سُورَةُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَكِّيَّةٌوَهِيَ مِائَةٌ وَإِحْدَى عَشَرَةَ آيَةًمكيّة مائة و احدى عشرة اية ربّ يسّر و تمّم بالخير «١» بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) الخط من الناشر-. _________________________________ ١ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) اشارة الى آيات القران و الاضافة بمعنى من و هو المراد بالكتاب- اى تلك آيات من القران الظاهر فى الاعجاز- او الواضح معانيه بين حلاله و حرامه و حدوده و أحكامه- قال قتادة مبين و اللّه بركته و هداه و رشده و قال الزجاج مبين الحق من الباطل و الحرام من الحلال و قيل اشارة الى آيات السورة- و هى المراد بالكتاب- اى تلك الآيات آيات السورة الظاهر أمرها لمن تدبّر انها من عند اللّه- او مبين لليهود- قال البيضاوي روى ان علماءهم قالوا للمشركين سلوا محمّدا لم انتقل ال يعقوب من الشام الى مصر- و عن قصة يوسف- فنزلت السورة- و لم يذكر هذا صاحب لباب النقول فى اسباب النزول. ٢ إِنَّا أَنْزَلْناهُ اى الكتاب قُرْآناً القران اسم جنس يقع على الكل و البعض و صار علما للكل بالغلبة- فيمكن حمله على الكتاب و ان أريد به السورة- و نصبه على الحال و هو فى نفسه اما توطية للحال الّتي هى عَرَبِيًّا او هو حال لكونه مصدرا بمعنى المفعول و عربيا صفة له- او حال من الضمير فيه او حال بعد حال و الغرض من إيراد قوله عربيا انا أنزلناه بلغتكم لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «١» (٢) لكى تعلموا معانيه و تستعملوا فيه عقولكم فتدركوا لطائفه و اعجازه لفظا و معنى روى الحاكم و غيره عن سعد بن ابى وقاص رضى اللّه عنه قال انزل على النبي صلى اللّه عليه و سلم القران فتلا عليهم زمانا فقالوا يا رسول اللّه لو حدثتنا فنزل اللّه نَزَّلَ «٢» أَحْسَنَ الْحَدِيثِ الاية- زاد ابن ابى حاتم فقالوا يا رسول اللّه لو ذكرتنا فانزل اللّه تعالى أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّه الاية- و اخرج ابن جرير عن ابن عباس رضى اللّه عنهما و ابن مردوية عن ابن مسعود رضى اللّه عنه مثله قال قالوا يا رسول اللّه لو قصصت علينا فنزل. (١) عن خالد بن عرفظة قال كنت جالسا عند عمر إذ اتى برجل من عبد القيس قال عمر أنت فلان العبدى قال نعم فضربه بقناة معه فقال الرجل ما لى يا امير المؤمنين قال اجلس فجلس فقرا عليه بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر الى قوله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فقراها ثلاثا و ضربه ثلاثا فقال الرجل ما لى يا امير المؤمنين قال أنت الّذي تستحبّ كتاب دانيال قال مرنى بامرك اتبعه قال انطلق فامحه بالحميم و الصوف ثم لا تقراه و لا تقرئه أحدا من الناس- فقال انطلقت انا فنسخت كتابا من اهل الكتاب ثم جئت به فى أديم فقال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما هذا فى يدك يا عمر قلت يا رسول اللّه كتاب نسخته لنزداد علما انى علمنا فغضب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتّى احمرت و جنتاه ثم نودى بالصلوة جامعة فقالت الأنصار اغضب نبيكم السلاح السلاح حتّى احدقوا بمنبر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال يايها الناس انى قد أوتيت جوامعا لكم و خواتيمه و اختصرنى اختصارا و لقد اتيتكم بها بيضاء فقية فلا تتهوكوا و لا يغرنكم المتهكون قال عمر فقمت فقلت رضيت باللّه ربا و بالإسلام دينا و بك رسولا ثم نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- و روى عن ابراهيم النخعي عن عمر نحوه- ١٢ ازالة الخفا- منه نور اللّه مرقده [.....]. (٢) فى الأصل اللّه الّذي نزّل إلخ-. ٣ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ و ذكر البغوي عن سعد بن ابى وقاص الفصول الثلاثة لكنه قدم الفصل الثالث على الثاني أَحْسَنَ الْقَصَصِ منصوب على المصدر يعنى احسن الاقتصاص لانه اقتص على أبدع الاساليب و معناه نبين لك اخبار الأمم السالفة و القرون الماضية احسن البيان او على المفعولية يعنى احسن ما نقص و المراد قصة يوسف عليه السلام سماها احسن القصص لاشتماله على العجائب و العبر و الحكم و النكت و الفوائد الّتي تصلح امر الدين و الدنيا من سير الملوك و المماليك و العلماء و مكر النساء و الصبر على أذى الأعداء و حسن التجاوز عنهم بعد التمكن من الانتقام و غير ذلك من الفوائد- و القصص على هذا فعل بمعنى مقعول كالنقض و السلب مشتق من قص اثره إذا اتبعه و القاص يتبع الآثار و يأتى بالأخبار على وجهها- قال خالد بن معدان سورة يوسف و سورة مريم يتفكه بهما اهل الجنة فى الجنة و قال ابن عطاء لا يسمع سوره يوسف محزون الاستراح «٣» إليها بِما أَوْحَيْنا اى بايحائنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ يعنى السورة و يجوز ان يجعل هذا مفعول نقصّ على ان يكون احسن منصوبا على المصدر وَ إِنْ كُنْتَ مخففة اى انه كنت مِنْ قَبْلِهِ اى قبل ايحاءنا إليك لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣) عن هذه القصة او عن كلّما اوحى إليك من القصص و الشرائع و الاحكام-. (٣) فى الأصل استروح-. ٤ إِذْ قالَ يُوسُفُ بدل اشتمال من احسن القصص ان جعل مفعولا به و أريد قصة يوسف - لان الوقت مشتمل عليها- او منصوب بتقدير اذكر و يوسف اسم عبرى و لذا لم ينصرف و هو ابن يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم عليهم الصلاة و السلام روى احمد و البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم لِأَبِيهِ يعقوب عليه السلام يا أَبَتِ قرا ابن عامر و ابو جعفر بفتح التاء فى جميع القران و الباقون بكسر التاء- و ابن كثير و ابن عامر يقفان يابه بالهاء و الباقون بالتاء إِنِّي رَأَيْتُ فى المنام من الرؤيا لا من الرؤية بدليل قوله تعالى. لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ و هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ ... أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ روى سعيد بن منصور فى سننه و البزار و ابو يعلى فى مسنديهما و ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ و ابن مردوية فى تفاسيرهم- و العقيلي و ابن حبان فى الضعفاء- و الحاكم فى المستدرك و قال صحيح على شرط مسلم- و ابو نعيم و البيهقي كلامهما فى دلائل النبوة عن جابر رضى اللّه عنه و اسم «١» اليهودي عند البيهقي بستان و قال يا محمّد أخبرني عن النجوم الّتي راهن يوسف- فسكت فنزل جبرئيل عليه السلام فاخبره بذلك- فقال عليه السلام ان أخبرك هل تسلم- قال نعم قال جرثان و الطارق و الذيال و قابس و عمودان و الفليق و المصبح و الضروح و الفرغ و وثاب و ذو الكتفين- راها يوسف و الشمس و القمر نزلن من السماء و سجدن له- فقال اليهودي اى و اللّه انها لاسماؤها رَأَيْتُهُمْ تأكيد لِي ساجِدِينَ (٤) او استيناف ببيان حالها الّتي راها عليها- و أورد صيغة جمع العقلاء و ضميرهم لوصفها بصفاتهم- و كان النجوم فى التأويل اخوته و كانوا أحد عشر رجلا يستضاء بهم كما استضاء بالنجوم- و الشمس أبوه و القمر امه- و قال السدىّ القمر خالته لان امه راحيل كانت قد ماتت- و قال ابن جريج القمر أبوه و الشمس امه لكونها مؤنثة و القمر مذكر- (١) فى الأصل سمى اليهود عند البيهقي بستان-. قلت تأنيث الشمس لفظى مختص بلغة العرب فلا وجه لجعلها كناية عن امه مع كونها أضوء من القمر- قيل راها ليلة الجمعة ليلة القدر- فلما قصّها على أبيه. ٥ قالَ يا بُنَيَّ تصغير ابن صغّره للشفقة او لصغر السن قال البغوي كان يوسف ابن اثنى عشر سنة- قرا حفص هاهنا و فى الصافات بفتح الياء و الباقون بكسرها لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ الرؤيا مختص بما يكون فى النوم او نحو ذلك من الاستغراق فرق بينها و بين الرؤية بحر فى التأنيث كالقرية و القرى- قال البيضاوي الرؤيا انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة الى الحس المشترك- و الصادقة منها انما يكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب- عند فراغها من تدبير البدن ادنى فراغ فيتصور بما فيها مما لا يليق من المعاني الحاصلة هناك- ثم ان المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبه فترسلها الى الحس المشترك فتصير مشاهدة- ثم ان كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت الا بالكلية و الجزئية- استغنت الرؤيا عن التعبير و الا احتاجت اليه- قلت الرؤيا هى مطالعة النفس فى الصور المنطبعة فى الحس المشترك من أفق المتخيلة عند غفلتها و فراغها عن مطالعة المحسوسات فى النوم او الإغماء او نحو ذلك- و هى على ثلاثة اقسام قسمان منها باطلان و القسم الثالث منها صحيحة صالحة من حيث الأصل- لكنها قد تفسد بالعوارض و يقع فيها الخطاء بها و قد يقع الخطاء فى تأويلها- اما القسمان الباطلان فالاول منهما ما تراه النفس من صور الأشياء الّتي راتها فى اليقظة- او تفكر و اخترعها المتخيلة من غير اصل لها فى الواقع- و تسمى تلك الرؤيا حديث النفس و الثاني منهما ما ألقاه الشيطان فى خياله و تمثل له تخويفا او ملاعبة- فان الشيطان يجرى من الإنسان مجرى الدم- و تسمى تلك الرؤيا الرؤيا السوء و تخويف الشيطان و الحلم- و اما الّتي هى صحيحة فهى الهام و اعلام من اللّه تعالى لعبده على شي ء مما فى خزائن الغيب- او على شي ء من مكنونات صفاته و أحواله و درجات القرب له من اللّه تعالى حتّى تكون له بشارة- عن عبادة بن الصامت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رؤيا المؤمن كلام يكلم العبد ربه فى المنام رواه الطبراني بسند صحيح و الضياء- و حقيقة تلك الرؤيا الصالحة عند الصوفية ان العالم الكبير شخص له نفس و روح و قوى على هيئة الإنسان و لذلك يسمى إنسانا كبيرا- و لمشابهته يسمى الإنسان عالما صغيرا- فكما ان فى العالم الصغير اعنى الإنسان قوة متخيلة فكذلك فى العالم الكبير متخيلة- يتخيل بها المحسوسات و المعقولات و الاعراض و الجواهر و المجردات و المعاني- فصور الأشياء كلها حتّى الواجب تعالى و صفاته- و الممكنات بأسرها المجردات منها و الماديات- و ما لا صورة لها فى الخارج كالموت و الحياة و الأيام و السنين و الأمراض موجودة فى تلك المتخيلة- بايجاد اللّه تعالى- و من أجل ذلك راى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الحمى على صورة امراة سوداء- و عبر يوسف عليه السلام البقرات و السنابل بالسنين- و من هاهنا يظهر انه لا يشترط فى الصورة كونها من حبس المحكي عنه او مشتملا على جميع خصائصه- بل يكفى فى ذلك نوع من المناسبة- فلاجل تلك المناسبة الظاهرة او الخفية يتمثل فى متخيلة العالم الكبير ذلك الشي ء بتلك الصورة و لاجل لك المناسبة الخفية راى يوسف عليه السلام أبويه و اخوته فى صورة الشمس و القمر و الكواكب- و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الرؤيا ستة المرأة خير و البعير حرب و اللبن فطرة و الخضرة جنة و السفينة نجاة و التمر رزق- رواه ابو يعلى فى معجمه عن رجل من الصحابة بسند ضعيف- و تلك المتخيلة من العالم الكبير تسمى فى اصطلاح الصوفية بعالم المثال ثم تلك الصورة تنطبع لاجل المناسبة و المحاذات من متخيلة العالم الكبير فى متخيلة العالم الصغير اى الإنسان- و تراه النفس حين فراغها «١» عن مطالعة المحسوسات- فالانبياء عليهم الصلوات و التسليمات (لاجل عصمتهم عن الشيطان و عن معارضة الأوهام- و لاجل كون مناماتهم مقتصرة على العيون تنام عيونهم و قلوبهم يقظان- فيميزون مخترعات الخيال عن حقائق الإلهام) انحصرت رؤياهم فى القسم الثالث- ثم عدم العوارض المفسدة للمنامات الموجبة لوقوع الخطاء فيها متيقن فيهم عليهم السلام فرؤيا الأنبياء يكون وحيا قطعيا حتّى تصدى خليل اللّه عليه السلام لذبح ابنه و قال إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى - قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ- و رؤيا الصلحاء اعنى الأولياء الذين زكوا أنفسهم بالرياضات- و أزالوا عنها الكدورات الجبلية- (١) فى الأصل فراعه-. و تنزهوا عن ظلمات الذنوب و الآثام- و تجلى بواطنهم باقتباس أنوار النبوة صالحة صادقة الا نادرا- و ذلك عند عروض كدورة بأكل شي ء من المشتبهات- او زائدا على الحاجة بحيث تولدت منه كدورة ما- او لاجل لمم من المعصية فانهم غير معصومين- او لانعكاس من صحبة العوام- فرؤيا الأولياء شبيهة بالوحى- و لذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رؤيا المؤمن جزء من ستة و أربعين جزءا من النبوة- متفق عليه من حديث انس و ابى هريرة و عبادة بن الصامت و رواه احمد عنهم و ابو داؤد و الترمذي عن عبادة و روى البخاري عن ابى سعيد و مسلم عن ابن عمرو ابى هريرة و احمد و ابن ماجة عن ابى رزين و الطبراني عن ابن مسعود بلفظ الرؤيا الصالحة جزء من ستة و أربعين جزءا من النبوة- و روى ابن ماجة بسند صحيح عن ابى سعيد رؤيا المسلم الصالح جزء من سبعين جزءا من النبوة- و ابن ماجة و احمد بسند صحيح عن ابن عمرو احمد عن ابن عباس الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءا من النبوة- و فى حديث ابى رزين عند الترمذي رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءا من النبوة- و فى حديث العباس بن عبد المطلب عند الطبراني رؤيا المؤمن الصالح بشرى من اللّه و هى جزء من خمسين جزءا من النبوة- و فى حديث ابن عمر عند ابن النجار جزء من خمسة و عشرين جزءا من النبوة- فان قيل ما معنى كونها جزءا من ستة و أربعين جزءا من النبوة- و ما وجه التطبيق بين الأحاديث فى عدد الاجزاء- قلنا كان مدة الوحى الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثلاثا و عشرين سنة- و كان نصف سنة منها الوحى بالرؤيا الصالحة لا يرى شيئا فى المنام الا وجده مثل فلق الصبح- فلذلك قال جزء من ستة و أربعين جزءا من النبوة- و اما روايتا الأربعين و الخمسين فمبنيتان على جبر الكسر او طرح الكسر و أخذ العقد تقريبا- و اما رواية السبعين فالمراد منها الكثرة فانه يطلق السبعين و يراد به الكثرة قال اللّه تعالى إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ- فالمعنى انها جزء من اجزاء كثيرة من الوحى و اما رواية خمسة و عشرين فشاذ- و اما رؤيا العوام- فمنا ماتهم و ان كانت مستفادة من عالم المثال- لكنها تفسد و تكذب غالبا- لاجل انكدار خيالاتهم بالكدورات الجبلية النفسانية- و الكدورات المكتسبة بالذنوب و الآثام- ثم قد يقع الخطاء فى تعبير الرؤيا إذا كانت بين الصورة و المحكي عنها من عالم المثال مناسبة خفية- و صحة التعبير اما بالإلهام من اللّه تعالى و هو المراد فى الاية وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ اى يلهمك تعبير المنامات و ذا لا يتصور غالبا الا إذا كان المعبر رجلا صالحا أهلا للالهام- و اما بالعقل السليم- روى الترمذي بسند صحيح عن ابى رزين قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءا من النبوة- و هى على رجل طائر ما لم يحدث بها- فاذا حدث بها سقطت و لا تحدث بها الا لبيبا او حبيبا- و فى بعض الروايات الا من تحب- و رواه ابو داؤد و ابن ماجة بسند صحيح عنه بلفظ الرؤيا على رجل طائر ما لم يعبر- فاذا عبرت وقعت و لا تقصّها الا على وادّا و ذى رأى- و المراد بالطائر عندى ما قضى اللّه و قدر له نظيره قوله تعالى وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ اى عمله و ما قدر له- فمعنى هذا الحديث عندى و اللّه تعالى اعلم- ان رؤيا المؤمن مبنى على قضاء اللّه تعالى- و قدر قدّر له لا يعلم هو ما قدر له ما لم يحدث بها و يعبر عنها معبر فاذا حدث بها و عبر عنها معبر بالهام من اللّه تعالى او بقوة الرأى و الاستنباط الموهوبة منه تعالى- وقعت اى ظهرت و اتضح ما هو مقضى له- و لا تحدث بها الا لبيبا ذا رأى او حبيبا وادّ اى رجلا صالحا يحب اللّه و المؤمنين و يحبه اللّه و المؤمنون- و هو المعنى بقوله الا من تحب فان المؤمن لا يحب الا مؤمنا صالحا- فاللبيب يعبر بالرأى السليم- و الحبيب للّه تعالى يعبر بالإلهام- فلا يقع الخطاء فى تأويلهما- و ما ذكرت من اقسام الرؤيا مستفاد من الأحاديث- روى ابن ماجة بسند صحيح عن عوف بن مالك قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الرؤيا ثلاثة منها تهاويل الشيطان ليحزن ابن آدم- و منها ما يهم به الرجل فى يقظته فيراه فى منامه- و منها جزء من ستة و أربعين جزءا من النبوة- و روى الترمذي و ابن ماجة بسند صحيح عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الرؤيا ثلاث فبشرى من اللّه و حديث النفس و تخويف الشيطان- فاذا راى أحدكم رؤيا تعجبه فليقصّها ان شاء- و ان راى شيئا يكرهه فلا يقصّها على أحد و ليقم يصلى- و اكره الغل و احبّ القيد القيد ثبات فى الدين- و روى مسلم عن ابى قتادة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الرؤيا الصالحة من اللّه و الرؤيا السوء من الشيطان- فمن راى رؤيا فكره منها شيئا فلينفث عن يساره و ليتعوذ باللّه من الشيطان فانها لا تضره و لا يخبر بها أحدا- و ان راى رؤيا حسنة فليبشر و لا يخبر بها الا من يحب- و عنه فى الصحيحين و عند ابى داؤد و الترمذي بلفظ الرؤيا الصالحة من اللّه و الحلم من الشيطان فاذا راى أحدكم شيئا يكرهه فلينفث حين يستيقظ عن يساره ثلاثا و ليتعوذ باللّه منها فانها لا تضره- فان قيل ما معنى قوله صلى اللّه عليه و سلم من راى رؤيا فكره فلينفث عن يساره و ليتعوذ باللّه منها- قلنا معناه و اللّه اعلم ان الرؤيا ان كانت من تخويفات الشيطان و تسويلاته فيذهب وسوسته بالتعوذ- و ان كان من عالم المثال فقد يكون حكاية عن قضاء معلق فالتعوذ باللّه منها اى من الرؤيا يردّ القضاء المعلق ان شاء اللّه تعالى فلا تضرّه- و معنى قوله صلى اللّه عليه و سلم فلا يقصّها على أحد و ليقم يصلى انه ان قصّها على أحد يحزنه تعبيرها- فالاولى ان يرجع الى اللّه تعالى بالصلوة و الدعاء حتّى يدفع القضاء المعلق المحكي عنه بالرؤيا- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يردّ القضاء الا الدعاء الحديث- رواه الشيخان فى الصحيحين عن سلمان و ابن حبان و الحاكم عن ثوبان- و ليس النهى عن التحديث على التحريم او التنزيه الا ترى ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال لاصحابه يوم أحد انى رايت فى المنام سيفى ذا الفقار انكسر و هى مصيبة- و رايت بقرا تذبح و هى مصيبة- و قد مر الحديث فى تفسير قوله تعالى وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ فى سورة ال عمران- و انه صلى اللّه عليه و سلم ارى بنى امية على منبره فساءه ذلك- و قد حدث به و ذكرنا الحديث فى تفسير سورة القدر- و راى ابن عباس قتل الحسين عليه السلام فى رؤياه يوم قتل فحدث به- و فى الباب أحاديث كثيرة- قلت و جاز ان يكون النهى عن تحديث الرؤيا المكروهة كيلا يظهر الأعداء الشماتة و الفرح- و عن تحديث المبشرات الا عند اللبيب او الحبيب كيلا يحسدوه و لذلك امر يعقوب يوسف عليهما السلام بكتمان رؤياه على اخوته فقال لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً اى فيحتالوا لاهلاكك حيلة حسدا- عدى الكيد باللام و هو متعد بنفسه لتضمينه معنى فعل يعدى به تأكيدا و لذلك أكد بالمصدر و علل بقوله إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) ظاهر العداوة فيزيّن له الكيد و يحمله عليه. ٦ وَ كَذلِكَ اى كما اجتباك لمثل هذه الرؤيا الدالة على الفضل و الكمال يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ للنبوة و الملك و الأمور العظام- و الاجتباء من جببت الشي ء إذا حصّته و أخلصته لنفسك- وجبت الماء فى الحوض إذا جمعته وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ اى تعبير الرؤيا لان الرؤيا حديث الملك ان كانت صادقة- و حديث الشيطان ان كانت كاذبة- عبر التعبير بالتأويل لانه ما يؤل اليه عاقبة الأمر و يؤل امره الى ما يرى فى منامه- او من تأويل غوامض كتب اللّه و سنن الأنبياء- قيل هذا كلام مبتدا خارج عن التشبيه كانه قيل و هو يعلمك- و الظاهر انه معطوف على ما سبق فان تعليم التأويلات و إتمام النعمة من انواع الاجتباء فهو من قبيل عطف الخاص على العام وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بالنبوة وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ قيل المراد بهم ابناؤه و كان ابناؤه كلهم أنبياء- علم ذلك استدلالا بضوء الكواكب و قيل المراد بهم أنبياء بنى إسرائيل كَما أَتَمَّها اى النعمة عَلى أَبَوَيْكَ يعنى الجد و أبا الجد مِنْ قَبْلُ إتمامها عليك إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ عطف بيان لابويك إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ بمن يستحق الاجتباء حَكِيمٌ (٦) يفعل الأشياء على ما ينبغى-. ٧ لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ اى قصة يوسف و اخوته العلات- و كانوا عشرة ستة من بطن ليا بنت ليان و هى ابنة خال يعقوب - روبيل و هو أكبرهم و شمعون و لادى و يهودا و ريان و يشحر و كانت من بطنها بنتا اسمها دينة- و اربعة من بطن سريتين له - إحداهما زلفة و اخرى يلهمة دان و تفتالى و جاد و اشر كذا قال البغوي- و قال لما توفيت ليّا تزوج يعقوب أختها راحيل فولدت له يوسف و بنيامين- فكان أبناء يعقوب عليه السلام اثنا عشر رجلا- قال البيضاوي قيل جمع «١» يعقوب بين الأختين- و لم يكن الجمع محرما حينئذ آياتٌ قرا ابن كثير اية على التوحيد و الباقون على الجمع يعنى عبر و دلائل على قدرة اللّه تعالى و حكمته او علامات لنبوتك لِلسَّائِلِينَ (٧) عن خبرهم (١) و كذا فى التورية- ابو محمّد عفا اللّه عنه. قال البغوي و ذلك ان اليهود سالوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن قصة يوسف- و قيل سالوا عن سبب انتقال ولد يعقوب من كنعان الى مصر- فذكر لهم قصة يوسف فوجدوها موافقة لما فى التورية- و قيل آيات لمن سال و لمن لم يسئل كقوله تعالى سَواءً لِلسَّائِلِينَ- و قيل عبرا للمعتبرين فانها تشتمل على حسد اخوة يوسف و ما ال اليه أمرهم من الذل- و على رؤياه و ما حقق اللّه منها- و على صبر يوسف عليه السلام عن قضاء الشهوة- و على الرق و فى السجن و ما ال اليه امره من الملك و رضوان اللّه- و على حزن يعقوب و ما ال اليه امره من الوصول الى المراد و غير ذلك من الآيات- اذكر. ٨ إِذْ قالُوا يعنى قال بعضهم لبعض لَيُوسُفُ اللام فيه جواب للقسم تقديره و اللّه ليوسف وَ أَخُوهُ من أبيه و امه و لذا خصّوه بالاضافة أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وحّده لانه افعل من يستوى فيه الواحد و ما فوقه و المذكر و المؤنث- بخلاف أخويه فان الفرق بين المحلى باللام واجب- و فى المضاف جائز وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ اى و الحال انّا جماعة عشرة- قال الفراء العصبة هى العشرة فما زاد- و قيل العصبة ما بين الواحد الى العشرة- و قيل ما بين الثلاثة الى العشرة- و قال مجاهد ما بين العشرة الى خمسة عشر- و قيل ما بين العشرة الى الأربعين- كذا فى القاموس حيث قال العصبة من الرجال و الخيل و الطير ما بين العشرة الى الأربعين كالعصابة بالكسر- و كذا قال الجزري فى النهاية ان العصابة الجماعة من الناس من العشرة الى الأربعين- و العصب جمع عصبة كالعصابة- و لا واحد لها من لفظه كالنفر و الرهط- و قيل العصبة جماعة متعصبة اى متعاضدة- و معنى نحن عصبة اى جماعة مجتمعة الكلام متعاضدة إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) ليس المراد من الضلال الضلال عن الدين و لو أرادوا ذلك لكفروا به- بل المراد منه الخطاء فى التدبير يعنون به انا انفع له فى امر الدنيا و إصلاح معاشه و رعى مواشيه- فنحن اولى بالمحبة منهما فهو مخطئ خطاء