حتى أسمعه و كان جبرئيل معه فلم يسمع ما كلمه ربه حتى سمع صرير القلم

قال البيضاوي روى ان موسى كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة قلت معناه انه لا يسمع من جهة و كان كلما يتوجه الى جهة من الجهات يسمع ذلك الكلام بلا جهة من غير تفاوت فاستجلى موسى كلام ربه و اشتاق الى رويته و قالَ رَبِّ أَرِنِي نفسك أَنْظُرْ إِلَيْكَ قال الحسن هاج به الشوق قال الروية ظنا منه انه يجوز ان يرى فى الدنيا يعنى قياسا على الروية فى الاخرة قالَ اللّه تعالى لَنْ تَرانِي و ليس لبشران يطيق النظر الىّ فى الدنيا من نظر الىّ فى الدنيا مات فقال الهى سمعت كلامك فاشتقت الى النظر إليك و لان انظر إليك ثم أموت أحب الى من ان اعيش و لا أراك قال السيوطي التعبير بلن ترانى دون لا ارى يفيد إمكان الروية فقال اللّه تعالى وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ الاية و هو أعظم جبل بمدين يقال له زبير قال السدى لما كلم اللّه تعالى موسى غاص الخبيث إبليس فى الأرض حتى خرج بين قدمى موسى فوسوس اليه و قال ان من كلمك شيطان فعند ذلك سأل الروية و فى هذه الاية دليل على إمكان الروية فى الدنيا لان طلب المستحيل من الأنبياء محال خصوصا ما يقتضى الجهل باللّه تعالى و قوله لن ترانى فيه دليل على عدم الوقوع له ما دامت الدنيا لا على عدم الوقوع له و لغيره فضلا من عدم الإمكان و الظاهر ان موسى قبل نزول قوله لن ترانى كان لا يعرف عدم الوقوع فى الدنيا و ليس هذا جهلا باللّه تعالى بل ببعض أحكامه كما ان نوحا عليه السلام سأل ربه نجاة ابنه و ابراهيم عليه السلام سأل مغفرة أباه و محمدا صلى اللّه عليه و اله و سلم سأل مغفرة ابى طالب حتى نزل قوله تعالى و ما كان للنبى و الذين أمنوا ان يستغفروا للمشركين و لو كانوا اولى قربى الاية و سأل مغفرة بعض المنافقين حتى نزل استغفر لهم او لا تستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مرة و حتى نزل و لا تصل على أحد منهم مات ابدا و لا تقم على قبره كل ذلك لعدم اطلاعهم على عدم وقوع الاستجابة مع كفر المدعو لهم و استدل نفاة الروية بقوله تعالى لن ترانى قالوا لن للتأبيد

قلنا ليس كذلك بل هى لتاكيد نفى الروية المسئولة فى الدنيا الا ترى ان قوله تعالى و لن يتمنوه ابدا اخبار عن اليهود و قد اخبر عن الكفرة بتمنيهم الموت فى الاخرة حيث قال و نادوا يا مالك ليقض علينا ربك و قال يا ليتها كانت القاضية و يقول الكفر يليتنى كنت ترابا و القول بان سوال موسى عليه السلام الروية كان لتبكيت قومه حين قالوا أرنا اللّه جهرة خطأ فاحش فان ذلك وقعة اخرى و قد عذبهم اللّه تعالى على ذلك القول فاخذتهم الصاعقة بظلمهم حيث لم يكونوا مستحقين لها و لم يكن أحدا من قوم موسى معه حين كلمه اللّه تعالى و أعطاه التورية و سأل ربه الروية و لم يعاتب على موسى على ذلك السؤال لاستحقاقه و انما نفى الروية لعدم احتمالها للنية الدنيوية و قال و لكن انظر الى الجبل الاية و ايضا لو كانت الروية ممتنعة و كان هذا السؤال لتبكيت قومه لوجب على موسى ان تجهلهم و يزيح شبهتهم كما فعل بهم حين قالوا اجعل لنا الها و كيف يتبع موسى سبيلهم لو كان ممتنعا و قد قال لاخيه و لا تتبع سبيل المفسدين و قوله تعالى و لكن انظر الى الجبل فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي استدراك يريد ان يبين به انه لا يطيقه كما لا يطيق الجبل و فى تعليق الروية بالاستقرار ايضا دليل على الجواز ضرورة ان المعلق على الممكن ممكن قال وهب و ابن اسحق لما سأل موسى ربه الروية أرسل اللّه الضباب «١» و الصواعق و الظلمة و الرعد و البرق و أحاطت بالجبل الذي عليه موسى الى اربعة فراسخ من كل جانب و امر اللّه تعالى ملئكة السموات ان يعترضوا على موسى فمرت به ملئكة السماء الدنيا كثيران «٢» البقر تتبع أفواههم بالتسبيح و التقديس بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد ثم امر اللّه ملئكة السماء الثانية ان اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه فهبطوا عليه أمثال الأسود لهم لجب «٣» بالتسبيح و التقديس ففزع العبد الضعيف ابن عمران مما راى و سمع و اقشعرت كل شعرة فى راسه و جسده ثم قال لقد ندمت على مسألتى فهل يجنبنى من مكانى الذي انا فيه شى ء فقال خير الملئكة و راسهم يا موسى اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثم امر اللّه تعالى ملئكة السماء الثالثة ان اهبطوا على موسى و اعترضوا عليه فهبطوا أمثال الأسود لهم قصف «٤»

(١) الضباب اى السحاب الرقيق ١٢.

(٢) كثيران جمع ثور اى الذكر من البقر ١٢.

(٣) لجب الصياح و اضطراب موج البحر ١٢ قاموس.

(٤) قصف اى كسر و قصف الرعد اى صار صوته شديدا ١٢ [.....].

و رجف و لجب شديد و أفواههم تتبع بالتسبيح و التقديس كجلب «١» الجيش العظيم ألوانهم كلهب النار ففزع موسى و اشتد نفسه و ايس من الحيوة فقال له خير الملئكة يا ابن عمران مكانك حتى ترى ما لا تصبر عليه ثم امر اللّه تعالى ملئكة السماء الرابعة ان اهبطوا و اعترضوا على موسى ابن عمران و كان لا يشبههم شى ء من الذين مروا به قبلهم ألوانهم كلهب النار و سائر خلقهم كالثلج الأبيض أصواتهم عالية بالتسبيح و التقديس لا يقاربهم شى ء من أصوات الذين مروا به قبلهم فاصطكت «٢» ركبتاه و ارعد «٣» قلبه و اشتد بكاؤه فقال له خير الملئكة و راسهم يا ابن عمران اصبر لما سالت فقليل من كثير ما رايت ثم امر اللّه تعالى ملئكة السماء الخامسة ان اهبطوا و اعترضوا على موسى فهبطوا عليه لهم سبعة ألوان فلم يستطع موسى ان يتبعهم بصره لما لم ير مثلهم و لم يسمع مثل أصواتهم فامتلأ جوفه و اشتد حزنه و كثر بكاؤه فقال له خير الملئكة يا ابن عمران مكانك حتّى ترى ما لا تصبر عليه ثم امر اللّه ملئكة السماء السادسة ان اهبطوا على عبدى الذي طلب ليرانى فاعترضوا عليه و فى يد كل ملك مثل النخلة الطويلة نار أشد ضوء من الشمس و لباسهم كلهب النار إذا سبحوا و قدسوا جاءوا بهم من كان قبلهم من ملئكة السموات كلهم يقولون لشدة أصواتهم سبوح قدوس رب الملئكة و الروح رب العزة ابدا لا يموت فى راس كل ملك منهم اربعة أوجه فلما راهم موسى رفع صوته ليسبح حين سبحوا و هو يبكى و يقول رب اذكرني و لا تنس عبدك لا أدرى انفلت مما انا فيه أم لا ان خرجت احترقت و ان مكثت مت فقال له كبير الملئكة و راسهم قد اوشكت يا ابن عمران ان يشتد خوفك و ينخلع قلبك فاصبر للذى سألت ثم امر اللّه ان يحمل عرشه فى ملئكة السماء السابعة فلما بدأ نور العرش انفرج الجبل من عظمة الرب جل جلاله فرفعت ملئكة السماء أصواتهم جميعا يقولون سبحان الملك القدوس رب العزة ابدا لا يموت فارتج الجبل بشدة أصواتهم و

(١) اى اختلاط الصوت ١٢.

(٢) فاصطكت اى اضطربت ١٢.

(٣) ارعد اى اضطرب ١٢.

اندكت كل شجرة كانت فيه و خر العبد الضعيف موسى صعقا على وجهه ليس معه روحه فارسل اللّه برحمته الروح فتغشاه و قلب عليه الحجر الذي كان عليه موسى و جعل كهيئة القبة لئلا يحترق موسى فاقامه الروح مثل الام فقام موسى يسبح اللّه و يقول امنت بك ربى و صدقت انه لا يراك أحد فيحيى من نظر الى ملئكتك انخلع قلبه فما أعظم ملئكتك أنت رب الأرباب و اله الالهة و ملك الملوك و لا يعدلك شى ء و لا يقوم لك شى ء رب تبت إليك الحمد لك لا شريك لك ما أعظمك و ما أجلك رب العالمين فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ اى ظهر و انكشف بعض أنواره قال السيوطي اظهر من نوره قدر نصف انملة الخنصر كذا فى حديث صححه الحاكم لِلْجَبَلِ قالت الصوفية التجلي ظهور الشي ء فى المرتبة الثانية كظهور زيد فى المرآة و ليس هو روية الذات فان اللّه سبحانه لما نفى الروية لموسى بالتاكيد مع كونه أقوى استعدادا من الجبل لا يتصور حصوله للجبل قال اللّه تعالى انا عرضنا الامانة على السموات و الأرض و الجبال فابين ان يحملنها و أشفقن منها و حملها الإنسان قال ابن عباس ظهر نوره للجبل و قال الضحاك اظهر اللّه من نوره الحجب مثل منخر ثور و قال عبد اللّه ابن سلام و كعب الأحبار ما تجلى من عظمة اللّه للجبل الأمثل سم الخياط حتى صار دكا و قال السدى ما تجلى الا قدر الخنصر يدل عليه ما روى احمد و الترمذي و الحاكم و صححاه عن ثابت عن انس ان النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم قرا هذه الاية و قال هكذا و وضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ «١» الجبل و خر موسى صعقا

و اخرج ابو الشيخ بلفظ و أشار بالخنصر فمن نورها جعله دكا و حكى عن سهل بن سعد الساعدي ان اللّه اظهر من سبعين الف حجاب من نور قدر الدرهم فجعل الدرهم للجبل دكا جَعَلَهُ دَكًّا قرأ حمزة و الكسائي دكاء بالمد و الهمز بغير تنوين اى أرضا مستوية و منه ناقة دكاء التي لاسنام لها

و قرا الباقون دكا بالتنوين بغير همز اى مدكوكا مفتتا و الدك و الدق اخوان قال فى القاموس الدك و الدق و الهدم ما استوى من الرمل قال ابن عباس جعله ترابا قال ساخ الجبل فى الأرض حتّى وقع فى البحر فهو يذهب فيه و قال عطية العوفى صار رملا هائلا و قال الكلبي جعله دكا اى كسر اجبالا صغارا

قال البغوي وقع فى التفاسير صارت لعظمته ستة اجبل وقعت ثلثة بالمدينة أحد و ورقان و رضوى و وقعت ثلثة بمكة ثور و ثبير و حراء قال السعاف فى تخريج البيضاوي اخرج ابن مردوية عن على بن ابى طالب رضى اللّه عنه فى قوله تعالى فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا قال اسمع موسى قال له اننى انا اللّه قال و ذاك عشية عرفة و كان الجبل بالموقف فانقطع على سبع قطع قطعة أسقطت بين يديه و هو الذي يقوم الامام عنده فى الموقف و بالمدينة ثلثة طيبة واحد و رضوى و طور سيناء بالشام و انما سمى الطور لانه طار فى الهواء الى الشام قلت هذه الرواية غريبة جدا فان تكلم اللّه تعالى بموسى عليه السلام و إعطائه التورية كان بالشام على طور سينا دون مكة و اللّه اعلم وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً قال ابن عباس و الحسن مغشيا عليه و قال قتادة ميتا قال الكلبي خر موسى صعقا يوم الخميس يوم عرفة فاعطى التورية يوم الجمعة يوم النحر قال الواقدي لما خر موسى صعقا قال ملئكة السموات ما لابن عمران و سوال الروية فَلَمَّا أَفاقَ موسى من صعقته قالَ تعظيما لما راى سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ من الجرأة و الاقدام على السؤال بغير اذن وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ لان ايمان كل نبى مقدم على ايمان أمته.

(١) ساخ سوخا و سواخا و سوخاتا سار رويدا ١٢ قاموس.

١٤٤

قالَ اللّه تعالى يا مُوسى إِنِّي قرأ ابن كثير و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بالإسكان اصْطَفَيْتُكَ اى اخترتك عَلَى النَّاسِ الموجودين فى زمانك بِرِسالاتِي قرأ نافع و ابن كثير برسالتى على التوحيد و الباقون على الجمع وَ بِكَلامِي اى بتكليمى إياك فَخُذْ ما آتَيْتُكَ أعطيتك من الرسالة وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ و فى القصة ان موسى بعد ما كلمه ربه لا يستطيع أحد ان ينظر اليه لما غشى وجهه من النور و لم يزل على وجهه برقع حتى مات و قالت له امرأته انا ايم منك منذ كلمك ربك فكشف لها عن وجهه فاخذها مثل شعاع الشمس فوضعت يدها على وجهها و خرت للّه ساجدة و قالت ادع اللّه ان يجعلنى زوجتك فى الجنة قال ذلك لك ان لم تتزوجى بعدي فان المرأة لاخر أزواجها و روى البغوي بسنده عن كعب الأحبار ان موسى نظر فى التورية فقال رب انى أجد امة خير الأمم أخرجت للناس يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و يؤمنون باللّه و بالكتاب الاول و بالكتاب الاخر و يقاتلون اهل الضلالة حتّى يقاتلون الأعور الدجال رب اجعلهم أمتي قال يا موسى هى امة محمد صلى اللّه عليه و اله و سلم قال رب انى أجد امة هم الحمادون رعاة الشمس المحكمون إذا أرادوا امرا قالوا نفعل إنشاء اللّه فاجعلهم أمتي قال هى امة محمد صلى اللّه عليه و اله و سلم قال رب انى أجد امة يأكلون كفاراتهم و صدقاتهم و كان الأولون يحرقون صدقاتهم بالنار و هم المستجيبون و المستجاب لهم الشافعون المشفع لهم فاجعلهم أمتي قال هى امة محمد صلى اللّه عليه و اله و سلم فقال انى أجد امة إذا اشرف أحدهم على شرف كبر اللّه و إذا هبط واديا حمد اللّه الصعيد لهم طهور و الأرض لهم مسجد حيث ما كانوا يتطهرون من الجنابة طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء غر محجلون من اثار الوضوء فاجعلهم أمتي قال هى امة محمد صلى اللّه عليه و اله و سلم فقال رب انى أجد أمة إذا همّ أحدهم بحسنة و لم يعملها كتبت له حسنة مثلها و ان عملها ضعف عشر أمثالها الى سبعمائة ضعف و إذا همّ بسيئة و لم يعملها لم يكتب عليه و ان عمل كتبت له سيئة مثلها فاجعلهم أمتي قال هى امة احمد صلى اللّه عليه و اله و سلم فقال رب انى أجد امة مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب من الذين اصطفيتهم فمنهم ظالم لنفسه و منهم مقتصد و منهم سابق بالخيرات فلا أجد منهم الا مرحوما فاجعلهم أمتي قال هى امة احمد صلى اللّه عليه و اله و سلم فقال انى أجد امة مصاحفهم فى صدورهم يلبسون ألوان ثياب اهل الجنة يصفون فى صلوتهم صفوف الملئكة أصواتهم فى مساجدهم كدوى النحل لا يدخل النار أحد منهم ابدا الا من برى من الحسنات مثل ما برى الحجر من ورق الشجر فاجعلهم أمتي قال هى امة احمد صلى اللّهعليه و اله و سلم فلما عجب موسى من الخير الذي اعطى اللّه محمدا صلى اللّه عليه و اله و سلم و أمته قال يا ليتنى من اصحاب محمد صلى اللّه عليه و اله و سلم فاوحى اللّه عز و جل بثلث يرضيه بهن يا موسى انى اصطفيتك على الناس برسالاتى و بكلامي الى قوله ساوريكم دار الفاسقين و من قوم موسى امة يهدون بالحق و به يعدلون قال فرضى موسى عليه السلام كل الرضاء.

١٤٥

وَ كَتَبْنا لَهُ اى لموسى فِي الْأَلْواحِ كانت سبعة او عشرة قال ابن عباس يعنى الواح التورية و فى الحديث كانت من سدر الجنة طول اللوح اثنى عشر ذراعا أخرجه ابو الشيخ من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جده و جاء فى الحديث خلق اللّه عز و جل آدم عليه السلام بيده و كتب التورية بيده و غرس شجرة طوبى بيده و قال الحسن كانت الألواح من خشب و قال الكلبي كانت من زبرجدة خضراء و قال سعيد بن جبير كانت من ياقوت احمر و كذا اخرج الطبراني و ابو الشيخ عن كعب و قال الربيع بن انس كانت الألواح من زبرجد و قال ابن جريح كانت زمردا امر اللّه تعالى جبرئيل عليه السلام حتى جاء بها من عدن فكتبها بالقلم الذي كتب به الذكر و استمد من نهر النور

و اخرج ابو الشيخ عن ابن جريج انها كانت من زمرد او زبرجد قال وهب امر اللّه بقلع الألواح من صخرة صماء لينها اللّه تعالى له فقطعها بيده ثم شققها بيده و سمع موسى عليه السلام صرير القلم بالكلمات العشرة و كان ذلك فى أول يوم من ذى القعدة و كانت الألواح عشرة اذرع على طول موسى عليه السلام و قال مقاتل و وهب و كتبنا فى الألواح كنقش الخاتم و قال الربيع بن انس نزلت التورية و هى سبعون و قر بعير يقرء الجزء منه فى سنة لم يقرأه الا اربعة نفر موسى و يوشع و عزير و عيسى و قال الحسن هذه الاية فى التورية الف اية يعنى قوله تعالى و كتبنا له فى الألواح مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مما يحتاجون اليه من امر الدين مَوْعِظَةً الموعظة التذكير و التحذير مما يخاف عاقبته قال فى القاموس وعظه موعظة ذكره ما يلين قلبه من الثواب و العقاب وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ اى تبيانا لكل شى ء من الأمر و النهى و الحلال و الحرام و الحدود و الاحكام بدل من الجار و المجرور اى كتبنا كل شى ء من المواعظ و تفصيل الاحكام فَخُذْها عطف على كتبنا بإضمار القول او بدل من قوله فخذ ما أتيتك و الضمير راجع الى الألواح او الى كل شى ء فانه بمعنى الأشياء او للرسالات بِقُوَّةٍ اى بجد و اجتهاد و قيل بقوة القلب و صحة العزيمة لانه إذا اخذه بضعف النية رده الى الفتور وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها اى بما هو بالغ فى الحسن مطلقا و ليس افعل للتفضيل بالاضافة فان كل ما هو فى كتاب اللّه حسن بالغ فى الحسن لا يحتمل النقيض و لا يجوز ان يكون شى ء احسن منه فهو كقولهم الصيف أحر من الشتاء كذا قال قطرب و قال عطاء عن ابن عباس يحلوا حلالها و يحرموا حرامها و يتدبروا و يتعظوا بامثالها و يعملوا بحكمها و يقفوا عند متشابهها و قيل المراد بأحسنها الفرائض و النوافل يعنى ما يستحق عليه الثواب و ما دونها المباح لانه لا يستحق عليها الثواب و قيل بالعزيمة دون الرخصة و بأحسن الامرين فى كل شى ء كالعفو احسن من القصاص و الصبر احسن من الانتصار سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ تحذيرا من ان لا تأخذوا بكتاب اللّه تعالى فتكونون مثلهم و المراد بدار الفاسقين دار فرعون و قومه بمصر خاوية على عروشها كذا قال عطية العوفى و قال السدى مصارع الكفار و قال الكلبي و قتادة ما مروا عليه إذا سافروا من منازل عاد و ثمود و القرون الذين اهلكوا

و قال مجاهد و الحسن و عطاء دار الفاسقين مصيرهم فى الاخرة يعنى جهنم.

