سُورَةُ الرَّعْدِ مَكِّيَّةٌ اَوْ مَدَنِيَّةٌ

وَهِيَ ثَلاَثٌ وَأَرْبَعُونَ آيَةً

مكيّة و آياتها ثلاث و أربعون ربّ يسّر و تمّم بالخير «١»

 بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(١) الخطبة من الناشر-.

_________________________________

١

المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الاضافة بمعنى من و أراد بالكتاب السورة او القران و تلك اشارة الى آياتها- اى تلك الآيات آيات السورة الكاملة او القران وَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعنى القران كله و محله الجر عطفا على الكتاب عطف العام على الخاص ان كان المراد بالكتاب السورة- او عطف احدى الصفتين على الاخرى ان كان المراد به القرآن و قوله الْحَقُّ خبر مبتدا محذوف اى هو الحق لا ريب فيه- او محل الموصول الرفع بالابتداء و الحق خبره- و الجملة كالحجة على الجملة الاولى-

فان قيل تعريف الخبر يدل على اختصاص المنزل بكونه حقّا- مع ان السنة و الإجماع و القياس كل منها حق يفيد الحق-

قلنا المراد بما انزل أعم من المنزل صريحا او ضمنا مما نطق المنزل بحسن اتباعه وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) لاخلالهم النظر و التأمل فيه- قال مقاتل نزلت فى مشركى مكة حين قالوا ان محمّدا صلى اللّه عليه و سلم تقوّله من تلقاء نفسه- فرد قولهم و بين دلائل توحيده-.

٢

اللّه الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ مبتدا و خبر- او الموصول صفة و الخبر يدبر بِغَيْرِ عَمَدٍ جمع عماد كاهاب و أهب او عمود كاديم و آدم- يعنى أساطين حال من السموات تَرَوْنَها صفة لعمد او استيناف للاستشهاد برؤيتهم السموات- كذلك و هو دليل على وجود الصانع الحكيم- فان ارتفاعها على سائر الأجسام المتساوية لها فى الحقيقة الجسمية- و اختصاصها بما يقتضى ذلك- لا بد ان يكون من مخصّص ليس بجسم و لا جسمانى- رجح بعض الممكنات على بعض بإرادته- و على هذا المنهاج سائر ما ذكر من الآيات ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ و قد مر البحث عنه فى سورة يونس وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ اى ذللّهما لما أراد منهما كالحركة المستمرة على حد من السرعة ينفع للحوادث اليومية كُلٌّ منهما يَجْرِي فى السماء الدنيا لِأَجَلٍ مُسَمًّى لمدة معينة يتم فيها أدواره- او لغاية معلومة و هو وقت فناء الدنيا يُدَبِّرُ الْأَمْرَ اى يقضى امر ملكوته من الإيجاد و الاعدام و الاحياء و الاماتة و غير ذلك يُفَصِّلُ الْآياتِ ينزلها او يبينها مفصلة- او يحدث الدلائل واحدا بعد واحد لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) لكى تفكروا فيها و تعلموا كمال قدرته- فتعلموا ان من قدر على خلق هذه الأشياء و تدبيرها قادر على الاعادة و الجزاء.

٣

وَ هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ بسطها ليثبت عليها الاقدام و ينقلب عليها الحيوان وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ جمع راسية اى جبالا ثابتة من رسى الشي ء إذا ثبت- و التاء للتأنيث على انها صفة اجبل او للمبالغة- قال ابن عباس كان ابو قبيس أول جبل وضع على الأرض وَ أَنْهاراً ضمها الى الجبال و علق بهما فعلا واحدا من حيث ان الجبال اسباب لتولّدها وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ متعلق بقوله جَعَلَ فِيها اى جعل فى الأرض جميع انواع الثمرات زَوْجَيْنِ صنفين اثْنَيْنِ الجيد و الردى قلت يمكن ان يكون المراد بها تنوعها على اقسام شتّى أدناها اثنان يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ اى يلبسه مكانه فيصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئا و يصير مضيئا بعد ما كان مظلما- قرا حمزة و الكسائي و ابو بكر يغشّى بالتشديد إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) فيها فان تكوّنها و تخصيصها بوجه دون وجه دليل على وجود صانع حكيم دبر أمرها و هيّأ أسبابها-.