بيّنا فى إيثاره يوسف و أخاه علينا فى صرف محبته إليهما. ٩ اقْتُلُوا يُوسُفَ قال وهب قاله شمعون و قال كعب دان و قال مقاتل روبيل- هذه الجملة المحكي بعد قوله إذ قالوا- و انما أسند هذا القول الى جميعهم مع ان القائل به كان واحدا منهم- لان الباقون رضوا به الا من قال لا تقتلوا فاسند الفعل الى الكل مجاز الصحة اسناده الى أكثرهم لاجل رضائهم به أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً اى بأرض منكورة بعيدة من العمران- بحيث يبعد عن أبيه- و هو معنى تنكيرها و ابهامها- و لذلك نصب كالظروف المبهمة يَخْلُ لَكُمْ جواب الأمر و المعنى يصف لكم وَجْهُ أَبِيكُمْ اى توجهه إليكم عن شغله بيوسف حتّى لا يلتفت عنكم الى غيركم- و لا ينازعكم فى محبته أحد وَ تَكُونُوا جزم بالعطف على يخل مِنْ بَعْدِهِ اى بعد يوسف او بعد الفراغ من امره بالقتل او الطرح- او قتله او طرحه قَوْماً صالِحِينَ (٩) تائبين الى اللّه عمّا جنيتم فيعف اللّه عنكم- او صالحين مع أبيكم يصلح ما بينكم و بينه بعذر تمهدونه كذا قال مقاتل- او صالحين امر دنياكم فانه ينتظم لكم بعده لخلو وجه أبيكم-. ١٠ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ و هو يهودا و قال قتادة روبيل- قال البغوي و الاول أصح لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ فان القتل كبيرة عظيمة وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ اى فى قعره و الغيابة كل موضع ستر عنك الشي ء و غيّبه- سمى القعر بها لستره ما فيه عن عين الناظر- كذا قرا الجمهور- و قرا ابو جعفر و نافع فى غيبت الجبّ على الجمع كانه كان لذلك الجب غيابات- قال البغوي و الجب البئر الغير المطوية لانه جب اى قطع و لم يطو- و فى القاموس الجب بالضم البئر او الكثيرة الماء البعيدة القعر او الجيّدة الموضع من الكلاء او الّتي لم تطوا و مما وجد لا مما حفره الناس يَلْتَقِطْهُ اى يأخذه و الالتقاط أخذ الشي ء من حيث لا يحس به بَعْضُ السَّيَّارَةِ الذين يسيرون فى الأرض إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) بمشورتى فافعلوا هذا- او ان كنتم على ان تفعلوا ما يفرق بينه و بين أبيه فاكتفوا به- قال محمّد بن إسحاق اشتمل فعلهم على جرائم من قطيعة الرحم و عقوق الوالد و قلة الرأفة بالصغير الّذي لا ذنب له و الغدر بالامانة و ترك العهد و الكذب مع أبيهم- و عفا اللّه عنهم ذلك كله حتّى لا ييئس من رحمة اللّه أحد- قلت لعل وجه مغفرة اللّه إياهم تلك الجرائم كلها لشدة حبهم بأبيهم يعقوب - فانه انما أوقعهم فى تلك الجرائم ذلك الحب- حيث أرادوا ان يخلوا لهم وجه أبيهم و يندفع ما يخلّ بهم فى محبتهم- و قال بعض اهل العلم انهم عزموا على قتله و عصمهم اللّه رحمة لهم و لو فعلوا لهلكوا أجمعون- و كان ذلك قبل ان صاروا أنبياء كذا قال ابو عمرو بن العلاء- فمن قال بكونهم أنبياء جوز صدور المعصية من النبي قبل النبوة- و قال أكثرهم انهم ما كانوا أنبياء و المراد بالأسباط الوارد فى القران فى عد الأنبياء أنبياء بنى إسرائيل من نسلهم و اللّه اعلم- فلما اجمعوا على التفريق بينه و بين والده عليهما السلام بضرب من الحيل. ١١ قالُوا ليعقوب عليه السلام يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا قرأ ابو جعفر بترك الإشمام و الروم و الباقون اما بالاشمام اعنى بالاشارة بالشفتين الى الضمة نحو قبلة المحبوب- او بالروم اى بحركة النون الاول بعض الحركة- اى لا تسكن رأسا بل تضعف الصوت بها فيفصل فيه بين المدغم و المدغم فيه- يعنون لم تخافنا عَلى يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أرادوا به استنزاله عن رأيه فى حفظه منهم لما أحس منهم الحسد- قال مقاتل فى الكلام تقديم و تأخير و ذلك انهم قالوا. ١٢ أَرْسِلْهُ مَعَنا الاية- فقال أبوهم إِنِّي لَيَحْزُنُنِي الاية فحينئذ قالوا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا- و النصح القيام بالمصلحة و ارادة الخير- و قيل البرّ و العطف يعنى نحن قائمون بمصلحته نريد له الخير نحفظه حتّى نرده إليك. أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً الى الصحراء يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ قرا ابو عمرو و ابن عامر بالنون فيهما على التكلم و جزم العين فى نرتع من رتع يرتع رتعا- و هو الخصب يعنون نتسع فى أكل الفواكه و نلعب بالسباق و الصيد و الرمي مما يباح إتيانه- و قرا ابن كثير بالنون فيهما و كسر العين أصله نرتعى و هو نفتعل من الرعي- فروى ابو ربيعة و ابن الصباح عن قنبل بإثبات الباء وصلا و وقفا- و روى غيرهما عنه حذفها فى الحالين- و البزي بحذفها فى الحالين- و المعنى نتحارس و نحفظ أنفسنا يعنى يحفظ بعضنا بعضا- و قرا نافع و عاصم و حمزة و الكسائي و ابو جعفر بالياء فيهما على الغيبة على اسناد الفعلين الى يوسف- «١» غير ان نافعا و أبا جعفر يكسران العين من يرتع و يحذفان الياء لام الكلمة من ارتعى يرتعى يعنون يرعى يوسف الماشية كما نرعى نحن- و الباقون يجزمون العين من يرتع و معناه يأكل و يلهو و قرا يعقوب «٢» نرتع بالنون و جزم العين مثل ابى عمرو و يلعب بالياء مثل الكوفيين وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) ان يناله مكروه. (١) هذا ليس بشي ء لان يعقوب فى كلتا الكلمتين مع الكوفين- ابو محمّد. (٢) فى الأصل غير ان نافع و ابو جعفر. ١٣ قالَ لهم يعقوب إِنِّي لَيَحْزُنُنِي فتح الياء نافع و ابن كثير و أسكنها الباقون أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ اى ذهابكم به- و الحزن هاهنا الم القلب بفراق المحبوب و عدم الصبر عنه- و اللام لام الابتداء وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ لان الأرض كانت مذابة- و قال البغوي و ذلك ان يعقوب راى فى المنام ان ذئبا شد على يوسف فكان يخاف من ذلك- و هذا عندى ليس بشي ء فان رؤيا الأنبياء وحي قطعى الوجود- و لو كان قد راى ذاك لتحقق البتة و لا ينفعه الحذر لكنه لم يتحقق- قرا ورش و الكسائي و ابو عمرو الذيب بغير همز بالياء إذا وقف «١» و الباقون بالهمزة فى الحالين و حمزة على أصله إذا وقف فان الهمزة المتوسطة عنده تبدل حرفا خالصا فى الوقف وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) يعنى لا أخاف كيدكم و لكن أخاف ان يناله مكروه عند غفلتكم لاشتغالكم بالرتع و اللعب او لقلة اهتمامكم بحفظه. (١) هكذا فى الأصل لكن لا فائدة لهذا القيد لورش و لمن معه لان مذهبهم فى الوصل و الوقف سواء- ابو محمّد. ١٤ قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ المراد به الجنس وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ اى عشرة متعاضدة لا يتصور الغفلة من جميعنا و اللام موطئة للقسم و جوابه إِنَّا إِذاً اى إذا أكله الذئب و نحن عصبة لَخاسِرُونَ (١٤) هو مجزى عن جزاء الشرط- يعنون ان لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشينا و كنا ضعفاء مغبونون- او مستحقون ان تدعى علينا بالخسارة- و الواو فى و نحن للحال- اعتذر يعقوب فى عدم الإرسال بامرين الحزن بفراقه و الخوف عليه بأكل الذئب- و أجابوا عن عذره الثاني دون الاول- لعدم قدرتهم على دفع الحزن و لان ذلك كان يغيظهم-. ١٥ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا اى عزموا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ و جواب لما محذوف يعنى فعلوا به ما أرادوا- و قال البغوي جوابه وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ الاية على ان الواو زائدة كما فى قوله تعالى فَلَمَّا أَسْلَما وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَ نادَيْناهُ- اى لمّا أسلما ناديناه قال البغوي قال وهب و غيره أخذوا يوسف بغاية الإكرام- و جعلوا يحملونه فلما برزوا الى البرية القوه- و جعلوا يضربونه فاذا ضربه أحد استغاث باخر فضربه الاخر- فجعل لا يرى منهم أحدا رحيما- فضربوه حتّى كادوا يقتلونه- و هو يصيح يا أبتاه لو تعلم ما يصنع بابنك بنوا الإماء- فلما كادوا ان يقتلوه قال لهم يهودا أ ليس قد أعطيتموني موثقا ان لا تقتلوه فانطلقوا به الى الجب ليطرحوه فيه و كان ابن اثنى عشر سنة و قيل ثمان عشر سنة- فجاءوا به على غير طريق الى بئر واسع الأسفل ضيّق الرأس- قال مقاتل على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب- و قال كعب بين مدين و مصر- و قال وهب بأرض الأردن- و قال قتادة هى بئر بيت المقدس- فجعلوا يدلونه فى البئر فيتعلق بشفير البئر فربطوا يديه و نزعوا قميصه- فقال يا إخوتاه ردوا علىّ القميص اتوارى به فى الجب- فقالوا ادع الشمس و القمر و الكواكب تؤنسك فقال انى لم أر شيئا فالقوه فيها- و قيل جعلوه فى دلو و أرسلوه فيها حتّى إذا بلغ نصفها القوه ارادة ان يموت فكان فى البئر ماء فسقط فيه- ثم أوى الى صخرة فيها فقام عليها- و قيل انهم لما القوه فيها جعل يبكى فنادوه فظن انها رحمة أدركتهم فاجابهم- فارادوا ان يرضحوا بصخرة فيقتلوه فمنعهم يهودا- و اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم عن السدى مطولا ان ال يعقوب كانوا نازلين بالشام- و كان ليس له هم الا يوسف و اخوه بنيامين- فحسده اخوته الى ان قال فلما برزوا الى البرية فذكر نحوه- قيل جعلوه فى دلو و أرسلوه فيها حتّى إذا بلغ نصفها القوه ارادة ان يموت- فكان فى البئر ماء فسقط فيه ثم أوى الى صخرة فيها فقام عليها يبكى- فجاءه جبرئيل بالوحى كما قال وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ لاطمينان قلبه و الظاهر ان هذا الوحى ليس للاستنباء و الإرسال و التبليغ بل هو كما اوحى إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ الاية و ما هو للتبليغ فهو بعد ذلك حيث قال اللّه تعالى وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً- و اخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ عن مجاهد فى قوله تعالى وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ قال اوحى الى يوسف يعنى وحي الاستنباء و هو فى الجب لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا يعنى لتخبرن إخوتك بما صنعوا بك وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) بذلك الوحى و الإيناس و اعلام اللّه إياه ذلك- و قيل معناه و هم لا يشعرون يوم تخبرهم انك يوسف لعلو شأنك و بعده عن اوهامهم و طول العهد المغير للحلى و الهيئات- و ذلك حين دخلوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ- قال البغوي كان يهودا يأتيه بالطعام و بقي فيها ثلاث ليال و اوحى اليه هذه الاية- و بعث اليه جبرئيل ليؤنسه و يبشره بالخروج- و يخبره انه ينبئهم بما فعلوا و يجازيهم عليه و هم لا يشعرون- اخرج ابن ابى شيبة و احمد فى الزهد و ابن عبد الحكم فى فتوح مصر و ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ و الحاكم و ابن مردوية عن الحسن ان يوسف عليه السلام كان حينئذ ابن سبع عشره سنة- و قيل كان مراهقا اوحى اليه فى صغره كما اوحى الى يحيى و عيسى عليهما السلام- و فى القصص ان ابراهيم حين القى فى النار جرد عن ثيابه- فاتاه جبرئيل بقميص من حرير الجنة فالبسه إياه فدفعه ابراهيم الى إسحاق و إسحاق الى يعقوب فجعله فى تميمة علقها بيوسف فاخرجه جبرئيل و البسه إياه- قال البغوي قال ابن عباس رضى اللّه عنهما ثم انهم ذبحوا سخلة و جعلوا دمها على قميص يوسف. ١٦ وَ جاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قال اهل المعاني جاءوا فى ظلمة العشاء لتكون اجرا على الاعتذار بالكذب- فروى ان يعقوب عليه السلام سمع صياحهم- فخرج فقال ما لكم يا بنى هل أصابكم فى غنمكم شي ء- قالوا لا قال فما أصابكم و اين يوسف. ١٧ قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ اى نتسابق فى العدو كذا قال السدى او نترامى و ننتصل و يشترك الافتعال و التفاعل كالانتصال و التناصل وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا ثيابنا فمضينا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ اى بمصدق لَنا لسوء ظنك بنا و فرط محبتك بيوسف وَ لَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) عندك لاتّهمتنا فى هذه القصة لمحبة يوسف فكيف و أنت سى ء الظن بنا- و قيل معناه لست بمصدق لسوء ظنك بنا- او لانه لا دليل لنا على صدقنا و ان كنا صادقين عند اللّه. ١٨ وَ جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ اى ذى كذب او مكذوب فيه- و يجوز ان يكون وصفا بالمصدر للمبالغة- و على قميصه فى موضع النصب على الظرف اى فوق قميصه- او على الحال من الدم ان جوز تقديمها على المجرور- اخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابو الشيخ عن الحسن انه لما سمع يعقوب بخبر يوسف صاح و سال قميصه- فلما جي ء بقميص يوسف جعل يقلّبه فراى اثر الدم و لا يرى فيه شقا و لا خرقا- فقال يا بنى و اللّه ما اعهد الذئب حليما إذا كل ابني و أبقى قميصه فلمّا علم كذبهم بذلك قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً اى سهّلت لكم و هوّنت فى أعينكم أنفسكم امرا عظيما- ماخوذ من السول و هو الاسترخاء- فى القاموس الاسول من فى أسفله استرخاء و السولة استرخاء البطن و غيره- و قيل معناه زيّنت كذا فى القاموس و سوّل له الشيطان اغواه و قيل السول الحاجة الّتي تحرص عليها النفس- و التسويل تزيين النفس لما تحرص عليه و تصوير القبيح بصورة الحسن فَصَبْرٌ جَمِيلٌ اى فامرى صبر جميل- و قيل فصبر جميل اختاره- قال البغوي الصبر الجميل الّذي لا شكوى فيه اى الى الخلق و لا جزع- اخرج ابن جرير عن حبان ابن حمية مرسلا الصبر الجميل الّذي لا شكوى فيه وَ اللّه الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨) اى على احتمال ما تصفونه من هلاك يوسف و الصبر على تلك المصيبة- قال البغوي و فى القصة انهم جاءوا بذئب و قالوا هذا الّذي أكله- فقال له يعقوب يا ذئب ءانت أكلت ولدي و ثمرة فوادى- فانطقه اللّه عز و جل فقال تاللّه ما رايت وجه ابنك قط- قال كيف وقعت بأرض كنعان- قال جئت لصلة قرابة فصادنى هؤلاء- فمكث يوسف فى البئر ثلاثة ايام-. ١٩ وَ جاءَتْ سَيَّارَةٌ رفقة يسيرون من مدين الى مصر أخطئوا الطريق فنزلوا قريبا من الجب- و كان الجب فى قفر بعيد من العمران للرعاة و المارة- و كان ماؤه ملحا فعذب حين القى يوسف فيه فَأَرْسَلُوا حين نزلوا هناك وارِدَهُمْ رجلا من اهل مدين يقال له مالك بن وعر لطلب الماء- و الوارد الّذي يتقدم الرفقة الى الماء ليستقى لهم فَأَدْلى دَلْوَهُ يقال أدليت الدلو إذا أرسلتها فيه- و دلوتها أخرجتها- فتعلق يوسف عليه السلام بالحبل- فلما خرج إذا هو بغلام احسن ما يكون- قال النبي صلى اللّه عليه و سلم اعطى يوسف شطر الحسن رواه ابن ابى شيبة و احمد و ابو يعلى و الحاكم عن انس- قال البغوي يقال انه ورث ذلك الجمال من جدته سارة- و كانت قد أعطيت سدس الحسن- قال ابن إسحاق ذهب يوسف و امه بثلثي الحسن- فلما راه مالك بن وعر قالَ يا بُشْرى قرا الكوفيون بالألف المقصورة على وزن فعلى و امال حمزة و الكسائي- نادى البشرى بشارة لنفسه او لقومه كانه قال يا بشرى تعالى فهذا او انك- و قيل هو اسم لصاحبه ناداه باسمه ليعينه على إخراجه- و قرا الباقون يبشرى بالألف بعد الراء و بعدها ياء المتكلم مفتوحة بالاضافة- قرا ورش الراء بين بين و الباقون بإخلاص فتحها هذا غُلامٌ روى مجاهد عن أبيه ان البئر كانت تبكى على يوسف حين اخرج منها وَ أَسَرُّوهُ يعنى أخفاه الوارد و أصحابه من سائر الرفقة مخافة ان يطلبوا منهم فيه المشاركة- و قيل اخفوا امره و قالوا دفعه إلينا اهل الماء لنبيعه لهم بمصر- و قيل الضمير لاخوة يوسف- و ذلك ان يهودا كان يأتيه كل يوم بالطعام و أتاه يومئذ فلم يجده فيها- فاخبر اخوته فطلبوه فاذاهم بمالك و أصحابه نزول- فاتوهم فاذاهم بيوسف- فاسروا شأن يوسف و قالوا هو عبد لنا ابق و يقال انهم هددوا يوسف حتّى لم يعرّف حاله فسكت يوسف مخافة ان يقتلوه بِضاعَةً نصب على الحال اى اخفوه متاعا للتجارة- اشتقاقه من البضع فانه «١» هو ما يضع من المال للتجارة وَ اللّه عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) لم يخف عليه أسرارهم- او صنيع اخوة يوسف بأبيهم و أخيهم. (١) فى الأصل فانه ما يضع. ٢٠ وَ شَرَوْهُ يعنى باع «٢» اخوة يوسف إياه بعد ما قالوا انه عبد لنا ابق- و قيل شروه بمعنى اشتروه يعنى اشترى الوارد و أصحابه يوسف من اخوته بِثَمَنٍ بَخْسٍ قال الضحاك و مقاتل و السدى اى حرام- لان ثمن الحر حرام- و سمى الحرام بخسا لانه مبخوس من البركة اى منقوص- و عن ابن عباس و ابن مسعود رضى اللّه عنهما اى زيوف و قال عكرمة و الشعبي قليل دَراهِمَ بدل من الثمن مَعْدُودَةٍ قليلة فانهم كانوا يزنون ما بلغ الاوقية و يعدون ما دونها- قال ابن عباس و ابن مسعود و قتادة رضى اللّه عنهم كان عشرين درهما فاقتسموا درهمين درهمين- و قال مجاهد اثنين و عشرين درهما و قال عكرمة كان أربعين درهما وَ كانُوا اى اخوة يوسف او الذين اشتروه فِيهِ اى فى يوسف مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠) الراغبين عنه لانهم لم يعلموا منزلته عند اللّه عز و جل- و قيل كانوا فى الثمن من الزاهدين لانه لم يكن قصدهم تحصيل الثمن انما كان قصدهم تبعيد يوسف عن أبيه- قال البيضاوي ان كان ضمير كانوا للرفقة و كانوا بائعين فزهدهم لانهم التقطوه- و الملتقط للشي ء متهاون به خائف عن انتزاعه مستعجل فى بيعه- و ان كانوا مبتاعين فلانهم اعتقدوا انه ابق- و فيه متعلق بالزاهدين إذا جعل اللام للتعريف- و ان جعل بمعنى الّذي فهو متعلق بمحذوف يبينه الزاهدين- لان متعلق الصلة لا يتقدم على الموصول- ثم انطلق مالك بن وعر و أصحابه بيوسف و تبعهم اخوته يقولون استوثقوا منه لا يأبق- فذهبوا به حتّى قدموا مصر- و عرضه مالك على البيع فاشتراه قطفير قاله ابن عباس- و قيل اطفير صاحب امر الملك- و كان على خزائن مصر يسمى العزيز- و كان الملك يومئذ بمصر و نواحيها ديان بن الوليد بن ثروان من العمالقة- و قيل ان هذا الملك لم يمت حتّى أمن و اتبع يوسف على دينه ثم مات و يوسف حى- قال ابن عباس رضى اللّه عنهما لما دخل مصر تلقى قطفير مالك بن وعر- فابتاع منه يوسف بعشرين دينارا و زوج نعل و ثوبين أبيضين- و قال وهب بن منبه قدمت «١» السيارة بيوسف مصر فدخلوا به السوق يعرضونه للبيع- فترافع الناس فى ثمنه حتّى بلغ ثمنه وزنه ذهبا و وزنه فضة و وزنه مسكا و حريرا- و كان وزنه اربعمائة رطل و هو ابن ثلاث عشر سنة فابتاعه قطفير من مالك بهذا الثمن-. (٢) فى الأصل باعوا-. (١) فى الأصل قدمت السيار. ٢١ وَ قالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ يعنى قطفير لِامْرَأَتِهِ اسمها راعيل و قيل زليخا أَكْرِمِي مَثْواهُ المثوى موضع الاقامة- و المراد به منزلته كذا قال قتادة و ابن جريج- و قيل معناه أكرميه فى المطعم و الملبس و المقام عَسى أَنْ يَنْفَعَنا اى نبيعه بالربح ان أردنا البيع او يكفينا فى ضياعنا و أموالنا و نستظهر به فى مصالحنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ان تبنّيناه لما تفرس به من الرشد و كان عقيما وَ كَذلِكَ اى كما انجيناه من القتل و أخرجناه من الجب و عطفنا عليه العزيز مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ اى فى ارض مصر فجعلناه على خزائنها وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ عطف على مضمر تقديره ليحكم بالعدل و لنعلمه- اى كان القصد من انجائه و تمكينه الى ان يقيم العدل و يدبر امور الناس- و يعلّم معانى كتب اللّه و أحكامه فينفذها- او تعبير المنامات المنبهة عن الحوادث الكائنة ليستعد لها- و يشتغل بتدبيرها قبل ان يحل- و قيل الواو زائدة وَ اللّه غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ الضمير راجع الى اللّه تعالى اى يفعل ما يشاء لا يرد امره شي ء- و لا ينازعه فيما يشاء أحد- و قيل الضمير راجع الى يوسف اى أراد به اخوة يوسف شيئا- و أراد اللّه غيره فلم يكن الا ما أراد اللّه وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) لطائف صنعه و خفايا لطفه- او لا يعلمون ما اللّه يريد و يصنع. ٢٢ وَ لَمَّا بَلَغَ يوسف أَشُدَّهُ اى منتهى شبابه و قوته قال مجاهد ثلاثا و ثلاثين سنة- و قال السدى ثلاثين سنة و هو سن الوقوف- و قال الضحاك عشرين سنة- و قال الكلبي الأشد ما بين ثمانية عشر الى ثلاثين سنة- و سئل مالك عن الأشد قال هو الحلم آتَيْناهُ حُكْماً اى نبوة و قيل إصابة القول وَ عِلْماً اى فقها فى الدين او علما بتأويل الرؤيا قيل الفرق بين الحكيم و العالم ان العالم هو الّذي يعلم الأشياء و الحكيم هو الّذي يعمل بما يوجب العلم وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢) قال ابن عباس رضى اللّه عنهما اى المؤمنين و عنه ايضا المهتدين- و قال الضحاك الصابرين على النوائب- قال البيضاوي فيه تنبيه على انه تعالى انما أتاه ذلك جزاء على إحسانه فى عمله و اتقائه فى عنفوان امره-. ٢٣ وَ راوَدَتْهُ المراودة من راد يرود إذا جاء و ذهب لطلب شي ء و منه الرائد- و قيل طلب الشي ء برفق و منه رويد بمعنى أمهل لمعنى الرفق و المهلة فيه- و المراد هاهنا طلبته منه بالحيل الَّتِي هُوَ يعنى يوسف فِي بَيْتِها يعنى زليخا امراة العزيز عَنْ نَفْسِهِ اى احتالت ليواقعها وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ اى اطقتها و كانت سبعة و التشديد للتكثير او للمبالغة فى الاستيناف وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ قرا نافع و ابن «١» ذكوان بكسر الهاء من غير همز و فتح التاء- و هشام كذلك الا انه يهمز- و قد روى عنه ضم التاء- و ابن كثير بفتح الهاء و ضم التاء و الباقون بفتحهما- و قرا قتادة و السلمى بكسر الهاء و ضم التاء كما روى عن هشام- و معناه تهيّئت لك نفسى و اللام حينئذ للصلة- و أنكره ابو عمرو و الكسائي قالا لم يحك هذا عن العرب و الاول هو المعروف عند العرب- قال ابن مسعود رضى اللّه عنه أقرأني النبي صلى اللّه عليه و سلم هيت لك بفتح الهاء و التاء- قال ابو عبيدة كان الكسائي يقول هى لغة لاهل حوران وقعت الى الحجاز و معناه تعال- و قال عكرمة ايضا هى بالحورانية هلم- قال مجاهد و غيره هى لغة عربية و هى كلمة حث و اقبال على الشي ء- فهو اسم فعل مبنى على الفتح كاين- و اللام للتبئين كالتى فى سقيا لك- و من قراءه بضم التاء قراءه تشبيها له بحيث- و هى لا تثنّى و لا تجمع و لا تؤنث كذا قال ابو عبيدة- قال فى القاموس هيت مثلثة الاخر و قد يكسر اوله بمعنى هلم قالَ لها يوسف عند ذلك مَعاذَ اللّه اى أعوذ باللّه معاذا و اعتصم به ممّا دعوتنى اليه إِنَّهُ رَبِّي قرا نافع و ابن كثير و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بسكونها أَحْسَنَ مَثْوايَ الضمير للشأن يعنى ان الشان ان سيدى قطفير احسن منزلى و تعهّدى- حيث قال لك أكرمي مثواه فما جزاؤه ان اخونه فى اهله- و جاز ان يكون الضمير راجعا الى قطفير يعنى ان زوجك قطفير سيدى احسن مثواى- و قيل الضمير للّه تعالى يعنى انه تعالى خالقى و احسن منزلتى حيث عطف علىّ قلب فطفير فلا أعصيه إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) المحازون الحسن بالسيئ- و قيل يعنى الزناة فان الزنى ظلم على نفسه و على المزني باهله- (١) و فى الأصل نافع و ابن كثير و هو سياق قلم او تحريف من الناسخ كما يدل عليه سياق البيان- ابو محمّد. قال السدى و ابن إسحاق لما أرادت امراة العزيز مراودة يوسف عن نفسه جعلت تذكر له محاسن نفسه و شوّقته «١» الى نفسها- فقالت يا يوسف ما احسن شعرك قال هى أول ما ينتثر من جسدى- قالت ما احسن عينك قال هما أول ما يسيل على وجهى- قالت ما احسن وجهك قال هو للتراب تأكله- و قيل انها قالت ان فراش الحرير مبسوط فقم