١٤٦

سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ قرأ ابن عامر و حمزة بإسكان الياء و الباقون بفتحها و المعنى ساصرف عن التفكر فى آياتي التي فى الآفاق و الأنفس و عن الاعتبار بها و قيل معناه ساصرفهم عن ابطال آياتي المنزلة و المعجزات و ان يطفئوا نور اللّه بأفواههم كما فعل فرعون فعاد عليه باعلائها او باهلاكهم و اللّه متم نوره و لو كره الكافرون او المعنى ساصرف عن قبول آياتي المنزلة فى الكتاب و التصديق بها بالحرمان عن الهداية لعنادهم الحق نظيره قوله تعالى فلما زاغوا أزاغ اللّه قلوبهم كذا قال ابن عباس و قال سفيان سامنع عن فهم القران و درك عجائبه الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ و يتجبرون على عبادى و يحاربون أوليائي بِغَيْرِ الْحَقِّ صلة يتكبرون اى يتكبرون بما ليس بحق و هو دينهم الباطل او حال من فاعله فحكم الاية عام بجميع الكفار و قيل حكم الاية خاص و أراد بالآيات الآيات التسع التي أعطاها اللّه تعالى موسى عليه السلام وَ إِنْ يَرَوْا هؤلاء المتكبرون كُلَّ آيَةٍ منزلة او معجزة او منصوبة لدرك الحق لا يُؤْمِنُوا بِها لعنادهم او اختلال عقلهم بسبب انهماكهم فى الهوى و التقليد و بما طبع اللّه على قلوبهم وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ اى الهدى و السداد بإراءة الأنبياء و العلماء لا يَتَّخِذُوهُ لانفسهم سَبِيلًا لاستيلاء الشيطنة عليهم قرا حمزة و الكسائي الرشد بفتح الراء و الشين و الآخرون بضم الراء و سكون الشين و هما لغتان و ثالثهما الرشاد كالسقم و السّقم و السّقام و كان ابو عمر يفرق بينهما فيقول الرشد بالضم الصلاح فى الأمر و بالفتح الاستقامة فى الدين وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ اى طريق الضلالة بإراءة النفس و الشيطان يَتَّخِذُوهُ لانفسهم سَبِيلًا ذلِكَ الصرف محله الرفع بالابتداء و الظرف المستقر بعده خبره أو محله النصب على المفعولية مفعولا مطلقا من قوله تعالى ساصرف و الظرف متعلق به بِأَنَّهُمْ اى بسبب انهم كَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة و المعجزات و عدم تدبرهم فى خلق الأرض و السموات وَ كانُوا عَنْها اى عن الآيات غافِلِينَ لاهين ساهين او غافلين غفلة عناد.

١٤٧

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ اى لقائهم الدار الاخرة او ما وعد اللّه فى الاخرة من الثواب و العقاب حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ الحسنة من انفاق المال و صلة الرحم و غير ذلك فهم لا ينتفعون بها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء هَلْ يُجْزَوْنَ الاستفهام للانكار اى ما يجزون فى الاخرة إِلَّا جزاء ما كانُوا يَعْمَلُونَ فى الدنيا عملا معتدا به عند اللّه تعالى و هو ما كان للّه تعالى مخلصا له الدين و هم لم يعملوا كذلك او المعنى ما يجزون الاجزاء ما كانوا يعملون من السيئات فان أعمالهم كلها سيات ليس شى ء منها حسنة فان العبادة إذا كان لغير اللّه تعالى فهو أسوأ السيئات و الانفاق و صلة الرحم إذا لم يكن للّه تعالى كان اعانة للكفار على الكفر و معاداة اللّه تعالى او خطأ لنفسه.

١٤٨

وَ اتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى بنو إسرائيل مِنْ بَعْدِهِ اى بعد ذهابه لميقات ربه بعد ثلثين ليلة إذا زيدت فى الميقات عشرا مِنْ حُلِيِّهِمْ التي استعاروها من قوم فرعون بعلة عرس حين هموا بالخروج من مصر فبقى عندهم و اضافتها إليهم لانها كانت فى أيديهم و ملكوها بعد هلاكهم قرا حمزة و الكسائي بكسر الحاء بالاتباع كدلى و الباقون غير يعقوب بالضم و هو جمع حلى كثدى و ثدى بالفتح و الضم

و قرا يعقوب بفتح الحاء و سكون اللام و كسر الياء مخففا على الافراد بارادة الجنس عِجْلًا مفعول أول لاتخذ و المفعول الثاني محذوف يعنى الها يعبدونه جَسَداً اى بدنا بدل من عجلا قال ابن عباس و الحسن و قتادة و جماعة من المفسرين صوغه السامري فالقى فى فمه من تراب اثر فرس جبرئيل عليه السلام فصار ذا لحم و دم كما قال اللّه تعالى حكاية عن السامري بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من اثر الرسول فنبذتها الاية و سنذكر قصة السامري و سبب معرفته جبرئيل فى سورة طه إنشاء اللّه تعالى لَهُ خُوارٌ اى صوت البقر قيل ما خار إلا مرة واحدة و قيل كان يخور كثيرا فكلما خار سجدوا له و إذ سكت رفعوا رؤسهم و قال وهب كان يسمع منه الخوار و لا يتحرك و قال السدى كان يخور و يمشى و قيل كان جسدا من الذهب لا روح فيه صاغه بنوع من الحيل فيدخل الريح فى جوفه فيسمع منه صوت كخوار البقر و هذا القول يرده ما تلونا أَ لَمْ يَرَوْا هؤلاء الحمقاء حين اتخذوه الها و عبدوه أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَ لا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا يعنى لا يقدر على ما يقدر عليه احاد البشر فكيف حسبوه خالق السموات و الأرض و ما فيهما من الأجسام و القوى اتَّخَذُوهُ تكرير للذم اى اتخذوه الها وَ كانُوا ظالِمِينَ اى واضعين الأشياء فى غير مواضعها و من ثم وضعوا العبادة للعجل فى موضع الاستخدام.

١٤٩

وَ لَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ سقط مسند الى الظرف و هو كناية من ان اشتد ندمهم فان النادم المتحسر يعض يده غما فيصير يده مسقوطا فيه يقول العرب لكل نادم قد سقط فى يده و قال الزجاج معناه سقط الندم فى أيديهم اى فى قلوبهم و أنفسهم كما يقال حصل فى يده مكروه و ان استحال ان يكون فى اليد تشبيها لما يحصل فى القلب و النفس بما يحصل فى اليد و يرى بالعين و الحاصل انهم ندموا على عبادة العجل حين جائهم و عاتبهم موسى عليه السلام وَ رَأَوْا علموا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا باتخاذ العجل تابوا و قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا بقبول التوبة وَ يَغْفِرْ لَنا بالتجاوز عن الخطيئة قرا حمزة و الكسائي ترحمنا و تغفر لنا بالتاء الفوقانية على الخطاب و نصب ربنا على النداء و الباقون بالتحتانية على الغيبة و الرفع على الفاعلية لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ

١٥٠

وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ بعد انقضاء أربعين ليلة الميقات غَضْبانَ من جهتهم أَسِفاً قال ابو الدرداء يعنى شديد الغضب و قال ابن عباس و السدى شديد الحزن و فى القاموس الأسف أشد الحزن و أسف عليه غضب قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي اى فعلتم فعلا مذموما حيث عبدتم العجل و الخطاب لعبدة العجل او قمتم مقامى قياما مذموما حيث لم تكفوا العبدة من بنى إسرائيل و الخطاب لهرون عليه السلام و المؤمنين معه و ما نكرة موصوفة تفسير للمستكن فى بئس و المخصوص بالذم محذوف اى بئس خلافة خلفتمونى خلافتكم مِنْ بَعْدِي اى بعد ذهابى لميقات ربى او بعد ما رأيتم منى من التوحيد و التنزيه و الحمل عليه و الكف عما ينافيه قرا نافع و ابن كثير و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ يعنى تركتموه غير تام و لما تضمن عجل معنى سبق عدى تعديته او المعنى أ عجلتم وعد ربكم الذي وعدنيه من الأربعين و قدرتم موتى و غيرتم بعدي كما غيرت الأمم بعد الأنبياء و اصل العجلة طلب الشي ء قبل حينه وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ التي جاء بها فيها التورية القاها على الأرض من شدة الغضب لربه اخرج ابن ابى حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال اعطى موسى التوراة فى سبعة الواح من زبرجد فيها تبيان كل شى ء و موعظة فلما جاء بها و رأى بنى إسرائيل عكوفا على عبادة العجل رمى بالتورية من يده فتخطت يعنى تكسرت فرفع اللّه تعالى منها ستة اسباع و بقي سبع

قال البغوي فرفع ما كان من اخبار الغيب و بقي ما فيه الموعظة و الاحكام و الحلال و الحرام عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم ليس الخبر كالمعاينة ان اللّه تعالى اخبر موسى بما صنع قومه فى العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا القى الألواح فانكسرت رواه احمد و الطبراني فى الأوسط و الحاكم بسند صحيح وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ هارون اى بشعر راسه

قال البغوي بذوائبه و لحيته يَجُرُّهُ إِلَيْهِ توهما بانه قصر فى كفهم و هارون كان اكبر من موسى عليهما السلام بثلث سنين و أحب الى بنى إسرائيل من موسى لانه كان لين الغضب قالَ هارون ابْنَ أُمَّ ذكر الام لرفقه و كان من اب و أم قرا ابن عامر و حمزة و الكسائي و ابو بكر عن عاصم بكسر الميم و أصله يا ابن أمي حذف حرف النداء ثم حذف الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفا كالمنادى المضاف الى ياء المتكلم و الباقون بفتحها زيادة فى التخفيف لطوله و تشبيها بخمسة عشر إِنَّ الْقَوْمَ يعنى عبدة العجل اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا و هموا و قاربوا ان يَقْتُلُونَنِي يعنى بذلت سعى فى كفهم حتى قهرونى و استضعفوني و قاربوا ان يقتلوننى فلا تتوهم التقصير فى كفهم منى فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ اى لا تفعل بي ما يفرحوا به و الشماتة الفرح ببلية العدو كذا فى القاموس وَ لا تَجْعَلْنِي فى موجدتك علىّ و الانتقام مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعنى عبدة العجل.

١٥١

قالَ موسى رَبِّ اغْفِرْ لِي ما صنعت بأخي وَ لِأَخِي ان فرط فى كفهم و الظاهر ان المقصود الاستغفار لاخيه ضم اليه نفسه ترضية له و دفعا للشماتة عنه و لان سنة الاستغفار لغيره ان يبدأ بالاستغفار لنفسه دفعا لتزكية النفس و لان الدعاء بعد الاستغفار قرب الى الاجابة فان الذنوب مانعة من الاجابة و من ثم ورد فى دعاء الجنازة اللّهم اغفر لحينا و ميتنا قدم الاستغفار للاحياء لكونه منهم و فى الدعاء لاهل القبور يغفر اللّه لنا و لكم و قال اللّه تعالى لنبيه مع كونه معصوما و استغفر لذنبك و للمؤمنين و المؤمنات حتى يبقى منه سنة فى أمته وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ اى عصمتك فى الدنيا و رحمتك فى الاخرة و بمزيد الانعام علينا فى الدارين وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فانت ارحم إلينا من أنفسنا علينا.

١٥٢

إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ الها سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ اى عذاب و هو ما أمرهم به من قتل أنفسهم وَ ذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا و هى خروجهم من ديارهم فعلى هذا السين فى قوله سينالهم للاستقبال بالنسبة الى زمان غضب موسى عليه السلام عليهم على سبيل الحكاية و قال عطية العوفى ان الذين اتخذوا العجل أراد به اليهود الذين كانوا فى زمن النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم عيرهم بصنيع ابائهم و قال بالنسبة إليهم سينالهم فى الاخرة غضب من ربهم و ينالهم ذلة فى الدنيا يعنى ما أصاب بنى قريظة و النضير و غيرهم من القتل و الاجلاء قال ابن عباس هو الجزية وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ قال ابو قلابة هو و اللّه جزاء كل مفتر الى يوم القيامة ان يذله اللّه تعالى قال سفيان بن عيينة هذا فى كل مبتدع الى يوم القيامة.

١٥٣

وَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَ آمَنُوا يعنى الذين عبدوا العجل من قوم موسى ثم تابوا و أمنوا و قتلوا أنفسهم ابتغاء مرضاة اللّه إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها اى بعد التوبة لَغَفُورٌ رَحِيمٌ و ان كان الذنوب عظيمة متكثرة ان مع اسمها و خبرها خبر للموصول.

١٥٤

وَ لَمَّا سَكَتَ اى سكن عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ باعتذار هارون و ندامة قومه و توبتهم و فى هذا الكلام مبالغة من حيث انه جعل الغضب الحامل له على ما فعل كالامر به و المغرى عليه حق عبر عن سكونه بالسكوت أَخَذَ الْأَلْواحَ التي القاها و قد ذهب ستة اسباعها وَ فِي نُسْخَتِها قيل أراد بها اللوح لانها نسخت من اللوح المحفوظ و قيل ان موسى لما القى الألواح تكسرت فنسخ منها نسخة اخرى و قيل معناه فيما نسخ فيها اى كتب فهو فعلة بمعنى المفعول كالخطبة و قال عطاء فيما بقي منها قال ابن عباس و عمرو بن دينار و لما القى موسى الألواح فتكسرت صام أربعين يوما فردت اليه فى لوحين هُدىً من الضلالة و بيان للحق وَ رَحْمَةٌ من العذاب لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ اى يخافون ربهم اللام فى لربهم زيدت للتاكيد كقوله تعالى ردف لكم و قال الكسائي دخلت اللام لضعف الفعل بالتأخير كقوله للرويا تعبرون و قال قطرب اللام بمعنى من يعنى من ربهم يرهبون و قيل أراد راهبون لربهم و قيل اللام للتعليل و التقدير يرهبون من معاصى لربهم.

١٥٥

وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ اى من قومه حذف الجار و أوصل الفعل اليه فانتصيب بنزع الخافض سَبْعِينَ رَجُلًا ممن لم يعبدوا العجل لِمِيقاتِنا اى للوقت الذي وعدنا بإتيانهم روى انه تعالى امر موسى ان يأتيه فى سبعين من بنى إسرائيل يعتذرون اليه من عبادة العجل فاختار من كل سبط ستة فزاد اثنان فقال ليتخلف منكم رجلان فتشاحوا فقال ان لمن قعد اجر من خرج فقعد كالب و يوشع و ذهب مع الباقين فلما دنوا من الجبل غشيهم غمام فدخل موسى بهم الغمام و خروا سجدا فسمعوه يكلم موسى يأمره و ينهاه ثم انكشف الغمام فاقبلوا عليه فقالوا لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة فاخذتهم الرجفة الصاعقة او رجفة الجبل فصعقوا منها اى ماتوا كذا قال السدى و قال ابن عباس ان السبعين الذين قالوا لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة فاخذتهم الصاعقة كانوا قبل السبعين الذين اخذتهم الرجفة و انما امر اللّه سبحانه موسى عليه السلام ان يختار من قومه سبعين رجلا فاختارهم و برزهم ليدعوا ربهم و كان فيما دعوا ان قالوا اللّهم أعطنا ما لم تعطه أحدا قبلنا و لا تعطه أحدا بعدنا فانكر اللّه ذلك من دعائهم فاخذتهم الرجفة و قال وهب لم تكن تلك الرجفة موتا و لكن القوم لما رأوا تلك الهيئة اخذتهم الرعدة و قلقوا و رجفوا حتى كادت ان تبين منهم مفاصلهم فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قال السيوطي قال ابن عباس اخذتهم الرجفة اى الزلزلة الشديدة لانهم لم يزالوا قومهم حين عبدوا العجل فلما رأى موسى عليه السلام ذلك رحمهم و خاف عليهم الموت و اشتد عليه فقدهم و كانوا له وزراء على الخير سامعين مطيعين فعند ذلك دعا و بكى و ناشد ربه تبارك و تعالى قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ تمنى هلاكهم و هلاكه قبل ان يرى ما راى بسبب اخر او عنى به انك قد قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم او باغراقهم فى البحر و غيرها فترحمت عليهم بالانقاذ منها فان ترحمت عليهم مرة فارحم عليهم مرة اخرى فانه لا مبعد من عميم إحسانك قيل معناه لو شئت أهلكتهم قبل خروجهم ليعاين بنوا إسرائيل ذلك و لا يتهمونى أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا من التجاسر على طلب الروية الذي فعله بعضهم او عبادة العجل قال المبرد قوله أ تهلكنا بما فعل السفهاء منا استفهام استعطاف اى لا تهلكنا و قد علم موسى ان اللّه اعدل من ان يأخذ بجريمة أحد غيره إِنْ هِيَ يعنى طلبا لروية او عبادة العجل إِلَّا فِتْنَتُكَ اى ابتلاءك و اختيارك حين اسمعتهم كلامك فطمعوا رويتك او إذا أوجدت فى العجل خوارا فزاغوا و خذلت أنفسهم و فيه اشارة الى قوله تعالى انا فتنّا قومك من بعدك فقال موسى تلك الفتنة التي أخبرتني بها أضللت بها قوما فافتتنوا و هديت قوما عصمتهم حتى ثبتوا على دينك تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ إضلاله بخذلانه حتى يتجاوز عن حده وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ هدايته فتقوى بها إيمانه أَنْتَ وَلِيُّنا ناصرنا و حافظنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ تغفر السيئة و تبدلها بالحسنة.

١٥٦

وَ اكْتُبْ لَنا اى أوجب لنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً اى توفيق الطاعة و النعمة و العافية وَ فِي الْآخِرَةِ المغفرة و الرحمة و الجنة إِنَّا هُدْنا من هاد يهود إذا رجع يعنى تبنا إِلَيْكَ قال قتادة و ابن جريح و محمد بن كعب انما اخذتهم الرجفة لانهم لم يزابلوا قومهم حين عبدوا العجل و لم يأمروهم بالمعروف و لم ينهوهم عن المنكر و اللّه اعلم قالَ اللّه تعالى فى جواب دعاء موسى عَذابِي قرأ نافع بفتح الياء و الباقون بإسكانها أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ من خلقى تعذيبه وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ عمت كُلَّ شَيْ ءٍ فى الدنيا المؤمن و الكافر بل المكلف و غيره و انما انتفت فى الاخرة عن الكفار لانهم أبوا ان يرحمهم اللّه تعالى و جعلوا له شركاء قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم كل أمتي يدخلون الجنة الا من ابى قيل له و من ابى قال من أطاعني دخل الجنة و من عصانى فقد ابى رواه البخاري قال عطية العوفى وسعت كل شى ء و لكن لا يجب الا للذين يتقون و ذلك لان الكافرين يرزقون و يدفع عنهم بالمؤمنين لسعة رحمة اللّه بالمؤمنين فيعيشون فيها فاذا صاروا الى الاخرة وجبت للمؤمنين خاصة كالمستضئ بنا و غيره إذا ذهب صاحب السراج بسراجه فَسَأَكْتُبُها اى ساجعلها واجبا فى الاخرة منكم يا بنى إسرائيل لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الكفر و المعاصي وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ خصها بالذكر لكونها أشق على النفوس وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا اى بجميع كتبنا يُؤْمِنُونَ لا يكفرون بشئ منها و لما كان شريعة موسى عليه السلام فى علم اللّه تعالى منسوخة نبه اللّه تعالى على ذلك و حثهم على اتباع خاتم النبيين و قال.

١٥٧

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ مبتدأ خبره يأمرهم او خبر مبتدأ تقديره هم الذين او بدل من الذين يتقون بدل البعض او الكل سماه رسولا بالاضافة الى اللّه تعالى و نبيا بالاضافة الى العباد الْأُمِّيَّ يعنى محمدا صلى اللّه عليه و اله و سلم منسوب الى الام يعنى هو على ما ولدته امه لم يكتب و لم يقرأ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم انا امة امية لا نكتب و لا نحسب الحديث متفق عليه عن ابن عمر وصفه اللّه به تنبيها على ان كمال علمه مع حاله أحد معجزاته و قيل منسوب الى الامة لكثرة أمته عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم انا اكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة و انا أول من يقرع باب الجنة رواه مسلم أصله أمتي فسقطت التاء فى النسبة كما فى المكي و المدني و قيل هو منسوب الى أم القرى يعنى مكة و بهذا الكلام خرج من هذا الحكم من بنى إسرائيل الذين أدركوا النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم و لم يؤمنوا و بقي فى الحكم من لم يدرك زمن ......

النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم لانه ما تفرق الذين أوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءتهم البينة اخرج ابن حبان عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم ان لكل نبى يوم القيمة منبرا من نور و انى على أطولها و انورها فيجئى مناد ينادى اين النبي الأمي فيقول الأنبياء كلنا نبى أمي فالى أينا أرسل فيرجع الثانية فيقول اين النبي الأمي العربي فينزل محمد صلى اللّه عليه و اله و سلم حتى يأتي باب الجنة فيقرعه فيقال من فيقول محمد و احمد فيقول أوقد أرسل اليه فيقول نعم فيفتح له فيتجلى له الرب و لا يتجلى بشئ قبله فيخر للّه ساجد او يحمده بمحامده لم يحمده بها أحد بعد فيقال ارفع راسك و تكلم و اشفع تشفع هذا الحديث يدل على ان الأمي مشتق من الامة حتّى يصح قولهم كلنا نبى أمي اى ذى امة و خص النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم بهذا الاسم لكثرة أمته الَّذِي يَجِدُونَهُ اى بنو إسرائيل مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ اسما و صفة عن انس ان غلاما يهوديا كان يخدم النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم فمرض فاتاه النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم فوجد أباه عند راسه يقرأ التورية فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم يا يهودى أنشدك باللّه الذي انزل التورية على موسى هل تجد فى التورية نعتى و صفتى و مخرجى قال لا قال الفتى بلى و اللّه يا رسول اللّه انا نجد لك فى التورية نعتك و صفتك و مخرجك و انى اشهد ان لا اله الا اللّه و انك رسول اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم اقيموا هذا من عند راسه و ولوا أخاكم و عن على رضى اللّه عنه ان يهوديا كان له على رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم دنانير فتقاضى النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم فقال له يا يهودى ما عندى ما أعطيك فقال انى لا أفارقك يا محمد حتى تعطينى فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم إذا اجلس معك فجلس معه فصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم الظهر و العصر و المغرب و العشاء الاخرة و الغداة و كان اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم يتهددونه و يتواعدونه ففطن رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم بالذي يصنعون به فقالوا يا رسول اللّه يهودى يحبسك فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم منعنى ربى ان اظلم معاهدا و غيره فلما ترجل «١» النهار قال اليهودي اشهد ان لا اله الا اللّه و اشهد انك رسول اللّه و شطر مالى فى سبيل اللّه اما و اللّه ما فعلت بك الذي فعلت بك الا لا نظر الى نعتك فى التورية محمد بن عبد اللّه مولده بمكة و مهاجره بطيبة و ملكه بالشام ليس بفظ «٢» و لا غليظ و لا سخاب «٣» فى الأسواق و لا متزى بالفحش و لاقوال للخنا اشهد ان لا اله الا اللّه و انك رسول اللّه و هذا مالى فاحكم فيه بما أراك و كان اليهودي كثير المال روى الحديثين البيهقي فى دلائل النبوة و عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد اللّه بن عمرو بن

(١) ترجل النهار اى ارتفع النهار شبيها بارتفاع الرجل من الصبى ١٢ نهايه.

(٢) فظ سيئى الخلق ١٢.

(٣) السخب الصياح ١٢.

العاص قال قلت أخبرني عن صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم فى التورية قال أجل و اللّه انه لموصوف فى التورية ببعض صفته فى القران يا ايها النبي انا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا و حرزا الأميين أنت عبدى و رسولى سميتك المتوكل ليس بفظ و لا غليظ و لا سخاب فى الأسواق و لا يدفع بالسيئة السيئة و لكن يعفو و يغفر و لن نقبضه حتى نقيم به الملة العوجاء بان يقولوا لا اله الا اللّه و نفتح بها أعينا عمياء و اذانا صماء و قلوبا غلفاء رواه البخاري و عن عطاء بن يسار عن ابن سلام نحوه رواه الدارمي و عن كعب الأحبار يحكى عن التورية قال نجد مكتوبا محمد رسول اللّه عبدى المختار لافظ و لا غليظ و لا سخاب فى الأسواق و لا يجزئ بالسيئة السيئة و لكن يعفو و يغفر مولده بمكة و هجرته بطيبة و ملكه بالشام و أمته الحمادون يحمدون اللّه فى السراء و الضراء يحمدون اللّه فى كل منزله و يكبرونه على كل شرف رعاة للشمس يصلون الصلاة إذا جاء وقتها يتبارزون على اتصافهم و يتوضؤن على أطرافهم مناديهم ينادى فى جو السماء صفهم فى القتال وصفهم فى الصلاة سواء لهم بالليل دوى كدوى النحل رواه البغوي بسنده فى معالم التنزيل و ذكره فى المصابيح و رواه الدارمي مع تغيير يسير و عن عبد اللّه ابن سلام رضى اللّه عنه قال مكتوب فى التورية صفة محمد و عيسى بن مريم يدفن معه رواه الترمذي قال ابو مودود و قد بقي فى البيت موضع قبر يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ يعنى ما يعرف حسنه شرعا وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ يعنى ما ينكره الشرع و العقل السليم و الطبع المستقيم من الشرك و كفر المنعم و عصيانه و قطع الأرحام وَ يُحِلُّ لَهُمُ اى لبنى إسرائيل الطَّيِّباتِ التي حرم اللّه عليهم فى التورية جزاء لبغيهم كالشحوم و لحوم الإبل و التي حرم اهل الجاهلية على أنفسهم من البحيرة و السائبة و الوصيلة و الحام وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ كالدم و الخمر و الخنزير و الميتة و الربوا و الرشوة وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ قرأ ابن عامر اصارهم على الجمع و الباقون على الافراد و اصل الإصر الثقل الذي يأصر اى يحبس صاحبه عن الحركة لثقله قال ابن عباس و الحسن و الضحاك و السدى و مجاهد يعنى العهد الثقيل الذي أخذ على بنى إسرائيل للعمل بما فى التورية قال قتادة يعنى التشديد الذي كان عليهم فى الدين وَ الْأَغْلالَ يعنى الأثقال الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فى شريعة موسى عليه السلام مثل قتل النفس فى التوبة و قطع الأعضاء الخاطية و قرض النجاسة عن الثوب بالمقراض و تعيين القصاص فى القتل العمد و الخطأ و تحريم أخذ الدية و ترك العمل فى السبت و عدم جواز الصلاة فى غير الكنائس و غير ذلك من الشدائد التي تشبه بالاغلال التي تجمع الأيدي الى الأعناق فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ اى بالنبي الأمي محمد صلى اللّه عليه و اله و سلم وَ عَزَّرُوهُ اى عظموه بالتقوية وَ نَصَرُوهُ لى على الأعداء وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ اى مع نبوته يعنى القران سماه نورا لانه باعجازه ظاهر امره مظهر غيره او لانه كاشف الحقائق مظهر لها و يجوز ان يكون معه متعلقا باتبعوا النور المنزل مع اتباع النبي فيكون اشارة الى اتباع الكتاب و السنة أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالرحمة الابدية الى هاهنا جواب لدعاء موسى عليه السلام

قال البغوي قال نوف البكائى الحميرى اختار موسى قومه سبعين رجلا قال اللّه تعالى لموسى اجعل لكم الأرض مسجدا و طهورا تصلون حيث ادركتكم الصلاة الا عند مرحاض «١» او حمام او قبر و اجعل السكينة فى قلوبكم و أجعلكم تقرءون التورية عن ظهور قلوبكم يقرأها الرجل و المرأة و الحر و العبد و الصغير و الكبير فقال ذلك موسى لقومه فقالوا لا نريد ان نصلى الا فى الكنائس و لا نستطيع ان تقرأ التورية عن ظهور قلوبنا و لا نريد ان نقرأها الا نظرا فقال اللّه تعالى فساكتبها للذين يتقون الى قوله أولئك هم المفلحون فجعلها اللّه لهذه الامة فقال موسى عليه السلام يا رب اجعلنى نبيهم فقال نبيهم منهم قال رب اجعلنى منهم فقال انك لن تدركهم فقال موسى يا رب أتيتك بوفد بنى إسرائيل فجعلت وفادتنا لغيرنا فانزل اللّه تعالى و من قوم موسى امة يهدون بالحق و به يعدلون فرضى موسى و قول نوف هذا يابى عنه سياق الاية و منطوقه فان قوله تعالى الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم فى التورية و الإنجيل صريح فى ان الاية فى حق مومنى اهل الكتاب لا غير و كذا ما ذكر البغوي انه قال ابن عباس و قتادة و ابن جريح انه لما نزلت و رحمتى وسعت كل شى ء قال إبليس انا من ذلك الشي ء فقال اللّه تعالى فساكتبها للذين يتقون و يؤتون الزكوة و الذين هم باياتنا يؤمنون فتمناها اليهود و النصارى و قالوا نحن نتقى و نوتى الزكوة و نومن فجعلها اللّه لهذه الامة حيث قال الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الاية فان مقتضى هذا القول ان الاية خطاب للنبى صلى اللّه عليه و اله و سلم و سياق الاية يقتضى انها خطاب لموسى عليه السلام فى جواب دعائه و انما نزل على النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم حكاية و اللّه اعلم.

(١) مرحاض موضع بنيت للغائط و الرحض الغسل و ذلك موضع اغتسال ١٢.

١٥٨

قُلْ يا محمد يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّه الاضافة للعهد الخارجي يعنى الرسول النبي الأمي الذي مر ذكره و أخذ العهد على اتباعه إِلَيْكُمْ خطاب للناس كافة و لذلك اردفه بقوله جَمِيعاً حال من إليكم فان النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم كان مبعوثا الى الناس كافة بل الى الجن و الانس عامة و سائر الأنبياء الى أقوامهم خاصة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم و نصرت بالرعب و أحلت لى الغنائم و جعلت لى الأرض مسجد او طهورا و أرسلت الى الخلق كافة و ختم بي النبوة رواه مسلم و الترمذي عن ابى هريرة و روى الطبراني فى الكبير بسند صحيح عن السائب بن يزيد بلفظ فضلت على الأنبياء بخمس بعثت الى الناس كافة و ذخرت شفاعتى لامتى و نصرت بالرعب شهرا امامى و شهرا خلفى و جعلت لى الأرض مسجدا و طهورا و أحلت لى الغنائم و لم يحل لاحد قبلى و روى البيهقي بسند صحيح عن ابى امامة فضلت بأربع و لم يذكر ذخرت شفاعتى قلت الخطاب و إن كان للناس عموما لكن سياق القصة تقتضى ان المقصود بهذا الخطاب العام يهود المدينة و بعض النصارى فانهم داخلون فى عموم الخطاب و محجوجون عليهم بقوله تعالى مكتوبا عندهم فى التورية و الإنجيل و انكارهم ذلك عنادا لا يفيدهم عند اللّه تعالى الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ صفة اللّه جعل بينهما ما هو متعلق بالمضاف لانه كالمتقدم عليه او مدح منصوب او مرفوع او مبتدأ خبره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ و هو على الوجوه الاول بدل من الصلة بيان لما قبله فان من ملك العالم كان هو الا له لا غيره و فى يُحيِي وَ يُمِيتُ مزيد تقرير لاختصاصه بالالوهية و إعرابه كاعراب ما سبق على تقدير كون الموصول مبتدأ و ما بعده خبر الجملة الاسمية بيان لما أرسل به فَآمِنُوا بِاللّه وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الذي أخذ منكم العهد فى الكتب السابقة على اتباعه الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّه وَ كَلِماتِهِ التي أنزلت عليه و على سائر المرسلين من كتب اللّه و وحيه و قرئ و كلمته على ارادة الجنس

و قال مجاهد و السدى يعنى عيسى بن مريم عليه السلام كلمته القاها الى مريم و انما عدل عن التكلم الى الغيبة لاجراء هذه الصفات الداعية الى الايمان به و الاتباع له وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ جعل رجاء الاهتداء اثر الامرين تنبيها على ان من صدقه و لم يتابعه بالتزام شرعه فهو بعد فى حيز الضلالة.

١٥٩

وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى يعنى بنى إسرائيل أُمَّةٌ جماعة يَهْدُونَ الناس بِالْحَقِّ اى محقين او بكلمة الحق اى يرشدون و يدعون الى الحق او بسبب الحق الذي هم عليه وَ بِهِ اى بالحق يَعْدِلُونَ بينهم فى الحكم قال الضحاك و الكلبي و الربيع هم قوم خلف الصين بأقصى الشرق على نهر يجرى الرمل يسمى نهر أوراق ليس لاحد منهم مال دون صاحبه يمطرون بالليل و يضحون بالنهار و يزرعون لا يصل إليهم منا أحد و هم على دين الحق و ذكر ان جبرئيل عليه السلام ذهب بالنبي صلى اللّه عليه و اله و سلم ليلة اسرى به إليهم فكلمهم جبرئيل هل تعرفون من تتكلمون قالوا لا قال هذا محمد النبي الأمي صلى اللّه عليه و اله و سلم فامنوا به فقالوا يا رسول اللّه ان موسى اوصانا ان من أدرك منكم احمد صلى اللّه عليه و اله و سلم فليقرأ عليه منى السلام فرد النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم على موسى عليه السلام ثم اقرأ عشر سور من القران نزلت بمكة و أمرهم بالصلوة و الزكوة و أمرهم ان يقيموا مكانهم و كانوا يسبتون فامرهم ان يجمعوا و يتركوا السبت و قيل هم الذين اسلموا من اليهود فى زمن النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم

قال البغوي و الاول أصح قال و الظاهر ان الاول قول غريب و لم يكن بمكة ليلة الاسراء الجمعة و ليس فى عشر سور مما نزلت بمكة احكام الإسلام كلها و اللّه اعلم و الأظهر عندى ان المراد المؤمنين الذين أمنوا بموسى من اهل زمانه و الذين أدركوا النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم من اليهود فامنوا به كعبد اللّه بن سلام و نظرائه.

١٦٠

وَ قَطَّعْناهُمُ اى فرقنا بنى إسرائيل اثْنَتَيْ عَشْرَةَ تميزه محذوف يدل عليه قطعنا يعنى اثنتي عشرة قطعة و هو مفعول ثان لقطع فانه متضمن لمعنى صير او حال أَسْباطاً بدل لا تمييز فان تمييز ما فوق العشرة لا يكون جمعا و السبط ولد الولد و كانوا اثنتي عشرة قبيلة اولا و اثنى عشر ابن لاسرائيل يعنى يعقوب عليه السلام أُمَماً صفة لاسباط او بدل بعد بدل قال الزجاج المعنى و قطعناهم اثنتي عشرة فرقة امما و انما قال أسباطا امما بالجمع و ما فوق العشرة لا يفسر بالجمع فلا يقال اثنا عشر رجالا لان الأسباط فى الحقيقة نعت للمفسر المحذوف و هو الفرقة اى قطعناهم اثنتا عشرة فرقة أسباطا امما يعنى كل فرقة أسباط و قيل فيه تقديم و تأخير تقديرها و قطعناهم أسباطا امما اثنتي عشرة وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ فى التيه أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ اى فضرب فانبجست حذفه للايماء على انّ موسى لم يتوقف فى الامتثال و على ان ضربه لم يكن مؤثرا يتوقف عليه الانبجاس فى ذاته و معناه انفجرت و قال ابو عمرو ابن العلا عرقت و هو الانبجاس ثم ثم انفجرت مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً لكل سبط عين قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ اى كل سبط أبناء ابن ليعقوب عليه السلام مَشْرَبَهُمْ وَ ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ فى التيه ليقيهم حر الشمس وَ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى كُلُوا اى و

قلنا لهم كلوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

١٦١

وَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَ كُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ قرأ نافع و ابن عامر و يعقوب بضم التاء المثناة الفوقانية و فتح الفاء على التأنيث و البناء للمفعول مسندا الى ما بعده و هو مرفوع و الباقون بفتح النون و كسر الفاء على التكلم و البناء للفاعل و ما بعده منصوب على المفعولية.

خَطِيئاتِكُمْ قرأ ابن عامر على وزن الفعيلة بالهمزة على التوحيد و ابو عمر و خطاياكم على وزن قضاياكم على الجمع و الباقون خطيئاتكم على الجمع على وزن فعيلاتكم بالهمز سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وعد بالمغفرة و الزيادة عليه بالاثابة و انما اخرج الثاني مخرج الاستيناف للدلالة على انها تفضل محض ليس فى مقابلة ما أمروا به.

١٦٢

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ مضى تفسير هذه الآيات فى سورة البقرة غير ان قوله تعالى فكلوا فى البقرة بالفاء أفاد تسبيب سكناهم للاكل منها و لم يتعرض له هاهنا اكتفاء بذكره ثمه او بدلالة الحال عليه كذا

قال البيضاوي قلت ذكر فى البقرة ادخلوا هذه القرية فكلوا و لا شك ان الاكل بعد الدخول و لذلك أورد هنا فاء التعقيب و ذكر هاهنا اسكنوا هذه القرية و السكنى يجامع الاكل و لا يستعقبه فلذلك أورد الواو للجمع و لا اثر لتقديم قولوا على و ادخلوا فى المعنى.

١٦٣

وَ سْئَلْهُمْ اى سل يا محمد اليهود للتقرير و التوبيخ على تقديم كفرهم و عصيانهم و الاعلام بما هو من علومهم التي لم يكن اهل مكة يعلمها حتّى يكون لك معجزة و حجة عليهم عَنِ الْقَرْيَةِ اى عن خبر أهلها و ما وقع بهم الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ اى قريبة الْبَحْرِ قال ابن عباس هى قرية يقال لها ايلة بين مدين و الطور على شاطى البحر و قال الأزهري طبرية الشام إِذْ يَعْدُونَ الضمير راجع الى المضاف المحذوف يعنى اهل القرية كانوا يتجاوزون حد الإباحة بصيد السمك فِي السَّبْتِ و قد نهوا عنه إذ ظرف متعلق بكانت او حاضرة او للمضاف المحذوف اى خبر اهل القرية وقت عدوانهم او بدل اشتمال من اهل القرية إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ ظرف ليعدون او بدل بعد بدل يَوْمَ سَبْتِهِمْ اى يوم تعظيمهم امر السبت مصدر من سبت اليهود إذا عظمت سبتها بالتجرد للعبادة و قيل اسم لليوم و الاضافة لاختصاصهم باحكام فيها و يؤيد الاول قوله تعالى و يوم لا يسبتون شُرَّعاً حال من الحيتان اى ظاهرة على الماء متكثرة جمع شارع علينا إذا اشرف و دنا و قال الضحاك متتابعا و فى القصة انها كانت تأتيهم يوم السبت مثل الكباش السمان البيض وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ اى لا يعظمون السبت متعلق بقوله لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ اى مثل إتيانهم يوم السبت نَبْلُوهُمْ حال من الضمير المنصوب فى لا تأتيهم بِما كانُوا يَفْسُقُونَ متعلق بيعدوا و المعنى مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم قيل وسوس إليهم الشيطان ان اللّه لم ينهيكم عن الاصطياد و انما نهاكم عن الاكل فاصطادوا و قيل وسوس إليهم انكم انما نهيتم عن الاخذ فاتخذوا حياضا على شط البحر يسوقون الحيتان إليها يوم السبت ثم ياخذونها يوم الأحد ففعلوا ذلك زمانا ثم جرؤا على السبت و قالوا ما نرى السبت الا قد أحل لنا فاخذوا و أكلوا و باعوا فصار اهل القرية أثلاثا و كانوا نحوا من سبعين الفا ثلث كانوا يعدون فى السبت و ثلث كانوا ينهونهم عن الاعتداء و ثلث لم يفعلوا و لم ينهوا و هم الذين حكى عنهم اللّه سبحانه بقوله.

١٦٤

وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ اى الفرقة الساكتة للفرقة الواعظة الناهية عن المنكر لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّه مُهْلِكُهُمْ فى الدنيا أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فى الاخرة قالُوا الناهون فى جوابهم مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ قرأ الجمهور معذرة بالرفع على انه خبر مبتدأ محذوف اى موعظتنا معذرة اى إبداء لعذرنا الى اللّه تعالى حتى لا نكون مفرطين فى النهى عن المنكر

و قرا حفص بالنصب على المصدرية او العلية اى اعتذرنا معذرة اوعظناهم معذرة وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فان الياس لا يحصل الا بعد الهلاك.

١٦٥

فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ اى ترك الفرقة العاصية ما ذكّرهم الصلحاء الواعظون أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ يعنى الفرقة الواعظة الصالحة وَ أَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا يعنى الفرقة العاصية بِعَذابٍ بَئِيسٍ اى شديد قرا الجمهور بفتح الباء و كسر الهمزة بعدها ياء ساكنة على وزن فعيل من بؤس يبئس بأسا إذا اشتد

و قرا ابو جعفر و نافع و ابن عامر بئس على وزن فعل و كان فى الأصل بئس مفتوح الفاء مكسور العين وزن حذر فخفف عينه بنقل حركتها الى ما قبلها فصار بئس بسكون الهمزة او هو فعل ذم وصف به فجعل اسما الا ان ابن عامر يهمز و نافع و ابو جعفر لا يهمزان بل يقلبان الهمزة ياء و يقران بيس

و قرا ابو بكر عن عاصم بخلاف عنه بفتح الباء و سكون الياء و فتح الهمزة على وزن فيعل مثل صيقل بِما كانُوا يَفْسُقُونَ قال ابن عباس رضى اللّه عنه اسمع اللّه يقول أنجينا الذين ينهون عن السوء و أخذنا الذين ظلموا بعذاب بئس فلا أدرى ما فعل الفرقة الساكتة قال عكرمة قلت له جعلنى اللّه فداك الا تريهم قد أنكروا و كرهوا ما هم عليه و قالوا لم تعظون قوما اللّه مهلكهم و ان لم يقل اللّه انجيتهم لم يقل أهلكتهم فاعجبه قولى فرضى و امر لى ببردين فكسانيها و قال نجت الفرقة الساكتة كذا روى الحاكم و قال يمان بن رباب نجت الطائفتان الذين قالوا لم تعظون قوما اللّه مهلكهم و الذين قالوا معذرة الى ربكم و أهلك اللّه الذين أخذوا لحيتان و هذا قول الحسن و مجاهد و قال ابن زيد نجت الناهية و هلكت الفرقتان و هذه أشد اية فى ترك النهى عن المنكر.