٤

وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ متقاربات بعضها طيبة و بعضها سبخة و بعضها رخوة و بعضها صلبة- و بعضها يصلح للزرع دون الشجر و بعضها بالعكس- و بعضها قليلة الريع و بعضها كثيرة- و لو لا تخصيص قادر يفعل ما يشاء على ما أراد لم يختلف لاشتراك تلك القطع فى طبيعة الأرض و ما يلزمها و يعرض لها بتوسط الأسباب السماوية من حيث انها متضامة متشاركة فى النسب و الأوضاع وَ جَنَّاتٌ بساتين مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وحّدها لكونها مصدرا فى الأصل وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ اى نخلات أصولها واحد جمع صنو كقنوان جمع قنو- و لا فرق بين تثنيتهما و جمعهما الا بان النون فى التثنية مكسورة بلا تنوين و فى الجمع منونة- و منه قوله صلى اللّه عليه و سلم فى العباس ان عم الرجل صنو أبيه وَ غَيْرُ صِنْوانٍ متفرقات مختلفة الأصول- قرا ابن كثير و ابو عمرو و حفص زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ برفع الاربعة عطفا على جنّت و الباقون بجرها عطفا على أعناب يُسْقى قرا عاصم و ابن عامر و يعقوب بالتاء «١» للتانيث لان الضمير راجعة الى الجمع و الباقون بالياء على التذكير على تأويل ما ذكر بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ قرا حمزة و الكسائي بالياء على الغيبة مطابقا بقوله يدبّر و الباقون بالنون على التكلم بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ فى الثمر قدرا و طعما و رائحة و لونا- اخرج الترمذي و حسنه و الحاكم و صححه عن ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال الدقل و الفارسي و الحلو و الحامض- و ذلك ايضا مما يدل على الصانع الحكيم- فان اختلافها مع اتحاد الأصول و الأسباب لا يكون الّا بتخصيص قادر مختار- قال مجاهد كمثل بنى آدم صالحهم و خبيثهم و أبوهم واحد- و قال الحسن هذا مثل ضرب اللّه لقلوب بنى آدم- كانت الأرض طينة واحدة فى يد الرّحمن فسطحها فصارت قطعا متجاورات- فانزل عليها الماء من السماء فاخرج من هذه زهرتها و شجرها و ثمرها و من هذه سبخها و ملحها و خبثها- و كل تسقى بماء واحد- كذلك الناس خلقهم من آدم فانزل من السماء ذكره فرق قلوب و خشعت و قسى قلوب و لهت- قال الحسن و اللّه ما جالس القران أحد إلا قام من عنده بزيادة او نقصان قال اللّه تعالى وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤) اى يستعملون عقولهم بالتفكر-.

(١) هذا من سباق قلم لانه قرا عاصم و ابن عامر و يعقوب بالياء على التذكير و الباقون بالتاء على التأنيث- ابو محمّد.

