سُورَةُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَكِّيَّةٌ

وَهِيَ مِائَةٌ وثَلاَثٌ وَعِشْرُونَ آيَةً

مائة و ثلاث و عشرون اية مكية الا قوله أقم الصّلوة طرفى النّهار الاية ربّ يسّر و تمّم بالخير «١»

(١) الخطبة من الناشر.

_________________________________

بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١

الر كِتابٌ مبتدا و خبر- او كتاب خبر مبتدا محذوف أُحْكِمَتْ آياتُهُ اى نظمت آياته نظما محكما لا يقع فيه نقص من جهة اللفظ و لا من جهة المعنى- او منعت من النسخ ان كان المراد آيات السورة فانه ليس شي ء منها منسوخا- او أحكمت بالحجج و الدلائل- او جعلت حكيمة منقول من حكم بالضم إذا صار حكيما لاشتمالها على أمهات الحكم العلمية و العملية ثُمَّ فُصِّلَتْ اى بينت بالفوائد من العقائد و الاحكام و المواعظ و الاخبار كما يفصل القلائد بالفرائد- او فصلت بجعلها سورا- او بانزالها نجما نجما- او فصل اى بين فيها و لخص ما يحتاج اليه مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ صفة للكتاب او خبر بعد خبر او صلة لاحكمت او لفصلت يعنى فصلت من عنده أحكامها و هو تقرير لاحكامها و تفصيلها على أكمل ما ينبغى باعتبار ما ظهر من امره و ما خفى

٢

أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللّه اى لان لا تعبدوا- او بان لا تعبدوا- او فى ذلك الكتاب ان لا تعبدوا- و قيل ان مفسرة لانّ فى تفصيل الآيات معنى القول- و يجوز ان يكون كلاما مبتدا للاغراء كانه قيل الزموا ان لا تعبدوا الا اللّه إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ اى من اللّه تعالى نَذِيرٌ بالعقاب على الشرك وَ بَشِيرٌ (٢) بالثواب على التوحيد

٣

وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا عطف على ان لا تعبدوا يعنى استغفروا رَبَّكُمْ على ما سلف منكم من المعاصي ثُمَّ تُوبُوا ثم ارجعوا بالطاعة إِلَيْهِ و قال الفراء ثم هاهنا بمعنى الواو و الاستغفار هو التوبة يعنى يلزم أحدهما الاخر يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً اى يعيشكم عيشا حسنا فى أمن و سعة فان المعاصي جالبة للمصائب و البليات قال اللّه تعالى ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ و قيل العيش الحسن الرضاء بالمقسوم و الصبر على المقدور إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى اى حين موت كل واحد منكم فانها مدة معلومة عند اللّه تعالى بحيث لا يتغير وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فى دينه و عمله فَضْلَهُ اى جزاء فضله فى الدنيا بكثرة التوفيق و طمانية القلب و الالتذاذ و الراحة بذكر اللّه و البشرى و فى الاخرة بكثرة الثواب و مدارج القرب وَ إِنْ تَوَلَّوْا حذفت احدى التاءين اى تتولوا و تعرضوا عن عبادة اللّه و التوحيد فَإِنِّي قرا نافع و ابن كثير و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) يعنى يوم القيامة فان مقداره خمسين الف سنة بل ما لا نهاية لها

٤

إِلَى اللّه مَرْجِعُكُمْ اى رجوع أموركم كلها فى الدنيا و الاخرة وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من الاثابة و التعذيب فى الدارين قَدِيرٌ (٤) فهو تقرير لما مر من الآيات-

٥

أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ اى من اللّه تعالى روى البخاري عن ابن عباس قال كان ناس يعنى من المسلمين يستحيون ان يتخلوا فيفضوا بفروجهم الى السماء و ان يجامعوا نساءهم فيفضوا الى السماء فنزل ذلك فيهم- و كذا اخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ و ابن مردوية من طريق محمّد بن عباد بن جعفر عن ابن عباس-

و اخرج ابن ابى شيبة و ابن جرير و ابن المنذر من طريق ابن ابى مليكة قال سمعت ابن عباس يقرا أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ قال كانوا لا يأتون النساء و لا الغائط الا و قد تغشوا ثيابهم كراهة ان يفضوا بفروجهم الى السماء- و

قال البغوي قال عبد اللّه بن شداد نزلت هذه الاية فى بعض المنافقين كان إذا مرّ برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثنى صدره و ظهره و طأطأ رأسه و غطى وجهه كيلا يراه النبي صلى اللّه عليه و سلم- و كذا اخرج ابن جرير و غيره عن عبد اللّه ابن شداد بن الهاد- و فى لفظ المنافقين نظر فان الاية مكية و النفاق حدث بالمدينة و ضمير منه على هذا راجع الى النبي صلى اللّه عليه و سلم- و

قال البغوي قال ابن عباس نزلت فى الأخنس بن شريق و كان رجلا حلو الكلام حلو المنظر يلقى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بما يحب و ينطوى بقلبه على ما يكره و معنى قوله يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يغطون صدورهم على الكفر و الشحناء و عداوة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- و قال قتادة كانوا يحنون صدورهم لكى لا يسمعوا كتاب اللّه و لا ذكره- و قال السدى معنى يثنون يعرضون بقلوبهم من قولهم ثنّيت عنانى-

و قرا ابن عباس فيما روى عنه البخاري تثنونى صدورهم بالتاء و الياء بالإسناد الى الصدور من اثنونى يثنونى- و هو بناء للمبالغة- و قيل كان الرجل من الكفار يدخل بيته و يرخى ستره و يحنى ظهره و يتغشى بثوبه و هو يقول هل يعلم اللّه ما فى قلبى فنزلت هذه الاية أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ اى يغطون رءوسهم بثيابهم يَعْلَمُ اللّه ما يُسِرُّونَ فى قلوبهم و فيما عداها وَ ما يُعْلِنُونَ بأفواههم إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) اى باسرار ذات الصدور او بالقلوب و أحوالها و إذا لم يخف شي ء من اللّه تعالى فسيظهر ما يشاء على رسوله و على المؤمنين-

٦

وَ ما مِنْ دَابَّةٍ و هى كل حيوان يدب على الأرض فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللّه رِزْقُها لتكفله إياها تفضلا و رحمة- و انما اتى بلفظ الوجوب تحقيقا لوصوله و حملا على التوكل فيه- و من هاهنا قيل انّ على بمعنى من و الاضافة فى رزقها للعهد يعنى ان الرزق المعهود المعلوم عند اللّه تعالى للعبد فاللّه تعالى متكفله إياه يأتى منه دون من غيره- قال مجاهد هو ما جاء من رزق فمن اللّه و ربما لم يرزقها حتّى يموت جوعا وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَ مُسْتَوْدَعَها

قال البغوي قال ابن مقسم و روى ذلك عن ابن عباس مستقرها المكان الّذي تأوى اليه و تستقر فيه ليلا و نهارا- و مستودعها الموضع الّذي تدفن فيه إذا مات- و قال ابن مسعود المستقر أرحام الأمهات و المستودع أصلاب الآباء- و رواه سعيد بن جبير و على بن طلحة و عكرمة عن ابن عباس- و قيل المستقر الجنة او النار و المستودع القبر لقوله تعالى فى صفة الجنة و النار حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا- و ساءَتْ مُسْتَقَرًّا كُلٌّ اى كل واحد من الدواب و أحوالها و أرزاقها فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) اى مثبت فى اللوح المحفوظ او فى كتب الحفظة- عن عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كتب اللّه مقادير الخلائق قبل ان يخلق السموات و الأرض بخمسين الف سنة قال و عرشه على الماء رواه مسلم و عن ابن مسعود قال حدثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو الصادق المصدوق ان خلق أحدكم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة- ثم تكون علقة مثل ذلك- ثم تكون مضغة مثل ذلك- ثم يبعث اللّه اليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله و اجله و رزقه و شقى او سعيد الحديث متفق عليه- و عن ابى الدرداء قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه عز و جل فرغ الى كل عبد من خلقه من خمس من اجله و عمله و مضجعه و اثره و رزقه رواه احمد- كانّه أريد بالآية كونه عالما بالمعلومات كلها و بما بعدها ببيان كونه قادرا على الممكنات بأسرها تقريرا للتوحيد و لما سبق من الوعد و الوعيد

٧

وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ اى خلقهما و ما فيهما- او المراد بالسماوات ما هو فى جهة العلو- و بالأرض ما هو فى جهة السفل- و جمع السموات دون الأرض لاختلاف العلويات بالأصل و الذات دون السفليات وَ كانَ عَرْشُهُ قبل خلق السموات و الأرض عَلَى الْماءِ

قال البغوي و كان ذلك الماء على متن الريح- و قال كعب الأحبار خلق اللّه عز و جل ياقوتة خضراء- ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد- ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها- ثم وضع العرش على الماء- و قال ضمرة ان اللّه عز و جل كان عرشه على الماء ثم خلق السموات و الأرض و خلق القلم فكتب به ما هو كائن من خلقه و ما هو خالق من خلقه ثم ان ذلك سبح اللّه و مجّده الف عام قبل ان يخلق شيئا من خلقه و روى البخاري عن عمران بن حصين قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان اللّه و لم يكن شي ء قبله و كان عرشه على الماء- ثم خلق السموات و الأرض و كتب فى الذكر كل شي ء الحديث- و قد ذكرنا بعض ما ورد من الاخبار فى العرش فى تفسير اية الكرسي فى سورة البقرة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا اى ليعاملكم معاملة المبتلى المختبر لاحوالكم و هو اعلم بكم حتّى يظهر فيكم استحقاق الثواب و العقاب فان السموات و الأرض و ما فيها اسباب و مواد لوجودكم و معاشكم و ما يحتاج اليه أعمالكم يستدعى ان تشكروا ربكم- و دلائل و امارات تستدلون بها على صانعكم و تستنبطون منها معرفة ربكم- فقوله ليبلوكم متعلق بخلق و فيه اشارة الى ان السموات و الأرض و ما بينهما لم تخلق لانفسها بل توطية و تمهيدا لخلق المكلفين بل لخلق المؤمنين بل لخلق أحسنهم عملا و هو محمّد صلى اللّه عليه و سلم و من يشبهه و المراد بالعمل ما يعم عمل الجوارح و القلب- اخرج ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابن مردوية و الحاكم فى التاريخ بسند رواه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال يعنى فى تفسير هذه الاية أيكم احسن عقلا و أورع من محارم اللّه و اسرع فى طاعته فان احسن الأعمال اعمال القلوب و أحسنها حب اللّه و الاشتغال بذكره و الاستغراق فيه- فالمقصود من خلق السموات و الأرض وجود اهل اللّه و فيه تحضيض على الترقي دائما فى مراتب العلم و العمل كما يدل عليه صيغة التفضيل وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا اى البعث او القول به او القران المتضمن لذكره إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) اى كالسحر فى الخديعة و البطلان

و قرا حمزة و الكسائي الّا ساحر على ان الاشارة الى القائل و الساحر كاذب مبطل- اخرج ابن ابى حاتم عن قتادة قال لما نزلت اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ قال أناس ان الساعة قد اقتربت فتناهى القوم قليلا ثم عادوا الى أعمالهم السوء فانزل اللّه أَتى أَمْرُ اللّه فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فقال أناس هذا امر اللّه قد اتى فتناهى القوم ثم عادوا الى مكرهم السوء فانزل اللّه

٨

وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ الاية-

و اخرج ابن جرير عن ابن جريج مثله يعنى لان أخرنا عنهم العذاب الموعود إِلى أُمَّةٍ اى الى حين مَعْدُودَةٍ ساعاته- ذكر فى القاموس فى معانى امة الحين- و

قال البغوي اى الى أجل معدود- و اصل الامة الجماعة فكانّه قال الى انقراض امة و مجي ء اخرى- و

قال البيضاوي الى جماعة من الأوقات معدودة اى قليلة لَيَقُولُنَّ اى الكفار استهزاء ما يَحْبِسُهُ اى ما يمنعه من الوقوع أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ العذاب فى علم اللّه كيوم بدر لَيْسَ ذلك العذاب مَصْرُوفاً عَنْهُمْ اى مدفوعا عنهم و يوم منصوب بمصروفا يعنى ليس العذاب مصروفا عنهم يوم يأتيهم وَ حاقَ بِهِمْ اى أحاط بهم وضع الماضي موضع المستقبل تحقيقا و مبالغة فى التهديد ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨) اى العذاب الّذي كانوا يستعجلونه و يقولون استهزاء ما يحبسه فوضع يستهزءون موضع يستعجلون-

٩

وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ يعنى الجنس مِنَّا رَحْمَةً اى من نعمة صحة و أمن و جدة و اللام فى لئن لتوطية القسم ثُمَّ نَزَعْناها اى سلبنا تلك النعمة مِنْهُ و جواب القسم و جزاء الشرط إِنَّهُ لَيَؤُسٌ اى شديد اليأس من ان يعود اليه مثل تلك النعمة المسلوبة قاطع رجاءه من سعة فضل اللّه لقلة صبره و عدم ثقته به و عدم تسليم لقضائه كَفُورٌ (٩) عظيم الكفر ان لما سلف له من نعمة اللّه نسّاء له و لما معه من نعمائه لان الإنسان لا يخلو من نعماء اللّه تعالى من الوجود و توابعه

١٠

وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ كصحة بعد سقم و غنى بعد عدم مَسَّتْهُ صفة لضراء لَيَقُولَنَّ جواب قسم و جزاء شرط ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي «١» اى المصائب الّتي ساءتنى يعنى لا ينسب ذهاب السيئات الى اللّه تعالى و لا يشكره بل ينسبه الى عادة الدهر إِنَّهُ لَفَرِحٌ اشر بطر بالنعمة مغتربها و الفرح لذة فى القلب بنيل المشتهى فَخُورٌ (١٠) على الناس يزعم نفسه مستحقّا لذلك النعمة متعاليا على الناس يشغله الفرح و الفخر عن الشكر

(١) لبس فى الأصل عنّى.

١١

إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ استثناء من الإنسان يعنى الا المؤمنين فانهم ليسوا بيؤس و لا كفور عند سلب النعمة بل يرجون فضل اللّه و يشكرون نعماءه السابقة و الباقية و لا فرحين بطرا و أشرا غير مفتخرين على الناس عند انعامه بل يشكرون اللّه تعالى- وضع اللّه سبحانه الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ موضع المؤمنين اشعارا بانهم يصبرون فى الضراء و يعملون شكرا فى السراء- عن صهيب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عجبا لامر المؤمن ان امره كله له خير و ليس ذلك لاحد الا للمؤمن ان أصابته سراء شكر فكان خيرا له و ان أصابته ضراء صبر فكان خيرا له رواه مسلم- و قال الفراء هذه استثناء منقطع معناه لكن الذين صبروا و عملوا الصالحات فانهم ان نالهم شدة صبروا و ان نالوا نعمة شكروا- و على قول الفراء اللام فى الإنسان للعهد يعنى إذا أذقنا الإنسان الكافر الّذي مر ذكره منا رحمة إلخ حتّى ينقطع الاستثناء أُولئِكَ اى الصابرون الشاكرون لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (١١) يعنى رضوان اللّه و جنته- عن عياض بن حمار المجاشعي ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ان اللّه اوحى الىّ ان تواضعوا حتّى لا يفخر أحد على أحد و لا يبغى أحد على أحد رواه مسلم-

١٢

فَلَعَلَّكَ يا محمّد تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ يعنى ما فيه سبّ الهتهم و ذلك حين قالوا ايت بقرآن غير هذا ليس فيه سبّ الهتنا كذا

قال البغوي-

قال البيضاوي و لا يلزم من توقع الشي ء لوجود ما يدعو اليه وقوعه- لجواز ان يكون ما يصرف عنه و هو عصمة الرسول عن الخيانة فى الوحى و التقية فى التبليغ هاهنا-

قلت و بهذا يندفع ما قيل ان لعل من اللّه واجبة الوقوع وَ ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ الضمير فى به مبهم تفسيره أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا هلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ «١» على محمّد كَنْزٌ ينفقه فى الاستتباع كالملوك أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يصدقه قاله عبد اللّه بن امية المخزومي- يعنى يضيق صدرك و تغتم بقولهم هذا- و جاز ان يكون المعنى لعلّك تارك بعض ما يوحى إليك اى تترك تبليغه إياهم لتهاونهم به و ضائق به اى يضيق بذلك الترك صدرك فان ترك ما امر اللّه به يوجب ضيق الصدر كما ان إتيان ما امر اللّه به يوجب انشراح الصدر- ان يقولوا اى تترك التبليغ مخافة ردهم و استهزائهم بان يقولوا و ضائق صدرك لاجل أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ان كان رسولا فقال اللّه تعالى إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ يعنى ليس عليك الا الانذار بما يوحى إليك و لا عليك شي ء ان ردوا او اقترحوا او قالوا ايت بقرآن غير هذا- فما بالك تترك بقولهم او بمخافة ردهم او يضيق صدرك بقولهم وَ اللّه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (١٢) يحفظ ما يقولون فيجازيهم عليه-

(١) فى الأصل الى محمّد-.

١٣

أَمْ يَقُولُونَ أم منقطعة و الاستفهام فيه للانكار يعنى بل أ يقولون افْتَراهُ اى اختلقه من عند نفسه الضمير المنصوب عائد الى ما يوحى قُلْ يا محمّد فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ

فان قيل قد قال فى سورة يونس فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ و قد عجزوا عنه فكيف قال فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ فهو كرجل يقول لاخر أعطني درهما فيعجز فيقول أعطني عشرة- أجيب بان سورة هود نزلت اولا فلما عجزوا عن إتيان العشرة انزل بعد ذلك فاتوا بسورة- و أنكر المبرد هذا الجواب و قال بل نزلت سورة يونس اولا و أجاب بان معنى قوله فى سورة يونس فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ فى الاخبار عن الغيب و الاحكام و الوعد و الوعيد على طبق الكتب المنزلة المتقدمة فعجزوا عن ذلك فقال لهم فى سورة هود فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فى مجرد البلاغة و حسن النظم-

قلت ثم قال فى سورة البقرة فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ- و توحيد المثل باعتبار كل واحد مُفْتَرَياتٍ مختلقات من عند أنفسكم ان صح انى اختلقته فانكم عرب فصحاء مثلى تقدرون على ما اقدر عليه بل أنتم اقدر لتعلمكم و كثرة مما رستكم وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّه ليعينكم على إتيان سور مثله إِنْ كُنْتُمْ ايها الكافرون صادِقِينَ (١٣) فى قولكم انه مفترى و هذا شرط مستغن عن الجزاء بما مضى

١٤

فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ بإتيان ما دعوتم اليه و جمع الضمير فى لكم اما لتعظيم الرسول- او لان المؤمنين ايضا كانوا يتحدّونهم- و كان امر الرسول متناولا لهم من حيث انه يجب اتباعه عليهم فى كل امر الا ما خصه الدليل- او للتنبيه على ان التحدي مما يوجب قوة يقينهم و رسوخ ايمانهم فلا يغفلون عنه و لذلك رتب عليه قوله فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللّه اى متلبسا «١» بما لا يعلمه الا اللّه و لا يقدر عليه سواه وَ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لانه العالم القادر بما لا يعلم و لا يقدر عليه غيره و لظهور عجز الهتهم و لتنصيص هذا الكلام الثابت صدقه باعجازه عليه- و فيه تهديد و اقناط من ان يجيرهم من بأس اللّه الهتهم فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤) ثابتون على الإسلام راسخون مخلصون فيه إذا تحقق عندكم اعجازه مطلقا و يجوز ان يكون الكل خطابا للمشركين و الضمير المرفوع فى لم يستجيبوا لمن استطعتم و المعنى فان لم يستجب لكم ايها الكفار من استطعتم دعوتهم الى المعاونة على المعارضة لعجزهم و قد عرفتم من أنفسكم القصور عن المعارضة فاعلموا انه نظم لا يعلمه الا اللّه و انه منزل من عنده و ان ما دعاكم اليه من التوحيد حق فهل أنتم داخلون فى الإسلام بعد قيام الحجة القاطعة و فى هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب و التنبيه على قيام الموجب و زوال العذر-

(١) فى الأصل ملبسا-.

١٥

مَنْ كانَ يُرِيدُ بعمله و إحسانه الْحَياةَ الدُّنْيا اى طول البقاء فى الدار الدنيا و الصحة وَ زِينَتَها من الأموال و الأولاد و الأزواج و الخدم و الحشم نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ اى نوصل إليهم جزاء أعمالهم الحسنة وافيا فِيها اى فى الدنيا وَ هُمْ فِيها فى الدنيا لا يُبْخَسُونَ (١٥) اى لا ينقصون شيئا من أجورهم

١٦

أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ شي ء من الجزاء إِلَّا النَّارُ لانهم استوفوا جزاء أعمالهم الحسنة فى الدنيا و بقيت لهم أوزار الأعمال السيئة وَ حَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها من الحسنات يعنى لم يبق لهم ثواب فى الاخرة- ا و لم يكن لانهم لم يريدوا بها وجه اللّه تعالى حتّى يكون اجره على اللّه- و الظرف اما متعلق بحبط و الضمير يعود الى الاخرة- و اما بصنعوا و الضمير يعود الى الدنيا وَ باطِلٌ فى نفسه

ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦) من الحسنات فى الدنيا لانه لم يعمل على ما ينبغى و كانّ كلّ واحدة من الجملتين علة لما قبلها- و الظاهر ان هذه الاية فى حق الكفار- روى البخاري عن عمر بن الخطاب فى حديث طويل انه قال رفعت بصرى فى بيته صلى اللّه عليه و سلم فو اللّه ما رايت فيه شيئا يرد البصر غير اهبة ثلاثة فقلت يا رسول اللّه ادع اللّه فليوسع على أمتك فان فارس و الروم قد وسع عليهم و اعطوا من الدنيا و هم لا يعبدون اللّه فجلس النبي صلى اللّه عليه و سلم و كان متكيا فقال او فى هذا أنت يا ابن الخطاب ان أولئك قوم عجلوا طيباتهم فى الحيوة الدنيا و اما المؤمن فيريد الدنيا و الاخرة- و إرادته الاخرة غالبة فيجازى بحسناته فى الدنيا و يثاب عليها فى الاخرة- عن انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ان اللّه لا يظلم المؤمن حسنة يعطى عليها فى الدنيا و يثاب عليها فى الاخرة و اما الكافر فيطعم بحسناته فى الدنيا حتّى إذا افضى الى الاخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيرا رواه مسلم و احمد-

قلت و قوله تعالى لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ قرينة دلت على ان الاية فى حق الكفار للاجماع على ان مال المؤمن الى الجنة البتة- و قيل هذه الاية فى حق اهل الرياء عن ابى سعيد بن فضالة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال إذا جمع اللّه الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك فى عمل عمله للّه أحدا فليطلب ثوابه من عند غير اللّه فان اللّه اغنى الشركاء عن الشرك رواه احمد و عن انس ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال من كانت نيته طلب الاخرة جعل اللّه غناه فى قلبه و جمع اللّه شمله و أتته الدنيا و هى راغمة و من كانت نيته طلب الدنيا جعل اللّه الفقر بين عينيه و شتت عليه امره و لا يأتيه منها الا ما كتب له رواه الترمذي و رواه احمد و الدارمي عن ابان عن زيد بن ثابت- و قوله تعالى نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ «١» فِيها وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ لا ينافى قوله عليه السلام لا يأتيه منها الا ما كتب له لان إيفاء أعمالهم فى الدنيا بحيث لا يبخسون مكتوب لهم و يأتيهم البتة و لا يأتيه ما يزيد عليه و ان كان طالب الدنيا يطلب ما لا نهاية له فانه لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثا-

قلت و ان كانت هذه الاية فى اهل الرياء فمعنى قوله تعالى لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ انه ليس لهم جزاء ما يراءون فيه الا النار-

(١) فى الأصل أعمالهم و هم فيها-.