١٦٦

فَلَمَّا عَتَوْا اى تكبر الفرقة الخاطئة عَنْ ما نُهُوا اى عن ترك ما نهوا عَنْهُ

قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ اى مبعدين امر تكوين و تسخير و الظاهر يقتضى ان اللّه تعالى عذبهم او لا بعذاب شديد فعتوا بعد ذلك فمسخهم و يجوز ان يكون الاية الثانية تقريرا و تفصيلا للاولى و قيل المراد بقوله تعالى و إذ قالت امة منهم لم تعظون ان الفرقة الصالحة الواعظة قالت بعضهم لبعضهم لم تعظون مبالغة فى ان الوعظ لا ينفع فيهم تحسرا فاجابوا فيما بينهم و قالوا معذرة الى ربكم او قال من ارعوى عن الوعظ منهم لمن لم يرعوا منهم و قيل معنى الاية قالت امة منهم يعنى الهالكة للفرقة الصالحة الواعظة لم تعظون قوما اللّه مهلكهم على زعمكم قالوا ذلك تهكما و استهزاء بهم فقالوا اى الصالحون معذرة الى ربكم لكن هذا المعنى يابى عنه ضمير الغائب فى قولهم لعلهم يتقون بل كان المناسب على هذا ان يقولوا لعلكم تتقون روى ان الناهين لما ايسوا عن اتعاظ المعتدين كرهوا مساكنتهم فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب و للمعتدين باب و لعنهم داود عليه السلام و أصبح الناهون ذات يوم و لم يخرج من المعتدين أحد فقالوا ان لهم لشانا فدخلوا عليهم فاذاهم قردة فلم يعرفوا انسبائهم و لكن القرود تعرفهم فجعلت القرود تأتي انسبائهم و تشمهم فتشم ثيابهم و تدور باكية حولهم فيقولون الم ننهيكم فتقول القردة برأسها نعم فمكثوا ثلثة ايام ينظر بعضهم الى بعض و ينظر إليهم الناس ثم ماتوا.

١٦٧

وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ تفعل من الاذن و معناه العزم المصمم الذي لا يتخلف لان العازم على الشي ء يوذن نفسه بفعله و لذلك اجرى مجرى فعل القسم كعلم اللّه و شهد اللّه و لذلك أجيب بجوابه و قال ابن عباس معنى تأذن ربك قال ربك

و قال مجاهد امر ربك و قال عطاء حكم ربك و على الأقوال غير الاول لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ جواب قسم محذوف اى و اللّه ليسلطن اللّه تعالى على اليهود إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ بالقتل و الضرب و السبي و أخذ الجزية فبعث اللّه عليهم سليمان و بعده بخت نصر فخرب ديارهم و قتل مقاتلتهم و سبى نسائهم و ذراريهم و ضرب الجزية على من بقي منهم فكانوا يؤدونها الى المجوس حتّى بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه و اله و سلم فقتل بنى قريظة و سبى نسائهم و ذراريهم و أجلا بنى نضير و بنى قينقاع و أجلا عمر عن خيبر و فدك و امر اللّه سبحانه بقتالهم الى يوم القيامة حتى يعطوا الجزية عن يدوهم صاغرون إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ لمن عصاه و لذا عاقبهم فى الدنيا وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب و أمن.

١٦٨

وَ قَطَّعْناهُمْ فرقناهم فِي الْأَرْضِ أُمَماً فرقا فشتت أمرهم حتى لا يكون لهم شوكة قط و لا يجتمع كلمتهم مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ الذين أمنوا بمحمد صلى اللّه عليه و اله و سلم كذا قال ابن عباس و مجاهد قلت و الظاهر ان المراد الذين على دين موسى صالحين قبل نسخه بقرينة قوله فخلف من بعدهم خلف وَ مِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ تقديره و منهم ناس دون ذلك اى منحطون عن الصلاح و هم الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى اللّه عليه و اله و سلم او كانوا فساقا قبل نسخ دين موسى او كفارا لعيسى و داود و سليمان وَ بَلَوْناهُمْ اى اختبرناهم بِالْحَسَناتِ اى النعم وَ السَّيِّئاتِ اى النقم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ اى لكى ينتبهوا فيرجعوا عما كانوا عليه من الكفر و الفسق بشكر المنعم عند النعمة و بالتوبة عند حلول النقمة.

١٦٩

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ اى جاء بعد المذكورين الذين وصفناهم خَلْفٌ القرن الذي يجئ بعد قرن كذا فى القاموس و قال ابو حاتم الخلف بسكون اللام الأولاد الواحد و الجمع سواء و الخلف بفتح اللام البدل سواء كان ولدا و غريبا و قال ابن الاعرابى الخلف بالفتح الصالح و بالسكون الطالح و قال النضر بن شميل الخلف بتحريك اللام و إسكانها فى القرن السوء و اما فى القرن الصالح فتحريك اللام لا غير و قال محمد بن جرير اكثر ما جاء فى المدح بفتح اللام و فى الذم بتسكينها و قد يحرك فى الذم و يسكن فى المدح

قال البيضاوي هو مصدر نعت به و لذلك يقع على الواحد و الجمع و قيل جمع و المراد به الذين كانوا فى عصر النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم وَرِثُوا الْكِتابَ اى انتقل إليهم الكتاب يعنى التورية من ابائهم يقرؤنها و يطلعون على ما فيها يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى يعنى حطام هذا العالم الأدنى يعنى الدنيا و هو من الدنو او الدناءة و العرض المتاع و كل شى ء سوى النقدين او ما كان من مال قل او كثر و هو المراد هاهنا و قيل العرض ما لا يكون له ثبات و منه استعار المتكلمون العرض لما لم يكن له ثبات الا بالجوهر كاللون و الطعم و لذا قيل الدنيا عرض حاضر يعنى لاثبات لها و المراد به ما كان علماء اليهود يأخذون من جهالهم فياكلون و لذلك كتموا نعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم و حرّفوا كلام اللّه تعالى خوفا من زوال ماكلتهم و ما كانوا يأخذون من الرشى فى الحكم و الجملة حال من الضمير المرفوع فى ورثوا وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا يحتمل العطف و الحال و الفعل مسند الى الجار و المجرور او الى الضمير العائد الى مصدر يأخذون يعنى بتمنون على اللّه المغفرة بلا توبة مع الإصرار على الذنب و هذا امر شنيع قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم الكيس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت و العاجز من اتبع نفسه هواها و تمنى على اللّه رواه احمد و الترمذي و ابن ماجة و الحاكم و البغوي بسند صحيح عن شداد بن أوس وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ حال من الضمير فى يقولون يعنى يرجون المغفرة مصرين على الذنب عامدين الى مثله غير تائبين قال السدى كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا الا ارتشى فى الحكم فيقال له مالك ترتشى فيقول سيغفر لى فيطعن فيه الآخرون فاذا مات او نزع و جعل مكانه رجل ممن يطعن عليه يرتشى ايضا فيقول اللّه تعالى و ان يأتهم يعنى الآخرين منهم عرض مثله يأخذوه أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ اى أخذ عليهم العهد فى التورية أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللّه إِلَّا الْحَقَّ و هذا غير الحق لانه ليس فى التورية ميعاد المغفرة مع الإصرار وَ دَرَسُوا ما فِيهِ عطف على الم يوخذ من حيث المعنى فانه تقريرا و على ورثوا و درس الكتاب قراءته و تدبره مرة بعد اخرى يعنى يعلمون ما يعملون و هم ذاكرون انه معصية وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ اللّه تعالى و يؤمنون بالنبي صلى اللّه عليه و اله و سلم مما يأخذون من حطام الدنيا أَ فَلا تَعْقِلُونَ عطف على محذوف تقديره أ يختارون الشر و يتركون الخير فلا يعقلون يعنى فليس لهم عقل فان مقتضى العقل اختيار الخير على الشر بل اختيار أخير الخيرين و هم يستبدلون الأدنى المؤدى الى العذاب بالنعيم المخلد قرا نافع و ابن عامر و حفص و يعقوب بالتاء على الخطاب و الباقون بالياء على الغيبة.

١٧٠

وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ قرأ ابو بكر مخففا من الافعال و الباقون بالتشديد من التفعيل

و قرا ابى بن كعب و الذين تمسكوا بِالْكِتابِ على صيغة الماضي لما عطف عليه وَ أَقامُوا الصَّلاةَ قال مجاهدهم المؤمنون من اهل الكتب عبد اللّه بن سلام و أصحابه تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى عليه السلام فلم يحرفوه و لم يكتموه و لم يتخذوه ماكلة بل عملوا بما فيه حتّى أمنوا بمحمد صلى اللّه عليه و اله و سلم و قال عطاءهم امة محمد صلى اللّه عليه و اله و سلم و الذين يمسكون عطف على الذين يتقون و قوله أ فلا يعقلون اعتراض او مبتدأ خبره إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ على تقدير منهم او وضع الظاهر موضع المضمر تنبيها على ان الإصلاح كالمانع من التضييع.

١٧١

وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ متعلق باذكر و اصل النتق الجذب و المعنى قلعناه و رفعناه فَوْقَهُمْ اى فوق بنى إسرائيل حين أبوا ان يقبلوا احكام التورية لثقلها فرفع اللّه عليهم الجبل كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ سقيفة و هى كل ما اظلك وَ ظَنُّوا اى أيقنوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ و انما اطلق الظن لانه لم يقع متعلقه و قيل لهم ان قبلتم ما فيها و الا ليقعن عليكم خُذُوا بإضمار القول اى و

قلنا خذوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ بجد و عزم على تحمل مشاقه حال من فاعل خذوا وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ بالعمل و لا تتركوه كالمنسى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قبايح الأعمال و رذايل الأخلاق.

١٧٢

وَ اذكر إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ فيه اختصار تقديره من آدم و بنى آدم مِنْ ظُهُورِهِمْ بدل من بنى آدم بدل البعض و المعنى إذا خرج ربك من ظهور آدم بنيه ذُرِّيَّتَهُمْ قرأ نافع و ابو عمرو و ابن عامر و يعقوب ذرياتهم على صيغة الجمع و الباقون على الافراد وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ اى اشهد بعضهم على بعض و قال لهم أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم لما خلق اللّه آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته الى يوم القيامة و جعل بين عينى كل انسان منهم و بيصا «١» من نور ثم عرضهم على آدم فقال اى رب من هؤلاء قال ذريتك فراى منهم رجلا فاعجبه و بيص عينيه فقال اى رب من هذا قال داود قال رب كم جعلت عمره قال ستين سنة قال رب زده من عمرى أربعين سنة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم فلما انقضى عمر آدم الا أربعين جاءه ملك الموت فقال آدم الم يبق من عمرى أربعين سنة قال او لم تعطها ابنك داود فجحد آدم فجحدت ذريته و نسى آدم فاكل من الشجرة و نسيت ذريته و خطأ آدم فخطأت ذريته و رواه الترمذي عن ابى الدرداء عن النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم قال خلق اللّه آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى فاخرج ذريته بيضاء كانهم الذر و ضرب كتفه اليسرى فاخرج ذريته سوداء كانهم الحمم قال للذى فى يمينه الى الجنة و لا أبالي و قال للذى فى كتفه اليسرى الى النار و لا أبالي رواه احمد كذا ذكر مقاتل و غيره من اهل التفسير فذكروا نحوه و فى آخره ثم أعادهم جميعا فى صلبه فاهل القبور محبوسون حتى يخرج اهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال و أرحام النساء قال اللّه تعالى فيمن نقض العهد الاول و ما وجدنا لاكثرهم من عهد و عن مسلم بن يسار قال سئل عمر بن الخطاب عن هذه الاية و إذ أخذ ربك من بنى آدم الاية قال عمر رضى اللّه عنه سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و

(١) و بيص يعنى البريق ١٢.

سلم يسأل منها فقال ان اللّه خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة و بعمل اهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار و بعمل اهل النار يعملون فقال رجل ففيم العمل يا رسول اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم ان اللّه إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل اهل الجنة حتّى يموت على عمل من اعمال اهل الجنة فيدخله به الجنة و إذا خلق العبد للنار استعمله بعمل اهل النار حتى يموت على عمل من اعمال اهل النار فيدخله به النار رواه مالك و ابو داود و الترمذي و احمد فى مسنده و البخاري فى التاريخ و ابن حبان و الحاكم و البيهقي و قال الترمذي حديث حسن و مسلم بن يسار لم يسمع من عمر

قال البغوي قد ذكر بعضهم فى هذا الاسناد بين مسلم بن يسار و عمر رجلا و عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم قال أخذ اللّه الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعنى عرفة فاخرج من صلبه كل ذرية ذراها فنشرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا قال الست بربكم قالوا بلى شهدنا ان تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين او تقولوا انما أشرك ابائنا من قبل و كنا ذرية من بعدهم أ فتهلكنا بما فعل المبطلون رواه احمد و النسائي و الحاكم و صححه

و اخرج ابن جرير بسند ضعيف عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم فى هذه الاية أخذ من ظهره كما يوخذ بالمشط من الرأس فقال لهم الست بربكم قالوا بلى قالت الملائكة شهدنا

قال البغوي روى عن ابن عباس ايضا ان اللّه أخرجهم و أخذ الميثاق بدهناء من ارض الهند و هو الموضع الذي هبط آدم عليه السلام و قال الكلبي بين مكة و الطائف و قال السدى خلق اللّه آدم و لم يهبط من السماء ثم مسح ظهره فاخرج ذريته و عن ابى بن كعب جمعهم فجعلهم أزواجا يعنى أصنافا ثم صورهم فاستنطقهم فتكلموا ثم أخذهم العهد و الميثاق و اشهدهم على أنفسهم الست بربكم قال اللّه تعالى فانى اشهد عليكم السموات السبع و الأرضين السبع و اشهد عليكم أباكم آدم ان تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا اعلموا انه لا اله غيرى و لا رب غيرى و لا تشركوا بي شيئا انى سارسل إليكم رسلى يذكرونكم عهدى و ميثاقى و انزل عليكم كتبى قالوا شهدنا بانك ربنا و الهنا لا رب لنا غيرك و لا اله لنا غيرك فاقروا بذلك و رفع عليهم آدم عليه السلام ينظر إليهم فرأى الغنى و الفقير و حسن الصورة و دون ذلك فقال رب لو لا سويت بين عبادك قال انى أحببت ان اشكر و رأى الأنبياء فيهم مثل السرج عليهم النور خصوا بميثاق اخر فى الرسالة و النبوة و هو قوله تعالى و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم الى قوله و عيسى بن مريم و عيسى بن مريم كان فى تلك الأرواح فارسله الى مريم فحدث عن ابى انه دخل من فيها رواه احمد زاد فى بعض الروايات بعد قوله لا تشركوا بي شيئا قوله فانى سانتقم عمن أشرك بي و لم يؤمن بي و زاد بعد قوله فاقروا بذلك قوله ثم كتب اجالهم و أرزاقهم و مصائبهم و بعد قوله انى أحببت ان اشكر انه فلما قررهم بتوحيده و اشهد بعضهم على بعض أعاد الى صلبه فلا تقوم الساعة حتّى يولد كل من أخذ ميثاقه

قال البغوي ما معنى قوله و إذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم و انما أخرجهم من ظهر آدم قلت و به نطق الأحاديث قيل فى جوابه ان اللّه اخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالدون فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لما علم انهم كلهم بنوه فاخرجوا من ظهره و لذلك لم يذكر ظهر آدم فى الاية قلت و إخراج كلهم الى ظهر آدم انما أسند فى الحديث بناء على انه لما كان بعضهم فى ظهر بعض و الأصول فى ظهر آدم فكان كلهم فى ظهره فصح اسناد إخراج كلهم الى ظهره او لان المراد بآدم فى الحديث آدم و بنيه اقتصر على ذكر آدم اكتفاء بذكر الأصل عن ذكر الفرع قلت و معنى قوله صلى اللّه عليه و اله و سلم ضرب كتفه اليمنى فاخرج ذرية بيضاء انه ضرب كتفه او كتف أحد من ابنائه فاخرج منها ذرية بيضاء و كتفه او كتف أحد منهم اليسرى فاخرج منها ذرية سوداء ثم قال خلقت هؤلاء للجنة و هؤلاء للنار

قال البغوي قال اهل التفسير ان اهل السعادة أقروا طوعا و اهل الشقاوة قالوا تقية و كرها و ذلك معنى قوله تعالى و له اسلم من فى السموات و الأرض طوعا و كرها شَهِدْنا قال السدى هو خبر من اللّه تعالى عن نفسه و ملئكته انهم شهدوا على اقرار بنى آدم و قال بعضهم هو خبر من قول بنى آدم حين اشهد اللّه بعضهم على بعض فقالوا بلى شهدنا و قال الكلبي ذلك من قول الملئكة و فيه حذف تقديره لما قالت الذرية بلى قال اللّه تعالى للملئكة اشهدوا قالوا شهدنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ منصوب على العلية قرا ابو عمرو و يقولوا فى الموضعين بالياء التحتانية على الغيبة تقديره اشهدهم كراهية ان يقولوا او لئلا يقولوا و الباقون بالفوقانية على الخطاب تقديره اخاطبكم بالست بربكم كراهة ان تقولوا او لئلا تقولوا قلت و الاولى «١» ان يقال تقديره على قراءة ابى عمرو ذكرهم يا محمد بالميثاق كراهة ان يقولوا انا كنا عن هذا غافلين و على قراءة الجمهور أخبرتكم ايها الناس بالميثاق كراهة ان تقولوا إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا الميثاق او الإقرار غافِلِينَ

فان قيل كيف يلزم الحجة واحد لا يذكر الميثاق قيل لما اخبر بذلك المخبر الصادق المؤيد بالمعجزة لزمهم الحجة و لا يسقط الاحتجاج بعدم حفظهم

(١) وجه الاولوية ان تذكير الميثاق بلسان صاحب المعجزة يزيل الغفلة لانفس الاشهاد و الميثاق و اللّه اعلم ١٢.

١٧٣

أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ اتباعا لهم فاقتدينا بهم أَ فَتُهْلِكُنا اى تعذبنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ اى الاسلاف المشركون يعنى كراهة ان تعتذروا بالغفلة او بالتقليد للاباء و ليس شى ء من ذلك مسقطا للاحتجاج.

١٧٤

وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ اى نبينها ليتدبر فيها العباد و يتذكروا ما نسوا وَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ معطوف على مقدر تقديره لعلهم يتدبرون و يتذكرون ما نسوا و لعلهم يرجعون من الكفر الى التوحيد كذا قال السلف الصالح و جمهور المفسرين على ما يشهد به الأحاديث و

قال البيضاوي و من تبعه معنى الاية و إذ أخذ ربك اى اخرج من صلب آدم و أصلاب بنيه نسلهم على ما يتوالدون قرنا بعد قرن و اشهدهم على أنفسهم اى نصب لهم دلائل على ربوبيته و ركب فى عقولهم ما يدعوهم الى الإقرار بالتوحيد حتى صاروا كانهم قيل لهم الست بربكم قالوا بلى فنزل تمكينهم من العلم بها و تمكنهم فيه منزلة الاشهاد و الاعتراف على طريقة التمثيل

قال البيضاوي و يدل عليه قوله قالوا بلى شهدنا ان تقولوا اى كراهة ان تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين اى لم تنبه بالدليل او تقولوا انما أشرك آباؤنا من قبل و كنا ذرية من بعدهم فاقتدينا بهم لان التقليد عند قيام الدليل و التمكن من العلم لا يصلح عذرا و قال و المقصود من إيراد هذا الكلام الزام اليهود مقتضى الميثاق العام بعد ما الزمهم الميثاق المخصوص بهم فى التورية و الاحتجاج عليهم بالحجج السمعية و العقلية و منعهم عن التقليد و حملهم على النظر و الاستدلال كما قال اللّه تعالى و كذلك نفصل الآيات و لعلهم يرجعون عن التقليد و اتباع الباطل و القائل بهذا التفسير يأول الأحاديث المذكورة ايضا و اللّه اعلم.