٥

وَ إِنْ تَعْجَبْ يا محمّد من تكذيب المشركين إياك فى دعوى الرسالة بعد ما راوا الآيات الباهرة و المعجزات القاهرة مع انهم يعبدون ما لا يضر و لا ينفع من الحجارة بلا دليل فَعَجَبٌ اى حقيق بان يتعجب منه قَوْلُهُمْ أَ إِذا كُنَّا تُراباً بعد الموت أَ إِنَّا اختلف القراء فى الاستفهامين إذا اجتمعا نحو هذه الاية و قوله تعالى أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً «١» ... أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ...- أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ ... أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ و شبهه و جملته أحد «٢» عشر موضعا فى القران- فقرا نافع و الكسائي و يعقوب الاول استفهاما بهمزتين و الثاني خبرا بهمزة واحدة- و ابو جعفر و ابن عامر بالعكس- و الباقون استفهاما فيهما- الا ان نافعا قرا فى النمل و العنكبوت الاول منهما خبرا و الثاني استفهاما- و كذا ابن كثير و حفص فى العنكبوت و ابو جعفر يوافق نافعا فى أول الصّفات دون الثاني- و ابن عامر فى النمل و النّزعت بعكس هذا و فى الواقعة بالاستفهام فيهما- ثم القراء عند اجتماع الهمزتين على أصولهم- فنافع و ابن كثير- و ابو عمرو يقرءون الاستفهام بهمزة و ياء بعدها- فابن كثير لا يمد بعد الهمزة و ابو عمرو يمد و يدخل قالون بينهما الفا و هشام يدخل بين الهمزتين المحققتين الفا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٥) و الجملة الاستفهامية بدل من قولهم- او مفعول به له يعنى قولهم هذا المشعر بانكار البعث حقيق بالتعجب- فانهم ينكرون البعث مع إقرارهم بابتداء الخلق من اللّه عزّ و جلّ- و قد تقرر فى القلوب ان الاعادة أهون من الابتداء- و العامل فى إذا محذوف دل عليه أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ تقديره إن عدنا فى خلق جديد كما كنا قبل الموت إذا متنا و كنّا ترابا- او المعنى و ان تعجب يا محمّد على انكارهم البعث بعد إقرارهم ببدء الخلق من اللّه تعالى فقولهم هذا حقيق بان يتعجب منه- فان من قدر على إنشاء ما قصّ عليك كانت الاعادة أيسر شي ء عليه- و الآيات المعدودة كما هى دالة على وجود المبدا دالة على إمكان الاعادة من حيث انها تدل على كمال قدرته و قبول المواد لانواع تصرفاته أُولئِكَ يعنى الذين ينكرون البعث هم الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ لانهم كفروا بقدرته تعالى على البعث- و العاجز لا يصلح لكونه ربا وَ أُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ يعنى هم مقيدون بالضلال لا يرجى خلاصهم- او هم يغلون يوم القيامة وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ يوم القيامة دل تكرار أولئك على تعظيم الأمر هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) لا ينفكون عنها و توسيط الفصل لتخصيص الخلود بالكفار كما هو مذهب اهل الحق خلافا للمعتزلة-.

(١) و فى القران تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا- ابو محمّد.

(٢) رعد- بنى اسراءيل- مؤمنون- ا لم سجده- نمل- صّفّت- الواقعة- النّزعت- عنكبوت- منه رح.

٦

وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ الاستعجال طلب الشي ء عاجلا قبل وقته و المراد بالسيّئة هاهنا العقوبة و بالحسنة النعمة و العافية و ذلك ان مشركى مكة كانوا يطلبون العقوبة بدلا من العافية استهزاء منهم يقولون اللّهمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ... وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لا يعتبرون بها- و لم يجوزوا حلول مثلها عليهم- و المثلة بفتح الثاء و ضمها كالصّدقة و الصّدقة العقوبة- لانها مثل المعاقب عليه و منه المثال للقصاص و امثلت الرجل من صاحبه إذا اقتصصته وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ اى مع ظلمهم على أنفسهم و محله النصب على الحال و العامل فيه المغفرة-

قلت الظاهر ان الاية فى منكرى البعث و المراد بالمغفرة الامهال يعنى ان اللّه حليم يمهل الكفار مع ظلمهم و لذلك لم يعذبهم و هم يستعجلون العقوبة وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) يعنى إذا يحل بهم العقوبة من اللّه تعالى لا يستطيع أحد دفعه- و قال السدىّ قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ فى حق المؤمنين خاصة- و هى أرجى اية فى كتاب اللّه حيث وعد المغفرة مع الظلم- ففيه دليل على جواز العفو بلا توبة- إذ التائب ليس على الظلم بل التائب من الذنب كمن لا ذنب له رواه ابن ماجة عن ابن مسعود مرفوعا وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ على الكفار- و قيل هما جميعا فى المؤمنين لكنه معلّق بالمشية فيهما اى يغفر لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ- اخرج ابن ابى حاتم و البيهقي و الواحدي عن سعيد بن المسيب مرسلا عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه قال لو لا عفو اللّه و تجاوزه ما «١» هاهنا أحد يعيش- و لو لا وعيده و عذابه لا تكل كل أحد-