فاقض حاجتى- قال إذا يذهب نصيبى من الجنة- فلم تزل تطمعه و تدعوه الى اللذة و هو شابّ يجد شبق الشباب ما يجد الرجل عند مراودة امراة حسناء جميلة فذلك قوله تعالى. (١) فى الأصل شوّقه. ٢٤ وَ لَقَدْ هَمَّتْ زليخا بِهِ اى بيوسف يعنى قصدت ان يواقعها وَ هَمَّ يوسف بِها اى مال طبعه إليها و اشتهاها مع كفه نفسه عنها كما يدل عليه قوله مَعاذَ اللّه إلخ و ليس المراد القصد الاختياري و ذلك الميلان الطبعي و شهوة النفس مما لا يدخل تحت التكليف- بل الحقيق بالمدح و الاجر الجزيل فان السبب لا فضلية البشر على الملائكة كف النفس عن الفعل عند قيام هذا الهمّ- قال الشيخ ابو منصور الماتريدى همّ يوسف بها همّ خطرة و لا صنع للعبد فيما يخطر بالقلب و لا مؤاخذة عليه- و لو كان همّه كهمنا لما مدحه اللّه تعالى بانّه مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ- و قال بعض اهل الحقائق الهمّ همان همّ ثابت و هو ما إذا كان معه عزم و عقد و رضى مثل همّ امراة العزيز فالعبد مأخوذ به- و همّ عارض مثل الخطرة و حديث النفس من غير اختيار و لا عزم مثل همّ يوسف عليه السلام و العبد غير ماخوذ به ما لم يتكلم او يعمل قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال اللّه تعالى إذا تحدث عبدى بان يعمل حسنة فانا اكتبها له حسنة ما لم يعملها- فاذا عملها فانا اكتبها له بعشرة أمثالها- و إذا تحدث بان يعمل سيئة فانا اغفرها ما لم يعملها فاذا عملها فانا اكتبها له بمثلها- رواه البغوي من حديث ابى هريرة و فى الصحيحين و جامع الترمذي عنه بلفظ إذا همّ عبدى بحسنة و لم يعملها كتبتها له حسنة- فان عملها كتبتها عشر حسنات الى سبعمائة ضعف- و إذا هم بسيئة و لم يعملها لم اكتبها عليه فان عملها كتبتها سيئة واحدة- و جاز ان يكون معنى هم بها شارف على الهم- و ما قيل فى تفسير قوله تعالى همّ بها انه حل الهميان و جلس منها مقعد الرجل من المرأة و ما قيل انه حل سراويله و جعل يعالج ثيابه- و أسند هذا القول الى سعيد بن جبير و غيره من المتقدمين يأبى عنه سياق كلام اللّه تعالى فانه تعالى قال لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ- لان السوء هو الصغيرة و ما ذكر فهو من الصغائر البتة- و لو كان كذلك لذكرت توبته و استغفاره (كما ذكر لام و نوح و ذى النون و داود عليهم السلام مع كون كل ما صدر منهم عليهم السلام من غير قصد منهم بالمعصية- كما ذكر كل ذلك فى موضعه) و لم يذكر بل ذكر تبرية نفسه حيث قال هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي- و قال ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ و قال إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللّه لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ- و قال اللّه تعالى إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ- لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ جواب لو لا محذوف تقديره لجامعها- و قيل جواب لو لا مقدم عليه تقديره لو لا ان رّاى برهان ربّه لهمّ بها- لكنه راى البرهان فلم يهم و أنكره النحاة لان لو لا فى حكم أدوات الشرط فلا يتقدم عليها جوابها- و جاز ان يكون همّ بها المذكور قبلها دليلا على جوابها يعنى لهمّ بها- و معنى الهم المذكور على هذا شارف الهم- فهو كقوله قتلته لو لم أخف اللّه- تقديره شارفت على قتله لو لم أخف اللّه لقتلته- و اختلفوا فى ذلك البرهان فقال جعفر بن محمّد الصادق رضى اللّه عنهما البرهان النبوة الّتي أودع اللّه فى صدره حالت بينه «١» و بين ما يسخط اللّه عز و جل- و هذا أصوب الأقوال عندى- و قال قتادة و اكثر المفسرين انه راى صورة يعقوب و هو يقول له يا يوسف تعمل عمل السفهاء و أنت مكتوب فى الأنبياء- و قال الحسن و سعيد بن جبير و مجاهد و عكرمة و الضحاك انفرج له سقف البيت فراى يعقوب عليه السلام عاضّا على إصبعه- و قال سعيد بن جبير عن ابن عباس مثل يعقوب فضرب بيده فى صدره فخرجت شهوته من أنامله- و اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ عن محمّد بن سيرين قال مثل له يعقوب عاضّا على إصبعه يقول يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم خليل الرّحمن اسمك فى الأنبياء و تعمل عمل السفهاء- و قال السدى نودى يا يوسف تواقعها انما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير فى جو السماء لا يطاق- و مثلك إذا واقعتها مثله إذا مات و وقع فى الأرض لا يستطيع ان يدفع عن نفسه شيئا- و مثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الّذي لا يطاق- و مثلك ان واقعتها مثل الثور يموت فيدخل النمل فى اصل قرنية لا يستطيع ان يدفع عن نفسه- و اخرج ابن جرير عن القاسم بن ابى نزة قال نودى (١) فى الأصل بينه و ما يسخط [.....]. يا ابن يعقوب لا تكونن كالطير له ريش فاذا زنى فغدا ليس له ريش فلم يعرض للنداء- فرفع رأسه فراى وجه يعقوب عاضّا على إصبعه- فقام مرعوبا استحياء من أبيه- و فى رواية عن مجاهد عن ابن عباس انه انحط جبرئيل عاضّا على إصبعه يقول يا يوسف تعمل عمل السفهاء و أنت مكتوب عند اللّه فى الأنبياء- و روى انه مسحه بجناحه فخرجت شهوته من أنامله- و قال محمّد بن كعب القرظي رفع يوسف عليه السلام راسه الى سقف البيت حين همّ فراى كتابا فى حائط البيت لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا- و روى عطية عن ابن عباس رضى اللّه عنهما فى البرهان انه راى مثال الملك- و عن على بن الحسين رضى اللّه عنهما قال كان فى البيت صنم فقامت المرأة و سترته بثوب- فقال لها يوسف لم فعلت هذا قالت استحييت منه ان يرانى على المعصية فقال أ تستحيين ممّن لا يسمع و لا يبصر و لا يفقه فانا أحق ان استحيى من ربى و هرب كَذلِكَ اى الأمر مثل ذلك او فعلنا كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ اى عن يوسف السُّوءَ اى المعصية الصغيرة وَ الْفَحْشاءَ اى الكبيرة يعنى الزنى إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) قرا نافع و الكوفيون بفتح اللام حيث وقع معرفا باللام يعنى مختارين للنبوة أخلصهم اللّه تعالى لنفسه و الباقون بكسر اللام اى مخلصين للّه الطاعة و العبادة-. ٢٥ وَ اسْتَبَقَا الْبابَ اى الى الباب على حذف الجار و إيصال الفعل- او على تضمين استبقا معنى ابتدرا يعنى تسابق يوسف و زليخا الى الباب- لما فرّ يوسف منها ليخرج من عندها أسرعت وراءه لتمنعه عن الخروج- فتعلقت بقميصه من خلفه فجذبته إليها حتّى لا يخرج- و وحّد الباب و ان كان جمعه فى قوله وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ لانه أراد الباب الّذي هو المخرج من الدار- و لما هرب يوسف جعل فراش القفل تتناثر و تسقط وَ قَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ اى شقّته من ورائه- و القد الشق طولا و القط الشنق عرضا وَ لمّا خرجا أَلْفَيا صادفا سَيِّدَها اى زوجها قطفير لَدَى الْبابِ قال البغوي وجداه جالسا مع ابن عم لزليخا- و قيل صادفاه مقبلا يريد الدخول فلما راته هابته قالَتْ سابقة بالقول لزوجها تبرية لنفسها عند زوجها- و تعييرا على يوسف و إغراء به انتقاما منه ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً تعنى الزنى و ما نافية او استفهامية بمعنى اىّ شي ء جزاؤه ليس جزاؤه إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ اى يحبس أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) اى ضرب بالسياط- فلما سمع يوسف مقالتها. ٢٦ قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي اى طلبت منى الفاحشة انما قال ذلك دفعا لما عرض له من السجن و العذاب و لو لم تكذب عليه لما قاله وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها قيل ابن عم و قيل ابن خال لها- فقال سعيد بن جبير و الضحاك كان صبيّا فى المهد أنطقه اللّه- قال البغوي و هو رواية العوفى عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه قال تكلم اربعة و هم صغار- ابن ماشطة ابنة فرعون- و شاهد يوسف- و صاحب جريح- و عيسى بن مريم- قال محمّد بن محمّد السعاف فى تخريج البيضاوي اخرج ذلك الحديث احمد فى مسنده و ابن حبان فى صحيحه و الحاكم فى المستدرك و صححه- و رواه الحاكم ايضا من حديث ابى هريرة و قال صحيح على شرط الشيخين- و لم يطلع عليه الطيبي فقال يردّه ما فى حديث الصحيحين عن ابى هريرة حيث قال لم يتكلم فى المهد الا ثلاثة عيسى بن مريم و صاحب جريح- و صبى كان ترضعه امه فمر راكب حسن الهيئة فقالت امه اللّهم اجعل ابني مثل فلان فقال الصبى اللّهم لا تجعلنى مثله- فصاروا باضافة الصبى المذكور إليهم خمسة- قال السيوطي و هم اكثر من ذلك ففى صحيح مسلم تكلم الطفل فى قصة اصحاب الأخدود- قال و قد جمعت من تكلم فى المهد فبلغوا أحد عشر تضمينا فقلت قطعة تكلم فى المهد النبي محمّد و يحيى و عيسى و الخليل و مريم و مبرى جريح ثم شاهد يوسف و طفل لدى الأخدود يرويه مسلم و طفل عليه مبرّيا لامه الّتي يقال لها تزنى و لا تتكلم و ماشطة فى عهد فرعون طفلها و فى زمن الهادي المبارك يختم فقال الشاهد إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ من قدام فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) لانه يدل على انها قدت من قدامه لما أرادها بالدفع عن نفسها- او انه اسرع عن خلفها فتعثر بذيله فانقد جيبه. ٢٧ وَ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) لانه يدل على انها تبعته فاجتذبت ثوبه فقدته من خلفه- و الشرطية محكية على ارادة القول او على ان فعل الشهادة من القول و تسميتها شهادة لانها أدت موداها- و انما جمع بين ان الّذي هو للاستقبال و بين كان لان المعنى ان تعلم انه كان قميصه كذا- نظيره قولك ان أحسنت الىّ فقد أحسنت إليك من قبل فان معناه ان تمنّ علىّ بإحسانك امنّ عليك بإحساني السابق. ٢٨ فَلَمَّا رَأى قطفير قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ عرف خيانة امرأته و براءة يوسف عليه السلام قالَ لها إِنَّهُ اى ان السوء او ان هذا الأمر او ان قولك ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً ... مِنْ كَيْدِكُنَّ من حيلتكن و الخطاب لها و لامثالها او لسائر النساء إِنَّ كَيْدَكُنَّ اى النساء عَظِيمٌ (٢٨) فان ظاهرهن ضعيف يشهد لهن بالصدق و باطنهن خبيث اعوج- فانها خلقت من ضلع آدم و عقولهن قاصرة و ديانتهن ناقصة لا تمنعهن عما يمنع العقول السليمة و الدين القويم- و معهن شيطان يواجهن الرجال بالكيد و الشيطان يوسوس به مسارقة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم النساء حبالة الشيطان و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما رايت من ناقصات عقل و دين اذهب للب الرجل الحازم من أحد أكن رواه «١» عن بعض العلماء انه قال انا أخاف من النساء اكثر مما أخاف من الشيطان لان اللّه تعالى قال إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً و قال لهن إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (١) هكذا بياض فى الأصل-. ٢٩ يُوسُفُ اى يا يوسف أَعْرِضْ عَنْ هذا الحديث فلا تذكره لاحد حتّى لا يشيع وَ اسْتَغْفِرِي يا زليخا لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩) اى من القوم المذنبين من خطئ إذا أذنب متعمدا- لم يقل من الخاطئات لانه لم يقصد به الخبر عن النساء- بل قصد الخبر عن من فعل ذلك رجلا كان او امراة- فذكر بصيغة المذكرين تغليبا و نظيره قوله تعالى وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ و انّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ- و كان العزيز رجلا حليما قليل الغيرة فاقتصر على هذا القول-. ٣٠ وَ قالَ نِسْوَةٌ اسم لجمع امراة و تأنيثه بهذا الاعتبار غير حقيقى و لذلك جرد فعله فِي الْمَدِينَةِ ظرف لقال او صفة لنسوة- اى لما شاع حديث يوسف و مراودة زليخا عن نفسه فى المصر قلن- و قال مقاتل كن خمسا زوجة الحاجب و الساقي و الخباز و السبحان و صاحب الدواب امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها اى عبدها الكنعانى عَنْ نَفْسِهِ اى تطلب منه الفاحشة قَدْ شَغَفَها حُبًّا يعنى شق يوسف شغاف قلبها فدخل فيه حبّا- و هو تميز عن النسبة اى دخل حبه قلبها- قال السدى الشغاف جلدة رقيقة على القلب- و قال الكلبي حجب حبه قلبها حتّى لا تعقل سواه إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ عن الرشد و بعد من الصواب مُبِينٍ (٣٠) ظاهر الضلال حيث تركت ما يكون على أمثالها من العفاف و الستر. ٣١ فَلَمَّا سَمِعَتْ زليخا بِمَكْرِهِنَّ اى باغتيابهن و انما سمى مكرا لانهن اخفين هذا القول كما يخفى الماكر مكره- و قال ابن إسحاق انما قلن لها ذلك مكرا بها لتريهن يوسف و كانت «١» توصف لهن حسنه و جماله و قيل انها أفشت إليهن سرها و استكتمهن فافشين ذلك فلذلك سماه مكرا أَرْسَلَتْ رسولا إِلَيْهِنَّ تدعوهن قال وهب اتخذت مأدبة ودعت أربعين امراة منهن هؤلاء اللاتي عيرنها وَ أَعْتَدَتْ اى أعدت لَهُنَّ مُتَّكَأً قال ابن عباس رضى اللّه عنهما و سعيد بن جبير و الحسن و قتادة و مجاهد متكأ اى طعاما- سماه متكأ لان اهل الطعام إذا جلسوا يتكؤن على الوسائد- فسمى الطعام معا على الاستعارة- يقال اتكأنا عند فلان اى طعمنا- و لما كان ذلك عادة المترفين نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان يأكل الرجل بشماله و ان يأكل متكأ- رواه ابن ابى شيبة فى مصنفه عن جابر- و قيل المتكأ الطعام الّذي يجزّ جزّا كانّ القاطع يتكى عليه بالسكين- قال ابن عباس هو الأترج و قد روى عن مجاهد مثله- و قيل هو الأترج بالحبشية- و قال عكرمة و ابو زيد الأنصاري كل ما يجزّ بالسكين فهو عند العرب متك- و المتك و البتك القطع بالميم و الباء- قال البغوي زينت امراة العزيز بيتا بألوان الفواكه و الاطعمة و وضعت الوسائد و دعت النسوة وَ آتَتْ اى اعطت كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً و هن يأكلن اللحم جزّا بالسكين وَ قالَتِ قرا ابو عمرو و عاصم و حمزة بكسر التاء وصلا و غيرهم بضمها وصلا اخْرُجْ يا يوسف عَلَيْهِنَّ و كانت أجلست يوسف فى مجلس اخر فخرج عليهن يوسف- قال عكرمة و كان فضل يوسف على الناس فى الحسن كفضل ليلة البدر على سائر الكواكب- و اخرج ابن جرير و الحاكم و ابن مردوية من حديث ابى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رايت ليلة اسرى بي الى السماء يوسف كالقمر ليلة البدر- و اخرج ابو الشيخ فى تفسيره عن إسحاق بن عبد اللّه ابى فروة قال كان إذا سار فى ازقة المصر يرى تلألأ وجهه على الجدران كما يرى تلألأ الماء و الشمس على (١) فى الأصل كان-. الجدران فَلَمَّا رَأَيْنَهُ نسوة مصر أَكْبَرْنَهُ عظّمته قال ابو العالية هالهن امره و بهتن- و قيل أكبرنه اى حضن من أكبرت المرأة إذا حاضت- لانها تدخل فى الكبر بالحيض و الهاء ضمير المصدر او ليوسف على حذف المضاف اى حضن لاجله من شدة الشبق وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ بالسكاكين الّتي كانت معهن و هن يحسبن انهن تقطعن الأترج و لم يجدن الألم لشغل قلوبهن بيوسف- قال مجاهد فما احسسن الا بالدم- قال قتادة أبنّ أيديهن حتّى القينها- و الأصح انه كان قطعا بلا ابانة و قال وهب ماتت جماعة منهن وَ قُلْنَ حاشَ للّه تنزيها له تعالى من صفات العجز و تعجبا على كمال قدرته على الخلق- أصله حاشا للّه كذا قرا ابو عمرو فى الموضعين وصلا- و إذا وقف حذف الالف اتباعا للخط- روى ذلك عن اليزيدي منصوصا و الباقون يحذفون الالف فى الحالين تخفيفا و هو حرف يفيد معنى التنزيه فى باب الاستثناء فوضع موضع التنزيه و اللام للبيان كما فى قولك سقيا لك ما هذا بَشَراً و هو على لغة اهل الحجاز فى اعمال ما عمل ليس لمشاركتهما فى نفى الحال- و قال البغوي منصوب بنزع حرف الصفة اى ليس هذا ببشر إِنْ هذا اى ما هذا إِلَّا مَلَكٌ من الملائكة كَرِيمٌ (٣١) على اللّه تعالى لان هذا الجمال لم يعهد فى لبشر و ليس فوق البشر الا الملك- او لان الجمع بين الجمال الرائق و الكمال الفائق و العصمة البالغة من خواص الملائكة-. ٣٢ قالَتْ زليخا فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ تعنى هو ذلك العبد الكنعانى الّذي صورتنّ فى انفسكن ثم لمتننى فيه- تعنى انكن لم تتصورنّه حق تصوره و الا لعذرتنّنى فى الافتتان به- او فهذا اهو الّذي لمتننى فيه فوضع ذلك موضع هذا رفعا لمنزلة المشار اليه وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ فامتنع طالبا للعصمة- أقرّت لهن حين عرفت انهن يعذرنها كى يعاونّها على إلانة عريكته فقلن له أطع مولاتك وَ قالت زليخا لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ به أو أمري إياه تعنى موجب امرى و الضمير ليوسف او المعنى ما امر به فحذف الجار و الضمير للموصول لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً بنون التأكيد الخفيفة تنقلب الفا وقفا لشبهها بالتنوين نظيره لنسفعا مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) اى من الأذلاء من صغر يصغر من باب سمع يسمع صغر او صغارا. ٣٣ قالَ يوسف رَبِّ اى يا رب السِّجْنُ قرا يعقوب بفتح السين و الباقون بكسرها أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ من الزنى اختار السجن على المعصية حين توعّدته المرأة- أسند الدعاء إليهن و كان الدعاء من زليخا خاصة الى نفسها خروجا من التصريح الى التعريض- او لانهن خوفنه عن مخالفتها و زيّنّ له مطاوعتها- و قيل انهن جميعا دعونه الى انفسهن- قيل لو لم يسئل يوسف السجن و لم يقل السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ لم يبتل بالسجن- و الاولى ان يسئل المرء العافية و لذلك رد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على من كان يسئل الصبر- روى الترمذي عن معاذ قال سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رجلا و هو يقول اللّهم انى أسئلك الصبر- قال سالت البلاء فاسئله العافية و روى الطبراني عن العباس بن عبد المطلب قال قلت يا رسول اللّه علمنى شيئا ادع اللّه به فقال عليه السلام سل ربك العافية- فمكثت أياما ثم جئت فقلت يا رسول اللّه علمنى شيئا اسئله ربى عز و جل فقال يا عم سل اللّه العافية فى الدنيا و الاخرة وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ فى تحسين الفاحشة الىّ بالتثبيت على العصمة أَصْبُ إِلَيْهِنَّ امل الى اجابتهن او الى انفسهن بطبعي و مقتضى شهوتى- و الصبوة الميل الى الهوى وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) من السفهاء بارتكاب الفاحشة فان الحكيم لا يفعل القبيح- او من الذين لا يعلمون بما يعلمون فانهم من الجهال حكما- قال البغوي فيه دليل على ان المؤمن إذا ارتكب ذنبا يرتكب عن جهالة. ٣٤ فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فاجابه اللّه دعاءه الّذي تضمنه قوله وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي الاية فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ فثبته بالعصمة حتّى اثر مشقة السجن على اللذة المتضمنة للمعصية إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لدعاء الملتجئين اليه الْعَلِيمُ (٣٤) بأحوالهم و ما يصلحهم. ٣٥ ثُمَّ بَدا لَهُمْ اى ظهر للعزيز و أصحابه فى الرأى مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ الدالة على براءة يوسف من كلام الطفل وفد القميص من دبر و قطع النساء أيديهن و استعصامه عنهن- و فاعل بدا ضمير مبهم يفسره قوله لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥) اى مدة يرون فيها رأيهم و ذلك باستهزال المرأة لزوجها و كان زوجها مطواعا لها ذلولا ذمامه فى يدها- و قد طمعت ان يذلل السجن يوسف و يسخره لها- او خافت عليه العيون و ظنت منه الظنون فالجاها له الخجل من الناس و الوجل من اليأس الى ان رضيت بالحجاب مكان خوف الذهاب- لتشتفى بخبره إذا منعت من نظره و قضاء حاجتها منه- و قالت لزوجها ان هذا العبد العبراني قد فضحنى فى الناس يخبرهم انى راودته عن نفسه فاما ان تأذن لى فى الخروج فاخرج فاعتذر الى الناس- و اما ان تحبسه الى ان تنقطع مقالة الناس و يحسب الناس انه المجرم- قال البغوي قال ابن عباس رضى اللّه عنهما عثر يوسف ثلاث عثرات حين همّ بها فسجن- و حين قال اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ... فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ- و حين قال للاخوة إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ فقالوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ .... ٣٦ وَ دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ و هما غلامان كانا للوليد بن ثروان العمليقى ملك المصر الأكبر أحدهما خبازه صاحب طعامه- و الاخر ساقيه صاحب شرابه- غضب الملك عليهما فحبسهما- و اتفق دخولهما فى السجن وقت دخول يوسف عليه السلام فيه كما يدل عليه كلمة مع- قال البغوي و كان السبب فى حبس الفتيين ان جماعة أرادوا المكر بالملك و اغتياله- فضمنوا لهذين مالا ليسما الملك فى طعامه و شرابه- فاجاباهم ثم ان الساقي نكل عنه و قبل الخباز الرشوة فسم الطعام- فلما حضروا الطعام قال الساقي لا تأكل ايها الملك فان الطعام مسموم- و قال الخباز لا تشرب فان الشراب مسموم- فقال الملك للساقى اشرب فشربه فلم يضره- و قال للخباز كل من طعامك فابى- فجرب ذلك الطعام على دابّة فاكلته فهلكت- فامر الملك بحبسهما- و كان يوسف حين دخل السجن جعل ينشر علمه و يقول انى أعبّر الأحلام- فقال أحد الفتيين لصاحبه هلم فلنجرب هذا العبد العبراني نترايا له- فسالاه من غير ان يكونا رايا شيئا- قال ابن مسعود رضى اللّه عنه ما رايا شيئا انما تحالما ليجربا يوسف- و قال قوم بل كانا رايا حقيقة- فراهما يوسف و هما مهمومان فسالهما عن شأنهما قذكرا انهما صاحبا الملك و قد رأيا رؤيا غمهما ذلك- فقال يوسف قصّا علىّ ما رايتما فقصّا عليه قالَ أَحَدُهُما و هو صاحب الشراب إِنِّي قرا نافع و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها أَرانِي قرا نافع و ابن كثير و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها أَعْصِرُ خَمْراً يعنى ارى نفسى فى المنام اعصر خمرا اى عنبا سماه خمرا باعتبار ما يؤل اليه- يقال فلان يطبخ الاجر اى يطبخ اللبن للاجر- و قيل الخمر العنب بلغة عمان- و هى حكاية حال ماضية و ذلك انه قال- انى رايت كانى فى بستان فاذا انا بأصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجئتها- و كان كأس الملك بيدي فعصرتها فيه و سقت الملك فشربه وَ قالَ الْآخَرُ اى الخباز إِنِّي قرا نافع و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها أَرانِي قرا نافع و ابن كثير و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ و ذلك انه قال انى رايت كان فوق رأسى ثلاث سلال فيها الخبز و ألوان الاطعمة و سباع الطير تنهش منه نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ اى أخبرنا بتفسيره و تعبيره و ما يؤل اليه امر هذا الرؤيا إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) اى من الذين يحسنون تأويل الرؤيا- او من العالمين و الإحسان بمعنى العلم- و انما قالا ذلك لانهما راياه فى السجن يذكّر الناس و يعبر رؤياهم- او من المحسنين الى اهل السجن فاحسن إلينا بتأويل ما راينا ان كنت تعرفه- روى ان الضحاك بن مزاحم سئل عن قوله إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ما كان إحسانه- قال كان إذا مرض انسان فى السجن عاده و قام عليه- و إذا ضاق عليه المجلس وسّع له- و إذا احتاج جمع له شيئا- و كان مع هذا يجتهد فى العبادة و يقوم الليل كله للصلوة- و قيل انه لما دخل السجن وجد فيه قوما اشتد بلاؤهم و انقطع رجاؤهم و طال حزنهم- فجعل يسلّيهم و يقول ابشروا و اصبروا تؤجروا- فيقولون بارك اللّه فيك يا فتى ما احسن وجهك و خلقك و حديثك لقد بورك لنا فى جوارك فمن أنت يا فتى- قال انا يوسف بن صفى اللّه يعقوب بن ذبيح اللّه إسحاق بن ابراهيم خليل اللّه- فقال له عامل السجن بافتى و اللّه لو استطعت لخليت سبيلك و لكن ساحسن جوارك تمكّن فى اى بيوت السجن شئت- و روى ان الفتيين «١» لما رايا يوسف قالا له لقد احببناك حين رايناك- فقال لهما يوسف أنشدكما باللّه ان لا تحبانى- فو اللّه ما أحبني أحد قط الا دخل علىّ من حبه بلاء- فقد احبّتنى عمتى فدخل علىّ بلاء- ثم احبّنى ابى فالقيت فى الجب- و احبّتنى امراة العزيز فحبست- فلما قصّا عليه الرؤيا كره يوسف ان يعبر لهما ما سالاه لما علم فى ذلك من المكروه على أحدهما- فاعرض عن سوالهما و أخذ فى غيره من اظهار المعجزة و الدعاء الى التوحيد. (١) فى الأصل ان الفتيان. ٣٧ قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ «٢» قيل أراد به ترزقانه فى النوم يقول لا يأتيكما طعام ترزقانه فى نومكما إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ فى اليقظة قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما تأويله- و قيل أراد انه لا يأتيكما طعام من منازلكما ترزقانه فى اليقظة اى تطعمانه (٢) فى الأصل فقال يكن الفاء ليست من القران بل هى من التفسير ١٢ ابو محمّد. و تأكلانه- الا نبأتكما بتأويله بقدره و لونه و الوقت الّذي يصل اليكما قبل ان يصل اليكما- و اىّ طعام أكلتم و متى أكلتم- و هذا معجزة مثل معجزة عيسى عليه السلام حيث قال وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ- فقالا هذا فعل العرافين و الكهنة فمن اين لك هذا العلم فقال ما انا بكاهن و انما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي قرا نافع و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها- يعنى علّمنى ربى بالوحى القطعي المنزل من السماء- و قيل معنى الاية لا يأتيكما طعام يعنى من منازلكما الا نبأتكما بتأويل ما قصصتما علىّ من الرؤيا ذلكما اى التأويل مما علمنى ربى بالإلهام و الوحى- و ليس من قبيل التكهن و التنجم قال البيضاوي أراد يوسف عليه السلام ان يدعوهما الى التوحيد و يرشدهما الطريق القويم قبل ان يجيب ما سالا عنه- كما هو طريقة الأنبياء و النازلين منازلهم من العلماء فى الهداية و الإرشاد- فقدّم ما يكون معجزة له من الاخبار بالغيب ليدلهما على صدقه فى الدعوة و التعبير إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) تعليل لما قبله اى علّمنى ذلك لانى تركت ملة المبطلين و تكرار كلمة هم للدلالة على اختصاصهم و تأكيد كفرهم بالاخرة. ٣٨ وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ و جاز ان يكون قوله إِنِّي تَرَكْتُ الى آخره كلاما مبتدا- لتمهيد الدعوة و اظهار انه من بيت النبوة ليقوى رغبتهما فى الاستماع اليه و الوثوق عليه- و من هاهنا يظهران العالم إذا جهلت منزلته فى العلم فاراد ان ينشر علمه جاز له ان بصف نفسه حتّى يعرف الناس قدره فيقتبسون منه- و ليس هذا من باب تزكية النفس انما الأعمال بالنيات و الأنبياء كانوا مأمورين بذلك- قال اللّه تعالى وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ- فويل للذين يطعنون على اولياء اللّه تعالى (مثل المجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه حيث ذكروا ترقياتهم و مدارج قربهم من اللّه تعالى و ما أفضل اللّه تعالى عليهم) حسدا و جهلا ما كانَ لَنا معشر الأنبياء اى ما صح و لا أمكن لنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللّه مِنْ شَيْ ءٍ اىّ شي ء كان فان اللّه تعالى قد خلقنا على جبلة التوحيد و عصمنا من الشرك ذلِكَ التوحيد و العلم مِنْ فَضْلِ اللّه عَلَيْنا بالوحى وَ عَلَى سائر النَّاسِ ببعثتنا لارشادهم و تثبيتهم عليه وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المبعوث إليهم لا يَشْكُرُونَ (٣٨) على هذه النعمة و يعرضون عنه و لا ينتبهون- او من فضل اللّه علينا و عليهم بنصب الدلائل و إنزال الآيات و لكن أكثرهم لا ينظرون إليها و لا يستدلون بها- فيلغونها كمن يكفر النعمة و لا يشكرها- ثم دعاهم الى الإسلام فقال. ٣٩ يا صاحِبَيِ السِّجْنِ اى ساكنى السجن او صاحبىّ فيه فاضافتهما اليه مجاز مثل يا سارق الليلة أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ شتى متعددة متساوية الاقدام فى الإمكان و العجز سواء كانت أصناما من ذهب او فضة او حديد او حجر- او غيرها من الملائكة و البشر خَيْرٌ من اللّه أَمِ اللّه الْواحِدُ المتوحد فى جلال ذاته و كمال صفاته لا يماثله شي ء فى الذات و لا فى الصفات و لا فى الافعال الْقَهَّارُ (٣٩) الغالب الّذي لا يعاد له و لا يقاومه غيره خير من غيره ثم بين بطلان الأصنام و غيرها فقال. ٤٠ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ اى من دون اللّه خاطب الاثنين بلفظ الجمع لانه أراد كل من كان مثلهما فى الشرك إِلَّا أَسْماءً اى مسميات خالية عن معنى الالوهية سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ الهة و أربابا- او المعنى ما تعبدون شيئا الا اسماء سميتوها لا تحقق لها فى الواقع تزعمونها حالّة فى الأصنام او مجردة ما أَنْزَلَ اللّه بِها مِنْ سُلْطانٍ اى لم يجعل اللّه سبحانه دليلا على وجودها- او حجة و برهانا على استحقاقها للعبادة- كما نصب اللّه تعالى دلائل على وجود نفسه و براهين على استحقاقه للعبادة و آيات انزل على رسله و أنبيائه إِنِ الْحُكْمُ فى العبادة إِلَّا للّه لانه المستحق لها بالذات من حيث انه الواجب لذاته الموجد لغيره المنعم على الإطلاق المالك القاهر الضار النافع فلو جاز عبادة غيره لجاز بامره و قد أَمَرَ على لسان أنبيائه أَلَّا تَعْبُدُوا شيئا إِلَّا إِيَّاهُ حيث دلت عليه الحجج و البينات ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ اى الثابت الّذي دلت عليه البراهين وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠) لا يميّزون الحق من الباطل فيخبطون فى جهالتهم- قال البيضاوي هذا من التدرج فى الدعوة و الزام الحجة- بيّن لهم اولا رجحان التوحيد على اتخاذ الالهة على طريق الخطاب- ثم برهن على ان ما يسمونها الهة و يعبدونها لا تستحق العبادة فان استحقاق العبادة اما بالذات و اما بالغير و كلا القسمين منتف عنها- ثم نص على ما هو الحق القويم و الدين المستقيم الّذي لا يقتضى العقل غيره و لا يرتضى العلم دونه- ثم فسر رؤياهما بقوله. ٤١ يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما و هو صاحب الشراب فَيَسْقِي رَبَّهُ يعنى الملك خَمْراً و العناقيد الثلاثة ثلاثة ايام يبقى فى السجن ثم يدعوه الملك بعد ثلاثة ايام و يرده الى منزلته الّتي كان عليها وَ أَمَّا الْآخَرُ يعنى الخباز فَيُصْلَبُ بعد ثلاثة ايام و السلال الثلاث ثلاثة ايام يبقى فى السجن ثم يخرجه فيصلبه فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قلت و لعل ذلك لاجل ما راى و جرب ان الخبّاز جعل الطعام مسموما دون الساقي كما مر فى القصة- قال ابن مسعود رضى اللّه عنه لما سمعا قول يوسف عليه السلام قالا ما راينا شيئا انما كنا نلعب- فقال يوسف عليه السلام قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) يعنى جرى قضاء اللّه سبحانه فى الأمر الّذي تستفتيان فيه- يعنى فى ما يؤل اليه امر كما- كما قلت و أخبرتكما به رايتما او لم تريا- وحد الضمير لانهما و ان استفتيا فى أمرين لكنهما أرادا ظهور عاقبة ما ينزل بهما-. ٤٢ وَ قالَ يوسف عند ذلك لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا المراد بالظن اليقين ان كان الضمير راجعا الى يوسف - لكونه على اليقين يدل عليه قوله قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ- و جاز ان يكون الضمير راجعا الى الموصول و هو الساقي اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ يعنى عند الملك و قل له ان فى السجن غلاما محبوسا ظلما وصفه كذا كى يخلصنى فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ اى انسى الشيطان الساقىّ ان يذكر حال يوسف لربه اى للملك- أضاف اليه المصدر للملابسة له- او على تقدير ذكر اخبار ربه- و قال ابن عباس و اكثر المفسرين معنى الاية انسى الشيطان يوسف ذكر ربه- حتّى ابتغى الفرج من غيره و استعان بمخلوق- و تلك غفلة عرضت ليوسف من الشيطان- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رحم اللّه أخي يوسف لو لم يقل اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ما لبث فى السجن طول ما لبث- رواه ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابن مردوية فَلَبِثَ مكث يوسف فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢) قال قتادة هو ما بين الثلاث الى التسع من البضع و هو القطع- و قال مجاهد ما بين الثلاث الى السبع- و اكثر المفسرين على انه لبث فى السجن سبع سنين- قال وهب أصاب أيوب البلاء سبع سنين و ترك يوسف فى السجن سبع سنين- قال الكلبي لبث خمس سنين قبل ذلك و سبعا بعد قوله اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فكل ذلك اثنتا عشرة سنة- قلت قوله تعالى دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ تدل على معية دخولهما دخوله لما ذكرنا- و إذا كان لبث الفتيين فى السجن ثلاثة ايام فلا يتصور لبث يوسف خمس سنة قبل ذلك القول و اللّه اعلم- قال مالك بن دينار لما قال يوسف للساقى اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ- قيل له يا يوسف اتخذت من دونى وكيلا لاطيلن حبسك- فبكى يوسف و قال يا رب انسى قلبى كثرة البلوى فقلت كلمة و لا أعود- و قال الحسن دخل جبرئيل على يوسف فى السجن فلما راه يوسف عرفه فقال له يا أخا المنذرين ما لى أراك بين الخاطئين- فقال له جبرئيل يا طاهر بن الطاهرين يقرا عليك السلام رب العالمين و يقول لك اما استحييت منى ان استشفعت بالآدميين فوعزتى لالبثنّك فى السجن بضع سنين- قال يوسف و هو فى ذلك عنى راض قال نعم قال إذا لا أبالي- و قال كعب قال جبرئيل ليوسف ان اللّه يقول من خلقك قال اللّه- قال فمن حببك الى أبيك قال اللّه- قال فمن انجاك من كرب البئر قال اللّه- قال فمن علمك تأويل الرؤيا قال اللّه- قال فمن صرف عنك السوء و الفحشاء قال اللّه- قال فكيف استشفعت بادمى مثلك انتهى- و سيأتى فى حديث ابن عباس عند الطبراني قوله صلى اللّه عليه و سلم و لو لا كلمة يعنى من يوسف لما لبث فى السجن حيث يبتغى الفرج من عند غير اللّه عز و جل- فلما انقضت سبع سنين و دنا فرج يوسف راى ملك مصر الأكبر و هو ديان بن وليد عجيبة هالته و ذلك انه راى سبع بقرات خرجن من البحر ثم خرج عقبهن سبع بقرات عجاف فى غاية الهزال فابتعلت العجاف السّمان- فدخلن فى بطونهن و لم ير منهن شيئا و لم يتبين على العجاف منها شي ء- ثم راى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها و سبعا اخر يابسات قد استحصدت فالتوت اليابسات على الخضر حتّى غلبن عليها و لم يبق من خضرتها شي ء- فجمع السحرة و الكهنة و الحازة و المعبرين و قصّ عليهم رؤياه كما قال اللّه تعالى. ٤٣ وَ قالَ الْمَلِكُ إِنِّي را نافع و ابن كثير و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ استغنى عن بيان حالها بما ذكر من حال البقرات و اجرى السمان على التميز دون المميز لان التميز بها- و وصف السبع الثاني بالعجاف لتعذر التميز بها مجردا عن الموصوف- فانه لبيان الجنس و قياسه عجف لانه جمع عجفاء لكنه حمل على سمان لانه نقيضه يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) اى ان كنتم عالمين بعبارة الرؤيا و هى الانتقال من الصور المثالية الى المعاني النفسانية الّتي هى صورها فى عالم المثال- من العبور و هو المجاوزة- و عبرت الرؤيا عبارة اثبت من عبرتها تعبيرا- و اللام للبيان او لتقوية العامل فان الفعل لما اخر عن مفعوله ضعف عمله- فقوى باللام كاسم الفاعل او لتضمين تعبرون معنى فعل تعدى باللام كانه قيل ان كنتم تبذلون لعبارة الرؤيا- او يكون للرؤيا خبر كنتم كقولك فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلا به متمكنا منه و تعبرون خبر اخر او حال- و مفعول تعبرون محذوف لدلالة ما قبله عليه. ٤٤ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ اى هذه أضغاث أحلام- و هى تخاليطها جمع ضغث و هو فى الأصل الخرمة من انواع حشيش فاستعير للرؤيا الكاذبة- و انما جمعوا للمبالغة فى وصف الحلم بالبطلان كقولهم فلان يركب الخيل- او لتضمنه أشياء مختلفة- و الحلم الرؤيا و الفعل منه بفتح العين فى الماضي و ضمها فى الغابر من باب نصر وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) أراد بالأحلام المنامات الباطلة خاصة اى ليس لها تأويل عندنا و انما التأويل للمنامات الصادقة كانه مقدمة ثانية للعذر فى جهلهم بتأويله-. ٤٥ وَ قالَ الَّذِي نَجا من السجن و القتل مِنْهُما من صاحبى السجن و هو الساقي وَ ادَّكَرَ أصله ادتكر أبدلت التاء دالا ثم أدغمت- يعنى تذكر الساقي يوسف و قوله اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ بعد امّة اى بعد جماعة من الزمان اى مدة طويلة و هى سبع سنين و الجملة معترضة و مفعول القول أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ قال البغوي ان الساقي جثى بين يدى الملك و قال ان فى السجن رجلا يعبر الرؤيا فَأَرْسِلُونِ (٤٥) اليه فى السجن فارسله الملك الى يوسف- فاتى السجن قال ابن عباس و لم يكن السجن فى المدينة فلما اتى الساقي عند يوسف قال. ٤٦ يُوسُفُ اى يا يوسف أَيُّهَا الصِّدِّيقُ اى المبالغ فى الصدق وصفه به لما جرّب و عرف صدقه فى تأويل رؤياه و رؤيا صاحبه أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ اى فى ذلك الرؤيا فان الملك راى هذه الرؤيا و أرسلني إليك لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ اى أعود الى الملك و من عنده بتأويل رؤيا الملك- و انما أورد كلمة لعل و لم يبتّ الكلام فيها لان الناس لما عجزوا عن تأويل الرؤيا (و كان الملك هائلا من تلك الرؤيا) استعظم شأن تأويله عنده و لم يقطع بحصول مقصوده لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) فضلك و منزلتك فى العلم- أورد كلمة لعلّ لان الناس قد لا يتنبّهون بفضل اهل الفضل لكمال غفلتهم- كما لم يتنبه العزيز بفضل يوسف بعد ما راى من الآيات-. ٤٧ قالَ له يوسف اما البقرات السمان و السنبلات الخضر فسبع سنين مخاصيب و البقرات العجاف و السنبلات اليابسات فالسنون المجدبة تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً و الداب العادة و نصبه على الحال بمعنى دائبين اى على عادتكم- او على المصدرية بإضمار فعله اى تدأبون دأبا- و تكون الجملة حالا و قيل معناه بجد و اجتهاد قرا حفص دابا بفتح الهمزة و الباقون بإسكانها و هما لغتان- و قيل تزرعون امر أخرجه فى صورة الخبر مبالغة فى النصح لقوله تعالى فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ لئلا تأكله السوس و هذه الجملة على الاول نصيحة خارجة عن العبارة إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) فى تلك السنين. ٤٨ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ سمى السنين المجدبة شدادا لشدتها على الناس يَأْكُلْنَ اى يأكل أهلهن أسند الاكل إليهن على المجاز تطبيقا للتعبير بالرؤيا ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ اى ما ادخرتم لاجلهن إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) اى تحرزون لبذور الزراعة. ٤٩ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ اى يمطرون من الغيث و هو المطر- او يغاثون من القحط من الغوث وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩) قرا حمزة و الكسائي بالتاء الفوقانية على الخطاب لان الكلام كله على الخطاب و الباقون بالياء التحتانية على ان الضمير راجع الى الناس و معناه يعصرون العنب و الزيتون و السمسم و نحو ذلك أراد به خصب السنة و كثرة نعيمها- قال ابو عبيدة تعصرون اى تنجون من الكرب و الجدب- و العصر المنجأ و الملجا- و هذه بشارة بشّرهم بها بعد ان اوّل البقرات السمان و السنبلات الخضر بسنين مخصبة و العجاف و اليابسات بسنين مجدبة- و ابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع فى السنين المخصبة و انما علم ذلك بعدد السبع العجاف- فانه لو لا يأتى بعد ذلك سنة مخصبة لزاد عدد السنين المجدبة على السبع- و قال البيضاوي لعله علم ذلك بالوحى- او بان السّنّة الالهية على ان يوسع على عباده بعد ما يضيق عليهم و اللّه اعلم-. ٥٠ وَ قالَ الْمَلِكُ لما رجع اليه الساقي بتأويل رؤياه و أخبره بما أفتاه يوسف- و علم الملك فضل يوسف و ان الّذي قاله كائن ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ يعنى يوسف الرَّسُولُ للملك و قال له أجب الملك ابى يوسف ان يخرج معه حتّى يظهر براءته من تهمة الفسق و قالَ للرسول ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ يعنى الى الملك فَسْئَلْهُ ان يسئل ما بالُ يعنى اىّ حال النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ فيه دليل على انه ينبغى ان يجتهد الرجل فى نفى التهمة عن نفسه- لا سيما من كان ممن يقتدى به- و لم يصرح بذكر امراة العزيز أدبا و احتراما لها- اخرج إسحاق بن راهويه فى مسنده و الطبراني فى معجمه و ابن مردوية من حديث ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم عجبت لصبر أخي يوسف و كرمه و اللّه يغفر له حيث أرسل اليه ليستفتى فى الرؤيا- و لو كنت انا لم افعل حتّى اخرج و عجبت لصبره و كرمه و اللّه يغفر له اتى ليخرج فلم يخرج حتّى أخبرهم بعذره- و لو كنت انا لبادرت الباب- و لو لا الكلمة لما لبث فى السجن حيث يبتغى الفرج من عند غير اللّه عز و جل- و رواه عبد الرزاق و ابن جرير فى تفسيرهما من حديث عكرمة مرسلا ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لقد عجبت من يوسف و كرمه و صبره اللّه يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف و السمان- و لو كنت مكانه ما أخبرتهم حتّى اشترطت ان يخرجونّى- و لقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ- و لو كنت مكانه و لبثت فى السجن ما لبث لا سرعت الاجابة و بادرتهم الباب- و لما ابتغيت العذر إن كان لحليما ذا اناءة- و اصل الحديث فى الصحيحين مختصرا فائدة تعجبه صلى اللّه عليه و سلم من حال يوسف و قوله صلى اللّه عليه و سلم لا سرعت الاجابة- مبنى على كمال نزوله صلى اللّه عليه و سلم الّذي هو مدار شيوع دينه و قوة تأثيره فى الناس و تكميله- و قد حقق ذلك المجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه فى مكاتيبه- و هذا امر لا يدركه فهم اكثر اهل الكمال فضلا عن غيرهم إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) حين قلن لى أطع مولاتك او أردن مراودتى عن نفسى لانفسهن- فيه تعظيم لكيدهن و استشهاد بعلم اللّه تعالى عليه- و على انه برئ مما اتهمنه و وعيد لهن فى كيدهن- فرجع الرسول الى الملك من عند يوسف برسالته فدعا الملك النسوة و امراة العزيز. ٥١ قالَ لهن ما خَطْبُكُنَّ ما شأنكن و الخطب امر يحق ان يخاطب به صاحبه- اما خاطبهن جميعا لانهن راودنه جميعا عن نفسه لهن- او لانهن قلن أطع مولاتك- و اما خاطبهن و المراد امراة العزيز فحسب إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ هل وجدتن منه ميلا الى إحداكن قُلْنَ حاشَ للّه مر اختلاف القراء فيه فيما سبق- اى تنزيه له تعالى و تعجب من قدرته على خلق عفيف مثله ما عَلِمْنا عَلَيْهِ اى على يوسف مِنْ سُوءٍ من ذنب و خيانة- قيل ان النسوة اقبلن على امراة العزيز فعزرنها- و قيل خافت امراة العزيز ان يشهدن عليها فاقرت على نفسها و قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ اى ظهر و تبين من حصحص شعره إذا استأصله بحيث يظهر بشرة رأسه- او ثبت و استقر من حصحص البعير إذا القى مباركه ليناخ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) فى قوله هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي- فلما سمع يوسف ذلك قال. ٥٢ ذلِكَ الّذي فعلت من رد الرسول الى الملك كان لِيَعْلَمَ العزيز أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ فى زوجته بِالْغَيْبِ اى بظهر الغيب و هو حال من الفاعل او المفعول- اى لم اخنه و انا غائب عنه او هو غائب عنى- او ظرف اى بمكان الغيب وراء الأستار و الأبواب المغلقة وَ أَنَّ اللّه لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) اى لا ينفذه و لا يسدده بل يظهر الحق و لو بعد حين- او لا يهدى الخائنين بكيدهم- فاوقع الفعل على الكيد مبالغة- و فى هذا القول تعريض بزليخا فى خيانتها زوجها و تأكيد لامانته- و لذلك عقبه بقوله-. ٥٣ وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي فتح الياء نافع و ابو عمرو و ابو جعفر- ابو محمّد و أسكنها الباقون- تنبيها على انه لم يرد بذلك تزكية النفس و العجب بحاله- بل اظهار ما أنعم اللّه عليه من العصمة و التوفيق و ترغيب الناس الى الاقتداء به و الاقتفاء بآثاره- احرج ابن مردوية من حديث انس مرفوعا انه لما قال يوسف لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال له جبرئيل و لا حين هممت- فقال ذلك و ذكره البيضاوي عن ابن عباس موقوفا إِنَّ النَّفْسَ يعنى ان النفس الحيواني المنبعث من العناصر الاربعة- الّتي هى مركب للقلب و الروح و غيرهما من لطائف عالم الأمر- الّتي مقرها فوق العرش لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ من حيث انها بالطبع مائلة الى الشهوات و الرذائل الّتي هى من خصائص العناصر الاربعة- كالغضب و الكبر الذين هما مقتضى عنصر النار- و الدناءة و الخسة مقتضى الأرض- و التلون و قلة الصبر مقتضى الماء- و الهزل و اللّهو مقتضى الهواء إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي فتح الياء نافع و ابو عمرو و أسكنها الباقون يعنى الّا من رحم ربّى فما بمعنى من كما فى قوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ فعصمه فلا يطيع نفسه و يجاهدها و لاجل ذلك المجاهدة يدرك افضلية على الملائكة- او المعنى الا وقت رحمة ربى- و ما مصدرية يعنى إذا أدرك الإنسان رحمة الرّحمن بالاجتباء او بالانابة الى الأنبياء- فحينئذ يتزكى نفسه بتزكية من اللّه تعالى قال اللّه تعالى فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ... بَلِ «١» اللّه يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ- و تطمئن بمرضات اللّه و يخاطب بقوله تعالى ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي الصالحين- و حينئذ يبدل اللّه سيئاتها حسنات و يجعلها اماما لسائر اللطائف فى الخيرات و تستعد لتجليات الصفات ما لا يستعد لها لطائف عالم الأمر- و قيل الاستثناء منقطع اى لكن رحمة ربى هى الّتي تصرف الاساءة و يبدلها بالاصابة- و قيل الآيتان «٢» حكاية عن قول زليخا و المستثنى نفس يوسف و أمثاله و المعنى ان ذلك الّذي قلت من براءة يوسف ليعلم يوسف أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ اى لم أكذب عليه فى حال الغيبة- و جئت بالصدق فيما سئلت عنه- وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي من الخيانة فانى قد خنسته حين قذفته و قلت ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ و أودعته السجن- تريد الاعتذار مما كان منها بان كل نفس لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ الّا من رحم ربّى (١) و فى القرآن فى النساء أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللّه يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ و فى النجم فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى -. (٢) فى الأصل ايتين-. كنفس يوسف و أمثاله- رحمه اللّه بالعصمة- قرا قالون و البزي بالسّوّ على قلب الهمزة واوا ثم الإدغام فى حال الوصل و تحقيق همزة الّا- و ورش و قنبل على أصلهما فى الهمزتين المكسورتين و ابو عمرو ايضا على أصله- و الباقون على أصولهم إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣) يغفر همّ النفس و خطراتها و يرحم من يشاء بالعصمة- او يغفر المستغفر لذنبه المعترف على نفسه و يرحمه ما استغفره و استرحمه-. ٥٤ وَ قالَ الْمَلِكُ لما تبين له عذر يوسف و عرف منزلته من الامانة و العلم ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي اى اجعله خالصا لنفسى- فجاء الرسول يوسف فقال له أجب الملك الان- اخرج عبد الحكم فى فتوح مصر من طريق الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس فاتاه الرسول فقال له الق عنك ثياب السجن و البس ثيابا جددا و قم الى الملك- و اخرج ابن ابى شيبة و ابن المنذر عن فريد العمى قال لما راى يوسف عزيز مصر قال اللّهم انى أسئلك بخيرك من خيره و أعود بعزتك من شره- قال البغوي روى انه قام و دعا لاهل السجن و قال اعطف عليهم قلوب الأخيار و لا تعم عليهم الاخبار- فهم اعلم الناس بالأخبار فى كل بلد- فلما خرج من السجن كتب على باب السجن هذا قبور الاحياء و بيت الأحزان و تجربة الأصدقاء و شماتة الأعداء- و تنظّف من درن السجن و لبس ثيابا حسانا و قصد الملك- قال وهب فلما وقف بباب الملك قال حسبى ربى من دنياى و حسبى ربى من خلقه عز جاره و جل ثناؤه و لا اله غيره- ثم دخل الدار فلما دخل على الملك قال اللّهم أسئلك بخيرك من خيره و أعوذ بك من شره و شر غيره- فلما نظر اليه الملك سلم عليه يوسف بالعربية فقال الملك ما هذا اللسان قال لسان عمى إسماعيل - ثم دعا له بالعبرانية فقال ما هذا اللسان قال لسان ابائى و لم يعرف الملك هذين اللسانين قال وهب و كان الملك يتكلم بسبعين لسانا- فكلّما كلم بلسان اجابه يوسف بذلك اللسان و زاد لسان العبرانية و العربية- فاعجب الملك ما راى منه مع حداثة سنه و كان يوسف حينئذ ابن ثلاثين سنة فاجلسه فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ اى ذو مكانة فى ألحاه و المنزلة أَمِينٌ (٥٤) مؤتمن على كل شي ء- قال البغوي روى ان الملك قال له انى أحب ان اسمع رؤياى منك شفاها- فقال يوسف نعم ايها الملك- رايت سبع بقرات شهب غر حسان كشف لك عنهن النيل- فطلعن عليك من شاطئته لشخب اخلافهن لبنا- فخرج من حماته سبع بقرات عجاف شعث غير مقلّصات البطون ليس لهن ضروع و لا اخلاف- و لهن أنياب و اضراس و اكف كاكف الكلاب و خراطيم كخراطيم السباع- فافترسن السمان افتراس السباع فاكلن لحومهن و مزقن جلودهن و حطمن عظامهن و تمششن مخهن- فبينا أنت تنظر و تتعجب إذا سبع سنابل خضر و سبع اخر سود فى منبت واحد و عروقهن فى الثرى و الماء- فبينا أنت تقول فى نفسك انّى هذا هؤلاء خضر مثمرات و هؤلاء سود يابسات و المنبت واحد و أصولهن فى الماء- إذ هبّت ريح فذرت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات- فاشتعلت فيهن النار فاحرقتهن فصرن سودا- فهذا ما رايت فانتبهت من نومك مذعورا- فقال الملك و اللّه ما شأن هذه الرؤيا (و ان كانت عجيبا) بأعجب مما سمعت منك- فما ترى فى رؤياى ايها الصديق فقال يوسف ارى ان تجمع الطعام و تزرع زرعا كثيرا فى هذه السنين المخصبة- و تجعل الطعام فى الخزائن بقصبه و سنبله- ليكون القصب و السنبل علفا للدواب- و تأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخمس- فيكفيك من الطعام الّذي جعلته لاهل مصر و من حولها- و يأتيك الخلق من النواحي للميزة- و يجتمع عندك من الكنوز ما لم «١» يجتمع لاحد قبلك- فقال الملك و من لى بهذا و من يجمعه و يبيعه و يكفينى الشغل فيه-. (١) فى الأصل لا يجتمع-. ٥٥ قالَ يوسف اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ اى خزائن طعام ارض مصر و أموالها إِنِّي حَفِيظٌ للخزائن بما لا يستحقها عَلِيمٌ (٥٥) بوجوه مصالحها- وصف يوسف عليه السلام نفسه بالامانة و الكفاية و طلب الولاية- ليتوصل بها الى إمضاء احكام اللّه و اقامة الحق و بسط العدل مما يبعث لاجله الأنبياء الى العباد- لعلمه ان أحدا غيره لا يقوم مقامه فى ذلك- فما كان طلبه الولاية الا لابتغاء وجه اللّه لا لحب الجاه و الدنيا- و من هذا القبيل اشتغال «٢» الخلفاء الراشدين بامر الخلافة- و معارضة علىّ رضى اللّه عنه معاوية فى هذا الأمر- لكونه أحق و أقوى و اقدر على نفسه و أقوم على إنفاذ الشرائع- و قال البيضاوي لعل يوسف عليه السلام لمّا راى ان يستعمله الملكفى امر لا محالة اثر ما يعم فوائده و يجل عوائده- و فيه دليل على جواز طلب الولاية و القضاء- و اظهار انه مستعد لها (٢) فى الأصل خلفاء الراشدين. ان كان أمنا على نفسه- و على جواز ان يتولى الإنسان عملا من يد سلطان جائر او كافر- إذا علم انه لا سبيل الى اقامة الحق و سياسية الخلق الا بتمكين ذلك الكافر او الجائر- و قد كان السلف من هذه الامة يتولون القضاء من جهة الظلمة- و قيل كان الملك يصدر عن رايه و لا يعترض فى كل ما راى فكان فى حكم التابع له- روى البغوي بسنده عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رحم اللّه أخي يوسف لو لم يقل اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ لاستعمله من ساعته- و لكنه اخر ذلك السنة فاقام فى بيته سنة مع الملك- و بإسناده عن ابن عباس قال لما انصرمت السنة من يوم سال الامارة- دعاه الملك فتوجّه و ردّاه بسيفه- و وضع له السرير من ذهب مكلّلا بالدر و الياقوت- و ضرب عليه كلة من إستبرق- و طول السرير ثلاثون ذراعا و عرضه عشرة اذرع- عليه ثلاثون فراشا و ستون مقرمة- ثم امره ان يخرج فخرج متوّجا لونه كالثلج و وجهه كالقمر يرى الناظر وجهه فى صفاء لون وجهه- فانطلق حتّى جلس على السير و دانت له الملوك- و دخل الملك بيته و فوض اليه امر مصر- و عزل قطفير عما كان عليه و جعل يوسف مكانه قاله ابن إسحاق- و قال ابن زيد و كان لملك مصر ريان خزائن كثيرة فسلم سلطانه كله اليه- و جعل امره و قضاءه نافذا- و اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم عن ابن إسحاق قال ذكروا ان قطفير هلك فى تلك الليالى- فزوج الملك يوسف زليخا امراة قطفير- فلما دخل عليها قال أ ليس هذا خيرا مما كنت تريدين- فقالت ايها الصديق لا تلمنى فانى كنت امراة كما ترى حسنا و جمالا- ناعمة كما ترى فى ملك و دنيا- و كان صاحبى لا يأتى النساء- و كنت كما جعلك اللّه فى حسنك و هيئتك- فغلبتنى نفسى على ما رايت- فزعموا انه وجدها يوسف عذراء- فاصابها فولدت له رجلين افرائيم- و ميثا- و استوثق ليوسف ملك مصر و اقام فيهم و أحبه الرجال و النساء فذلك قوله عز و جل. ٥٦ وَ كَذلِكَ اى مثل ذلك التمكين فى مجلس الملك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ارض مصر يَتَبَوَّأُ مِنْها اى ينزل من بلادها حَيْثُ يَشاءُ قرا ابن كثير بالنون على التكلم و الباقون بالياء على الغيبة ردّا الى يوسف نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا اى بنعمتنا مَنْ نَشاءُ فى الدنيا و الاخرة وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) بل نوفى أجورهم عاجلا و أجلا- قال ابن عباس رضى اللّه عنهما و وهب يعنى الصابرين- قال مجاهد و غيره فلم يزل يدعو الملك الى الإسلام و يتلطف له حتّى اسلم الملك و كثير من الناس فهذا فى الدنيا. ٥٧ وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ اى ثوابها خَيْرٌ من نعماء الدنيا لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (٥٧) و لما اطمان يوسف فى ملكه دبّر فى جمع الطعام و احسن التدبير- و بنى الحصون و البيوت الكثيرة و جمع فيها الطعام للسنين المجدبة- و أنفق بالمعروف حتّى خلت السنون المخصبة و دخلت السنون المجدبة بهول لم يعهد مثله- و روى انه كان قد دبر فى طعام الملك و حاشيته كل يوم مرة واحدة نصف النهار- فلما دخلت سنة القحط كان أول من اخذه الجوع هو الملك فى نصف الليل- فنادى يا يوسف الجوع الجوع- قال يوسف هذا أوان القحط- ففى السنة الاولى من سنى الجدب هلك كل شي ء أعدوه فى السنين المخصبة- فجعل اهل مصر يبتاعون من يوسف الطعام- فباعهم أول سنة بالنقود حتّى لم يبق بمصر دينار و لا درهم الا قبضه- و باعهم فى السنة الثانية بالحلى و الجواهر حتّى لم يبق فى أيد الناس منها شي ء- و باعهم فى السنة الثالثة بالمواشي و الدواب حتّى احتوى عليها اجمع- و باعهم فى السنة الرابعة بالعبيد و الإماء حتّى لم يبق بيد أحد عبد و لا امة- و باعهم فى السنة الخامسة بالضياع و العقار و الدور حتّى احتوى عليها- و باعهم فى السنة السادسة باولادهم حتّى استرقهم- و باعهم فى السنة السابعة برقابهم حتّى لم يبق بمصر حر و لا حرة إلا صار عبدا له- (قلت ان صح هذه الرواية لدلت على ان بيع الرجل نفسه و أولاده كان جائزا فى شريعة يوسف - كما كان استرقاق السارق جائزا- و قد افتى بعض العلماء فى القحط ببيع الحر نفسه و ولده- و لا اصل لهذا القول فى شريعتنا و اللّه اعلم) فقال الناس ما راينا كاليوم ملكا أجل و أعظم من هذا- ثم قال يوسف للملك كيف رايت صنع ربى فيما خولنى فما ترى- قال الملك الرأى رأيك و نحن لك تبع- قال فانى اشهد اللّه و أشهدك انى قد اعتقت اهل مصر عن آخرهم- و رددت عليهم املاكهم- و روى ان يوسف عليه السلام كان لا يشبع من الطعام فى تلك الأيام- فقيل له تجوع و بيدك خزائن الأرض- قال أخاف ان شبعت ان انسى الجائع- و امر يوسف طباخى الملك ان يجعلوا غداه نصف النهار- و أراد بذلك ان يذوق الملك طعم الجوع و لا ينسى الجائعين- فمن ثم جعل الملوك غداهم نصف النهار- قال و قصد الناس مصر من كل أوب يمتارون- فجعل يوسف لا يمكّن أحدا منهم و ان كان عظيما اكثر من حمل بعير- تقسيطا بين الناس و تزاحم الناس عليه- و أصاب ارض كنعان و بلاد الشام ما أصاب سائر البلاد من القحط و الشدة- و نزل بيعقوب عليه السلام ما نزل بالناس- و كان منزله بالغرمات من ارض فلسطين ثغور الشام و كانوا اهل بادية وابل و شياه فارسل بنيه الى مصر للميرة و قال بلغني ان بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فتجهزوا و اذهبوا لتشتروا منه الطعام و امسك عنده بنيامين أخا يوسف شقيقه. ٥٨ وَ جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ العشرة فَدَخَلُوا عَلَيْهِ اى على يوسف عليه السلام فَعَرَفَهُمْ يوسف قال ابن عباس و مجاهد عرفهم باول ما نظر إليهم- و قال الحسن لم يعرفهم حتّى تعرفوا اليه وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) اى لم يعرفوه قال ابن عباس و كان بين ان قذفوه فى البئر و بين ان دخلوا عليه أربعون سنة فلذلك أنكروه- و قال عطاء انما لم يعرفوه لانه كان على سرير الملك و على رأسه تاج الملك- و قيل لانه كان بزىّ الملوك عليه ثياب حرير و فى عنقه طوق ذهب- قلت و هذا انما يتصور لو كان لبس الحرير و الذهب جائزا فى دين يوسف عليه السلام فلما نظر إليهم يوسف و كلموه بالعبرانية قال أخبروني من أنتم و ما أمركم فانى أنكرت شأنكم- قالوا قوم من ارض الشام رعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار الطعام- فقال لعلكم جئتم تنظرون عورة بلادي- قالوا لا و اللّه ما نحن بجواسيس- انما نحن اخوة بنوا اب واحد و هو شيخ صديق يقال له نبى من أنبياء اللّه عز و جل- قال و كم أنتم قالوا كنا اثنى عشر فذهب أخ لنا- هو أصغرنا الى البرية فهلك فيها- و كان أحبنا الى أبينا- قال فكم أنتم هاهنا قالوا عشرة- قال فاين الاخر- قالوا عند أبينا لانه أخ الّذي هلك من امه فابونا يتسلّى به- قال فمن يعلم ان الّذي تقولون حق و صدق- قالوا ايها الملك اننا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد- فحمد يوسف لكل رجل منهم بعيرا بعدتهم و جهز بجهازهم- اى أصلحهم بعدتهم و الجهاز ما يعد من الامتعة للنقلة. ٥٩ وَ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ ان كنتم صادقين فانا ارضى بذلك و أزيدكم حمل بعير لاجل أخيكم و أكرّم منزلتكم أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ اى اتمّه و لا ابخس الناس شيئا وَ أَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) قال مجاهد اى خير المضيفين و كان قد احسن ضيافتهم. ٦٠ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي اى ليس لكم عندى طعام أكيله لكم وَ لا تَقْرَبُونِ (٦٠) اى لا تقربونى و لا تدخلوا ديارى- و هو اما نهى و اما نفى معطوف على الجزاء. ٦١ قالُوا ان أبانا يحزن على فراقه سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ اى سنجهد فى طلبه من أبيه و نخادعه عنه وَ إِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) ما امرتنا به قال فدعوا بعضكم عندى رهينة حتّى تأتونى بأخيكم فاقترعوا بينهم فاصابت القرعة شمعون و كان أحسنهم رأيا فى يوسف فخلوه عنده. ٦٢ وَ قالَ يوسف لِفِتْيانِهِ كذا قرا حفص و حمزة و الكسائي بالألف و النون على جمع الكثرة و الباقون فتيته بالتاء من غير الف على وزن جمع القلة و هما لغتان مثل الصبيان و الصبية- اى قال لغلمانه الكيّالين اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ يعنى ثمن طعامهم و كانت دراهم- و قال الضحاك عن ابن عباس كانت النعال و الادم و قيل كانت ثمانية جرب من سويق المقل- قال البغوي و الاول أصح فِي رِحالِهِمْ اى فى أوعيتهم لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها اى يعرفون حق ردها و حق التكرم برد البدلين إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢) الى مصر قيل رد بضاعتهم كرامة و تقدما فى البر و الإحسان ليكون ادعى لهم الى العود اى لعلهم يعرفونها اى كرامتهم علينا- و قيل لما راى من اللوم فى أخذ الثمن من أبيه و اخوته مع حاجتهم اليه رد عليهم من حيث لا يعلمون تكرما- و قال الكلبي بخوف ان لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة اخرى- و قيل جعل ذلك لانه علم ان ديانتهم تحملهم على رد البضاعة نفيا للغلط و لا يستحلون إمساكها-. ٦٣ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا قدمنا خير رجل أنزلنا و أكرمنا كرامه لو كان رجلا من ال يعقوب ما أكرمنا كرامته- فقال لهم يعقوب عليه السلام إذا أتيتم ملك مصر فاقرءوا منى السلام- و قولوا ان أبانا يصلى عليك و يدعو لك بما أوليتنا- ثم قال اين شمعون قالوا ارتهنه ملك مصر و اخبروه بالقصة- فقال لهم و لم اخبرتموه- قالوا انه أخذنا و قال أنتم جواسيس حيث كلمنا بلسان العبرانية- و قصوا عليه القصة و قالوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ اى حكم بمنعه بعد هذا ان لم نذهب ببنيامين كذا قال الحسن- و قيل معناه اعطى باسم كل واحد حملا و منع منا الكيل لبنيامين- و المراد بالكيل الطعام فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا بنيامين نَكْتَلْ قرا حمزة و الكسائي بالياء على الغيبة اى يكتل بنيامين معنا- و قرا الآخرون بالنون على التكلم اى نكتل نحن و هو الطعام و يذهب المانع- و قيل معناه نكتل له وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) على ان يناله مكروه. ٦٤ قالَ أبوهم هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ يوسف مِنْ قَبْلُ هذا اى كيف امنكم عليه و قد قلتم فى يوسف إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ و فعلتم به ما فعلتم فَاللّه خَيْرٌ منكم و من كل أحد حافِظاً فاتوكل عليه و أفوض امرى اليه وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) فارجو ان يرحمنى بحفظه و لا يجمع علىّ مصيبتين- و انتصاب حفظا على التميز كذا قرا الأكثرون بلفظ المصدر و قرا حفص و حمزة و الكسائي حافظا على وزن الفاعل و هو يحتمل الحال و التميز كقولهم للّه دره فارسا. ٦٥ وَ لَمَّا فَتَحُوا اى اخوة يوسف مَتاعَهُمْ الّذي حملوه من مصر وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ اى ثمن طعامهم رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي اى هل من مزيد على ذلك أكرمنا و احسن مثوانا و باع منا ورد علينا متاعنا- او لا نطلب وراء ذلك إحسانا- او اى شي ء نطلب بالكلام فى إحسانه او لا نبغى فى القول و لا نزيد فيما حكينا لك فان من الدليل على صدقنا ما ترى فى العيان او ما نطلب منك بضاعة هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا استيناف موضح لقوله ما نبغى وَ نَمِيرُ أَهْلَنا معطوف على محذوف ان كانت ما استفهامية- اى ردت إلينا فنستظهر بها و نرجع الى الملك و نمير أهلنا- اى نشترى لهم الطعام فنحمله إليهم- يقال ما راهله يمير ميرا إذا حمل إليهم الطعام من بلد اخر و مثله امتار يمتار امتيارا- و يحتمل ان يكون هذه الجملة مع ما عطف عليه معطوفة على ما نبغى- ان كانت ما نافية اى لا نطلب فيما نقول وَ نَمِيرُ أَهْلَنا وَ نَحْفَظُ أَخانا عن المخاوف فى الذهاب و المجي ء وَ نَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ اى نزيد حمل بعير على احمالنا يكال لنا من اجله فانه كان يعطى بعدة كل رجل حمل بعير ذلِكَ اى ما حملناه كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قليل لا يكفينا و أهلنا او سهل على الملك لسخائه-. ٦٦ قالَ لهم يعقوب لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ إذ رايت منكم ما رايت حَتَّى تُؤْتُونِ قرا ابن كثير تؤتونى بإثبات الياء وصلا و وقفا- و ابو عمرو أثبتها وصلا فقط و الباقون يحذفونها فى الحالين- اى تعطونى مَوْثِقاً مِنَ اللّه اى عهدا مؤكدا باليمين باللّه او باشهاد اللّه على نفسه اتوثق به لَتَأْتُنَّنِي بِهِ جواب القسم إذ المعنى حتّى تحلفوا باللّه لتأتنّنى به إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ قال مجاهد يعنى الا ان تهلكوا جميعا- و قال قتادة الا ان تغلبوا حتّى لا تطيقوا ذلك- و هو استثناء مفرغ من أعم الأحوال اى لتأتنّنى به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم- او من أعم العلل على قوله لتأتنّنى به فى تأويل النفي اى لا تمنعون من الإتيان به لشي ء الا للاحاطة بكم- كقوله أقسمت باللّه الا فعلت اى ما اطلب الا فعلك فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ اى عهدهم قيل حلفوا باللّه رب محمّد و جهدوا أشد الجهد حتّى لم يجد يعقوب بدا من إرسال بنيامين معهم قالَ يعقوب اللّه عَلى ما نَقُولُ من طلب المواثيق و إتيانه وَكِيلٌ (٦٦) شاهد و قيل حافظ- قال كعب لما قال يعقوب فَاللّه خَيْرٌ حافِظاً قال اللّه عز و جل و عزتى لاردن عليك كليهما «١» بعد ما توكلت علىّ. (١) فى الأصل كلاهما. ٦٧ وَ قالَ يعقوب لما أراد بنوه الخروج من عنده يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ لانهم كانوا ذوى جمال و ابهة و قوة و امتداد قامة مشتهرين فى المصر بالقربة و الكرامة عند الملك- فخاف عليهم العين و قد ورد فى الحديث العين حق و قد ذكرنا ما ورد فى ذلك فى سورة نون فى تفسير قوله تعالى وَ إِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ الاية- و لعله لم يوصهم بذلك فى الكرة الاولى لانهم كانوا مجهولين حينئذ و كان الداعي اليه خوفه على بنيامين- و عن ابراهيم النخعي انه قال ذلك لانه كان يرجو ان يروا يوسف فى التفرق و الاول أصح وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللّه مِنْ شَيْ ءٍ مما قضى عليكم فان المقدر كائن عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يغنى حذر عن قدر- رواه الحاكم و رواه احمد من حديث معاذ بن جبل و رواه البزار من حديث ابى هريرة إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للّه يصيبكم لا محالة ان قضى عليكم سوءا و لا ينفعكم شي ء فوض يعقوب امره الى اللّه تعالى و قال عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ اعتمدت وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) جمع بين حرفى العطف فى عطف الجملة على الجملة- لتقدم الصلة للاختصاص- كانّ الواو للعطف و الفاء لافادة السببية فان فعل الأنبياء سبب لان يقتدى بهم غيرهم-. ٦٨ وَ لَمَّا دَخَلُوا مصر مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ اى من أبواب متفرقة قيل كانت أبواب المدينة اربعة فدخلوا من ابوابها ما كانَ يُغْنِي اى يدفع عَنْهُمْ رأى يعقوب و اتّباعهم له مِنَ اللّه اى من قضائه مِنْ شَيْ ءٍ اى شيئا مما قضى اللّه عليهم او شيئا من الإغناء حتّى أخذ بنيامين و تضاعفت المصيبة على يعقوب صدّق اللّه يعقوب فيما قال إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ استثناء منقطع اى و لكن حاجة فى نفسه يعنى شفقته عليهم من ان يعاينوا قَضاها اى أظهرها فوصى بها وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ بالوحى او نصب الحجج و لذلك قال وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللّه مِنْ شَيْ ءٍ- او لتعليمنا إياه- و قيل معناه انه لعامل بما علم- قال سفيان من لا يعمل بما يعلم لا يكون عالما- قيل انه لذو حفظ لما علمناه وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨) ما يعلم يعقوب ا و لا يعلمون القدر و انه لا يغنى عن الحذر او لا يعلمون الهام اللّه لاوليائه-. ٦٩ وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ قالوا أخونا الّذي امرتنا ان نأتيك به قد جئناك به فقال أحسنتم و أصبتم و ستجدون جزاء ذلك عندى- ثم أنزلهم فاكرم منزلهم- ثم أضافهم فاجلس كل اثنين منهم على مائدة- فبقى بنيامين وحيدا- فبكى و قال لو كان أخي يوسف حيّا لاجلسنى معه- فقال يوسف لقد بقي أخوكم هذا وحيدا فاجلسه مع نفسه على مائدته فجعل يواكله- فلما كان الليل امر لهم بمثل و قال ليم كل أخوين منكم على مثال فبقى بنيامين وحده فقال يوسف عليه السلام هذا ينام معى على فراشى- فبات معه فجعل يوسف يضمه اليه و يشم ريحه حتّى أصبح- و جعل روبيل يقول ما راينا مثل هذا- فلما أصبح قال لهم انى ارى هذا الرجل ليس معه ثان فما ضمّه الىّ فيكون منزله معى- ثم أنزلهم منزلا و اجرى عليهم الطعام و آوى إِلَيْهِ اى ضم الى نفسهأَخاهُ لامه بنيامين و أنزله معه- فلما خلا به قال ما اسمك قال بنيامين قال ما بنيامين قال ابن المثكل (و ذلك انه لما ولد هلكت امه) قال و ما اسم أمك قال راحيل بنت لاوى- قال فهل لك من ولد قال نعم عشرة- قال أ تحب ان أكون أخاك بدل أخيك الهالك- قال بنيامين و من يجد أخا مثلك ايها الملك و لكن لم يلدك يعقوب و لا راحيل- قال فبكى يوسف و قام اليه و عانقه و قالَ له إِنِّي فتح الياء نافع و ابن كثير و ابو عمرو و أسكنها الباقون أَنَا أَخُوكَ يوسف فَلا تَبْتَئِسْ اى لا تحزن بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) اى بشي ء فعلوه بنا فيما مضى فان اللّه قد احسن إلينا- و لا تعلّمهم شيئا مما أعلمتك- ثم اوفى يوسف لاخوته الكيل و حمل لهم بعيرا بعيرا- و لبنيامين بعيرا باسمه. ٧٠ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ اى المشربة الّتي كان الملك يشرب منها- يعنى امر غلمانه بجعلها- قال ابن عباس كانت من زبرجد- و قال ابن إسحاق كانت من فضة- و قيل من ذهب- و قال عكرمة من فضة مرصعة بالجواهر- جعلها يوسف مكيا لا لعزة الطعام لئلا يكال بغيرها- و كان يشرب فيها و السقاية و الصواع واحد- جعلت فى وعاء طعام بنيامين قال السدى جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ و الأخ لا يشعر- و قال كعب لما قال له يوسف إِنِّي أَنَا أَخُوكَ قال انا لا أفارقك- فقال يوسف قد علمت اغتمام والدي بي- و إذا حبستك ازداد غمه و لا يمكننى هذا الا بعد ان أشهرك