١٧

أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ برهان مِنْ رَبِّهِ يدله على الحق و الصواب فيختار عبادة اللّه على عبادة الأوثان و الدار الاخرة الباقية و نعيمها على الدار الدنيا الفانية و لذاتها- الموصول مبتدا حذف خبره و الفاء للتعقيب و الهمزة لانكار الحكم بمشابهة من هذا شأنه بهؤلاء المقصرين هممهم و افكارهم على الدنيا بعد العلم بان المقصرين ليس لهم فى الاخرة الّا النّار و هو الّذي اغنى عن ذكر الخبر- و التقدير أ فمن كان على بيّنة من ربّه كمن كان يريد الحيوة الدنيا- و المراد بالموصول المؤمنون المخلصون و من قال المراد به النبي صلى اللّه عليه و سلم عنى به الرسول صلى اللّه عليه و سلم و اتباعه للعموم و جمعية اسم الاشارة اليه فى قوله أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ- اخرج ابو الشيخ عن ابى العالية و ابراهيم النخعي فى قوله أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ قال ذلك محمّد صلى اللّه عليه و سلم و كذا اخرج ابن ابى حاتم و ابن مردوية و ابو نعيم فى المعرفة عن على بن ابى طالب- و المراد بالبينة القران وَ يَتْلُوهُ اى يقرأ ذلك البرهان شاهِدٌ مِنْهُ اى من اللّه تعالى وَ مِنْ قَبْلِهِ اى من قبل نزوله كِتابُ مُوسى يعنى التورية شاهد من اللّه يصدق القران إِماماً كتابا مؤتما به فى الدين وَ رَحْمَةً على المنزل عليهم و هما حالان من كتاب موسى- و المراد بالشاهد جبرئيل عليه السلام أخرجه ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ و ابن مردوية من طرق عن ابن عباس أ فمن كان على بيّنة من ربّه و يتلوه شاهد منه قال جبرئيل- فهو شاهد من اللّه يتلو من كتاب اللّه الّذي انزل على محمّد صلى اللّه عليه و سلم- و من قبله تلا التورية على موسى كما تلا القران على محمّد صلى اللّه عليه و سلم- و كذا ذكر البغوي قول ابن عباس و علقمة و ابراهيم و مجاهد و عكرمة و الضحاك و اكثر اهل التفسير انه جبرئيل - و قال الحسن و قتادة هو لسان محمّد صلى اللّه عليه و سلم- يعنى يقرا ذلك البرهان الّذي عليه المؤمنون شاهد من اللّه و هو محمّد صلى اللّه عليه و سلم- و من قبله كتاب موسى شاهد له- اخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و الطبراني فى الأوسط و ابو الشيخ عن محمّد بن على بن ابى طالب قال قلت لابى ان الناس يزعمون فى قول اللّه تعالى وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ انك أنت الشاهد- فقال وددت انى انا هو و لكنه لسان محمّد صلى اللّه عليه و سلم- و أخرجه ابو الشيخ من طريق ابى نجيح عن مجاهد- و قيل يتلو من التلو بمعنى التبعية و الشاهد ملك يحفظه و الضمير فى يتلوه اما لمن او للبينة باعتبار المعنى- و من قبله كتاب موسى جملة مبتدئة- اخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ عن مجاهد أ فمن كان على بيّنة من ربّه قال هو محمّد صلى اللّه عليه و سلم و الشاهد منه قال ملك يحفظه- و قيل الشاهد هو على بن ابى طالب

قال البغوي قال على رضى اللّه عنه ما من رجل من قريش الا و قد نزلت فيه اية من القران فقال له رجل و أنت اىّ شي ء نزل فيك- قال وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ-

فان قيل فما وجه تسمية على بالشاهد-

قلت لعل وجه ذلك انه أول من اسلم من الناس فهو أول من شهد بصدق النبي صلى اللّه عليه و سلم- و الاوجه عندى ان يقال ان عليّا رضى اللّه عنه كان قطب كمالات الولاية و سائر الأولياء حتّى الصحابة رضوان اللّه عليهم اتباع له فى مقام الولاية- و افضلية الخلفاء الثلاثة بوجه اخر كذا حقق المجدد رضى اللّه عنه فى مكتوب من اواخر مكتوباته فكانّ معنى الاية أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ يعنى على حجة واضحة و برهان قاطع و هو محمّد صلى اللّه عليه و سلم- فانه كان على حجة واضحة من ربه و برهان قاطع يفيد العلم بالقطع انه رسول اللّه- و ذلك معجزاته و أفضلها القران و علومه المستندة الى الوحى- و يتلوه اى يتبعه شاهد من اللّه على صدقه و هو علىّ و من شاكله من الأولياء- فان كرامات الأولياء معجزات للنبى صلى اللّه عليه و سلم و علومهم المستندة الى الإلهام و الكشف ظلال لعلوم النبي صلى اللّه عليه و سلم- المستندة الى الوحى فتلك الكرامات و العلوم شاهدة على صدق النبي صلى اللّه عليه و سلم- فقوله صلى اللّه عليه و سلم انا دار الحكمة و علىّ بابها رواه الترمذي بسند صحيح عن على- و انا مدينة العلم و علىّ بابها فمن أراد العلم فليأت الباب رواه ابن عدى فى الكامل و العقيلي فى الضعفاء و الطبراني و الحاكم عن ابن عباس و ابن عدى و الحاكم عن جابر- اشارة الى علوم الأولياء دون علوم الفقهاء فان أخذ علوم الفقهاء لم ينحصر على علىّ رضى اللّه عنه بل قال فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أصحابي كالنجوم بايهم اقتديتم اهتديتم- و قيل شاهد منه هو الإنجيل- و قبله كتاب موسى التورية شاهد له- و قيل البينة البرهان العقلي و الشاهد القران- قال الحسين بن الفضل الشاهد هو القران و نظمه و اعجازه- و المعنى أ فمن كان قائما على وفق البرهان العقلي و يتبع ذلك البرهان شاهد من اللّه يعنى القران يشهد بصحة البرهان و من قبل القران كتاب موسى يعنى التورية ايضا يشهد للبرهان و المراد بالموصول المسلم المخلص أُولئِكَ اشارة الى من كان على بينة بناء على ان المراد به جماعة المسلمين و جاز ان يكون اشارة الى شاهد من حيث المعنى ان كان المراد به علىّ رضى اللّه عنه و من شاكله من الأولياء يُؤْمِنُونَ بِهِ حقيقة الايمان وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ اى محمّد صلى اللّه عليه و سلم او بالقران مِنَ الْأَحْزابِ من اهل الملل كلها فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و الّذي نفس محمّد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الامة و لا يهودى و لا نصرانى و مات و لم يؤمن بالذي أرسلت به الا كان من اصحاب النار رواه مسلم فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ فى شك مِنْهُ اى من الموعد او من القران إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧) لقلة نظرهم و اختلال فكرهم-

١٨

وَ مَنْ أَظْلَمُ يعنى لا أحد «١» اظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّه كَذِباً بان زعم ان له ولدا او شريكا- او أسند اليه ما لم ينزله و نفى عنه ما أنزله- و أسند اليه تحريم ما لم يحرّم و تحليل ما حرم أُولئِكَ المفترون يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ يوم القيامة فيسئلهم عن أعمالهم وَ يَقُولُ الْأَشْهادُ يعنى الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم كذا اخرج ابو الشيخ عن مجاهد و عن ابن عباس انهم الأنبياء و الرسل و هو قول الضحاك و يؤيده قوله تعالى فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً-

و اخرج ابن المبارك عن سعيد بن المسيب قال ليس من يوم الا و تعرض على النبي صلى اللّه عليه و سلم أمته غدوة و عشية فيعرفهم بسيماهم و أعمالهم فلذلك يشهد عليهم- و قال قتادة الخلائق كلهم- روى الشيخان فى الصحيحين عن ابن عمر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه يدنى المؤمن فيضع عليه كتفه و يستره فيقول أ تعرف ذنب كذا فيقول نعم اى رب حتّى قرره بذنوبه و راى فى نفسه انه قد هلك قال سترتها عليك فى الدنيا و انا اغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته و اما الكفار و المنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللّه عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) فيه تهويل عظيم مما يحيق بهم حينئذ بظلمهم على اللّه بكذبهم عليه-

قلت و ليست الاشهاد منحصرة فى من ذكر بل من الاشهاد أعضاء المكلف قال اللّه تعالى الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ- و قال اللّه تعالى قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا الاية- و قال اللّه تعالى يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ الاية و سنذكر- و فى حديث انس عند مسلم يقول اللّه كفى بنفسك اليوم عليك

(١) فى الأصل لا اظلم-.

شهيدا- و بالكرام الكاتبين شهيدا فتحتم على فيه و يقال لاركانه انطقى الحديث- و سنذكر أحاديث الباب فى تفسير الآيات المذكورة ان شاء اللّه تعالى- و من الاشهاد الامكنة و الازمنة و غير ذلك و قد ذكرنا بعض ما ورد فيها فى سورة العاديات فى تفسير قوله تعالى يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها- قوله عليه السلام اخبارها ان تشهد يعنى الأرض على كل عبد و امة بما عمل على ظهرها- و روى البخاري عن ابى سعيد الخدري انه قال لا يسمع مدى صوت المؤذن جن و لا انس الا شهد له يوم القيامة و رواه ابن خزيمة بلفظ لا يسمع صوته حجر و لا مدر و لا شجر و لا جن و لا انس الا شهد له- و فى حديث ابى هريرة مرفوعا عند ابى داود و ابن خزيمة للمؤذن يغفر له مدى صوته و شهد له كل رطب و يابس-

و اخرج ابن المبارك عن عمر من سجد عند موضع عند شجر او حجر شهد له يوم القيامة- و عن عطاء الخراسانى نحوه-

و اخرج ابو نعيم عن معقل بن يسار عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ليس من يوم يأتى على ابن آدم الا ينادى فيه يا ابن آدم انا خلق جديد و انا فيما تعمل عليك غدا شهيد- فاعمل فىّ خيرا شهد لك به غدا- فانى لو قد مضيت لم ترنى ابدا- و يقول الليل مثل ذلك-

و اخرج مسلم عن ابى سعيد الخدري ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ان هذا المال خضر حلو و نعم صاحب لمسلم و هو لمن اعطى منه الأسير و اليتيم و ابن السبيل شهيد- و انه من يأخذ بغير حق كالذى يأكل و لا يشبع فيكون عليه شهيدا يوم القيامة

و اخرج ابو نعيم عن طاءوس قال يجاء يوم القيامة بالمال و صاحبه فيتحاجان الحديث-

١٩

الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّه اى يمنعون الناس عن دينه وَ يَبْغُونَها عِوَجاً اى يصفونها بالانصراف عن الحق و الصواب- او يبغون أهلها ان يعوجوا بالردة وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) يعنى و الحال انهم كافرون بالاخرة و تكرير كلمة هم لتأكيد كفرهم و اختصاصهم

٢٠

أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ قال ابن عباس سابقين- و قال قتادة هاربين- و قال مقاتل فائتين- و المعنى واحد يعنى ما كانوا يعجزون اللّه فى الدنيا ان يعاقبهم وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّه مِنْ أَوْلِياءَ يعنى أنصارا يحفظهم من عذاب اللّه و لكن اللّه اخر عذابهم الى يوم القيامة ليكون أشد و دوم يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ استيناف قرا ابن كثير و ابن عامر و ابو جعفر- ابو محمّد و يعقوب يضعّف بالتشديد من التفعيل و الباقون من المفاعلة- قيل تضعيف العذاب لاضلالهم الغير و اقتداء الاتباع بهم ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ يعنى استماع الحق فان اللّه تعالى لم يخلق «١» فيهم استعداد سماع للحق فهم صم لا يسمعونه وَ ما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) الهدى لتعاميهم عن آيات اللّه لعدم خلق اللّه تعالى البصيرة فى قلوبهم

(١) فى الأصل لم يخلق استعداد سماع-.

٢١

أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ حيث اشتروا عبادة الحجارة بعبادة اللّه تعالى و اشتروا النار بالجنة وَ ضَلَ اى فات عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) ان الأصنام يشفع لهم عند اللّه

٢٢

لا جَرَمَ فيه اقوال أحدها انّ لا- ردّ لكلام سابق يعنى ليس الأمر كما زعموا افتراء- و جرم كلام مبتدا معناه كسب و فاعله مضمر و قوله تعالى أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) فى محل النصب على المفعولية يعنى كسب الحكم بخسرانهم- و قيل معنى جرم وجب و حق فعلى هذا انهم فى الاخرة فى محل الرفع على الفاعلية- ثانيها ان لا جرم كلمتان ركبتا فصار معناهما حقا و انهم فى الاخرة فى محل الرفع على انه فاعل يعنى حق حقا انهم خاسرون- ثالثها ان معناه لا محالة- و فى القاموس لا جرم و لا ذا جرم و لا ان جرم و لا ان ذا جرم و لا جرم ككرم بالضم اى لا بد او حقا او لا محالة- و هذا أصله ثم تحول الى معنى القسم فلذلك يجاب عنه باللام يقال لا جرم لاتينّك- و كونهم من الأخسرين لان خسران غيرهم بالكفر او المعاصي و خسرانهم بالكفر و صد غيرهم عن الايمان

٢٣

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ أَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ قال ابن عباس خافوا- و قال قتادة انابوا

و قال مجاهد اطمأنوا- و فى القاموس اخبت خشع و تواضع و الخبيت الشي ء الحقير أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) دائمون

٢٤

مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ المؤمنين و الكافرين كَالْأَعْمى وَ الْأَصَمِّ فانه مثل الكافر فان الكفار لا يستطيعون السمع يعنى سماع الحق سماع قبول و ما كانوا يبصرون الهدى وَ الْبَصِيرِ وَ السَّمِيعِ و ذلك مثل المؤمن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه و يبصرون بنور اللّه فى قلوبهم- فالكافر مشبه بالجامع بين العمى و الصمم و المؤمن بالجامع بين ضديهما- و العاطف لعطف الصفة على الصفة و لذلك قال هَلْ يَسْتَوِيانِ و لم يقل هل يستوون كذا قال الفراء مَثَلًا اى تمثيلا او صفة او حالا

أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤) اى تتعظون بضرب الأمثال و التأمل فيها- فيه أدغمت التاء فى الذال-

٢٥

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي قرا ابن كثير و ابو عمرو و الكسائي بفتح الهمزة اى بانّى و المعنى أرسلناه متلبسا «١» بهذا الكلام و هو قوله إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ بالكسر فلما اتصل به الجار فتح كما فتح كانّى و المعنى على الكسر- و الباقون بالكسر اى فقال انّى لان فى الإرسال معنى القول مُبِينٌ (٢٥) ابيّن لكم موجبات العذاب و الثواب

(١) فى الأصل ملتبسا- [.....].

٢٦

أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللّه بدل من انّى لكم او مفعول مبين و يجوز ان يكون مفسرة متعلقة بأرسلنا او بنذير إِنِّي قرا نافع و ابن كثير و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) ان تشركوا به شيئا- و اليم بمعنى مؤلم فى الحقيقة صفة للمعذب يوصف به العذاب و زمانه على طريقة جدّ جدّه و نهارك صائم للمبالغة

٢٧

فَقالَ الْمَلَأُ يعنى الاشراف و الرؤساء لانهم يملؤن القلوب هيبة و المجالس ابهة الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ يا نوح إِلَّا بَشَراً آدميّا مِثْلَنا لا مزية لك علينا حتّى تكون نبيّا واجب الطاعة- كانهم أرادوا ان يكون ملكا او ملكا وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا اى سفلتنا و الرذل الدون من كل شي ء و جمعه أرذل ثم جمع على اراذل مثل كلب و أكلب و أكالب لانه بالغلبة صار مثل الاسم قال عكرمة يعنى الحاكة و الاساكفة بادِيَ الرَّأْيِ الرأى النظر بالعين و القلب. و ايضا الرأى الاعتقاد كذا فى القاموس- و بادى الرأى معناه ظاهر النظر من غير تعمق من البدو- او أول الرأى من البدء- و الياء مبدلة من الهمزة لانكسار ما قبلها-

و قرا ابو عمرو بهمزة مفتوحة بعد الدال و الباقون بالياء- و انتصابه بالظرف على حذف المضاف اى وقت حدوث بادى الرأى- و العامل فيه اتّبعك و انما استرذلوه لذلك او لفقرهم فانهم لمّا لم يعلموا الا ظاهرا من الحيوة الدنيا كان ذا حظ بها اشرف عندهم و المحروم فيها أرذل وَ ما نَرى لَكُمْ يا نوح مع من تبعك عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فى مال او غير ذلك يوهلكم للنبوة و استحقاق المتابعة بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) أنت فى دعوى النبوة و اتباعك فى دعوى العلم بصدقك فغلّب المخاطبين على الغائبين

٢٨

قالَ نوح يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي حجة واضحة شاهدة بصحة دعوى وَ آتانِي رَحْمَةً اى بينة او هدى و نبوة مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ قرا حمزة و الكسائي و حفص بضم العين و تشديد الميم من التفعيل بمعنى أخفيت و الباقون بفتح العين و تخفيف الميم من المجرد بمعنى خفيت عليكم فلم تهتدوا إليها «١» بالحجة- يقال بصيرة و مبصرة إذا يهتدى بها- و يقال عمياء إذا لا يهتدى بها- و توحيد الضمير لان البينة فى نفسها هى الرحمة- او لان خفاءها يوجب خفاء النبوة او على تقدير فعميت به النبوة و حذفها للاختصار او لانه لكل واحد منهما أَ نُلْزِمُكُمُوها اى نلزمكم على الاهتداء بها اى بالبينة او الرحمة و نجبركم على قبولها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) لا تريدونها قال قتادة لو قدر الأنبياء ان يلزموا قومهم الايمان لالزموا و لكن لم يقدروا-

(١) فى الأصل اليه الحجة-.

٢٩

وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ اى على التبليغ فهو و ان لم يذكر لكنه معلوم مما ذكر مالًا اى جعلا يثقل عليكم ان أديتم او علىّ ان لم تؤدوا إِنْ أَجرِيَ قرا نافع و ابن عامر و ابو عمرو و حفص بفتح الياء و الباقون بإسكانها- يعنى ليس ثوابى إِلَّا عَلَى اللّه بناء على وعده تفضلا وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا جواب لهم حين سالوا طردهم ليؤمنوا به انفة من المجالسة معهم إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فيخاصمون طاردهم عنده- او انهم يلاقونه و يفوزون بقربه- فكيف اطرد اولياء اللّه و مقربيه وَ لكِنِّي قرا نافع و البزي و ابو عمر بفتح الياء و الباقون بإسكانها أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) بلقائهم ربهم او بمراتب قربهم من اللّه او فى التماس طردهم او تتسفهون عليهم بان تدعوهم اراذل او تجهلون عاقبة أمركم

٣٠

وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللّه يدفع انتقامه منى إِنْ طَرَدْتُهُمْ و هم بتلك الصفة و المثابة أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) بإدغام التاء فى الذال يعنى أ فلا تتعظون و تعقلون لتعرفوا ان التماس طردهم ليس بصواب

٣١

وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللّه اى خزائن رزقه و أمواله يعنى لست مدعيا فضلى عليكم بالمال حتّى تنكرونه و تقولون ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ و لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ عطف على عندى خزائن اللّه و لا أقول انا اعلم الغيب حتّى تكذبونى استبعادا- او حتّى اعلم ان هؤلاء الذين اتبعونى بادى الرأى من غير بصيرة و عقد قلب- و على الثاني يجوز عطفه على أقول وَ لا أَقُولُ لَكُمْ «٢» إِنِّي مَلَكٌ حتّى تنكرونه و تقولون ما أنت الا بشر مثلنا وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ

(٢) فى الأصل كلمة لكم داخا.

اى تحتقره و تستصغره أعينكم يعنى الذين قلتم فيهم أراذلنا لاجل فقرهم- افتعال من زرا عليه إذا عابه- قلبت تاؤه دالّا لتجانس الراء فى الجهر- و اسناده الى العين للمبالغة و التنبيه على انهم استرذلوهم بادى الرأي من غير رؤية و بما عاينوا من رثاثة حالهم و قلة مالهم دون تأمل فى معانيهم و كمالاتهم و خصالهم لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللّه خَيْراً بل ما أعطاهم فى الدنيا من الايمان و الهداية- و فى الاخرة من الجنة و الدرجات خير مما اعطاكم اللّه فى الدنيا من المال اللّه أَعْلَمُ منى و منكم بِما فِي أَنْفُسِهِمْ من محبة اللّه و محاسن الأخلاق و العقائد إِنِّي قرا نافع و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها إِذاً اى إذا طردتهم و قلت فيهم لن يؤتيهم اللّه خيرا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١).

٣٢

قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا خاصمتنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فاطلته إذ أتيت بانواعه فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) فى دعوى النبوة و الوعيد على ترك الايمان فان مناظرتك لا تؤثر فينا.

٣٣

قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللّه ليس ذلك فى وسعى لا إتيانه و لا تعجيله إِنْ شاءَ عاجلا او أجلا وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) اللّه بدفع العذاب او الهرب منه إذا جاء عذابه.