(١) فى الأصل ما هنا أحدا العيش- [.....].

٧

وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ اى على محمّد صلى اللّه عليه و سلم آيَةٌ اى علامة و حجة على نبوته مِنْ رَبِّهِ لم يعتدوا بالآيات المنزلة على النبي صلى اللّه عليه و سلم- و اقترحوا آيات اخر تعنتا و عنادا فقال اللّه تعالى إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ يعنى ليس عليك الا الانذار و التبليغ- و ما عليك إتيان الآيات المقترحة و لا حملهم على الهداية كرها وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧) قرا ابن كثير هاد و وال و واق و ما عند اللّه باق بالتنوين فى الوصل فاذا وقف وقف بالياء فى هذه الاحرف الاربعة حيث وقعت لا غير- و الباقون يصلون بالتنوين و يقفون بغير ياء- و المعنى ان لكل قوم هاد اى قادر على هدايتهم و هو اللّه عز و جل يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ كذا قال سعيد بن جبير- و قال عكرمة الهادي محمّد صلى اللّه عليه و سلم و المعنى أنت منذر و هاد اى داع الى سبيل الحق لكل قوم و الهداية حينئذ بمعنى اراءة الطريق- و قيل معناه و لكل قوم نبى يهديهم اى يدعوهم الى اللّه بما يعطيهم من الآيات لا بما اقترحوا- قبح اللّه الرافضة يقولون كان فى التنزيل و لكل قوم هاد علىّ حذف عثمان رضى اللّه عنه حسدا لفظ علىّ- لعنهم اللّه انّى يؤفكون ينكرون قوله تعالى إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ- و على هذا يلزم فضل علىّ رضى اللّه عنه على النبي صلى اللّه عليه و سلم فان معنى الاية على هذا انما أنت منذر و لست بهاد و لكن علىّ هاد لكل قوم و لا يخفى ما فيه- ثم اردف اللّه تعالى ذلك بما يدل على كمال علمه و قدرته و شمول قضائه و قدره تنبيها على انه تعالى قادر على إنزال ما اقترحوه- و انما لم ينزل لعلمه ان اقتراحهم للعناد دون الاسترشاد- و انه قادر على هدايتهم و انما لم يهدهم لسبق قضائه عليهم بالكفر فقال.

٨

اللّه يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى اى حملها او ما تحملها من ذكر او أنثى سوىّ الخلق او ناقصه و واحدا او اكثر- و انه على اىّ حال هو من الأحوال الحاضرة و المترقبة وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ غاض و ازداد جاء كل منهما لازما و متعديا- فى القاموس غاض الماء غيضا و مغاضا قل و نقص كالغاض غاض الماء و ثمن السلعة نقص- و غاض الماء و ثمن السلعة نقضهما كاغاض- و ازداد القوم على عشرة- و نزداد كيل بعير- فان جعلتهما لازمين فما حينئذ مصدرية و المعنى اللّه يعلم انتغاض الأرحام و ازديادها- و الاسناد الى الأرحام مجازى فانهما لما فيهما يعنى ينتقص ما فى الأرحام فى الجثة و المدة و العدد و يزداد- و ان جعلتهما متعديين فما يحتمل ان يكون موصولة و ان يكون مصدرية و المعنى اللّه يعلم ما تنقصه الأرحام و ما تزداده فى الجثة و المدة و العدد