١٧٥

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ اى اليهود نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها اى من الآيات بان كفر بها و اعرض عنها قال ابن عباس هو بلعم بن باعور

و قال مجاهد بلعام بن باعور قال عطية عن ابن عباس كان من بنى إسرائيل و روى ابو طلحة عنه انه كان من الكنعانيين من مدينة الجبارين و قال مقاتل من مدينة بلقاء و كانت قصته على ما ذكره ابن عباس و ابن اسحق و السدى و غيرهم ان موسى عليه السلام لما قصد حرب الجبارين و نزل ارض بنى كنعان من ارض الشام اتى قوم الى بلعم و كان عنده اسم الأعظم فقالوا ان موسى عليه السلام رجل حديد و معه جنود كثيرة و انه قد جاءنا يخرجنا من ديارنا و يقتلنا و يحلها بنى إسرائيل و أنت رجل مجاب الدعوة فاخرج فادع اللّه ان يردهم عنا قال ويلكم نبى و معه الملئكة و المؤمنون كيف ادعو عليهم و انا اعلم من اللّه ما اعلم و ان فعلت هذا ذهبت دنياى و آخرتي فراجعوه و ألحوا عليه فقال حتّى او امر ربى تبارك و تعالى و كان لا يدعو حتّى ينظر ما يومر فى المنام فامّر فى الدعاء عليهم فقيل له فى المنام لا تدع عليهم فقال لقومه و أمرت ربى و انى قد نهيت فاهدوا له هدية فقبلها ثم راجعوه فقال حتّى أوامر فامر فلم يجئى له شى ء فقال قد و أمرت فلم يجئ الىّ شى ء فقالوا لو كره ربك ان تدعو عليهم لنهاك كما نهاك فى المرة الاولى فلم يزالوا يتضرعون اليه حتى فتنوه فافتتن فركب أتانا متوجها الى جبل يطلعه على عسكر بنى إسرائيل يقال له حسان فلما سار عليها غير كثير ربصت «١» به فنزل عنها فضربها حتّى قامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربصت فضربها حتّى اذن اللّه لها الكلام و كلمته حجة عليه فقالت ويحك يا بلعم اين تذهب الا ترى الملئكة امامى تردنى عن وجهى هذا تذهب الى نبى اللّه و المؤمنين تدعو عليهم فلم ينزع فخلى اللّه سبيلها فانطلقت حتّى إذا شرفت على جبل حسان جعل لا يدعو عليهم بشئ الا صرف لسانه الى قومه و لا يدعو لقومه بخير الا صرف لسانه الى بنى إسرائيل فقال قومه يا بلعم أ تدري ما تصنع انما تدعوهم و علينا قال هذا ما لا املك هذا شى ء قد غلب اللّه عليه و اندلع لسانه فوقع على صدره فقال لهم قد ذهبت الان منى الدنيا و الاخرة فلم يبق الا المكر و الحيلة فسامكر لكم و احتال جملوا النساء و زينوهن فاعطوهن السلع ثم ارسلوهن الى العسكر يبعنها فيه و مروهن لا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها فانهم ان زنى منهم رجل واحد كفيتموهم ففعلوا فلما دخلت النساء العسكر مرت امرأة من الكنعانيين اسمها كستى بنت صور برجل من عظماء بنى إسرائيل يقال له زهرى بن شلوم راس سبط شمعون بن يعقوب عليه السلام فقام إليها فاخذ بيدها حين أعجبه جمالها ثم اقبل بها حتّى وقف بها على موسى عليه السلام فقال انى أظنك

(١) ربصت اى برلت ١٢.

ستقول هذه حرام عليك قال أجل هى حرام عليك لا تقربها قال فو اللّه لا أطيعك فى هذه ثم دخل بها قبته فوقع عليها فارسل اللّه الطاعون على بنى إسرائيل فى الوقت و كان الفنحاص بن العيزار بن هارون صاحب امر موسى و كان رجلا قد اعطى بسطة فى الخلق و قوة فى البطش و كان غائبا حين صنع زمرى بن شلوم ما صنع فجاء و الطاعون فى بنى إسرائيل فاخبر الخبر فاخذ بحربته و كانت من حديد كلها ثم دخل عليهما القبة و هما متضاجعان فانتظمهما بحربته ثم خرج بهما رافعا إياهما الى السماء و الحربة قد أخذها بذراعه و اعتمد بمرفقه على خاصرته و أسند الحربة الى لحيته و كان بكر العيزار و جعل يقول اللّهم هكذا يفعل بمن يعصيك فرفع الطاعون فهلك من بنى إسرائيل فى الطاعون فيما بين ان أصاب زمرى المرأة الى ان قتله فنحاص سبعون الفا فى ساعة من النهار فمن هناك يعطى بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها القبة و الذراع و اللحى لاعتماده بالحربة على خاصره و اخذه إياهما بذراعه و اسناده إياهما الى لحيته و البكر من كل أموالهم لانه كان بكر العيزار و فى بلعم انزل اللّه عز و جل و اتل عليهم نبا الذي اتيناه آياتنا الاية و قال مقاتل ان ملك البلقاء قال لبلعام ادع اللّه على موسى فقال انه من اهل دينى لا ادعو عليه فتخشب خشبة ليصلبه فلما راى ذلك خرج على أتان له و ليدعو عليه فلما عاين العسكر قامت به الأتان و وقفت فضربها فقالت لم تضربنى انى مامورة و هذه نار امامى قد منعتنى ان امشى فرجع فاخبر الملك فقال لتدعون عليه اولا صلبنك فدعى على موسى بالاسم الأعظم ان لا يدخل المدينة فاستجيب له و وقع بنو إسرائيل فى التيه بدعائه فقال موسى عليه السلام يا رب باى ذنب وقعنا فى التيه فقال بدعاء بلعام قال فكما سمعت دعائه على فاسمع دعائى عليه فدعا موسى عليه السلام ان ينزع منه الاسم الأعظم و الايمان فنزع منه المعرفة و سلخه منها فخرجت منصورة كحمامة بيضاء فذلك قوله تعالى فانسلخ منها و قال عبد اللّه بن عمرو بن العاص و سعيد بن المسيب و زيد بن اسلم و ليث بن سعد نزلت هذه الاية فى امية بن ابى الصلت الثقفي و كانت قصته انه كان قد قرا الكتب و علم ان اللّه مرسل رسولا فرجى ان يكون ذلك الرسول فلما أرسل محمد صلى اللّه عليه و اله و سلم حسده و كفر به و كان صاحب حكمة و موعظة حسنة و كان قصد بعض الملوك فلما رجع مر على قتلى بدر فسأل عنهم فقيل قتلهم محمد صلى اللّه عليه و اله و سلم فقال لو كان نبيا ما قتل أقربائه فلما مات امية أتت أخته فارعة رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم فسألها رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم عن وفات أخيها فقالت بينما هورا قد أتاه إتيان و كشفا سقف البيت فنزلا فقعد أحدهما عند رجليه و الاخر عند راسه فقال الذي عند رجليه للذى عند راسه اوعى قال وعى قال ازكى قال ابى قالت فسالته عن ذلك فقال خير أريد بي فصرف عنى فغشى عليه فلما أفاق قال

كل عيش و ان تطاول دهرا صائر مرة الى ان يزولا

ليتنى كنت قبل ما بدا لى فى قلال الجبال أرعى الوعولا

ان يوم الحساب يوم عظيم شاب فيه الصغير يوما ثقيلا

ثم قال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم انشدينى من شعر أخيك فانشدته بعض قصايده فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم أمن شعره و كفر قلبه فانزل اللّه تعالى و تقدس فيه اتل عليهم نبأ الذي اتيناه آياتنا فانسلخ منها الاية و فى رواية عن ابن عباس انها نزلت فى البسولس رجل من بنى إسرائيل و كان اعطى له ثلث دعوات مستجابات و كانت له امرأة له منها ولد فقالت اجعلنى منها دعوة واحدة فقال لك منها واحدة فما تريدين قالت ادع اللّه ان يجعلنى أجمل امرأة فى بنى إسرائيل فدعالها فجعلت أجمل النساء فى بنى إسرائيل فلما علمت انه ليس فيهم مثلها رغبت عنه فغضب الزوج و دعا عليها فصارت كلبة نباحة فذهبت فيها دعوتان فجاء بنوها و قالوا ليس لنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة نباحة و الناس يعيروننا بها ادع اللّه ان يردها الى الحال التي كانت عليها فعادت كما كانت فذهبت فيها الدعوات كلها

قال البغوي و القولان الأولان اظهر قلت بل القول الثاني يرده قوله تعالى قالوا يا موسى انا لن ندخلها ابدا ما داموا فيها فاذهب أنت و ربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون قال رب انى لا املك الا نفسى و أخي فافرق بيننا و بين القوم الفاسقين قال فانها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون فى الأرض الاية فان ذلك الاية تدل على ان وقوعهم فى التيه لذلك القول لا لدعوة بلعام و اللّه اعلم و قال الحسن و ابن كيسان نزلت فى منافقى اهل الكتاب الذين كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم و قال قتادة هذا مثل ضربه اللّه عز و جل لمن عرض عليه الهدى فابى ان يقبله فذلك قوله تعالى و اتل عليهم نبأ الذي اتيناه آياتنا قال ابن عباس و السدى يعنى الاسم الأعظم قال ابن زيد كان لا يسأل شيئا الا أعطاه و قال ابن عباس فى رواية اخرى اوتى كتابا من كتب اللّه فانسلخ اى خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ يعنى لحقه و قيل استتبعه فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ فصار من الضالين.

١٧٦

وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ الى منازل الأبرار من العلماء بِها اى بسبب تلك الآيات

و قال مجاهد لرفعنا عنه الكفر و عصمناه بالآيات وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ اى مال الى الدنيا و الى السفالة كنى من الدنيا بالأرض لمناسبة الاسفلية او لان ما فيها من البلاد و العقار كلها ارض و سائر متاعها مستخرج من الأرض قال الزجاج خلد و اخلد واحد و أصله من الخلود و هو الدوام و المقام يقال اخلد فلان بالمكان إذا اقام به وَ اتَّبَعَ هَواهُ فى إيثار الدنيا و استرضاء قومه و اعرض عن مقتضيات الآيات أسند اللّه سبحانه الرفع الى مشيئته و الخلود الى الأرض بمعنى الاقامة على الميل الى الدنيا الى العبد اشارة الى ان هذا امر طبعى يقتضيه ذاته لاجل إمكانه و عدمه الذاتي و الرفع الى الدرجات العلى امر وهبى انما يستفاد من سبحانه بفضله و

قال البيضاوي علق رفعه بمشية اللّه ثم استدرك عنه بفعل العبد تنبيها على ان المشيئة سبب لفعله الموجب لرفعه و ان عدمه دليل على عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه و ان السبب الحقيقي هو المشية و ان ما نشاهده من الأسباب وسائط معتبرة فى حصول المسبب من حيث ان المشية تعلقت به كذلك و كان من حقه ان يقول و لكنه اعرض عنها فاوقع موقعه اخلد الى الأرض و اتبع هواه مبالغة و تنبيها على ما حمله عليه و على ان حب الدنيا راس كل خطيئة و هذا حديث مرفوع رواه البيهقي عن الحسن مرسلا فَمَثَلُهُ اى صفته التي هى مثل فى الخسة كَمَثَلِ كصفة الْكَلْبِ فى اخس أحواله و هو إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ اى يخرج لسانه من العطش او من التعب و الاعياء يعنى يلهث دائما سواء حمل عليه بالزجر و الطرد او ترك و لم يتعرض له لضعف فواده بخلاف سائر الحيوانات فانه لا يلهث شى ء منها الا إذا حرك واعيا او عطش و الشرطية فى موضع الحال و المعنى لاهثا فى الحالين ذليلا دائم الذلة قال مجاهد هو مثل الذي يقرأ القران و لا يعمل به و المعنى ان هذا الكافران زجرته و وعظته لم ينزجر و ان تركته لم يهتد فهو ضال ابدا ذليل مثل ذلة الكلب لاهتا ابدا نظير هذه الاية فى المعنى قوله تعالى و ان تدعوهم الى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أ دعوتموهم أم أنتم صامعون ثم عم لهذا التمثيل جميع من كذب بايات اللّه تعالى فقال ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من اليهود حيث قرأوا نعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم فى التورية و بشروا الناس باقتراب مبعثه فلما جاءتهم و اظهر المعجزات

و قرا القران المعجز و عرفوه كما يعرفون أبنائهم انسلخوا من آيات التورية و كفروا بمحمد صلى اللّه عليه و اله و سلم و صاروا أذلاء كالكلب لاهثا لم ينفعهم الزواجر و المواعظ التي فى التورية فَاقْصُصِ الْقَصَصَ المذكورة على اليهود فانها نحو قصصهم لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ تفكرا يؤدى بهم الى الاتعاظ فيحذرون مثل عاقبته إذا ساروا نحو سيرته و قيل هذا مثال الكفار مكة و ذلك انهم كانوا يتمنون هاديا يهديهم و يدعوهم الى طاعة اللّه عز و جل فلما جاء بهم نبى لا يشكون فى صدقه كذبوه فلم يهتدوا و ادعوا او تركوا.

١٧٧

ساءَ فاعله مضمر تميزه مَثَلًا الْقَوْمُ اى مثل القوم حذف المضاف و اعراب المضاف اليه إعرابه الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ أَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ معطوف على كذبوا داخل فى الصلة يعنى الذين كذبوا و ظلموا أنفسهم او منقطع عما سبق و المعنى و ما يظلمون الا أنفسهم فان وباله لا يتخطاها و لذلك قدم المفعول.

١٧٨

مَنْ يَهْدِ اللّه فَهُوَ الْمُهْتَدِي أفرد حملا على لفظة من وَ مَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أورد لفظ الجمع حملا على المعنى فيه تصريح بان الهدى و الضلال من اللّه تعالى و ان هداية اللّه تعالى يختص ببعض دون بعض و انها مستلزمة للاهتداء و ليس معنى الهدى من اللّه البيان كما قالت المعتزلة و فى افراد لفظ المهتدى و جمع الخاسرين تنبيه على ان المهتدين كواحد لاتحاد طريقهم بخلاف الضالين و الاقتصاد فى الأخيار عمن هداه اللّه بالمهتدي تعظيم لشان الاهتداء و تنبيه على انه فى نفسه كمال جسيم و نفع عظيم لو لم يحصل له غيره لكفاه و انه المستلزم للفوز بالنعم الاجلة و العنوان لها عن عمر بن الخطاب انه خطب بالجابية فحمد اللّه و اثنى عليه ثم قال من يهده اللّه فلا مضل له و من يضلل اللّه فلا هادى له فقال له قس بين يديه كلمة بالفارسية فقال عمر لمترجم له ما يقول قال يزعم ان اللّه لا يضل أحدا فقال عمر كذبت يا عدو اللّه بل اللّه خلقك و هو اضلك و هو يدخلك النار ان شاء اللّه تعالى و لو لا ان بيننا عقد لضربت عنقك فتفرق الناس و ما يختلفون فى القدر.

١٧٩

وَ لَقَدْ ذَرَأْنا اى خلقنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ يعنى المصرين على الكفر فى علمه تعالى عن عائشة عنه صلى اللّه عليه و اله و سلم ان اللّه خلق الجنة و خلق لها أهلا و هم فى أصلاب ابائهم و خلق النار و خلق لها أهلا و هم فى أصلاب ابائهم رواه مسلم و نحو ذلك فيما مر من حديث إخراج الذرية من صلب آدم و عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم و فى يديه كتابان فقال أ تدرون ما هذان الكتابان

قلنا لا يا رسول اللّه الا ان تخبرنا فقال للذى فى يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين فيه اسماء اهل الجنة و اسماء ابائهم و قبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم و لا ينقص منهم ابدا ثم قال للذى فى شماله هذا كتاب من رب العالمين فيه اسماء اهل النار و اسماء ابائهم و قبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم و لا ينقص منهم ابدا فقال أصحابه ففيم العمل يا رسول اللّه ان كان امر قد فرغ منه قال سددوا و قاربوا فان صاحب الجنة يختم له بعمل اهل الجنة و ان عمل اىّ عمل و ان صاحب النار يختم له بعمل اهل النار و ان عمل اىّ عمل ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم بيديه فنبذهما ثم قال فرغ ربكم من العباد فريق فى الجنة و فريق فى السعير رواه الترمذي

فان قيل كيف التوفيق بين هذه الاية و و بين قوله تعالى و ما خلقت الجن و الانس الا ليعبدون

قلنا خلق الجن و الانس كلهم للعبادة من حيث نفس الخلق و اصل الحكمة فى خلق العالم من غير ملاحظة علم اللّه فيهم اختيار الكفر و خلق كثيرا من الجن و الانس لجهنم نظرا الى انه تعالى علم منهم اختيار الكفر و حق القول منه لا ملئن جهنم من الجنة و الناس أجمعين و لا منافاة بين الحيثيتين و ما قيل ان قوله تعالى ما خلقت الجن و الانس الا ليعبدون و ان كان عاما صيغة لكن أريد به الخصوص يعنى من علم منهم الايمان و الطاعة فليس بشئ و قول المعتزلة بان هذا لام العاقبة اى ليكون عاقبتهم جهنم فلما كان عاقبتهم جهنم جعل كانهم خلقوا لها قرارا عن ارادة اللّه المعاصي عدول عن الظاهر لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها اى ليس فيها استعداد معرفة الحق و النظر فى دلائله وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها و نظر الاعتبار فى دلائله وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها الآيات و الموعظ سماع تأمل و تذكر أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ فى عدم الفقه و الابصار للاعتبار و الاستماع للتدبر و ان مشاعرهم و قواهم مقصورة على الاكل و الشرب و الجماع و اسباب التعيش بَلْ هُمْ أَضَلُّ من الانعام لان للانعام تميزا بين الضار و النافع من وجه فتجتهد فى جذب المنافع و دفع المضار غاية جهدها و الكفار منهم من يقدمون على النار المؤبدة معاندة مع العلم بالهلاك قال اللّه تعالى يعرفونه كما يعرفون أبنائهم و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم ظلما و علوا و منهم من كابر العقول و ارتكب الفضول و ضيّع ما أودع اللّه فيه من العقل و الشعور فكيف يستوى المكلف المأمور و المخلى المعذور أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ كمال الغفلة لا غيرهم بمثل تلك الغفلة هذه الجملة تدل على ان للانعام و الجمادات شعورا ما بخالقهم ليسوا بغافلين كمال الغفلة و يشهد هذا قوله تعالى و ان من شى ء الا يسبح بحمده و قوله تعالى الم تر ان اللّه يسجد له من فى السموات و من فى الأرض و الشمس و القمر و النجوم و الجبال و الشجر و الدواب و كثير من الناس و كثير حق عليه العذاب قال مقاتل ان رجلا دعا اللّه فى صلوة و دعا الرحمن فقال بعض المشركين من اهل مكة ان محمدا صلى اللّه عليه و اله و سلم و أصحابه يزعمون انهم يعبدون ربا واحدا فما بال هذا يدعو اثنين فانزل اللّه عز و جل.

١٨٠

وَ للّه الْأَسْماءُ الْحُسْنى دالة على معان هى احسن المعاني و المراد بها الألفاظ الدالة على الذات المتصفة بالصفات دون الصفات فحسب و بينهما بون بعيد فَادْعُوهُ بِها اى قسموه بتلك الأسماء فى الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم ان للّه تعالى تسعة و تسعين اسما مائة الا واحدة من أحصاها دخل الجنة و فى رواية و هو وتر يحب الوتر و لم يذكر الشيخان تعيين الأسماء التسعة و التسعين المذكورة فى هذا الحديث لعدم ثبوته على شرطها و ذكر الترمذي و البيهقي فى الدعوات الكبير تعيينها عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم ان للّه تعالى تسعة و تسعين اسما من أحصاها دخل الجنة هو اللّه الذي لا اله الا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلى الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوى المتين الولي الحميد المحصى المبدى المعيد المحى المميت الحي القيوم الواحد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الاول الاخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك ذو الجلال «١» و الإكرام المقسط الجامع الغنى المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور و اعلم ان اسماء اللّه تعالى غير منحصرة فى العدد المذكور و لعل الأسماء المذكورة فى الحديث من خواصها انه من أحصاها دخل الجنة و لذلك ضبطها رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم فى سلك واحد و اعلم ان من الأسماء التي وقعت فى رواية الترمذي لم يقع سبعة و عشرون اسما منها فى القران بصيغة الاسم الصريح و هو القابض و الباسط و الخافض و الرافع و المعز و المذل و العدل و الجليل و الباعث و المحصى و المبدى و المعيد و المميت و الواجد و الماجد و المقدم و المؤخر و الوالي و ذو الجلال و الإكرام و المقسط و المغني و المانع و الضار و النافع و الباقي و الرشيد و الصبور و قد وقع فى القران بصيغة الاسم ما لم يقع فى رواية الترمذي و هو خير و أبقى و اله و شاكر و رب العالمين و أحد و مالك يوم الدين و الأعلى و الأكرم و خفى و اعلم بمن ضل عن سبيله و اعلم بالمهتدين و القريب و النصير و القدير و المبين و الخلاق و المبتلى و الموسع و المليك و الكافي و فاطر السموات و الأرض و القائم بالقسط و غافر الذنب و قابل التوب و شديد العقاب و نعم المولى و الغالب على امره و سريع الحساب و فالق الحب و النوى و فالق الإصباح و جاعل الليل سكنا و علام الغيوب و عالم الغيب و الشهادة و ذو الطول و ذو انتقام و رفيع الدرجات و ذو العرش و ذو المعارج و ذو الفضل العظيم و ذو القوة و ذو المغفرة و جامع الناس ليوم لا ريب فيه و متم نعمته و متم نوره و عدو الكافرين و ولى المؤمنين و القاهر فوق عباده و اسرع الحاسبين و مخرج الميت من الحي و محيى الموتى و ارحم الراحمين و احكم الحاكمين و خير الرازقين و خير الماكرين و خير الفاتحين و مخزى الكافرين و موهن كيد الكافرين

(١) هذا وقع فى التنزيل فى سورة الرحمن ١٢ ابو الخير.

