سُورَةُ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُمَكِّيَّةٌ وَهِيَ مِائَةٌ وَتِسْعُ آياَتٍمائة و تسع آية مكّيّة الّا ثلث آيات فان كنت فى شكّ ربّ يسّر و تمّم بالخير بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ _________________________________ ١ الر مر الكلام عليه فى أوائل سورة البقرة- قرا ابن كثير و قالون «١» و حفص الر و المر بالفتح و ورش بين اللفظين و الباقون بالامالة تِلْكَ اشارة الى ما تضمنته «٢» السورة او القران من الآيات- و قيل المراد بها الآيات التي نزلت قبل هذه السورة آياتُ الْكِتابِ اى القران و الاضافة بمعنى من الْحَكِيمِ (١) وصفه به لاشتماله على الحكم او لانه كلام حكيم- او المعنى انه محكم آياته لم ينسخ منها شي ء ان كان المراد آيات هذه السورة- او محكم عن الكذب و الاختلاف- قال الحسن حكم فيها بالعدل و الإحسان و ايتائ ذى القربى و الانتهاء عن الفحشاء و المنكر و البغي و و حكم فيها بالجنة لمن أطاعه و النار لمن عصاه- اخرج ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عبّاس قال لمّا بعث اللّه محمّدا صلى اللّه عليه و سلم رسولا أنكرت العرب ذلك او من أنكر ذلك منهم فقالوا اللّه أعظم من ان يكون رسوله بشرا فانزل اللّه تعالى. (١) الخطة من العاشر. (٢) فى الأصل ما تضمنه-. ٢ أَ كانَ لِلنَّاسِ عَجَباً استفهام انكار للتعجب- و عجبا خبر كان و اسمه أَنْ أَوْحَيْنا و اللام فى للناس متعلق بمحذوف حال من قوله عجبا- و فى اللام دلالة على انهم جعلوه عجوبة لهم يوجهون نحوه انكارهم و استهزاءهم- و العجب حالة يعترى للانسان من رؤية شي ء على خلاف العادة و وجه الإنكار على استعجابهم ان عادة اللّه تعالى جارية من بدء خلق آدم عليه السلام على بعث الرسل من البشر و من ثمّ انزل اللّه تعالى وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا- و ايضا عادة الملوك جارية بان الكتاب و الخطاب يكون بلسان المخاطبين و الرسول من جنس من أرسل إليهم فانه لا بد للافادة و الاستفادة من المناسبة بينهما- قال اللّه تعالى قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا ... إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ يعنى من احاد رجالهم دون عظيم من عظمائهم- قالوا و ان كان بشرا فغير محمد كان أحق بالرسالة لَوْ لا «١» نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أحد اشرف من محمد صلى اللّه عليه و سلم يعنون الوليد بن مغيرة من مكة و مسعود بن عمرو الثقفي من الطائف فانزل اللّه تعالى ردا عليهم أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ الاية- و كان هذا من فرط حماقتهم و جهلهم بحقيقة الوحى- و قد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أعظم و أتم و أكمل فى كرائم الأوصاف و فى كل شي ء الا فى المال و خفة الحال أعون شي ء فى هذا الباب و لذلك كان اكثر الأنبياء قبله كذلك أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ ان هى المفسرة او المخففة من الثقيلة فى موضع مفعول أَوْحَيْنا و بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا عم الانذار إذ قلّ من أحد ليس فيه ما ينبغى منه الانذار- و خص البشارة بالمؤمنين لعدم استحقاق الكفار به أَنْ اى بانّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قال عطاء اى مقام صدق لا زوال له و لا بؤس فيه- يعنى منزلة رفيعة يسبقون إليها و يقيمون فيها- سمّيت قدما لان السبق و القيام يكون بالقدم كما سميت النعمة يدا لانها تعطى باليد- و اضافتها الى الصدق لتحققها و للتنبيه على انهم انما ينالونها بصدق القول و النية- و اصدق القول شهادة ان لا اله الا اللّه- و يعود الى ما قلنا ما قال ابن عباس فى تفسير القدم اى اجرا حسنا بما قدموا من أعمالهم- و ما قال الضحاك و اى ثواب صدق فان المنزلة عند اللّه يعبر بالأجر و الثواب- و قال الحسن يعنى به عملا صالحا اسلفوه يقدمون عليه- فهو بشارة بانهم يجدون عند ربهم ما قدموا من الأعمال فالقدم بمعنى التقدم- و قال ابو عبيدة كل سابق فى خير او شر فهو عند العرب قدم يقال لفلان قدم فى الإسلام- و له عندى قدم صدق او قدم سوء- و روى على بن ابى طلحة (١) فى الأصل لو لا انزل. عن ابن عباس هو السعادة فى الذكر الاول- و قال زيد بن اسلم هو شفاعة الرسول صلى اللّه عليه و سلم- قال البخاري قال زيد بن اسلم انّ لهم قدم صدق محمد صلى اللّه عليه و سلم قالَ الْكافِرُونَ تعنتا و عنادا لما راوا من الرسول صلى اللّه عليه و سلم أمورا خارقة للعادة و سمعوا كلاما معجزا عن المعارضة إِنَّ هذا يعنى الرسول صلى اللّه عليه و سلم لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢) على وزن فاعل كذا قرا ابن كثير و الكوفيون و قرا الباقون لسحر بغير الف- و الاشارة حينئذ الى القران- يعنى ان هذا الكلام لكونه سحرا يمنعنا عن المعارضة و جاز ان يكون الاشارة الى كل معجزة رأوها-. ٣ إِنَّ رَبَّكُمُ اللّه الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ الّتى هى اصول الممكنات فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ من ايام الدنيا اى فى قدرها و لو شاء لخلقهن فى لمحة و انما فعل ذلك لتعليم خلقه التثبت ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ اجمع اهل السنة من الخلف و السلف على «١» ان اللّه تعالى منزه عن صفات الأجسام و صفات الحدوث- فلهم فى هذه الاية و أمثالها سبيلان- أحدهما تأويلها بما يليق به تعالى بناء على عطف قوله تعالى وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ على اسم اللّه فى قوله تعالى وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّه- و قد مر البحث عليه فى سورة ال عمران- فقالوا معنى استوى استولى على العرش الذي هو أعظم المخلوقات و محدد الجهات- و ذا يستلزم استيلاءه تعالى على جميع الخلائق- و أسند البغوي تأويل الاستواء بالاستيلاء الى المعتزلة و كلام السلف الصالح يأبى عن سبيل التأويل بل المختار عندهم الايمان بتلك الآيات و تفويض علمه الى اللّه تعالى و التحاشى عن البحث عنه- قال محمد بن الحسن اتفق الفقهاء كلهم من المشرق الى المغرب على الايمان بالقران و الأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى صفة الرب عز و جل من غير تفسير و لا وصف و لا شبه- فمن فسر شيئا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي صلى اللّه عليه و سلم و فارق الجماعة و قال مالك بن انس الكيف غير معقول و الاستواء غير مجهول و السؤال عنه بدعة- فبناء على هذا السبيل نقل عن السلف القول باستوائه تعالى على العرش مع قولهم بالتنزيه الصرف قال ابو حنيفة ان اللّه فى السماء دون الأرض رواه البيهقي- و روى عنه من قال لا اعرف (١) فى الأصل ان اللّه-. ربّى فى اسماء او فى الأرض فقد كفر- لان اللّه يقول الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى - و عرشه فوق سمواته- و روى عنه انه قال من أنكر اللّه فى السماء فقد كفر- و قال الشافعي ان اللّه على عرشه فى سمائه يقرب من خلقه كيف شاء و ينزل كيف شاء- و مثل ذلك قال احمد بن حنبل- و قال إسحاق بن راهويه انه اجمع اهل العلم انه فوق العرش استوى و يعلم كل شي ء و هو قول المزني و الذهبي و البخاري و ابو داؤد و الترمذي و ابن ماجة و ابن ابى شيبة و ابو يعلى و البيهقي و غيرهم من ائمة الحديث- و قال ابو زرعة الرازي ما ينبئ عن اجماع اهل السنة على ذلك- و قال عثمان بن سعيد الدارمي الحافظ اتفقت الكلمة بين المسلمين ان اللّه فوق عرشه فوق سمواته- و قال سهل بن عبد اللّه التستري لا يجوز لمؤمن ان يقول كيف الاستواء لمن خلق الاستواء و لنا عليه الرضاء و التسليم لقول النبي صلى اللّه عليه و سلم انه تعالى على العرش- و قال محمد بن جرير حسب امرئ ان يعلم ان ربه الذي على العرش استوى فمن يجاوز ذلك فقد خاب و خسر و قال ابن خزيمة من لم يقر ان اللّه على عرشه استوى فوق سبع سمواته بائن من خلقه فقد كفر فيستتاب- فان تاب و الا ضربت عنقه- و قال الطحاوي العرش و الكرسي كما بيّن فى كتابه- و هو مستغن عن العرش و ما دونه- محيط بكل شي ء و فوقه- و قال الشيخ ابو الحسن الأشعري البصري المتكلم فى كتاب اختلاف المضلين و مقالات الاسلاميين مقالة اهل السنة و اصحاب الحديث جملته قولهم الإقرار باللّه و ملائكته و كتبه و رسله و بما جاء عن اللّه و ما رواه الثقات عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- لا يردون من ذلك شيئا- و ان اللّه على عرشه كما قال الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى - و له يدان بلا كيف كما قال خَلَقْتُ بِيَدَيَّ- و قال ابو نعيم فى الحلية طريقتنا طريقة السلف المتبعين الكتاب و السنة و اجماع الامة و مما اعتقدوه ان اللّه لم يزل كاملا بجميع صفاته الى ان قال و ان الأحاديث التي ثبتت فى العرش و الاستواء عليه يقولون بها و يثبتونها من غير تكيف و لا تمثيل- و انه بائن من خلقه- و قال ابن عبد البر ان اللّه فى السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة- و قال الخطيب مذهب السلف إثباتها و اجراؤها على ظواهرها و نفى الكيفية و التشبيه عنها- و قال امام الحرمين و الذي ترضيه دينا- و تدين اللّه به عقيدة اتباع سلف الائمة و ذهب ائمة السلف الى الانكفاف عن التأويل و اجراء الظواهر على مواردها و تفويض معانيها الى اللّه- و قال البغوي اما اهل السنة فيقولون الاستواء على العرش صفة اللّه بلا كيف يجب الايمان به- قال البيضاوي معناه ان له استواء على الوجه الذي عناه منزعا عن الاستقرار و التمكن- و قال ابو بكر على بن عيسى الشبلي اعلم الصوفية فى زمانه الرب فى السماء يقضى و يمضى- و قال شيخ الإسلام عبد اللّه الأنصاري فى اخبار شتى ان اللّه فى السماء السابعة على العرش- و للشيخ عبد القادر الجيلاني فى الباب كلام كثير فى الغنية هذه الأقوال كلها ذكرها الذهبي فى كتاب العلو- و ذكر هذا المذهب عن جماعة كثيرة من اهل العلم من الصحابة و التابعين و من دونهم من الفقهاء و المحدثين و الصوفية يطول الكلام بذكرهم و قد ذكرت هذه المسألة مختصرا فى سورة الأعراف فى تفسير قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ و قد ذكرنا فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى يَأْتِيَهُمُ اللّه فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ ما قال اصحاب القلوب من تجليات اللّه تعالى فى بعض مخلوقاته برقيات و دائميات غير مستدعيات حدوث امر فى ذاته تعالى و كونه محلا للحوادث- و لا تنزلا له سبحانه عن مرتبة التنزيه الصرف بل مبنيات على حدوث امر فى الممكن حتى يصير صالحا لذلك التجلّى- و ايضا ذكرنا مسئلة التجلّى على قلب المؤمن و الكعبة الحسناء و العرش العظيم فى تلك السورة فى تفسير قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فليرجع إليهما من غفل عنهما يُدَبِّرُ الْأَمْرَ التدبير النظر فى ادبار الأمور حتى يأتى محمودة العاقبة- يعنى يقدر امر الكائنات على ما يقتضيه الحكمة ما مِنْ شَفِيعٍ يشفع لاحد إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ تقرير لعظمته و عز جلاله- ورد على النضر بن الحارث حيث قال إذا كان يوم القيامة يشفعنى اللات و العزى- و فيه اشارة الى ثبوت الشفاعة لمن اذن له ذلِكُمُ اى الموصوف بتلك الصفات المقتضية للالوهية اللّه مبتدأ و خبر رَبَّكُمُ خبر ثان او خبر مبتدا محذوف و الجملة بدل مما سبق يعنى هو ربكم لا غير- او لا يشركه أحد فى شي ء من ذلك فَاعْبُدُوهُ دون غيره من انسان او ملك فضلا عن جماد لا يضر و لا ينفع أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (٣) تتفكرون ادنى تفكر فيظهر لكم انه المستحق للعبادة دون غيره مما تعبدون-. ٤ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ مصدر او ظرف جَمِيعاً بالموت او النشور لا الى غيره فاستعدوا للقائه- وَعْدَ اللّه مصدر مؤكد لنفسه فان قوله تعالى إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ وعد من اللّه تعالى حَقًّا مصدر مؤكد لغيره و هو ما يدل عليه وَعْدَ اللّه ... إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ بالحياة الدنيا- قرا العامة إِنَّهُ بالكسر على الاستيناف- و قرا ابو جعفر بالفتح على معنى لانه و هو تعليل لقوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً- فانه لما كان المقصود من الإبداء و الاعادة مجازاة المكلفين على أعمالهم كان مرجع الجميع اليه لا محالة- و يجوز ان يكون منصوبا بما نصب وعد اللّه او مرفوعا بما نصب حقّا ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد إهلاكه بالحياة الاخرى لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ اى بعدله- او بعدالتهم و قيامهم على العدل فى أمورهم- او بايمانهم لان الايمان عدل قويم كما ان الشرك ظلم عظيم- و هو أوجه لمقابلة قوله وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ ماء بالغ نهاية الحرارة وَ عَذابٌ أَلِيمٌ اى مؤلم بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٣) معناه و ليجزى الذين كفروا بشراب من حميم و عذاب اليم بسبب كفرهم- لكنه غير النظم للمبالغة فى استحقاقهم العذاب و التنبيه على ان المقصود بالذات من الإبداء و الاعادة انما هو الاثابة و انه تعالى يتولى اثابة المؤمنين بما يليق بلطفه و كرمه- و اما تعذيب الكفار فهو واقع بالعرض كانه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم و شوم أفعالهم-. ٥ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً قرا قنبل ضئاء و بضئآء هاهنا و فى الأنبياء و القصص على القلب- بتقديم اللام على العين- و الباقون بياء منقلبة عن واو لانكسار ما قبلها و همزة متطرفة- و هو مصدر كقيام- او جمع ضوء كسياط جمع سوط و المضاف محذوف اى ذات ضياء وَ الْقَمَرَ نُوراً اى ذات نور- و النور أعم من الضوء فانه أقوى افراد النور- و قيل ما بالذات ضوء و ما بالعرض نور وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ و الضمير لكل واحد اى قدر مسير كل واحد منهما منازل- او قدر كل واحد منهما ذا منازل- او للقمر و تخصيصه بالذكر لمعائنة منازله و اناطة احكام الشرع من الصوم و الزكوة و الحج به- و لذلك عللّه بقوله لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ يعدّ الأشهر المنوطة بسير القمر وَ الْحِسابَ اى حساب الأوقات من الأشهر و الأيام فى معاملاتكم و تصرفاتكم ما خَلَقَ اللّه ذلِكَ الخلق إِلَّا متلبسا «١» بِالْحَقِّ اى لاظهار صنعته و دلالة قدرته مراعيا فيه مقتضى الحكمة البالغة يُفَصِّلُ قرا ابن كثير و ابو عمرو و حفص بالياء على الغيبة لقوله تعالى ما خَلَقَ اللّه و الباقون بالنون على التكلم و التعظيم الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) اى يتدبرون. (١) في الأصل ملتبسا. ٦ إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ اى فى مجي ء كل منهما خلف الاخر او فى اختلاف لونهما وَ ما خَلَقَ اللّه فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ اى من انواع الكائنات لَآياتٍ على وجود الصانع و وحدته و كمال علمه و قدرته و تنزهه عن المناقص لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) العواقب فانه يحملهم على التفكر و التدبر. ٧ إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا اى ثوابنا فان أعظم المثوبات لقاء اللّه سبحانه و رؤيته وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا اختاروها على الاخرة وَ اطْمَأَنُّوا بِها اى سكنوا إليها و اقتصروا على لذائذها و زخارفها و تركوا ما يفيدهم للاخرة وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا اى عن الادلة الدالة على وجود الصانع غافِلُونَ (٧) فعلى هذا المراد بالأولين اهل الكتاب من الكفار الذين يعتقدون الصانع و يعلمون البعث و النشور و مع ذلك اختاروا الدنيا على الاخرة و يئسوا من ثواب الاخرة و اقتصروا على لذائذ الدنيا- و بالآخرين الذين لم يوحدوا اللّه تعالى و لا يعرفون البعث و الجزاء- و قال البيضاوي المراد بالأولين من أنكر البعث و لا يرجون اى لا يتوقعون الجزاء و لم يروا الا الحيوة الدنيا- و بالآخرين من الهاهم حب العاجل عن التأمل فى الاجل و الاعداد له- و قيل العطف لتغائر الوصفين و التنبيه على ان الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأسا و الانهماك فى الشهوات بحيث لا يخطر ببالهم أصلا- و قال البغوي الرجاء يكون بمعنى الخوف و الطمع فمعنى لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لا يخافون عقابنا و لا يرجون ثوابنا- و قال ابن عباس عَنْ آياتِنا غافِلُونَ يعنى عن محمد صلى اللّه عليه و سلم و القران غافلون معرضون. ٨ أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا أولئك مبتدا مأويهم مبتدا ثان و النار خبره و الجملة خبر أولئك و جملة أولئك خبر انّ يَكْسِبُونَ (٨) من الكفر و المعاصي اى بما واظبوا عليه و تمرّنوا بالمعاصي- الباء فى بما كانوا متعلق بمحذوف دل عليه الكلام اى جوزوا. ٩ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ يرشدهم رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ اى يرشدهم بسبب ايمانهم الى سلوك سبيل يؤدى الى الجنة- قال مجاهد يهديهم على الصراط الى الجنة- يجعل لهم نورا يمشون به- و قيل معنى يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ يهديهم ربهم لدينه يعنى لادراك حقائق الدين- عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من عمل بما علم ورّثه اللّه علم ما لم يعلم رواه ابو نعيم فى الحلية- و قيل معناه يثيبهم و يجزيهم- او يهديهم لما يريدونه فى الجنة- قال البيضاوي مفهوم الترتيب و ان دل على ان سبب الهداية الايمان و العمل الصالح- لكن دل منطوق قوله بايمانهم على استقلال الايمان بالسببية فان العمل الصالح كالتتمة و الرديف له تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ اى بين أيديهم كقوله تعالى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا لم يرد به انه تحتها و هى قاعدة عليه و جملة تجرى مستأنفة او خبر ثان او حال من الضمير المنصوب على معنى يهديهم لادراك الحقائق او لما يريدونه فى الجنة حال كونهم كذلك و قال البغوي فيه إضمار تقديره يهديهم اى يرشد ربهم بايمانهم الى جنات تجرى من تحتهم الأنهار فعلى هذا جملة تجرى صفة لجنات لكن يجب حينئذ تقدير ضمير فى تلك الجملة الا ان يقال فى قوله تعالى فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) وضع المظهر موضع الضمير مغن عنه يعنى فيها و قال البيضاوي هذا خبرا و حال اخر منه او من الأنهار او متعلق بتجرى او بيهديهم. ١٠ دَعْواهُمْ اى دعاؤهم فِيها اى فى الجنات سُبْحانَكَ اللّهمَّ اى اللّهم نسبحك تسبيحا اى ننزهك من كل سوء قال البغوي قال اهل التفسير هذه الكلمة علامة بين اهل الجنة و الخدم فى الطعام فاذا أرادوا الطعام قالوا سبحانك اللّهم فاتوهم فى الوقت بما يشتهون على الموائد كل مائدة ميل فى ميل على كل مائدة سبعون الف صحفة فى كل صحفة لون من الطعام لا يشبه بعضها بعضا و إذا فرغوا من الطعام حمدوا اللّه عز و جل فذلك قوله تعالى وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعالَمِينَ و قيل دعواهم اى قولهم و كلامهم فيها تلذذا سبحانك اللّهم روى مسلم و احمد و ابو داود عن جابر فى حديث مرفوع ان اهل الجنة يلهمون التسبيح و التحميد كما يلهمون النفس وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها اى فى الجنّة سلام اى يحيى بعضهم بعضا بالسلام و تدخل «١» عليهم الملائكة من كل باب يقولون سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ و تأتيهم الملائكة من عند ربهم بالسلام و يقرأ اللّه تعالى (١) في الأصل و يدخلون. عليهم السلام روى ابن ماجة و ابن ابى الدنيا و الدار قطنى و الآجري عن جابر قال قال النبي صلى اللّه عليه و سلم بينا اهل الجنة فى نعيمهم إذ سطع عليهم نور فرفعوا رءوسهم فاذ الرب تبارك و تعالى اشرف عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا اهل الجنة و ذلك قول اللّه تعالى سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ الحديث- و روى احمد و البزار و ابن حيان عن ابن عمر انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال أول من يدخل الجنة من خلق اللّه فقراء المهاجرين الذين تسير بهم الثعور و تتقى بهم المكاره و يموت أحدهم و حاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء فيقول اللّه تعالى لمن يشاء من ملائكته ايتوهم فحيوهم فتقول الملائكة ربنا نحن سكان سمائك و خيرتك من خلقك فتأمرنا ان نأتى هؤلاء و نسلم عليهم قال انهم كانوا عبادى يعبدوننى و لا يشركون بي شيئا و تسير بهم الثغور و تتقى بهم المكاره و يموت أحدهم و حاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء قال فتأتيهم الملائكة عند ذلك يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ... وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠) لعل المعنى انهم إذا دخلوا الجنة و ماينوا عظمة اللّه تعالى مجّدوه و نعتوه بنعوت الجلال ثم حياهم الملائكة و اللّه سبحانه بالسلامة عن الآفات و الفوز بأصناف الكرامات فحمدوا اللّه تعالى و اثنوا عليه بصفات الإكرام و ان هى المخففة من الثقيلة قلت و جاز ان يكون مفسرة لانّ فى الدعاء معنى القول قال البغوي يفتحون كلامهم بالتسبيح و يختمونه بالتحميد و يتكلمون بينهما بما أرادوا-. ١١ وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللّه لِلنَّاسِ الشَّرَّ اى يسرعه إليهم اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ قال ابن عباس هذا فى قول الرجل عند الغضب لاهله و ولده لعنكم اللّه و لا بارك فيكم كذا قال قتادة و معنى الاية لَوْ يُعَجِّلُ اللّه لِلنَّاسِ الشَّرَّ الذي دعوه و استعجلوه تعجيلا كتعجيله لهم الخير حين دعوه و استعجلوه فحذف منه ما حذف لدلالة الباقي عليه و وضع استعجالهم موضع تعجيله لهم للاشعار بسرعة اجابة لهم فى الخير حتى كانّ استعجالهم به تعجيل لهم و بان المراد بالشر الشر الذي استعجلوه- قيل نزلت الاية فى النضر بن الحارث حين قال اللّهمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ... لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ اى لأميتوا و أهلكوا قرا ابن عامر و يعقوب لقضى بفتح القاف و الضاد على البناء للفاعل و أجلهم بالنصب على المفعولية و الباقون بضم القاف و كسر الضاد على البناء للمفعول و رفع أجلهم فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا اى لا يخافون البعث و العذاب فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) جملة فنذر معطوف على فعل محذوف دل عليه الشرطية تقديره و لكن لا تعجل و لا نقضى فنذرهم امهالا و استدراجا-. ١٢ وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ الشدة و البلاء دَعانا لازالته مخلصا فيه لِجَنْبِهِ ملقيا بجنبه اى مضطجعا أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فائدة الترديد تعميم الدعاء لجميع الأحوال يعنى يدعو لازالته كائنا على اى حال كان سواء كان قائما او قاعدا او راقدا يعنى يدعو فورا و يستمر عليه فى جميع الأحوال فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ اى مضى على طريقه و استمر على كفره و لم يشكر كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا أصله كانّه لم يدعنا فخفف و حذف ضمير الشأن يعنى كان لم يكن فى ضر و بلاء و لم يدعنا قط إِلى كشف ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ اى مثل ذلك التزيين زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) من الانهماك فى الشهوات و الاعراض عن الذكر و العبادات. ١٣ وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ يا اهل مكة لَمَّا ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر و استعمال القوى و الجوارح فيما لا ينبغى لمّا ظرف لاهلكنا وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالحجج الواضحة عطف على ظلموا او حال من فاعله بتقدير قد فالاهلاك ترتب على الكفر بعد تمام الحجة بمجي ء الرسل كما يدل عليه قوله تعالى وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ... وَ ما كانُوا اى القرون الظالمة عطف على وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا ... لِيُؤْمِنُوا اللام لتأكيد النفي اى ما استقام لهم ان يؤمنوا لفساد استعدادهم حيث كان مبادى تعيناتهم ظلال اسم المضل فخذ لهم اللّه تعالى او ما كانوا مؤمنين فى علم اللّه الأزلي بل كان اللّه يعلم انهم يموتون على الكفر و قيل ما كانوا معطوف على ظلموا كَذلِكَ اى مثل ذلك الجزاء و هو الإهلاك بسبب تكذيبهم الرسل و إصرارهم على الكفر بعد ما تحقق انه لا فائدة فى إمهالهم نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) اى نجزى كل مجرم او نجزيكم فوضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على كمال جرمهم و انهم هم المستحقون لهذا الاسم. ١٤ ثُمَّ جَعَلْناكُمْ يا كفار مكة خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ اى بعد القرون التي أهلكناهم لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤) خيرا او شرّا فيعاملكم على مقتضى أعمالكم و هل تعتبرون بهم فتصدقوا رسلنا- و كيف منصوب بتعملون لا بننظر لان معنى الاستفهام يقتضى صدر الكلام و فيه دلالة على ان المعتبر فى الجزاء جهات الافعال و كيفياتها لا هى من حيث ذواتها و لذلك يحسن الافعال تارة و يقبح اخرى عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان الدنيا حلوة خضرة و ان اللّه مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون-. ١٥ وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قال قتادة يعنى على مشركى مكة و قال مقاتل و هم خمسة عبد اللّه بن أبيّ المخزومي و الوليد بن المغيرة و مكرز بن حفص و عمرو بن عبد اللّه بن ابى قبيس العامري و العاص بن عامر بن هشام بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على كونها من عند اللّه تعالى قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا اى لا يخافون البعث و ينكرون القيامة ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا اى بكتاب اخر نقرؤه ليس فيه ما نستبعده من الثواب و العقاب بعد الموت و ما نكرهه من معائب الهتنا أَوْ بَدِّلْهُ بان تجعل مكان اية آية اخرى قال مقاتل قال النفر الخمسة المذكورة للنبى صلى اللّه عليه و سلم ان تريد ان نؤمن بك فأت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات و العزى و مناة و ليس فيه عيبها و ان لم ينزلها اللّه فقل أنت من عند «١» نفسك او بدله فاجعل مكان اية عذاب اية رحمة او مكان حرام حلالا و حلال حراما قُلْ لهم يا محمد ما يَكُونُ لِي قرا الحرميان و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها اى ما يصلح لى أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي قرا نافع و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها اى من قبل نفسى تلقاء مصدر استعمل ظرفا اكتفى بالجواب عن التبديل لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن اخر او لان التبديل مقدور للانسان بان يقرا اية الرحمة مكان اية العذاب بخلاف إتيان قران اخر معجز مثله او لان المراد بالتبديل هاهنا أعم من تبديل القران بقرآن اخر او اية مكان اية إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ تعليل لقوله ما يَكُونُ لِي فان المتبع لغيره فى امر لا يستبد بالتصرف فيه بوجه- و جواب للنقض بنسخ بعض الآيات ببعض ورد لما عرّضوا له بهذا السؤال من ان القران كلامه و اختراعه و لذلك قيد التبديل فى الجواب بقوله مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي و سماه عصيانا حيث قال إِنِّي قرا الحرميان و ابو محمد و ابو جعفر ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بالتبديل عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) اى يوم القيامة و فيه ايماء بانهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح-. (١) فى الأصل من عندك نفسك. ١٦ قُلْ لَوْ شاءَ اللّه غير ذلك او عدم تلاوتى عليكم لم ينزل القرآن علىّ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ اى لا أعلمكم اللّه على لسانى بِهِ قرا البزي عن ابن كثير لادريكم بالقصر على الإيجاب و لام التأكيد يعنى لَوْ شاءَ اللّه ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ و لعلمكم به من غير قراءتى على لسان غيرى و فيه اشارة الى انه الحق الذي لا محيص عليه لو لم أرسل به لارسل به غيرى فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً اى زمانا و هو أربعون سنة مِنْ قَبْلِهِ اى قبل نزول القران و لم اتكم بشي ء ما لم يوح الىّ و فيه اشارة الى كون القران معجزا خارقا للعادة فان من عاش بين أظهرهم أربعين سنة لم يمارس فيها علما و لم يشاهد عالما و لم ينشأ شعرا و لا خطبة ثم قرا عليهم كتابا بدت فصاحته فصاحة كل منطيق و علا كل منظوم و منثور و احتوى على قواعد الأصول و الفروع و اغرب عن قصص الأولين و أحاديث الآخرين على ما هى عليه علم انه معلم به من اللّه تعالى أَ فَلا تَعْقِلُونَ (١٦) اى أ فلا تستعملون عقولكم بالتدبر و التفكر فيه لتعلموا انه ليس من قبل نفسى بل من عند اللّه- (فائدة) لبث النبي صلى اللّه عليه و سلم فيهم قبل الوحى أربعين سنة ثم اوحى اليه فاقام بمكة بعد الوحى ثلاث عشرة سنة ثم هاجر فاقام بالمدينة عشر سنين و توفى و هو ابن ثلاث و ستين سنة كذا روى مسلم عن ابن عباس قال محمد بن يوسف الصالحي اتفق العلماء على انه صلى اللّه عليه و سلم اقام بالمدينة بعد الهجرة عشر سنين و بمكة قبل النبوة أربعين سنة و انما الخلاف فى قدر إقامته بمكة بعد النبوة قبل الهجرة و الصحيح انه ثلاث عشرة سنة و ذكر البغوي برواية انس انه صلى اللّه عليه و سلم اقام بمكة بعد الوحى عشر سنين و توفى و هو ابن ستين سنة و كذا روى ابن اسعد و عمرو بن شيبة و الحاكم فى الإكليل عن ابن عباس قال البغوي و الاول أشهر و اظهر و قد روى مسلم عن انس انه قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو ابن ثلاث و ستين سنة و كذا ابو بكر و عمر و روى ابو داؤد الطيالسي و مسلم عن معاوية بن ابى سفيان قال قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو ابن ثلاث و ستين سنة و كذا أبو بكر و عمر و روى الشيخان عن عائشة قالت توفى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو ابن ثلاث و ستين سنة قال النووي و هو الصواب المشهور الذي أطبق عليه العلماء- و روى احمد و مسلم عن عمار بن ابى عمار قال قلت لابن عباس كم اتى على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوم مات قال أ تحسب قلت «١» نعم قال امسك أربعين بعث بها و خمس عشرة اقام بمكة يأمن و يخاف و عشرة مهاجرة بالمدينة و روى الحاكم فى الإكليل عن على بن ابى زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال توفى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو ابن خمس و ستين سنة قال الحاكم فى الإكليل و النووي اتفق العلماء على ان أصح الروايات ثلاث و ستين سنة و تأولوا الباقي على ذلك فرواية الستين اقتصر فيها على العقود و ترك الكسور و رواية الخمس و الستين متأوّلة عليها او حصل فيها شك و قد أنكر عروة على ابن عباس قوله خمس و ستون سنة و نسبه الى الغلط و انه لم يدرك أول النبوة بخلاف الباقين- قال محمد بن يوسف الصالحي اكثر الرواة عن ابن عباس حكوا عنه رواية ثلاث و ستين فالظاهر انه كان قال ذلك ثم رجع الى ما عليه الأكثر و اللّه اعلم و حكى القاضي عن ابن عباس و سعيد بن المسيب رواية شاذة انه بعث على رأس ثلث و أربعين و الصواب أربعون-. (١) فى الأصل قال-. ١٧ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّه كَذِباً فزعم ان له شريكا او ولدا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ فكفر بها إِنَّهُ اى الشأن لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) اى لا ينجوا المشركون. ١٨ وَ يَعْبُدُونَ اى كفار مكة مِنْ دُونِ اللّه ما لا يَضُرُّهُمْ ان تركوا عبادته وَ لا يَنْفَعُهُمْ ان عبدوه يعنى الأصنام فانها جمادات لا تقدر على نفع و لا ضر و المعبود ينبغى ان يكون مثيبا و معاقبا حتى يعود عبادته بجلب نفع او دفع ضر وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ الأصنام شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللّه يشفع لنا فيما يهمنا من امور الدنيا و فى الاخرة ان يكن بعث قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللّه أ تخبرونه بِما لا يَعْلَمُ و هو ان له شريكا و فيه تقريع و تهكم بهم إذ هؤلاء شفعاء و ما لا يعلم اللّه لا تحقق له أصلا فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ حال من العائد المحذوف مؤكد لنفيه و فيه اشارة الى ان ما يزعمونه الها فهو اما سماوى كالملائكة او ارضى كالاصنام و ليس شي ء من الموجودات فيهما الا و هو حادث مقهور مثلهم لا يليق ان يشرك به سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) اى عن اشراكهم او عن الشركاء الذين يشركون به قرا حمزة و الكسائي تشركون بالتاء على الخطاب للكفار هاهنا و فى سورة النحل فى موضعين و فى سورة الروم و الباقون بالياء على الغيبة. ١٩ وَ ما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً موحدين على الفطرة او متفقين على الإسلام و ذلك فى عهد آدم عليه السلام الى قبيل بعثة نوح او بعد الطوفان او من عهد ابراهيم الى عمر بن لحى او على الضلال فى زمن فترة الرسل فَاخْتَلَفُوا باتباع الهوى و الأباطيل او ببعثة الرسل حين تبعهم طائفة و أصرت على الكفر اخرى وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بان جعل لكل امة أجلا و قال الكلبي هى امهال هذه الامة و ان لا يهلكهم بالعذاب فى الدنيا لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بنزول العذاب فى الدنيا و تعجيل العقوبة للمكذبين و كان ذلك فضلا بينهم فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) قال الحسن لو لا كلمة سبقت من ربك مضت فى حكمه انه لا يقضى بينهم فيما اختلفوا فيه بالثواب و العقاب دون القيامة لقضى فى الدنيا فادخل المؤمن الجنة و الكافر النار و لكنه سبق من اللّه الاجل فجعل موعدهم يوم القيامة. ٢٠ وَ يَقُولُونَ يعنى كفار مكة لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ اى على محمد آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ من الآيات التي اقترحوها فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للّه هو المختص بعلمه فهو العالم بالصارف عن إنزال الآيات المقترحة لا غير او المعنى الغيب يعنى ما غاب عن الناس اى امره تعالى عنده فَانْتَظِرُوا نزول الآيات المقترحة او فانتظروا بقضاء اللّه بيننا و بينكم بإظهار المحق على المبطل إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠) لما يفعل اللّه بكم بجحودكم على ما نزل علىّ من الآيات العظام و اقتراحكم غيرها-. ٢١ وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ اهل مكة رَحْمَةً خصبا و سعة و صحة مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ قحط و شدة و مرض مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قال مجاهد تكذيب و استهزاء قلت المكر عبارة عن ارادة الشر بغيره على وجه الإخفاء و انما سمى تكذيب الآيات و الاستهزاء بها مكرا لان الظاهر فيه تكذيب الرسول و ارادة الشرّ به عليه السلام دون تكذيب اللّه سبحانه لكن الشر و التكذيب يعود الى اللّه فانها فى الحقيقة كلامه تعالى- و قال مقاتل بن حيان مكرهم انهم لا يقولون هذا رزقنا اللّه بل يقولون سقينا بنوء كذا و قيل مكرهم احتيالهم فى دفعها و الطعن فيها قيل قحط اهل مكة فلما كشف اللّه عنهم و رحمهم اسرعوا الى الكفر و الاستهزاء بايات اللّه تعالى قبل ان يؤدوا شكر النعمة روى البخاري ان النبي صلى اللّه عليه و سلم لما راى من الناس إدبارا قال اللّهم أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف فاخذتهم سنة حصب كل شي ء حتى أكلوا الجلود و الميّت و الجيف فاتى ابو سفيان فقال يا محمد انك تأمر بطاعة اللّه وصلة الرحم و ان قومك قد هلكوا فادع اللّه لهم ان يكشف عنهم فدعا- و فى رواية قالوا رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ فقيل له ان كشفت عنهم عادوا فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ربه فكشف اللّه عنهم فعادوا فانتقم اللّه منهم يوم بدر و لمّا كان كلمة إذا للمفاجاة دالة على سرعة مكرهم قال اللّه تعالى قُلِ يا محمد اللّه أَسْرَعُ مَكْراً منكم و المكر من اللّه تعالى اما الاستدراج كما يدل عليه قول على رضى اللّه عنه من وسع اللّه عليه دنياه و لم يعلم انه مكر به فهو مخدوع عن عقله قلت يعنى من وسع اللّه عليه الدنيا و هو غير شاكر- و اما الجزاء على المكر و كونه تعالى اسرع مكرا من الناس انه دبر عقابهم او استدراجهم قيل ان يدبروا كيدهم و قيل معناه ان عذابه فى إهلاككم اسرع إليكم مما يأتى منكم فى دفع الحق فان ما أراد اللّه بكم ات لا محالة و هو قادر على ما يريد و أنتم لا تقدرون على