(مسئلة) اقل مدة الحمل ستة أشهر اتفاقا روى ان رجلا تزوج امراة فولدت لستة أشهر- فهمّ عثمان ان يرجمها- فقال ابن عباس لو خاصمتكم بكتاب اللّه تعالى لخصمتكم- قال اللّه تعالى وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً- و قال وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ فلم يبق للحمل الا ستة أشهر- فدرا عثمان عنها الحد- قال ابن همام التمسك بدرء عثمان مع عدم مخالفة أحد فكان اجماعا- و انه قد يولد بستة أشهر و يعيش- و اكثر مدة الحمل سنتان عند ابى حنيفة رحمه اللّه- لما روى الدار قطنى و البيهقي فى سننهما من طريق ابن المبارك ثنا داود بن عبد الرّحمن عن ابن جريج عن جميلة بنت سعد عن عائشة قالت ما تزيد المرأة فى الحمل على سنتين قدر ما يتحول ظل عمود المغزل- و فى لفظ قالت لا يكون الحمل اكثر من سنتين و لو بظل مغزل- و عند الشافعي و مالك اكثر مدة الحمل اربع سنين- و قيل عند مالك خمس سنين- قال حماد بن سلمة انما سمى هرم بن حبان هرما لانه بقي فى بطن امه اربع سنين- و روى البيهقي عن الوليد بن مسلم قال قلت لمالك بن انس انّى حدّثت عن عائشة انها قالت لا تزيد المرأة فى حملها على سنتين قدر ظل مغزل- فقال سبحان اللّه من يقول هذا- هذه جارتنا امراة محمّد بن عجلان امراة صدوق و زوجها رجل صدوق حملت ثلاثة بطون فى اثنتي عشرة سنة كل بطن فى اربع سنين- قال ابن همام و لا يخفى ان قول عائشة مما لا يعرف الا سماعا فى حكم المرفوع- و هو مقدم على المحكي عن امراة ابن عجلان- لانه بعد صحة النسبة الى الشارع لا يتطرق اليه الخطأ بخلاف الحكاية- فانها بعد صحة نسبتها الى مالك و المرأة يحتمل الخطأ بها- فان يمامة الأمر أن يكون انقطع دمها اربع سنين ثم جاءت بولد و هذا ليس بقاطع فى ان الاربعة سنين بتمامها كانت حاملا فيها- لجواز انها امتدت «١» طهرها سنتين او اكثر ثم حبلت- و وجود الحركة مثلا فى البطن لو وجد ليس قاطعا للحمل لجواز كونه من غير الولد- و لقد أخبرنا عن امراة انها وجدت ذلك مدة تسعة أشهر من الحركة و انقطاع الدم و كبر البطن و ادراك الطلق- و حين جلست القابلة تحتها أخذت فى الطلق و كلما طلقت اعتصرت ماء- و هكذا شيئا فشيئا الى ان انضم بطنها و قامت عن قابلتها من غير ولادة- و فى الجملة مثل هذه الحكايات لا تعارض الروايات و ما روى ان عمر اثبت نسب ولد امراة غاب عنها زوجها سنين ثم قدم فوجدها حاملا فهمّ برجمها- فقال له معاذ ان كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما فى بطنها فتركها- حتّى ولدت ولدا قد نبتت ثنياه يشبه أباه- فلما راه الرجل قال ولدي و رب الكعبة انما هو لقيام الفراش و دعوى الرجل نسبه و اللّه اعلم-

(مسئلة) أعلى عدد الولد فى بطن لاحد له- و قيل نهاية ما عرف اربعة و اليه ذهب ابو حنيفة رحمه اللّه- و قال الشافعي رحمه اللّه أخبرني شيخ باليمن ان امرأته ولدت بطونا فى كل بطن خمسة-

قلت و اشتهر فى ديار الهند ان امراة القاضي قدوه فى بلاد الشرق ولدت مائة فى مشيمة واحدة و عاشوا جميعا و اللّه اعلم-