و فعال لما يريد و المستعان و نور السموات و الأرض و اهل التقوى و اهل المغفرة و نعم الماهدون و رب الناس و ملك الناس و اله الناس و اقرب من حبل الوريد و القائم على كل نفس بما كسبت و أحق ان تخشاه الذي هو اغنى و اقنى و الذي هو أمات و احيى و الذي هو اضحك و ابكى و الذي خلق الزوجين الذكر و الأنثى و الذي أهلك عادا الاولى و الذي لم يكن له ولد و لم يكن له شريك فى الملك و لم يكن له ولى من الذل و الذي انزل على عبده الكتاب و الذي بيده ملكوت كل شى ء و الذي يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر و الذي يبدأ الخلق ثم يعيده و الذي بيده الملك و الذي بعث فى الأميين رسولا و نحو ذلك و قوله تعالى لا اله الا أنت سبحانك انى كنت من الظالمين فى الحديث انه الاسم الأعظم و قد ذكرنا تحقيق الاسم الأعظم فى أوائل سورة ال عمران و منها ما وقع فى الأحاديث سوى الحديث المذكور و ليس فى القران كالحنان و المنان و الجواد و الأجود و الفرد و الوتر و الصادق و الجميل و القديم و البار و الوافي و العادل و المعطى و المغيث و الطيب و الطاهر و المبارك و خالق الشمس و القمر المنير و رازق الطفل الصغير و جابر العظم الكسير و كبير كل كبير و الذي نفسى بيده و غير ذلك ثم اعلم ان اسماء اللّه تعالى غير منحصرة فيما ورد فى القران و الأحاديث فقد روى انه تعالى انزل فى التورية الفا من أسمائه و قد كان من دعائه صلى اللّه عليه و اله و سلم اللّهم انى أسئلك بكل اسم هو لك سميت به نفسك و أنزلته فى كتابك او علمته أحدا من خلقك او استأثرت به فى علم الغيب عندك فلا بد من الايمان مجملا بجميع اسماء اللّه تعالى التي سمى اللّه تعالى بها نفسه.

وَ ذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ قرأ حمزة هنا و فى فصلت بفتح الياء و الحاء و الباقون بضم الياء و كسر الحاء و معنى الإلحاد و اللحد الميل عن القصد قال يعقوب بن السكيت الإلحاد هو العدول عن الحق و إدخال ما ليس منه فيه يقال الحد فى الدين و لحد و الذين يلحدون فى أسمائه هم المشركون عدلوا بأسماء اللّه عما هى عليه فسموا بها أوثانهم فزادوا و نقصوا فاشتقوا اللات من اللّه و العزى من العزيز و مناة من المنان هذا قول ابن عباس و مجاهد و قيل هو تسميتهم الأصنام الهة روى عن ابن عباس معنى يلحدون فى أسمائه يكذبون و قال اهل المعاني الإلحاد فى اسماء اللّه تعالى تسميته تعالى بما لم يتسم و لم ينطق به كتاب اللّه و سنة رسوله صلى اللّه عليه و اله و سلم و الحاصل ان اسماء اللّه تعالى توقيفية فانه يسمى جوادا و لا يسمى سخيا و يسمى عالما و لا يسمى عاقلا و يسمى رحيما و لا يسمى رقيقا و قال اللّه عز و جل يخادعون اللّه و هو خادعهم و قال عز و جل و مكروا و مكر اللّه و لا يقال يا خادع يا مكار و يقال يا قائم بالقسط و لا يقال يا قائم و لا يقال يا خالق القردة و الخنازير و يا كبير من زيد و ان كان زيد اكبر من ملوك الدنيا بل يدعى بأسمائه التي ورد بها التوقيف على وجه التعظيم و لا يجوز لنا أخذ اسم من اسماء اللّه تعالى التي ورد فى التورية من اليهود لعدم الاعتماد على قولهم لكفرهم لكن من اسلم من أحبارهم و حسن إسلامه فلا بأس بالأخذ منه فان عمر رضى اللّه عنه و ابن عباس و أبا هريرة و غيرهم من الصحابة كانوا يسألون أبناء التورية من كتب الأحبار و عبد اللّه بن سلام من غير نكير فمعنى الاية على هذا و ذروا تسمية الزائغين فيها الذين يسمونه بما لم يرد به الشرع او المعنى ذروا الملحدين يعنى لا تبالوا بانكارهم فيما سمى به نفسه كقولهم ما نعرف إلا رحمن اليمامة او المعنى ذروهم و الحادهم فيها بإطلاقها على الأصنام و اشتقاق أسمائها منها كاللات و لا توافقوهم عليه او اعرضوا عنهم فان اللّه مجازيهم كما قال سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ

١٨١

وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ

قال البغوي قال عطاء عن ابن عباس يريد امة محمد صلى اللّه عليه و اله و سلم و هم المهاجرون و الأنصار و التابعون بإحسان و قال قتادة بلغنا ان النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم كان إذا قرا هذه الاية قال هذه لكم و قد اعطى القوم بين ايديكم مثلها و من قوم موسى امة يهدون بالحق و به يعدلون و قال الكلبي هم من جميع الخلق و على كلا التقديرين ذكر اللّه تعالى فى هذه الاية بعد ما بيّن انه خلق للنار طائفة ظالمين ملحدين عن الحق انه خلق للجنة امة هاذين عادلين فى الأمر و الاستدلال بهذه الاية على صحة اجماع كل عصر ضعيف إذ لا دلالة فيها على ان فى كل فرقة طائفة بهذه الصفة فلا مساس لهذه الاية بقوله صلى اللّه عليه و اله و سلم لا يزال من أمتي امة قائمة بامر اللّه لا يضرهم من خذلهم و لا من خالفهم حتّى يأتي امر اللّه و هم على ذلك متفق عليه من حديث معاوية بن ابى سفيان و المغيرة بن شعبة.

١٨٢

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعنى كفار مكة سَنَسْتَدْرِجُهُمْ يعنى سنقربهم الى الهلاك قليلا قليلا و اصل الاستدراج الاستصعاد او الاستنزال درجة بعد درجة مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ قال عطاء سنمكر بهم من حيث لا يعلمون و قال الكلبي تزين لهم أعمالهم فنهلكهم و قال الضحاك كلما جددوا معصية جددنا لهم نعمة و قال سفيان الثوري نسبغ عليهم النعمة و ننسيهم الشكر.

١٨٣

وَ أُمْلِي لَهُمْ عطف على سنستدرجهم يعنى امهلهم و أطيل لهم مدة عمرهم و ازين أعمالهم السوء و امهلها ليتمادوا فى المعاصي المفضية الى الهلاك إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ اى أخذي شديد و انما سماه كيدا لان ظاهره احسان و باطنه خذلان قال ابن عباس ان مكرى شديد قيل نزلت فى المستهزئين فقتلهم اللّه فى ليلة واحدة و اللّه اعلم اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ عن قتادة قال ذكر لنا ان النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم قام على الصفا ليلا فجعل يدعو قريشا فخذا فخذا يا بنى فلان يا بنى فلان يحذرهم بأس اللّه و وقائعه فقال قائلهم ان صاحبكم هذا لمجنون بات يصوت الى الصباح فانزل اللّه تعالى.

١٨٤

أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا سكته ما بِصاحِبِهِمْ محمد صلى اللّه عليه و اله و سلم مِنْ جِنَّةٍ اى جنون إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ موضح إنذاره بصوره جلى بحيث لا يخفى على أحد.

١٨٥

أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا نظر استدلال فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما خَلَقَ اللّه مِنْ شَيْ ءٍ يعنى ما يقع عليه اسم الشي ء من الأجناس التي لا يحصى الدلالة على كمال قدرة صانعها و وحدته ليظهر لهم صحة ما يدعوهم اليه وَ أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ عطف على ملكوت و ان مصدرية او خفيفة عن الثقيلة و اسمه ضمير الشان و كذا اسم يكون و المعنى او لم ينظروا فى اقتراب اجالهم و توقع حلولها حتّى يسارعوا الى طلب الحق و التوجه الى ما ينجيهم قبل حلول اجالهم و الاستفهام فى او لم يتفكروا و او لم ينظروا للانكار و التعجب و الواو للعطف على محذوف تقديره الم يؤمنوا بالقران و النبي و رموه بالجنون و لم يتفكروا و لم ينظروا فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ اى بعد القران العربي المعجز المشحون من العلم و الحكمة على لسان رجل منهم أمي غير متهم قط بالكذب يُؤْمِنُونَ إذا لم يؤمنوا بالقران يعنى لعل اجالهم قريبة فما بالهم لا يتبادرون الايمان بالقران و ما يطلبون أوضح دليل منه فاذا لم يؤمنوا به فباى حديث أحق منه يريدون ان يؤمنوا به ثم ذكر علة اعراضهم فقال.

١٨٦

مَنْ يُضْلِلِ اللّه فَلا هادِيَ لَهُ وَ يَذَرُهُمْ قرأ ابو عمرو و عاصم و حمزة و الكسائي بالياء على الغيبة و الضمير راجع الى اللّه و الباقون بالنون على التكلم

و قرا حمزة و الكسائي يذرهم بالجزم عطفا على محل فلا هادى له كانه قال فلا يهده أحد غيره و يذرهم و الباقون بالرفع على الاستيناف فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ يترددون متحيرين يعمهون حال من الضمير المنصوب فى يذرهم اخرج ابن جرير عن قتادة و غيره انه قالت قريش لرسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم ان بيننا و بينك قرابة فاشر إلينا متى الساعة

و اخرج ابن جرير و غيره عن ابن عباس قال قال حمل بن ابى قشير و سمول بن زيد لرسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم متى الساعة ان كنت نبيا كما تقول فانا نعلم ما هى فانزل اللّه تعالى.

١٨٧

يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ اى القيامة و هى من الأسماء الغالبة و إطلاقها عليها اما لوقوعها بغتة او لسرعة حسابها او لانها على طولها عند اللّه كساعة أَيَّانَ متى مُرْساها مصدر ميمى يعنى ارسائها اى إثباتها و استقرارها و رسوا لشئ ثباته و استقراره و منه رسا الجبل و ارسى السفينة قال ابن عباس معناه منتهاها و قال قتادة قيامها قُلْ يا محمد إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي استأثر بعلمها لا يعلمها الا هو لم يطلع عليه ملكا مقربا و لا نبيا مرسلا لا يُجَلِّيها اى لا يظهر أمرها و لا يكشف خفائها لِوَقْتِها اى فى وقتها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ اى ثقل علمها و خفى أمرها بأعلى اهل السموات و الأرض و كل خفى ثقيل او يقال كل من اهل السموات و الأرض من الملئكة و غيرهم أهمه شان الساعة و يتمنى ان يتجل له علمها و شق عليه خفائها او ثقلت فيها لانهم يخافون شدائدها و أهوالها و قال الحسن معناه إذا جاءت ثقلت على أهلها من الملئكة و الثقلين و عظمت كانه اشارة الى الحكمة فى اخفائها لا تَأْتِيكُمْ الساعة إِلَّا بَغْتَةً فجاءة على غفلة فى الصحيحين عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم قال لتقومن الساعة و قد نشر الرجلان ثوبا بينهما فلا يتبايعانه و لا يطويانه و لتقومن الساعة و هو يليط حوضه فلا يسقى فيه و لتقومن الساعة و قد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمها و لتقومن الساعة و قد رفع أكلته الى فيه فلا يطعمها

و اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عمر قال لينفخن فى الصور و الناس فى طرقهم و أسواقهم و مجالسهم حتى ليكون بين الرجلين يتساومان فما يرسله أحدهما من يده حتّى ينفخ فى الصور فيصعق به قال و هى التي قال اللّه تعالى ما ينظرون الا صيحة واحدة قال تقوم الساعة و الناس فى أسواقهم يتبايعون و يذرعون الثياب و يحلبون اللقاح و فى حوائجهم فلا يستطيعون توصية و لا الى أهلهم يرجعون

و اخرج عبد اللّه بن احمد فى رواية الزهد عن زيد بن العوام قال ان الساعة تقوم و الرجل يذرع الثوب و الرجل يحلب الناقة ثم قرا فلا يستطيعون توصية الاية

و اخرج الطبراني بسند جيد عن عقبة بن عامر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم يطلع عليكم قبل الساعة سحابة سوداء من قبل المغرب مثل الترس فلا تزال ترتفع فى السماء تنتشر حتى تملأ السماء ثم ينادى مناديا ايها الناس اتى امر اللّه فلا تستعجلوه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم و الذي نفسى بيده ان الرجلان ينشران الثوب فلا يطويانه و ان الرجل ليمدد حوضه «١» فلا يسقى منه شيئا و الرجل يحلب ناقته فلا يشربه يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها فعيل من حفى الشي ء إذا سال عنه و بالغ فى السؤال و المعنى كانك عالم بها فانه من بالغ فى السؤال عن الشي ء و البحث عنه استحكم علمه فيه و لذلك عدى بعن و قيل عنها متعلق يسئلونك تقديره يسألونك عنها كانك حفى اى عالم و قيل هو من الحفاوة بمعنى الشفقة فان قريشا قالوا ان بيننا و بينك قرابة فقل لنا متى الساعة و المعنى يسألونك عنها كانك شفيق بقريش تخصهم بالاطلاع عليها لاجل قرابتك بهم قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللّه كرره لتكرير يسألونك لمانيط به قوله كانك حفى و للمبالغة وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ان علمها مما استاثره اللّه و لم يوته أحدا من خلقه.

(١) امدد الحوض طينه لتستلب منه الماء ١٢.

١٨٨

قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا اى جلب منفعة و لا دفع مضرة دينية و لا دنيوية و هو اظهار للعبودية و التبري عن دعوى العلم بالغيب إِلَّا ما شاءَ اللّه من ذلك فيعلمنى به وحيا جليا او خفيا و يعطنى قدرة على جلب النفع او دفع الضرر وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ يعنى لاستكثرت من جلب المنافع و دفع المضار حتّى لا يمسنى سوء و لم أكن مغلوبا فى الحروب تارة و غالبا اخرى و قيل معناه لو كنت اعلم الغيب يعنى متى أموت لاستكثرت من العمل الصالح و ما مسنى السوء يعنى اجتنب عما يكون من الشر و الفتنة و قيل معناه لو كنت اعلم الغيب اى متى الساعة لاخبرتكم حتّى تؤمنوا و ما مسّنى السوء بتكذيبكم و قيل ما مسنى السوء كلام مبتدأ رد لقولهم انك مجنون يعنى ما مسنى جنون إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ للكافرين وَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يصدقون و جاز ان يكون لقوم يؤمنون متعلقا لبشير و نذير كليهما على سبيل تنازع الفعلين فان النذارة و البشارة انما ينفعان فيهم.

١٨٩

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعنى آدم عليه السلام وَ جَعَلَ مِنْها اى من جسدها من ضلع من أضلاعها زَوْجَها حواء لِيَسْكُنَ إِلَيْها اى ليانس بها و يطمئن إليها ذكر للضمير ذهابا الى المعنى ليناسب قوله فَلَمَّا تَغَشَّاها اى جامعها حَمَلَتْ حواء حَمْلًا خَفِيفاً خف عليها و لم تلق منه ما تلقى الحوامل غالبا من الأذى او محمولا خفيفا و هو النطفة فَمَرَّتْ بِهِ اى فمضت به الى وقت ميلاده من غير إخراج و لا ازلاق او فاستمرت به و قامت و قعدت و لم يثقلها فَلَمَّا أَثْقَلَتْ اى صارت ذات ثقل إذ اكبر الولد فى بطنها دَعَوَا اللّه رَبَّهُما اى دعا آدم و حواء لَئِنْ آتَيْتَنا يا ربنا صالِحاً سويّا قد صلح بدنه مثلنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لك على هذه النعمة المجددة

قال البغوي قال المفسرون لما حملت حواء أتاها إبليس فى صورة رجل و قال لها ما الذي فى بطنك قالت ما أدرى قال أخاف ان يكون بهيمة او كلبا او خنزيرا و ما يدريك من اين يخرج من دبرك فيقتلك او من فيك او ينشق بطنك فخافت حواء من ذلك و ذكرت ذلك لادم عليه السلام فلم يزالا فى هم من ذلك ثم عاد إليها فقال انى من اللّه بمنزلة فان دعوت اللّه ان يجعله خلقا سويا مثلك و يسهل عليك خروجه أ تسميه عبد الحارث و كان اسم إبليس فى الملئكة الحارث فذكرت لادم عليه السلام فقال لعله صاحبنا الذي قد علمت فعاودها إبليس فلم يزل بهما إبليس حتى غرهما فلما ولدت سمياه عبد الحارث قال الكلبي قال لها ان دعوت اللّه فولدت إنسانا أ تسميه بي قالت نعم فلما ولدت قال سميه بي قالت و ما اسمك قال الحارث و لو سمى لها نفسه لعرفته فسمته عبد الحارث و روى عن ابن عباس قال كانت حواء تلد و آدم يسميه عبد اللّه و عبيد اللّه و عبد الرحمن فيصيبهم الموت فسمياه عبد الحارث فعاش

و اخرج احمد و الترمذي و حسنه و قال غريب و الحاكم و صححه عن سمرة بن جندب رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم لما ولدت حواء طاف بها إبليس و كان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحارث فانه يعيش فسمته فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان و امره

قال البغوي جاء فى الحديث انه خدمهما إبليس مرتين مرة فى الجنة و مرة فى الأرض و قال ابن زيد ولد لادم فسماه عبد اللّه فاتها إبليس فقال ما سميتهما ابنكما قالا عبد اللّه و كان قد ولد لهما قبل ذلك ولد فسمياه عبد اللّه فمات فقال إبليس أ تظنان ان اللّه تارك عبده عندكما و اللّه ليذهبن به كما ذهب بالاخر و لكن أدلكما على اسم يبقى لكما ما بقيتما فسمياه عبد الشمس

قال البغوي و الاول أصح.