دفع الحق إِنَّ رُسُلَنا اى حفظتنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) قرا يعقوب يمكرون بالياء على الغيبة موافقا لما سبق و الباقون بالتاء الفوقية على الخطاب تحقيق للانتقام و تنبيه على ان ما دبروا فى اخفائه لم يخف عن الحفظة فضلا من ان يخفى على خالق الأشياء كلها من الاعراض و الجواهر-. ٢٢ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ اى يحملكم على السير و يمكنكم منه كذا قرا الجمهور و قرا ابن عامر و ابو جعفر ينشركم بالنون و الشين من النشر فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ اى السفن الفلك لفظ مشترك بين الواحد و الجمع و المراد هاهنا الجمع بدليل قوله تعالى وَ جَرَيْنَ بِهِمْ اى بمن فيها عدل عن الخطاب الى الغيبة للمبالغة فانه تذكرة لغيرهم ليتعجب من حالهم و ينكر عليهم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ اى لينة الهبوب الموصلة الى المقصود وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها جواب إذا و الضمير للفلك او للريح الطيبة بمعنى تلقاها رِيحٌ عاصِفٌ ذات عصف اى شدة الهبوب وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ و هو ما علا من الماء لشدة الريح مِنْ كُلِّ مَكانٍ يجي ء منه وَ ظَنُّوا لم يقل أيقنوا لان اليقين لا يتصور فيما يكون فى المستقبل بمجرد القرائن أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ يعنى أحاط بهم الموج و المهلكات بحيث لا سبيل الى الخلاص كمن أحاط به العدو دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ٥ اى أخلصوا فى الدعاء للّه و لم يدعوا أحدا سوى اللّه و كانت العرب لا يدعون فى الشدائد الا اللّه تعالى و قوله دَعَوُا اللّه بدل اشتمال من ظنوا لان دعاءهم من لوازم ظنهم لَئِنْ أَنْجَيْتَنا يا ربنا مِنْ هذِهِ الريح العاصف لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) هذه الجملة الشرطية اما على ارادة القول او مفعول دعوا لانه من جملة القول و ليس الكون فى الفلك غاية للتسيير بل مضمون الجملة الشرطية بعد حتى بما فى حيزها كانّه قيل حتى إذا كان كيت و كيت مجي ء الريح و تراكم الأمواج و الظن بالهلاك و الدعاء بالانجاء. ٢٣ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ اجابة لدعائهم إِذا هُمْ يَبْغُونَ يعنى فاجئوا و سارعوا الى ما كانوا عليه من البغي اى الظلم على الناس و التجاوز عن حدود الإباحة الى الفساد فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ اى مبطلين فيه تأكيد لقوله يبغون فان البغي لا يكون متلبسا «١» بالحق و فيه دفع لتوهم تخريب المسلمين ديار الكفار و إحراق زروعهم و قلع أشجارهم فانها بإذن اللّه تعالى ليجزى الفاسقين و يهديهم الى الصلاح يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ فان و باله راجع عليكم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اسرع الخير ثوابا البر وصلة الرحم و اسرع الشر عقوبة البغي و قطيعة الرحم رواه الترمذي و ابن ماجة بسند حسن عن عائشة و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثلاث من كن فيه فهى راجعة على صاحبها البغي و المكر و النكث رواه ابو الشيخ و ابن مردوية فى التفسير و الخطيب عن انس و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما رواه ابن لال عن ابى هريرة مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا (١) في الأصل ملتبسا. اى منفعة غير باقية قرا حفص بالنصب مصدر مؤكد اى تمتعون متاع الحيوة الدنيا او مفعول للبغى لانه بمعنى الطلب فيكون الجار و المجرور من صلته و الخبر محذوف تقديره بغيكم متاع الحيوة الدّنيا محذور او ضلال- او مفعول فعل دل عليه البغي و على أنفسكم خبر و قرا الباقون بالرفع على انه خبر بغيكم بعد خبر او هو خبر و على أنفسكم صلة او خبر محذوف تقديره ذاك متاع الحيوة الدّنيا و على أنفسكم خبر بغيكم ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ بالموت او يوم القيامة فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣) بالجزاء عليه-. ٢٤ إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا اى حالها العجيبة فى سرعة زوالها و اغترار الناس بها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ اى اشتبك و خالط بعضه بعضا بِهِ اى بسبب الماء نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ من الحبوب و الثمار و البقول وَ الْأَنْعامُ من الحشيش حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها حسنها و بهجتها بألوان النبات و الازهار وَ ازَّيَّنَتْ أصله تزينت كذا قرا ابن مسعود وَ ظَنَّ أَهْلُها اى اهل الأرض أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها اى على الأرض بمعنى انهم متمكنون من تحصيل ثمرتها بالجزاز و القطاف و الحصاد و رفع غلتها و الانتفاع بها أَتاها أَمْرُنا اى قضاؤنا بضرب زرعها ببعض العاهات بعد استيقانهم انه قد سلم لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها اى زرعها حَصِيداً اى شبيها بالمحصود من أصله كَأَنْ لَمْ تَغْنَ اى كان لم تلبث زرعها فحذف المضاف فى الموضعين مبالغة و أقيم المضاف اليه مقامه مشتق من غنى بالمكان إذا اقام به بِالْأَمْسِ اى قبيل ذلك الزمان و هو مثل فى الوقت القريب الماضي و الممثل به مضمون الحكاية و هو زوال خضرة النبات و بهجتها فجاءة و ذهابها حطاما بعد ما كان غصنا و زين الأرض حين طمع فيه اهله و ظنوا انه قد سلم من الجوائح لا الماء و ان كان متصلا بحرف التشبيه لانه من التشبيه المركب قال قتادة معناة المتشبث بالدنيا يأتيه امر اللّه و عذابه اغفل ما يكون كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) فانهم هم المنتفعون به. ٢٥ وَ اللّه يَدْعُوا جميع الناس إِلى دارِ السَّلامِ اى دار السلامة عن الهلاك و الآفات و هى الجنة و قال قتادة السلام هو اللّه تعالى و داره الجنة و تخصيص هذا الاسم للتنبيه على ذلك عن جابر قال جاءت ملائكة الى النبي صلى اللّه عليه و سلم و هو نائم فقالوا ان لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا قال بعضهم انه نائم و قال بعضهم ان العين نائمة و القلب يقظان فقالوا مثله كمثل رجل بنى دارا و جعل فيها مأدبة و بعث داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار و أكل من المأدبة و من لم يجب الداعي لم يدخل الدار و لم يأكل من المأدبة- فقالوا اوّلوها له يفقهها قال بعضهم انه نائم و قال بعضهم ان العين نائمة و القلب يقظان فقالوا الدار الجنة و الداعي محمد فمن أطاع محمدا فقد أطاع اللّه و من عصى محمدا فقد عصى اللّه محمد فرق بين الناس رواه البخاري و رواه الدارمي عن ربيعة الجرشى نحوه بلفظ قيل لى سيد بنى دارا و صنع مأدبة و أرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار و أكل من المأدبة و رضى عنه السيد و من لم يجب الداعي لم يدخل الدار و لم يأكل من المأدبة و سخط عليه السيد قال فاللّه السيد و محمد الداعي و الدار السلام و المأدبة الجنة- و قيل المراد بالسلام التحية سميت الجنة دار السلام لان أهلها يحيّى بعضهم بعضا بالسلام و الملئكة يدخلون عليهم من كلّ باب يقولون سلم عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدّار و يَهْدِي من الناس مَنْ يَشاءُ هدايته إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) و هو دين الإسلام و طريق السنة و طريق الوصول اليه تعالى و فى تعميم الدعوة و تخصيص الهداية بالمشية دليل على ان الأمر غير الارادة و ان الكافر لم يرد اللّه هدايته-. ٢٦ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا العمل فى الدنيا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى حديث الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك فى الصحيحين من حديث عمر فى قصة سوال جبرئيل الْحُسْنى يعنى المثوبة الحسنى اى الجنة اخرج ابن مردوية عن ابن عمر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا شهادة ان لا اله الا اللّه الحسنى الجنة و الزيادة النظر الى اللّه وَ زِيادَةٌ و هو النظر الى وجه اللّه الكريم كذا روى ابن جرير و ابن مردوية عن ابى موسى الأشعري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال يبعث اللّه تعالى يوم القيامة مناديا ينادى بصوت يسمعه أولهم و آخرهم يا اهل الجنة ان اللّه وعدكم الحسنى و زيادة الحسنى الجنة و زيادة النظر الى وجه الرحمن و كذا روى ابن جرير و ابن مردوية و اللالكاني و ابن ابى حاتم من طرق عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى اللّه عليه و سلم و نحوه روى ابن مردوية و ابو الشيخ و اللالكاني من طريقين عن انس مرفوعا و ابو الشيخ عن ابى هريرة مرفوعا نحوه و ابن جرير و ابن مردوية و ابن المنذر و ابو الشيخ فى تفاسيرهم و اللالكاني و الآجري فى كتاب الرؤية عن ابى بكر الصديق و ابن جرير و ابن المنذر و ابو الشيخ و اللالكاني و الآجري عن حذيفة ابن اليمان فى الاية نحوه و اخرج هناد و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ و اللالكاني عن ابى موسى الأشعري نحوه و ابن مردوية من طريق عكرمة عن ابن عباس نحوه و اخرج ابن ابى حاتم و اللالكاني من طريق عن عكرمة عن ابن عباس نحوه و اخرج ابن ابى حاتم و اللالكاني من طريق السدىّ عن ابى مالك و عن ابى صالح عن ابن عباس و عن عروة عن ابن مسعود نحوه و اخرج اللالكاني هذا التفسير بأسانيده عن سعيد بن المسيب و حسن البصري و عبد الرحمن بن ابى ليلى و عامر بن سعيد البجلي و ابن ابى إسحاق السبيعي و عبد الرحمن بن سابط و عكرمة و مجاهد و قتادة قال القرطبي فى كتاب الرؤية هذا تفسير قد استفاض و اشتهر فيما بين الصحابة و التابعين و مثله لا يقال الا بتوقيف روى مسلم و ابن ماجة عن صهيب عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال إذا دخل اهل الجنة الجنة يقول اللّه تريدون شيئا أزيدكم فيقولون الم تبيض وجوهنا الم تدخلنا الجنة و تنجينا من النار قال فيكشف الحجاب فما اعطوا شيئا أحب إليهم من النظر الى ربهم ثم تلا هذه الاية و روى البغوي بسنده هذا الحديث بلفظ قرا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هذه الاية لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ و قال إذا دخل اهل الجنة الجنة و اهل النار النار نادى مناديا اهل الجنة انّ لكم عند اللّه موعدا يريد ان ينجزكموه فقالوا ما هذا الموعد الم تثقل موازيننا و تبيض وجوهنا و تدخلنا الجنة و تجرنا من النار قال فيرفع الحجاب فينظرون الى اللّه عز و جل قال فما اعطوا شيئا أحب إليهم من النظر اليه قال القرطبي قوله فيكشف الحجاب معناه يرفع الموانع عن الرؤية عن أبصارهم حتى يروه على ما هو عليه من نور العظمة و الجلال فذكر الحجاب انما هو فى حق الخلق لا الخالق تعالى و تقدس وَ لا يَرْهَقُ اى لا يغشى وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ اى غبرة فيها سواد كذا روى ابن ابى حاتم و غيره عن ابن عباس و ابن مسعود وَ لا ذِلَّةٌ اى هو ان كما يرهق اهل النار أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) دائمون فيها لا زوال فيها و لا انقراض لنعيمها بخلاف الدنيا و زخارفها-. ٢٧ وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها عطف على قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى على مذهب من يجوز فى الدار زيد و الحجرة عمرو او هو مبتدا خبره جزاء سيّئة تقديره جزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها اى نجازى سيئة بسيئة مثلها لا يزاد عليها و جاز ان يكون خبره كَأَنَّما أُغْشِيَتْ او أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ و ما بينهما اعتراض و قوله جزاء سيئة مبتدا خبره محذوف اى جزاء سيئة واقع او مقدر بمثلها او الخبر بمثلها على زيادة الباء وَ تَرْهَقُهُمْ تغشاهم ذِلَّةٌ هو ان ما لَهُمْ مِنَ اللّه مِنْ عاصِمٍ من زائدة يعنى مالهم أحد يعصمهم من سخط اللّه او مالهم أحد من جهة اللّه او من عنده من يعصمهم من عذاب اللّه كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً جمع قطعة مفعول ثان لاغشيت مِنَ اللَّيْلِ صفة لقطعا مُظْلِماً حال من الليل و العامل فيه أغشيت لان العامل فى موصوفه عامل فيه او معنى الفعل فى من الليل و قرا ابن كثير و الكسائي و يعقوب قطعا ساكن الطاء اى بعضا كقوله تعالى بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ و على هذا يصح ان يكون مظلما صفة لقطعا او حال منه أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧) احتجت المعتزلة بهذه الاية على خلود اصحاب الكبائر فى النار و ردّ قولهم بان السيئات يعم الصغائر و الكبائر و الكفر فلو كانت الاية على عمومها لزم خلود اصحاب الصغائر ايضا و لم يقل به أحد و ايضا يأبى عنه قوله تعالى جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها فانه يقتضى ان يكون جزاء الكبائر دون الكفر فوق الصغائر فلا يتصور الحكم بالخلود على العموم فمرجع الاشارة ليس الذين كسبوا السيئات على العموم بل بعضهم و هم الكفار كما فى قوله تعالى وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ بعد قوله وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ و جاز ان يقال المراد بالذين كسبوا السيئات الكفار لان الذين أحسنوا يتناول اصحاب الكبائر من اهل القبلة فان الايمان رأس الحسنات فلا يتناولهم قسيمه و يمكن ان يقال المراد بالذين كسبوا السيئات الموجودون «١» فى زمن النبي صلى اللّه عليه و سلم- و المؤمنون الموجودون فى ذلك الزمان كانوا اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عدول كلهم بالإجماع ما كسب أحد منهم سيّئة إلا تاب و غفر و التائب من الذنب كمن لا ذنب له فالمسئ فى ذلك الزمان لم يكن الا كافرا و اللّه اعلم-. (١) فى الأصل الموجود [.....]. ٢٨ وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يعنى الفريقين ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ اى الزموا مكانكم حتّى تنظروا ما نفعل بكم أَنْتُمْ تأكيد للضمير المنتقل الى قوله مكانكم من عامله المحذوف اعنى الزموا وَ شُرَكاؤُكُمْ عطف على الضمير المذكور يعنى الأوثان فَزَيَّلْنا اى فرقنا بَيْنَهُمْ يعنى قطّعنا الوصل الّتي كانت بينهم فى الدنيا حتّى تبرّا كل معبود من دون اللّه ممن عبده و قيل معناه ميّزنا بينهم و بين المؤمنين كما فى قوله تعالى وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ... وَ قالَ لهم شُرَكاؤُهُمْ يعنى الأصنام ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) بطلبنا منكم العبادة ينطق اللّه بذلك الأصنام فيشافههم بالتبرّى مكان الشفاعة الّتي كانوا يرجون منها و قيل المراد بالشركاء الملائكة و المسيح فانهم ما أمروا بها و لا رضوا بها فاذا قالت المعبودون بالباطل ذلك- قالت الكفار بلى كنا نعبدكم فيقول الأوثان. ٢٩ فَكَفى بِاللّه شَهِيداً بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ فانه هو العالم بكنه الأشياء إِنْ كُنَّا مخففة من الثقيلة يعنى انّا كنّا عَنْ عِبادَتِكُمْ إيانا لَغافِلِينَ (٢٩) اللام هى الفارقة و جاز ان يكون ان نافية و اللام بمعنى الا يعنى ما كنا الا غافلين عن عبادتكم لا نسمع و لا نبصر و لا نعقل. ٣٠ هُنالِكَ اى فى ذلك المقام تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ اى تختبر و تعلم ما قدمت من عمل فيعائن نفعها «٢» و ضررها قرا حمزة و الكسائي تتلوا بالتائين الفوقانيتين من التلاوة اى تقرأ صحيفتها او من العلو اى تتبع عملها فتقودها الى الجنة او الى النار وَ رُدُّوا إِلَى اللّه اى الى حكمه او الى جزائه إياهم بما اسلفوا مَوْلاهُمُ الْحَقِّ اى ربهم و متولى أمورهم على الحقيقة لا ما اتخذوه اولياء فان (٢) فى الأصل نفعه و ضرره-. قيل أ ليس اللّه قد قال وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ قلنا المولى هنالك بمعنى الناصر و هاهنا بمعنى الرب و المالك وَ ضَلَّ عَنْهُمْ اى زال و بطل عنهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠) من ان الهتهم يشفع لهم- او ما كانوا يدعون انها الهة-. ٣١ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بانزال المطر و البركة وَ الْأَرْضِ بالانبات و قيل من لبيان من الموصولة على حذف المضاف اى من اهل السماء و الأرض أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ فيسمعكم و يبصركم ما شاء إسماعه و ابصاره و جرى به عادته او من اعطاكم السمع و الابصار و من يستطيع خلقهما و تسويتهما او من يحملهما عن الآفات مع كثرتها فى المدد الطوال و سرعة انفعالهما عن ادنى شي ء وَ مَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ الحيوان مِنَ الْمَيِّتِ من النطفة و البيضة وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ اى النطفة و البيضة مِنَ الْحَيِّ من الحيوان وَ مَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ اى يقضى الأمور و يعلم عواقبها فَسَيَقُولُونَ اللّه خبر مبتدا محذوف اى هو اللّه يعنى لا يقدرون على اسناد هذه الأمور الى ما يدعونه الهة لظهور بطلانه فَقُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ (٣١) أنفسكم عقابه باشراككم إياه ما لا يقدر على شي ء مما ذكر. ٣٢ فَذلِكُمُ اى من يفعل هذه الأشياء اللّه المستحق للعبادة رَبُّكُمُ الثابت ربوبيته بالوجدان و البرهان حيث خلقكم و رزقكم و دبر أموركم الْحَقُّ الثابت المتحقق الّذي لا شبهة فى وجوده و لا فى ألوهيته فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ استفهام انكار اى ليس شي ء غير الحق الا الضّلال فمن يخطى الحق الّذي هو عبادة اللّه تعالى وقع فى الضلالة فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) عن الحق الى الضلال مع قيام البرهان. ٣٣ كَذلِكَ يعنى كما تحققت الربوبية للّه تعالى و ان ليس بعد الحق الا الضلال او كما صرف هؤلاء عن الايمان حَقَّتْ ثبتت و وجبت كَلِمَةُ رَبِّكَ اى حكمه السابق لاملانّ جهنّم من الجنّة و النّاس قرا ابو جعفر و نافع و ابن عامر كلمات ربّك على الجمع و الباقون بالإفراد عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا خرجوا عن حد الاستصلاح و تمردوا فى كفرهم أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) بدل من الكلمة او تعليل لحقيقتها و المراد بها العدة بالعذاب-. ٣٤ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ جعل الاعادة كالابداء فى الإلزام بها لظهور برهانها و ان كانوا منكرين لها و لذلك امر اللّه سبحانه رسوله صلى اللّه عليه و سلم ان ينوب عنهم فى الجواب فقال قُلِ اللّه يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد اعدامه كما كان فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) تصرفون عن عبادته الى عبادة غيره مع قيام البرهان. ٣٥ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ بنصب الدلائل و إرسال الرسل و التوفيق الى النظر الصحيح و خلق الهداية- و الهدى كما يعدى بالى لتضمنه معنى الانتهاء يعدى باللام ايضا للدلالة على ان المنتهى هو المقصود بالهداية فقال قُلِ اللّه يَهْدِي لِلْحَقِّ لا يستطيع ذلك غيره أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ يعنى اللّه سبحانه تعالى أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ ممّن لا يهدى أَمَّنْ لا يَهِدِّي قرا ابن كثير و ورش و ابن عامر بفتح الياء و الهاء و تشديد الدال و قالون و ابو عمرو كذلك الا انهما يخفيان حركة الهاء و النص عن قالون الإسكان و قرا اليزيدي عن ابى عمرو كانّ يشم الهاء شيئا من الفتح و أبو بكر بكسر الياء و الهاء و حفص و يعقوب بفتح الياء و كسر الهاء و الأصل فى هذه القراءات يهتدى فادغمت التاء فى الدال و فتحت الهاء بحركة التاء او كسرت لالتقاء الساكنين و كسرت الياء على قراءة ابى بكر باتباع الهاء و لم يبال «١» ابو عمرو بالتقاء الساكنين لان المدغم فى حكم المتحرك و قرا حمزة و الكسائي بفتح الياء و اسكان الهاء و تخفيف الدال من المجرد من قولهم هدى بنفسه إذا اهتدى او بمعنى لا يهدى غيره و المعنى ا من لا يهدى غيره او لا يهتدى بنفسه فضلا من ان يهدى غيره أحق بالاتباع ممن يهدى غيره إِلَّا أَنْ يُهْدى استثناء مفرغ منصوب على الظرفية يعنى لا يهدى فى شي ء من الأوقات الا ان يهديه اللّه اى الا وقت هداية اللّه إياه فحينئذ يهتدى بنفسه و يهدى غيره و هذا حال اشراف شركائهم كالملائكة و المسيح و عزير و قيل معنى الهداية الانتقال من مكان الى مكان اخر فيشتمل الأصنام ايضا يعنى الا ان تحمل و تنقل يبين به عجز الأصنام فَما لَكُمْ ايها الكفار كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) بما هو باطل بالبداهة. (١) هذا التوضيح متفرع على قراءة الإسكان لا على قراءة الاختلاس ابو محمّد. ٣٦ وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ فيما يعتقدونه إِلَّا ظَنًّا غير مستند الى برهان عقلى او نقلى بل الى خيالات فارغة و أقيسة فاسدة كقياس الغائب على الشاهد و الخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة و المراد بالأكثر المجموع او من ينتمى منهم الى تميز و نظر و لا يرضى بالتقليد الصرف إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي اى لا يفيد مِنَ الْحَقِّ من العلم و الاعتقاد الحق شَيْئاً من الإغناء او لا يفيد شيئا كائنا من الحق و فيه دليل على انه لا يجوز فى الاعتقاديات الاكتفاء بالظن و التقليد بل لا بد فيه من تحصيل العلم بالبرهان النقلى او العقلي إِنَّ اللّه عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦) وعيد على الاعراض عن الحجج العقلية و النقلية اتباعا للظن و التقليد-. ٣٧ وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ المعجز أَنْ يُفْتَرى مصدر بمعنى المفعول خبر كان مِنْ دُونِ اللّه وَ لكِنْ تَصْدِيقَ اى مصدق منصوب على انه خبر لكان مقدرا او علة لفعل محذوف تقديره و لكن أنزله اللّه لتصديق الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ يعنى محمّدا صلى اللّه عليه و سلم او الكتب المنزلة المتقدمة او القيامة او البعث الّذي اخبر بها الكتب المتقدمة فلا يكون كذبا وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ اى تبيين لما فى اللوح المحفوظ من الحلال و الحرام و الفرائض و الاحكام لا رَيْبَ فِيهِ منتفيا عنه صلاحية الريب لكونه معجزا مطابقا للكتب المتقدمة خبر ثالث داخل فى حكم الاستدراك او استيناف مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) خبر اخر تقديره كائنا من ربّ العالمين او متعلق بتصديق او بتفصيل و لا ريب فيه اعتراض او بالفعل المعلل بهما او حال من الكتاب او من ضمير فيه و فى الاية تنبيه على ما يجب اتباعه بعد المنع عن اتباع الظن. ٣٨ أَمْ يَقُولُونَ بل أ يقولون و معنى الهمزة فيه للانكار افْتَراهُ اختلقه محمّد صلى اللّه عليه و سلم قُلْ يا محمّد ردّا لقولهم فَأْتُوا بِسُورَةٍ الفاء جزاء لمقدر يعنى ان افتريته فأتوا أنتم ايضا بسورة مِثْلِهِ اى شبيها للقران فى البلاغة و حسن النظم و قوة المعنى على وجه الافتراء فانكم مثلى فى العربية و الفصاحة و أشد تمرّنا فى النظم و العبارة وَ ادْعُوا مع ذلك مَنِ اسْتَطَعْتُمْ دعوته ممّن يعينكم عليه مِنْ دُونِ اللّه اى غيره تعالى فان غيره تعالى لا يقدر على إتيان مثله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) فى ان محمّدا افتراه شرط مستغن عن الجزاء بما مضى يعنى فأتوا فلم يقدروا على ذلك- و لمّا كان فى هذه الاية دعوتهم الى المناظرة و طلب الحق بالتفكر فى نظم القران و معانيه قال اللّه تعالى. ٣٩ بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ يعنى ان كلامهم و انكارهم للقران ليس مبتنيا على التحقيق و التفكر بل كذبوا به أول ما سمعوه قبل ان يتفكروا فيه و يحيطوا بالعلم بشأنه و ادراك انه ليس من جنس ان يمكن إتيانه من البشر وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ اى لم يأتهم بعد العلم بعاقبة ما فى القران من الوعد و الوعيد و الاخبار بالغيوب من المبدأ و المعاد و كان يمكنهم تحصيل ذلك العلم من علماء الكتب المنزلة المتقدمة حتّى يتبين لهم صدق هذا الحديث- و المعنى ان القران معجز من جهة النظم و المعنى ظاهر صدقه على من يتامل فيه ادنى تأمل و يتفكر و يبحث عن علومه لكنهم لم يفعلوا ذلك بل سارعوا فى تكذيبه قبل ان يتدبروا فى نظمه و يتفحصوا عن معناه و معنى التوقع فى لمّا انه قد ظهر لهم بالاخر اعجازه لما كرد عليهم التحدي و جرّبوا أقواهم فى معارضته فتضالت دونها و شاهدوا وقوع بعض ما اخبر به مطابقا لما أخبره مرارا كما فى قوله فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا و قوله غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ و قوله تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ و غير ذلك فمنهم من أمن بعد ذلك و منهم من لم يؤمن تمردا و عنادا قال اللّه تعالى يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ و قال وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ... كَذلِكَ اى كما فعل هؤلاء بالقران كذلك كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعنى كذب كفار الأمم الخالية كتبهم و أنبياءهم فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) فيه وعيد لهم ان لم يؤمنوا بمثل ما عوقب به من قبلهم. ٤٠ وَ مِنْهُمْ اى من المكذبين مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ اى يصدق به فى نفسه و يستيقن بعد التفكر فى القران او المعنى و منهم من يؤمن به فى الاستقبال بعد ما يتضح عليه حقيّة القران فيتوب عن كفره هذا ما دلت عليه كلمة لمّا من التوقع وَ مِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ لفرط غباوته و سبق قضاء اللّه تعالى بموته على الكفر وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) بالمعاندين او المصرين-. ٤١ وَ إِنْ كَذَّبُوكَ يعنى ان أصروا على تكذيبك بعد الزام الحجة يا محمّد فَقُلْ يعنى فتبرّأ عنهم و قل لِي عَمَلِي اى جزاؤه وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ اى جزاؤه أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ يعنى لا تؤاخذون على عملى و لا يضركم فعلى فلا تؤذوني و لا تهتموا بما فعلت وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) لا أؤاخذ بأعمالكم انما أقول لكم ما أقول نصحا لكم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انما مثلى و مثل ما بعثني اللّه به كمثل رجل اتى قوما فقال يا قوم انى رايت الجيش بعيني و انى انا النذير العريان فالنجا النجا فاطاعه طائفة من قومه فادلجوا فانطلقوا على مهلهم فنجوا و كذّبت طائفة منهم فاصبحوا مكانهم فصبّحهم الجيش فاهلكهم و اجتاحهم فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به و مثل من عصانى و كذب ما جئت به من الحق متفق عليه من حديث ابى موسى الأشعري قال الكلبي و مقاتل هذه الاية منسوخة باية الجهاد كقوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ .... ٤٢ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ اى يلقون إليك أسماعهم الظاهرة إذا قرات القران و تكلمت بالحكم و الشرائع لكن لا يسمعون بقلوبهم فلا يدركون حقائقها و لطائفها لفساد استعدادهم كالاصم الّذي يريد ان يسمع فلا يسمع لعدم القوة السامعة فى صماخه أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ اى تقدر على اسماع الصم وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) اى و لو انضم الى صممهم عدم تعقلهم فان الأصم العاقل ربما تفرس بالقرائن فكما لا تقدر أنت على اسماع الصم المسلوب عنه العقل لا تقدر على استماع من سلب عن قلبه صلاحبة سماع التفكر و التدبر. ٤٣ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ بأبصارهم و يعائنون ادلة الصدق و اعلام النبوة لكنهم لا يصدقون لعدم بصيرة فى قلوبهم أَ فَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ لَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) اى و لو انضم الى عدم البصر عدم البصيرة فانه لا يهتدى بالطريق الاولى- فيه تسلّية من اللّه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه و سلم يقول انك لا تقدر ان تسمع من سلبت عنه السمع و لا تهدى من سلبت عنه البصر و لا ان توفق للايمان من حكمت عليه انه لا يؤمن- و تعليل للامر بالتبرّى و الاعراض عنهم. ٤٤ إِنَّ اللّه لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤) فانهم لسوء استعدادهم و فساد اختيارهم لا يقبلون هداية اللّه و رسوله قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مثل ما بعثني اللّه به من الهدى و العلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت طائفة منها طيبة قبلت الماء و أنبتت الكلأ و العشب الكثير و كانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع اللّه به الناس فشربوا و سقوا و زرعوا و أصاب منها طائفة اخرى انما هى قيعان لا تمسك ماء و لا تنبت كلاء فذلك من فقه فى دين و نفعه ما بعثني اللّه به فعلم و علّم و مثل من لم يرفع بذلك رأسا و لم يقبل هدى اللّه الّذي أرسلت به متفق عليه من حديث ابى موسى و قيل معناه انّ اللّه لا يظلم النّاس شيئا بسلب آلات الاستدلال من العقول و الحواس و لكنّ النّاس أنفسهم يظلمون بافسادها و تفويت منافعها و ترك الاستدلال فالاية دليل على ان العبد له كسب و انه ليس مسلوب الاختيار بالكلية كما زعمت الجبرية و يجوز ان يكون وعيدا لهم بمعنى ان ما يحيق بهم يوم القيامة من العذاب عدل من اللّه تعالى لا يظلمهم اللّه به و لكنهم ظلموا أنفسهم باقتراف أسبابها قرا حمزة و الكسائي بتخفيف لكن و رفع الناس و الباقون بتشديدها و النصب-. ٤٥ وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ قرا حفص باليا على الغيبة و الضمير عائد الى اللّه و الباقون بالنون على التكلم و التعظيم كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا قال ابن عباس فى قبورهم و قال الضحاك فى الدنيا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يستقصرون مدة لبثهم فى الدنيا و القبور لهول ما يرون و الجملة التشبيهية فى موقع الحال من الضمير المنصوب فى يحشرهم اى يحشرهم مشبهين بمن لم يلبث الا ساعة او صفة ليوم و العائد محذوف تقديره كان لم يلبثوا قبله او صفة لمصدر محذوف اى حشرا كان لم يلبثوا قبله يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ اى يعرف بعضهم بعضا كما يتعارفون فى الدنيا كان لم يتفارقوا الا قليلا و هذا حال اخر مقدرة او بيان لقوله كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا او متعلق الظرف و التقدير يتعارفون بينهم يوم يحشرهم قال البغوي هذه المعرفة حين بعثوا من القبور ثم ينقطع المعرفة إذا عاينوا اهوال القيامة- و فى بعض الآثار ان الإنسان يعرف من بجنبه و لا يكلمه هيبة و خشية قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللّه بالبعث على ارادة القول اى يتعارفون بينهم قائلين ذلك او هى شهادة من اللّه تعالى على خسرانهم حيث استبدلوا الكفر بالايمان و النار بالجنة وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) بطرق استعمال ما اعطوا من اسباب تحصيل المعارف و كسب السعادة استيناف فيه معنى التعجب كانه قيل ما اخسرهم. ٤٦ وَ إِمَّا مركبة من ان شرطية و ما زائدة يعنى و ان نُرِيَنَّكَ اى نبصرنك بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب فى الدنيا كما أراه «١» يوم بدر أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل ان نريك عذابهم فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ اى فنريكه فى الاخرة فهو جواب نتوفينك و جواب نرينك محذوف نحو فذاك ثُمَّ اللّه شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) ذكر الشهادة و أراد نتيجتها و مقتضاها مجازا و لذلك رتبها على الرجوع بثم و المعنى ثم اللّه يفعل بهم على مقتضى ما شهد منهم من أفعالهم و قيل ثم هاهنا بمعنى الواو قال مجاهد كان البعض الّذي أراه قتلهم يوم بدر و سائر انواع العذاب بعد الموت. (١) فى الأصل راه. ٤٧ وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ خلت رَسُولٌ أرسل إليهم ليدعوهم الى الإسلام فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ بالبينات فكذبوه قُضِيَ بَيْنَهُمْ و بين الرسول بِالْقِسْطِ بالعدل فاهلك المكذبون و بحي الرسول و المؤمنون بالعدل وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧) يعنى ما ظلمناهم فى تعذيبهم بل استحقوا ذلك و قال مجاهد و مقاتل معناه لكل امة من الأمم رسول أرسل إليهم فاذا كان يوم القيامة و جاء رسولهم ليشهد عليهم بالكفر او الايمان قضى بينهم بانجاء المؤمنين و تعذيب الكافرين كما قال اللّه تعالى وَ جِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ و قال فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً-. ٤٨ وَ يَقُولُونَ اى كفار مكة مَتى هذَا الْوَعْدُ الّذي تعدنا يا محمّد من العذاب إِنْ كُنْتُمْ ايها الرسول و اتباعه صادِقِينَ (٤٨) فيما وعدتم به شرط حذف جزاؤه يعنى فأتوا به قالوا ذلك تكذيبا و استهزاء. ٤٩ قُلْ يا محمّد لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً اى دفع ضر او جلب نفع فكيف املك فى جلب العذاب إليكم إِلَّا ما شاءَ اللّه ان يقدرنى فاملكه او المعنى لكن ما شاء اللّه كائن لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ مدة مضروبة فى علم اللّه تعالى لهلاكهم إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ اى الوقت المقدر لتعذيبهم فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً اى لا يتاخرون منه ادنى زمان وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) معطوف على جملة إذا جاء أجلهم يعنى لا تستعجلوا عذابكم فسيجي ء وقته و ينجز وعدكم. ٥٠ قُلْ أَ رَأَيْتُمْ يعنى أخبروني إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ تعالى الّذي تستعجلونه بَياتاً وقت اشتغالكم بالنوم أَوْ نَهاراً وقت اشتغالكم بامور معاشكم- و جواب الشرط محذوف يعنى ندمتم على استعجالكم و عرفتم ما اخطأتم ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) استفهام تعجب من استعجالهم شيئا من المكروه- إذ لا شي ء من المكروه ما يلائم الاستعجال- و هو متعلق بارايتم و ما بينهما اعتراض- و المجرمون مظهر موضع الضمير- وضع للدلالة على ان جرمهم يقتضى ان يفزعوا- لا ان يستعجلوا جزاءه قال البغوي انهم كانوا يستعجلون العذاب و يقول أحدهم ان كان هذا هو الحقّ من عندك فامطر علينا حجارة من السّماء او ائتنا بعذاب اليم فيقول اللّه ماذا يستعجلون اى اىّ شي ء من العذاب يستعجلونه و كله مكروه- قلت و جاز ان يكون قوله ما ذا يَسْتَعْجِلُ إلخ جزاء للشرط كقولك ان أتيتك ماذا تعطينى- و المعنى ان أتاكم عذاب اللّه اىّ شي ء تستعجلون حينئذ هل تستعجلون مثل ذلك العذاب و تختارون بقاءكم فيه او تستعجلون التفصى عنه يعنى لا يستعجلون العذاب حينئذ البته. ٥١ أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ العذاب الّذي يستعجلونه الظرف متعلق بقوله آمَنْتُمْ بِهِ و هذا معطوف على جزاء الشرط محذوفا كان او مذكورا- تقديره ان أتاكم عذابه ندمتم ثم أمنتم به اى بالعذاب او بمن اخبر به إذا ما وقع يعنى بعد وقوعه و الهمزة لانكار تأخير الايمان الى وقت لا يفيد الايمان حينئذ- او تقديره ان أتاكم عذابه اىّ شي ء تستعجلون حينئذ يعنى لا تستعجلون حينئذ بالعذاب ثم تؤمنون بالعذاب او بمن اخبر به حين لا ينفعهم و جاز ان يكون هذا جملة شرطية معطوفة على شرطية سابقة و قوله ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ معترضة او جزاء شرطية سابقة و المراد بالعذاب هاهنا عذاب الاخرة و بالعذاب السابق عذاب الدنيا و المعنى ارايتم ان أتاكم عذاب اللّه فى الدنيا ليلا او نهارا تندموا او اىّ شي ء تستعجلوا حينئذ ثم إذا وقع بكم عذاب الاخرة هل تؤمنوا به حين لا ينفعكم الايمان هلا تؤمنوا حين ينفعكم و ذلك فى الدنيا قبل الغرغرة آلْآنَ على إضمار القول يعنى يقال لكم حين تؤمنوا بعد رؤية العذاب فى الاخرة او عند غرغرة الموت على وجه الإنكار الان أمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم- قرا نافع بحذف الهمزة و إلقاء حركتها على اللام- و الباقون بإسكان اللام و همزة بعدها- و كلهم سهل همزة الوصل الّتي بعد همزة الاستفهام- او قلّبها مدّة فى ذلك و شبهه- نحو قوله تعالى آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ وَ الذَّاكِرِينَ- وَ اللّه خَيْرُ- و لم يحققها أحد منهم- و لم يجعل أحد فصلا بينها و بين الّتي قبلها بألف لضعفها وَ قَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) تكذيبا و استهزاء حال من فاعل أمنتم المقدر. ٥٢ ثُمَّ قِيلَ عطف على قيل المقدر لِلَّذِينَ ظَلَمُوا اى أشركوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ اى ما تجزون إِلَّا بِما «١» كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) من الكفر و المعاصي. (١) فى الأصل الا ما. ٥٣ وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ اى يستخبرونك يا محمّد أَ حَقٌّ هُوَ يعنى ما تدعيه من التوحيد و النبوة و القران و قيام الساعة و العذاب و الثواب- أم باطل تهزل به- قوله حق مبتدا من القسم الثاني و الضمير مرتفع به على الفاعلية ساد مسد الخبر او الضمير مبتدا و حق خبر مقدم عليه و الجملة فى موضع النصب بيستنبئونك قُلْ يا محمّد إِي اى نعم وَ رَبِّي قرا نافع و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها إِنَّهُ لَحَقٌّ لا شك فيه وَ ما أَنْتُمْ يا كفار مكة بِمُعْجِزِينَ (٥٣) بفائتين من الذاب لان من عجز عن شي ء فقد فاته-. ٥٤ وَ لَوْ ثبت أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ على اللّه سبحانه بالشرك او على غيره بالتعدي ما فِي الْأَرْضِ من خزائنها و ما يحبّه مما هو عليها لَافْتَدَتْ بِهِ اى لجعلته فدية من العذاب من قولهم افتداه بمعنى فداه وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ قال ابو عبيدة معناه أظهروا الندامة لانه ليس ذلك اليوم يوم تصبّر و تصنّع و قيل معناه اخفوا الندامة اى أخفى الرؤساء الندامة من الضعفاء و هم الاتباع خوفا من ملامتهم و تعييرهم- و قيل انهم لمّا بهتوا من رؤية عذاب لم يكونوا يحتسبوه لم يقدروا ان ينطقوا- و قيل أسروا الندامة يعنى أخلصوها لان اخفاؤها إخلاصها او لانه يقال سر الشي ء لخلاصته من حيث انها تخفى و يضين بها وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ اى بين الظالمين و المظلومين دل عليهم ذكر الظلم يعنى حكم للمظلومين على الظالمين بالعذاب بِالْقِسْطِ اى بالعدل وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) بالتعذيب بلا ذنب و ليس هذا تكريرا لان الاول قضاء بين الأنبياء و مكذبيهم و هذا مجازات المشركين على شركهم و الحكومة بين الظالمين و المظلومين. ٥٥ أَلا إِنَّ للّه ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ تقرير لقدرته تعالى على الاثابة و التعذيب أَلا إِنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ اى ما وعده من الثواب و العذاب كائن لا خلف فيه وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) به لانهم لقصور عقلهم لا يعلمون الا ظاهرا من الحيوة الدنيا. ٥٦ هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ فى الدنيا فهو يقدر عليهما فى العقبى لان القادر لذاته لا يزول قدرته و المادة القابلة بالذات للحيوة و الموت قابلة لهما ابدا وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦) بالموت و البعث. ٥٧ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعنى القران على لسان محمّد صلى اللّه عليه و سلم- فانها موعظة يعنى تنبيه و تذكير يدعو الى كل مرغوب و يزجر عن كل مرهوب- و ذلك بالأوامر و النواهي فان الأمر من الحكيم العليم الجواد يقتضى حسن المأمور به فيكون مرغوبا و يترتب عليه اجر مرغوب و النهى يقتضى قبحه فهو مرهوب يترتب عليه اجر مرهوب وَ شِفاءٌ اى دواء موجب للشفاء لِما فِي الصُّدُورِ اى فى صدوركم من الأمراض القلبية يعنى العقائد الفاسدة و تعلقات القلوب بما سوى اللّه تعالى- اخرج ابن مردوية عن ابى سعيد الخدري قال جاء رجل الى النبي صلى اللّه عليه و سلم قال انى اشتكى صدرى قال اقرأ القران يقول اللّه تعالى وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ و له شاهد من حديث واثلة بن الأسقع أخرجه البيهقي فى شعب الايمان وَ هُدىً اى اراءه طريق الى العقائد «١» الحقة و سبيل الجنة و مراتب القرب من اللّه سبحانه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقال لصاحب القران اقرأ و ارتق و رتّل كما كنت ترتل فى الدنيا فان منزلتك عند اخر اية تقراها رواه احمد و الترمذي و ابو داود و النسائي عن عبد اللّه بن عمرو وَ رَحْمَةٌ من اللّه تعالى لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) اى لمن أمن به منكم فانهم هم المنتفعون به كاسبون رحمة اللّه بتلاوته و اتباعه- قال البغوي الرحمة النعمة على المحتاج فانه لو اهدى ملك الى ملك شيئا لا يقال قد رحمه و ان كان ذلك نعمة لانه لم يضعها فى محتاج-. (١) في الأصل إلى عقائد. ٥٨ قُلْ يا محمّد شكرا له تعالى فى جواب ما قال منة عليكم بِفَضْلِ اللّه وَ بِرَحْمَتِهِ يعنى جاءنا الموعظة و الشفاء و الهداية و الرحمة بفضل اللّه تعالى و رحمة منه دون استحقاق منا فَبِذلِكَ الفضل من اللّه و الرحمة او بمجي ء القران فَلْيَفْرَحُوا تقديره فبذلك ليفرحوا فليفرحوا- و التكرير للتأكيد و التقرير و إيجاب اختصاص مجي ء الكتاب او الفضل و الرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا فحذف أجد الفعلين لدلالة المذكور عليه- و الفاء فى قوله فبذلك داخلة لمعنى الشرط كانه قيل ان فرحوا بشي ء فليفرحوا بذلك- او للربط بما قبلها و الدلالة على ان مجي ء الكتاب الموصوف بما ذكر موجب للفرح- و قيل المراد بفضل اللّه و رحمته إنزال القران- و قال مجاهد و قتادة فضل اللّه الايمان و رحمته القران- و قال ابو سعيد الخدري فضل اللّه القران و رحمته ان جعلنا من اهله- اخرج ابو الشيخ و غيره عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بفضل اللّه اى القران و برحمته ان جعلكم من اهله- و قال ابن عمر فضل اللّه الإسلام و رحمته تزيينه فى القلوب- و قال خالد بن معدان فضل اللّه الإسلام و رحمته السنن- و قيل فضل اللّه الايمان و رحمته الجنة- و الباء على هذه الأقوال متعلقة بفعل يفسره ما بعده تقديره بفضل اللّه و برحمته فليعتنوا او ليفرحوا- و فائدة ذلك التكرير التأكيد و البيان بعد الإجمال- و إيجاب اختصاص الفضل و الرحمة بالفرح- قرا يعقوب باختلاف عنه فلتفرحوا بالتاء الفوقانية على الأصل المرفوض لصيغة الخطاب فى الأمر- اخرج ابو داود عن أبيّ بن كعب ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قرا قل بفضل اللّه و برحمته فبذلك فلتفرحوا بالتاء الفوقانية هُوَ الضمير راجع الى ذلك- اى مجي ء القران او فضل اللّه و رحمته خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨) من حطام الدنيا قرا ابو جعفر و ابن عامر و يعقوب بالتاء الفوقانية على الخطاب و الباقون بالياء على الغيبة-. ٥٩ قُلْ يا محمّد لكفار مكة أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللّه لَكُمْ اى خلق لكم عبر عن الخلق بالانزال لما نيط خلقها بسبب منزل من السماء يعنى المطر- او لانه لما قدّر و كتب اولا فى اللوح المحفوظ ثم خلق على وفقه فكانّه انزل من اللوح- و ما منصوب بانزل او ا رايتم فانه بمعنى أخبروني مِنْ رِزْقٍ بيان لما يعنى من زرع او ضرع- و كلمة لكم دلت على ان المراد منه ما حلّ و لذلك وبّخ على تشقيصه فقال فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ اى بعضه حَراماً وَ بعضه حَلالًا ... قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ ... وَ قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَ مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا- و حرموا البحيرة و السائبة و الوصيلة و الحام قُلْ آللّه أَذِنَ لَكُمْ فى هذا التحليل و التحريم فتقولون ذلك بحكمه أَمْ عَلَى اللّه تَفْتَرُونَ (٥٩) فى نسبة ذلك الأمور- و الجملة متعلق بارايتم و قل تكرير للتؤكيد- و جاز ان يكون الاستفهام للانكار و أم منقطعة و معنى الهمزة فيها تقرير افترائهم على اللّه- و المعنى ان اللّه لم يأذن لكم بل على اللّه تفترون حيث تقولون وَ اللّه أَمَرَنا بِها .... ٦٠ وَ ما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ اىّ شي ء ظنهم يَوْمَ الْقِيامَةِ منصوب بالظن- يعنى ا يحسبون انهم لا يجازون عليه- لا بل كائن لا محالة و فى إبهام الوعيد تهديد عظيم إِنَّ اللّه لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حيث أنعم عليهم بالعقل- و هداهم بانزال الكتب و إرسال الرسل وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠) هذه النعمة- و لو شكروها اتبعوا العقل و النقل و لم يفتروا على اللّه- و جاز ان يكون معنى الاية ان اللّه لذو فضل على الناس حيث لم يستعجل بعقوبتهم فى الدنيا-. ٦١ وَ ما تَكُونُ يا محمّد فِي شَأْنٍ اى امر و حال قال بعض المحققين لا يقال الشأن الا فيما يعظم من الأحوال و الأمور قال البيضاوي أصله من شأنت شأنه اى قصدت قصده وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ اى من الشأن لان تلاوة القران كان معظم شأن الرسول صلى اللّه عليه و سلم- و لان القراءة يكون لشأن عظيم فيكون التقدير من اجله او من القران و إضماره قبل الذكر- ثم قوله مِنْ قُرْآنٍ بيانا له تفخيم له او المعنى ما تتلوا من اللّه- و من فى من قرءان تبعيضية- او مزيدة لتأكيد النفي وَ لا تَعْمَلُونَ ايها الناس مِنْ عَمَلٍ تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رأسهم- و لذلك ذكر من اعماله اولا ما فيه فخامة ثم عمم ما يتناول الجليل و الحقير إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً اى رقباء مطلعين عليه إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ اى تدخلون و تندفعون فيه اى فى العمل و قيل معناه تكثرون فيه و الافاضة الدفع بكثرة وَ ما يَعْزُبُ قرا الكسائي بكسر الزاء و الآخرون بضمها و هما لغتان معناه لا يغيب عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ مصدر ميمى بمعنى الثقل يعنى الوزن و من زائدة ذَرَّةٍ اى نملة صغيرة او هباء فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ اى فى الوجود و الإمكان و اقتصر على ذكر الأرض و السماء لان أبصار العوام قاصرة عليهما و قدم الأرض لان الكلام فى حال أهلها و المقصود بيان احاطة علمه تعالى بالأشياء كلها وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١) كلام برأسه مقرر لما قبله- و لا لنفى الجنس- و أصغر و اكبر اسمها- و فى كتاب خبرها- قرا حمزة و يعقوب برفع أصغر و اكبر على الابتداء و الخبر بابطال عمل لا لاجل التكرير و الباقون بالنصب على اعمال لا- و قيل لا و لا زائدتان و أصغر و اكبر معطوفان على مثقال ذرة- او على ذرة و الفتح بدل الكسر لامتناع الصرف- او للحمل على مثقال ذرة مع الجار- و الرفع للعطف على مثقال ذرة حملا على محله البعيد قبل دخول من و الاستثناء «١» حينئذ منقطع- (١) هذا التوجيه ضعيف لان الاستثناء المنقطع و الاستدراك بعد النفي اثبات فيكون المعنى و لكن يعزب فى كتاب مبين و هذا فاسد و سيجي ء فى سورة سبا مثله ١٢ منه رحمه اللّه. و المراد بالكتاب اللوح المحفوظ- او صحائف الأعمال للحفظة-. ٦٢ أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللّه لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ حين يخاف الناس يوم القيامة من لحوق مكروه وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) حينئذ بفوات مأمول- اعلم ان الولاء و التوالي فى اللغة ان يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما- و يستعار للقرب من حيث المكان و من حيث النسبة و من حيث الدين و من حيث الصداقة و النصرة و الاعتقاد- و فى القاموس الولي القرب و الدّنو و الولىّ اسم «١» منه بمعنى القريب و المحبّ و الصديق و النصير فاعلم ان للّه سبحانه بعباده بل بجميع خلقه قربا «٢» غير متكيف كما يدل عليه قوله تعالى نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ و ذلك القرب هو الموجب لوجود الممكنات فما لم يحصل للممكن ذلك القرب بالواجب تعالى لم يشم رائحة الوجود فان له فى نفسه ليس- و له سبحانه بخواص عباده قرب اخر غير متكيف ايضا و ذلك قرب المحبة و يتمثل هذا القرب فى عالم المثال بنظر الكشف بصورة القرب الجسماني- و هذان القربان لا اشتراك بينهما الا من حيث الاسم- و هذا القرب الثاني له درجات و مراتب غير متناهية كما يدل عليه الحديث القدسىّ- لا يزال عبدى يتقرب الىّ بالنوافل حتّى أحببته فاذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به و بصره الّذي يبصر به الحديث رواه البخاري عن ابى هريرة- و ادنى درجات هذا القرب يحصل بمجرد الايمان قال اللّه تعالى اللّه وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا- و أعلى درجاته نصيب الأنبياء و نصيب سيدنا محمّد صلى اللّه عليه و سلم- و له صلى اللّه عليه و سلم ترقيات لا تتناهى الى ابد الآبدين- و ادنى ما يعتد به و يطلق عليه اسم الولي فى اصطلاح الصوفية و المراد بهذه الاية ان شاء اللّه تعالى من كان قلبه مستغرقا فى ذكر اللّه يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ممتليا بحب اللّه تعالى لا يسع فيه غيره وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ- فلا يحبّ أحدا الا للّه- و لا يبغض الا للّه- و لا يعطى الا للّه- و لا يمنع الا للّه- فهم المتحابون فى اللّه و الصوفية العلية «٣» يسمون هذه الصفة بفناء القلب- فكان ظاهره و باطنه متحليا بتقوى يقى نفسه عما يكرهه اللّه تعالى من الأعمال و الأخلاق- فكان نفسه منزها عن الرذائل من الشرك الجلى (١) فى الأصل الاسم. (٢) فى الأصل قرب. (٣) وصّفنا الصوفية بالعلية لعلوهم درجة لاستنادهم الى على رضى اللّه عنه فانه قطب هذا المقام ١٢ منه رحمه اللّه. و الخفي و الأخفى من دبيب النمل و من الحسد و الحقد و الكبر و الهوى و الهلع و غير ذلك متصفا بمحاسن الأعمال و الأخلاق- و الصوفية العلية يسمون هذه الصفة بفناء النفس و يقولون حينئذ اسلم شيطانه أشار اللّه سبحانه الى الوصف الاول بقوله. ٦٣ الَّذِينَ آمَنُوا اى حقيقة الايمان فان الايمان محله القلب و كمال الايمان ان يطمئن قلبه بذكر اللّه لا يغفل عنه ساعة و لا يلتفت الى غيره- «١» و الى الوصف الثاني بقوله وَ كانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) اللّه تعالى بإتيان أوامره و انتهاء نواهيه «٢» الظاهرة و الباطنة- روى ابو داود عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان من عباد اللّه لا ناسا ما هم بانبياء و لا شهداء يغبطهم الأنبياء و الشهداء يوم القيامة بمكانهم من اللّه- قالوا يا رسول اللّه تخبرنا من هم- قال هم قوم تحابون بروح اللّه على غير أرحام بينهم- و لا اموال يتعاطونها- فو اللّه ان وجوههم لنور و انهم على نور لا يخافون إذا خاف الناس و لا يحزنون إذا حزن الناس و قرا أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللّه لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ- و روى البغوي بسنده عن ابى مالك الأشعري نحو ذلك و كذا روى البيهقي فى شعب الايمان- اخرج ابن مردوية عن ابى هريرة قال سئل النبي صلى اللّه عليه و سلم عن قول اللّه أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللّه لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ قال الذين يتحابون فى اللّه و ورد مثله من حديث جابر بن عبد اللّه أخرجه ابن مردوية- (فصل) فى اسباب حصول الولاية- و هذه المرتبة اعنى ولاية اللّه تعالى انما يستفاد بالانعكاس من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اما بلا واسطة او بواسطة او بوسائط و لا بد فيه من كثرة المجالسة مع المحبة و الانقياد بالنبي صلى اللّه عليه و سلم- او بمن ينوبه- فانهما يثمران محبة اللّه تعالى و انصباغ قلبه و قالبه و نفسه بصبغ قلب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قالبه و نفسه الّذي هو صبغة اللّه و من احسن من اللّه صبغة و كثرة الذكر على وجه مسنون يؤيد ذلك الانعكاس لكونه موجبا لصقالة القلب المستوجب للانعكاس- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لكل شي ء صقالة و صقالة القلب ذكر اللّه- رواه البيهقي (١) هر كس كه ترا شناخت جان را چه كند فرزند و عيال و خان و مان را چه كند ديوانه كنى هر دو جهانش بخشى ديوانه تو هر دو جهان را چه كند- منه برد اللّه مضجعه. (٢) قال ابن عمر التقوى ان لا ترى نفسك خيرا من أحد- و قال المجدد للالف الثاني معرفة اللّه تعالى حرام على من يرى نفسه خيرا عن كافر الفرنج ١٢ منه برد اللّه مضجعه. عن عبد اللّه بن عمرو اللّه اعلم عن معاذ بن جبل قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول قال اللّه تعالى وجبت محبتى للمتحابين فىّ و المتجالسين فىّ و المتزاودين فىّ و المتباذلين فىّ- رواه مالك و احمد و الطبراني و الحاكم و البيهقي و روى احمد و الطبراني و الحاكم نحوه عن عبادة بن الصامت- و عن ابن مسعود قال جاء رجل الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال يا رسول اللّه كيف تقول فى رجل أحب قوما و لم يلحق بهم قال المرء مع من احبّ متفق عليه- و معنى قوله لم يلحق بهم اى لم يعمل مثل عملهم- و فى الصحيحين عن انس نحوه و عن ابى رزين انه قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الا ادلك على ملاك هذا الأمر الّذي تصيب منه خير الدنيا و الاخرة- عليك بمجالس اهل الذكر و إذا خلوت فحرك لسانك ما استطعت بذكر اللّه و أحب فى اللّه و ابغض فى اللّه- الحديث رواه البيهقي فى شعب الايمان و عن ابى ذر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أحب الأعمال الى اللّه الحب فى اللّه و البغض فى اللّه رواه احمد و ابو داود ذكر المرادين ثم اعلم ان ما ذكرنا حال المريدين من اولياء اللّه تعالى- و من أوليائه تعالى جماعة مرادون يدل عليه ما رواه مسلم عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه إذا أحب عبدا دعا جبرئيل فقال انى أحب فلانا فاحبه قال فيحبّه جبرئيل ثم ينادى فى السماء فيقول ان اللّه يحب فلانا فاحبوه فيحبه اهل السماء ثم يوضع له القبول فى الأرض و إذا ابغض عبدا دعا جبرئيل فيقول انى ابغض فلانا فابغضه قال فيبغضه جبرئيل ثم ينادى فى اهل السماء ان اللّه يبغض فلانا فابغضوه قال فيبغضونه ثم يوضع له البغضاء فى الأرض (فصل) فى علامة اولياء اللّه- ذكر البغوي عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه سئل من اولياء اللّه قال الذين إذا رأوا ذكر اللّه عز و جل- و قال البغوي يروى عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه قال قال اللّه تعالى ان أوليائي من عبادى الذين يذكرون بذكرى و اذكر بذكرهم- و روى ابن ماجة عن اسماء بنت يزيد انها سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول الا أنبئكم بخياركم قالوا بلى يا رسول اللّه قال الذين إذا راوا ذكر اللّه فائدة و السر فى ذلك ان اولياء اللّه تعالى لهم قرب و معية باللّه تعالى غير متكيفة- يقتضى ذلك ان يكون مجالستهم كالمجالسة باللّه تعالى- و رؤيتهم مذكرا للّه تعالى- و ذكرهم جالبا الى ذكره تعالى- كالمرءاة إذا قوبلت بالشمس و امتلأت بنورها حصلت لها حالة إذا قوبل شي ء بذلك المرآة يستضي ء بها كما يستضي ء بمقابلة الشمس- بل يحترق القطنة