بامر فظيع و انسبك الى ما لا يحمد- قال لا أبالي فافعل ما بدا لك فانى لا أفارقك- قال فانى أدس صاعى فى رحلك ثم أنادي عليك بالسرقة ليتهيا لى ردك بعد تسريحك- قال فافعل ففعل ما ذكر ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ اى نادى مناد- و كلمة ثم تدل على التراخي و ذلك انهم ارتحلوا و امهلهم يوسف حتّى انطلقوا و ذهبوا منزلا- و قيل حتّى خرجوا من العمارة- ثم بعث خلفهم فادركهم ثم مال أَيَّتُهَا الْعِيرُ و هى الإبل الّتي عليها الأحمال لانها تعير اى تردد تذهب و تجي ء- فقيل لاصحاب العير مجازا كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يا خيل اللّه اركبي- كذا روى ابو داود من حديث سمرة بن جندب- و قيل هى جمع عيرو أصلها فعل بضم الفاء كسقف ثم فعل به ما فعل ببيض- ثم تجوز به لقافلة الحمير- ثم استعير لكل قافلة قال مجاهد كانت العير حميرا- و قال الفراء كانوا اصحاب ابل إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قيل قالوه من غير امر يوسف- و قيل قالوه بامره هفوة منه- و قيل قالوه على تأويل انهم سرقوا يوسف من أبيه- و الصحيح عندى انه قال ذلك بامر اللّه تعالى و اللّه تعالى لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ - و الحكمة فى ذلك ابتلاء يعقوب عليه السلام كما سنذكر فيما بعد-. ٧١ قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) اى اىّ شي ء ضاع عنكم و الفقد غيبة الشي ء عن الحسّ بحيث لا يعرف مكانه. ٧٢ قالُوا اى قال رسول الملك و من معه نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ و لم نتهم عليها غيركم وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام جعلا له وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) كفيل أوميه الى من رده- و فيه دليل على جواز الجعالة و جواز الكفالة- و كفالة الجعل قبل تمام العمل. ٧٣ قالُوا تَاللّه قسم فيه معنى التعجب لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ اى لنسرق فى ارض مصر وَ ما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) استشهدوا بعلمهم على براءة أنفسهم لما عرفوا فى كرتى مجيئهم ما يدل على فرط أمانتهم- كردّ البضاعة الّتي جعلت فى رحالهم- و كعم أفواه دوابهم لئلا يتناول حروث الناس. ٧٤ قالُوا اى المنادى و من معه فَما جَزاؤُهُ اى السارق او السرق او الصواع على حذف المضاف إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) فى ادعاء البراءة. ٧٥ قالُوا اى اخوة يوسف جَزاؤُهُ اى جزاء سرقته مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ اى اخذه و استرقاقه هكذا كان فى شريعة يعقوب فَهُوَ جَزاؤُهُ تقرير للحكم السابق او خبر من و الفاء لتضمنها معنى الشرط- او جواب لها على انها شرطية- و الجملة خبر جزاؤه على اقامة الظاهر مقام الضمير كانه قيل جزاؤه من وجد فى رحله فهو هو كذلك نجزى الظالمين بالسرقة فى تلك الشريعة- كان فى شرع يعقوب ان يسلّم السارق لسرقته المسروق منه فيسارقه فقال الرسول عند ذلك لا بد من تفتيش أمتعتكم فاخذ فى تفتيضها- و روى انه ردهم الى يوسف قامر بتفتيش أوعيتهم بين يديه-. ٧٦ فَبَدَأَ المنادى او يوسف بِأَوْعِيَتِهِمْ لازالة التهمة واحدا واحدا قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ بنيامين- قال قتادة و ذكر لنا انه كان لا يفتح متاعا و لا ينظر فى وعاء الا استغفر اللّه تأثّما فيما قذفهم به- حتّى إذا لم يبق إلا رحل بنيامين قال ما أظن ان هذا اخذه فقالت اخوته و اللّه لا نترك حتّى تنظر فى رحله فانه أطيب لنفسك و لا نفسنا ثُمَّ لما فتح رحل بنيامين اسْتَخْرَجَها اى السقاية او الصواع لانه يذكر و يؤنث مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ بنيامين- فلما استخرج الصواع من رحله نكس اخوته رءوسهم من الحياء و اقبلوا على بنيامين- و قالوا ايش الّذي صنعت فضحتنا و سوّدتّ وجوهنا- يا بنى راحيل ما يزال لنا منكم بلاء متى أخذت هذا الصواع- قال بنيامين بل بنوا راحيل لا يزال لهم منكم بلاء- ذهبتم بأخي فاهلكتموه فى البرية- و وضع هذا الصواع فى رحلى الّذي وضع البضاعة فى رحالكم- قال و أخذ بنيامين رقيقا و قيل ان ذلك الرجل اخذه برقبته ورده الى يوسف كما يردّ السراق كَذلِكَ محله النصب اى مثل ذلك الكيد كِدْنا لِيُوسُفَ بان علّمناه إياه و أوحينا به اليه- و من هاهنا يعلم ان قول المنادى إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ و ما تبعه كان بامر يوسف- و كان بايحاء اللّه اليه- فلا معصية فى ذلك- قال البغوي الكيد هاهنا جزاء الكيد- يعنى كما فعلوا فى الابتداء بيوسف من الكيد فعلنا بهم- و قد قال يعقوب ليوسف عليهما السلام فيكيدوا لك كيدا- فكدنا ليوسف فى أمرهم- و قال الكيد من الخلق الحيلة و من اللّه التدبير بالحق- يعنى صنعنا ذلك ليوسف حتّى أخذ أخاه و ضم الى نفسه و حال بينه و بين اخوته ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ و يضمه الى نفسه فِي دِينِ الْمَلِكِ قال ابن عباس فى سلطانه و قال قتادة فى حكمه حيث كان حكم الملك و دينه ان يضرب السارق و يغرم ضعفى قيمة المسروق إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللّه ان يجعل ذلك الحكم حكم الملك فالاستثناء من أعم الأحوال- و يجوز ان تكون منقطعا اى لكن أخذ بمشية اللّه و اذنه و لطفه حيث وجد السبيل الى ذلك بان رد يوسف الحكم الى اخوته و اجرى اللّه على ألسنتهم ان جزاء السارق الاسترقاق فحصل مراد يوسف بمشية اللّه تعالى نَرْفَعُ دَرَجاتٍ قرا الكوفيون بالتنوين على التميز من النسبة و الباقون بالاضافة مَنْ نَشاءُ بالعلم كما رفعنا درجة يوسف على اخوته- قرا يعقوب يرفع و يشاء بالياء فيهما على الغيبة وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ من الخلق عَلِيمٌ (٧٦) و هو اللّه تعالى إذ معنى العليم لغة الّذي له العلم البالغ- او المعنى فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ من الخلق عليم منهم و ان كان التفوّق من وجه دون وجه- كما قال خضر لموسى عليهما السلام يا موسى انى على علم من علم اللّه علّمنيه اللّه لا تعلمه- و أنت على علم من علم اللّه لا اعلمه- رواه البخاري و غيره فى حديث طويل فى قصة موسى و خضر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم- و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنتم اعلم بامور دنياكم- و لا يجوز كون معنى الاية وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ من الخلق عليم منهم تفوقا من كل وجه و الا يلزم التسلسل- و قال ابن عباس فوق كل عالم عالم الى ان ينتهى العلم الى اللّه تعالى فاللّه فوق كل عالم-. ٧٧ قالُوا اى اخوة يوسف إِنْ يَسْرِقْ بنيامين فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ من امه يعنون يوسف عليه السلام مِنْ قَبْلُ هذا- قال سعيد بن جبير و قتادة كان لجده ابى امه صنم يعبده- فاخذه سرّا و كسره و ألقاه فى الطريق لئلا يعبده- كذا اخرج ابن مردوية عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم- و اخرج ايضا ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ عن سعيد بن جبير نحوه- و قال البغوي قال مجاهد ان يوسف جاءه سائل يوما فاخذ بيضة من البيت فناولها السائل- و قال سفيان بن عيينة أخذ دجاجة من الطير الّتي كانت فى بيت يعقوب فاعطاها السائل- و قال وهب كان يخبا الطعام من المائدة للفقراء- قلت و لما كان يوسف من اهل بيت الكرم و كان يعقوب عليه السلام راضيا بإعطاء السائلين فلا بأس فى هذا الاخذ و الإعطاء و انما سماه الاخوة سرقة حسدا عليه و اخرج محمّد بن إسحاق عن مجاهد ان يوسف كان عند عمته ابنة إسحاق بعد موت امه راحيل- فحضنته عمته و أحبته حبّا شديدا- فلما ترعرع وقعت محبة يعقوب عليه السلام عليه- فاتاها و قال يا أختاه سلّمى الىّ يوسف فو اللّه ما اقدر على ان يغيب عنى ساعة واحدة- قالت لا قال فو اللّه ما انا بتاركه- فقالت دعه عندى أياما انظر اليه لعل يسلّينى عنه- ففعل ذلك فعمدت الى منطقة إسحاق كانوا يتوارثونها بالكبر فكانت عندها لانها كانت اكبر ولد إسحاق- فشدت المنطقة على يوسف تحت ثيابه و هو صغير ثم قالت لقد فقدتّ منطقة إسحاق اكشفوا اهل البيت فكشفوا فوجدوها مع يوسف- فقالت و اللّه انه لسلم لى فقال يعقوب ان كان فعل ذلك فهو سلم لك- فامسكته حتّى ماتت فذلك الّذي قال اخوة يوسف إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها اى مقالتهم انه سرق كانه لم يسمعها او نسبتهم السرقة اليه يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ اى لم يظهرها انه سمع ذلك و قيل انها كناية بشريطة التفسير يفسرها قوله قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً فانه بدل من فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ- و المعنى قال فى نفسه أنتم شر مكانا اى منزلة من يوسف لسرقتكم أخاكم- او فى سوء الصنيع مما نسبتم اليه و تأنيثها باعتبار الكلمة او الجملة قال البيضاوي و فيه نظر إذ المفسر بالجملة لا يكون الا ضمير الشأن وَ اللّه أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) يعنى هو اعلم ان الأمر ليس كما تصفونه- فلما أخذ يوسف أخاه غضبوا غضبا شديدا- و كان بنوا يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا- و كان روبيل إذا غضب لم يقم لغضبه شي ء و إذا صاح القت كل امراة حامل سمعت صوته ولدا- و كان مع هذا إذا مسّه أحد من ولد يعقوب سكن غضبه- و قيل كان هذه صفة شمعون من ولد يعقوب- و روى انه قال لاخوته كم عدد الأسواق بمصر- قالوا عشرة فقال اكفوني أنتم الأسواق و انا أكفيكم الملك او اكفوني أنتم الملك و انا أكفيكم الأسواق- فدخلوا على يوسف فقال روبيل لتردّنّ علينا أخانا اولا صيحنّ صيحة لا تبقى بمصر امراة حامل الا القت ولدها- و قامت كل شعرة فى جسد روبيل فخرجت من ثيابه- فقال يوسف لابن له صغير قم الى جنب روبيل فمسه- و يروى خذ بيده فأتنى به- فذهب الغلام فمسه فسكن غضبه فقال روبيل ان هاهنا لبذرا من بذر يعقوب فقال يوسف من يعقوب- و روى انه غضب ثانيا فقام اليه يوسف فركضه برجله و أخذ بتلابيبه فوقع على الأرض- و قال أنتم معشر العبرانيين تظنون ان لا أشد منكم و لما صار أمرهم الى هذا و راوا ان لا سبيل لهم الى تخليصه خضعوا و ذلّوا و. ٧٨ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فى السن او القدر يحبّه كثيرا- و هو ثكلان على أخيه الهالك يستأنس به- ذكروا له حال أبيهم استعطافا له عليه فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ بدله إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) فى افعالك فلا تغير فى عادتك- او من المحسنين إلينا فى توفية الكيل و حسن الضيافة ورد البضاعة فاتمم إحسانك. ٧٩ قالَ يوسف مَعاذَ اللّه اى أعوذ باللّه معاذا أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ فانّ أخذ غيره ظلم على فتواكم- و لم يقل الا من سرق تحرزا من الكذب إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) يعنى لو اخذتكم مكانه إذا كنا من الظالمين فى مذهبكم- و مراده ان اللّه اذن فى أخذ من وجد الصواع فى رحله لمصلحة و لرضائه عليه فلو أخذت غيره لكنت ظالما-. ٨٠ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ قرا البزي فلمّا استيأسوا- و لا تيأسوا من روح اللّه- انّه لا يايس- و حتّى إذا استيأس الرّسل و فى الرعد أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا بالألف موضع الفاء و فتح الياء موضع العين من غيرهم فى الخمسة- و الباقون بالهمزة و اسكان الياء من غير الف فى اللفظ- و إذا وقف حمزة القى حركة الهمزة على الياء على أصله- يعنى لما يئسوا من يوسف ان يجيبهم الى ما سالوا- و زيادة السين و التاء للمبالغة- و قال ابو عبيدة استيئسوا استيقنوا ان الأخ لا يرد إليهم خَلَصُوا اى انفردوا و اعتزلوا نَجِيًّا اى متناجين و انما وحده لانه مصدر او برتبته كما يقال هم صديق و جمعه انجية كندى و اندية قالَ كَبِيرُهُمْ فى الفضل و العلم لا فى السن و هو يهودا كذا قال ابن عباس و الكلبي- و قيل كبيرهم فى السن و هو روبيل و هو الّذي نهى الاخوة عن قتل يوسف- كذا قال قتادة و السّدىّ و الضحاك- و قال مجاهد و هو شمعون و كانت له رياسة على الاخوة أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً عهدا وثيقا مِنَ اللّه جعلوا حلفهم باللّه موثقا منه لانه بإذن منه و تأكيد من جهته وَ مِنْ قَبْلُ هذا ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ اى قصرتم فى شأنه- و ما مزيدة و يجوز ان تكون مصدرية فى محل النصب بالعطف على مفعول تعلموا- و لا بأس بالفصل بين العاطف و المعطوف بالظرف- او على اسم انّ و خبره فِي يُوسُفَ او مِنْ قَبْلُ- او الرفع بالابتداء و الخبر من قبل- قال البيضاوي فيه نظر لان قبل إذا كان خبرا او صلة لا تقطع عن الاضافة حتّى لا ينقض و ان تكون موصولة اى ما فرطتموه بمعنى ما قدمتموه فى حقه من الخيانة- و محله الرفع او النصب كما تقدم فى المصدرية فَلَنْ أَبْرَحَ اى لن أفارق الْأَرْضَ اى ارض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي فتح الياء نافع و ابو عمرو و أسكنها الباقون أَبِي فتح الياء نافع و ابن كثير و ابو عمرو و أسكنها الباقون- يعنى يأذن لى أبيّ فى الرجوع أَوْ يَحْكُمَ اللّه لِي على لسان يعقوب عليه السلام بالخروج منها و ترك أخي او بالموت او بخلاص أخي منهم او بالمقاتلة معهم لتخليصه وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) لا يكون حكمه الا بالحق ٨١ ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ على ما شاهدنا من ظاهر الأمر- و قرا ابن عباس و الضحاك سرّق على البناء للمفعول من التفعيل يعنى نسب الى السرقة كما يقال خوّنته اى نسبته الى الخيانة. وَ ما شَهِدْنا عليه بالسرقة إِلَّا بِما عَلِمْنا اى بسبب ما تيقنّا و راينا ان الصواع استخرج من وعائه- و قيل معناه ما شهدنا قطّ على شي ء الا بما علمنا و ليست هذه شهادة منا انما هو خبر عن صنيع ابنك بزعمهم- و قيل قال لهم يعقوب ما يدرى هذا الرجل ان السارق يسترقّ بسرقته الا بقولكم فقالوا ما شهدنا عند يوسف ان السارق يسترقّ الا بما علمنا و كان الحكم ذلك عند الأنبياء يعقوب و بنيه وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ اى لباطن الحال حافِظِينَ (٨١) عن ابن عباس يعنى ما كنا لليله و نهاره و مجيئه و ذهابه حافظين فلعلّها دسّت بالليل فى رحله- و قال مجاهد و قتادة ما كنا نعلم حين أعطيناك الموثق ان ابنك سيسترق-و يصير أمرنا الى هذا و انك تصاب كما أصبت بيوسف و انما قلنا و نحفظ أخانا مما لنا الى حفظه منه سبيل. ٨٢ وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها يعنون مصر و قال ابن عباس هى قرية من قرى مصر لحقهم المنادى فيها و ارتحلوا منها الى مصر وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها اى القافلة الّتي كنا فيها- و كان صحبهم قوم من كنعان من جيران يعقوب - قال ابن إسحاق عرف الأخ المحتبس بمصران اخوته كانوا متهمين عند أبيهم لما صنعوا فى امر يوسف فامرهم ان يقولوا هذا لابيهم وَ إِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) فان قيل قال البغوي كيف استجاز يوسف ان يعمل مثل هذا بابيه- و لم يخبره بمكانه- و حبس أخاه مع علمه بشدة وجد أبيه- ففيه معنى العقوق و قطيعة الرحم و قلة الشفقة قلنا اكثر الناس فيه و الصحيح انه عمل ذلك بامر اللّه تعالى امره ليزيد فى بلاء يعقوب فيضاعف له الاجر- و يلحقه فى درجة ابائه الكرام- و قيل انه لم يظهر نفسه له و لاخوته لانه لم يأمن من ان يتدبروا فى امره تدبيرا فيكتموه عن أبيه و الاول أصح قلت بل هو الصحيح لا غير- فرجع اخوة يوسف غير كبيرهم الى أبيهم و ذكروا لابيهم ما قال كبيرهم. ٨٣ قالَ يعقوب ليس الأمر كما قلتم بَلْ سَوَّلَتْ اى زيّنت و سهلت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أردتموه فقدرتموه فما أدرى الملك ان السارق يؤخذ بسرقته انما أردتم فى حمل أخيكم الى مصر طلب نفع عاجل فَصَبْرٌ جَمِيلٌ فامرى صبر جميل او فصبرى صبر جميل لا شكوى فيه الى الناس عَسَى اللّه أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً يعنى يوسف و بنيامين و أخاهم المقيم بمصر إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بحالي و حالهم الْحَكِيمُ (٨٣) فى تدبير خلقه الّذي لم يبتلينى الا لحكمته- و لما بلغه خبر بنيامين تتام حزنه و بلغ جهده و هيج حزنه على يوسف اعرض. ٨٤ وَ تَوَلَّى عَنْهُمْ كراهة لما صادف منهم ذلك وَ قالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ اى يا أسفي تعال فهذا او انك- و الأسف أشد الحزن و الحسرة- و الالف بدل من ياء المتكلم- روى عبد الرزاق و ابن جرير موقوفا عن سعيد بن جبير انه قال لم يعط امة من الأمم إِنَّا للّه وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ عند المصيبة الا امة محمّد صلى اللّه عليه و سلم- الا ترى الى يعقوب حين أصابه ما أصاب لم يسترجع و قال يا أسفى- و كذا روى البيهقي فى شعب الايمان و قال و قد رفع الضعفاء هذا الحديث الى ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم- و أخرجه الثعلبي من طريق سعيد بن جبير مرفوعا الا قوله الا ترى الى يعقوب وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ لكثرة بكائه مِنَ الْحُزْنِ محق سوادهما بكثرة البكاء فعمى بصره- قال مقاتل لم يبصر بهما ست سنين و قيل ضعف بصره فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) الكظم مخرج النفس يقال أخذ بكظمه و الكظوم احتباس النفس و يعبر به عن السكوت فالكظيم محتبس النفس يعنى الساكت فهو بمعنى الفاعل و المعنى كاظم غيظه و حزنه فمسك عليه لا يبث حزنه فى الناس و منه كظم البعير إذا ترك الاجترار و حبس ما أكل فى بطنه و كظم السقاء شده بعد ملئه و قد يطلق الكظيم على المملو نظرا الى ان المملو يشد فمه و يحبس ما فيه- فهو على هذا جاز ان يكون بمعنى المفعول اى المكظوم المملو من الغيظ- قال قتادة معناه تردد حزنه فى جوفه و لم يقل الا خيرا- قال الحسن كان بين خروج يوسف من حجر أبيه الى يوم التلقي معه ثمانون عاما لا تجف عينا يعقوب و ما على وجه الأرض يومئذ أكرم على اللّه منه- و هاهنا إشكال قوى على قاعدة التصوف- حيث قالوا ان الصوفي بعد فناء قلبه لا يشتغل قلبه بغير اللّه سبحانه و لا يسع فيه محبة أحد من الخلائق- فما بال يعقوب عليه السلام و هو من الأنبياء الكبار و المصطفين الأخيار اولى الأيدي و الابصار- قد شغفه حب يوسف عليه السلام الكريم حتّى ابيضت عيناه من البكاء عليه و هو كظيم- و ما قيل ان العالم بأسرها مجال و مرايا للّه سبحانه- فاشتغال قلبه بيوسف اشتغال به تعالى على الحقيقة- فذلك قول فى غلبة التوحيد لاهل الابتداء او التوسط و يستنكف عنه اهل الانتهاء فكيف الأنبياء عليهم السلام- و لو كان كذلك فلا وجه حينئذ لتخصيص تعلق الحب بيوسف عليه السلام دون غيره- و الجواب عن الاشكال ان هذا مختص بالنشأة الدنيوية يعنى لا يمكن اشتغال قلب الصوفي بعد الفناء بشي ء من الأشياء الدنيوية و اما الأشياء الاخروية فليس هذا شأنها- فان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال الدنيا ملعونة و ملعون ما فيها الا ذكر اللّه و ما والاه و عالما و متعلما- رواه ابن ماجة عن ابى هريرة و الطبراني عن ابن مسعود بسند صحيح و البزار عن ابن مسعود نحوه و الطبراني بسند صحيح عن ابى الدرداء- بخلاف الاخرة فانها مرضية للّه تعالى و تعلق القلب بها مرضى للّه تعالى قال اللّه تعالى وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ- يعنى اولى القوة فى طاعة اللّه و البصارة فى معرفة اللّه تعالى و أحكامه- إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ- اى جعلناهم خالصين بخصلة خالصة لا شوب فيها هى ذكر الدار الاخرة- قال مالك بن دينار نزعنا من قلوبهم حب الدنيا و ذكرها و أخلصناهم بحب الاخرة و ذكرها- و جعلنا الاخرة مطمح نظرهم فيما يأتون و يذرون- و اطلاق الدار على الاخرة للاشعار بانها الدار على الحقيقة و الدنيا معبر- هذه الاية صريح فى ان الاخرة مرضية للّه تعالى و حبها و ما فيها موجب للمدح- و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قيل لى يعنى فى المنام سيد بنى دارا و صنع مأدبة و أرسل داعيا- فمن أجاب الداعي دخل الدار و أكل من المأدبة و رضى عنه السيد- و من لم يجب الداعي لم يدخل الدار و لم يأكل من المأدبة و سخط عليه السيد- قال فاللّه السيد و محمّد داعى و الدار الإسلام و المأدبة الجنة- رواه الدارمي عن ربيعة الجرشى- و هذا غاية معرفة الأكملين لم يطلع عليها المتوسطون «١» فضلا عن اهل الابتداء و العوام- و لو كانت رابعة البصرية مطلعة على ذلك لما قالت أريد ان احرق الجنة كيلا يعبد الناس اللّه تعالى لاجلها- الم تسمع قوله تعالى مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللّه فَإِنَّ أَجَلَ اللّه لَآتٍ (١) فى الأصل المتوسطين-. يعنى وقت لقائه الاخرة و محل لقائه الجنة- و قوله صلى اللّه عليه و سلم الجنة طيبة التربة عذبة الماء و انها قيعان و ان غراسها هذه يعنى سبحان اللّه و الحمد للّه و لا اله الا اللّه و اللّه اكبر- رواه الترمذي عن ابن مسعود و روى الشيخان فى الصحيحين و الحاكم و الطبراني بلفظ يغرس لك بكل واحد شجرة فى الجنة- قال سيدى و امامى المجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه المعنى التنزيهي لبس «١» فى دار الدنيا كسوة الحروف و الكلمات- و سيلبس فى الجنة كسوة الأشجار و الثمرات- فتعلق الحب بها كانه تعلق بالتنزيهات و قس على هذا- و قال رضى اللّه عنه عندى ان جنة كل واحد عبارة عن ظهور اسم من اسماء اللّه تعالى الّذي هو مبدأ لتعيّنه- و ان ذلك الاسم سيظهر لذلك الشخص بصورة الأشجار و الأنهار و الحور و القصور و الولدان- فتفاوت الجنات للاشخاص على حسب تفاوت الأسماء و الصفات من حيث الجامعية و عدمها- و باعتبار قربه من الذات و غير ذلك- و تلك الأشجار و نحوها قد تكون على هيئة الاجرام الزجاجية- فتصير وسيلة لرؤية الذات الغير المتكيفة- ثم تعود كما كانت و هكذا الى ابد الآبدين- فان قيل ان الممكن فى نفسه ليس و عدم و مقتض للشر و النقص- و ما فيه من الحسن و الجمال و الخير و الكمال مستعار من الواجب- و المحبة و اشتغال القلب انما يتعلق بالحسن و الجمال و ذلك مستعار فى كل ممكن من الواجب تعالى- فما وجه الفرق بين الأشياء الدنيوية و الاخروية و جواز تعلق الحب بإحداهما دون الاخرى- قلنا العالم بأسرها مجال و مظاهر لاسمائه و صفاته و صفاته تعالى ممكنة فى حد ذواتها واجبة بغيرها اى بذات اللّه تعالى لاحتياجها الى الذات- لكن لا يطلق لفظ الإمكان و الوجوب بالغير لئلا يوهم حدوثها و انفكاكها عن الذات- و لما كانت الصفات ممكنة فى حد ذاتها و ان كان انعدامها مستحيلا بغيرها- ففيها رائحة الإمكان و العدم- و لاجل ذلك تنكشف الصفات عند الصوفي ذو وجهتين وجهة جانب الوجود المستفاد من مرتبة الذات و وجهة جانب احتمال العدم نظرا الى إمكانها فى ذاتها- فوجهة وجودها حسن و جميل لا محالة- و وجهة عدمها ايضا لا يخلو عن حسن و جمال بمجاورة وجهة الوجود و ان كان ذلك الحسن فى مرتبة الوهم فليعلم انه يظهر فى نظر الكشفى ان صفاته تعالى تجلت فى الأشياء الدنيوية بوجهتها الّتي الى الاعدام- فهى من هذه الحيثية مربيات للاشياء الدنيوية- و تجلت فى الأشياء الاخروية (١) فى الأصل لبست. بوجهتها الّتي الى الوجود- و بهذه الحيثية مربيات للاشياء الاخروية- و لذلك صارت الاخرى مرضية للّه تعالى مقبولة- و صار تعلق القلب بتلك الأشياء كتعلقه بصاحبها- فالكاملون فى محبة اللّه