١٩٠

فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً بشرا سويا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما قرأ ابو بكر شركاء بكسر الشين و التنوين اى شركة قال ابو عبيدة يعنى حظا و نصيبا

و قرا الآخرون بضم الشين و فتح الراء و المد و الهمز جمع شريك

قال البغوي اخبر عن الواحد بلفظ الجمع اى جعلا له شريكا إذ سمياه عبد الحارث و قال لم يكن هذا اشراكا فى العبادة و لا فى اعتقاد ان الحارث ربهما فان آدم كان نبيا معصوما من الشرك و لكن قصد ان الحارث كان سبب نجاة الولد و سلامة امه و قد يطلق اسم العبد على من لا يراد به انه مملوك كما يطلق اسم الرب على من لا يراد به انه معبود و هذا كالرجل إذا نزل به ضيف يسمى نفسه عبد الضيف على وجه الخضوع لا على ان الضيف ربه و يقول للغير انا عبدك و قال يوسف لعزيز مصر انه ربى احسن مثواى و لم يرد به انه معبوده كذلك هذا و قال الحسن و عكرمة معنى قوله تعالى جعلا له شركاء انه جعل أولادهما يعنى كفار مكة و غيرهم له تعالى شركاء فيما اتى أولادهما على حذف المضاف فى الموضعين و اقامة المضاف اليه مقامه نظيره قوله تعالى ثم اتخذتم العجل و إذ قتلتم نفسا خطابا للذين كانوا فى عهد النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم من اليهود و كان ذلك من فعل ابائهم و المعنى ثم اتخذ آباؤكم العجل و إذ قتل اسلافكم نفسا و يؤيد هذا القول إيراد شركاء بصيغة الجمع و قوله تعالى فَتَعالَى اللّه عَمَّا يُشْرِكُونَ يعنى الأصنام و كذا ما بعدها من الآيات و

قال البغوي قيل هذا ابتداء كلام و أراد به اشراك اهل مكة و لئن أراد ما سبق فمستقيم من حيث انه كان الاولى بهما ان لا يفعلا ما فعلا من الإشراك فى الاسم و قال السيوطي هذا معطوف على خلقكم و ما بينهما اعتراض و

قال البغوي و قيل هم اليهود و النصارى رزقهم اللّه أولادا فهودوهم و نصروهم و قال ابن كيسان هم الكفار سموا أولادهم عبد العزى و عبد اللات و عبد المناف و عبد الشمس و قال عكرمة خاطب كل واحد من الخلق بقوله خلقكم من نفس واحدة اى من أبيه و جعل منها اى من جنسها زوجها

قال البغوي و هذا قول الحسن و الاول قول السلف ابن عباس و مجاهد و سعيد بن المسيب و جماعة من المفسرين انه آدم و حواء قلت ذكر اللّه سبحانه من آدم قصة أكل الشجرة بعد ما نهى عنه و اشنع عليه فى القران فى عدة مواضع حيث قال و عصى آدم ربه فغوى و ذكر انه ندم على ذلك كثيرا حيث قال ربنا ظلمنا أنفسنا و ان لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين فتاب اللّه سبحانه عليه و قال ثم اجتباه ربه فتاب عليه و هدى و مع ذلك ندم آدم على تلك الزلة ابدا حتّى انه ورد فى الصحيحين فى حديث طويل عن انس ان النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم قال يحبس المؤمنون يوم القيامة حتّى يهموا بذلك فيقولون لو استشفعنا الى ربنا فيريحنا من مكاننا فياتون آدم فيقولون أنت آدم ابو الناس خلقك اللّه بيده و أسكنك جنته و اسجد لك ملئكته و علمك اسماء كل شى ء اشفع لنا عند ربك فيريحنا من مكاننا هذا فيقول لست هناكم و يذكر خطيئته التي أصاب أكله من الشجرة و قد نهى عنها و لم يذكر هذا الخطيئة من آدم عليه السلام و لو كانت تلك الخطيئة من آدم عليه السلام لكانت اغلظ من الاولى فى هذا المقام تاويل النصوص على ما قال الحسن و عكرمة.

١٩١

أَ يُشْرِكُونَ به تعالى ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً يعنى إبليس و الأصنام وَ هُمْ يُخْلَقُونَ هم ضمير للاصنام جئ به بناء على تسميتهم الهة.

١٩٢

وَ لا يَسْتَطِيعُونَ اى الأصنام لَهُمْ لعبدتهم نَصْراً وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ فيدفعون عن أنفسهم مكروه من أرادهم بكسر او نحو ذلك.

١٩٣

وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ اى المشركين إِلَى الْهُدى اى الإسلام لا يَتَّبِعُوكُمْ قرأ نافع هاهنا و فى الشعراء يتبعهم الغاوون بسكون التاء المثناة من فوق و فتح الموحدة من المجرد و الباقون بتشديد المثناة و كسر الموحدة من الافتعال و هما بمعنى يقال تبعه و اتبعه اتباعا و قيل الخطاب للمشركين و الضمير المنصوب فى تدعوهم للاصنام اى ان تدعوا ايها الكفار الأصنام الى ان يهدوكم لا يتبعوكم اى لا يجيبوكم الى مرادكم كما يجيب اللّه سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ لم يقل أم صمتم لرعاية رؤس الاى و للمبالغة فى عدم إفادة الدعاء من حيث ان الدعاء مستو بالثبات على الصمات او لانهم ما كانوا يدعونها لحوائجهم فكانه قيل سواء عليكم أحداثكم دعائهم و استمراركم على الصمات عن دعائهم.

١٩٤

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ ايها المشركون مِنْ دُونِ اللّه اى تعبدونهم و تسمونهم الهة عِبادٌ أَمْثالُكُمْ اى مخلوقة مملوكة مذللة مسخرة لما أريد منهم قال مقاتل أراد به الملئكة و الخطاب مع قوم يعبدون الملئكة و الاول أصح فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ انها الهة و يحتمل انهم لما نحتوا الأصنام بصورا لاناسى قال لهم ان منتهى أمرهم ان يكونوا احياء عقلاء أمثالكم فلا يستحقون عبادتكم كما لا يستحقها بعضكم من بعض ثم بين انها دونكم منزلة فقال.

١٩٥

أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها قرأ ابو جعفر هاهنا و فى القصص و الدخان بضم الطاء و الباقون بكسرها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها كما هى لكم فكيف تعبدون ما هى أدون منكم منزلة قُلِ يا محمد ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ايها المشركون ثُمَّ كِيدُونِ قرأ هشام بخلاف عنه بإثبات الياء فى الحالين و ابو عمرو بإثباتها فى الوصل خاصة و الباقون بحذفها فى الحالين يعنى بالغوا فيما تقدرون أنتم و شركاؤكم فى المكر و إصابة المكروه فَلا تُنْظِرُونِ فلا تمهلونى فانى لا أبالي بكم لوثوقى على ولاية اللّه تعالى و حفظه.

١٩٦

إِنَّ وَلِيِّيَ اى حفيظى اللّه الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ القران وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ من عباده فضلا من أنبيائه قال ابن عباس الذي لا يعدلون باللّه شيئا فاللّه يتولاهم بنصره و لا يضرهم عداوة من عاداهم.

١٩٧

وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ من تمام التعليل لعدم مبالاته بهم.

١٩٨

وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا يعنى الأصنام وَ تَراهُمْ ايها المخاطب يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ يعنى انهم يشهون الناظر إليك لانهم صوروا الصورة الإنسان و قال الحسن معنى الاية ان تدعوهم يعنى المشركين على الإسلام لا يسمعوا اى لا يعقلون ذلك بقلوبهم و تراهم ينظرون إليك بأعينهم و هم لا يبصرون بقلوبهم و اللّه اعلم.

١٩٩

خُذِ الْعَفْوَ قال عبد اللّه بن الزبير و مجاهد امر اللّه سبحانه نبيه صلى اللّه عليه و اله و سلم ان يأخذ العفو من اخلاق الناس و أعمالهم و ما يسهل عليهم و ذلك مثل قبول اعتذار و العفو و المساهلة و ترك البحث عن الأشياء و التجسس و نحو ذلك و لا تطلب ما يشق عليهم فالعفو هو ضد الجهد و قيل معناه خذ العفو عن المذنبين اخرج البخاري عن ابن عباس قال قدم عيينة بن حصين بن حذيفة فدخل على ابن أخيه الحر بن يقيس و كان من النفر الذين يدنيهم عمر و كان القراء اصحاب مجالس عمر و مشاورته كهولا كانوا او شبانا فقال عيينة لابن أخيه يا ابن أخي هل لك وجه عند هذا فاستاذن لى عليه قال ساستاذن لك عليه قال ابن عباس فاستاذن الحر للعيينة فاذن له عمر فلما دخل قال يا ابن الخطاب فو اللّه ما تعطينا الجزل و لا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتّى هم ان يوقع به فقال الحسن يا امير المؤمنين ان اللّه عز و جل قال لنبيه صلى اللّه عليه و اله و سلم خذ العفو و امر بالعرف و اعرض عن الجاهلين و ان هذا من الجاهلين و اللّه ما جاوزها عمر حين تلاها عليه و كان وقافا عند كتاب اللّه عز و جل عن انس بن مالك ان النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم قال إذا وقف العباد للحساب جاء قوم فذكر الحديث و فيه ثم نادى مناد ليقم من اجره على اللّه فليدخل الجنة قيل و من ذا الذي اجره على اللّه قال العافون عن الناس فقام كذا و كذا الفا فدخلوها بغير حساب رواه الطبراني بإسناد حسن و روى انه نزلت هذه الاية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم لجبرئيل ما هذا قال لا أدرى حتّى اسأل ربى ثم رجع فقال ان ربك أمرك ان تصل من قطعك و تعطى من حرمك تعفو عمن ظلمك رواه ابن مردوية عن جابر و ابن ابى الدنيا و ابن جرير و ابن ابى حاتم عن الشعبي مرسلا و عن ابى بن كعب ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم قال من سره ان يشرف له البنيان و يرفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه و يعط من حرمه و يصل من قطعه رواه الحاكم و قال صحيح الاسناد كذا قال لكنه منقطع و عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم ليس الواصل بالمكافئ و لكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها رواه البخاري و عن ابى هريرة ان رجلا قال يا رسول اللّه ان لى قرابة أصلهم و يقطعونى و احسن إليهم و يسيئو الى و أحلم عنهم و يجهلون علىّ فقال لئن كنت كما قلت فكانما تسفّهم المل «١» و لا يزال معك من اللّه ظهير عليهم ما دمت على ذلك رواه مسلم و قال ابن عباس و الضحاك و الكلبي معنى الاية خذ ما عفا لك من الأموال و هو الفضل من العيال و ذلك معنى العفو فى قوله تعالى يسألونك ماذا ينفقون قل العفو ثم نسخت هذه بالصدقات المفروضات وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ اى بما هو معروف حسنة من الافعال شرعا و عقلا عن ابى سعيد الخدري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم قال من راى منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه و ذلك أضعف الايمان رواه مسلم و عن حذيفة ان النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم قال و الذي نفسى بيده لتأمرن بالمعروف و لتنهن عن المنكر او ليوشكن اللّه ان يبعث عليكم عذابا من عنده ثم لتد عنه و لا يستجاب لكم رواه الترمذي وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ يعنى إذا سفه عليك الجاهلون فلا تقابلهم بالسفه و لا تكافيهم بمثل أفعالهم نظيره قوله تعالى و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما قال جعفر الصادق رضى اللّه عنه امر اللّه نبيه صلى اللّه عليه و اله و سلم بمكارم الأخلاق و ليس فى القران اية اجمع لمكارم الأخلاق من هذه الاية و عن جابر رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم ان اللّه عز و جل بعثني لتمام مكارم الأخلاق و تمام محاسن الافعال رواه البغوي و عن عائشة انها قالت لم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم فاحشا و لا متفحشا و لا سخابا فى الأسواق و لا يجزى السيئة بالسيئة و لكن يعفو و يصفح رواه الترمذي و البغوي.

(١) المل الرمال الحار الذي يحمى ليدفن فيه الخبز لينضج أراد انما تجعل المل لهم سقوفا يستفونه حتّى ان عطاءك إياهم حرام عليهم و نار فى بطونهم ١٢ [.....].

٢٠٠

وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ ما زائدة بعد ان الشرطية و النزع النخس و هو الضرب برؤس الأصابع و المراد هاهنا التحريك الى الشر و الإغراء و الوسوسة و المعنى ان يصيبك و يعتريك مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ قال عبد الرحمن بن زيد لما نزلت قوله تعالى خذ العفو قال النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم كيف يا رب و الغضب فنزل و اما ينزغنك من الشيطان نزغ فَاسْتَعِذْ بِاللّه اى استجر به جواب الأمر محذوف اى يدفعه عنك إِنَّهُ سَمِيعٌ لقولك عَلِيمٌ بالتجائك و بما فيه صلاح أمرك فيحملك عليه او سميع لاقوال من اذاك عليم بأفعاله فيجازيه عليها مغنينا إياك عن الانتقام و اتباع الشيطان.

٢٠١

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ قرأ نافع و ابن عامر و عاصم و حمزة على وزن فاعل من طاف يطوف و المراد به لمة كانها طافت بهم و دارت حولهم فلم يقدر ان يؤثر فيهم او من طاف به الخيال يطيف طيفا

و قرا ابن كثير و ابو عمرو و الكسائي و يعقوب طيف بغير همز على انه مصدر على وزن ضرب او مخفف طيّف على وزن ليّن و هيّن مِنَ الشَّيْطانِ المراد به الجنس و لذلك جمع ضميره «١» تَذَكَّرُوا ما امر اللّه به و نهى عنه و ثوابه و عقابه و ان هذه لمة من الشيطان فَإِذا هُمْ اى الذين اتقوا مُبْصِرُونَ مواقع الخطاء مكائد الشيطان بسبب التذكر فيتحرّزون عنها و لا يتبعونه فيها قال السدى المتقى إذ ازل تاب و قال مقاتل ان المتقى إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر و عرف انه معصية فابصر و نزع عن مخالفة اللّه تعالى و الاية تأكيد و تقرير لما قبلها و كذا قوله.

(١) فى و إخوانهم ١٢ ابو الخير.

٢٠٢

وَ إِخْوانُهُمْ اى اخوان الشياطين يعنى الفساق و جاز ان يكون المراد بالاخوان الشياطين و يعود الضمير الى الجاهلين قال الكلبي لكل كافراخ من الشياطين يَمُدُّونَهُمْ قرأ نافع بضم الياء و كسر الميم من الامداد و الباقون بفتح الياء و ضم الميم من المجرد يعنى يمدهم الشياطين اى يعينونهم بالتسهيل و الإغراء او هم يمدون الشياطين بالاتباع و الامتثال فِي الغَيِّ اى الضلال ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ اى لا يكفوا الفساق عن الضلالة و لا يبصرون بخلاف المؤمنين تذكروا فاذا هم مبصرون كذا قال الضحاك و مقاتل او المعنى ثم لا يكفون الشياطين عن اغوائهم حتّى يردونهم قال ابن عباس لا الانس يقصرون عما يعملون من السيئات و لا الشياطين يمسكون عنهم.

٢٠٣

وَ إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ يا محمد بِآيَةٍ من القران او معجزة مما اقترحوه قالُوا يعنى الكفار لَوْ لا اجْتَبَيْتَها اى هلا جمعتها تقولا من نفسك يقول العرب اجتبيت الكلام إذا اختلقته او هلا أخذتها من اللّه قال الكلبي كان اهل مكة يسألون النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم الآيات تعنتا فاذا تأخرت اتهموه و قالوا لو لا اجتبيتها اى هلا أنشأتها من عندك قُلْ لهم يا محمد إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي اى لست بمختلق للايات او لست بمقترح لها هذا القران بَصائِرُ للقلوب بها تبصر الحق من الباطل و الصواب من الخطاء او حجج و برهان يظهر بها صدق دعواى مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

٢٠٤

وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ اخرج ابن ابى شيبة فى المصنف و ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ و ابن مردوية و البيهقي فى سننه من طريق ابى عياض عن ابى هريرة قال كانوا يتكلمون فى الصلاة فنزلت هذه الاية و فى رواية عنه انها نزلت فى رفع الأصوات خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم

و اخرج ابن ابى حاتم و ابن مردوية عن ابن مسعود انه سلم على رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم و هو يصلى فلم يرد و كان الرجل قبل ذلك يتكلم فى صلوته و يأمر لحاجته فلما فرغ رد عليه و قال ان اللّه يفعل ما يشاء و انها نزلت و إذا قرا القران فاستمعوا له و انصتوا لعلكم ترحمون

و اخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال كنا نسلم بعضنا على بعض فى الصلاة فنزلت فاستمعوا له و انصتوا

و اخرج ابن مردوية و البيهقي فى سننه عن عبد اللّه بن مغفل قال كان الناس يتكلمون فى الصلاة فأنزل اللّه هذه الاية فنهى النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم عن الكلام فى الصلاة

و اخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابو الشيخ و ابن جرير و البيهقي عن قتادة قال كانوا يتكلمون فى الصلاة أول ما أمروا بها كان الرجل يجئ و هم فى الصلاة فيقول لصاحبه كم صليتم فيقول كذا و كذا فانزل اللّه هذه الاية فامروا بالاستماع و الإنصات

و اخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال كانوا يتكلمون فى الصلاة فانزل اللّه هذه الاية فهذه الروايات تدل على ان الاية نزلت للنهى عن الكلام فى الصلاة فقال ابو حنيفة رحمه اللّه و هو رواية عن احمد ان الكلام فى الصلاة عامدا كان او ناسيا او ساهيا او مكرها او جاهلا بالتحريم قل او كثر ينقض الصلاة غير ان السلام ناسيا غير مبطل للصلوة و عند الائمة الثلاثة إذا تكلم فى صلوته او سلم ناسيا او جاهلا بالتحريم او سبق لها لسانه لا يبطل صلوته و ان طال و الأصح عند الشافعي ان الكلام ناسيا و نحو ذلك ان طال يبطل و عن مالك ان كلام العامد فيما فيه مصلحة و ان لم يكن عائدة الى الصلاة كارشاد الضال و تحذير الضرير لا يبطل الصلاة احتج الائمة الثلاثة بحديث ابن سيرين عن ابى هريرة قال صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم احدى صلوة العشاء فصلى ركعتين ثم سلم فقام الى خشبة معروضة فى المسجد فاتكأ عليها كانه غضبان و وضع يده اليمنى على اليسرى و شبك بين أصابعه و وضع خده الايمن على ظهر كفه اليسرى و خرجت السرعان من أبواب المسجد فقالوا قصرت الصلاة و فى القوم ابو بكر و عمر فهاباه ان يكلماه و فى القوم رجل فى يديه طول يقال له ذو اليدين فقال يا رسول اللّه نسيت أم قصرت الصلاة فقال لم انس و لم تقصر فقال أ كما يقول ذو اليدين فقالوا نعم فتقدم فصلى ما ترك ثم سلم ثم كبر و سجد مثل سجوده او أطول ثم رفع راسه ثم كبر و سجد مثل سجوده او أطول ثم رفع راسه و كبر فربما سألوه ثم سلم فيقول يعنى ابن سيرين نبئت ان عمران بن حصين قال ثم سلم متفق عليه و بحديث عمران بن حصين ان النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم سلّم فى ثلث ركعات من العصر ثم دخل منزله فقام اليه رجل يقال له الخرباق و كان فى يديه طول فقال يا رسول اللّه فذكر به فخرج كانه غضبان يجر ردائه حتّى انتهى الى الناس فقال اصدق هذا قالوا نعم فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم رواه مسلم وجه الاحتجاج ان النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم تكلم معتقدا ان صلوته قد تمت و انه ليس فى الصلاة و كذلك ذو اليدين لامكان النسخ و اعترض على هذا الحديث بوجوه أحدها ان أبا هريرة اسلم فى سنة سبع و ذو اليدين قتل يوم بدر فكيف يصح قوله صلى بنا و ثانيها ان ألفاظه يختلف فتارة يروى فسلم من ركعتين و تارة من ثلث و ثالثها ان هذا كان حين كان الكلام مباحا فى الصلاة و لهذا تكلم ابو بكر و عمرو الناس عامدين و أجيب بانه اتفق الائمة على صحة الحديث و اسم ذى اليدين الخرباق كما ذكر فى حديث عمران بن حصين و هو عاش بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم و انما المقتول يوم بدر ذو الشمالين اسمه عمير و انما وقع اعتراضهم على رواية الزهري لهذا الحديث فانه قال فى رواية فقام ذو الشمالين قال ابو داود السجستاني و هم الزهري فى هذا الحديث فرواه عن ذى الشمالين ظنا منه ان ذا الشمالين و ذا اليدين واحد و اما اختلاف ألفاظه فجوابه ان حديث ابى هريرة لم يختلف و انما يروى الثلث من عمران و هو من افراد مسلم و حديث ابى هريرة أصح و ان الشك فى العدد لا يضر مع حفظ اهل الحديث و ثبوت الكلام ناسيا و اما تحريم الكلام فقال ابو حاتم بن حبان انما كان الكلام بمكة فلما بلغ المسلمون بالمدينة سكتوا و قال زيد بن أرقم و هو من اهل المدينة كنا نتكلم فى الصلاة حتى نزلت و قوموا للّه قانتين فامرنا بالسكوت و قال ابو سليمان الخطابي نسخ الكلام بعد الهجرة بمدة يسيرة و على القولين كان تحريم الكلام قبل اسلام ابى هريرة بيقين و اما كلام ابى بكر و عمر الناس فاجيب عنه بوجهين أحدهما ان فى رواية حماد بن زيد عن أيوب انهم اومؤا اى نعم فدل ذلك ان رواية من روى انهم قالوا نعم فيه تجوز و المراد انهم اومؤا ثانيهما انه لم ينسخ من الكلام ما كان جوابا لرسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم لحديث ابى سعيد بن المعلى قال كنت أصلي فى المسجد فدعانى رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم فلم أجبه حتّى أتيته فقلت يا رسول اللّه انى كنت أصلي فقال الم يقل اللّه استجيبوا للّه و للرسول إذا دعاكم رواه البخاري و احتج ابو حنيفة بحديث معاوية بن الحكم قال بينا نحن نصلى مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم إذ عطس رجل من القوم فقلت له يرحمك اللّه فرمانى القوم بأبصارهم فقلت وا ثكلى أمياه ما شانكم تنظرون الىّ فجعلوا يضربون بايديهم على افخاذهم فلما رأيتهم يصمتونى لكنى سكت فلما صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم دعانى فبابى هو و أمي ما رأيت معلما قبله و لا بعده احسن تعليما منه و اللّه ما لهزنى «١» و لا شتمنى

(١) اللّهز الضرب بجمع الكف فى الصدر ١٢ نهايه.