٣٤

وَ لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي قرا نافع بفتح الياء و كذا ابو عمرو و الباقون بإسكانها إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ شرط و دليل جواب و الجملة دليل جواب لقوله إِنْ كانَ اللّه يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ و تقدير الكلام ان كان اللّه يريد ان يغويكم فاردت ان انصح لكم لا ينفعكم نصحى فيه دليل على ان ارادة اللّه يصح تعلقها بالإغواء و ان خلاف مراده تعالى محال و قيل معنى ان يغويكم ان يهلككم من غوى الفصيل إذا هلك هُوَ رَبُّكُمْ خالقكم و المتصرف فيكم وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) فيجازيكم بأعمالكم.

٣٥

أَمْ يَقُولُونَ يعنى بل أ يقولون افْتَراهُ قال ابن عباس يعنى يقولون افترى نوح و قال مقاتل معناه تقولون افترى محمّد صلى اللّه عليه و سلم قُلْ يا نوح او يا محمّد إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي اى وبال اجرامى و الاجرام كسب الذنب وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥) من اجرامكم فى اسناد الافتراء الىّ-

قال البغوي روى الضحاك عن ابن عباس ان قوم نوح كانوا يضربون نوحا عليه السلام حتّى يسقط فيلقونه فى لبدو يبقونه فى بيت يزعمون انه قد مات فيخرج فى اليوم الثاني و يدعوهم الى اللّه سبحانه و تعالى- و روى ان شيخا منهم كان يتوكا على عصا و معه ابنه فقال يا بنى لا يغرنك هذا الشيخ المجنون فقال يا أبت أمكنني من العصا فاخذ العصا من أبيه حتّى شج شجة منكرة فاوحى اللّه تعالى اليه ما ذكر فى كتابه.

٣٦

وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ افتعال من البؤس و هو الحزن و معناه لا تحزن بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) من التكذيب و الإيذاء- اقنطه اللّه من ايمانهم حتّى لا يتعب نفسه فى دعوتهم و نهاه ان يغتم حيث وعده بانى مهلكهم و منقذك منهم- فحينئذ دعا نوح عليهم بقوله رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً- و حكى محمّد بن إسحاق عن عبيد ابن عمير الليثي انه بلغه انهم كانوا يبطشون بنوح فيخنقونه حتّى يغشى عليه و إذا أفاق قال رب اغفر لقومى فانهم لا يعلمون- حتّى إذا عادوا فى المعصية و اشتد عليه منهم البلاء انتظر النجل بعد النجل- فلا يأتى قرن الا أخبث من الّذي قبله- حتّى كان الاخر منهم ليقولون قد كان هذا مع ابائنا و أجدادنا هكذا مجنونا لا يقبلون منه شيئا- فشكى الى اللّه عز و جل و قال رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً حتّى قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً فاوحى اللّه اليه.

٣٧

وَ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا حال اى متلبسا بأعيننا- قال ابن عباس بمراء منا- و قال مقاتل بعلمنا- و قيل بحفظنا- عبر عن المبالغة فى الحفظ بالأعين لكونها اكثر آلات الحفظ و المراعات عن الاختلال من سائر الحواس وَ وَحْيِنا إليك كيف تصنع او بامرنا بصنعه وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا يعنى لا تدعنى باستدفاع العذاب عنهم إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) بالطوفان حكمت عليهم فى الأزل بالاغراق فلا سبيل الى كفّه-

قال البغوي فى القصة ان جبرئيل عليه السلام اتى نوحا- فقال ان ربك يأمرك ان تصنع الفلك- قال كيف اصنع و لست بنجار- فقال ان ربك يقول اصنع فانك بعيني فاخذ القدوم و جعل يصنع و لا يخطئ- و قيل اوحى اليه ان يصنعها مثل جوء جوء الطائر.

٣٨

وَ يَصْنَعُ نوح الْفُلْكَ حكاية حال ماضية-

قال البغوي اقبل نوح على عمل الفلك و لهى عن قومه- و اعقم اللّه أرحام نسائهم فلم يولد لهم ولد- و جعل نوح يقطع الخشب و يضرب الحديد و يهيئ عدة الفلك من القار و غيره- و جعل قومه يمرون عليه و هو فى عمله وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ استهزءوا به بعمله السفينة- فانه كان يعملها فى برية لم يكن بقربها ماء او ان عزّته- و كانوا يضحكون منه و يقولون يا نوح قد صرت نجارا بعد ما كنت نبيّا- و روى انهم كانوا يقولون له يا نوح ماذا تصنع فيقول اصنع بيتا يمشى على الماء فيضحكون منه قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ إذا عاينتم عذاب اللّه فى الدنيا بالغرق و فى الاخرة بالحرق- قيل هذا على سبيل المشاكلة- و المعنى ان تستجهلونى فانى استجهلكم إذا نزل العذاب- و قيل معناه ان تسخروا منا فسترون عاقبة سخريتكم كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) يعنى سخرية مثل سخريتكم منا عند رؤية الفلك.

٣٩

فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ الموصول فى محل النصب بتعلمون اى فسوف تعلمون الّذي يأتيه عَذابٌ يُخْزِيهِ يهينه وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ اى ينزل عليه او يحل حلول الدين الّذي لا انفكاك عنه عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩) دائم فحل بهم عذاب الغرق حتّى ماتوا و صاروا معذّبين فى البرزخ الى يوم القيامة ثم مردّهم الى عذاب النار و بئس المصير-

قال البغوي زعم اهل التورية ان اللّه امره ان يصنع الفلك من خشب الساج و ان يصنعه اعوج ازور و ان يطليه القار من داخله و خارجه- و ان يجعل طوله ثمانين ذراعا و عرضه خمسين ذراعا و طوله فى السماء ثلاثين ذراعا- و الذراع الى المنكب- و ان يجعله ثلاث أطباق سفلا و وسطا و علوا و يجعل فيه كوى- ففعله نوح كما امره اللّه تعالى-

و اخرج إسحاق ابن بشر و ابن عساكر عن ابن عباس بلفظ ان نوحا لمّا امر ان يصنع الفلك- قال يا رب و اين الخشب قال اغرس الشجر فغرس الساج عشرين سنة- و كف عن الدعاء و كفوا عن الاستهزاء- فلما أدرك الشجر امره ربه فقطعها و جفّها- و قال يا رب كيف اجعل هذا البيت- قال اجعله على ثلاث صور راسه كرأس الديك و جؤجؤه كجؤجؤ الطير و ذنبه كذنب الديك- و اجعلها مطبقة- و اجعل لها أبوابا فى جنبها و شدها بدسر يعنى مسامير الحديد و بعث اللّه جبرئيل فعلمه صنعة السفينة و كذا اخرج ابن عساكر عن سعيد بن المسيب عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص و كعب- و

قال البغوي قال ابن عباس اتخذ نوح السفينة فى سنتين و كان طول السفينة ثلاثمائة ذراع و عرضها خمسين ذراعا و طولها فى السماء ثلاثين ذراعا و كانت من خشب الساج و جعل لها ثلاث بطون- فحمل فى البطن الأسفل الوحوش و السباع و البهائم- و فى البطن الأوسط الدواب و الانعام و ركب هو و من معه البطن الا على مع ما يحتاج اليه من الزاد-

و اخرج ابن مردوية عن سمرة بن جندب قال طولها ثلاثمائة ذراع و عرضها خمسين ذراعا و سمكها ثلاثين ذراعا- و أخرجه ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابن مردوية عن ابن عباس من غير ذكر العرض-

و اخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابو الشيخ عن قتادة قال ذكر لنا ان طول السفينة ثلاثمائة ذراع و عرضها خمسون ذراعا و طولها فى السماء ثلاثون ذراعا- و زاد انّ بابها فى عرضها-

و اخرج ابن جرير عن ابن عباس بلفظ كانت ثلاث طبقات فطبقة فيها الدواب و الوحش و طبقة فيها الطير و فى شرح خلاصة السير ان الطبقة السفلى للطيور و البهائم و الوحوش و غيرهم من الحيوانات و الوسطى للطعام و الشراب و الثياب و العليا للناس- و قال الشامي كان طول السفينة ثمانين ذراعا و عرضها خمسين و سمكها الى السماء ثلاثين ذراعا و الذراع الى المنكب- و عن ابن عباس ان طولها ستمائة ذراع-

قال البغوي و روى عن الحسن قال كان طولها الفا و مائتى ذراع و عرضها ستمائة ذراع و المعروف هو الاول ان طولها ثلاثمائة ذراع- و عن زيد بن اسلم قال مكث نوح مائة سنة يغرس الأشجار و يقطعها و مائة سنة يعمل الفلك- و قيل غرس الشجر أربعين سنة و جففه أربعين سنة و عن كعب الأحبار ان نوحا عمل السفينة ثلاثين سنة و روى انها كانت ثلاث طبقات الطبقة السفلى للدواب و الوحوش و الطبقة الوسطى فيها الانس. الطبقة العليا فيها الطير فلما كثرت أرواث الدواب اوحى الى نوح ان اغمر ذنب الفيل- فوقع منه خنزير و خنزيرة فاقبلا على الروث- فلما وقع الفار تخرب السفينة تقرضها و حبالها فاوحى اللّه اليه ان اضرب بين عينى الأسد فضرب فخرج من منخره سنور و سنورة فاقبلا على الفار-.

٤٠

حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا بالعذاب غاية لقوله و يصنع و ما بينهما حال من الضمير فيه- او حتّى هى الّتي يبتدا بعدها الكلام وَ فارَ التَّنُّورُ و اختلفوا فى التنور- اخرج ابو الشيخ عن عكرمة و الزهري هو وجه الأرض كذا ذكر البغوي عنه- و كذا اخرج سعيد بن منصور و ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ عن ابن عباس- و ذلك انه قيل لنوح عليه السلام إذا رايت الماء-

فار على وجه الأرض فاركب السفينة-

و اخرج عبد بن حميد و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ عن قتادة فى قوله تعالى وَ فارَ التَّنُّورُ قال أعلى الأرض و أشرفها-

و اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس فى قوله تعالى و فار التّنّور قال العين الّتي بالجزيرة عين الوردة- و روى عن علىّ قال فار التّنّور يعنى طلع الفجر و نور الصبح- و قال الحسن و مجاهد و الشعبي انه التنور الّذي تخبز فيه- و هو قول اكثر المفسرين و رواية عطية عن ابن عباس اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم عن ابن عباس بلفظ إذا رايت تنور أهلك تخرج منه الماء فانه هلاك قومك- قال الحسن كان تنورا من حجارة كانت حواء تخبز فيه فصارت الى نوح فقيل لنوح إذا رايت الماء يفور من التنور فاركب أنت و أصحابك و اختلفوا فى موضعه قال مجاهد و الشعبي كان فى ناحية الكوفة و كان الشعبي يحلف باللّه ما فار التنور الا من ناحية الكوفة- و قال اتخذ نوح السفينة فى جوف مسجد الكوفة و كان التنور على يمين الداخل مما يلى باب كندة- و كان فوران الماء منه علما لنوح- اخرج ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ عن علىّ بن ابى طالب قال فار التنور من مسجد الكوفة من قبل باب كندة- و أخرجه عنه ايضا ابو الشيخ من طريق الشعبي بلفظ و الّذي فلق الحبة و برئ النسمة ان مسجدكم هذا الرابع من اربعة مساجد المسلمين و الركعتان فيه أحب الىّ من عشرهما سواها الا المسجد الحرام و مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ان من جانبه الايمن مستقبل القبلة فار التنور- و قال مقاتل كان ذلك تنور آدم و كان بالشام بموضع يقال له عين وردة- و روى عن ابن عباس انه كان بالهند- اخرج عنه ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ و الحاكم و صححه- و الفور ان الغليان

قُلْنَا احْمِلْ فِيها اى فى السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ الزوجان كل اثنين لا يستغنى أحدهما عن الاخر فيقال لواحد من خف او نعل زوج خف و زوج نعل و المراد بالزوجين هاهنا الذكر و الأنثى- يعنى من كل ذكر و أنثى اثْنَيْنِ منصوب على المفعولية لاحمل يعنى احمل اثنين من كل ذكر و أنثى اى من مجموعهما من كل واحد منهما واحدا- هذا على قراءة الجمهور باضافة كل الى زوجين-

و قرا حفص هاهنا و فى سورة المؤمنين من كلّ بالتنوين يعنى من كل نوع من الحيوان زوجين يعنى ذكرا و أنثى- فهو منصوب على المفعولية و اثنين على هذا تأكيد-

قال البغوي و فى القصة ان نوحا عليه السلام قال يا رب كيف احمل من كل زوجين اثنين فحشر اللّه اليه السباع و الطير فجعل يضرب بيديه فى كل جنس فيقع الذكر فى يده اليمنى و الأنثى فى يده اليسرى فيحملهما فى السفينة وَ أَهْلَكَ عطف على المفعول به اعنى اثنين او زوجين و المراد امرأته و بنوه و نساؤهم إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ من اللّه تعالى فى الأزل بالهلاك يعنى امرأته واعلة و ابنه منها كنعان فانهما كانا كافرين وَ مَنْ آمَنَ من الناس غيرهم وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (٤٠) و اختلفوا فى عددهم فقال قتادة و ابن جريج و محمّد بن كعب القرظي لم يكن فى السفينة إلا ثمانية نفر- نوح و امرأته و ثلاثة بنين له سام و حام و يافث و نساؤهم- اخرج ابن جرير و ابو الشيخ عن ابن جريج قال حدثت ان نوحا حمل معه بنيه الثلاثة و ثلاث نسوة لبنيه- و أصاب حام زوجته فى السفينة فدعا ان يغير نطفته- فجاءت بالسّودان و قال الأعمش كانوا سبعة نوح و ثلاث بنين له و ثلاث كنائن- و هذان القولان يأباهما القران فان عطف قوله و من أمن على أهلك يدل على المغائرة و السبعة المذكورون كانوا من اهله و قال ابن إسحاق كانوا عشرة نوح و بنوه سام و حام و يافث و ستة أناس ممن كان أمن به سواهم و أزواجهم جميعا يعنى كانوا عشرة من الرجال و عشرا من النساء- و قال مقاتل كانوا اثنين و سبعين نفرا رجلا و امراة- و بنيه الثلاثة و نساءهم- فجميعهم ثمانية و سبعون نصفهم رجال و نصفهم نساء- و عن ابن عباس قال كان فى سفينة نوح ثمانين رجلا أحدهم جرهم- اخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ عن ابن عباس قال حمل نوح معه فى السفينة ثمانين إنسانا و كان لسانه عربيّا- قال ابن عباس أول ما حمل نوح الدرة و اخر ما حمل الحمار- فلما دخل الحمار و دخل صدره تعلق إبليس بذنبه فلم يستقل رجلاه فجعل نوح عليه السلام يقول ويحك ادخل فنهض فلا يستطيع حتّى قال ويحك ادخل و ان كان الشيطان معك- كلمة زلت عن لسانه فلما قالها نوح خلى الشيطان سبيله فدخل و دخل الشيطان فقال نوح ما أدخلك علىّ يا عدو اللّه- قال الم تقل ادخل و ان كان الشيطان معك- قال اخرج عنى يا عدو اللّه- قال مالك بد من ان تحملني معك و كان فيما يزعمون فى ظهر الفلك- و روى عن بعضهم ان الحيّة و العقرب أتيا نوحا فقالتا احملنا- فقال انكما سبب الضر و البلاء فلا احملكما قالتا احملنا فنحن نضمن لك ان نضر أحد أذكرك- فمن قال حين خاف مضرتهما سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ ما ضرتاه- قال الحسن لم يحمل نوح فى السفينة الا ما يلد و يبيض فاما ما يتولد من الطين من حشرات الأرض كالبق و البعوض فلم يحمل منها شيئا-.

٤١

وَ قالَ ارْكَبُوا فِيها اى صيروا فيها و جعل ذلك ركوبا لانها فى الماء كالمركوب فى الأرض بِسْمِ اللّه مَجْراها وَ مُرْساها حال من الضمير المرفوع فى اركبوا يعنى اركبوا فيها مسمين اللّه او قائلين بسم اللّه وقت إجرائها و ارسائها- او مكانهما على ان المجرى و المرسى للوقت او للمكان او للمصدر و المضاف محذوف كقولهم اتيك خفوق النجم و انتصابهما بما قدرنا حالا و يجوز رفعهما ببسم اللّه على ان المراد بهما المصدر او جملة من مبتدا و خبر اى اجراؤها بسم اللّه فبسم اللّه خبره او صلته و الخبر محذوف و هى اما جملة لا تعلق لها بما قبلها كانّ نوحا أمرهم بالركوب ثم أخبرهم بان مجرها و مرسها بذكر اسم اللّه اى باسم اللّه اجراؤها و ارساؤها و لفظ الاسم مقحم- و اما حال مقدرة من الضمير المرفوع فى اركبوا او من الضمير المجرور فى فيها قرا حمزة و الكسائي و حفص مجرها بفتح الميم من جرى-

و قرا محمّد بن محيصن مجرها و مرسها بفتح الميمين من جرت و رست و كلّا يحتمل الثلاثة الزمان و المكان و المصدر- و الباقون بضم الميمين من أجريت و أرسيت و امال حفص مجرها خاصة فى القران لا غير إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) اى لو لا مغفرته لسيئاتكم و رحمته إياكم لما نجيتم-

قال البغوي قال الضحاك كان نوح إذا أراد ان تجرى السفينة فقال بسم اللّه جرت- و إذا أراد ان ترسو قال بسم اللّه رست-.

٤٢

وَ هِيَ تَجْرِي بِهِمْ متصل بمحذوف دل عليه اركبوا يعنى فركبوا مسمين و هى تجرى بهم و هم فيها فِي مَوْجٍ جمع موجة كتمر و تمرة و هى ما ارتفع من الماء عند اضطرابه إذا اشتدت الريح كَالْجِبالِ يعنى كل موجة منها كجبل فى ترالمها و ارتفاعها وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ كنعان و قال عبيد بن عمير يام و كان كافرا وَ كانَ فِي مَعْزِلٍ عزل فيه نفسه عن أبيه او عن دينه مفعل للمكان من عزله عنه إذا بعده يا بُنَيَّ قرا عاصم بفتح الياء اقتصارا عليه بالألف المبدلة من ياء الاضافة من قولك يا بنيا و الباقون بكسرها اقتصارا عليه من ياء الاضافة ارْكَبْ مَعَنا فى السفينة-

قرأ «١» ابن عامر و حمزة و يعقوب و ابو بكر عن عاصم بإظهار الباء و الآخرون يدغمونها فى الميم و فى التيسير اظهر ورش و ابن عامر و حمزة و اختلف عن قالون و عن اليزيدي و عن خلاد- و التقدير يا بنى اسلم و اركب معنا- فان الركوب يدل على الإسلام لتوقفه عليه وَ لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) فى الدين و الانعزال فتهلك.

(١) و الصحيح من طرق النشر قرا ورش و ابن عامر و خلف عن حمزة فى اختياره و ابو جعفر بإظهار الباء و اختلف ابن كثير و عاصم و قالون و خلاد و الوجهان صحيحان عن كل منهم و الباقون اى ابو عمرو و الكسائي و يعقوب بالإدغام فعداد يعقوب فى المظهرين و عداد أبو بكر و خلاد بوجه واحد منهم و إخراج ابن كثير و قالون منهم تسامح و من طرق التيسير و الشاطبية اظهر قالون و البزي و خلاد بخلاف عنهم و ورش و ابن عامر و خلف و ادغم الباقون- روى ابن مجاهد عن قنبل و يحيى عن ابى بكر و عبيد عن حفص الإدغام- و ابو جعفر و خلف مع ورش و من معه و يعقوب مع ابو عمرو- و اللّه اعلم- ابو محمّد عفا اللّه عنه-.

٤٣

قالَ له ابنه كنعان لا اسلم و لا اركب معك و لكن سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ يمنعنى من الغرق قالَ له نوح لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّه اى من عذابه المأمور به إِلَّا مَنْ رَحِمَ قيل من فى محل الرفع يعنى لا مانع من عذاب اللّه الا اللّه الراحم- او الإمكان من رحمهم اللّه و هم المؤمنون- رد بذلك ان يكون اليوم معتصم من جبل و نحوه يعصم اللائذ به الا معتصم المؤمنين و هو السفينة- و قيل من فى محل النصب معناه لا معصوم الا من رحمه اللّه كقوله تعالى عِيشَةٍ راضِيَةٍ و قيل الاستثناء منقطع يعنى و لكن من رحمه اللّه يعصمه وَ حالَ بَيْنَهُمَا اى بين نوح و ابنه او بينه و بين الجبل الْمَوْجُ فَكانَ اى فصار او كان فى علم اللّه مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) يروى ان الماء علا على رءوس الجبال أربعين ذراعا و قيل خمسة عشر ذراعا-

قال البغوي و يروى انه لما كثر الماء فى السكك و خشيت أم صبى عليه كانت تحبه حبّا شديدا- فخرجت الى الجبل حتّى بلغت ثلثه فلما بلغها الماء ارتفعت حتّى بلغت ثلثيه فلمّا بلغها ذهبت حتّى استوت على رأس الجبل- فلمّا بلغ الماء رقبتها رفعت الصبى بيديها حتّى ذهب بها الماء فلو رحم اللّه منهم أحد الرحم أم الصبى-

قلت لكن هذه القصة ينافى ما روى ان اللّه سبحانه اعقم أرحام نساء قوم نوح قبل غرقهم سنين حتّى لم يكن فيهم صبى حين اغرقوا-.