بمقابلة المرآة دون مقابلة الشمس لقرب القطنة بالمرءاة دون الشمس- و ايضا ان اللّه سبحانه أودع فى ذوات أوليائه استعداد تأثر من اللّه تعالى لقرب و مناسبة خفية غير متكيفة به تعالى- و استعداد تأثير فى الناس لاجل مناسبة جنسية و نوعية و شخصية- فذلك التأثر و التأثير يقتضى حصول حضور باللّه تعالى- و ذكره تعالى فيمن راهم و جالسهم بشرط عدم الإنكار نعوذ باللّه منه وَ اللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ اى الخارجين عن الايمان و الانقياد- و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال اللّه تعالى من عادى لى وليّا فقد اذنته بالحرب رواه البخاري عن ابى هريرة- و فى الباب حديث حنظلة يا رسول اللّه نكون عندك تذكرنا بالنار و الجنة كانا رأى عين فاذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج و الأولاد و الضيعات نسينا كثيرا- فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و الّذي نفسى بيده لو تدومون كما تكونون عندى و فى الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم و فى طرقكم و لكن يا حنظلة ساعة و ساعة ثلاث مرات رواه مسلم (فائدة) و ليست علامة الأولياء ما زعمت العوام من خرق العادات و لا العلم بالمغيبات- فانها لا توجد فى كثير من اولياء اللّه- و قد يوجد فى غيرهم على سبيل الاستدراج و كونه فى بعضهم نادرا لا يستلزم كون ذلك علامة للولاية كيف و قد قال اللّه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه و سلم قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ- و قال قل لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ- و قال قل إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللّه و نحو ذلك- و قد قالت الصوفية العلية الكرامة حيض الرجال لا بد استتارها- و لا مزية لاحد على أحد بها- و من ثم ندم بعض الرجال عن كثرة ظهور خرق العادات بايديهم و اللّه اعلم- و محل الّذين أمنوا النصب على المدح او على كونه وصفا للاولياء- او الرفع على انه خبر مبتدا محذوف يعنى هم و الجملة مادحة او على انه مبتدا خبره. ٦٤ ُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا و ذلك ما بشر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أصحابه بالوحى عموما و خصوصا- فقال ابو بكر فى الجنة و عمر فى الجنة و عثمان فى الجنة و على فى الجنة و طلحة فى الجنة و الزبير فى الجنة و عبد الرّحمن بن عوف فى الجنة و سعد بن ابى وقاص فى الجنة و سعيد بن زيد فى الجنة و ابو عبيدة «١» بن الجراح فى الجنة رواه الترمذي عن عبد الرّحمن بن عوف و ابن ماجة عن سعيد بن زيد- و قال اما انك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي رواه ابو داؤد عن ابى هريرة- و قال انا أول من ينشق عنه الأرض ثم ابو بكر ثم عمر رواه الترمذي عن ابى هريرة و قال لكل نبى رفيق و رفيقى فى الجنة عثمان رواه الترمذي عن طلحة بن عبيد اللّه- و قال لعلى أنت منى بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبى بعدي متفق عليه عن سعد بن ابى وقاص- و قال من كنت مولاه فعلىّ مولاه رواه احمد و الترمذي عن زيد بن أرقم- و قال فاطمة بضعة منى فمن أغضبها أغضبني متفق عليه عن مسور بن مخرمة- و قال الحسن و الحسين سيدا شباب اهل الجنة رواه الترمذي عن ابى سعيد و قال خير نسائها مريم بنت عمران و خير نسائها خديجة بنت خويلد و قال فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام و قال ان عبد اللّه يعنى ابن عمر رجل صالح متفق عليه عن ابن عمر- و قال لعبد اللّه بن سلام انه من اهل الجنة متفق عليه عن سعد بن ابى وقاص- و قال الأنصار لا يحبهم الا مؤمن و لا يبغضهم الا منافق فمن أحبهم أحبه اللّه و من ابغضهم أبغضه اللّه- و قال نعم الرجل أسيد بن حضير نعم الرجل ثابت بن قيس نعم الرجل معاذ بن جبل نعم الرجل معاذ بن عمرو بن الجموح- و قال ان الجنة تشتاق الى ثلاثة على و عمار و سلمان هكذا بشر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كثيرا من الصحابة مفصلا- و بشر اللّه سبحانه كلهم أجمعين بقوله كُلًّا وَعَدَ اللّه الْحُسْنى و بقوله مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّه وَ الَّذِينَ مَعَهُ الاية- و بقوله صلى اللّه عليه و سلم لا تسبوا أصحابي فلو ان أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم و لا نصيفه متفق عليه عن ابى سعيد الخدري- و قال أصحابي كالنجوم فبايهم اقتديتم اهتديتم رواه رزين عن عمر- و قال خير أمتي قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم الحديث متفق عليه عن عمران بن حصين- ثم إذا مات رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فالبشرى فى الدنيا ما بشر اللّه سبحانه (١) فى الأصل عبيدة. أولياءه بالكشف يعنى أراه فى عالم المثال فى المنام او اليقظة و هو المراد بالرؤيا الصالحة حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لم يبق من النبوة الا المبشرات قالوا و ما المبشرات قال الرؤيا الصالحة رواه البخاري عن ابى هريرة- و قال البغوي روى عن عبادة بن الصامت قال سالت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن قوله تعالى هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قال هى الرؤيا الصالحة يراها المرء او ترى له- اخرج احمد و سعيد بن منصور و الترمذي و غيرهم عن ابى الدرداء انه سئل عن هذه الايةهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قال ما سالنى عنها أحد منذ سالت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال ما سالنى عنها غيرك منذ أنزلت هذه الاية الرؤيا الصالحة يراها المؤمن او ترى له فهى بشراه فى الحيوة الدنيا و بشراه فى الاخرة الجنة له طرق كثيرة- و المراد بالرؤيا رؤيا الأولياء و الصلحاء لا رؤيا العوام- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الرؤيا ثلاث فبشرى من اللّه و حديث النفس و تخويف الشيطان رواه الترمذي و صححه و ابن ماجة عن ابى هريرة- فان قيل الرؤيا و ان كان من الأولياء و الصلحاء لا يفيد القطع قلنا و ان كان لا يفيد القطع لكنه يفيد غلبة الظن و ذلك كاف للبشارة- و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الرؤيا الصالحة جزء من ستة و أربعين جزءا من النبوة رواه البخاري عن ابى سعيد و مسلم عن ابن عمرو عن ابى هرير و احمد و ابن ماجة عن ابى رزين و الطبراني عن ابن مسعود و نحوه ابن ماجة عن عوف بن مالك- و روى احمد عن ابن عمرو ابن عباس و ابن ماجة عن ابن عمر الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزء من النبوة- و روى ابن النجار عن ابن عمر جزء من خمسة و عشرين جزءا من النبوة- و ليس المراد بالبشرى هاهنا ما بشر اللّه تعالى المؤمنين به عموما فى كتابه من جنته و كريم ثوابه كقوله تعالى وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا لان البشارة بمثل هذه الآيات لا يتصور الا بعد القطع بالتوفى على الايمان و ذلك غير متصور- و قيل البشرى فى الدنيا هى الثناء الحسن لما روى البغوي بسنده عن عبد اللّه بن الصامت قال قال ابو ذر يا رسول اللّه الرجل يعمل لنفسه و يحبّه الناس قال تلك عاجل بشرى المؤمن- و اخرج مسلم نحوه بلفظ و يحمده الناس- و قال الزهري و قتادة هى نزول الملائكة بالبشارة من اللّه عند الموت قال اللّه تعالى تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ و كذا قال عطاء عن ابن عباس فِي الْآخِرَةِ يعنى عند خروج نفس المؤمن يعرج بها الى اللّه و يبشر برضوان اللّه و عند الخروج من القبر يوم القيامة عن عبادة بن الصامت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من أحب لقاء اللّه أحب اللّه لقاءه و من كره لقاء اللّه كره اللّه لقاءه فقالت عائشة او بعض أزواجه انّا لنكره الموت قال ليس ذلك و لكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان اللّه و رحمته فاحب لقاء اللّه و أحب اللّه لقاءه و ان الكافر إذا حضر بشر بعذاب اللّه و عقوبته فليس شي ء اكره اليه مما امامه فكره لقاء اللّه و كره اللّه لقاءه متفق عليه- و عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليس على اهل لا اله الا اللّه وحشة فى الموت و لا فى القبور و لا فى النشور كانّى انظر إليهم عند الصيحة ينفضون رءوسهم من التراب يقولون الْحَمْدُ للّه الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ رواه الطبراني- و كذا اخرج الختلي فى الديباج عن ابن عباس مرفوعا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللّه يعنى لا خلف لمواعيده و من هاهنا يمكن استنباط قول الصوفية الفاني لا يردلِكَ اشارة الى كونهم مبشرين فى الدارين وَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤) هذه الجملة و الّتي قبلها اعتراض لتحقيق المبشر به و تعظيم شأنه و ليس من شرط الاعتراض ان يقع بعده كلام متصل بما قبله-. ٦٥ وَ لا يَحْزُنْكَ قرا نافع بضم الياء و كسر الزاء من الافعال و الباقون بفتح الياء و ضم الزاء من المجرد و كلاهما بمعنى قَوْلُهُمْ اى اشراكهم و تكذيبهم و تهديدهم إِنَّ الْعِزَّةَ للّه جَمِيعاً استيناف بمعنى التعليل و بدل عليه ما قرئ بالفتح كانه قيل لا تحزن و لا تبال بهم لان الغلبة للّه جميعا لا يملك غيره شيئا منها فهو يقهرهم و ينصرك عليهم هُوَ السَّمِيعُ لاقوالهم الْعَلِيمُ (٦٥) بنياتهم فيجازيهم عليها. ٦٦ أَلا إِنَّ للّه مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ من الملائكة و الثقلين و إذا كان هؤلاء الذين هم اشراف الممكنات عبيدا لا يصلح أحد للربوبية فما لا يعقل منها أحق ان لا يكون له ند و لا شريك فهو كالدليل على قوله وَ ما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه شُرَكاءَ اى شركاء على الحقيقة و ان كانوا يسمونها شركاء فان الشركة فى الربوبية محال و يجوز ان يكون شركاء مفعول يدعون و مفعول يتبع محذوف دل عليه قوله إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ اى ما يتبعون يقينا انما يتبعون ظنهم اى خيالهم انها شركاء- و يجوز ان يكون ما موصولة معطوفة على من اى للّه ما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه شُرَكاءَ او استفهامية منصوبة بيتبع و المعنى اى شي ء يتّبع الّذين يدعونهم شركاء من الملائكة و النبيين يعنى انهم لا يتبعون الا اللّه و لا يعبدون غيره فما لكم لا تتبعونهم فيه كقوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ فيكون إلزاما بعد برهان و ما بعده مصروف عن خطابهم لبيان سندهم و منشا رأيهم وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (٦٦) اى يكذبون فيما ينسبون او يحزرون و يعتدون انها شركاء تقديرا باطلا. ٦٧ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ و تستريحوا من تعب التردد وَ النَّهارَ مُبْصِراً اى مضيئا سببا لابصار الأشياء إِنَّ فِي ذلِكَ اى فى خلق هذه الأشياء العظام على وفق الحكمة لَآياتٍ دالة على كمال قدرة اللّه و عظيم نعمته و حكمته المتوحد بها المستحق للعبادة المختصة به لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧) كلام اللّه تعالى و كلام المذكّرين سماع تدبر و اعتبار. ٦٨ قالُوا يعنى المشركين اتَّخَذَ اللّه وَلَداً و هو قولهم الملائكة بنات اللّه سُبْحانَهُ تنزيه له عن التبني و تعجب من كلام الحمقاء حيث حكموا بامر مستحيل لا يمكن و لا يتصور هُوَ الْغَنِيُّ عما سواه لا يحتاج فى شي ء من الأمور الى شي ء من الأشياء و ما سواه ممكن محتاج فى وجوده و بقائه و فى كل صفة من صفاته اليه- فاى مناسبة بينه و بين ما يزعمونه ولدا فان الولد يكون من جنس الوالد او يقال انما يطلب الولد ضعيف يتقوى به او فقير ليستعين به او ذليل ليتشرف به او من يموت لبقاء جنسه و الكل امارة الحاجة و اللّه غنى قديم لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ خلقا و ملكا فكيف يتصور كون شي ء ممّا فيهما ولدا له إِنْ عِنْدَكُمْ ما عندكم مِنْ سُلْطانٍ اى برهان بِهذا متعلق بسلطان او نعت له او بعندكم كانه قيل ليس عندكم فى هذا سلطان نفى لدليل معارض لما اقام من البرهان على نفى الولد أَ تَقُولُونَ عَلَى اللّه ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) توبيخ على جهلهم و تنبيه على انه لا يجوز ان يقول أحد قولا لا دليل عليه و ان العقائد لا بد لها من دليل قاطع يوجب العلم و لا يجوز التقليد فيها. ٦٩ قُلْ يا محمّد إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ بنسبة الولد و الشريك اليه لا يُفْلِحُونَ (٦٩) لا يبحون من النار و لا يفوزون بالجنة. ٧٠ مَتاعٌ فِي الدُّنْيا خبر مبتدا محذوف يعنى افتراءهم سبب تمتعهم فى الدنيا يقيمون به رياستهم فى الكفر او حياتهم او تقلبهم مناع- او مبتدا خبره محذوف اى لهم تمنع فى الدنيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ بالموت ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) اى بسبب كفرهم-. ٧١ وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ اى اقرأ يا محمّد على اهل مكة نَبَأَ نُوحٍ اى خبره مع قومه إِذْ قالَ متعلق با ذكر لِقَوْمِهِ قال البغوي هم ولد قابيل و هذا لا يتصور لان نوحا عليه السلام كان من ولد شيث عليه السلام لا من ولد قابيل- فاضافة القوم اليه يدل على كونهم من أولاد شيث عليه السلام يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ اى شق عَلَيْكُمْ مَقامِي اى قيامى بينكم مدة مديدة- او قيامى على الدعوة وَ تَذْكِيرِي ايّاكم بِآياتِ اللّه اى بحججه و بيناته او آياته المنزلة فَعَلَى اللّه لا على غيره تَوَكَّلْتُ اى وثقت به فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ من اجمع الأمر إذا نواه او عزم عليه وَ شُرَكاءَكُمْ قرا يعقوب بالرفع عطفا على الضمير المرفوع المستتر فى اجمعوا و جاز للفصل يعنى اعزموا أنتم و شركاؤكم على قتلى او إصابة مكروه بي- و الباقون بالنصب اما على انه مفعول معه و الواو بمعنى مع و المعنى ما مر كذا قال الزجاج- و اما على انه معطوف على أمركم بحذف المضاف اى اقصدوا أمركم و امر شركائكم- و اما انه منصوب بفعل مقدر اى و ادعوا شركاءكم ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ اى لا يكن شي ء مما تقصدون بي عَلَيْكُمْ غُمَّةً مستورا بل اجعلوه ظاهرا مكشوفا من غمه إذا ستره- او المعنى لا يكن حالكم عليكم غمّا إذا اهلكتمونى و تخلصتم عن ثقل مقامى و تذكيرى ثُمَّ اقْضُوا اى أدوا إِلَيَّ ما أردتم وَ لا تُنْظِرُونِ (٧١) و لا تمهلونى هذا امر على سبيل التعجيز اخبر اللّه تعالى عن نوح انه كان واثقا بنصر اللّه غير خائف من كيد قومه علما منه بانهم و الهتهم لا يملكون نفعا و لا ضرا الا ما شاء اللّه. ٧٢ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ حذف جزاء الشرط و أقيم علته مقامه- تقديره فان توليتم عن تذكيرى و أعرضتم عن قولى و قبول نصحى بعد ظهور صدقه هلكتم- او يعذبكم اللّه لكون ذلك التولي عن الحق بلا مانع عن قبوله- إذ ما سالتكم من اجر يوجب توليكم و يمنع عن قبول الحق لثقه عليكم- او اتهامكم إياي لاجله- او المعنى ان توليتم ظلمتم أنفسكم و ما اضررتمونى بشي ء- إذ ما سالتكم من اجر يفوتنى بتوليتكم بل انما يفوت عليكم الهداية إِنْ أَجْرِيَ قرا نافع و ابو عمرو و ابن عامر و حفص بفتح الياء و كذلك حيث وقع و الباقون بإسكانها اى ليس ثوابى على الدعوة و التذكير إِلَّا عَلَى اللّه لا تعلق له بكم فهو يثيبنى أمنتم او توليتم- فيه اشارة الى ان أخذ الاجر على تعليم القران و نحو ذلك لا يصلح وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) المنقادين لحكم اللّه تعالى فى الايمان و الأعمال و دعوة الناس اليه و قد فعلت. ٧٣ فَكَذَّبُوهُ اى أصروا على تكذيبه بعد وضوح الحق عنادا و تمردا فَنَجَّيْناهُ يعنى نوحا من الغرق وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِِ و كانوا ثمانين وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ من الهالكين وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بالطوفان فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) اى اخر امر من انذرهم الرسل فلم يؤمنوا- فيه تعظيم لما جرى عليهم و تحذير لمن كذّب الرسل و تسلية للنبى صلى اللّه عليه و سلم. ٧٤ ثُمَّ بَعَثْنا أرسلنا مِنْ بَعْدِهِ اى بعد نوح رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ اى كل رسول الى قومه فَجاؤُهُمْ اى الرسل بِالْبَيِّناتِ اى بالدلائل الواضحة فَما كانُوا اى أقوام الرسل لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ اى بما كذب به قوم نوح قبل مجيئهم كَذلِكَ اى كما طبعنا على قلوب قوم نوح و أقوام الرسل بعده نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) من أمتك بخذلانهم لانهماكهم فى الضلال و اتباع المألوف. ٧٥ ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ اى بعد تلك الرسل مُوسى بن عمران وَ أخاه هارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ اى اشراف قومه خص الملأ بالذكر تمهيدا لبيان استكبارهم بِآياتِنا «١» فَاسْتَكْبَرُوا عن اتباع موسى و هارون وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) (١) ليست فى الأصل بايتنا. اى معتادين بالاجرام و لذلك تهاونوا برسالة اللّه سبحانه و اجترءوا على ردها. ٧٦ فَلَمَّا جاءَهُمُ اى فرعون و قومه الْحَقُّ اى الدين الحق مِنْ عِنْدِنا و عرفوا حقيقته بتظاهر المعجزات الباهرة المزيلة للشك قالُوا اى فرعون و ملاؤه من فرط تمردهم إِنَّ هذا ما جاء به موسى من المعجزات لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) ظاهر انه سحر او فائق فى قنه واضح فيما بين أشباهه. ٧٧ قالَ مُوسى على سبيل التعجب و الإنكار أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ للامر الثابت المتحقق من عند اللّه لَمَّا جاءَكُمْ انه سحر و السحر ثمويه لا حقيقة له- فحذف محكى القول لدلالة ما قبله عليه- و لا يجوز ان يكون المحكي أَ سِحْرٌ هذا لانهم بتّوا القول بل هو استيناف بانكار ما قالوه الا ان يكون الاستفهام فيه للتقرير و يجوز ان يكون معنى أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ أ تعنونه- من قولهم فلان يخاف القالة فيستغنى عن المفعول كقوله تعالى سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ ... وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) اى لا يظفر- من تمام كلام موسى للدلالة على انه ليس بسحر- فانه لو كان سحرا لاضمحل و لم يبطل سحر السحرة- و لان العالم به لا يسحر او تمام قولهم ان جعل اسحر هذا محكيا- كانهم قالوا ا جئتنا بالسحر