تعالى هم الكاملون فى محبة الدار الاخرة- و هذا وجه الفرق بين الأشياء الدنيوية و الاخروية و جواز تعلق الحب بإحداهما دون الاخرى- إذا تمهد هذا فنقول ظهر بالنظر الصريح و الكشف الصحيح للمجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه ان وجود يوسف عليه السلام و جماله و ان كان مخلوقا فى الدار الدنيا لكنه كان على خلاف سائر الأشياء الموجودة فيها- من جنس الموجودات الاخروية و ربّتها صفات اللّه تعالى بوجهتها الّتي الى الوجود كما ربّت الجنة و ما فيها من الحور و الغلمان- فلا جرم جاز تعلق قلب اهل الكمال و حبهم به عليه السلام كما جاز تعلقها بالجنة و ما فيها- كذا ذكر المجدد رضى اللّه عنه فى المكتوب المائة من المجلد الثالث- بقي هاهنا إشكالان أحدهما ان المجدد رضى اللّه عنه قال فى مقام اخر ان الممكنات سوى الأنبياء و الملائكة مجال و مظاهر لظلال الأسماء و الصفات الّتي هى مباد لتعيناتها- دون الأسماء و الصفات أنفسها- و اما الملائكة و الأنبياء فاصول الأسماء و الصفات مباد لتعيناتهم- و هم مجال و مظاهر لها- فكيف قال هاهنا ان الممكنات بأسرها مجال لاسمائه و صفاته تعالى- و كيف يتصور حينئذ ان تتجلى الصفات بانفسها فى الأشياء الدنيوية بوجهتها الّتي الى الاعدام- و فى الأشياء الاخروية بوجهتها الّتي الى الوجود- و حله ان كونها مجال لظلال الأسماء لا ينافى كونها ظلالا لاصولها فان ظل ظل الشي ء ظل له- فالاسماء و الصفات تتجلى فى الأنبياء بلا توسط الظلال و فى غيرهم بتوسطها- ثم هى تتجلى فى الأشياء الدنيوية بتوسط الظلال بوجهتها الى العدم و فى الأشياء الاخروية بوجهتها الّتي الى الذات و الوجود الصرف فلا منافاة ثانيهما «١» انه يلزم حينئذ فضل يوسف عليه السلام على سائر الأنبياء بل على أفضلهم عليه و عليهم الصلوات و التسليمات- فان الكلام السابق يشعر ان غير يوسف عليه السلام من الأنبياء فى الدنيا مجال للصفات بوجهتها الّتي الى العدم- و حله ان هذا الاشعار انما هو بمفهوم اللقب و لا عبرة لمفهوم اللقب بل الحق ان الأنبياء كلهم عليهم الصلوات و التسليمات مجال للصفات باعتبار وجهتها الى الوجود الصرف و ليس عدم ظهور حسن الاخرة منهم عليهم الصلوات و التسليمات (١) فى الأصل ثانيها. فى الدنيا لكونهم مجال الصفات بوجهتها الّتي الى العدم بل لامر خفى لا يعلمه الا اللّه تعالى- و قد ذكر المجدد رضى اللّه عنه فى حسن «١» خاتم الرسل عليه الصلاة و السلام انه قال ربّ محمّد صلى اللّه عليه و سلم و مبدا تعيّنه صفة العلم الإجمالي و هو اقرب الصفات الى الذات ا لا ترى ان العلم الحضوري يتحد مع العالم و مع المعلوم- و اما غيره من الصفات من القدرة و الارادة و الكلام و السمع و البصر ليست بهذه المثابة- و الإجمال أعلى درجة و اقرب من الذات من تفاصيلها- فللعلم حسن ذاتى ما ليس لغيرها من الصفات- فالعلم أحب الى اللّه تعالى من غيره- و للعلم حسن و جمال لا كيفية له فلاجل كمال لطافته و علو درجته تجلى فى محمّد صلى اللّه عليه و سلم من الحسن و الجمال ما لا تدركه الابصار فى هذه النشئة لضعف قوة المبصرة الدنيوية كما لا تدرك الابصار للذات فى هذه النشئة- و سيظهر حسنه و جماله فى الاخرة فيوسف عليه السلام و ان سلم له فى الدنيا ثلثى الحسن- لكن فى الاخرة الحسن حسن محمّد صلى اللّه عليه و سلم و الجمال جماله- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أخي يوسف أصبح و انا أملح و الفرق بين الصباحة و الملاحة عند المحققين كالفرق بين الشمس و القمر و بين الذهب و الفضة شتان ما بينهما- كان حسن يوسف عليه السلام بحيث أحبه يعقوب و الخلائق- و كان حسن محمّد صلى اللّه عليه و سلم بحيث أحبه «٢» رب يعقوب و الخلائق جل جلاله ما للتراب و رب الأرباب و إذا ثبت هذا علم ان الصوفي بعد فناء قلبه لا يشتغل قلبه بغير اللّه سبحانه- و لا يسع فى قلبه محبة أحد من الخلائق- لكن لا ينافى ذلك اشتغال قلبه بمحبة الأنبياء فان محبتهم عين محبة اللّه- عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحب اليه من والده و ولده و الناس أجمعين- متفق عليه و عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الايمان من كان اللّه و رسوله أحب اليه مما سواهما- متفق عليه فما قالت رابعة البصرية ان قلبى ممتلية من حب اللّه لا يسع فيه محبة محمّد صلى اللّه عليه و سلم خطأ ناش من غلبة السكر- و اما ما قال المجدد رضى اللّه عنه فى بدو حاله أحب اللّه سبحانه لانه خلق محمّدا صلى اللّه عليه و سلم فهو ايضا ناش من السكر لكنه لا يخلو عن نوع من الاصالة و اللّه اعلم- (مسئلة) فى هذه الاية دليل على جواز التأسف و البكاء عند المصيبة ما لم يكن معه نوحة و أمثال ذلك من ضرب الخدود و شق الجيوب و غيرها- فان التأسف و الحزن لا يدخلان تحت التكليف فانه قل من يملك نفسه عند الشدائد- فى الصحيحين من حديث انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم دخل على ابنه ابراهيم- و هو يجود بنفسه فجعلت عينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تذر فان- فقال له عبد الرّحمن بن عوف و أنت يا رسول اللّه فقال يا ابن عوف انها رحمة ثم اتبعها اخرى- فقال ان العين تدمع و القلب يحزن و لا نقول الا ما يرضى ربّنا- و انا لفراقك يا ابراهيم لمحزونون- و فيهما من حديث اسامة بن زيد اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على ابن بنت له و نفسه يتقعقع ففاضت عيناه فقال سعد يا رسول اللّه ما هذا- فقال هذه رحمة جعلها اللّه فى قلوب عباده فانما يرحم اللّه من عباده الرحماء- و فيهما من حديث ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه لا يعذب بدمع العين و لا بحزن القلب و لكن يعذب بهذا و أشار الى لسانه او يرحم- و ان الميت ليعذب ببكاء اهله عليه- و فيهما من حديث ابن مسعود ليس منا من ضرب الخدود و شق الجيوب و دعا بدعوى الجاهلية- و فيهما عن ابى بردة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انا بري ء ممن حلق و صلق و خرق. (١) يوسف از شمه جمال او خوشه چين شد قسم بحال او منه رح [.....]. (٢) دل از عشق محمّد ص ريش دارم رقابت با خدائى خويش دارم منه رح. ٨٥ قالُوا يعنى اخوة يوسف تَاللّه تَفْتَؤُا اى لا تفتأ و لا تزال حذف لا لعدم الالتباس إذ لو كان اثباتا لم يكن بد من اللام و النون تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً اى مشرفا على الهلاك بسبب المرض او الهرم- و الحرض فى الأصل محركة الفساد فى البدن و فى المذهب و فى العقل من الحزن او العشق او الهرم- و الرجل الفاسد المريض و المشرف على الهلاك كذا فى القاموس- فهو مصدر و لذلك لا يؤنث و لا يجمع- وضع هاهنا موضع الصفة أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) اى الميّتين. ٨٦ لَ عقوب نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي لبث أشد الحزن سمى بذلك لان صاحبه لا يصبر عليه غالبا حتّى يبثه اى ينشره و قال الحسن بثي يعنى حالى لَى اللّه لا الى أحد منكم و من غيركم فخلونى و شكايتى- قال البغوي روى انه دخل على يعقوب جار له فقال يا يعقوب مالى أراك قد انهشمت و فنيت و لم تبلغ من السن ما بلغ أبوك- فقال هشمنى و أفناني ما ابتلاني اللّه به من هم يوسف- فاوحى اللّه اليه يا يعقوب أ تشكوني الى خلقى- فقال يا رب خطيئة اخطأتها فاغفرها لى فقال قد غفرتها لك- و كان بعد ذلك إذا سئل الَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللّه - و روى انه قيل له يا يعقوب ما الّذي اذهب بصرك و قوّس ظهرك- قال اذهب بصرى بكائي على يوسف و قوّس ظهرى حزنى على أخيه- فاوحى اللّه اليه أ تشكوني و عزتى لا اكشف ما بك حتّى تدعونى- فعند ذلك الَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللّه - فاوحى اللّه تعالى اليه و عزتى لو كانا ميّتين لاخرجتهما لك- و انما وجدت عليك انكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه منها شيئا- و ان أحب خلقى الىّ الأنبياء ثم المساكين- فاصنع طعاما فادع عليه المساكين- فصنع طعاما ثم قال من كان صائما فليفطر الليلة عند ال يعقوب- و روى انه كان بعد ذلك إذا تغدى امر من ينادى من أراد الغداء فليأت يعقوب- و إذا أفطر امر من ينادى من أراد ان يفطر فليأت يعقوب- فكان يتغدى و يتعشى مع المساكين- و عن وهب بن منبه قال اوحى اللّه تعالى الى يعقوب تدرى لم عاقبتك و حبست عنك يوسف ثمانين سنة- قال لا يا الهى قال لانك شوّيت عناقا و قترت على جارك و أكلت و لم تطعمه- و روى ان سبب ابتلاء يعقوب انه ذبح عجلا بين يدى امه و هى تخور- و قال وهب و السدى و غيرهما اتى جبرئيل يوسف عليهما السلام فى السجن فقال هل تعرفنى ايها الصديق- قال ارى صورة طاهرة و رائحة طيبة- قال انى رسول رب العالمين و انا الروح الامين قال ما أدخلك مدخل المذنبين و أنت أطيب الطيبين و رأس المقربين و أمين رب العالمين- قال الم تعلم يا يوسف ان اللّه يطهر البيوت بطهر النبيين و ان الأرض الّتي يدخلونها اطهر الأرضين- و ان اللّه قد طهر بك السجن و ما حوله يا اطهر الطاهرين و ابن الصالحين المخلصين- قال كيف لى باسم الصديقين و تعدنى من المخلصين الطاهرين و قد ادخلت مدخل المذنبين و سميت باسم الفاسقين قال جبرئيل لانه لم تفتتن قلبك و لم تطع سيدتك فى معصية ربك- لذلك سماك اللّه فى الصديقين و عدّك من المخلصين و ألحقك بآبائك الصالحين- فقال هل لك علم بيعقوب ايها الروح الامين قال نعم وهب اللّه له من الصبر الجميل و ابتلاه بالحزن عليك فهو كظيم- قال فما قدر حزنه- قال حزن سبعين ثكلى- قال فماذا له من الاجر يا جبرئيل- قال اجر مائة شهيد- قال أ فتراني ملاقيه قال نعم- فطابت نفسه و قال ما أبالي ما لقيت ان رايته أَعْلَمُ مِنَ اللّه ن صنعه و من رحمته فانه لا يخيّب داعيه و لا يدع الملتجئ اليه او من اللّه بنوع من الهام ا لا تَعْلَمُونَ (٨٦) من حيوة يوسف- روى ان ملك الموت زار يعقوب فقال له ايها الملك الطيب ريحه الحسن صورته هل قبضت روح ولدي فى الأرواح- قال لافسكن يعقوب و طمع فى رؤيته- قيل يعنى اعلم انّ رؤيا يوسف صادقة و انى و أنتم سنسجد له- و قال السدىّ لما أخبره ولده بسير الملك احست نفس يعقوب و طمع و قال لعله يوسف- و اخرج ابن ابى حاتم عن النصر بن عربى قال بلغني ان يعقوب عليه السلام مكث اربعة و عشرين عاما لا يدرى أ حيّ يوسف أم ميّت- حتّى تمثل له ملك الموت فقال له من أنت قال انا ملك الموت- قال فانشدك باله يعقوب هل قبضت روح يوسف قال لا و عند ذلك قال. ٨٧ يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ التحسس تطلّب الاحساس يعنى تفحصوا فتعرفوا- و قال ابن عباس معناه التمسوا وَ لا تَيْأَسُوا اى لا تقنطوا مِنْ رَوْحِ اللّه اى من رحمة اللّه و قيل من فرح اللّه و تنفيسه إِنَّهُ اى الشأن لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّه إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧) باللّه و صفاته فان العارف لا يقنط من رحمته فى شي ء من الأحوال- فخرجوا راجعين الى مصر حتّى وصلوا إليها فدخلوا على يوسف. ٨٨ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ شدة الجوع وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ قال ابن عباس كانت دراهم زيوفا ردية لا ينفق- روى عنه ابو عبيد و ابن ابى شيبة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ- و كذا اخرج ابن ابى حاتم عن عكرمة- و اخرج عن عكرمة سعيد بن منصور و ابن المنذر و ابو الشيخ اى دراهم قليلة- و اخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ عن عبد اللّه بن الحارث قال كان متاع الاعراب الصوف و السمن- و قيل من الصوف و الأقط- و اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ عن ابى صالح قال كان حبة الخضراء و الصنوبر- و اخرج ابن النجار عن ابن عباس قال كان «١» سويق المقل- و قيل كانت الادم و النعال- و اصل الإزجاء الدفع و السّوق منه قوله تعالى أَنَّ اللّه يُزْجِي سَحاباً اى يسوق- فيقال للدراهم الردية مزجاة لانها تدفع و لا تؤخذ- (١) فى الأصل قال سويق المقل. و كذا للدراهم القليلة لانها تدفع و لا تؤخذ فى مقابلة المتاع العزيز- و كذا الغير الدراهم من الأشياء الردية لدفعها و عدم قبولها فى الثمن الا بتجوز من البائع فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ اى أعطنا كيلا كاملا كما كنت تعطينا قبل هذا بالثمن الجياد الوافي وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا بما بين الثمنين الجيد و الردى و لا تنقصنا- كذا قال اكثر المفسرين- و قال ابن جريج و الضحاك تصدّق علينا برد أخينا إِنَّ اللّه يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) احسن الجزاء فى الدنيا و الاخرة- و الاجزاء و التصدق التفضل مطلقا- و منه قوله صلى اللّه عليه و سلم فى قصر الصلاة فى السفر هذه صدقة تصدق اللّه عليكم فاقبلوا صدقته- رواه البخاري لكنه اختص عرفا بما يبتغى به وجه اللّه و الثواب- و مبنىّ على هذا العرف ما روى ان الحسن سمع رجلا يقول اللّهم تصدّق علىّ- فقال ان اللّه لا يتصدّق انما يتصدق من يبتغى الثواب قل اللّهم أعطني و تفضّل علىّ- قال الضحاك لم يقولوا ان اللّه يجزيك لانهم لم يعلموا انه مؤمن- قلت بل لانهم لم يعلموا انه يتصدق أم لا (فائدة) سئل سفيان بن عيينة هل حرمت الصدقة على نبى من الأنبياء سوى نبينا محمّد صلى اللّه عليه و سلم قال سفيان الم تسمع قوله تعالى وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللّه يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ- كذا اخرج ابن جرير قلت استدل سفيان بهذه الاية على حل الصدقة على الأنبياء- و لا يتم الاستدلال الا إذا ثبت نبوة اخوة يوسف - فلما كلم اخوة يوسف بهذا الكلام أدركته الرّقة فارفض دمعه و اظهر ما الّذي كان كتم و. ٨٩ قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ من الظلم وَ أَخِيهِ من افراده من يوسف و اذلاله حتّى كان لا يستطيع ان يتكلم بعجز و ذلة- اى هل علمتم قبح ما فعلتم فتتوبوا عنه إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) بقبحه فلذلك اقدمتم عليه- او هل علمتم عاقبة ما فعلتم- و انما قال ذلك تحريضا لهم على التوبة و شفقة عليهم لا معاتبة و تثريبا- يدل عليه قوله لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ كذا قال ابن إسحاق فى السبب الّذي حمل يوسف على هذا القول- و قال الكلبي انما قال ذلك حين حكى لاخوته ان مالك بن وعر قال انى وجدت غلاما فى بئر من حاله كيت و كيت فابتعته بكذا درهما- فقالوا ايها الملك نحن بعنا ذلك الغلام منه- فغاظ يوسف ذلك و امر بقتلهم فذهبوا بهم ليقتلوهم- فولى يهودا و هو يقول كان يعقوب يحزن و يبكى لفقد واحد منا حتّى كف بصره فكيف إذا أتاه قتل بنيه كلهم- ثم قالوا له ان فعلت ذلك فابعث بامتعتنا الى أبينا فانه بمكان كذا و كذا- فذلك حين رحمهم و بكى و قال ذلك القول- و روى عن عبد اللّه بن يزيد ابن ابى فروة ان يعقوب لما سمع حبس بنيامين كتب كتابا الى يوسف على يد اخوته حين أرسلهم ثالثا- من يعقوب إسرائيل اللّه بن إسحاق ذبيح اللّه بن ابراهيم خليل اللّه الى ملك مصر- اما بعد فانا اهل بيت وكّل بنا البلاء- اما جدى ابراهيم فشدّت يداه و رجلاه و القى فى النار- فجعلها اللّه عليه بردا و سلاما- و اما ابى فشدّت يداه و رجلاه و وضع السكين على قفاه ففداه اللّه- و اما انا فكان لى ابن و كان أحب أولادي الىّ فذهب به اخوته الى البرية- ثم أتوني بقميصه ملطّخا بالدم و قالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناى من البكاء عليه- ثم كان لى ابن و كان أخاه من امه و كنت اتسلّى به- و انك حبسته و زعمت انه سرق- و انّا اهل بيت لا نسرق و لا نلد سارقا- فان رددتّه علىّ و الا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك- فلمّا قرا يوسف الكتاب لم يتمالك البكاء- فاظهر نفسه و قال هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ بما يؤل اليه امر يوسف- و قيل مذنبون عاصون و قال الحسن إذ أنتم شبان و معكم جهل الشباب. ٩٠ قالُوا اى اخوة يوسف أَ إِنَّكَ كذا قرا الجمهور على الاستفهام استفهام تقرير و لذلك حقق بانّ و اللام و هم على أصولهم فى الهمزتين المفتوحة و المكسورة و قرا ابن كثير على الخبر انّك لَأَنْتَ يُوسُفُ قال ابن إسحاق كان يوسف يتكلم من وراء الحجاب- فلمّا قال هل علمتم ما فعلتم كشف عنه الغطاء ثم رفع الحجاب فعرفوه- قلت و هذا مستبعد يأتى عنه القصة المذكورة- و قال الضحاك عن ابن عباس لما قال هذا القول تبسم فراوا ثناياه كالدر المنظوم فشبهوه بيوسف- و قال عطاء عن ابن عباس ان اخوة يوسف لم يعرفوه حتّى وضع التاج عن رأسه و كان له فى قرنه علامة- و كان ليعقوب عليه السلام مثلها- و لاسحاق عليه السلام مثلها- و لسارة مثلها شبه الشامة- فعرفوه و قالوا انك لانت يوسف- و قيل قالوه على التوهم حتّى قالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي من ابى و أمي بنيامين- انما ذكر أخاه و هم قد سالوه عن نفسه تعريفا لنفسه به و تفخيما لشأنه و ادخالا له فى قوله قَدْ مَنَّ اللّه عَلَيْنا بان جمعنا بالسلامة و الكرامة إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ قرأ قنبل يتّقى بإثبات الياء وصلا و وقفا- و الباقون بحذفها فى الحالين- يعنى من يتقى اللّه بأداء الفرائض و اجتناب المعاصي وَ يَصْبِرْ على البليات و الطاعات و عن المعاصي فَإِنَّ اللّه لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) فى الدنيا و لا فى الاخرة- وضع المحسنين موضع الضمير للتنبيه على ان المحسن من جمع بين التقوى و الصبر-. ٩١ قالُوا معتذرين تَاللّه لَقَدْ آثَرَكَ اللّه اختارك اللّه عَلَيْنا بحسن الصورة و كمال السيرة و سائر الفضائل الدنيوية و الاخروية وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) و الحال ان شأننا انا كنا مذنبين بها فعلنا بك- يقال خطا خطأ إذا تعمد بالذنب و أخطأ إذا كان غير متعمد. ٩٢ قالَ يوسف بغاية الحلم لا تَثْرِيبَ تفعيل من الثرب و هو الشحم الّذي يغشى الكرش بمعنى ازالة الثرب فاستعير للتقريع الّذي يمزق العرض و يذهب ماء الوجه عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ متعلق بالتثريب او بالمقدر للجار الواقع خبرا للاتثريب- و المعنى لا اثرب اليوم الّذي هو مظنته فما ظنكم بسائر الأيام بعد ذلك- او المعنى غفرت لكم بعد ما اعترفتم يَغْفِرُ اللّه لَكُمْ ذنوبكم وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) يعنى إذا غفرتكم و انا الفقير القتور- فما ظنكم بالغنى الغفور- فانه يغفر الصغائر و الكبائر و يتفضل على التائب- قال البيضاوي و من كرم يوسف انهم لما عرفوه- أرسلوا اليه و قالوا انك تدعونا بالبكرة و العشى الى الطعام و نحن نستحيى منك لما فرّط منافيك- فقال ان اهل مصر كانوا ينظرون الىّ بالعين الاولى و يقولون سبحان من بلّغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلّغ و لقد شرّفت بكم و عظّمت فى عيونهم- حيث علموا انكم إخوتي من حفدة ابراهيم - قال البغوي فلما عرّفهم يوسف نفسه سالهم عن أبيه فقال ما فعل ابى بعدي قالوا ذهبت عيناه فاعطاهم قميصه و دعا أباه و قال. ٩٣ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً اى يرجع الىّ بصيرا- او المعنى يصير بصيرا- قال الحسن لم يعلم انه يعود بصيرا الا بعد ان اعلمه اللّه- قال الضحاك كان ذلك القميص من نسيج الجنة و عن مجاهد امره جبرئيل ان يرسل اليه قميصه- و كان ذلك القميص قميص ابراهيم - و ذلك انه جرد ثيابه و القى فى النار عريانا- فاتاه جبرئيل بقميص من حرير الجنة فالبسه إياه فكان ذلك عند ابراهيم - فلما مات ورثه إسحاق فلما مات ورثه يعقوب فلما شبّ يوسف جعل يعقوب ذلك القميص فى قصبة و شد رأسها و علقها فى عنقه- لما كان يخاف عليه من العين و كان لا يفارقه- فلما القى فى البئر عريانا جاءه جبرئيل عليه السلام و على يوسف عليه السلام ذلك التعويذ- فاخرج القميص منه و البسه إياه- ففى هذا الوقت جاء جبرئيل عليه السلام و قال أرسل ذلك القميص- فان فيه ريح الجنة لا يقع على مبتلىّ و لا سقيم إلا عوفي- فدفع يوسف ذلك القميص الى اخوته و قال فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً- قلت و إذا ثبت بكشف المجدد رضى اللّه عنه ان حسن يوسف و وجوده كان من جنس الأشياء الموجودة فى الجنة- فحينئذ لا حاجة الى ثبوت كون قميصه من نسيج الجنة و لاجل ذلك كان يعافى به المبتلى بل يكفى فى ذلك كون القميص ملبوسا ليوسف فان وجود يوسف كان من جنس أشياء الجنة و اللّه اعلم- وَ أْتُونِي أنتم و ابى بِأَهْلِكُمْ بنسائكم و ذراريكم و مواليكم أَجْمَعِينَ (٩٣). ٩٤ وَ لَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ الّتي فيها قميص يوسف من مصر و خرجت من عمرانها الى كنعان قالَ أَبُوهُمْ يعقوب عليه السلام لمن حضره إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ فيه دليل على ان ريح الجنة كان من يوسف نفسه لا من قميصه- و الا لقال ريح قميص يوسف- قال البغوي روى ان ريح الصبا استأذنت ربها فى ان يأتى يعقوب بريح يوسف قبل ان يأتيه البشير- قال مجاهد أصاب يعقوب ريح يوسف من مسيرة ثلاثة ايام- و حكى عن ابن عباس من مسيرة ثمان ليال- و قال الحسن كان بينهما ثمانون فرسخا- و قيل هبت ريح فاحتملت ريح القميص الى يعقوب- فوجد ريح الجنة فعلم ان ليس فى الأرض من ريح الجنة الا ما كان من ذلك القميص- فلذلك قال إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) اى لو لا تنسبونى الى الفند و هو نقصان عقل يحدث من هرم- و لذلك لا يقال عجوز مفنّدة لان نقصان عقلها ذاتى- و جواب لو لا محذوف تقديره لصدقتمونى او لقلت انه قريب. ٩٥ قالُوا يعنى من حضره تَاللّه إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) اى فى ذهابك عن الصواب قديما بالإفراط فى محبة يوسف و إكثار ذكره و توقع لقائه-. ٩٦ فَلَمَّا ان زائدة جاءَ الْبَشِيرُ من عند يوسف قال ابن مسعود جاء البشير بين يدى العير- و قال ابن عباس هو يهودا- قال السدىّ قال يهودا انا ذهبت بالقميص ملطّخا بالدم الى يعقوب فاخبرته ان يوسف أكله الذئب- فانا اذهب اليوم بالقميص فاخبره انه حىّ- فافرّحه كما احزنته- قال ابن عباس حمله يهودا و خرج حافيا حاسرا يعدو و معه سبعة ارغفة لم يستوف أكلها حتّى اتى أباه و كانت المسافة ثمانين فرسخا- و قيل البشير مالك بن وعر أَلْقاهُ القى البشير قميص يوسف عَلى وَجْهِهِ اى وجه يعقوب فَارْتَدَّ بَصِيراً فعاد بصيرا بعد ما كان أعمى و عادت قوته بعد الضعف و شبابه بعد الهرم قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي فتح الياء نافع و ابن كثير و ابو عمرو و أسكنها الباقون أَعْلَمُ مِنَ اللّه «١» ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) من حيوة يوسف و ان اللّه يجمع بيننا- و قيل إِنِّي أَعْلَمُ كلام مبتدا و القول لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللّه- و إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ- قال البغوي روى انه قال للبشير كيف يوسف قال انه ملك مصر فقال يعقوب ما اصنع بالملك على اى دين تركته قال على الإسلام قال الان تمت النعمة. (١) ليس فى الأصل من اللّه. ٩٧ قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) اى سل اللّه مغفرة ما ارتكبنا فى حقك و حق ابنك انا تبنا و اعترفنا بخطائنا. ٩٨ قالَ يعقوب سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي فتح الياء نافع و ابو عمرو و أسكنها الباقون- قال اكثر المفسرين اخّر الدعاء الى السحر- فانه ينزل ربنا تبارك و تعالى كل ليلة الى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الاخر- يقول من يدعونى فاستجيب