٤٤

وَ قِيلَ يعنى قال اللّه تعالى بعد ما تناهى امر الطوفان يا أَرْضُ ابْلَعِي اشربى ماءَكِ اى الماء الّذي نبع منك فشربته دون ما نزل من السماء فصار أنهارا و بحارا

وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي أمسكي عن المطر يعنى لا تمطرى فامسكت وَ غِيضَ الْماءُ يعنى غاضه اللّه اى انقصه اللّه و هو لازم و متعد وَ قُضِيَ الْأَمْرُ اى أنجز ما وعد اللّه من إهلاك الكافرين و إنجاء المؤمنين وَ اسْتَوَتْ اى استقرت السفينة عَلَى الْجُودِيِّ و هو جبل بالجزيرة بقرب الموصل و قيل بالشام وَ قِيلَ يعنى قال اللّه تعالى بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤) اى بعد القوم الظالمون بعدا من رحمة اللّه و هلكوا هلاكا ثم حذف الفعل و جعل للقوم الظّالمين وصفا للمصدر-

قال البغوي روى ان نوحا عليه السلام بعث الغراب «١» ليأتيه بخبر الأرض فوقع على جيفة فلم يرجع- فبعث الحمامة فجاءت بورق زيتون فى منقارها و لطخت رجلها بالطين فعلم نوح ان الماء قد نضب- فقيل انه دعا على الغراب بالخوف فلذلك لا يألف البيوت- و طوق الحمامة الخضرة الّتي فى عنقها و دعا لها بالأمان فمن ثم يألف بالبيوت-

و اخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابو الشيخ عن قتادة قال و ذكر لنا انها استقلت بهم فى عشر خلون من رجب و كانت فى الماء خمسين و مائة يوما ثم استقرت بهم على الجودي و اهبطوا الى الأرض فى عشر ليال خلون من المحرم-

و اخرج ابن عساكر عن خالد الزيات بزيادة قال فى آخره فارست السفينة يوم عاشوراء فقال نوح لمن معه من الجن و الانس صوموا هذا اليوم- و كذا

قال البغوي انه روى ان نوحا ركب السفينة لعشر مضت من رجب و جرت بهم السفينة ستة أشهر و مرت بالبيت فطافت به سبعا و قد رفعه اللّه من الغرق و بقي موضعه- و هبطوا يوم عاشوراء فصام نوح و امر من معه بالصوم شكرا للّه عز و جل- و قيل ما نجى من الكفار من الغرق غير عوج بن عنق كان فى الماء الى حجرته- و كان سبب نجاته ان نوحا احتاج الى خشب الساج للسفينة فلم يمكنه نقلها فحملها عوج اليه من الشام- فنجاه اللّه من الغرق لذلك قلت و قصة عوج ذلك يخالف ظاهر النصوص حيث قال اللّه تعالى قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً- و قال قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ- و قال لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّه إِلَّا مَنْ رَحِمَ فتخصيص عوج من العمومات القاطعة لا يجوز الا بقاطع و لم يوجد و القصة يأبى عنه العقل و النقل-.

(١) و عن عمر بن الخطاب انه قال لما استقرت السفينة على الجودي لبث ما شاء اللّه ثم انه اذن له فهبط على الجبل فدعا الغراب فقال ايتني بخبر الأرض فانحدر الغراب على الأرض و فيه الغرقى من قوم نوح فابطأ عليه فلعنه- فدعا الحمامة فوقف على كف نوح فقال اهبطى فتأتى الخبر فلم يلبث الا قليلا حتّى جاءت بنقص ريشة فى منقارها فقالت اهبط فقد أثبتت الماء الأرض قال نوح بارك اللّه فيك و فى بيت يؤويك و حبّبك الى الناس لو لا ان يغلبك الناس على نفسك لدعوت اللّه ان يجعل رأسك من ذهب ١٢ ازالة الخفا- منه رحمه اللّه تعالى.

٤٥

وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ الفاء لتفسير النداء رَبِّ إِنَّ ابْنِي يعنى كنعان مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ لا خلف فيه وعدت ان تنجى أهلي فماله لم ينج- و يجوز ان يكون هذا النداء قبل الغرق وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) لانك أعلمهم و اعدلهم و لا يجوز خلف فى حكمك و قد حكمت بهلاك قوم و نجاة أهلي- او المعنى انك اكثر حكمة من ذوى الحكم و الحكمة.

٤٦

قالَ اللّه تعالى يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ لقطع الولاية بين المؤمنين و الكفار إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ تعليل لنفى كونه من اهله- قرا الكسائي و يعقوب عمل بكسر الميم على الفعل الماضي و غير بالنصب على المفعولية اى عمل الشرك و التكذيب- و الباقون بفتح الميم و التنوين على انه مصدر مرفوع و هو خبران على حذف المضاف و نقل إعرابه الى المضاف اليه- تقديره انه ذو عمل غير صالح و فيه مبالغة حيث جعل ذاته ذات العمل- او المعنى ان سوالك إياي بانجائه عمل غير صالح فَلا تَسْئَلْنِ يا نوح- قرا نافع و ابن عامر بفتح اللام و كسر النون المشددة على ان أصله تسئلنّنى بالنون المشددة و نون الوقاية فحذفت نون الوقاية لاجتماع النونات و كسرت المشددة الياء ثم حذفت الياء اكتفاء بالكسرة-

و قرا ابن كثير كذلك الا انه يفتح النون المشددة و ليس فى هذه القراءة نون الوقاية و لا ياء المتكلم الضمير المنصوب-

و قرا الباقون بإسكان اللام و كسر نون الوقاية و تخفيفها و حذف الياء و اثبت ابو جعفر و ابو عمرو و ورش و يعقوب الياء فى الوصل فقط ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ اصواب هو أم خطاء سمى نداءه سوالا لتضمنه ذكر الموعد بنجاة اهله المشعر باستنجازه فى شأن ابنه او استفسارا لمانع للانجاز فى حقه و سماه جهلا و زجر عنه بقوله إِنِّي قرأ نافع و ابن كثير و ابو جعفر- ابو محمّد ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) لان استثناء من سبق عليه القول من اهله قد دل على الحال و أغناه عن السؤال-

قال البغوي اختلفوا فى هذا الابن- قال مجاهد و الحسن كان ولد خبث من غير نوح و لم يعلم بذلك نوح و لذلك قال ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ-

و قرا الحسن فخانتاهما- و قال ابو جعفر الباقر عليه السلام كان ابن امرأته و لذلك قال من أهلي و لم يقل منى- و قال ابن عباس و عكرمة و سعيد بن جبير و الضحاك و الأكثرون انه كان ابن نوح من صلبه- قال ابن عباس ما بغت امراة نبى قط و قوله إِنَّهُ، لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ اى من اهل دينك لانه كان كافرا- و قوله فَخانَتاهُما اى فى الدين و العمل لا فى الفراش- و قوله إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ يعنى ان تدعو بهلاك الكفار ثم تسئل نجاة كافر- و قال الشيخ ابو منصور كان ابن نوح منافقا لا يعلم نوح بكفره و الا لا يحتمل ان يقول نوح إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي و يسئل نجاته و قد سبق من اللّه النهى عن سوال مثله- بقوله. وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ- فاعلمه اللّه تعالى إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ- و فى قول ابى منصور هذا نظر فان قوله تعالى يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَ لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ صريح فى كونه مجاهرا بالكفر و اللّه اعلم.

٤٧

قالَ نوح رَبِّ إِنِّي قرا نافع و ابن كثير و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ فيما يستقبل ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ اى ما لا علم لى بصحته وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي سوالى بنجاة الكافر بعد النهى عنه بخطاء فى الاجتهاد وَ تَرْحَمْنِي بالتوبة و العصمة و التفضل علىّ أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) أعمالا-.

٤٨

قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ اى انزل من السفينة بِسَلامٍ مِنَّا اى مسلّما من المكاره من جهتنا- او مسلّما عليك وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ البركة الخير النامي- و المراد بالبركات مراتب قرب اللّه تعالى و رحمته و فضله و كثرة ذريته و بقاؤهم الى يوم القيامة و كون الأنبياء منهم و الصالحين وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ من للبيان و المراد بالأمم الذين كانوا معه فى السفينة لانهم كانوا جماعات او لتشعّب الأمم منهم- او لابتداء الغاية اى على امم ناشية من معك قال محمّد بن كعب دخل فيه كل مؤمن الى قيام الساعة-

فان قيل قوله تعالى وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ يدل على حصر البقاء فى ذرية نوح دون من معه فى الفلك-

قلنا كان معه فى الفلك بنوه «١» الثلاثة فالمعنى على امم تنشا ممّن معك من ابنائك وَ أُمَمٌ مبتدا حذف خبره يعنى و ممّن معك امم لا بركة عليهم بل سَنُمَتِّعُهُمْ فى الدنيا بما كتبنا لهم ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) فى الاخرة لاجل كفرهم و قيل المراد بهم قوم هود و صالح و لوط و شعيب و العذاب عذاب الدنيا.

(١) فى الأصل بنيه-.

٤٩

تِلْكَ يعنى قصة نوح مرفوع على الابتداء خبره مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ اى ما غاب عنك يعنى بعضها

نُوحِيها الضمير للانباء خبر ثان أو حال من الانباء او هو الخبر و من انباء متعلق به او حال من الضمير المنصوب فيه إِلَيْكَ يا محمّد ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا هذا خبر اخر اى مجهولة عندك و عند قومك من قبل ايحائنا إليك او حال من الضمير المنصوب فى نوحيها- او من الضمير المجرور فى إليك اى جاهلا أنت و قومك بها- تنبيه على كونه معجزة فانه لم يتعلمه الا من اللّه تعالى- فانه لم يخالط غير قومه و قومه مع كثرتهم لما لم يسمعوه فكيف بواحد منهم فمطابقة هذا النبا بالكتب المنزلة المتقدمة دليل واضح على نبوته صلى اللّه عليه و سلم فَاصْبِرْ بعد ظهور أمرك على تبليغ الرسالة و ما يلقاك أذى من الكفار كما صبر نوح إِنَّ الْعاقِبَةَ فى الدنيا بالظفر و فى الاخرة بالفوز لِلْمُتَّقِينَ (٤٩) عن الشرك و المعاصي الجملة تعليل للصبر و عدم الجزع و الاستعجال-.

٥٠

وَ إِلى عادٍ عطف على قوله الى نوح يعنى و أرسلنا الى عاد أَخاهُمْ فى النسب هُوداً عطف بيان قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّه وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (٥٠) على اللّه باتخاذ الأوثان شركاء له فى العبادة و جعلها شفعاء.

٥١

يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ اى على تبليغ الرسالة أَجْراً يمنعكم ثقل ادائه عن قبول الرسالة- او يبعثنى طمعه على الكذب إِنْ أَجْرِيَ قرا نافع و ابن عامر و ابو عمرو و حفص بفتح الياء و الباقون بإسكانها- يعنى ما ثوابى إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي اى خلقنى قرا نافع و البزىّ بفتح الياء و الباقون بإسكانها أَ فَلا تَعْقِلُونَ (٥١) اى أ فلا تستعملون عقولكم فتعرفوا ان من هذا شأنه يجب تصديقه.

٥٢

وَ يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ يعنى اطلبوا منه تعالى مغفرة ما سلف منكم من الشرك و المعاصي. و ذلك بالإسلام فان الإسلام يهدم ما كان قبله- رواه مسلم عن عمرو بن العاص فى حديث مرفوع ثُمَّ تُوبُوا اى ارجعوا إِلَيْهِ اى الى ربكم بطاعته و ترك عبادة غيره يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً كثير الدر أي السيلان وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ اى يضاعف قوتكم و ذلك ان اللّه حبس عنهم المطر ثلاث سنين- و اعقم أرحام نسائهم كما ذكرنا القصة فى سورة الأعراف- فقال لهم هو دان تستغفروا ربكم و توبوا اليه يرسل «١» اللّه عليكم المطر فتزدادون مالا- و يعيد أرحام النساء فيلدن أولادا فتزدادون قوة بالأموال و الأولاد- و قيل تزدادون قوة الى قوة بدنكم وَ لا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) عطف على استغفروا- يعنى لا تعرضوا عما دعوتكم اليه مصرين على جرائمكم-.

(١) فى الأصل أرسل-.

٥٣

قالُوا يعنى قومه يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ اى بحجة تدل على صحة دعواك- و ذلك لفرط عنادهم بعد ما جاءهم به من المعجزات وَ ما نَحْنُ بِتارِكِي عبادة آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ اى بقولك فهو صلة- او صادرين عن قولك فهو حال من الضمير فى تاركي وَ ما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) اى بمصدقين اقناط من الاجابة و التصديق.

٥٤

إِنْ نَقُولُ اى ما نقول قولا إِلَّا قولنا هذا اعْتَراكَ من عراه يعروه إذا أصابه يعنى أصابك بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ اى بجنون و خبل حتّى تتكلم بالخرافات- و ذلك انك تسبّ الهتنا و تمنع عن عبادتهم فانتقم بعضهم منك بالتخبيل- و جاز ان يكون معناه ما نقول فى حقك قولا الا قولنا اعتراك يعنى سيعتريك بعض الهتنا لاجل سبك إياهم بسوء اى باضرار و إهلاك- عبر عن المستقبل بالماضي مبالغة فى التحقيق و التهديد يعنى انه واقع لا محالة كانه وقع- و هذا التأويل يناسب قول هود فى الجواب حيث قالَ إِنِّي قرا نافع بفتح الياء و الباقون بإسكانها أُشْهِدُ اللّه على وَ اشْهَدُوا أنتم يا قوم أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) به.

٥٥

مِنْ دُونِهِ يعنى من الأوثان لا أعبدهم و لا أخاف منهم أصلا فَكِيدُونِي فاحتالوا فى اضرارى و إهلاكي أنتم و شركاؤكم جَمِيعاً مجتمعين يعين بعضكم بعضا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) اى لا تمهلونى- فيه استهانة لهم و ثقة باللّه تعالى و اظهار لعجز الهتهم- فانها حجارة لا تضرو لا تنفع و فيه معجزة فانهم بعد هذه المقالة عجزوا عن آخرهم و هم الأقوياء الأشداء الجبابرة العطّاش الى اراقة دمه من ان يضروه.

٥٦

إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّه رَبِّي وَ رَبِّكُمْ اى اعتمدت عليه ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ يعنى اللّه سبحانه آخِذٌ بِناصِيَتِها الاخذ بالناصية تمثيل لقهر القاهر على المقهور و ذل المقهور بين يديه يتصرف فيه كيف يشاء-

قال البغوي خص الناصية بالذكر لان العرب يستعمل ذلك إذا وصف إنسانا بالذلة فيقول ناصية فلان بيد فلان- قال الضحاك يعنى يميتها و يحييها- و قال الفراء مالكها و القادر عليها و قال القتيبي يقهرها لان من أخذت بناصية فقد قهّرته إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) يعنى انه على الحق و العدل فيجازى المحسن على إحسانه و المسي ء على عصيانه و لا يضيع عنده معتصم به و لا يفوته.

٥٧

فَإِنْ تَوَلَّوْا حذفت احدى التاءين يعنى ان تعرضوا عمّا دعوتكم اليه فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ يعنى ان أعرضتم يهلككم اللّه- و يستبدل بكم قوما غيركم أطوع منكم يوحدونه و يعبدونه- حيث لم يبق لكم عذر بعد ما أبلغتكم ما أرسلت به إليكم و لا بأس به علىّ فانى قد ادّيت ما علىّ من البلاغ وَ لا تَضُرُّونَهُ تعالى باعراضكم شَيْئاً من الضرر انما تضرون أنفسكم- و قيل معناه لا تنقصونه شيئا إذا أهلككم لان وجودكم و عدمكم عنده سواء إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ (٥٧) رقيب لا يخفى عليه ما تصنعون و لا يغفل عن مجازاتكم او حافظ مستول على كل شي ء فلا يمكن ان يضره شي ء-.

٥٨

وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا بالعذاب او عذابنا نَجَّيْنا هُوداً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ و كانوا اربعة آلاف بِرَحْمَةٍ بنعمة مِنَّا اى بفضل منا لا بعملهم او بالايمان الّذي أنعمنا عليهم وَ نَجَّيْناهُمْ كرر نجينا للتأكيد و التعظيم و التهويل مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) و هو الريح الّتي أهلك بها عادا- و قد مر قصتها فى سورة الأعراف.

٥٩

وَ تِلْكَ عادٌ انث اسم الاشارة باعتبار القبيلة- و قيل اشارة الى اثار عاد يعنى فسيحوا فى الأرض و انظروا إليها ثم وصف إليها أحوالهم فقال جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ كفروا بها وَ عَصَوْا رُسُلَهُ يعنى هودا و غيره من المرسلين فان كلهم يدعون الى التوحيد و يصدق بعضهم بعضا فعصيان واحد منهم عصيان بجميعهم وَ اتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ متكبر عَنِيدٍ (٥٩) لا يقبل الحق يقال عند الرجل يعنه عنودا إذا ابى ان يقبل الشي ء و ان عرفه- و قال ابو عبيد العنيد و العنود و المعاند المعارض لك بالخلاف- يعنى اتبعوا كبراءهم الطاغين يعنى عصوا من دعاهم الى الايمان و تركوا ما ينجيهم و أطاعوا من دعاهم الى الكفر و أتوا بما يهلكهم.

٦٠

وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً اى دعاء باللعنة من الناس و الملائكة وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ ايضا يتبعون باللعن من اللّه تعالى اى جعلت اللعنة تابعة لهم فى الدارين و اللعنة هى الابعاد و الطرد عن الرحمة أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ اى جحدوه او كفروا نعمه فحذف الجار أَلا بُعْداً لِعادٍ قيل بعدا من رحمة اللّه و قيل هلاكا-

قال البغوي للبعد معنيان أحدهما ضد القرب و الاخر بمعنى الهلاك- و كذا فى القاموس و الجملة دعاء عليهم باللعن و الهلاك و المراد به الدلالة على انهم كانوا مستوجبين لما نزل عليهم بسبب ما حكى عنهم- و انما كرر الا و أعاد ذكرهم تفظيعا لامرهم و حثّا على الاعتبار بحالهم قَوْمِ هُودٍ (٦٠) عطف بيان و فائدته الإيماء الى ان استحقاقهم البعد بما جرى بينهم و بين هود -.

٦١

وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّه وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ اى بدا خلقكم مِنَ الْأَرْضِ يعنى خلقكم من آدم و آدم من التراب وَ اسْتَعْمَرَكُمْ يعنى عمّركم و استبقاكم من العمر- و قال الضحاك أطال عمركم حتّى كان الواحد منهم يعيش ثلاثمائة سنة الى الف سنة- و كذلك قوم عاد فِيها اى فى الأرض- و قيل معناه قدركم على عمارتها و جعلكم عمّارها و سكانها

و قال مجاهد استعمركم من العمرى اى جعلها لكم ما عشتم و يرثها منكم بعد انصرام اعماركم- او جعلكم معمرين دياركم تسكنونها مدة عمركم ثم تتركونها لغيركم فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ من عباده قربا لا كيف له حتّى أفاض عليهم الوجود- او قريب بالذات بلا كيف او بالرحمة لاوليائه مُجِيبٌ (٦١) لدعائهم.

٦٢

قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا اى كنا نرجوا ان تكون سيدا فينا- و قيل اى كنا نرجوا ان توافقنا فى الدين و تعود الى ديننا قَبْلَ هذا القول يعنى دعائك ايّانا الى ترك عبادة الأوثان- فلمّا سمعنا منك هذا القول انقطع رجاءنا عنك أَ تَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا على حكاية الحال الماضية وَ إِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من التوحيد و التبرّى عن الأوثان مُرِيبٍ (٦٢) اى ذى ريبة على الاسناد المجازى من اراب فى الأمور- او موقع فى الريبة من ارابه إذا أوقعه فى الريبة و هى قلق النفس و انتفاء الطمأنينة.

٦٣

قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ اى بيان و بصيرة مِنْ رَبِّي ادخل حرف الشك باعتبار المخاطبين- و جاز ان يكون ان مخففة من المثقلة اسمه ضمير الشان او ضمير المتكلم محذوفا يعنى انّى كنت او انّه اى الشأن كنت على بيّنة من ربّى وَ آتانِي مِنْهُ رَحْمَةً اى نبوة و حكمة فَمَنْ يَنْصُرُنِي يمنعنى مِنْ عذاب اللّه إِنْ عَصَيْتُهُ فى تبليغ رسالته و المنع عن الإشراك به فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) اى غير ان تخسرونى بابطال ما منحنى اللّه به و التعريض لعذابه- و قال الحسين بن الفضل لم يكن صالح فى خسارة حتّى قال فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ- و انما المعنى ما تزيدوننى بما تقولون الا نسبتى ايّاكم الى الخسارة فان التفسيق و التفجير فى اللغة النسبة الى الفسق و الفجور فكذلك التخسير النسبة الى الخسران- و قال ابن عباس معناه ما تزيدوننى غير بصارة فى خسارتكم-.

٦٤

وَ يا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللّه لَكُمْ آيَةً انتصبت اية على الحال و عاملها معنى الاشارة و لكم حال منها تقدمت عليها لتنكيرها- و ذلك ان قومه طلبوا منه ان يخرج من صخرة معينة ناقة عشراء اية لنبوته- فدعا صالح فخرجت منها ناقة و ولدت فى الحال مثلها و قد مرت القصة فى سورة الأعراف فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّه ترع نباتها و تشرب ماءها ليس عليكم مؤنتها وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ ان مسّستموها بسوء عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فى ثلاثة ايام.

٦٥

فَعَقَرُوها يعنى عقر بامرهم قذار بن سالف فَقالَ لهم صالح تَمَتَّعُوا عيشوا فِي دارِكُمْ اى فى الدنيا او فى بلدكم ثَلاثَةَ أَيَّامٍ الأربعاء و الخميس و الجمعة تصبحون اليوم الاول و وجوهكم مصفرة و فى اليوم الثاني محمرة و فى الثالث مسودة ثم تهلكون ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) اى غير مكذوب فيه- اجرى الظرف مجرى المفعول به مجازا- او وعد غير كذب على انه مصدر كالمجلود و المعقول- او غير مكذوب على المجاز على ان الواعد كانّه قال له أفي بك فان وفى به صدقه و الا كذبه- فكان كما وعد- و أتاهم العذاب فى اليوم الرابع.

٦٦

فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ يعنى و نجيناهم من خزى يومئذ و هو هلاكهم بالصيحة بغضب اللّه- قرا ابو جعفر و نافع و الكسائي هاهنا و فى المعارج من عذاب يومئذ بفتح يوم على اكتساب المضاف البناء من المضاف اليه و الباقون بالكسر جرّا إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) القادر على كل شي ء و القاهر عليه.

٦٧

وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا اى كفروا الصَّيْحَةُ و ذلك ان جبرئيل صاح صيحة واحدة- و قيل أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة و صوت كل شي ء فى الأرض- فتقطعت قلوبهم فى صدورهم فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) صرعى هلكى.

٦٨

كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا اى لم يقيموا فِيها اى فى ديارهم أَلا إِنَّ ثَمُودَ قرا حفص و يعقوب و حمزة هنا و الفرقان و النجم بفتح الدال من غير تنوين و وقفوا بغير الف و الباقون بالتنوين و وقفوا بالألف عوضا عنه كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨) قرا الكسائي ثمود بكسر الدال مع التنوين و الباقون بفتح الدال من غير تنوين-.