تطلب به الفلاح و لا يفلح الساحرون. ٧٨ قالُوا يعنى فرعون و قومه لموسى أَ جِئْتَنا يا موسى لِتَلْفِتَنا اى لتصرفنا و قال قتادة لتلوينا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من عبادة الأصنام او عبادة فرعون وَ تَكُونَ قرا أبو بكر بالياء التحتانية و الباقون بالتاء الفوقانية لَكُمَا الْكِبْرِياءُ الملك و السلطان سمى بها لا تصاف الملوك بالتكبر على الناس باستتباعهم فِي الْأَرْضِ ارض مصر وَ ما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) مصدقين فيما تدّعونه. ٧٩ وَ قالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ قرا حمزة و الكسائي سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٧٩) حاذق فيه ٨٠ فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) ٨١ فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ قرا ابو عمرو و ابو جعفر السّحر بالمد على ان ما استفهامية مرفوعة بالابتداء و جئتم به خبرها و السّحر خبر مبتدا محذوف او مبتدا خبره محذوف و الجملة بدل من قوله ما جئتم به تقديره اهو السحر او السحر هو- و قرا الجمهور بلا مد على الخبر يعنى الّذي جئتم به السحر- لا ما سماه فرعون و قومه سحرا من آيات اللّه- و يؤيده قراءة ابن مسعود ما جئتم به سحر إِنَّ اللّه سَيُبْطِلُهُ اى سيمحقه او سيظهر بطلانه إِنَّ اللّه لا يُصْلِحُ اى لا يثبت و لا يقوى عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) فيه دليل على ان السحر إفساد و تمويه لا حقيقة. ٨٢ له وَ يُحِقُّ اللّه اى يثبت و يقوى الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ باياته وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢). ٨٣ فَما آمَنَ لِمُوسى اى لم يصدق موسى مع ما جاء به من الآيات و أبطل سحر السحرة إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ قيل ضمير قومه راجع الى موسى يعنى مومنى بنى إسرائيل الذين كانوا بمصر و خرجوا معه- قال مجاهد كانوا أولاد الذين أرسل إليهم موسى من بنى إسرائيل هلك الآباء و بقي الأبناء و لذا سموا ذرية- و قيل هم قوم نجوا من قتل فرعون لمّا امر بقتل أبناء بنى إسرائيل كانت المرأة من بنى إسرائيل إذا ولدت ولدا وهبته للقبطية خوفا من القتل فنشئوا عند القبط و اسلموا فى اليوم الّذي غلب موسى السحرة- و قال آخرون الضمير راجع الى فرعون روى عطية عن ابن عباس قال هم أناس يسيرون من قوم فرعون أمنوا منهم امراة فرعون و مؤمن ال فرعون و خازن فرعون و امراة خازنه و ما شطته- كذا اخرج ابن جرير عنه و عن ابن عباس رواية اخرى انهم سبعون اهل بيت من القبط من ال فرعون أمهاتهم من بنى إسرائيل فجعل الرجل يتبع امه و أخواله- قال الفراء سموا ذرية لان آباءهم كانوا من القبط و أمهاتهم من بنى إسرائيل كما يقال لاولاد اهل الفرس الذين سقطوا الى اليمن الأبناء لان أمهاتهم من غير جنس ابائهم عَلى خَوْفٍ اى مع خوف مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِمْ الضمير لفرعون و جمعه على ما هو المعتاد من ضمير العظماء- او على ان المراد بفرعون اله كما يقال ربيعة و مضر و المعنى مع خوف من ال فرعون و اشراف قومهم او للذرية او للقوم أَنْ يَفْتِنَهُمْ اى يعذبهم فرعون و هو بدل من فرعون او مفعول خوف و افراده بالضمير للدلالة على ان الخوف من الملأ كان بسببه وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ غالب متكبر فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) المجاوزين الحد حتّى ادعى الربوبية مع كونه عبدا مخلوقا محتاجا- و استرقّ أبناء الأنبياء. ٨٤ وَ قالَ مُوسى لما راى خوف المؤمنين من فرعون يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّه فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا اى ثقوا به و اعتمدوا عليه و لا تخافوا من فرعون و ملائه إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) جزاؤه محذوف دل عليه السياق يعنى ان كنتم مستسلمين لقضاء اللّه مخلصين له توكلتم عليه- و ليس هذا من تعليق الحكم بشرطين بل المعلق بالايمان وجوب التوكل فانه المقتضى له- و المشروط بالإسلام حصوله فان التوكل على اللّه لا يحصل ما لم يسلموا نفوسهم للّه اى يجعلوها له سالمة خالصة بحيث لا يكون حظ للّهوى و لا للشيطان فيها- لان التوكل لا يحصل مع التخليط و هو من مقامات الصوفية. ٨٥ فَقالُوا عَلَى اللّه تَوَكَّلْنا فانهم كانوا مخلصين أصحابا لرسول رب العالمين على نبينا و عليه الصلاة و السلام- ثم دعوا ربهم و قالوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً اى موضع فتنة و عذاب لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) اى لا تسلطهم علينا فيفتنوننا و يعذبوننا- او المعنى لا تجعلنا سببا لزيادة طغيانهم و كفرهم بان تعذبنا بعذاب من عندك او بايدى قوم فرعون فيقول قوم فرعون لو كان هؤلاء على الحق ما عذبوا و ظنوا انهم خير منا. ٨٦ وَ نَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) من كيدهم و شوم مشاهدتهم و فى تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على ان الداعي ينبغى ان يتوكل اولا ليجاب دعوته قلت بل على ان التوكل من صفات اللازمة للصوفى و الدعاء من عوارضه-. ٨٧ وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ هارون أَنْ تَبُوءَ اى تتخذا مباة و مرجعا من غيرها من الأماكن إليها للسكنى و العبادة لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً قال البغوي قال اكثر المفسرين كانت بنوا إسرائيل لا يصلون الا فى كنائسهم و بيعهم و كانت ظاهرة فلما أرسل موسى امر فرعون بتخريبها و منعهم من الصلاة فيها فامرهم اللّه ان يتخذوا مساجد فى بيوتهم و يصلّوا فيها خوفا من ال فرعون هذا قول ابراهيم النخعي و عكرمة عن ابن عباس- و قال مجاهد خاف موسى و من معه من فرعون فى الكنائس الجامعة فامروا ان يجعلوا فى بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سرّا وَ اجْعَلُوا أنتما و قومكما بُيُوتَكُمْ الّتي تبوأتما لهم قِبْلَةً يعنى مصلّى متوجهة نحو القبلة يعنى الكعبة- روى ابن جريج عن ابن عباس قال كانت الكعبة قبلة موسى و من معه وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ فيها أمروا بذلك أول أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة فيوذوهم وَ بَشِّرِ يا موسى الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) ان يهلك اللّه عدوكم و يستخلفكم فى الأرض فى الدنيا- و يورثكم الجنة فى العقبى- شنّى الضمير اولا لان التبوء القوم و اتخاذ المعابد مما يتعاطاه رءوس القوم بتشاورهم- ثم جمع لان جعل البيوت مساجد و اقامة الصلاة يجب على كل أحد- ثم وحّد لان البشارة وظيفة صاحب الشريعة و قال البغوي بشّر المؤمنين خطاب للنبى صلى اللّه عليه و سلم. ٨٨ وَ قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً اى ما يتزين به الناس من اللباس و الحلي و الفرش و الأثاث و المراكب و الخدم و الحشم و غيرها وَ أَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ اللام فى ليضلوا للعاقبة متعلقة باتيت يعنى حتّى صار عاقبة أمرهم الضلال و الطغيان كقوله تعالى فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً- و قيل هى لام كى اى أتيتهم استدراجا ليثبتوا على الضلال- او لانهم لما جعلوها سببا للضلال فكانما اوتوها «١» ليضلوا- فيكون كلمة ربنا تكريرا للاول تأكيدا للالحاح فى التضرع- قال الشيخ ابو منصورا لما تريدى إذا علم منهم انهم يضلون الناس عن سبيله أتاهم ما أتاهم ما أتاهم ليضلوا عن سبيله- و هو كقوله تعالى إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً فيكون الاية حجة على المعتزلة فى القول بوجوب الأصلح و اللطف على اللّه تعالى- و قال البيضاوي قوله رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ دعاء عليهم بلفظ الأمر رَبَّنَا اطْمِسْ اى امحق عَلى أَمْوالِهِمْ باهلاكها كذا قال مجاهد- و قال اكثر اهل التفسير امسخها و غيّرها عن هيئتها- قال قتادة صارت أموالهم و حروثهم و زروعهم و جواهرهم حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا و أنصافا و أثلاثا- و دعا عمر بن عبد العزيز بخريطة فيها أشياء من بقايا ال فرعون فاخرج منها البيضة مشقوقة و الجوزة مشقوقة و انها لحجر- و قال السدى مسخ اللّه تعالى أموالهم حجارة و النخيل و الثمار و الدقيق و الاطعمة و كانت احدى الآيات التسع وَ اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ يعنى اقسها و اطبع عليها حتّى لا تلين و لا تنشرح للايمان- انما دعا عليهم لمّا ايئس من ايمانهم و علم بالوحى انهم لا يؤمنون- فاما قبل ان يعلم بانهم لا يؤمنون فلا يجوز له ان يدعو بهذا الدعاء لانه أرسل إليهم ليدعوهم بالايمان فان قيل بعد ما علم انهم لا يؤمنون اىّ فائدة فى الدعاء عليهم قلنا لعل ذلك للبغض بأعداء اللّه فى اللّه و ذلك مقتضى طبيعة الايمان- او يكون ذلك امتثالا لامر اللّه تعالى و نظير ذلك قولك لعن اللّه إبليس مع ان ذلك معلوم انه ملعون امتثالا لقوله تعالى إِنَّ الشَّيْطانَ (١) فى الأصل أتوها [.....]. لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ... فَلا يُؤْمِنُوا منصوب على انه جواب للدعاء- او على انه معطوف على ليضلوا و ما بينهما دعاء معترض و قال الفراء مجزوم على انه دعاء بلفظ النهى كانه قال اللّهم فلا يؤمنوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) بعد الموت كذا قال السدى. ٨٩ قالَ اللّه تعالى لموسى و هارون قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما نسبت الدعوة إليهما لانه روى ان موسى كان يدعو و هارون يؤمّن و التأمين دعاء- قال البغوي و فى بعض القصص كان بين دعاء موسى و الاجابة أربعين سنة فَاسْتَقِيما على الرسالة و الدعوة و امضيا لامرى الى ان يأتيهم العذاب وَ لا تَتَّبِعانِّ نهى بالنون الثقيلة و محله جزم- و قرا ابن ذكوان بالنون الخفيفة- و كسر النون لالتقاء الساكنين سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) اى طريق الجهلة فى الاستعجال او عدم الوثوق و عدم الاطمينان بما وعد اللّه سبحانه-. ٩٠ وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ اى جوّزناهم و عبرناهم حتّى بلغوا الشطّ و فاعل هاهنا بمعنى فعل نحو عاقب امير اللص- و كان البحر قد انفلق لموسى و قومه فَأَتْبَعَهُمْ اى لحقهم و أدركهم فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ يقال اتبعه و تبعه إذا أدركه و لحقه و اتّبعه بالتشديد إذا سار خلفه و اقتدى به و قيل هما واحد بَغْياً وَ عَدْواً اى باغين و عادين او للبغى و العدو- و قيل بغيا فى القول وعدوا فى الفعل فلمّا وصل فرعون بجنوده الى البحر هابوا دخوله فتقدمهم جبرئيل عليه السلام على فرس أنثى و خاض البحر فاقتحمت الخيول خلفه حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ و انطبق عليهم الماء لمّا دخل آخرهم و همّ أولهم ان يخرج قالَ فرعون آمَنْتُ أَنَّهُ اى بانه و قرا حمزة و الكسائي بكسر الهمزة على إضمار القول او الاستيناف بدلا و تفسيرا لآمنت لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) فدسّ جبرئيل عليه السلام فى فيه من حماة البحر فمات قبل ان تقبل توبته- نكب الشقي عن الايمان او ان القبول و بالغ فيه حين لا يقبل فقال اللّه تعالى على سبيل الإنكار. ٩١ آلْآنَ يعنى ا تؤمن الان حين أيست من الحيوة و لم يبق لك اختيار وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ذلك مدة عمرك وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) الضالين المضلين عن الايمان- قال البغوي روى عن ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال لمّا أغرق اللّه تعالى فرعون قال امنت انّه لا اله الّا الّذي امنت به بنوا اسراءيل فقال جبرئيل يا محمّد فلو رايتنى و انا أخذ من حال البحر فادسّه فى فيه مخافة ان تدركه الرحمة فائدة زعم جلال الدين الدواني ان فرعون مات مسلما حيث اتى بكلمة التوحيد حال حياته- و قد اتبع هو فى هذا القول الشيخ الاجل محى الدين ابن «١» العربي قدس اللّه سره حيث قال مات فرعون طاهرا- و الحق ان قول الشيخ هذا مصروف عن الظاهر و كثير من كلماته السكرية لا تطابق الشرع و هذا القول خارق للاجماع- و مخالف للصحاح من الأحاديث قال الدواني كل ما فى القران من الوعيد بالنار انما جاء فى حق ال فرعون دون نفسه- قال اللّه تعالى أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ- و قال اللّه تعالى فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ- و قال وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ- و اما فرعون فلا يعذب على كفره فانه قد أمن من بل على عصيانه و ظلمه فى حق العباد فان حقوق العباد لا يغفرها اللّه- قلت و هذا ليس بشي ء فان اللّه سبحانه قال فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَأَخَذَهُ اللّه نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى فانه صريح فى كونه معذبا فى الاخرة لاجل كفره و ما قال اللّه تعالى حكاية عن موسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوالًا الى قوله اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَ اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا- و قوله قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما صريح فى ان موسى دعا على فرعون ان يموت على الكفر و قد أجيبت دعوته- فانكار موته على الكفر انكار لهذه الاية نعوذ باللّه منه. (١) فى الأصل محى الدين العربي-. ٩٢ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ اى نلقيك بنجوة من الأرض و هى المكان المرتفع- او المعنى نبعدك مما وقع قومك من قعر البحر و نجعلك طافيا- و قرا يعقوب ننجيك بالتخفيف من الافعال بِبَدَنِكَ اى ببدنك عاريا من الروح او كاملا سويّا او عريانا عن اللباس او بدرعك- و كانت له درع مشهور من ذهب مرصع بالجواهر- قال البغوي لما اخبر موسى قومه بهلاك فرعون قال بنوا إسرائيل مامان فرعون- فامر اللّه البحر فالقى فرعون على الساحل احمر قصيرا كانه ثور فراه بنوا إسرائيل و عرفوه بدرعه فصدقوا لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ اى من ورائك آيَةً أي عبرة و عظة- او اية دالة على طريقة التوحيد مظهرا لعجز البشر و ان كان ملكا فانه كان فى نفوس بنى إسرائيل متخيّلا متمكنا انه لا يهلك حتّى شكّوا فى موته حين أخبرهم موسى عليه السلام الى ان عاينوه مطروحا على ممرهم من الساحل او لمن يأتى بعدك من القرون إذا سمعوا مال أمرك ممن شاهدك و نكالا عن الطغيان وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ يعنى الكفار عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٥٤) لا يتفكرون فيها و لا يعتبرون بها- . ٩٣ وَ لَقَدْ بَوَّأْنا اى أنزلنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ اى منزلا صالحا يعنى مصر و قيل الأردن و فلسطين و هى الأرض المقدسة الّتي كتب اللّه ميراثا لابراهيم و ذريته و قال الضحاك هى مصر و الشام وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ اى اللذائذ فَمَا اخْتَلَفُوا اى بنوا إسرائيل الذين كانوا فى زمن النبي صلى اللّه عليه و سلم فى امر محمّد صلى اللّه عليه و سلم قبل مجيئه بل كان كلهم متفقين على انه رسول اللّه منعوت بصفات مكتوبة فى التورية مبشرين الناس بقرب ظهوره مستفتحين به على الذين كفروا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ اى معلومهم و هو محمّد صلى اللّه عليه و سلم كالخلق بمعنى المخلوق فى قوله تعالى هذا خَلْقُ اللّه او المعنى حتّى جاءهم العلم بانه هو بمطابقة صفاته بما ذكرت فى التورية و ظهور معجزاته فحينئذ اختلفوا فامنت طائفة منهم و كفرت طائفة عنادا و حسدا إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣) فيميّز المحق من المبطل بالانجاء و الإهلاك. ٩٤ فَإِنْ كُنْتَ ايها الإنسان فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ من القران و الهدى على لسان رسولنا محمّد صلى اللّه عليه و سلم فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ قال ابن عباس و مجاهد و الضحاك يعنى من أمن من اهل الكتب كعبد اللّه بن سلام و أصحابه يشهدون لك انه موعود فى التورية و الإنجيل مطابق فى قصصه و اصول أحكامه بالكتب المتقدمة- فهذا خطاب مع اهل الشك من الناس- و كان الناس فى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بين مصدق و مكذب و شاك- و فيه تنبيه على انه من خالجه شبهة فى الدين ينبغى ان يتسارع الى حلها بالرجوع الى الصالحين من اهل العلم- و قيل هذا خطاب مع النبي صلى اللّه عليه و سلم على سبيل الفرض و التقدير او لزيادة تثبيته يدل عليه ما اخرج عبد الرزاق و ابن جرير عن قتادة قال بلغنا انه صلى اللّه عليه و سلم قال لا أشك و لا اسئل- و قيل خطاب مع النبي صلى اللّه عليه و سلم و المراد به غيره على عادة العرب فانهم قد يخاطبون الرجل و يريدون به غيره كقوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللّه خاطب به النبي صلى اللّه عليه و سلم و المراد به المؤمنون بدليل قوله تعالى إِنَّ اللّه كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً حيث لم يقل بما تعمل- و قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ- و قال الفراء علم اللّه سبحانه ان رسوله صلى اللّه عليه و سلم غير شاكّ لكنه ذكره على عادة العرب يقول أحدهم لعبده ان كنت عبدى فاطعنى و يقول لولده ان كنت ولدي فافعل كذا و لا يكون ذلك على وجه الشك لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ يعنى ما أنزلنا إليك امر ثابت متحقق مِنْ رَبِّكَ ثبت ذلك عندك بالآيات الواضحة و البراهين القاطعة بحيث لا مدخل للمرية فيه فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) بالتزلزل عما أنت عليه من الجزم و اليقين. ٩٥ وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللّه فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) الخطاب فى هذا كالخطاب فى ما سبق اما للشاكين من الناس او للرسول صلى اللّه عليه و سلم و المراد به غيره او للرسول على سبيل الفرض- او الفرض منه التثبيت و قطع الاطماع عنه كقوله فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ-. ٩٦ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ اى وجبت عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ يعنى قوله حين أخذ الميثاق ان هؤلاء للنار- روى مالك و الترمذي و ابو داؤد عن مسلم بن يسار قال سئل عمر بن الخطاب عن هذه الاية وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الاية