٥

قالَ يا بُنَيَّ تصغير ابن صغّره للشفقة او لصغر السن

قال البغوي كان يوسف ابن اثنى عشر سنة- قرا حفص هاهنا و فى الصافات بفتح الياء و الباقون بكسرها لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ الرؤيا مختص بما يكون فى النوم او نحو ذلك من الاستغراق فرق بينها و بين الرؤية بحر فى التأنيث كالقرية و القرى-

قال البيضاوي الرؤيا انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة الى الحس المشترك- و الصادقة منها انما يكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب- عند فراغها من تدبير البدن ادنى فراغ فيتصور بما فيها مما لا يليق من المعاني الحاصلة هناك- ثم ان المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبه فترسلها الى الحس المشترك فتصير مشاهدة- ثم ان كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت الا بالكلية و الجزئية- استغنت الرؤيا عن التعبير و الا احتاجت اليه-

قلت الرؤيا هى مطالعة النفس فى الصور المنطبعة فى الحس المشترك من أفق المتخيلة عند غفلتها و فراغها عن مطالعة المحسوسات فى النوم او الإغماء او نحو ذلك- و هى على ثلاثة اقسام قسمان منها باطلان و القسم الثالث منها صحيحة صالحة من حيث الأصل- لكنها قد تفسد بالعوارض و يقع فيها الخطاء بها و قد يقع الخطاء فى تأويلها- اما القسمان الباطلان فالاول منهما ما تراه النفس من صور الأشياء الّتي راتها فى اليقظة- او تفكر و اخترعها المتخيلة من غير اصل لها فى الواقع- و تسمى تلك الرؤيا حديث النفس و الثاني منهما ما ألقاه الشيطان فى خياله و تمثل له تخويفا او ملاعبة- فان الشيطان يجرى من الإنسان مجرى الدم- و تسمى تلك الرؤيا الرؤيا السوء و تخويف الشيطان و الحلم- و اما الّتي هى صحيحة فهى الهام و اعلام من اللّه تعالى لعبده على شي ء مما فى خزائن الغيب- او على شي ء من مكنونات صفاته و أحواله و درجات القرب له من اللّه تعالى حتّى تكون له بشارة- عن عبادة بن الصامت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رؤيا المؤمن كلام يكلم العبد ربه فى المنام رواه الطبراني بسند صحيح و الضياء- و حقيقة تلك الرؤيا الصالحة عند الصوفية ان العالم الكبير شخص له نفس و روح و قوى على هيئة الإنسان و لذلك يسمى إنسانا كبيرا- و لمشابهته يسمى الإنسان عالما صغيرا- فكما ان فى العالم الصغير اعنى الإنسان قوة متخيلة فكذلك فى العالم الكبير متخيلة- يتخيل بها المحسوسات و المعقولات و الاعراض و الجواهر و المجردات و المعاني- فصور الأشياء كلها حتّى الواجب تعالى و صفاته- و الممكنات بأسرها المجردات منها و الماديات- و ما لا صورة لها فى الخارج كالموت و الحياة و الأيام و السنين و الأمراض موجودة فى تلك المتخيلة- بايجاد اللّه تعالى- و من أجل ذلك راى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الحمى على صورة امراة سوداء- و عبر يوسف عليه السلام البقرات و السنابل بالسنين- و من هاهنا يظهر انه لا يشترط فى الصورة كونها من حبس المحكي عنه او مشتملا على جميع خصائصه- بل يكفى فى ذلك نوع من المناسبة- فلاجل تلك المناسبة الظاهرة او الخفية يتمثل فى متخيلة العالم الكبير ذلك الشي ء بتلك الصورة و لاجل لك المناسبة الخفية راى يوسف عليه السلام أبويه و اخوته فى صورة الشمس و القمر و الكواكب- و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الرؤيا ستة المرأة خير و البعير حرب و اللبن فطرة و الخضرة جنة و السفينة نجاة و التمر رزق- رواه ابو يعلى فى معجمه عن رجل من الصحابة بسند ضعيف- و تلك المتخيلة من العالم الكبير تسمى فى اصطلاح الصوفية بعالم المثال ثم تلك الصورة تنطبع لاجل المناسبة و المحاذات من متخيلة العالم الكبير فى متخيلة العالم الصغير اى الإنسان- و تراه النفس حين فراغها «١» عن مطالعة المحسوسات- فالانبياء عليهم الصلوات و التسليمات (لاجل عصمتهم عن الشيطان و عن معارضة الأوهام- و لاجل كون مناماتهم مقتصرة على العيون تنام عيونهم و قلوبهم يقظان- فيميزون مخترعات الخيال عن حقائق الإلهام) انحصرت رؤياهم فى القسم الثالث- ثم عدم العوارض المفسدة للمنامات الموجبة لوقوع الخطاء فيها متيقن فيهم عليهم السلام فرؤيا الأنبياء يكون وحيا قطعيا حتّى تصدى خليل اللّه عليه السلام لذبح ابنه و قال إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى - قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ- و رؤيا الصلحاء اعنى الأولياء الذين زكوا أنفسهم بالرياضات- و أزالوا عنها الكدورات الجبلية-

(١) فى الأصل فراعه-.