و لا ضربنى ثم قال ان هذه الصلاة لا تصلح فيها شى ء من كلام الناس انما هو التسبيح و التكبير و قراءة للقران رواه مسلم و بحديث جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم الكلام ينقض الصلاة و لا ينقض الوضوء رواه الدارقطني و أجيب بان حديث معاوية حجة على ابى حنيفة لا له حيث لم يأمره رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم باعادة الصلاة و انما علمه احكام الصلاة و قال له لا يصلح لانه مخطور فى الصلاة و اما حديث جابر فهو من رواية ابى شيبة عن يزيد بن خالد عن ابى سفيان و ابو شيبة اسمه عبد الرحمن بن اسحق ضعيف كذلك قال يحيى بن معين و قال احمد ليس بشئ منكر الحديث و يزيد لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد كذا قال ابن حبان و اللّه اعلم و قال سعيد بن جبير و عطاء و مجاهد ان الاية فى الخطبة أمروا بالإنصات لخطبة الامام يوم الجمعة و اختار السيوطي هذا القول و قد ذكرنا مسئلة الإنصات فى الخطبة فى سورة الجمعة و قال عمر بن عبد العزيز الإنصات لقول كل واعظ و قال الكلبي كانوا يرفعون أصواتهم فى الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة و النار يعنى بالدعاء و التعوذ و قال قوم نزلت الاية فى ترك الجهر بالقراءة خلف الامام

قال البغوي روى زيد بن اسلم عن أبيه عن ابى هريرة قال نزلت هذه الاية فى رفع الأصوات خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم فى الصلاة و ذكر البغوي عن المقداد انه سمع ناسا يقرءون مع الامام فلما انصرف قال اما ان لكم ان تفقهوا إذا قرا القران فاستمعوا له و انصتوا كما أمركم اللّه

قال البغوي و هذا قول الحسن و الزهري و النخعي ان الاية فى القراءة فى الصلاة خلف الامام

قال البغوي و هذا اولى ممن قال انها نزلت للانصات فى الخطبة لان الاية مكية و الجمعة وجبت بالمدينة و قال ابن همام اخرج البيهقي عن الامام احمد قال اجمع الناس على ان هذه الاية فى الصلاة

و اخرج عن مجاهد كان عليه السلام يقرأ فى الصلاة فسمع قراءة فتى من الأنصار فنزل و إذا قرا القران فاستمعوا له و انصتوا و قد ذكرنا مسئلة القراءة خلف الامام فى سورة المزمل فى تفسير قوله تعالى فاقرؤا ما تيسر من القران

و اخرج ابن جرير عن الزهري قال نزلت هذه الاية فى فتى من الأنصار كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم كلما قرا شيئا قرأه قلت يعنى خارج الصلاة و قال سعيد بن منصور فى سننه حدثنى ابو معشر عن محمد بن كعب قال كانوا يتلقون من رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم إذا قرا شيئا قرأوا معه حتّى نزلت هذه الاية فى الأعراف قال صاحب لباب النقول فى اسباب النزول ظاهر ذلك الرواية ان الاية مدنية.

(فصل) اختلف العلماء فى وجوب الاستماع و الإنصات على من هو خارج الصلاة يبلغه صوت من يقرأ القران فى الصلاة او خارجها

قال البيضاوي عامة العلماء على استحبابها خارج الصلاة و قال ابن همام و فى كلام أصحابنا ما يدل على وجوب الاستماع فى الجهر بالقراءة مطلقا قال فى الخلاصة رجل يكتب الفقه و بجنبه يقرأ القران فلا يمكنه استماع القران فالاثم على القاري و على هذا لو قرا على السطح فى الليل جهرا و الناس نيام يأثم و هذا صريح فى اطلاق الوجوب و لان العبرة لعموم اللفظ دون خصوص السبب قلت و قد ثبت عنه صلى اللّه عليه و اله و سلم انه كان يقرأ القران بالليل جهرا بحيث يسمع من وراء حجرته و ربما يسمعه الجيران روى الترمذي و النسائي و ابن ماجة عن أم هانى قال كنت اسمع قراءة النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم بالليل و انا على عريشى

قال البغوي فى شرح السنة العريش السقف سميت بيوت مكة عروشا لانها عيدان ينصب و يظلل و روى ابو داود و الترمذي عن ابن عباس قال كان قراءة النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم على قدر ما يسمعه من فى الحجرة و هو فى البيت و روى الطحاوي بلفظ كان يصلى بالليل فيسمع قراءته من وراء الحجرة و هو فى البيت و قد كانت فى بيوت النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم نسائه و ربما كانت إحداهن نائمة و هو يصلى روى البخاري فى الصحيح عن عائشة قالت كنت أنام بين يدى النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم و رجلاى فى قبلته فاذا سجد غمزنى فقبضت رجلى فاذا قام بسطتها قالت و البيوت يومئذ ليس فيها مصابيح و كان اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم يقرءون القران بالليل و النهار رافعى أصواتهم من غير نكير روى مسلم عن ابى موسى الأشعري ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم قال له لقد رأيتنى و انا اسمع لقراءتك البارحة و فى الصحيحين عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم انى لاعرف أصوات رفقة الأشعريين حين يرحلون و اعرف منازلهم من أصواتهم بالقران باليل و ان كنت لم ار منازلهم حين نزلوا بالنهار و لا شك ان بعض الناس فى العسكر كانوا يناما وقت قراءة الأشعريين و روى ابن ابى داود عن على بن ابى طالب رضى اللّه عنه انه سمع ضجة ناس فى المسجد يقرءون القران فقال طوبى لهؤلاء كانوا أحب الناس الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم فهذه الأحاديث تدل على فساد ما افتى به صاحب الخلاصة

و اخرج ابن مردوية فى تفسيره قال ثنا ابو اسامة عن سفيان عن ابى المقدام هشام بن زيد عن معاوية ابن قرة قال سالت بعض مشايخنا من اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم احسبه قال عبد اللّه ابن مغفل كل من سمع القران وجب عليه الاستماع و الإنصات قال انما نزلت هذه الاية إذا قرا القران فاستمعوا له و انصتوا فى القراءة خلف الامام قلت و اللام فى قوله تعالى إذا قرئ القران للعهد دون الجنس و المراد به القران المقر و لاستماعكم كالامام يقرأ حتى يسمع من خلفه و الخطيب يقرأ للتخاطب و المقري يقرأ على التلميذ و اللّه اعلم:- (فصل) لا يجوز الدعاء و التعوذ للسامع إذا قرا القاري فى القران ذكر الجنة و النار لما ذكرنا من قول الكلبي قال ابن همام ان اللّه وعده بالرحمة إذا استمع حيث قال فاستمعوا و انصتوا لعلكم ترحمون و وعده حتم و اجابة دعاء المتشاغل عنه به غير مجزوم به و كذا الامام:-

(مسئلة) و كذا المنفرد لا يشتغل بغير القراءة فى الفرض و فى النفل يسأل الجنة و يتعوذ من النار عند ذكرهما و يتفكر فى اية المثل لحديث حذيفة قال صليت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم صلوة الليل فما مر باية فيها ذكر الجنة الا وقف و سأل اللّه الجنة و ما مر باية فيها ذكر النار الا وقف و تعوذ من النار رواه.

٢٠٥

وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ قال ابن عباس يعنى بالذكر القراءة فى الصلاة يريد يقرأ سرا فى نفسه فى صلوة السر تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً اى متضرعا و خائفا منى وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ اى متكلما كلاما فوق السر و دون الجهر أراد فى صلوة الجهر و لا تجهر جهرا شديدا بل فى خفض و سكون يسمع من خلفك كذا قال ابن عباس فى تفسير الاية فقوله و دون الجهر عطف على قوله فى نفسك قلت و جاز ان يكون المراد اقرأ القران فوق السر دون الجهر جهرا متوسطا نظيره قوله تعالى و لا تجهر بصلوتك و لا تخافت بها و ابتغ بين ذلك سبيلا و يؤيده حديث ابى قتادة قال ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم خرج ليلة فاذا هو بابى بكر يصلى يخفض صوته و مر بعمر و هو يصلىرافعا صوته قال فلما اجتمعا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم قال يا أبا بكر مررت بك و أنت تصلى تخفض صوتك قال قد أسمعت من ناجيت يا رسول اللّه و قال لعمر مررت بك و أنت تصلى رافعا صوتك قال يا رسول اللّه اوقظ الوسنان و اطرد الشيطان فقال النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئا و قال لعمر اخفض من صوتك شيئا رواه ابو داود و روى الترمذي نحوه من حديث عبد اللّه بن رباح الأنصاري و جاز ان يكون المعنى اقرأ القران سرا و جهرا دون الجهر الشديد يعنى على كلا الوجهين تارة كذا و تارة كذا روى ابو داود عن ابى هريرة قال كانت قراءة النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم بالليل يرفع طورا و يخفض طورا و روى الترمذي عن عبد اللّه بن ابى قيس قال سألت عائشة عن قراءة النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم كان يسر بالقراءة أم يجهر قالت كل ذلك قد كان يفعل ربما اسر و ربما جهر قلت الحمد للّه الذي جعل فى الأمر سعة قال الترمذي حديث حسن صحيح غريب.

(فصل) اختلف العلماء فى كيفية القراءة فى الصلاة ليلا و خارج الصلاة فقال قوم لا بد من الجهر و كرهوا المخافة اتباعا لحديث أم هانى و ابن عباس المذكورين انه صلى اللّه عليه و اله و سلم كان يسمع قراءة من وراء الحجرة و هو فى البيت و سمعته أم هانى على عريشها و الجمهور على ان القاري مخير ان شاء جهر و ان شاء اخفت لما ذكرنا من حديث ابى هريرة و عائشة انه صلى اللّه عليه و اله و سلم يرفع طورا و يخفض طورا قال الطحاوي فى حديث أم هانى و ابن عباس ذكر رفعه صلى اللّه عليه و اله و سلم صوته و هو لا ينفى الخفض أحيانا و حديث ابى هريرة يبين ان للمصلى ان يخفض ان أحب و يرفع ان أحب فهو اولى و به يقول ابو حنيفة و ابو يوسف و محمد رحمهم اللّه تعالى ثم القائلون بالتخيير منهم من قال الإخفات أفضل بحديث عقبة بن عامر قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم يقول الجاهر بالقران كالجاهر بالصدقة و المسر بالقران كالمسر بالصدقة رواه ابو داود و الترمذي و النسائي قال الترمذي حديث حسن و لا شك ان صدقة السر أفضل من صدقة العلانية قال اللّه تعالى ان تبدوا الصدقات فنعما هى و ان تخفوها و توتوها الفقراء فهو خير لكم و به أخذ جماعة من السلف روى عن الأعمش قد دخلت على ابراهيم رضى اللّه عنه و هو يقرأ فى المصحف فاستاذن عليه رجل فنظاه «١» و قال لا يرى هذا انى اقرأ كل ساعة و عن ابى العالية رضى اللّه عنه قال كنت جالسا مع اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم فقال رجل قرأت الليلة كذا و قالوا هذا حظك منه و قال كثير من العلماء الجهر أفضل لما ذكرنا فى ما سبق من الأحاديث فى الجهر و لما فى الصحيحين عن ابى هريرة قال سمعت النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم يقول ما اذن اللّه لشئ كاذنه لنبى حسن الصوت يتغنى بالقران يجهر به و معنى اذن استمع و هو اشارة عن الرضا و القبول و فيهما عن ابى موسى الأشعري ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم قال له أوتيت مزمارا «٢» من مزامير ال داود و روى ابن ماجة من فضالة بن عبيد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم اللّه أشد اذنا «٣» الى الرجل الحسن الصوت بالقران يجهر بها من صاحب القينة «٤» الى قينته و روى ابو داود و النسائي و غيرهما عن البراء ابن عازب قال قال رسول

(١) نظّاه اى بغده ١٢ نهايه.

(٢) المزمار الآلة التي يزمر بها و الزمارة التغني يقال زمر إذا غنى شبه رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم حسن صوت ابى موسى و حلاوة نغمته بصوت المزمار داود النبي عليه السلام اليه المنتهى فى حسن الصوت بالقراءة و لفظ ال مقحمة و قيل معناه هاهنا الشخص ١٢.

(٣) أشد اذنا اى أشد استماعا ١٢.

(٤) القينة المغنية ١٢:-.

اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم زينوا القران بأصواتكم قال ابو حامد الغزالي و غيره من العلماء طريق الجمع بين الاخبار ان الاسرار ابعد من الرياء فهو أفضل فى حق من يخاف ذلك فان لم يخف الرياء فالجهر أفضل لان العمل فيه اكثر و لان فائدته متعد الى غيره فهو أفضل و لانه يوقظ قلب القاري و يجمع همته الى الفكر و يصرف سمعه اليه و يطرد النوم و يزيد فى النشاط و يوقظ غيره من نائم او غافل و ينشطه فمهما حضر شى ء من هذه النيات فالجهر أفضل و ان اجتمعت النيات تضاعف الاجر و لهذا

قلنا القراءة فى المصحف أفضل قلت لا شك ان فى الجهر بالقران أحاديث كثيرة و الآثار من الصحابة و التابعين اكثر من ان تحصى لكن فيمن لا يخاف رياء و لا إعجابا و لا غيرهما من القبائح و لا يؤذى جماعة يلبس عليهم صلواتهم و يخلطها عليهم فمن خاف شيئا من ذلك فلا يجوز له الجهر و ان لم يخف استحب الجهر فان كانت القراءة فى جماعة مجتمعين مستمعين تأكد استحباب الجهر لكن لا يجوز كمال الجهر و ان يجهد الرجل نفسه فى الجهر لقوله تعالى و دون الجهر من القول روى محمد ص فى موطاه عن مالك عن عمه ابى سهيل عن أبيه ان عمر بن الخطاب كان يجهر بالقراءة فى الصلاة و انه كان يسمع قراءة عمر بن الخطاب عند دارابى جهيم فقال محمد الجهر بالقران فى الصلاة فيما يجهر بالقراءة حسن ما لم يجهد الرجل نفسه و اللّه اعلم:-

فان قيل الجهر بالذكر و الدعاء بدعة و السنة فيهما الإخفاء كما مر المسألة فى تفسير قوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا و خفية فما وجه الفرق بين الذكر و قراءة القران مع ان القراءة ايضا ذكر

قلنا القران مشتمل على الوعظ و القصص الموجبة للعبرة و الاحكام و نظمه معجز جاذب للقلوب السقيمة الى الإسلام و لذا قال اللّه تعالى و ان أحد من المشركين استجارك فاجره حتى يسمع كلام اللّه و قراءته باللسان عبادة زائدة على الذكر الذي هو عبادة عن طرد الغفلة عن الجنان و إسماعه غيره عبادة اخرى مرغوبة عند الرحمن بخلاف الذكر و الدعاء فان المقصود من الدعاء الاجابة و من الذكر النسيان عما يشغله من العزيز المنان حتى يسقط عن بصيرته نفس الذكر بل الذاكر ايضا و لا يبقى فى بصيرته الا الواحد القهار:- (فائدة) قال شعبة نهانى أيوب ان أحدث بهذا الحديث زينوا القران بأصواتكم قال ابو عبيدة و انما كره فيما نرى ان يتاول الناس بهذا الحديث الرخصة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم فى هذه الالحان المبتدعة ثم ذكر ابو عبيدة أحاديث كثيرة فى تحسين الصوت بالقران ثم قال و محمل هذه الأحاديث طريق الحزن و التخويف و التشويق لا الالحان المطربة الملهية و قد روى فى ذلك أحاديث مفسرة مرفوعة و غير مرفوعة منها عن طاؤس قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم اى الناس احسن صوتا بالقران او احسن قراءة فقال الذي إذا سمعته رأيته يخشى اللّه و عن طاؤوس احسن الناس صوتا بالقران اخشاها اللّه تعالى رواه الدارمي عن طاؤس مرسلا و عن حذيفة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم اقرؤا القران بلحون العرب و أصواتها و إياكم و لحون اهل العشق و لحون اهل الكتابين و سيجئ بعدي قوم يرجعون بالقران ترجيع الغناء و النوح لا يتجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم و قلوب الذين يعجبهم شانهم رواه البيهقي فى شعب الايمان و رزين فى كتابه و اللّه اعلم:-

و قال مجاهد معنى الاية انه تعالى امر ان يذكروه فى الصدور بالتضرع اليه فى الدعاء و الاستكانة دون رفع الصوت و الصياح بالدعاء فان الإخفاء ادخل فى الإخلاص قلت و على هذا قوله و دون الجهر عطف تفسيرى لقوله فى نفسك و قد ذكرنا مسئلة الذكر الخفي و الجهر فى تفسير قوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا و خفية و ما

قال البيضاوي او هو امر للماموم بالقراءة سرا بعد فراغ الامام عن قراءته كما هو مذهب الشافعي رحمه اللّه فليس بشئ فانه خطاب مع النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم و قد كان اماما و لم يكن ماموما و لو كان الخطاب للمامومين لكان بصيغة الجمع دون المفرد على نسق قوله تعالى فاستمعوا و انصتوا لعلكم ترحمون و ايضا القراءة سراينا فى الاستماع و الإنصات كالقراءة جهرا و قوله بعد فراغ الامام عن قراءته غير مستفاد من الاية فيلزم حينئذ التعارض بين الآيتين و ايضا القراءة بعد فراغ الامام لا يتصور فان الامام بعد الفراغ من القراءة يركع و لا قراءة للماموم بعد ما ركع الامام اجماعا و لو قام الامام ساكتا حتّى يفرغ المأموم عن قراءته لزم قلب موضوع الامامة و اللّه اعلم بِالْغُدُوِّ اى باوقات الغدو و هو مصدر غدا يغدو غدوا إذا دخل فى وقت البكرة يعنى أول النهار فى القاموس الغدوة بالضم البكرة او ما بين صلوة الفجر و طلوع الشمس وَ الْآصالِ جمع اصيل و هو العشى يعنى اخر النهار و

قال البغوي هو ما بين العصر و المغرب خص هذين الوقتين بالذكر لفضلهما و المراد امة الذكر كما يدل عليه قوله تعالى وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ يعنى لا تغفل من اللّه أصلا فى وقت من الأوقات قلت و تذئيل قوله تعالى و اذكر ربك فى نفسك بقوله بالغدو و الآصال و لا تكن من الغافلين يدل على ان المراد بالذكر أعم من القراءة و غيره و المقصود طرد الغفلة باى وجه كان و اللّه اعلم.

٢٠٦

إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ عندية و قربا غير متكيف بالفضل و الكرامة لامتناع العندية الجسمانية فى جنابه تعالى و المراد بالموصول الأنبياء و الملئكة و صالحوا المؤمنين لا يَسْتَكْبِرُونَ اى لا يتكبرون بانفسهم عَنْ عِبادَتِهِ قلت بل يستكبرون أنفسهم بعبادته وَ يُسَبِّحُونَهُ و ينزهونه عما لا يليق به و يذكرونه يقولون سبحان ربى الأعلى وَ لَهُ يَسْجُدُونَ ع اى يخصونه بالسجود و العبادة و لا يشركون به غيره عن معدان بن طلحة قال لقيت ثوبان مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم فقلت أخبرني بعمل أعمله يدخلنى اللّه به الجنة فسكت ثم سألته الثانية فسكت ثم سألته الثالثة فقال سألت عن ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم فقال عليك بكثرة السجود للّه فانك لا تسجد للّه سجدة الا رفعك اللّه بها درجة و حط عنك بها خطيئة قال معد ان ثم لقيت أبا الدرداء فسألته فقال لى مثل ما قال ثوبان رواه مسلم و فى رواية عن ثوبان بلفظ ما من عبد يسجد للّه سجدة إلا رفعه اللّه بها درجة و حط عنه بها سيئة رواه احمد و الترمذي و النسائي و ابن حبان و البغوي و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم اقرب ما يكون العبد من ربه و هو ساجد فاكثروا الدعاء رواه مسلم و عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم إذا قرا ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكى يقول يا ويلتى امر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة و أمرت بالسجود فابيت فلى النار رواه مسلم و عن ربيعة بن كعب قال كنت أبيت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم فاتيه بوضوئه و حاجته فقال لى سل فقلت اسألك مرافقتك فى الجنة قال او غير ذلك قلت هو ذلك قال فاعنى على نفسك بكثرة السجود رواه مسلم و قد ذكرنا مسائل سجود التلاوة فى سورة انشقت و اللّه اعلم-

﴿ ٠