قال عمر سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يسئل عنها فقال ان اللّه خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة و بعمل اهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار و بعمل اهل النار يعملون الحديث- و روى احمد عن ابى نصرة عن رجل من اصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم يقال له ابو عبد اللّه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ان اللّه عز و جل قبض بيمينه قبضة و اخرى باليد الاخرى و قال هذه لهذه يعنى للجنة و هذه لهذه يعنى للنار و لا أبالي. لا يُؤْمِنُونَ (٩٧) إذ لا نقض لقضاء اللّه تعالى. ٩٧ وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ دالة على الصدق موجبة للايمان فان السبب الأصلي لايمانهم انما هو تعلق ارادة اللّه تعالى به و لم يوجد- و جملة لو جاءتهم مع معطوفة عليها مقدرة فى محل الحال من فاعل لا يؤمنون- تقديره لا يؤمنون لو لم يجئهم و لو جاءتهم كل اية يعنى لا يؤمنون فى حال من الأحوال حذف ما حذف لدلالة المذكور عليه حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧) فى القبر او فى النار او حالة الغرغرة و حينئذ لا ينفعهم الايمان كما لم ينفع ايمان فرعون حالة الغرغرة. ٩٨ فَلَوْ لا اى فهلا كانَتْ قَرْيَةٌ اى اهل قرية من القرى الّتي أهلكناها آمَنَتْ قبل معاينة العذاب و لم يؤخر الى حالة الغرغرة كما اخر فرعون فَنَفَعَها إِيمانُها اى قبلها اللّه منها- عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر رواه الترمذي و ابن ماجة و ابن حبان و الحاكم و البيهقي- و عن ابى ذر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه ليغفر لعبده ما لم يقع الحجاب قالوا يا رسول اللّه و ما الحجاب قال ان تموت النفس و هى مشركة رواه احمد و البيهقي فى كتاب البعث و النشور إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ استثناء منقطع يعنى لكن قوم يونس أمنوا فنفعهم ايمانهم و جاز ان تكون الجملة فى معنى النفي لتضمن حرف التحضيض معناه فيكون الاستثناء متصلا- و المعنى ما أمن «١» أحد من اهل قرية عاصية قبل معائنة العذاب الأخروي حالة الغرغرة الا قوم يونس فانهم أمنوا قبل حالة الغرغرة و قبل رؤية العذاب الأخروي لَمَّا آمَنُوا فى حالة الاختيار قبلنا منهم الايمان اخرج ابن مردوية عن عائشة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم فى هذه الاية قال لما أمنوا دعوا و كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ فى الدنيا إِلى حِينٍ (٩٨) اى وقت معين معلوم عند اللّه تعالى و هو وقت اجالهم- و قال البغوي تأويل هذه الاية انه لم يكن قرية امنت عند معائنة العذاب فنفعها إيمانها فى حالة البأس الا قوم يونس- فانهم نفعهم ايمانهم فى ذلك الوقت- ثم قال و اختلفوا فى انهم هل رأوا العذاب عيانا اولا- فقال بعضهم راوا دليل العذاب و الأكثرون على انهم راوا العذاب عيانا- بدليل قوله تعالى كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ- و الكشف يكون بعد الوقوع- و كلام البغوي هذا يفيد ان الايمان فى حالة العذاب الدنيوي لا يقبل و لم يقبل الا من قوم يونس و تسمى تلك الحالة حالة البأس- و الصحيح ان المراد برؤية العذاب الأليم المانع من قبول الايمان رؤية العذاب الأخروي عند حضور الموت حين يرى ملائكة الموت- الا ترى ان الكفار عذبوا يوم بدر بالعذاب الدنيوي من القتل و الاسر و غير ذلك ثم أمن بعض من بقي منهم حيّا- و كذا كان حال قوم يونس انهم أمنوا قبل رؤية العذاب الأخروي فقبل اللّه تعالى ايمانهم بعد ما رأوا العذاب فى الدنيا- ثم لما أمنوا كشف اللّه عنهم عذاب الخزي فى الحيوة الدنيا و اما ايمان فرعون فلم يقبل اما لكونه عند الغرغرة و اما لعدم خلوصه الى قلبه بسبب دعاء موسى اشدد على قلوبهم- و قد كان من عادة فرعون و قومه انهم كلّما وقع عليهم الرجز قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ و كان كلّما كشف اللّه عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ فلعله أمن فرعون حينئذ ايضا بلسانه دون قلبه فلم يقبل منه- و قد ذكرنا مسئلة قبول التوبة قبل خالة الغرغرة فى سورة النساء فى قوله تعالى إِنَّمَا «٢» التَّوْبَةُ عَلَى اللّه لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ الاية وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ الاية (قصة يونس ) على ما ذكره البغوي عن ابن مسعود و سعيد بن جبير و وهب و غيرهم ان قوم يونس كانوا بنينوى من ارض الموصل- فارسل اللّه تعالى إليهم (١) فى الأصل ما امنت-. (٢) و فى الأصل انّما التوبة على الذين إلخ-. يونس عليه السلام يدعوهم الى الايمان- فدعاهم فابوا فقيل له أخبرهم ان العذاب مصبّحهم الى ثلاث فاخبرهم بذلك- فقالوا انا لم نجرّب عليه كذبا- فانظروا فان بات فيكم تلك الليلة فليس بشي ء- و ان لم يبت فاعلموا ان العذاب مصبّحكم- فلما كان جوف تلك الليلة خرج يونس من بين أظهرهم- فلما أصبحوا تغشّاهم العذاب فكان فوق رءوسهم قدر ميل- و قال وهب غامت السماء غيما اسود هائلا- يدخن دخانا شديدا- فهبط حتّى غشّى مدينتهم و اسودت سطوحهم- فلما راوا ذلك أيقنوا بالهلاك- فطلبوا يونس بينهم فلم يجدوه- فقذف اللّه فى قلوبهم التوبة- فخرجوا الى الصعيد بانفسهم و نسائهم و صبيانهم و دوابهم- و لبسوا المسوح و أظهروا الايمان و التوبة- و أخلصوا النية و فرقوا بين كل والدة و ولدها من الناس و الانعام- فحنّ بعضها الى بعض و علت أصواتها و اختلطت أصواتها بأصواتهم و عجّوا و تضرّعوا الى اللّه عز و جل و قالوا أمنا بما جاء به يونس- فرحمهم ربهم و استجاب دعاءهم و كشف عنهم العذاب بعد ما أظلهم و ذلك يوم عاشوراء- و اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم و ابن المنذر و ابو الشيخ عن قتادة قال ذكر لنا ان قوم يونس كانوا بنينوى من ارض الموصل فذكر نحوه- و فيه فلما عرف اللّه الصدق من قلوبهم و التوبة و الندامة على ما مضى كشف اللّه عنهم العذاب بعد ما تدلّى عليهم و لم يكن بينهم و بين العذاب إلا ميل- و اخرج ابن ابى حاتم عن على رضى اللّه عنه قال تيب على قوم يونس يوم عاشوراء و كان يونس قد خرج ينتظر العذاب و هلاك قومه فلم ير شيئا- و كان من كذب و لم يكن له بينة قتل فقال يونس كيف ارجع الى قومى و قد كذبتهم- فانطلق عاتبا على ربه مغاضبا لقومه- فاق البحر فاذا قوم يركبون سفينة فعرفوه فحملوه بغير اجر- فلما دخلها و توسطت بهم و لججت وقفت السفينة لا ترجع و لا تتقدم فقال اهل السفينة ان لسفينتنا لشأنا قال يونس قد عرفت شأنها ركبها رجل ذو خطيئة عظيمة- قالوا «١» و من هو- قال انا اقذفونى فى البحر- قالوا ما كنا لنطرحك من بيننا حتّى نعذر فى شأنك- فاستهموا فاقرعوا ثلاث مرات فادحض سهمه- و الحوت عند رجل السفينة فاغرقاه ينتظر امر ربه فيه- فقال يونس انكم و اللّه لتهلكن جميعا او لتطرحونى فيه- فقذفوه فيه فانطلقوا و أخذت الحوت- و روى ان اللّه تعالى اوحى الى حوت عظيم (١) فى الأصل قال-. حتّى قصد السفينة فلما راه اهل السفينة مثل الجبل العظيم و قد فغرفاه ينظر الى من فى السفينة كانّه يطلب شيئا خافوا فلما راه يونس عليه السلام زخ نفسه فى الماء- و عن ابن عباس رضى اللّه عنه انه خرج مغاضبا لقومه- فاتى بحر الروم فاذا سفينة مشحونة فركبها- فلما لججت السفينة تكافت حتّى كادوا ان يغرقوا- فقال الملاحون هاهنا رجل عاص او عبد ابق و هذا رسم السفينة إذا كان فيها ابق لا تجرى- و من رسمنا ان نقترع فى مثل هذا فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه فى البحر- و لان يغرق واحد خير من ان تغرق السفينة بما فيها- فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة فى كلها على يونس- فقام يونس فقال انا الرجل العاصي و العبد الآبق فالقى نفسه فى الماء- فابتلعه حوت ثم جاء حوت اخر اكبر منه و ابتلع هذا الحوت- و اوحى اللّه الى الحوت لا تؤذى منه شعرة فانى جعلت بطنك سبحنه و لم نجعله طعاما لك- و روى عن ابن عباس قال نودى الحوت انا لم نجعل يونس لك قوتا و انما جعلنا بطنك له حرزا و مسجدا- و روى انه قام قبل القرعة قال انا العبد العاصي الآبق- قالوا من أنت- قال يونس بن متّى- فعرفوا فقالوا لا نلقينك يا رسول اللّه و لكن نساهم- فخرجت القرعة عليه فالقى نفسه فى الماء- قال ابن مسعود ابتلعه الحوت فاهوى به الى قرار الأرض السابعة و كان فى بطنه أربعين ليلة- فسمع تسبيح الحصى فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ- فاجاب اللّه له فامر الحوت فنبذه على ساحل البحر كالفرخ الممعط- فانبت اللّه عليه شجرة من يقطين و هو الدباء فجعل يستظل تحتها و وكّل اللّه به و علة يشرب من لبنها- فيبست الشجرة فبكى عليها- فاوحى اللّه تعالى اليه تبكى على شجرة يبست و لا تبكى على مائة الف او يزيدون و أردت ان اهلكهم- فخرج يونس فاذا هو بغلام يرعى فقال من أنت يا غلام- قال من قوم يونس- قال إذا رجعت إليهم فاخبرهم انى لقيت يونس- فقال الغلام قد تعلم انه ان لم يكن بينة قتلت قال يونس تشهد لك هذه البقعة و هذه الشجرة- فقال له الغلام فمرهما- قال يونس إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا «١» له قالتا نعم- فرجع الغلام فقال للملك انى لقيت يونس فامر الملك بقتله- فقال ان لى بينة فارسلوا معى فاتى البقعة و الشجرة فقال أنشدكما باللّه هل اشهد كما يونس قالتا نعم فرجع القوم مذعورين و قالوا للملك شهد له الشجرة و الأرض فاخذ الملك بيد الغلام فاجلسه فى مجلسه و قال أنت أحق بهذا المكان منى فاقام لهم أمرهم ذلك أربعين سنة-. (١) فى الأصل فاشهدوا-. ٩٩ وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ يا محمّد ان يؤمن من فى الأرض كلهم لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ بحيث لا يشذ عنهم أحد جَمِيعاً مجتمعين على الايمان غير مختلفين فيه- و فيه رد لمذهب القدرية الذين قالوا ان اللّه سبحانه يشاء ايمان جميع الناس لكنهم لا يؤمنون باختيارهم- فانها تدل انه لم يشأ ايمانهم و انّ من شاء إيمانه يؤمن لا محالة لاستحالة تخلف مشية اللّه عما شاء و التقييد بمشية الإلجاء خلاف الظاهر أَ فَأَنْتَ يا محمّد تُكْرِهُ النَّاسَ يعنى الكفار حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) و لم يشا اللّه ذلك منهم ترتب الإكراه على عدم المشية بالفاء و إدخال حرف الاستفهام للانكار و تقديم الضمير على الفعل للدلالة على ان ما لم يشأ اللّه مستحيل وجوده لا يمكن تحصيله بالإكراه فضلا عن الحث و التحريض عليه- و ذلك انه صلى اللّه عليه و سلم كان حريصا على ان يؤمن جميع الناس فاخبره اللّه تعالى بانه لا يؤمن منهم الا من سبق علم اللّه فيه بالسعادة دون من سبق عليه بالشقاوة فلا تهتم فى ذلك فالاية تسلّية للنبى صلى اللّه عليه و سلم ١٠٠ وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ باللّه تعالى إِلَّا بِإِذْنِ اللّه يعنى الا بإرادته و توفيقه وَ يَجْعَلُ قرأ ابو بكر بالنون على التكلم و الباقون بالياء على الغيبة اى يجعل اللّه الرِّجْسَ اى العذاب او الخذلان فانه سببه عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) الحق من الباطل يعنى الكفار لما على قلوبهم من الطبع و لعدم تعلق مشية اللّه تعالى بتعقّلهم ١٠١ قُلِ يا محمّد انْظُرُوا ايها الناس و تفكروا ما ذا فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من عجائب الممكنات كالشمس و القمر و النجوم و حركاتها المنتسقة و الجبال و البحار و الأنهار و الأشجار و المواليد الدالات على وجود صانع قديم قادر عليم متوحد بجلال ذاته و كمال صفاته- و كلمة ماذا ان جعلت استفهامية علقت انظروا عن العمد وَ ما تُغْنِي ما نافية او استفهامية للانكار فى موضع النصب يعنى لا تفيد الْآياتُ الموجبة للعلم و اليقين وَ النُّذُرُ جمع نذير يعنى الرسل و غيرهم كالشيب و موت الاقران عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فى علم اللّه و حكمه فان الايمان امر وهبى ١٠٢ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ اى مشركوا مكة إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ اى مثل وقائع الَّذِينَ خَلَوْا مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ من كفار الأمم السّابقة- قال قتادة يعنى وقائع اللّه تعالى فى قوم نوح و عاد و ثمود- و العرب يسمى العذاب أياما- و النعم ايضا أياما قال اللّه تعالى وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّه فكلّما مضى عليك من خير او شر فهو ايام قُلْ يا محمّد فَانْتَظِرُوا يا اهل مكة هلاكى إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) هلاككم ١٠٣ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا عطف على محذوف دل عليه قوله إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا كانه قيل نهلك الأمم ثم ننجّى رسلنا و من أمن معهم على حكاية الحال الماضية كَذلِكَ يعنى كما ننجى رسلنا من الأمم السابقة كذلك حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣) اى إنجاء مثل ذلك الانجاء ننجى محمّدا صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه حين يهلك المشركون- و حقّا علينا اعتراض يعنى وجب علينا وجوبا قرا حفص و الكسائي ننج مخففا من الافعال و الباقون مشددا من التفعيل- ١٠٤ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب لاهل مكة إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي من صحته فانهم كانوا فى استبعاد من امر النبوة- و كانوا إذا رأوا الآيات اضطروا الى الايمان فكانوا فى شك و تزدد لشقاوتهم الجبلية فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه من الحجارة المنحوتة بايديكم وَ لكِنْ أَعْبُدُ اللّه الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ يعنى الّذي يحييكم و يميتكم و يخلق ما يشاء و يختار- و انما خص التوفى بالذكر للتهديد- جملة فلا اعبد الى آخره وضع موضع الجزاء اقامة للسبب مقام المسبب- تقديره ان كنتم فى شك من دينى فازيلوا ذلك الشك بالتأمل و التفكر فى دينى و هو هذا لا اعبد الحجارة المخلوقة الّتي لا تضر و لا تنفع و اعبد اللّه الخالق القادر النافع الضار وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ اى بان أكون مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) بما دل عليه العقل و ثبت بالنقل من الكتب السماوية ١٠٥ وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ عطف على ان أكون ذكر الصلة فى المعطوف عليه بصيغة المضارع و فى المعطوف بصيغة الأمر لعدم الفرق بينهما إذ المقصود وصلها بما يتضمنه من المعنى المصدري و صيغ الافعال كلها لذلك سواء- و المعنى أمرت بكونى على الايمان و الاستقامة فى الدين و الاستبداد فيه بأداء الفرائض و الانتهاء عن القبائح- او فى الصلاة باستقبال القبلة لِلدِّينِ حَنِيفاً حال من الدين او الوجه وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) عطف على أقم يعنى أمرت بان لا تكونن من المشركين و معناه نهيت عن كونى على الشرك ١٠٦ وَ لا تَدْعُ عطف تفسيرى على قوله لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعنى لا تعبد مِنْ دُونِ اللّه ما لا يَنْفَعُكَ ان دعوته وَ لا يَضُرُّكَ ان خذلته و لا شك ان من تفكر و نظر بعين الانصاف فى هذا الدين المؤيد بالعقل و النقل حصل له اليقين بصحة الدين و زال عنه الشك ان شاء اللّه تعالى فَإِنْ فَعَلْتَ عبادة ما لا ينفعك و لا يضرك فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) حيث وضعت العبادة فى غير موضعه جزاء للشرط و جواب لسوال مقدر عن تبعة عبادة غير اللّه- ١٠٧ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللّه اى يصيبك بِضُرٍّ اى بمرض او شدة او بلاء فَلا كاشِفَ لَهُ اى لا دافع له أحد إِلَّا هُوَ وَ إِنْ يُرِدْكَ اللّه بِخَيْرٍ من خيرات الدنيا و الاخرة فَلا رَادَّ اى لا دافع لِفَضْلِهِ أحد لعله ذكر الارادة مع الخير- و المس مع الضر مع تلازم الامرين للتنبيه على ان الخير مراد بالذات و الضر انما مسّهم لا بالقصد الاول- و وضع الفضل موضع الضمير للدلالة على انه متفضل بما يريدهم من الخير لا لاستحقاق لهم عليه- و لم يستثن لان مراد اللّه لا يمكن رده يُصِيبُ بِهِ اى بكل واحد من الخير و الشر مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فتتعرضوا الرحمة بالطاعة و لا تتكلوا عليها و لا تيئسوا من غفرانه بالمعصية و لكن خافوا عذابه- روى ابو نعيم عن على رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه اوحى الى نبى من أنبياء بنى إسرائيل قل لاهل طاعتى من أمتك ان لا يتكلوا على أعمالهم انى لا اناصب عبدا لحساب يوم القيامة أشاء ان أعذّبه الا عذبته و قل لاهل معصيتى من أمتك لا تلقوا بايديكم فانى اغفر الذنوب العظيمة و لا أبالي- قطع اللّه سبحانه بهذه الاية طريق الرغبة و الرهبة الا اليه وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) سبقت رحمته على غضبه. ١٠٨ قُلْ يا محمّد يا أَيُّهَا النَّاسُ اهل مكة قَدْ جاءَكُمُ العلم الْحَقُّ الثابت المطابق للواقع يعنى العلم بالتوحيد و الصفات و احوال المبدأ و المعاد فى القران و على لسان رسوله صلى اللّه عليه و سلم مِنْ رَبِّكُمْ و لم يبق لكم عذر بالجهل- او المراد بالحق ما ظهر تحققه و صدقه بالاعجاز يعنى القران او الرسول صلى اللّه عليه و سلم و لم يبق لكم عذر فَمَنِ اهْتَدى بإذعان ذلك العلم و السلوك على مقتضاه و بقبول القران و متابعة الرسول فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ فان نفعه عائد إليها وَ مَنْ ضَلَّ عن طريق الحق بالإنكار و العناد فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها لان وباله عائد عليها وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) بحفيظ موكول الىّ أمركم حتّى اؤاخذ بضلالكم ١٠٩ وَ اتَّبِعْ يا محمّد ما يُوحى إِلَيْكَ بامتثال الأوامر و ترك المناهي وَ اصْبِرْ على الطاعة و تحمل اذيتهم حَتَّى يَحْكُمَ اللّه بقتال الكفار و ضرب الجزية عليهم وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩) لا يمكن الخطاء فى حكمه لاطلاعه على السرائر كاطلاعه على الظواهر- و الحمد للّه رب العالمين و صلى اللّه على خير خلقه محمّد و اله و أصحابه أجمعين تمت تفسير سورة يونس من التفسير المظهرى التاسع و العشرين من رمضان السنة الاولى من المائة الثالثة عشر بعد الهجرة شوال «١» سنة ١٢٠١ هجرى (١) هكذا فى الأصل لعل المصنف رحمة اللّه عليه فرغ من تسويده فى رمضان و كتب هذه التاريخ بالحمرة فى شوال- ابو محمّد عفى عنه. |
﴿ ٠ ﴾