و تنزهوا عن ظلمات الذنوب و الآثام- و تجلى بواطنهم باقتباس أنوار النبوة صالحة صادقة الا نادرا- و ذلك عند عروض كدورة بأكل شي ء من المشتبهات- او زائدا على الحاجة بحيث تولدت منه كدورة ما- او لاجل لمم من المعصية فانهم غير معصومين- او لانعكاس من صحبة العوام- فرؤيا الأولياء شبيهة بالوحى- و لذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رؤيا المؤمن جزء من ستة و أربعين جزءا من النبوة- متفق عليه من حديث انس و ابى هريرة و عبادة بن الصامت و رواه احمد عنهم و ابو داؤد و الترمذي عن عبادة و روى البخاري عن ابى سعيد و مسلم عن ابن عمرو ابى هريرة و احمد و ابن ماجة عن ابى رزين و الطبراني عن ابن مسعود بلفظ الرؤيا الصالحة جزء من ستة و أربعين جزءا من النبوة- و روى ابن ماجة بسند صحيح عن ابى سعيد رؤيا المسلم الصالح جزء من سبعين جزءا من النبوة- و ابن ماجة و احمد بسند صحيح عن ابن عمرو احمد عن ابن عباس الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءا من النبوة- و فى حديث ابى رزين عند الترمذي رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءا من النبوة- و فى حديث العباس بن عبد المطلب عند الطبراني رؤيا المؤمن الصالح بشرى من اللّه و هى جزء من خمسين جزءا من النبوة- و فى حديث ابن عمر عند ابن النجار جزء من خمسة و عشرين جزءا من النبوة-

فان قيل ما معنى كونها جزءا من ستة و أربعين جزءا من النبوة- و ما وجه التطبيق بين الأحاديث فى عدد الاجزاء-

قلنا كان مدة الوحى الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثلاثا و عشرين سنة- و كان نصف سنة منها الوحى بالرؤيا الصالحة لا يرى شيئا فى المنام الا وجده مثل فلق الصبح- فلذلك قال جزء من ستة و أربعين جزءا من النبوة- و اما روايتا الأربعين و الخمسين فمبنيتان على جبر الكسر او طرح الكسر و أخذ العقد تقريبا- و اما رواية السبعين فالمراد منها الكثرة فانه يطلق السبعين و يراد به الكثرة قال اللّه تعالى إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ- فالمعنى انها جزء من اجزاء كثيرة من الوحى و اما رواية خمسة و عشرين فشاذ- و اما رؤيا العوام- فمنا ماتهم و ان كانت مستفادة من عالم المثال- لكنها تفسد و تكذب غالبا- لاجل انكدار خيالاتهم بالكدورات الجبلية النفسانية- و الكدورات المكتسبة بالذنوب و الآثام- ثم قد يقع الخطاء فى تعبير الرؤيا إذا كانت بين الصورة و المحكي عنها من عالم المثال مناسبة خفية- و صحة التعبير اما بالإلهام من اللّه تعالى و هو المراد فى الاية وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ اى يلهمك تعبير المنامات و ذا لا يتصور غالبا الا إذا كان المعبر رجلا صالحا أهلا للالهام- و اما بالعقل السليم- روى الترمذي بسند صحيح عن ابى رزين قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءا من النبوة- و هى على رجل طائر ما لم يحدث بها- فاذا حدث بها سقطت و لا تحدث بها الا لبيبا او حبيبا- و فى بعض الروايات الا من تحب- و رواه ابو داؤد و ابن ماجة بسند صحيح عنه بلفظ الرؤيا على رجل طائر ما لم يعبر- فاذا عبرت وقعت و لا تقصّها الا على وادّا و ذى رأى- و المراد بالطائر عندى ما قضى اللّه و قدر له نظيره قوله تعالى وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ اى عمله و ما قدر له- فمعنى هذا الحديث عندى و اللّه تعالى اعلم- ان رؤيا المؤمن مبنى على قضاء اللّه تعالى- و قدر قدّر له لا يعلم هو ما قدر له ما لم يحدث بها و يعبر عنها معبر فاذا حدث بها و عبر عنها معبر بالهام من اللّه تعالى او بقوة الرأى و الاستنباط الموهوبة منه تعالى- وقعت اى ظهرت و اتضح ما هو مقضى له- و لا تحدث بها الا لبيبا ذا رأى او حبيبا وادّ اى رجلا صالحا يحب اللّه و المؤمنين و يحبه اللّه و المؤمنون- و هو المعنى بقوله الا من تحب فان المؤمن لا يحب الا مؤمنا صالحا- فاللبيب يعبر بالرأى السليم- و الحبيب للّه تعالى يعبر بالإلهام- فلا يقع الخطاء فى تأويلهما- و ما ذكرت من اقسام الرؤيا مستفاد من الأحاديث- روى ابن ماجة بسند صحيح عن عوف بن مالك قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الرؤيا ثلاثة منها تهاويل الشيطان ليحزن ابن آدم- و منها ما يهم به الرجل فى يقظته فيراه فى منامه- و منها جزء من ستة و أربعين جزءا من النبوة- و روى الترمذي و ابن ماجة بسند صحيح عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الرؤيا ثلاث فبشرى من اللّه و حديث النفس و تخويف الشيطان- فاذا راى أحدكم رؤيا تعجبه فليقصّها ان شاء- و ان راى شيئا يكرهه فلا يقصّها على أحد و ليقم يصلى- و اكره الغل و احبّ القيد القيد ثبات فى الدين-