٦٩

وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا من الملائكة قال ابن عباس و عطاء كانوا ثلاثة جبرئيل و ميكائيل و اسرافيل- و قال محمّد بن كعب كان جبرئيل و معه سبعة- و قال الضحاك كانوا تسعة و قال مقاتل كانوا اثنى عشر ملكا- و قال السدى كانوا أحد عشر ملكا على صورة الغلمان الوضاء وجوههم إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى اى بالبشارة بإسحاق و يعقوب و قيل باهلاك قوم لوط قالُوا سَلاماً اى نسلم عليك سلاما- و يجوز نصبه بقالوا على معنى ذكروا سلاما قالَ سَلامٌ اى «١» أمركم او جوابى سلام- او عليكم سلام رفعه اجابة بأحسن من تحيتهم- فانه جملة اسمية يدل على الدوام و الاستمرار بخلاف الفعلية- قرا حمزة و الكسائي هاهنا و فى الذاريات سلم بكسر السين بلا الف و هما لغتان نحو حلّ و حلال و حرم و حرام- و قيل المراد به الصلح اى نحن صلح لكم غير حرب فَما لَبِثَ اى فما ابطا ابراهيم أَنْ جاءَ اى فى ان- او ما تأخر عن المجي ء و الجار مقدر او محذوف- و جاز ان يكون ان جاء فى محل الرفع على الفاعلية يعنى فما ابطا مجي ء ابراهيم بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) اى مشوى على الحجارة- فى القاموس الشاة يحنذها حنذا او تحناذا شواها و جعل فوقها حجارة محماة لتنضجها فهى حنيذ- و قيل الحنيذ ما تقطر و دكا من حنذت الفرس إذ عرقته بالجلال- و فى القاموس الفرس إذا ركضه و أعداه شوطا او شوطين ثم ظاهر عليه الجلال فى الشمس ليعرق فهو حنيذ- فعلى هذا معناه السمين مجازا فيوافق قوله تعالى فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ قال قتادة كان عامة مال ابراهيم البقر.

(١) فى الأصل أمرك-.

٧٠

فَلَمَّا رَأى ابراهيم أَيْدِيَهُمْ اى الرسل لا تَصِلُ إِلَيْهِ يعنى لا يمدون اليه أيديهم و لا يأكلون نَكِرَهُمْ يعنى انكرهم

قال البيضاوي نكر و أنكر و استنكر بمعنى- و فى القاموس التّنكّر التّغيّر عن حال تسرك الى حال تكرهها وَ أَوْجَسَ يعنى أحس و أضمر كذا فى القاموس- و قال مقاتل وقع فى قلبه و

قال البغوي اصل الوجوس الدخول كانّ الخوف دخل قلبه مِنْهُمْ اى من الأضياف حين لم يأكلوا خِيفَةً خوفا قال قتادة و ذلك انهم كانوا إذا نزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا انه لم يأت بخير و انما جاء بشر- قيل و ذلك لانه كان عادتهم انه إذا مس من يطرقهم طعامهم امنوه و الا خافوه- فخاف ان يريدوا به مكروها و ظنهم لصوصا- و الظاهر انه أحس بانهم ملائكة و خاف ان يكون نزولهم لامر أنكره اللّه عليه- او لتعذيب قومه قالُوا يا ابراهيم لا تَخَفْ إِنَّا ملائكة اللّه أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) بالعذاب.

٧١

وَ امْرَأَتُهُ سارة بنت هاران بن ناخور و هى ابنة عم ابراهيم عليه السلام قائِمَةٌ من وراء الستر تسمع كلامهم و قيل كانت قائمة تخدم الأضياف و ابراهيم جالس معهم فَضَحِكَتْ قال مجاهد و عكرمة اى حاضت فى الوقت- تقول العرب ضحكت الأرنب اى حاضت و كذا فى القاموس و يقال ضحكت السمرة إذا سال صمغها- و الأكثرون على ان المراد منه الضحك المعروف و اختلفوا فى سبب ضحكها- قيل ضحكت سرورا بزوال الخوف عنها و عن ابراهيم حين قالوا لا تخف- و قال السدى لمّا قرب ابراهيم الطعام إليهم فلم يأكلوا فخاف ابراهيم و ظنهم لصوصا- فقال أَ لا تَأْكُلُونَ- قالوا انا لا نأكل الطعام الا بثمن- قال ابراهيم فان له ثمنا- قالوا و ما ثمنه- قال تذكرون اسم اللّه على اوله و تحمدونه على آخره- فنظر جبرئيل الى ميكائيل عليهما السلام و قال حق لهذا ان يتخذه ربه خليلا- فلما راى ابراهيم و سارة أيديهم لا تصل اليه ضحكت سارة- و قالت يا عجبا لاضيافنا انا نخدمهم بانفسنا تكرمة لهم و هم لا يأكلون طعامنا- و قال قتادة ضحكت من غفلة قوم لوط و قرب العذاب منهم- و قيل ضحكت لاصابة رأيها فانها كانت تقول لابراهيم اضمم إليك لوطا فانى اعلم ان العذاب ينزل بهذا القوم- و قال مقاتل و الكلبي ضحكت من خوف ابراهيم من ثلاثة و هو فيما بين خدمه و حشمه- و قيل ضحكت سرورا بالبشارة بالولد و ولد الولد او بهلاك اهل الفساد و قال ابن عباس و وهب ضحكت تعجبا من ان يكون لها ولد على كبر سنها و سن زوجها- و على هذا القول يكون فى الاية تقديم و تأخير تقديره و امرأته قائمة فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) فضحكت- قرا ابن عامر و حمزة و حفص يعقوب «١» بالنصب بفعل مضمر يفسره ما دل عليه الكلام- و تقديره و وهبناها من وراء اسحق يعقوب- و قيل انه معطوف على موضع بإسحاق او على لفظ إسحاق و فتحته للجر فانه غير منصرف- ورد للفصل بينه و بين ما عطف عليه بالظرف- و الباقون بالرفع على انه مبتدا خبره الظرف اى و يعقوب مولود من بعد إسحاق- و قيل تقديره و من بعد إسحاق يولد يعقوب- و قيل الوراء ولد المولد و لعله سمى به لانه بعد الولد- و على هذا إضافته الى إسحاق ليس من حيث ان يعقوب وراءه بل وراء ابراهيم من جهته-

قال البيضاوي فيه نظر و الاسمان يحتمل وقوعهما فى البشارة كيحيى- و يحتمل وقوعهما فى الحكاية بعد ان ولدا فسميا به- و توجيه البشارة إليها و تخصيصها بها للدلالة على ان الولد المبشر به يكون منها- و لان النساء تكون أعظم سرورا بالولد من الرجال- و لانها كانت عقيمة حريصة على الولد فبشرت بالولد و ولد الولد «٢» و على انها يعيش ولدها حتّى يولد له و تعيش هى حتّى ترى ولد ولدها- فلما بشرت بالولد صكت وجهها اى ضربت تعجبا و.

(١) فى الأصل و يعقوب.

(٢) فى الأصل على لغير واو.

٧٢

قالَتْ يا وَيْلَتى يا عجبا أصله كلمة ندبة يقال فى الشر- فاطلق فى امر فظيع و عند رؤية ما يتعجب منه و الالف مبدلة من ياء الاضافة يدل عليه قراءة الحسن يويلتى بالياء على الأصل- و قيل الالف الف الندبة أصله يا ويلتاه أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ كانت ابنة تسعين سنة فى قول ابن إسحاق و تسع و تسعين سنة فى قول مجاهد وَ هذا بَعْلِي زوجى و أصله القائم بالأمر شَيْخاً ابن مائة و عشرين سنة فى قول ابن إسحاق و مائة سنة فى قول مجاهد- و كان بين البشارة و الولادة سنة- و نصبه على الحال و العامل فيها معنى الاشارة إِنَّ هذا يعنى الولد من الهرمين لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ (٧٢) يعنى خلاف العادة.

٧٣

قالُوا يعنى الملائكة منكرين عليها فى الاستعجاب

أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّه اى من قضائه و قدرته- فان اللّه إذا أراد شيئا كان-

فان قيل العجب حالة يعترى للانسان عند رؤية امر بديع مخالف للعادة و الأمر كذلك- و كونه مقدورا اللّه تعالى لا ينافى الاستعجاب- إذ كل شي ء مقدور للّه تعالى و ان كان بديعا مخالفا للعادة فما وجه انكارهم عليها فى الاستعجاب-

قلنا خوارق العادات باعتبار اهل بيت النبوة و مهبط المعجزات و تخصيصهم لمزيد النعم و الكرامات ليس ببديع- و لا حقيق بان يستغربه عاقل فضلا عن من نشأت و شابّت فى ملاحظة الآيات رَحْمَتُ اللّه وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ قيل هذا على معنى الدعاء من الملائكة- و قيل على معنى الخبر- و الرحمة النعمة او المحبة من اللّه عز و جل- و البركة النماء و الزيادة فى كل خير- و قيل الرحمة النبوة- و البركات الأسباط من بنى إسرائيل لان أنبياء بنى إسرائيل منهم و كلهم من أولاد سارة- و جملة رحمة اللّه و بركاته مستأنفة فى مقام التعليل للانكار على التعجب- كانه قيل إياك و التعجب فان أمثال هذه الرحمة و البركة متكاثرة من اللّه تعالى عليكم- هذا على تقدير كونه خبرا أَهْلَ الْبَيْتِ منصوب على المدح او النداء لقصد التخصيص كقوله اللّهم اغفر لنا أيتها العصابة- و فى الاية رد على الروافض حيث لا يزعمون ازواج النبي صلى اللّه عليه و سلم من اهل البيت مع ان اهل البيت من حيث اللغة هى الأزواج و غيرهن اتباع لهن إِنَّهُ حَمِيدٌ فاعل ما يستوجب به الحمد مَجِيدٌ (٧٣) فى الصحاح المجد السعة فى الكرم و الجلالة- و الكرم يوصف به اللّه تعالى لاحسانه و انعامه المتظاهرة- و يوصف به الإنسان للاخلاق و الافعال المحمودة الّتي تظهر منه- و لا يقال هو كريم حتّى يظهر ذلك منه-

قال البغوي و اصل المجد الرفعة- و

قال البيضاوي كثير الخير و الإحسان و فى القاموس المجيد الرفيع العالي و الكريم و الشريف الفعّال-.

٧٤

فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ اى الخوف و الفزع وَ جاءَتْهُ الْبُشْرى بإسحاق و يعقوب بدل الروع يُجادِلُنا جواب للماجئ به مضارعا على حكاية الحال- او لانه فى سياق الجواب بمعنى الماضي كجواب لو- او دليل جوابه المحذوف مثل اجترى على خطابنا او شرع فى جدالنا- او متعلق بجواب محذوف أقيم مقامه مثل أخذ او ظل او اقبل يجادلنا- قيل معناه يكلمنا لان ابراهيم لا يجادل ربه و انما يسئله و يطلب- و قال عامة اهل التفسير معناه يجادل رسلنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) و كان مجادلته انه قال للملائكة ارايتم لو كان فى مدائن لوط خمسون من المؤمنين أ تهلكونهم قالوا لا قال او أربعون قالوا لا قال او ثلاثون قالوا لا حتّى بلغ خمسة قالوا لا قال ارايتم لو كان فيها رجل واحد مسلم أ تهلكونها قالوا لا قال ابراهيم عليه السلام عند ذلك ان فيها لوطا قالوا نحن اعلم بمن فيها لننجّينّه و أهله الّا امرأته كانت من الغابرين.

٧٥

إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ غير عجول على الانتقام من المسي ء أَوَّاهٌ كثير التأوه من الذنوب و التأسف على الناس- و فى القاموس الموقن او الدّعاء او الرّحيم الرقيق او الفقيه او المؤمن بالحبشية مُنِيبٌ (٧٥) راجع الى اللّه و المقصود من بيان صفاته ذلك بيان الحامل على المجادلة و هو رقة قلبه و فرط ترحمه و عدم ارادة الانتقام من المسي ء فقالت الرسل عند ذلك المجادلة.

٧٦

يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا الجدال. إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ اى حكمه بمقتضى قضائه الأزلي بعذابهم و هو اعلم بحالهم وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦) غير مصروف بجدال و لا بدعاء و لا غير ذلك.

٧٧

وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا يعنى تلك الملائكة لُوطاً على صورة غلمان مرد حسان الوجوه سِي ءَ بِهِمْ اى ساء مجيئهم لوطا- و حزن لوط بظنه ايّاهم أناسا- فخاف عليهم ان يقصدهم قومه فيعجز عن مدافعتهم- قرا نافع و ابن عامر و الكسائي سي ء بهم و سيئت وجوه بإشمام السين الضم هنا و فى العنكبوت و الملك- و الباقون بإخلاص كسرة السين وَ ضاقَ لوط بِهِمْ اى بسببهم ذَرْعاً تميز من النسبة يعنى ضاق ذرعه

قال البغوي قلبه- و

قال البيضاوي ضاق بمكانهم صدره-

قلت و الذرع فى الأصل اليد الى المرفق او الساعد- و يطلق على القوة كاليد- و المعنى هاهنا ضاقت اى ضعفت بهم طاقته و لم يجد من المكروه مخلصا كذا فى القاموس-

قال البيضاوي هو كناية عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروه و الاحتيال فيه وَ قالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) شديد قال قتادة و السدى خرجت الملائكة من عند ابراهيم نحو قرية لوط- فاتوا لوطا نصف النهار و هو فى ارض له يعمل فيها- و قيل انه يحتطب- و قد قال اللّه عز و جل لهم لا تهلكوهم حتّى يشهد عليهم لوط اربع شهادات- فاستضافوه فانطلق بهم- فلما مشى ساعة قال لهم ما بلغكم امر هذه القرية قالوا و ما أمرهم- قال اشهد باللّه انها لشر قرية فى الأرض عملا- يقول ذلك اربع مرات فدخلوا معه منزله- و روى انه حمل الحطب و تبعته الملائكة فمر على جماعة من قومه فغمزوا فيما بينهم- فقال لوط ان قومى شر خلق اللّه- ثم مر على قوم آخرين فغمزوا فقال مثله- ثم مر بقوم آخرين ففعل مثله- فكان كلما قال لوط هذا القول قال جبرئيل عليه السلام للملائكة اشهدوا حتّى اتى قومه- و روى ان الملائكة جاءوا الى بيت لوط عليه السلام و لقوه فى داره و لم يعلم بذلك أحد الا اهل بيت لوط- فخرجت امرأته فاخبرت قومها و قالت ان فى بيت لوط رجالا ما رايت مثل وجوههم قط-.

٧٨

وَ جاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ قال ابن عباس و قتادة يسرعون-

و قال مجاهد يهرولون و قال الحسن مشي ء بين مشيئين- و قال شمر بن عطية بين الهرولة و الجفر- و فى القاموس مشي ء فى اضطراب و سرعة- و بناء الفعل للمفعول للدلالة على كمال الاسراع و الاضطراب- فالمعنى يسرعون اليه كمال اسراع كانهم يدفعون الى الاسراع و ذلك لكمال طلبهم للفاحشة وَ مِنْ قَبْلُ ذلك الوقت كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ كانوا يأتون الرجال فى ادبارهم و يعملون الفواحش فتمرّنوا بها و لم يستحيوا منها حتّى جاءوا يهرعون لها مجاهرين قالَ لهم لوط حين قصدوا أضيافه و ظنوا انهم غلمان يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي يعنى فتزوجوهن و كانوا يطلبونهن قبل فلا يجيبهم لخبثهم و عدم كفائتهم- لا لحرمة المسلمات على الكفار فانه شرع طار- و كان فى ذلك الوقت تزويج المسلمة من الكافر جائزا- كما زوج النبي صلى اللّه عليه و سلم ابنتيه من عتبه بن ابى لهب و ابى العاص بن الربيع قبل الوحى و كانا كافرين- و قال الحسين بن الفضل عرض بناته عليهم بشرط الإسلام-

و قال مجاهد و سعيد بن جبير قوله هؤلاء بناتي أراد به «١» نساءهم و أضاف الى نفسه لان كل نبى ابو أمته- و فى قراءة أبيّ بن كعب النّبىّ اولى بالمؤمنين من أنفسهم و أزواجه امّهاتهم و هو اب لّهم- و هذا القول يرجح من حيث المعنى بان ابنتيه لا تصلحان لنكاح جماعة من الرجال- و قيل فى جواب هذا الترجيح انه كان لقوم لوط سيدان مطاعان- فاراد لوط ان يزوجهما ابنتيه- و قيل انما قال لوط هؤلاء بناتي على سبيل الدفع مبالغة فى تناهى خبث ما يقصدونه- يعنى ان ذلك أهون عليه منه لا على التحقيق هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ يعنى أنظف لكم فعلا او اقل فاحشة كقولك الميتة أطيب من المغصوب و أحل منه- و قوله هؤلاء مبتدا و بناتي عطف بيان و هن فصل و اطهر خبر المبتدا او بناتي خبر هؤلاء و هنّ اطهر مبتدا و خبر فَاتَّقُوا اللّه بترك الفواحش وَ لا تُخْزُونِ قرا ابو عمرو بإثبات الياء وصلا فقط اى لا تفضحونى من الخزي او لا تخجلوني من الخزاية بمعنى الحياء فِي ضَيْفِي قرا نافع و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بالإسكان يعنى لا تخزونى فى شأن أضيافي فان إخزاء ضيف الرجل اخزاؤه أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) يهتدى الى الحق و يجتنب عن القبيح و قال ابن إسحاق رجل يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر.

(١) و فى الأصل أراد نساءهم.

٧٩

قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ يا لوط ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ يعنى لسن أزواجا لنا فنستحقهن بالنكاح- و قيل معناه مالنا فيهن من حاجة وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) و هو إتيان الذكران.

٨٠

قالَ لهم لوط حينئذ لَوْ ثبت أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً فى البدن على دفعكم لوقيت بنفسي أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) اى انضم الى عشيرة مانعة قوية امتنع به عنكم لامتنعت به عنكم حذف جواب لو- شبه العشيرة بركن الجبل فى شدته اى جانبه القوى قال فى القاموس الرّكن بالضم الجانب الأقوى و ما تقوى به من ملك او جند و غيره و العز و المنعة- روى الشيخان فى الصحيحين عن ابى هريرة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال رحم اللّه أخي لوطا كان يأوى الى ركن شديد- و فى لفظ يغفر اللّه للوط ان كان ليأوى الى ركن شديد- اخرج إسحاق و ابن عساكر من طريق جرير و مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس و كذا ذكر البغوي عنه انه قال اغلق لوط بابه و أضيافه يعنى الملائكة فى الدار و هو يناظرهم و يناشدهم من وراء الباب و هم يعالجون تسوّر الجدار فلما رات الملائكة ما يلقى لوط منهم.

٨١

قالُوا يا لُوطُ ان ركنك لشديد إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فافتح الباب ودعنا و إياهم- ففتح الباب و دخلوا فاستأذن جبرئيل عليه السلام ربه فى عقوبتهم فاذن له- فقام فى الصورة الّتي يكون فيها فنشر جناحه- و عليه و شاح «١» من در منظوم و هو براق الثنايا اجلى الجبين و رأسه حبك «٢» حبك مثل المرجان كانه الثلج بياضا و قدماه الى الخضرة- فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم و أعماهم- فصاروا لا يعرفون الطريق و لا يهتدون الى بيوتهم- فانصرفوا و هم يقولون النجا

النجا- فان فى بيت لوط اسحر قوم فى الأرض سحرونا- و جعلوا يقولون يا لوط كما أنت حتّى تصبح و نصبح و سترى ما تلقى منا غدا- يوعّدونه فقال لهم لوط متى موعد هلاكهم- قالوا الصبح- قال أريد اسرع من ذلك فلو اهلكتموهم الان فقالوا ا ليس الصبح بقريب ثم قالوا فَأَسْرِ يا لوط بِأَهْلِكَ قرا الحرميان فاسر و ان اسر بوصل الالف حيث وقع من المجرد و الباء حينئذ للتعدية- و الباقون بقطعها من الافعال و الباء زائدة و معناه السّير فى الليل بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ قال ابن عباس بطائفة من الليل- و قال الضحاك ببقيته- و قال قتادة بعد ما مضى اوله- و قيل انه السحر الاول وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ اى لا ينصرف منكم أحد من السير فيتخلف عنك- فى القاموس لفته يلفته لواه و صرفه عن «٣» رأيه و منه الالتفات و التلفّت-

قلت فالمجرد منه متعد- و الالتفات لازم بمعنى الانصراف- و قيل معنى لا يلتفت لا ينظر من ورائه- فالامر بالاسراء متوجه الى لوط و النهى عن الانصراف او النظر الى الوراء متوجه الى من تبعه إِلَّا امْرَأَتَكَ قرا ابن كثير و ابو عمرو بالرفع على انه يدل من أحد- فهى مستثناة من النهى عن الانصراف و التخلف او من النظر الى الوراء-

قال البغوي معنى الاية على هذه القراءة لا يلتفت أحد الا امرأتك فانها تلتفت فتهلك- و كان لوط قد أخرجها معه و نهى من تبعه ممن اسرى بهم ان يلتفت سوى زوجته- فانها لما سمعت هدّة العذاب التفتت و قالت يا قوماه فادركها حجر و قتلها-

و قرا اكثر القراء بالنصب على الاستثناء فاختلفوا فقال البغوي و غيره استثناء من الاسراء

(١) الوشاح شي ء ينسج عريضا من أديم و ربما يرصع بالجواهر و الخرز و شدته المرأة على عاتقها و كشحيها ١٢ نهايه منه رح.

(٢) و رأسه حبك اى شعر رأسه منكسر من الجعودة مثل الماء الساكن و الرمل إذا هبّت عليهما الريح فتجعدان و يطيران طرائق و اصل حبك جمع حباك و معناه الطريق و منه قوله تعالى وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ اى طريق النجوم ١٧ منه رحمه اللّه.

(٣) ليس فى الأصل عن رأيه- [.....].