قال البغوي قال اهل التفسير غيض الأرحام الحيض على الحمل- فاذا حاضت الحامل كان نقصانا فى الولد لان دم الحيض غذاء للولد فى الرحم- فاذا اهراقت الدم ينتقص الغذاء فينتقص الولد- و إذا لم تحض يزداد الولد فيتم- فالنقصان نقصان خلقة الولد بخروج الدم و الزيادة تمام خلقته باستمساك الدم- و قيل إذا حاضت تنقص الغذاء و تزداد مدة الحمل حتّى تستكمل تسعة أشهر طاهرا- فان رات خمسة ايام دما وضعت لتسعة أشهر و خمسة ايام فالنقصان فى الغذاء و الزيادة فى المدة- و قال الحسن غيضها نقصانها من تسعة أشهر و الزيادة زيادتها على تسعة أشهر- و قيل النقصان السقط و الزيادة تمام الخلق وَ كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) بتقدير الى حد معين فى علم اللّه تعالى لا يجاوز و لا ينقص عنه.

(١) فى الأصل امتد.

٩

عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ قد شرحنا الغيب و الشهادة فى سورة الجن الْكَبِيرُ الّذي كل شي ء دونه الْمُتَعالِ (٩) المستعلى على كل شي ء بقدرته او الّذي كبر عن نعت المخلوقين و تعالى عنه- قرا ابن كثير بإثبات الياء وصلا و وقفا و الباقون يحذفونها فى الحالين.

١٠

سَواءٌ مِنْكُمْ فى علم اللّه مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ فى نفسه وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ لغيره وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ اى طالب لاخفاء نفسه بِاللَّيْلِ وَ سارِبٌ بارز بِالنَّهارِ (١٠) يراه كل أحد من سرب سروبا إذا برز- و قيل معناه ذاهب فى سربه ظاهرا و السرب الطريق- و قال القتيبي سارِبٌ بِالنَّهارِ متصرف فى حوائجه- عطف على من او على مستخف على ان من فى معنى الاثنين كانه قال سَواءٌ مِنْكُمْ اثنان مستخف و سارب- و قال ابن عباس فى هذه الاية هو صاحب زنيّة مستخف بالليل و إذا خرج بالنهار ارى الناس انه بري ء من الإثم- فعلى هذا عطف على مستخف و المراد بمن واحد متصف بصفتين-.

١١

لَهُ اى لمن اسر و من جهر و من هو مستخف و سارب او للّه تعالى ملائكة مُعَقِّباتٌ جمع معقبة من عقّب مبالغة عقبه إذا جاء على عقبه- او من اعتقب فادغمت التاء فى القاف و التاء للمبالغة- و

قال البغوي واحده معقّب و جمعه معقّبة ثم جمع المعقبة على المعقّبات كما قيل انثاوات سعد و رجالات بكر- يعنى يتعاقبون فيكم بالليل و النهار إذا صعدت ملائكة الليل جاءت فى عقبها ملائكة النهار و إذا صعدت ملائكة النهار جاءت فى عقبها ملائكة الليل فيكتبون اعمال العباد و يحفظونهم عن الآفات «١»- روى البغوي بسند صحيح عن ابى هريرة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل و ملائكة بالنهار يجتمعون فى صلوة الفجر و صلوة العصر- ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسئلهم ربهم و هو اعلم بهم كيف «٢» تركتم عبادى فيقولون تركناهم و هم يصلّون و اتيناهم و هم يصلّون مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ صفة معقّبات اى كائنة من قدام المستخفى و السارب وَ مِنْ خَلْفِهِ يعنى من جوانبه كلها يَحْفَظُونَهُ الضمير راجع الى من- اى يحفظون العبد من الآفات ما لم يأت القدر- فاذا جاء القدر خلوا عنه- قال مجاهد ما من عبد الا و له ملك مؤكل به يحفظه فى نومه و يقظته من