له من يسئلنى فاعطيه من يستغفرنى فاغفر له متفق عليه من حديث ابى هريرة عنه صلى اللّه عليه و سلم- فلما انتهى يعقوب الى الموعد قام الى الصلاة بالسحر فلما فرغ منها رفع يديه الى اللّه عزّ و جلّ ثم قال اللّهم اغفر لى جزعى على يوسف و قلة صبرى عنه و اغفر لولدى ما أتوا الى أخيهم يوسف فاوحى اللّه اليه انى قد غفرت لك و لهم أجمعين- و عن عكرمة عن ابن عباس سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ يعنى ليلة الجمعة- و قال وهب كان يستغفر لهم فى كل ليلة جمعة فى نيف و عشرين سنة- و قال طاءوس اخر الدعاء الى السحر من ليلة الجمعة فوافق ليلة عاشوراء- و قال الشعبي قال سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي يعنى اسئل يوسف ان عفا عنكم استغفرت لكم ربى- فانّ عفو المظلوم شرط لمغفرة اللّه تعالى- و قيل اخر الدعاء الى ان يتعرف حالهم فى صدق التوبة إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) قال النووي روى ان يوسف بعث مع البشير الى يعقوب مائتى راحلة و جهازا كثيرا ليأتوا بيعقوب و اهله و ولده- فتهيّا للخروج الى مصر فخرجوا و هم اثنان و سبعون بين رجل و امراة- و قال مسروق كانوا ثلاثة و تسعين- فلما دنا من مصر كلم يوسف الملك الّذي فوقه- فخرج يوسف و الملك فى اربعة آلاف من الجند و ركب اهل مصر معهما يلقون «١» يعقوب و كان يعقوب يمشى و هو يتوكا على يهودا فنظر الى الخيل و الناس فقال يا يهودا هذا فرعون مصر قال لا هذا ابنك. (١) فى الأصل ملقون-. ٩٩ فَلَمَّا دَخَلُوا اى يعقوب و اهله عَلى يُوسُفَ قلت لعل يوسف حين خرج من مصر لاستقبال يعقوب عليه السلام نزل فى مضرب او قصر كان له ثمه فدخلوا عليه هناك- و قال البغوي فلما دنا كل واحد منهما صاحبه ذهب يوسف يبدؤه بالسلام فقال جبرئيل لا حتّى يبدا يعقوب بالسلام- قلت لعل هذا لاجل محبوبية اللّه الّتي ظهرت فى يوسف- فقال يعقوب عليه السلام السلام عليك يا مذهب الأحزان آوى إِلَيْهِ اى ضم اليه أَبَوَيْهِ قال اكثر المفسرين هو أبوه و خالته ليّا- نزّلها منزلة الام تنزيل العم منزلة الأب فى قوله تعالى آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ- او لان يعقوب تزوجها بعد امه و الرابّة تدعى امّا- و كانت أم يوسف قد ماتت فى نفاس بنيامين- و قال الحسن هو أبوه و امه و كانت حية- و فى بعض التفاسير ان اللّه أحيا امه حتّى جاءت مع يعقوب الى مصر- قال البغوي روى ان يوسف و يعقوب نزلا و تعانقا و قال الثوري عانق كل واحد منهما صاحبه و بكيا- فقال يوسف يا أبت بكيت علىّ حتّى ذهب بصرك الم تعلم ان القيامة يجمعنا- قال بلى يا بنى و لكن خشيت ان تسلب دينك فيحال بينى و بينك وَ قالَ يوسف بعد ما لقيهم خارج مصر ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللّه آمِنِينَ (٩٩) من الجواز لانهم كانوا لا يدخلون مصر قبله الا بجواز من ملوكهم- و من القحط و اصناف المكاره- و المشية متعلقة بالدخول المكيف بالأمن كما فى قوله تعالى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّه آمِنِينَ- و قيل ان هاهنا بمعنى إذ اى إذ شاء اللّه كما فى قوله تعالى وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ اى إذ كنتم- و قيل فى الاية تقديم و تأخير و الاستثناء يرجع الى الاستغفار و هو قول يعقوب لبنيه سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ان شاء اللّه-. ١٠٠ وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ اى أجلسهما على السرير- و الرفع هو النقل من السفل الى العلو وَ خَرُّوا يعنى أبوي يوسف و اخوته لَهُ سُجَّداً لم يرد بالسجود وضع الجباه على الأرض انما هو الانحناء و التواضع يعنى تواضعوا ليوسف- و قيل وضعوا الجباه على الأرض و كان ذلك على طريق التحيّة و التعظيم لا على طريق العبادة- و كانت تحيّة الناس يومئذ السجود- و كان ذلك جائزا فى الأمم السابقة فنسخت فى هذه الشريعة- و روى عن ابن عباس انه قال معناه خروا للّه سجدا شكرا بين يدى يوسف و الضمير فى له يرجع الى اللّه- قلت كانّ يوسف جعل قبلة بإذن اللّه تعالى كالكعبة لنا- و كما جعل آدم قبلة للملائكة حين أمروا بالسجود له- و قيل معناه خَرُّوا لَهُ اى لاجل يوسف و لقائه سجد اللّه تعالى شكرا و الاول أصح و الرفع مؤخر عن الخرور و ان قدم لفظا للاهتمام بتعظيمه لهما وَ قالَ يوسف عند ذلك يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ الّتي رايتها فى ايام الصبا إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ... قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا صدقا وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي فتح الياء نافع و ابو عمرو و أسكنها الباقون يعنى قد أنعم علىّ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ و لم يذكر الجب مع كونه أشد من السجن استعمالا للكرم كيلا يخجل اخوته بعد ما قال لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ- و لان نعمة اللّه فى إخراجه من السجن أعظم لان بعد خروجه من الجب صار الى العبودية و الرق و ابتلى بمكر النساء- و بعد خروجه من السجن صار ملكا وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ البدو بسيط من الأرض يسكنه اهل المواشي بما شيتهم و كانوا اهل بادية و المواشي مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي فتح الياء ورش و أسكنها الباقون- اى أفسد بيننا بالحسد و جرش من نزغ الرابض الدابة إذا نحنها و حملها على الجري إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ تدبيره لِما يَشاءُ إذ ما من صعب الا و ينفذ مشيته به و يتسهل دونها- و قال البغوي ذو لطف- و حقيقة اللطيف الّذي يوصل الإحسان الى غيره بالرفق إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بوجوه المصالح و التدابير الْحَكِيمُ (١٠٠) الّذي يفعل كل شي ء فى وقت و على وجه يقتضيهما الحكمة- قال البيضاوي روى ان يوسف طاف بابيه عليهما السلام فى خزائنه- فلما دخل خزينة القرطاس قال يا بنى ما اغفاك عندك هذه القراطيس و ما كتبت الىّ على ثمان مراحل قال أمرني جبرئيل عليه السلام قال او ما تسئله قال أنت ابسط منى اليه فساله- فقال جبرئيل عليه السلام اللّه أمرني بذلك «١» لقولك وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ قال اللّه فهلا خفتنى- قال البغوي قال اهل التاريخ اقام يعقوب بمصر عند يوسف أربعا و عشرين سنة فى أغبط حال واهنا عيش ثم مات بمصر- فلما حضرته الوفاة اوصى الى يوسف ان يحمل جسده حتّى يدفنه عند أبيه إسحاق- ففعل يوسف و مضى به حتّى دفنه بالشام ثم انصرف الى مصر- اخرج احمد فى الزهد عن مالك ان يعقوب لما ثقل قال لابنه يوسف ادخل يدك تحت صلبى و احلف لى برب يعقوب لتدفننى مع ابائى قد اشتركتهم فى العمل فاشركنى معهم فى قبورهم- فلمّا توفى يعقوب فعل ذلك يوسف حتّى اتى به ارض كنعان فدفنه معهم- قال سعيد بن جبير نقل يعقوب فى تابوت من ساج الى بيت المقدس فوافق ذلك يوم مات عيص فدفنا فى قبر واحد و كانا ولدا فى بطن واحد و كان عمرهما مائة و سبعة و أربعين سنة- فلما جمع اللّه ليوسف شمله علم ان نعيم الدنيا لا يدوم سال اللّه حسن العاقبة فقال. (١) فى الأصل اللّه أمرني بذلك اللّه-. ١٠١ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ اى بعض الملك و هو ملك مصر و الملك اتساع المقدور لمن له السياسة و التدبير وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ اى و الرؤيا و من هذا ايضا للتبعيض لانه لم يؤت كل التأويل وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ... فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ اى خالقهما و مبدعهما و انتصابه على انه صفة المنادى او منادى برأسه أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ يعنى ناصرى و متولى أموري فيهما- او الّذي يتولانى بالنعمة فيهما و يوصل الملك الفاني بالملك الباقي تَوَفَّنِي اى اقبضنى إليك مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١) اى بالنبيين فان كمال الصلاح بالعصمة و هى مختصة بالأنبياء- قال قتادة لم يسئل نبى من الأنبياء الموت الا يوسف- و فيه نظر فان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال اللّهم الرفيق الأعلى- و عن عائشة قالت كنت اسمع انه لا يموت نبى حتّى يخيّر بين الدنيا و الاخرة- قالت أصابت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بحّة شديدة فى مرضه فسمعته يقول مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً فظننت انه خيّر- رواه الشيخان فى الصحيحين و ابن سعد- و فى القصة انه لما جمع اللّه تعالى ليوسف شمله و أوصل اليه أبويه و اهله اشتاق الى ربه فقال هذه المقالة- قال الحسن عاش بعد هذا سنين كثيرة- و قال غيره لما قال هذا لم يمض عليه أسبوع حتّى توفى قال البغوي اختلفوا فى مدة غيبة يوسف عن أبيه قال الكلبي اثنان و عشرون سنة- و قيل أربعون سنة- و قال الحسن القى يوسف فى الجب و هو ابن سبع عشرة- و غاب عن أبيه ثمانين سنة- و عاش بعد لقاء يعقوب ثلاثا و عشرين سنة- و مات و هو ابن عشرين و مائة سنة- و فى التورية مائة و عشر سنين- و ولد ليوسف من امراة العزيز ثلاثة أولاد افرائيم و ميشار و كان من أولاد افرائيم يوشع بن نون صاحب موسى ) و رحمت بنت يوسف امراة أيوب المبتلىّ عليهم السلام- و قيل عاش يوسف بعد أبيه ستين سنة و قيل اكثر- و اختلفت الأقاويل فيه و توفى و هو ابن مائة و عشرين سنة- فدفنوه فى النيل فى صندوق من رخام- و ذلك انه لما مات تشاح الناس فيه فطلب اهل كل محلة ان يدفن فى محلتهم رجاء بركته- حتّى هموا بالقتال فراوا ان يدفنوه فى النيل حيث يتفرق الماء بمصر ليجرى الماء عليه و يصل بركته الى جميعهم- و قال عكرمة دفن فى الجانب الايمن من النيل فاخصب ذلك الجانب و اجدب الجانب الاخر- فنقل الى الجانب الأيسر فاخصب ذلك الجانب و اجدب الجانب الاخر فدفنوه فى وسطه- و قدّروا ذلك سلسلة فاخصب الجانبان الى ان أخرجه موسى فدفنوه بقرب ابائه بالشام- اخرج ابن إسحاق و ابن ابى حاتم عن عروة بن الزبير قال ان اللّه حين امر موسى بالسير ببني إسرائيل امره ان يحتمل معه عظام يوسف- و ان لا يخلفها بأرض مصر و ان يسير بها معه حتّى يضعها بالأرض المقدسة- فسال موسى عمن يعرف قبره فما وجد الا عجوزا من بنى إسرائيل- فقالت يا نبى اللّه انى اعرف مكانه ان أنت أخرجتني معك و لم تخلفنى بأرض مصر دللتك عليه- قال افعل و قد كان موسى وعد بنى إسرائيل ان يسير بهم إذا طلع القمر- فدعا ربه ان يؤخر طلوعه حتّى يفرغ من امر يوسف- ففعل فخرجت به العجوز حتّى ارته «١» إياه فى ناحية من النيل فى الماء- فاستخرجه موسى صندوقا من مرمر فاحتمله و لقد توارث الفراعنة من العماليق بعد يوسف مصر و لم يزل بنوا إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف حتّى بعث اللّه موسى عليه السلام و أهلك على يده فرعون- (١) فى الأصل حتّى آراه-. ١٠٢ ذلِكَ الّذي ذكرت من قصة يوسف مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ يا محمّد وَ ما كُنْتَ يا محمّد لَدَيْهِمْ عند بنى يعقوب إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ اى عزموا ان يلقوا يوسف فى غيابت الجب وَ هُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) بيوسف- هذا كالدليل على كونه يوحى اليه يعنى لا يخفى على مكذبيك انك ما كنت عند أولاد يعقوب و ما لقيت أحدا يعلم ذلك حتّى سمعت القصة منه- انما حذف هذا الشق استغناء بذكره فى غير هذه القصة- كقوله تعالى ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا- قال البغوي روى ان يهود و قريشا سالوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن قصة يوسف فلما أخبرهم على موافقة التورية لم يسلموا فحزن النبي صلى اللّه عليه و سلم لذلك فانزل اللّه تعالى. ١٠٣ وَ ما أَكْثَرُ النَّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ يا محمّد على ايمانهم و بالغت فى اظهار الآيات عليهم بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) لما قضى اللّه تعالى عليهم بالكفر و النار. ١٠٤ وَ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ اى على الانباء او القران مِنْ أَجْرٍ جعل إِنْ هُوَ اى القران إِلَّا ذِكْرٌ عظة من اللّه لِلْعالَمِينَ (١٠٤) عامة حجة على من لم يؤمن و بصيرة و رحمة لمن أمن به-. ١٠٥ وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ و كثير من اية أصله كاىّ عدد شئت من الدلائل الدالة على وجود الصانع و حكمته و كمال قدرته و توحيده فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ اى الكفار عَلَيْها اى على تلك الآيات و يشاهدونها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) اى و الحال انهم يعرضون عنها- يعنى انهم يرون اثار الأمم الهالكة و غير ذلك من العبر و لا يتفكرون فيها و لا يعتبرون بها. ١٠٦ وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّه اى يقرّون بوجوده و خالقيته إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) يعنى فى حال من الأحوال الا فى حال اشراكهم فى العبادة غيره تعالى به- فانهم كانوا إذا سئلوا من خلق السموات و الأرض قالوا اللّه- و إذا سئلوا من ينزل من السماء ماء قالوا اللّه- و مع ذلك كانوا يعبدون الحجارة و «١» يقولون مطرنا بنوء كذا- و عن ابن عباس انه قال انها نزلت فى تلبية المشركين من العرب كانوا يقولون فى تلبيتهم لبيك اللّهم لبيك لبيك لا شريك لك الا شريكا هو لك تملكه و ما ملك- و قال عطاء هذا فى الدعاء حيث نسوا ربهم فى الرخاء- فاذا أصابهم البلاء أخلصوا الدعاء فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ- و فى نحو ذلك من الأحوال- و قيل معناه إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ باتخاذ الأحبار أربابا مطاعا فى خلاف ما امر اللّه به- او مشركون بنسبة التبني اليه تعالى- او القول بالنور و الظلمة- و من جملة الشرك ما يقوله القدرية من اثبات قدرة الخلق للعبد- و انما التوحيد ما يقوله اهل السنة لا خالق الا اللّه- بل النظر الى الأسباب مع الغفلة عن المسبب ينافى التوحيد- فالموحدون هم الصوفية. (١) فى الأصل و يقول-. ١٠٧ أَ فَأَمِنُوا يعنى انسوا ربهم فامنوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ اى عقوبة تغشاهم و تشملهم كائنة مِنْ عَذابِ اللّه قال قتادة وقيعة و قال الضحاك يعنى الصواعق و القوارع أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ المشتملة على عذاب جهنم بَغْتَةً فجاءة من غير سابقة علم و علامة على تعين وقته وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) بإتيانها غير مستعدين لها استفهام انكار يعنى لا ينبغى لهم ذلك النسيان و الا من- قال ابن عباس يهيج الصيحة بالناس و هم فى أسواقهم و عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ليقومن الساعة و قد نشر الرجلان ثوبا فلا يتبايعانه و لا يطويانه الحديث- و قد مر الحديث و ما فى الباب فى سورة الأعراف فى تفسير قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها الى قوله لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً-. ١٠٨ قُلْ يا محمّد هذِهِ الدعوة الى التوحيد و الاعداد للمعاد سَبِيلِي سنتى و منهاجى- و السبيل يذكر و يؤنث كالطريق ثم فسّر السبيل بقوله أَدْعُوا إِلَى اللّه اى الى الايمان بوجوده و وحدانيته و تنزيهه عما لا يليق به و ابتغاء درجات قربه عَلى بَصِيرَةٍ اى على يقين و معرفة- اى لست من الخراصين الذين يقولون بأشياء من غير علم- او المعنى على بصيرة اى بيان و حجة واضحة غير عمياء أَنَا تأكيد للمستتر فى ادعوا- او فى على بصيرة لانه حال منه- او مبتدا خبره على بصيرة وَ مَنِ اتَّبَعَنِي عطف عليه اى من أمن بي و صدّقنى فهو ايضا يدعوا الى اللّه- قال الكلبي و ابن زيد حق على من تبعه ان يدعو الى ما دعا اليه و يذكر القران- او المعنى انا و كل من تبعني فهو على بصيرة- قال ابن عباس يعنى به اصحاب محمّد صلى اللّه عليه و سلم كانوا على احسن طريقة و اقصه هداية معدن العلم و كنز الايمان و جند الرّحمن- و قال ابن مسعود من كان مستنّا فليستنّ بمن قد مات أولئك اصحاب محمّد صلى اللّه عليه و سلم كانوا خير هذه الامة أبرها قلوبا و أعمقها علما و أقلها تكلفا قوم اختارهم اللّه لصحبة نبيه صلى اللّه عليه و سلم و نقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم و طرائقهم فهم كانوا على الهدى المستقيم وَ سُبْحانَ اللّه عطف على ادعوا يعنى ادعوا الى اللّه و انزّهه تنزيها من الشركاء وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨). ١٠٩ وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا محمّد إِلَّا رِجالًا لا ملائكة رد لقولهم لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ... نُوحِي إِلَيْهِمْ كما نوحى إليك و بذلك امتازوا عن غيرهم- قرا حفص هنا و فى النحل و الاول من الأنبياء بالنون و كسر الحاء على التكلم و البناء للفاعل و الباقون بالياء و فتح الحاء على الغيبة و البناء للمفعول مِنْ أَهْلِ الْقُرى يعنى من اهل الأمصار لكونهم اعقل و اعلم و احلم دون اهل البوادي لغلظهم و جفائهم- قال الحسن نظرا الى هذه الاية لم يبعث اللّه نبيا من بدو و لا من الجن و لا من النساء- قلت لا دليل فى الاية على نفى النبوة من الجن- فانه تعالى قال كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ و ايضا الكلام فى بعث الرسل الى الانس- و ذلك لا يقتضى عدم إرسال الجن الى الجن- و قد قال اللّه تعالى قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا ... أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ يعنى هؤلاء المشركون المكذّبون فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ امر الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم ْ من المكذّبين بالرسل و الآيات فيعتبروا و يحذروا تكذيبك- او من المستغرقين بالدنيا المتهالكين عليها فينقلعوا عن حبها وَ لَدارُ الْآخِرَةِ اى دار الحالة الاخرة او الساعة الاخرة او الحيوة الاخرة خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك و المعاصي يقول اللّه تعالى- هذا ما فعلنا باهل ولايتنا و طاعتنا ان ننجيهم عند نزول العذاب فى الدنيا- و ما فى الدار الاخرة لهم خير- فترك ما ذكر اكتفاء بدلالة الكلام عليه أَ فَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) اى «١» تستعملون عقولكم لتعرفوا انها خير- قرا نافع و ابن عامر و عاصم و يعقوب بالتاء على الخطاب و الباقون بالياء على الغيبة- (١) فى الأصل اى يستعملون عقولهم ليعرفوا-. ١١٠ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ عامة لما دل عليه وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا اى فتراخى نصرهم حتّى إذا استيئسوا- و قال البيضاوي غاية لمحذوف دل عليه الكلام تقديره لا يغررهم تمادى ايّامهم- فان من قبلهم أمهلوا حتّى إذا استيئس الرسل من ايمان قومهم لانهماكهم فى الكفر مترفين متمادين فيه من غير سوء وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قرا الكوفيون و ابو جعفر بتخفيف الذال- و كانت عائشة تنكر هذه القراءة نظرا الى ظاهر معناه انهم ظنوا أخلفوا ما وعدهم اللّه لكن القراءة متواترة و ان لم تسمعها عائشة من النبي صلى اللّه عليه و سلم و لم يبلغها متواترا- و المعنى ظنوا اى الرسل انهم قد كذبوا اى كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم انهم ينصرون- او كذبهم القوم بوعد الايمان- او المعنى و ظنوا اى المرسل إليهم انهم اى الرسل قد كذبوهم بالدعوة و الوعيد- او المعنى ظن المرسل إليهم ان الرسل قد كذبوا و أخلفوا فيما وعد لهم من النصر و خلط الأمر عليهم- و قال البغوي و روى عن ابن عباس ان معناه ضعف قلوب الرسل يعنى و ظنت الرسل انهم قد كذبوا فيما وعدوا من النصر و كانوا بشرا و ظنوا انهم أخلفوا ثم تلا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللّه- و هذا المعنى هو الّذي أنكرته عائشة- قال البيضاوي ان صح هذه الرواية يعنى عن ابن عباس فالمراد بالظن ما يهجس فى القلب طريق الوسوسة قال الطيبي الرواية صحيحة فقد رواه البخاري و الظاهر ان المراد بالآية المبالغة فى التراخي و الامهال على سبيل التمثيل- و قرا غير الكوفيين بالتشديد- و المعنى و ظنت يعنى أتقنت الرسل ان القوم قد كذبوهم فيما اوعدوهم تكذيبا لا يرجى ايمانهم بعده- كذا قال قتادة و قال بعضهم معناه حتّى إذا استيئس الرّسل ممن كذبهم من قومهم ان يصدقوهم و ظنوا ان من أمن بهم منهم قد كذبوا و ارتدوا عن ايمانهم لشدة المحنة و البلاء و استبطاء النصر جاءَهُمْ اى الرسل نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ قرا ابن عامر و عاصم و يعقوب بنون واحدة و تشديد الجيم و فتح الياء على لفظ الماضي المبنى للمفعول من التفعيل- فيكون محل من مرفوعا- و الباقون بنونين و تخفيف الجيم و سكون «١» الياء على لفظ المضارع المتكلم من الافعال و من حينئذ فى محل النصب و المراد من نشاء النبي و المؤمنون- و انما لم يعينهم ليدل على انهم هم الذين يستأهلون ان نشآء نجاتهم لا يشاركهم فيه غيرهم و لا يذهب الوهم الى غيرهم وَ لا يُرَدُّ بَأْسُنا عذابنا (١) فى الأصل و سكونها-. عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) إذا نزل بهم و فيه بيان المشيتين- قلت و يمكن ان يكون المراد بمن نشاء بعض المؤمنين فان بعضهم قد يهلكون بمجاورة الكافرين قال اللّه تعالى وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً-. ١١١ لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ اى فى قصص الأنبياء و أممهم اوفى قصة يوسف و اخوته عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ اى لذوى العقول السليمة المبراة عن شوائب الانف و الركون الى الحسّ- حيث نقل من غيابة الجب الى غيابة الحب- و من الحصير الى السرير فصارت عاقبة الصبر السلامة و الكرامة- و نهاية المكر الخزي و الندامة ما كانَ القران حَدِيثاً يُفْتَرى اى يختلق وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من التورية و الإنجيل و الزبور وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ مما يحتاج اليه العباد فى الدين- إذ ما من امر دينى الا و له سند من القران بوسط او بغير وسط- فان ما كان ثابتا بالسنة فقد قال اللّه تعالى وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللّه- و قال أَطِيعُوا اللّه وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ- و قال ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا- و نحو ذلك و ما كان ثابتا بالإجماع فقد قال اللّه تعالى وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى الاية- و ما كان ثابتا بالقياس فقد قال اللّه تعالى فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ وَ هُدىً من الضلال وَ رَحْمَةً ينال بها خير الدارين لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١) اى يصدقونه خصوا بالذكر لانتفاعهم به دون غيرهم- و ما نصب بعد لكن معطوف على خبر كان- قال الشيخ ابو منصور فى ذكر قصة يوسف و اخوته تصبير لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على أذى قريش كانه يقول ان اخوة يوسف مع كونهم موافقا له فى الدين و كانوا أبناء رجل واحد- عملوا بيوسف ما عملوا من الكيد و المكر و هم يعلمون قبح صنيعهم فصبر يوسف على ذلك و عفا عنهم- فانت أحق ان تصبر على أذى قومك فانهم كفار جهال لا يعلمون قبح صنيعهم- و قال وهب ان اللّه تعالى لم ينزل كتابا الا و فيه سورة يوسف تامة كما هى فى القران و اللّه اعلم |
﴿ ٠ ﴾