اى فاسر باهلك الا امرأتك فلا تسربها و خلفها مع قومها- فان هواها إليهم و تصدقه «١» قراءة ابن مسعود فاسر باهلك بقطع من اللّيل الّا امرأتك و لا يلتفت منكم أحد- و مقتضى هذا الكلام ان فى إخراجها مع اهله روايتان- إحداهما انه أخرجها معهم- و أمروا ان لا يلتفت منهم أحد الا هى فالتفتت و قالت يا قوماه- و ثانيهما انه امر باسراء غيرها من اهله- فان هواها إليهم فلم يسربها- و اختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين كذا قال صاحب المدارك و هذا القول غير سديد فان الروايتين متناقضتان لا يمكن جمعهما فان خروجها و عدم خروجها نقيضان- فاحداهما باطل بيقين و القراءتان قطعيتان و لا يصح حمل القواطع على المعاني المتناقضة- و لهذا

قال البيضاوي الاولى جعل الاستثناء فى القراءتين عن قوله لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ- و مثله قوله تعالى ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ و الّا قليلا على القرائتين- و يرد عليه ان مختار النحويين فى كلام غير موجب البدل و ان كان الجائز النصب ايضا- فحمل قراءة اكثر القراء على غير الأفصح غير ملائم- و أجاب عنه البيضاوي بانه لا بعد ان يكون اكثر القراء على غير الأفصح لكونه فصيحا ايضا- و لا يلزم من ذلك يعنى من الاستثناء من النهى عن الالتفات أمرها بالالتفات بل عدم نهيها عنه استصلاحا- و لذلك عللّه على طريقة الاستيناف بقوله إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ قلت و على ما ذكر البيضاوي محمل قراءة ابن مسعود انه من كلام ابن مسعود قاله تفسيرا للقران على رأيه- يعنى جعل الاستثناء من الأهل كما هو راى اكثر المفسرين و اللّه اعلم-

قلت و جاز ان يكون الاستثناء على قراءة النصب منقطعا- فان امراة لوط لم تكن من اهله لانها كانت كافرة على غير عمل صالح- و قد قال اللّه تعالى لنوح فى ابنه الكافر إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ- فلم تكن من اهله فى المخاطبين بقوله لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ- و اما على قراءة الرفع فاعتبرت من اهله من زمرة المخاطبين نظرا على وصلة النكاح- و لا منافاة بين الاعتبارين-

قلت و يمكن ان يقال قراءة النصب على الاستثناء من الأهل و قراءة الرفع على الاستثناء من أحد و لا منافاة بينهما- و ليس بناء القراءتين على روايتى خروج امراة لوط و عدم خروجها بل يصح معنى القراءتين على كل من الروايتين فانه على تقدير الاستثناء من الأهل معنى الاية اسر باهلك الا بامراتك و مقتضاه كون لوط مأمورا

(١) فى الأصل و تصديقه-.

بحملهم جميعا على السير غير امرأته و ذالا يستلزم خروجهم و لا عدم خروجهم- فكيف يقتضى خروجها و هى لم تكن مؤتمرة بلوط- و لم يكن لوط مأمورا بإخراجها- و لا يقتضى ايضا عدم خروجها و ان كان لوط لم يأمرها بالخروج- و على تقدير الاستثناء من الالتفات النهى من الالتفات متوجه الى لوط و من معه غير امرأته و ذا ايضا لا يستدعى خروجها و لا عدم خروجها- فان المستثنى فى حكم المسكوت عنه فلعلها «١» خرجت و التفتت كما روى و لعلها «٢» لم تخرج أصلا- و ان كان لوط أمرها بالخروج فانها لم تكن مؤتمرة له و لعل البيضاوي نظر الى ما قلت حتّى قال و الاولى جعل الاستثناء فى القراءتين عن قوله لا يلتفت و لم يقل فالواجب ذلك و اللّه اعلم إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ كانه علة للامر بالاسراء اى موعد هلاكهم وقت الصبح فقال لوط أريد اسرع من ذلك فقال أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١).

(١) فى الأصل فلعله-.

(٢) و لعله.

٨٢

فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا اى عذابنا او أمرنا به و يؤيده جعل التعذيب مسببا عنه بقوله جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها كان حقه جعلوا عاليها اى الملائكة المأمورون به- فاسند الى نفسه من حيث انه المسبب تعظيما للامر-

قال البغوي و ذلك ان جبرئيل عليه السلام ادخل جناحه تحت قرى قوم لوط المؤتفكات و هى خمس مدن- و فيها اربعة مائة الف و قيل اربعة آلاف الف- فرفع المدائن كلها حتّى سمع اهل السماء صياح الديكة و نياح الكلاب و لم يكفأ لهم اناء و لم ينتبه لهم نائم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها- و كذا اخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها اى على المدن يعنى على شواذها و مسافريها و قيل بعد قلبها أمطر عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٥) قال ابن عباس و سعيد بن جبير معربة- سنگ گل- و قال قتادة و عكرمة السجيل الطين دليله قوله عز و جل لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ-

و قال مجاهد أولها حجارة و آخرها طين- و قال الحسن كان اصل الحجارة طينا فشددت- و قال الضحاك يعنى الاجر- و قيل انه من اسجله إذا أرسله و إذا أعطيته- و المعنى من مثل شي ء المرسل او من مثل العطية فى الادراد- او من السجلّ اى مما كتب اللّه ان يعذبهم به- و قيل أصله من سجين اى من جهنم فابدلت نونه لاما- و قيل السجيل اسم للسماء الدنيا- و قيل هو جبال فى السماء- قال اللّه تعالى وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ ... مَنْضُودٍ (٨٢) قال ابن عباس متتابع مفعول من نضد و هو وضع الشي ء بعضه فوق بعض.

٨٣

مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ منصوب على الحال من حجارة و معناه معلمة- قال ابن جريج عليها سيما لا يشاكل حجارة الأرض- و قال قتادة و عكرمة عليها خطوط حمر على هيئة الجرع- و قال الحسن و السدى كانت مختومة عليها أمثال الخواتيم و مكتوب على كل حجر اسم من رمى به وَ ما هِيَ اى الحجارة مِنَ الظَّالِمِينَ اى من مشركى مكة- و

قال البغوي قال قتادة و عكرمة يعنى من ظالمى هذه الامة- و كذا اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ عن قتادة بِبَعِيدٍ (٨٣) فانهم بظلمهم حقيق بان يمطروا حجارة- قال قتادة و عكرمة و اللّه ما أجار اللّه منها ظالما بعد-

قال البغوي و فى بعض الآثار ما من ظالم الا و هو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة الى ساعة- و فى البيضاوي انه صلى اللّه عليه و سلم سال جبرئيل فقال يعنى ظالمى أمتك ما من ظالم الا و هو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة الى ساعة- قال السيوطي ذكره الثعلبي بغير اسناد و لم اقف له على اسناد- و فى الدر المنثور اخرج ابن ابى حاتم و ابو الشيخ عن الربيع فى الاية قال كل ظالم فيما سمعنا قد جعل بحذائه حجر ينتظر متى يؤمر ان يقع به- و قيل الضمير للقرى اى هى قريبة من ظالمى مكة يمرون عليها فى أسفارهم الى الشام فليعتبروا بها- و تذكير البعيد على تأويل الحجر او المكان-.

٨٤

وَ إِلى مَدْيَنَ أراد أولاد مدين بن ابراهيم عليه السلام او اهل مدين و هو بلد بناه فسمى باسمه أَخاهُمْ فى النسب شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَ لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ أمرهم اولا بالتوحيد فانه ملاك الأمر- ثم نهاهم عما اعتادوه من البخس المنافى للعدل المخل بحكمة المعاوضة إِنِّي قرا نافع و البزي و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها أَراكُمْ بِخَيْرٍ قال ابن عباس يعنى مؤسرين فى نعمة و سعة ليست بكم حاجة فى ان تبخسوا حقوق الناس- او المعنى أنتم فى نعمة حقها ان تشكروا اللّه و تتفضّلوا على الناس لا ان تنقصوا حقوقهم-

و قال مجاهد حذرهم زوال النعمة و غلاء السعر و حلول النقمة ان لم يتوبوا وَ إِنِّي قرا نافع و ابن كثير و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بالإسكان أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) يحيط بكم و يهلككم جميعا لا يشذ منه أحد منكم- و قيل عذاب مهلك من قوله و احيط بثمره- و المراد عذاب يوم القيامة او عذاب الاستيصال وصف اليوم بالاحاطة و هى صفة العذاب لاشتماله عليه.

٨٥

وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ صرح الأمر بالإيفاء بعد النهى عن ضده مبالغة و تنبيها على انه لا يكفيهم الكف عن تعمد التطفيف بل يلزمهم السعى بالإيفاء و لو بزيادة لا يتاتى دونها- و لذلك قال ابو حنيفة من اشترى مكيلا مكائلة او موزونا موازنة لم يجز للمشترى منه ان يبيعه و لا ان يأكله حتّى يعيد الكيل و الوزن- لما نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن بيع الطعام حتّى يجرى فيه الصاعان صاع البائع و صاع المشترى رواه ابن ماجة و إسحاق بن ابى شيبة من حديث جابر- و أعل بعبد الرّحمن بن ابى ليلى- و رواه البزار من حديث ابى هريرة نحوه و من حديث انس و ابن عباس من طريقين ضعيفين- قال ابن همام هذا الحديث حجة لكثرة تعدد طرقه و قبول الائمة إياه- فانه قد قال بقولنا هذا مالك و الشافعي و احمد- و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم زن و أرجح فانا معاشر الأنبياء هكذا نزن رواه احمد و ابو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و الحاكم و صححه و ابن حبان من حديث سويد بن قيس بِالْقِسْطِ اى بالعدل وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ تعميم بعد تخصيص- فانه أعم من ان يكون فى المقدار او فى غيره و كذا قوله وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ فان العثو يعم تنقيص الحقوق و غيره من انواع الفساد- و قيل المراد بالبخس المكس كاخذ العشور من المعاملات و من العثو السرقة و قطع الطريق و الغارة مُفْسِدِينَ (٨٥) قيل فائدته إخراج ما يقصد به الصلاح كما فعله الخضر عليه السلام و قيل معناه لا تعثوا فى الأرض مفسدين امر دينكم و مصالح آخرتكم- و الظاهر انه حال مؤكدة لمعنى عاملها لان عثى بمعنى أفسد.

٨٦

بَقِيَّتُ اللّه خَيْرٌ لَكُمْ قال ابن عباس يعنى ما أبقى اللّه لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل و الوزن خير مما تأخذونه بالتطفيف

و قال مجاهد بقية اللّه طاعة اللّه خير لكم- نظيره قوله تعالى وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ ...

إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥) يعنى خيريتها مشروطة بالايمان- إذ لا اجر على الخيرات الا للمؤمنين و يحبط اللّه اعمال الكافرين- و قيل معناه ان كنتم مصدقين لى فى قولى لكم فافعلوا ما أمرتكم من إيفاء الكيل و الوزن وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) احفظكم عن القبائح او احفظ عليكم أعمالكم فاجازيكم عليها انما انا ناصح مبلّغ و قد أعذرت حين أنذرت- او لست بحافظ عليكم نعمة اللّه لو لم تتركوا سوء صنيعكم-.

٨٧

قالُوا يا شُعَيْبُ أَ صَلاتُكَ قرا حمزة و الكسائي و حفص على الافراد و الباقون صلوتك على الجمع- قال ابن عباس كان شعيب عليه السلام كثير الصلاة لذلك قالوا هذا القول و قال الأعمش يعنى اقراءتك تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ عبادة ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأوثان و المعنى أ صلاتك تأمرك تكليفك إيانا ان نترك فحذف المضاف- و وجه هذا التقدير ان الرجل لا يؤمر بفعل غيره أجابوا أمرهم بالتوحيد بالاستهزاء و التهكم بصلاته و الاشعار بان مثله لا يدعوا اليه داع عقلى و انما دعاك اليه خطرات و وساوس من جنس ما تواظب عليه- و كان كثير الصلاة كذا قال ابن عباس و لذلك جمعوا لفظ الصلاة و خصوها بالذكر أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا عطف على الموصول يعنى او نترك ان نفعل ما نشآء و هو جواب النهى عن التطفيف و الأمر بالإيفاء إِنَّكَ يا شعيب لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قال ابن عباس أرادوا السفيه الغاوي كما ان العرب يصف الشي ء بضده فيقول للديغ سليم و للفلاة مفازة- و قيل قالوه على وجه الاستهزاء و قصدوا وصفه بضده و الفرق بين التأويلين ان اللفظ على التأويل الاول مجاز و على الثاني حقيقة كناية عن الذم- و قيل معناه أنت الحليم الرّشيد بزعمك- و قيل هو على الحقيقة من غير كناية و المعنى انك أنت الحليم الرشيد فى زعمنا ما كنا نزعم بك ان تقول مثل ما قلت كما قال قوم صالح قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قبل هذا-.

٨٨

قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ بصيرة و بيان واضح مِنْ رَبِّي بالوحى و النبوة وَ رَزَقَنِي مِنْهُ اى من اللّه بلا كد منى فى تحصيله حال من رزقا قدم عليه لكونه نكرة رِزْقاً حَسَناً حلالا قيل كان شعيب عليه السلام كثير المال-

و جواب الشرط محذوف تقديره فهل يجوز لى ان أخون فى وحيه و أخالفه فى امره و نهيه- و هو اعتذار عما أنكروا عليه من مخالفة دين القوم وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ يعنى ما أريد ان ارتكب ما أنهاكم عنه فلو كان ثوابا ما تركته و لكنى أحب لكم ما أحب لنفسى و اكره لكم ما كرهت لنفسى- يقال خالفت زيدا الى كذا إذا قصدت شيئا و هو تاركه- و خالفته عنه إذا تركت ما هو فاعله إِنْ أُرِيدُ بالنهى عن الإشراك و التطفيف و الأمر بالتوحيد و الإيفاء إِلَّا الْإِصْلاحَ يعنى إصلاحكم و اخلاء العالم من الفساد مَا اسْتَطَعْتُ ما مصدرية واقعة موضع الظرف اى مدة استطاعتي للاصلاح و ما دمت متمكنا منه لا آلو جهدا- او موصولة بدل من الإصلاح اى المقدار الّذي استطعته او إصلاح ما استطعته فحذف المضاف وَ ما تَوْفِيقِي قرا نافع و ابو عمرو و ابن عامر بفتح الياء و الباقون بإسكانها و التوفيق جعل الأسباب موافقا للمطلوب الخير- يعنى ما يتيسر لى إصابة الحق و الصواب إِلَّا بِاللّه اى بهدايته و معونته عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فانه القادر المتمكن على كل شي ء و ما عداه عاجز فى حد ذاته بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار- و فيه اشارة الى محض التوحيد الّذي هو أقصى مراتب العلم بالمبدأ- و التوكل من مقامات الصوفية العلية رحمهم اللّه وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) اى ارجع فيما ينزل بي من النوائب- و قيل فى المعاد و هو ايضا يفيد الحصر بتقديم الصلة على الفعل- و الانابة طلب التوفيق لاصابة الحق فيما يأتى و يذر من اللّه و الاستعانة فى مجامع الأمور و الإقبال عليه بشر أشره- و فيه قطع لاطماع الكفار و اظهار لعدم المبالاة بهم و تهديد لهم بالرجوع الى اللّه للجزاء.

٨٩

وَ يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ اى يكسبنكم شِقاقِي قرا نافع و ابن كثير و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها يعنى خلافى و عداوتى أَنْ يُصِيبَكُمْ من العذاب مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من الغرق أَوْ قَوْمَ هُودٍ من الريح أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من الرجفة و الصيحة- و ان يصيبكم ثانى مفعولى يجرم فانه يتعدى الى واحد و الى اثنين ككسب وَ ما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) بالزمان فانهم اقرب الهالكين منكم زمانا حتّى تعلمون ما حاق بهم- او المعنى ما ديار قوم لوط منكم ببعيد بالمكان فانهم كانوا جيرانهم- او المعنى ما قوم لوط منكم ببعيد فيما تستحقون به العذاب من الكفر و المعاصي- و افراد البعيد لان المراد و ما إهلاكهم او ما هم بشي ء بعيد او ما مكانهم ببعيد- و قيل القريب و البعيد و القليل و الكثير يستوى فيها المذكر و المؤنث لورودها على زنة المصادر الّتي هى الصّهيل و النهيق و نحوهما.

٩٠

وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ لما صدر منكم فى الماضي بالايمان و الندامة على المعاصي و طلب المغفرة ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ اى ارجعوا اليه و الى امتثال أوامره الانتهاء عن مناهيه فى المستقبل إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ عظيم الرحمة للمؤمنين التائبين وَدُودٌ (٩٠) فعول من الود يجي ء بمعنى الفاعل و المفعول يعنى محب للمؤمنين و محبوبهم وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار-.

٩١

قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ اى لانفهم كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ كوجوب التوحيد و حرمة البخس و ما ذكرت دليلا عليهما- و ذلك لقصور عقلهم و عدم تفكرهم- و قيل قالوا ذلك استهانة لكلامه او لانهم لم يلقوا اليه أذهانهم لشدة نفرتهم-

قلت بل لما طبع اللّه على قلوبهم فان القلوب بين إصبعين من أصابع الرّحمن يطلعها على ما يشاء و يصرفها عما يشاء وَ إِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً لا قوة لك فتمنع منا ان أردنا بك سوءا او مهينا لاعز لك فينا-

قال البغوي و ذلك انه كان ضرير البصر فارادوا ضعف البصر- و قيل الضعيف بلغة حمير هو الأعمى و التقييد بالظرف يابى عن هذا المعنى فائدة منع بعض المعتزلة كون الأعمى نبيّا قياسا على القضاء و الشهادة- و الفرق بين- و ذهاب بصر يعقوب عليه السلام ثابت بالنص قال اللّه تعالى وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ و قال فَارْتَدَّ بَصِيراً ... وَ لَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ يعنى لو لا قومك لقتلناك برمى الحجارة-

قال البغوي كان شعيب فى منعة من قومه- و

قال البيضاوي معناه لو لا عزة قومك عندنا لكونهم على ملتنا لا لخوف من شوكتهم فان الرهط من الثلاثة الى العشرة- و قيل الى السبغة قلت و يؤيد الاول قوله تعالى تِسْعَةُ رَهْطٍ- و فى الصحاح الرهط العصابة دون العشرة و قيل بل الى الأربعين و قال الجزري فى النهاية الرهط من الرجال ما دون العشرة و قيل الى الأربعين و لا تكون فيهم امرأة- و فى القاموس الرهط قوم الرجل و قبيلته و من ثلاثة الى سبعة او الى عشرة او ما دون العشرة و ما فيهم امرأة و لا واحد له من لفظه-

قلت و كلام البغوي يشعر انه قوم الرجل مطلقا كما فسره صاحب القاموس اولا و اللّه اعلم وَ ما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١)

فيمنعنا عزتك عن الرجم و هذا دأب السفيه المحجوج يقابل الحجج و البينات بالسبّ و التهديد و فى إيلاء ضميره حرف النفي تنبيه على ان الكلام فيه لا فى ثبوت العزة- و ان المانع لهم عن إيذائه عزة قومه و لذلك.

٩٢

قالَ شعيب يا قَوْمِ أَ رَهْطِي قرا نافع و ابن كثير و ابو عمرو و ابن ذكوان بفتح الياء و الباقون بإسكانها أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللّه وَ اتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا يعنى تركتم قتلى لاجل رهطى و ما باليتم بنسبتى من اللّه بالرسالة و جعلتم اللّه كالمنسى المنبوذ وراء الظهر باشراككم به و اهانة رسوله- و الاستفهام يحتمل الإنكار و التوبيخ و الرد و التكذيب و الظّهرىّ المنسوب الى الظهر و الكسر من تغيرات النسب إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) لا يخفى عليه شي ء منها فيجازى عليها-.

٩٣

وَ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ على تمكنكم من عداوتى مطيعين لها إِنِّي عامِلٌ على تمكنى سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ من استفهامية معلقة لفعل العلم عن عمله فيها كانّه قيل سوف تعلمون ايّنا يأتيه عذاب يخزيه انا او إياكم اى يفضحه و ايّنا هو كاذب- او موصولة قد عمل فيها كانّه قيل سوف تعلمون الشقي الّذي يأتيه العذاب- و قد سبق مثل هذه الاية فى الانعام- لكن أورد الفاء هناك للتصريح بان الإصرار و التمكن فيما هم عليه سبب لذلك- و حذفها هاهنا فقال سوف تعلمون لانه جواب سائل كانه قال فما ذا يكون بعد ذلك و هذا ابلغ فى التهويل وَ مَنْ هُوَ كاذِبٌ عطف على من يأتيه لا لانه قسيم له بل لانهم اوعدوه و كذبوه فقال سوف تعلمون من المعذب و الكاذب انا او أنتم- و قيل كان قياسه و من هو صادق لينصرف الاول إليهم و الثاني اليه- لكنهم لما كانوا يدعونه كاذبا قال و من هو كاذب على زعمهم- و قيل محل من الرفع تقديره و من هو كاذب يعلم سوء عاقبته وَ ارْتَقِبُوا و انتظروا العاقبة و ما أقول لكم إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) منتظر فعيل بمعنى الراقب كالصريم- او المراقب كالعشير او المرتقب كالرفيع.

٩٤

وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا ذكر هاهنا بالواو كما فى قصة عاد- إذ لم يسبقه ذكر وعد يجرى مجرى السبب له- بخلاف قصتى صالح و لوط فانه ذكر بعد الوعد و ذلك قوله وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ و قوله إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ و لذلك جاء بفاء السببية نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ قيل ان جبرئيل عليه السلام صاح صيحة فخرجت أرواحهم- و قيل أتاهم صيحة من السماء فاهلكتهم فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) ميتين و اصل الجثوم اللزوم فى المكان.

٩٥

كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها كان لم يقيموا فيها احياء متصرفين مترددين أَلا بُعْداً هلاكا و لعنا لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥) شبّههم بهم لان عذابهم كان ايضا بالصيحة غير ان صيحة ثمود كانت من تحتهم و صيحة مدين كانت من فوقهم- أصله بعدت بضم العين و الكسر لتخصيص معنى البعد بما يكون بسبب الهلاك- و البعد بضم الباء مصدر لهما و بفتح الباء و العين مصدر المكسور-.

٩٦

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا اى بالمعجزات و ليس المراد بها آيات التورية لنزولها بعد هلاك فرعون وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) اى غلبة ظاهرة غلب بها مع كونه رجلا واحدا على فرعون و جنوده- و لم يقدر فرعون على إهلاكه مع حرصه على ذلك- قيل المراد به العصا و أفردها بالذكر لكونه ابهرها- و يجوز ان يراد بهما واحد- يعنى و لقد أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا و سلطانا له على نبوته واضحا فى نفسه او موضحا إياه- فان ابان جاء لازما و متعديا- و الفرق بين الاية و السلطان ان الاية يعم الامارة و الدليل القاطع- و السلطان يخص القاطع و المبين يخص بما فيه جلاء.

٩٧

إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ فى الكفر و الطغيان و الانهماك فى الضلال وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) اى ذى رشد و انما هو غىّ و ضلال و الرشد يستعمل فى كل ما يحمد و يرتضى- ضد الغىّ فانه يستعمل فى كل ما يذم- و فيه تجهيل لمتبعيه حيث اتبعوه على امره مع كونه بديهي البطلان- حيث ادعى الالوهية مع كونه بشرا مثلهم- و جاهر بالظلم و الكفر و الشرك- و ترك متابعة موسى الهادي الى الحق المؤيد بالعقل و النقل و المعجزات الظاهرة.