و روى مسلم عن ابى قتادة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الرؤيا الصالحة من اللّه و الرؤيا السوء من الشيطان- فمن راى رؤيا فكره منها شيئا فلينفث عن يساره و ليتعوذ باللّه من الشيطان فانها لا تضره و لا يخبر بها أحدا- و ان راى رؤيا حسنة فليبشر و لا يخبر بها الا من يحب- و عنه فى الصحيحين و عند ابى داؤد و الترمذي بلفظ الرؤيا الصالحة من اللّه و الحلم من الشيطان فاذا راى أحدكم شيئا يكرهه فلينفث حين يستيقظ عن يساره ثلاثا و ليتعوذ باللّه منها فانها لا تضره-

فان قيل ما معنى قوله صلى اللّه عليه و سلم من راى رؤيا فكره فلينفث عن يساره و ليتعوذ باللّه منها-

قلنا معناه و اللّه اعلم ان الرؤيا ان كانت من تخويفات الشيطان و تسويلاته فيذهب وسوسته بالتعوذ- و ان كان من عالم المثال فقد يكون حكاية عن قضاء معلق فالتعوذ باللّه منها اى من الرؤيا يردّ القضاء المعلق ان شاء اللّه تعالى فلا تضرّه- و معنى قوله صلى اللّه عليه و سلم فلا يقصّها على أحد و ليقم يصلى انه ان قصّها على أحد يحزنه تعبيرها- فالاولى ان يرجع الى اللّه تعالى بالصلوة و الدعاء حتّى يدفع القضاء المعلق المحكي عنه بالرؤيا- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يردّ القضاء الا الدعاء الحديث- رواه الشيخان فى الصحيحين عن سلمان و ابن حبان و الحاكم عن ثوبان- و ليس النهى عن التحديث على التحريم او التنزيه الا ترى ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال لاصحابه يوم أحد انى رايت فى المنام سيفى ذا الفقار انكسر و هى مصيبة- و رايت بقرا تذبح و هى مصيبة- و قد مر الحديث فى تفسير قوله تعالى وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ فى سورة ال عمران- و انه صلى اللّه عليه و سلم ارى بنى امية على منبره فساءه ذلك- و قد حدث به و ذكرنا الحديث فى تفسير سورة القدر- و راى ابن عباس قتل الحسين عليه السلام فى رؤياه يوم قتل فحدث به- و فى الباب أحاديث كثيرة-

قلت و جاز ان يكون النهى عن تحديث الرؤيا المكروهة كيلا يظهر الأعداء الشماتة و الفرح- و عن تحديث المبشرات الا عند اللبيب او الحبيب كيلا يحسدوه و لذلك امر يعقوب يوسف عليهما السلام بكتمان رؤياه على اخوته فقال لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً اى فيحتالوا لاهلاكك حيلة حسدا- عدى الكيد باللام و هو متعد بنفسه لتضمينه معنى فعل يعدى به تأكيدا و لذلك أكد بالمصدر و علل بقوله إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) ظاهر العداوة فيزيّن له الكيد و يحمله عليه.

﴿ ٥