٩٨

يَقْدُمُ قَوْمَهُ اى يتقدمهم يقال قدم بمعنى تقدم يَوْمَ الْقِيامَةِ الى النار كما كان يقدمهم فى الدنيا الى الضلال فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ذكره بلفظ الماضي مبالغة فى تحقيقه و نزل النار لهم منزلة الماء حتّى سمى إتيانها ورودا وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) اى بئس الورد الّذي وردوه فانه يراد لتبريد الكبد و تسكين العطش- و النار بالضد و الاية كالدليل على قوله و ما امر فرعون برشيد فان من هذا عاقبته لا يكون فى امره رشد او تفسير له على ان المراد بالرشيد ما يكون مأمون العاقبة حميدها.

٩٩

وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدنيا لَعْنَةً يعنى لعنوا على السنة الأنبياء و المؤمنين فى الدنيا وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يلعنون ايضا بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩) اللعنة اى بئس العون المعان او العطاء المعطى- و اصل الرفد ما يضاف الى غيره ليعمده و فى القاموس الإرفاد الاعانة و الإعطاء-

١٠٠

ذلِكَ مبتدا و ما بعده خبره يعنى هذا النبا الّذي انبأناك مِنْ أَنْباءِ الْقُرى اى بعض اخبار القرى المهلكة نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مقصوص نباه عليك خبر بعد خبر مِنْها اى بعض ذلك قائِمٌ اى باق اثارها وَ حَصِيدٌ (١٠٠) و منها عافى الآثار كالزرع المحصود- قال مقاتل قائم يرى له اثر- و حصيد لا يرى له اثر- و قيل منها قائم يعنى عامر و حصيد يعنى خراب- و الجملة مستأنفة و ليس بحال من ضمير نقصّه لعدم الواو و الضمير

١٠١

وَ ما ظَلَمْناهُمْ الضمير عائد الى القرى و المراد بها أهلها يعنى ما ظلمناهم باهلاكنا إياهم وَ لكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بان عرّضوها له بارتكاب ما يوجبه من الكفر و المعاصي فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ يعنى ما نفعتهم و لا قدرت على ان يدفع عنهم العذاب آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه مِنْ شَيْ ءٍ من الإغناء لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ اى عذابه وَ ما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) غير تدمير و تخسير

١٠٢

وَ كَذلِكَ اى مثل هذا الاخذ الّذي ذكرنا فى القصص المذكورة أَخْذُ رَبِّكَ مبتدا كذلك خبره مقدم عليه إِذا أَخَذَ الْقُرى اى أهلها وَ هِيَ ظالِمَةٌ حال من القرى و هى فى الحقيقة لاهلها لكنها لما أقيمت مقامهم أجريت عليها- و فائدتها الاشعار بانهم انما أخذوا بظلمهم إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) وجيع لا يرجى الخلاص منه- عن ابى موسى قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه ليملى الظالم حتّى إذا اخذه لم يفلته- قال ثم قرا وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَ هِيَ ظالِمَةٌ الاية رواه الشيخان فى الصحيحين و الترمذي و ابن ماجة-

١٠٣

إِنَّ فِي ذلِكَ اى فيما نزل بالقرى الهالكة و ما قصه اللّه عليك لَآيَةً لعبرة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ فانه يعتبر به عظمته و يعلم «١» بان ما حاق بهم أنموذج مما أعد اللّه للمجرمين او المعنى ينزجر به عن المعاصي لعلمه بانها من اله مختار يعذّب من يشاء و يرحم من يشاء و اما من أنكر الاخرة فهو كالانعام لا بصر له و لا بصيرة فلا يعتبر بل يحيلها الى الاتفاق ذلِكَ اشارة الى يوم القيامة دل عليه عذاب الاخرة يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ اى يجمع له الناس اى لما فيه من المحاسبة و المجازة و التغير للدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم- و انه من شأنه لا محالة و أن الناس لا ينفكون عنه وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) اى مشهود فيه يشهد فيه الشهداء على الناس- او مشهود فيه الخلائق الموقف لا يغيب منهم أحد- و اتسع فيه بإجراء الظرف مجرى المفعول

(١) فى الأصل يعلم بغير واو.

١٠٤

وَ ما نُؤَخِّرُهُ اى ذلك اليوم قرا يعقوب بالياء «١» على الغيبة اى ما يؤخر اللّه إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) اى الا لانتهاء مدة معدودة معلومة عند اللّه على حذف المضاف و أراد مدة التأجيل كلها بالأجل لا منتهاها فانه لا «٢» تعدد فيه

(١) و الصحيح ان يعقوب مع الجمهور فى نون العظمة- ابو محمّد عفا اللّه عنه.

(٢) فى الأصل ان لا تعدد فيه-.

١٠٥

يَوْمَ يَأْتِ اى الجزاء او اليوم على ان اليوم بمعنى حين او اللّه عز و جل كقوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّه- و جاء ربّك قرا ابن عامر و عاصم و حمزة يأت بحذف الياء اجتزاء عنها بالكسرة و نافع و ابو عمرو و الكسائي بالياء أصلا فقط و ابن كثير فى الحالين- و الظرف متعلق باذكر او بانتهاء المحذوف او بقوله لا تَكَلَّمُ بحذف احدى التاءين اى لا تتكلم نَفْسٌ ما ينفع و ينجى من جواب او شفاعة إِلَّا بِإِذْنِهِ اى الا اذن اللّه نظيره لا يتكلّمون الّا من اذن له الرّحمن فَمِنْهُمْ الضمير لاهل الموقف دل عليهم قوله لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ او للناس فى قوله تعالى يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ... شَقِيٌّ كتب عليه الشقاوة وَ سَعِيدٌ (١٠٥) كتب له السعادة عن على بن ابى طالب رضى اللّه عنه قال خرجنا على جنازة- فبينا نحن بالبقيع إذ خرج علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و بيده مخصرة- فجاء ثم جلس فنكت بها الأرض ساعة ثم قال ما من نفس منفوسة الا قد كتب مكانها من الجنة او النار و الا قد كتب شقى و سعيد- قال فقال رجل أ لا نتكل على كتابنا يا رسول اللّه و ندع العمل- قال لا و لكن اعملوا فكل ميسر فاما اهل الشقاء فيسروا لعمل اهل الشقاوة و اما اهل السعادة فيسروا لعمل اهل السعادة قال ثم تلا فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَ اتَّقى وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى الاية رواه البغوي و فى الصحيحين نحوه-

١٠٦

فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ (١٠٦) قال ابن عباس الزفير الصوت الشديد و الشهيق الصوت الضعيف- و قال الضحاك و مقاتل الزفير أول نهيق الحمار و الشهيق آخره إذا ردّده فى جوفه- و كذا فى القاموس- و قال ابو العالية الزفير فى الحلق و الشهيق فى الصدر- و

قال البيضاوي الزفير إخراج النفس و الشهيق رده و استعمالهما فى أول النهيق و آخره- و فى القاموس ايضا زفر يزفر زفرا و زفيرا اخرج نفسه بعد مده إياه و الجملة فى موضع الحال و العامل فيها الظرف المستقر

١٠٧

خالِدِينَ «١» فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ قال الضحاك اى ما دامت سموات الجنة و النار و ارضهما- و كلما علاك سماء و كلما استقر عليه قدمك ارض- و لا شك ان اجتماع الناس المذكور فيما سبق يدل على ان لهم مظل و مقل- و قال اهل المعاني هذه عبارة عن التأبيد على عادة العرب يقولون لا يأتيك ما دامت السموات و الأرض يعنون ابدا إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ظاهر هذه الاية يقتضى انقطاع استقرارهم فى النار- و يؤيده ما روى عن ابن مسعود قال ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد و ذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا- و عن ابى هريرة مثله و به قال من الصوفية الشيخ محى الدين «٢» ابن العربي- لكن هذا القول مردود بالإجماع و النصوص قال اللّه تعالى فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ- اخرج الطبراني و ابو نعيم و ابن مردوية عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو قيل لاهل النار انكم ماكثون عدد كل حصاة لفرحوا بها- و لو قيل لاهل الجنة انكم ماكثون عدد كل حصاة لحزنوا و لكن جعل لهم الابد-

و اخرج الطبراني فى الكبير و الحاكم و صححه عن معاذ ابن جبل ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعثه الى اليمن فلما قدم عليهم قال يا ايها الناس انى رسول رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إليكم يخبركم ان المردّ الى اللّه الى جنة او نار خلود بلا موت و اقامة بلا ظعن فى أجساد لا تموت-

و اخرج الشيخان عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال يدخل اهل الجنة الجنة و اهل النار النار ثم يقوم مؤذن بينهم يا اهل النار لا موت و يا اهل الجنة لا موت كل خالد فيما هو فيه-

و اخرج البخاري عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقال يا اهل الجنة خلود و لا موت و يا اهل النار خلود و لا موت- و حديث ذبح الموت و النداء بقوله يا اهل الجنة لا موت و يا اهل النار لا موت- أخرجه الشيخان عن ابن عمرو ابى سعيد و الحاكم و صححه عن ابى هريرة-

قال البغوي معنى قول ابن مسعود و ابى هريرة ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد عند اهل السنة ان ثبت ان لا يبقى فيها أحد من اهل الايمان- و اما مواضع الكفار فممتلية

(١) ليس فى الأصل خالدين فيها-.

(٢) فى الأصل محى الدين العربي-.

ابدا و قد ذكرت فى تفسير قوله تعالى لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً انها فى حق اهل الأهواء من اهل القبلة و عند اكثر المفسّرين المراد بالاحقاب احقاب «١» غير متناهية- و لما كان الإجماع على خلود الكفار فى النار اختلفوا فى تفسير هذه الاية و تأويل هذين الاستثنائين- و المختار عندى ان الاستثناء فى هذه الاية محمول على انهم يخرجون من الجحيم الى الحميم ف يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ و هكذا ابدا-

قال البغوي فى تفسير قوله تعالى يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ انهم يسعون بين الحميم و بين الجحيم- فاذا استغاثوا من النار جعل عذابهم الحميم الانى الّذي صار كالمهل قال اللّه تعالى وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ او من النار الى الزمهرير روى الشيخان عن ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه قال اشتكت النار الى ربها فقالت يا رب أكل بعضى بعضا فاذن لها بنفسين نفس فى الشتاء و نفس فى الصيف- فاشد ما يجدون من الحر من حرها و أشد ما يجدون من الزمهرير من زمهريرها و كذا اخرج البزار عن ابى سعيد

و اخرج ابو سعيد مثله من حديث انس- و قال بعض المحققين الاستثناء فى اهل الشقاء يرجع الى قوم مؤمنين يدخلهم اللّه النار بذنوب اقترفوها ثم يخرجهم منها- عن انس ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ليصيبن أقواما سفع «٢» من النار بذنوب أصابوها عقوبة- ثم يدخلهم اللّه الجنة بفضل رحمته فيقال لهم الجهنميون رواه البخاري- و عن عمران بن حصين عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال يخرج قوم من النار بشفاعة محمّد صلى اللّه عليه و سلم فيدخلون الجنة و يسمون الجهنميون رواه البخاري و نحوه عن المغيرة بن شعبة عند الطبراني و زاد فيدعون اللّه ان يمحو عنهم الاسم فيمحو اللّه عنهم- و عن جابر بن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان ناسا من أمتي يعذبون بذنوبهم فيكونون فى النار ما شاء اللّه ان يكونوا- ثم يعيرهم اهل الشرك ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم- فلا يبقى موحد الا أخرجه اللّه- ثم قرا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ- و قد روى معناه فى حديث طويل عن ابى موسى الطبراني و البيهقي و ابن ابى حاتم- و عن ابى سعيد الطبراني- و فى دخول المؤمنين المذنبين النار و خروجهم منها أحاديث بلغت حد التواتر-

قال البيضاوي فساق المؤمنين يخرجون من النار و ذلك كاف

(١) فى الأصل أحقابا-.

(٢) سفع من النار اى علامة تغير ألوانهم يعنى اثرا من النار ١٢ نهاية منه رح.

فى صحة الاستثناء لان زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض و هم المراد بالاستثناء الثاني فانهم يفارقون عن الجنة ايام عذابهم فان التأبيد من مبدا معين ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء و هؤلاء و ان شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بايمانهم- و لا يقال فعلى هذا لم يكن قوله تعالى فمنهم شقى و سعيد تقسيما صحيحا لان من شرطه ان يكون صفة كل قسم منتفية عن قسيمه- لان ذلك الشرط انما يكون فى الانفصال الحقيقي او مانع الجمع و المراد هاهنا منع الخلوّ- و المعنى ان اهل الموقف لا يخرجون عن القسمين و لا يخرج حالهم عن الشقاوة و السعادة و ذلك لا يمنع اجتماع الامرين فى شخص باعتبارين انتهى- و قيل ما شاء هاهنا بمعنى من شاء و المراد بهم ايضا عصاة المؤمنين فى الاستثنائين- و مرجع هذا القول الى القول الثاني و قيل المستثنى فى الفريقين زمان توقفهم فى الموقف للحساب لان الظاهر يقتضى ان يكونوا فى النار او فى الجنة حين يأتى اليوم- او مدة لبثهم فى الدنيا و البرزخ ان كان الحكم مطلقا غير مقيد باليوم- و على هذا التأويل يحتمل ان يكون الاستثناء من الخلود على ما عرفت فى كلام البيضاوي المذكور سابقا- و قيل هو استثناء من قوله تعالى لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ- و قال السيوطي فى البدور السافرة أشبه الأقوال بالصواب انه ليس باستثناء و انما الا بمعنى سوى كما تقول لك علىّ الف درهم الا الألفان القديمان اى سوى الألفين- و المعنى خالدين فيها مدة دوام السموات و الأرض فى الدنيا سوى ما شاء ربك من الزيادة عليها مما لا منتهى له- و ذلك عبارة عن الخلود- و النكتة فى تقديم ذكر مدة السموات و الأرض التقريب الى الأذهان بذكر المعهود اولا- ثم اردافه بما لا احاطة للذهن به- و قيل الا بمعنى الواو يعنى ما دامت السموات و الأرض فى الدنيا و ما شاء ربك من الخلود كقوله تعالى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا يعنى و لا للذين ظلموا- و قال الفراء هذا استثناء استثناه و لا يفعله كقولك و اللّه اضربنك الا ان ارى غير ذلك و عزيمتك ان تضربه- فالمعنى الا ما شاء ربك يعنى لو شاء ربك لاخرجهم منها و لكنه لم يشأ- و قال قتادة اللّه اعلم بثنياه إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧)

١٠٨

وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا قرأ حفص و حمزة و خلف- ابو محمّد و الكسائي بضم السين على البناء

للمفعول من سعد اللّه بمعنى أسعده- و الباقون بالفتح على البناء للفاعل فهو لازم و متعد فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ قد ذكرت الأقوال فى هذا الاستثناء فيما سبق- و المختار عندى ان اهل الجنة ينعمون فى بعض احيانهم بما هو أعلى من الجنة- و ذلك هو الاستغراق فى رؤية اللّه تعالى- و كمال الاتصال بجنابه بلا كيف قال المفسرون فى تفسير قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ان تقديم الجار و المجرور يقتضى الحصر و يفيد انهم إذا راوا ربهم يستغرقون فى رؤيته تعالى لا ينظرون حينئذ الى غيره- و عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اهل الجنة فى نعيمهم إذ سطع عليهم نور فرفعوا رؤسهم فاذا الرب تبارك و تعالى قد اشرف عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا اهل الجنة- و ذلك قوله تعالى سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ- قال فينظر إليهم و ينظرون اليه- فلا يلتفتون الى شي ء من النعيم ما داموا ينظرون اليه حتّى يحجب عنهم و يبقى نوره و بركته فى ديارهم- رواه ابن ماجة و ابن ابى الدنيا و الدار قطنى- و قال المجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه فى المكتوب المائة من المجلد الثالث فى تحقيق سر اشتغال قلب يعقوب بمحبة يوسف عليهما السلام ان جنة كل رجل عبارة عن ظهور اسم من اسماء اللّه تعالى الّذي هو مبدا لتعيّن ذلك الرجل- و ان ذلك الاسم يتجلى بصورة الأشجار و الأنهار و القصور و الحور و الغلمان- و استحكم هذا المكشوف بقوله صلى اللّه عليه و سلم ان الجنة طيبة التربة عذبة الماء و انها قيعان و ان غراسها هذه يعنى سبحان اللّه و الحمد للّه و لا اله الا اللّه و اللّه اكبر- ثم قال المجدد رضى اللّه عنه ان تلك الأشجار و الأنهار قد تصير فى حين من الأحيان على هيئة الاجرام الزجاجية- فتصير وسيلة الى رؤية اللّه سبحانه غير متكيفة ثم تعود الى حالها الّذي كانت عليه- فيشغل المؤمن بنفسها و هكذا الى ابد الآبدين- و قد ذكرنا زيادة الكلام فى المقام فى تفسير سورة القيامة فى شرح اية الرؤية عَطاءً منصوب على انه مصدر مؤكّد يعنى اعطوا عطاء- او على الحال من الجنة-

قلت و يمكن ان يكون منصوبا على انه مفعول به لقوله تعالى إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ- يعنى هم فى الجنة الا وقت مشية ربك عطاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) اى غير مقطوع يعنى الوصال و الرؤية بلا حجاب- و وجه تعبير ذلك بعطاء غير مجذوذ مع ان كل نعيم فى الجنة عطاء غير مجذوذ- ان ذاته تعالى موجود متاصل بنفسه و غيره موجود بوجود ظل وجوده- فالموجود بنفسه هو اللّه وحده و كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ- كالمستعير ثوب غيره عار بالنسبة الى المالك- فعطاؤه تعالى اتصالا بذاته كانّه هو المتأصل الغير المنقطع و ما عداه من النعيم مجذوذ وجوده فى نفسه بالنسبة اليه و اللّه اعلم- قال ابن زيد أخبرنا اللّه بالذي يشاء لاهل الجنة فقال عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ و لم يخبرنا بالذي يشأ لاهل النار بل قال هناك إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ-

١٠٩

فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ شك بعد ما أخبرناك من مال الناس مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ من عبادة هؤلاء المشركين فى انها ضلال مؤد الى مثل ما حل بمن قبلهم ممن قصصته عليك سوء عبادتهم- او من حال ما يعبدونه فى انه لا يضر و لا ينفع ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما كان يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ حذف كان لدلالة قبل عليه- و الجملة مستأنفة معناه تعليل النهى عن المرية فى انهم و اباؤهم سواء فى الشرك اى ما يعبدون عبادة الا كعبادة ابائهم- او ما يعبدون شيئا الا مثل ما عبدوه من الأوثان- و قد بلغك ما لحق آباءهم فسيلحقهم مثله- لان التماثل فى الأسباب يقتضى التماثل فى المسببات وَ إِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ من العذاب كابائهم او من الرزق فيكون عذر التأخير العذاب عنهم مع قيام موجبه غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) من النصيب تأكيد للتوفية- فانك قد تقول وفيته حقه و تريد به وفاء بعضه و لو مجازا-

١١٠

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التورية فَاخْتُلِفَ فِيهِ فامن به قوم و كفر به قوم كما اختلف هؤلاء فى القران تسلية للنبى صلى اللّه عليه و سلم وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ الانظار الى يوم القيامة سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ اى بين المحق و المبطل بانزال العذاب على المبطل ليميز به عن المحق وَ إِنَّهُمْ يعنى كفار مكة لَفِي شَكٍّ مِنْهُ اى من القران او من العذاب مُرِيبٍ (١١٠) موقع فى الريب

١١١

وَ إِنَّ قرا نافع و ابن كثير و ابو بكر مخففة من الثقيلة عاملة اعتبارا للاصل و الباقون مشددة كُلًّا التنوين بدل من المضاف اليه يعنى ان كل واحد من المختلفين المؤمنين منهم و الكافرين لَمَّا قرا عاصم و ابن عامر و حمزة هاهنا و فى يس لّمّا جميع لّدينا- و فى الطارق لّمّا عليها حافظ بتشديد الميم- و الباقون بتخفيفها- فمن قراها بالتخفيف فلام الاولى موطية للقسم و الثانية للتأكيد او بالعكس- و ما مزيدة بينهما للفصل- و قيل ما بمعنى من كما فى قوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ اى من طاب لكم- و المعنى و اللّه لَيُوَفِّيَنَّهُمْ او و اللّه لمن ليوفينهم رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ اى جزاء أعمالهم- و من قراها بالتشديد فاصله لمن ما- فقلبت النون ميما للادغام فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت اولا عن- و المعنى لمن ليوفيهم و ما مزيدة- و قيل انه من لممت لمّا اى جمعته- ثم وقف على الالف عوض التنوين فصار لمّا- ثم اجرى الوصل مجرى الوقف- و جاز ان يكون مثل الدعوى و البشرى و غيرها من المصادر الّتي فيها الف التأنيث-

و قرا الزهري وَ إِنَّ كُلًّا لَمَّا بالتنوين و هو يؤيد هذا القول- و المعنى و ان كلا جميعا- و قال صاحب الإيجاز لما فيه معنى الظرف و فى الكلام اختصار تقديره و ان كلا لما بعثوا ليوفينهم إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ من خير او شر خَبِيرٌ (١١١) فلا يفوت منه شي ء و ان خفى-

١١٢

فَاسْتَقِمْ استقامة كَما أُمِرْتَ اى مثل استقامة أمرت بها وَ مَنْ تابَ مَعَكَ من الشرك و أمن عطف على المستكن فى استقم و ان لم يؤكد بمنفصل لقيام الفاصل مقامه- لمّا بين اللّه سبحانه امر المختلفين فى التوحيد و النبوة- و اطنب فى شرح الوعد و الوعيد- امر رسوله و من تبعه بالاستقامة مثل ما امر بها- و هى شاملة للاستقامة فى العقائد كالتوسط بين التشبيه و التعطيل- و الجبر و الاختيار و غير ذلك- و الأعمال من تبليغ الوحى و بيان الشرائع كما انزل- و القيام بوظائف العبادات من غير تفريط و افراط مفوت للحقوق و نحوها- عن سفيان ابن عبد اللّه الثقفي قال قلت يا رسول اللّه قل لى فى الإسلام قولا لا اسئل عنه أحدا بعدك و فى رواية غيرك قال قل امنت باللّه ثم استقم رواه مسلم- فالاستقامة لفظ جامع قال عمر بن الخطاب الاستقامة ان تستقيم على الأمر و النهى و لا تروغ روغان الثعلب يعنى لا تميل عن الطريق المستقيم ميلا أصلا- و هى فى غاية العسر و لذلك قالت الصوفية الاستقامة فوق الكرامة

قال البغوي قال ابن عباس رضى اللّه عنهما ما نزلت على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اية هى أشد عليه من هذه الاية و لذلك قال شيّبتنى سورة هود-

قلت قول ابن عباس يدل على ان اشتداد هذه السورة على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتّى شيّبته- انما كان لاجل هذه الاية الآمرة بالاستقامة- فانه صلى اللّه عليه و سلم و ان كان نفسه الشريفة مجبولة على الاستقامة مخلوقة على خلق عظيم- لكنها شاقة على من تبعه فلذلك شيّبته شفقة على أمته- و الظاهر عندى ان قوله صلى اللّه عليه وسلم شيّبتنى سورة هود مبنى على اشتمالها على قصص هلاك الأمم المشعر بالوعيد بالهلاك للظالمين من أمته- و ذكر يوم القيامة كما سنذكر فى اخر السورة ان شاء اللّه تعالى وَ لا تَطْغَوْا يعنى لا تجاوزوا عن حدود الشرع- و قيل معناه لا تغلوا فتزيدوا على ما أمرت و نهيته عن ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ان الدين يسرو لن يشاد الدين أحد الا غلبه فسددوا و قاربوا و بشروا و استعينوا بالغدوة و الروحة و شي ء من الدلجة رواه البخاري و النسائي قلت و هذا الحديث ايضا يدل على ان تشييب السورة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما كان لثقل الاستقامة و اللّه اعلم- إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢)

١١٣

وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا قال ابن عباس اى لا تميلوا و الركون المحبة و الميل بالقلب- و قال ابو العالية لا ترضوا بأعمالهم- و قال السدى لا تداهنوا الظلمة- و قال عكرمة لا تطيعوهم- و قيل لا تسكنوا الى الذين ظلموا

قال البيضاوي لا تميلوا إليهم ادنى ميل فان الركون هو الميل اليسير كالتزين بزيّهم و تعظيم ذكرهم فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ بركونكم إليهم-

قال البيضاوي و إذا كان الركون الى الظالمين كذلك فما ظنك بالميل كل الميل إليهم- ثم بالظلم نفسه و الانهماك فيه- و لعل الاية ابلغ ما يتصور فى النهى عن الظلم- روى ان رجلا صلى خلف الامام فلما قرا هذه الاية غشى عليه فلما أفاق قيل له فقال هذا فيمن ركن الى الظلم فكيف بالظالم- و عن الحسن جعل اللّه الدين بين لائين لا تطغوا و لا تركنوا- و عن الأوزاعي ما من شي ء ابغض الى اللّه من عالم يزور ظالما- و عن أوس انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول من مشى مع ظالم ليقويه و هو يعلم انه ظالم فقد خرج من الإسلام- و عن ابى هريرة انه سمع رجلا يقول ان الظالم لا يضر الا نفسه- فقال ابو هريرة بلى و اللّه حتّى الحبارى لتموت فى وكرها هزلا بظلم الظالم- روى الحديثين فى شعب الايمان

قال البيضاوي خطاب الرسول صلى اللّه عليه و سلم و من معه من المؤمنين بهذه الاية للتثبيت على الاستقامة الّتي هى العدل فان الزوال عنها بالميل الى أحد طرفى افراط او تفريط ظلم على نفسه او غيره بل ظلم فى نفسه وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه مِنْ أَوْلِياءَ اى من أنصار يمنعون عنكم العذاب و الواو للحال من مفعول فتمسكم النّار ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) اى ثم لا ينصركم اللّه إذ سبق فى حكمه ان يعذبكم فيه و ثم لاستبعاد النصر من اللّه تعالى- او لاستبعاد النصر مطلقا فانه لما ذكر انهم يعذبهم اللّه و كل من يعذبه اللّه لا يقدر على نصره أحد غيره انتج انهم لا ينصرون أصلا و اللّه اعلم - اخرج الترمذي و النسائي عن ابى اليسر

قال البغوي هو عمرو بن غزية الأنصاري- قال أتتني امراة تبتاع تمرا فقلت ان فى البيت تمرا أطيب منه فدخلت معى البيت فاهويت إليها فقبلتها ثم ندمت فاتيت أبا بكر رضى اللّه عنه فذكرت ذلك فقال استر على نفسك و تب- قال فاتيت عمر فقال استر على نفسك و تب- فلم اصبر فاتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فذكرت ذلك له- فقال أ خلفت غازيا فى سبيل اللّه فى اهله بمثل هذا- حتّى ظن انه من اهل النار فاطرق رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتّى اوحى اليه

١١٤

وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ الاية فقال اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أ لهذا خاصة أم للناس عامة- قال بل للناس عامة- قال صاحب لباب النقول- و ورد نحو حديث ابى اليسر من حديث ابى امامة و ابن عباس و بريدة و غيرهم- و انتصاب طرفى على الظرف لانه مضاف اليه و معناه غدوة و عشية وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ اى طائفة من الليل او ساعات منه قريبة من النهار- فانه من ازلفه إذا قربه و هو جمع زلفة- قرا ابو جعفر بضم اللام- قال ابن عباس طرفا النهار يعنى صلوة الصبح و المغرب- و زلفا من الليل حينئذ العشاء- و قال الحسن طرفا النهار الصبح و العصر و زلفا من الليل المغرب و العشاء-

و قال مجاهد طرفا النهار الصبح و الظهر و العصر و زلفا من الليل المغرب و العشاء- و هذا القول يشعر ان وقت الظهر و العصر واحد و لو عند الضرورة و كذا وقت المغرب و العشاء- و من هاهنا قال مالك و احمد و الشافعي إذا اسلم الكافر او طهرت الحائض او بلغ الصبى اخر وقت العصر وجبت عليه الظهر و العصر- و إذا اسلم او طهرت او بلغ اخر وقت العشاء وجبت عليه المغرب و العشاء- خلافا لابى حنيفة رحمه اللّه فانه لا يجب عنده الا العصر و العشاء- لنا الأحاديث الواردة فى اوقات الصلوات الّتي ذكرتها فى سوره النساء فى تفسير قوله تعالى إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً- فانها تدل على ان وقت كل صلوة مبائن للاخرى- و لاجل ذلك لا يجوز عند ابى حنيفة رحمه اللّه جمع صلوة الظهر و العصر و لا المغرب و العشاء بعلة سفر او مرض او مطر كما لا يجوز جمعهما بغير علة اجماعا- و قال الشافعي و مالك و احمد يجوز الجمع فى السفر- و عند مالك و احمد يجوز الجمع لاجل المطر فى العشاءين خاصة و عند الشافعي بين الظهرين ايضا- و جاز عند احمد الجمع لاجل المرض- احتجوا بان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم امر لحمنة بنت جحش حين استحاضت بالجمع و قال تؤخرين الظهر و تعجلين العصر ثم تغتسلين و تجمعين بين الصلاتين رواه احمد و الترمذي و قال حديث حسن صحيح- و انه صلى اللّه عليه و سلم جمع فى السفر بين الظهر و العصر و المغرب و العشاء فى الصحيحين عن ابن عباس قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يجمع بين الصلاتين فى السفر المغرب و العشاء و الظهر و العصر- و فيهما عن انس قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا ارتحل قبل ان تزيغ الشمس اخر الظهر الى وقت العصر ثم ينزل فيجمع بينهما- و إذا زاغت الشمس قبل ان يرتحل صلى الظهر ثم ركب- و روى مسلم من حديث معاذ بن جبل قال جمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى غزوة تبوك بين الظهر و العصر و المغرب و العشاء- قال فقلت له ما حمله على ذلك قال أراد ان لا يحرج أمته- و أجاب ابو حنيفة عن هذه الأحاديث ان المراد من هذه الأحاديث الجمع الصوري- يعنى كان يصلى الظهر فى اخر وقتها و العصر فى أول وقتها و كذا العشاءين- فيجمع بينهما صورة و كان يصلى كل صلوة فى وقتها كما هو مصرح فى حديث حمنة- و يدل عليه ما فى الصحيحين عن ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه و سلم جمع بالمدينة من غير خوف و لا سفر- و فى بعض ألفاظ مسلم جمع بين الظهر و العصر و المغرب و العشاء من غير خوف و لا مطر- قيل لابن عباس ما أراد الى ذلك قال أراد ان لا يحرج أمته- و فى رواية للطبرانى جمع بالمدينة من غير علة- قيل ما أراد بذلك قال التوسع على أمته- فان هذا الحديث محمول على الجمع الصوري البتة للاجماع على عدم جواز الجمع من غير علة- و قد جاء صريحا فى الصحيح عن عمرو بن دينار قال قلت يا أبا الشعثا أظنه اخّر الظهر و عجّل العصر و اخّر المغرب و عجّل العشاء- قال و انا أظن ذلك-

فان قيل يمكن حمل ما يدل على جمع التأخير على الجمع الصوري و لكن من الروايات ما يدل على جميع التقديم و لا يمكن حملها على الجمع الصوري اما حديث ابن عباس فرواه احمد و البيهقي و الدار قطنى من طريق حسين بن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عباس عن عكرمة و كريب عن ابن عباس قال كان إذا زاغت الشمس فى منزله جمع بين الظهر و العصر قبل ان يركب- و إذا لم تزغ له فى منزله سار حتّى إذا جاء العصر نزل فجمع بين الظهر و العصر- و إذا جاءت فى منزله جمع بينها و بين العشاء- و إذا لم يجي ء فى منزله ركب حتّى إذا جاءت العشاء نزل فجمع بينهما- و اما حديث انس فرواه الإسماعيلي و البيهقي من حديث إسحاق بن راهويه بلفظ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا كان فى السفر و زالت الشمس صلى الظهر و العصر جميعا ثم ارتحل قال النووي اسناده صحيح- و اما حديث معاذ فرواه احمد و ابو داود و الترمذي و ابن حبان و الحاكم و الدار قطنى و البيهقي من حديث قتيبة عن الليث عن يزيد بن ابى حبيب عن ابى الطفيل عنه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان فى غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل ان يرتحل جمع بين الظهر و العصر فان ارتحل قبل ان تزيغ اخر الظهر حتّى ينزل للعصر- و فى المغرب مثل ذلك الحديث-

قلنا اما ما ذكرتم من حديث ابن عباس فحسين ضعيف كذا قال ابن معين و قال النسائي متروك و اما ما ذكرتم من حديث انس فانه و ان قال النووي اسناده صحيح لكن قال الذهبي ان أبا داود أنكر على إسحاق لكن له متابع رواه الحاكم فى الأربعين و فيه إذا زاغت الشمس قبل ان يرتحل صلى الظهر و العصر ثم ركب و هذه زيادة غريبة صحيحة الاسناد رواه الطبراني فى الأوسط ان النبي صلى اللّه عليه و سلم كان إذا كان فى سفر فزاغت الشمس قبل ان يرتحل صلى الظهر و العصر جميعا- و ان ارتحل قبل ان تزيغ الشمس جمع بينهما فى أول العصر- و كان يفعل ذلك فى المغرب و العشاء- و قال تفرد به يعقوب بن محمّد الزهري و اما حديث معاذ قال الترمذي تفرد به قتيبة و المعروف ما رواه مسلم- و قال ابو داود هذا حديث منكر و ليس فى جمع التقديم حديث قائم- و قال ابو سعيد بن يونس لم يحدث بهذا الحديث الا قتيبة- و يقال انه غلط و عللّه ابو حاتم و اطنب الحاكم فى بيان علته و أعله البخاري و ابن حزم- و فى الجمع فى السفر حديث علىّ رواه الدار قطنى بسند له من حديث اهل البيت و فى اسناده من لا يعرف- و فيه ايضا المنذر القابوسي و هو ضعيف- و احتج ابو حنيفة بحديث ابن مسعود فى الصحيحين قال ما رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صلى صلوة لغير وقتها الا بجمع فانه جمع بين المغرب و العشاء بجمع و صلى صلوة الصبح من الغد قبل وقتها يعنى غلس بها فكانّه أراد قبل وقتها المعتاد- و كانّه ترك ذكر جمع عرفة لشهرته- و بما روى مسلم فى حديث ليلة التعريس قوله صلى اللّه عليه و سلم ليس فى النوم تفريط انما التفريط فى اليقظة ان يؤخر الصلاة حتّى يدخل وقت صلوة اخرى و اللّه اعلم- إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ اى يكفرنها اخرج الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال لم أر شيئا احسن طلبا و لا اسرع إدراكا من حسنة حديثة لسيئة قديمة- انّ الحسنات يذهبن السّيّئات-

و اخرج احمد عن ابى ذر قال قلت يا رسول اللّه أوصيني- قال إذا عملت سيئة فاتبعها حسنة تمحها- قال قلت يا رسول اللّه من الحسنات لا اله الا اللّه- قال هى أفضل الحسنات- عن ابن مسعود ان رجلا أصاب من امراة قبلة- فاتى النبي صلى اللّه عليه و سلم فاخبره فانزل اللّه تعالى و أقم الصلاة طرفى النهار الاية- فقال الرجل الى هذا قال لجميع أمتي كلهم- و فى آدابه لمن عمل بها من أمتي متفق عليه- و فى رواية لمسلم نحوه و فيه قال له عمر لقد سترك اللّه لو سترت على نفسك الحديث-

و اخرج الحاكم و البيهقي من حديث معاذ بن جبل نحوه- و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الصلوات الخمس و الجمعة الى الجمعة و رمضان الى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنب الكبائر- رواه مسلم- و عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو ان نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا هل يبقى من دونه شي ء- قالوا لا يبقى من درنه شي ء- قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو اللّه بهن الخطايا- متفق عليه ذلِكَ اشارة الى قوله فاستقم فما بعده و قيل الى القران ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) اى عظة للمتعظين

١١٥

وَ اصْبِرْ يا محمّد على الطاعات و عن المعاصي و على ما أصابك من الأذى- و قيل على الصلاة نظيره و امر أهلك بالصّلوة و اصطبر عليها فَإِنَّ اللّه لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥) عدل من المضمر ليكون كالبرهان على المقصود و فيه دليل على ان الصلاة و الصبر اختان- و ايماء بانه لا يعتدّ بهما بدون الإخلاص-

١١٦

فَلَوْ لا فهلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ الّتي كانت مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ اى أولوا رأى و عقل و فضل- و انما سمى بقية لان الرجل يستبقى أفضل ما عنده- يقال فلان ذو بقية إذا كان فيه خير- و منه ما يقال فلان من بقية القوم اى من خيارهم- و منه قولهم فى الزوايا خبايا و فى الرجال بقايا- و قيل معناه أولوا طاعة كما ذكرنا فى بقيّت اللّه خير لّكم- و البقيت الصّلحت خير- و قيل معناه أولوا بقية من الخير إذا كان على خصلة محمودة- و يجوز ان يكون مصدرا كالتقية- فى القاموس بقي يبقى بقاء و بقأ و بقيا يعنى ذو ابقاء على أنفسهم و صيانة لها من العذاب يَنْهَوْنَ الناس عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ و يأمرون بالمعروف إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ لكن قليلا منهم أنجيناهم- و هم اتباع الأنبياء كانوا ينهون عن الفساد- و يجوز ان يكون الاستثناء متصلا إذا جعل من النفي اللازم للتحضيض- و من فى ممّن أنجينا للبيان لا للتبعيض وَ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا اى التاركون للنهى عن المنكر ما أُتْرِفُوا فِيهِ ما انعموا فيه من الشهوات- فاهتموا بتحصيل أسبابها و اعرضوا عن الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر- و قال مقاتل بن حبان ما حولوا- و قال الفراء ما عودوا و جملة و اتبع معطوف على فعل مقدر اى الا قليلا- ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد و اتبع الذين ظلموا شهواتهم وَ كانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) كافرين

١١٧

وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ اللام لتأكيد النفي و ان المصدرية مقدرة يعنى ما كان صفة ربك إهلاك الْقُرى او ما كان ربك مهلكها بِظُلْمٍ حال من ضمير الفاعل فى يهلك اى ما كان اللّه مهلكهم ظالما لهم وَ أَهْلُها قوم مُصْلِحُونَ (١١٧) مسلمون تنزيه لذاته تعالى عن الظلم- و قيل الظلم الشرك و المعنى و ما كان اللّه مهلك القرى بسبب شركهم فى حال يكون أهلها مصلحون فيما بينهم يتعاطون الانصاف و لا يظلم بعضهم بعضا- اخرج الطبراني و ابو الشيخ عن جرير بن عبد اللّه قال لما نزلت هذه الاية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أهلها ينصف بعضهم بعضا- و ذلك لفرط رحمة و مسامحة فى حقوقه و لذلك قدم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقوق العباد- و من هاهنا قيل الملك يبقى مع الكفر و لا يبقى مع الظلم-

١١٨

وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ كلهم أُمَّةً واحِدَةً مسلمين صالحين و هو دليل ظاهر على ان الأمر غير الارادة- و انه تعالى لم يرد الايمان من كل واحد و ان ما أراد يجب وقوعه وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) عن الحق تاركيه «١» الى الباطل على أنحاء شتى- فمنهم يهودى و نصرانى و مجوسى و وثنى- و منهم جبرى و قدرى و روافض و خوارج و غير ذلك

(١) فى الأصل تاركوه-.

١١٩

إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ هداهم اللّه من فضله الى صراط مستقيم- فهم متفقون على اصول العقائد الصحيحة و امتثال أوامر اللّه و الانتهاء عن المناهي- عن ابن مسعود قال خط لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خطا مستقيما- ثم قال هذا سبيل اللّه ثم خط خطوطا عن يمينه عن شماله و قال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو اليه-

و قرا وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ رواه احمد و النسائي و الدارمي وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ قال ابن عباس و مجاهد و قتادة و الضحاك يعنى للرحمة خلقهم- فالضمير راجع الى من رحمهم و الاشارة الى الرحمة- و قال الحسن و عطاء و للاختلاف خلقهم- قال اشهب سالت مالكا عن هذه الاية- فقال خلقهم ليكون فريق فى الجنة و فريق فى السعير- و قال ابو عبيدة الّذي اختاره قول من قال خلق فريقا لرحمته و فريقا لعذابه و قال الفراء خلق اهل الرحمة للرحمة و اهل الاختلاف للاختلاف- فالضمير راجع الى الناس و الاشارة الى الاختلاف و الرحمة جميعا- و اللام للمعاقبة و يؤيد هذا التأويل قوله تعالى وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ اى حكم ربك القديم او قوله للملائكة لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ اى عصاتهما أَجْمَعِينَ (١١٩) او المعنى منهما جميعا لا من أحدهما-

١٢٠

وَ كُلًّا اى كل نبا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ اى من اخبارهم و من اخبار أممهم ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ بيان لكلّا او بدل منه- و فائدته التنبيه على المقصود من الاقتصاص- و هو زيادة يقينه و تقوية قلبه على أداء الرسالة و احتمال أذى الكفار- او مفعول و كلّا منصوب على المصدر او الظرف- اى كل نوع من انواع الاقتصاص او كل وقت من الأوقات نقص عليك ما نثبت به فؤادك من انباء الرسل و الأمم وَ جاءَكَ فِي هذِهِ قال الحسن و قتادة فى هذه الدنيا- و قال غيرهما فى هذه السورة و الظاهر ان الاشارة الى الانباء- يعنى جاءك فى هذه الانباء المقتصة عليك الْحَقُّ اى ما هو حق وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) اشارة الى سائر فوائده التامة العامة

١٢١

وَ قُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ اى حالكم وجهتكم الّتي أنتم عليها و على قدرتكم فيه تهديد و وعيد إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) على حالنا و قوتنا

١٢٢

وَ انْتَظِرُوا بنا الدوائر إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) ان ينزل بكم نحو ما نزل على أمثالكم ان لم تؤمنوا

١٢٣

وَ للّه غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ اى له تعالى خاصة علم ما غاب عن العباد فيهما- لا يخفى عليه خافية مما بينهما فلا يخفى عليه أعمالكم وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ قرا نافع و حفص بضم الياء و فتح الجيم على البناء للمفعول- و الباقون بفتح الياء و كسر الجيم على البناء للفاعل الْأَمْرُ كُلُّهُ فى العباد يعنى يرجع اليه تعالى لا محالة أمرك و أمرهم فينتقم لك منهم يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ و فى تقديم الأمر بالعبادة على التوكل تنبيه على انه انما ينفع التوكل مع العبادة وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣) قرا نافع و ابن عامر و حفص و يعقوب هنا و فى اخر النمل بالتاء الفوقانية على الخطاب و الباقون بالياء التحتانية على الغيبة فيهما-

قال البغوي قال كعب خاتمة التورية خاتمة سورة هود- عن ابن عباس قال قال ابو بكر يا رسول اللّه قد شبت- قال صلى اللّه عليه و سلم شيّبتنى هود و الواقعة و المرسلات و عم يتساءلون و إذا الشمس كورت- رواه الترمذي و الحاكم و صححه و البغوي- و رواه الحاكم عن ابى بكر و ابن مردوية عن سعد و رواه ابن مردوية عن ابى بكر بلفظ شيّبتنى هود و أخواتها قبل المشيب «١»- و رواه ابو يعلى بسند ضعيف عن انس و ابن مردوية عن عمران بلفظ شيّبتنى هود و أخواتها من المفصل- و رواه ابن مردوية عن انس بلفظ شيّبتنى سورة هود و أخواتها الواقعة و القارعة و الحاقة و إذا الشمس كورت و سال سائل- و روى الطبراني

(١) و عن ابى سعيد الخدري قال عمر بن الخطاب يا رسول اللّه اسرع إليك الشيب قال شيّبتنى هود و أخواتها الواقعة و عم يتساءلون و إذا الشمس كورت فقط ازالة الخفا ١٢ منه رحمه اللّه.

فى الكبير عن عقبة بن عامر و ابى جحيفة بلفظ شيّبتنى سورة هود و أخواتها و فى الطبراني عن سهل بن سعد بسند ضعيف بزيادة الواقعة و الحاقة و إذا الشمس كورت و روى ابن عساكر عن محمّد بن على مرسلا بلفظ شيّبتنى هود و أخواتها و ما فعل بالأمم قبلى- و روى عبد اللّه بن احمد فى زوائد الزهد و ابو الشيخ فى تفسيره عن ابى عمران الجوني مرسلا شيّبتنى هود و أخواتها و ذكر يوم القيامة و قصص الأمم- و ألفاظ الأحاديث المذكورة صريحة فى ان التشييب مبنى على ذكر يوم القيامة و هلاك الأمم السابقة لا على الأمر بالاستقامة له و لمن تاب معه و الا لاقتصر على سورة هود و لم يذكر معها أخواتها- و اللّه اعلم

﴿ ٠