(١) عن كنانة العدوى قال دخل عثمان بن عفان على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- فقال يا رسول اللّه أخبرني عن العبد كم معه من ملك- قال ملك على يمينك على حسناتك و هو امير على الّذي على الشمال- إذا عملت حسنة كتب عشرا فاذا عملت سيئة قال الّذي على الشمال للذى على اليمين اكتب قال لعله يستغفر اللّه و يتوب فاذا قال ثلاثا قال نعم اكتبه أراحنا اللّه منه فبئس القرين- ما اقل مراقبته للّه و اقل استحياؤه منه- يقول اللّه ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ- و ملكان من بين يديك و من خلفك يقول اللّه لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّه- و ملك قابض على ناصيتك فاذا تواضعت للّه رفعك و إذا تحبرت قصمك- و ملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك الا الصلاة على النبي صلى اللّه عليه و سلم- و ملك قائم على فيك لا تدع ان تدخل الحيّة فى فيك- و ملكان على عينيك فهؤلاء عشرة املاك على كل بنى آدم- ينزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار لان ملائكة الليل سوى ملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل بنى آدم و إبليس بالنهار و ولده بالليل ١٢ ازالة الخفا- منه رحمه اللّه تعالى.

(٢) فى الأصل كيف تركتم عبدى-.

الجن و الانس و الهوامّ- فما من شي ء يأتيه يريده الا قال وراءك الا شي ء يأذن اللّه فيه فيصيبه و قال كعب الأحبار لو لا ان اللّه تعالى و كل بكم الملائكة يدنون عنكم فى مطعمكم و مشربكم و و عوراتكم لتخطفنّكم الجن- او المعنى يحفظون اعماله ان كان الاية فى الملكين القاعدين عن اليمين و الشمال يكتبان الحسنات و السيّئات- كما قال اللّه تعالى إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ- قال ابن جريج اى يحفظون عليه اعماله مِنْ أَمْرِ اللّه قيل هو صفة ثانية لمعقبات يعنى معقبات كائنة من امر اللّه- او ظرف لغو متعلق بقوله يحفظونه اى يحفظونه من أجل امر اللّه تعالى أتاهم بالحفظ- او المعنى يحفظونه من امر اللّه اى من بأسه متى أذنب بالاستمهال او الاستغفار له- و قيل من هاهنا بمعنى الباء اى يحفظونه بإذن اللّه- و قيل المعقبات الحرس حول السلطان يحفظونه فى توهمه من قضاء اللّه تعالى-

قال البغوي و قيل الضمير فى قوله لَهُ مُعَقِّباتٌ راجع الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يعنى لمحمّد صلى اللّه عليه و سلم معقبات اى حرّاس من الرّحمن مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّه من شر الشياطين الجن و الانس و طوارق الليل و النهار- و قال عبد الرّحمن بن زيد نزلت هذه الاية فى عامر بن الطفيل و اربد بن ربيعة- و قصتهما على ما روى الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس- انها اقبل عامر بن الطفيل و اربد ابن ربيعة و هما عامريّان يريد ان النبي صلى اللّه عليه و سلم- و هو جالس فى المسجد فى نفر من أصحابه فدخلا المسجد فاستشرف الناس لجمال عامر و كان اعور و كان من أجمل الناس- فقال رجل يا رسول اللّه هذا عامر بن الطفيل قد اقبل نحوك- فقال دعه فان يرد اللّه به خيرا يهده- فاقبل حتّى قام عليه- فقال يا محمّد مالى ان أسلمت- فقال لك ما للمسلمين و عليك ما على المسلمين- قال تجعل لى الأمر بعدك- قال ليس ذلك الىّ انما ذلك الى اللّه عزّ و جلّ يجعله حيث يشاء- قال فتجعلنى على الوبر و أنت على المدر قال لا قال فماذا تجعل لى قال اجعل لك أعنّة الخيل تغزو عليها- قال او ليس ذلك لى الى اليوم- قم معى أكلمك فقام معه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- و كان اوصى الى اربد ابن ربيعة إذا رايتنى أكلمه فدر من خلفه فاضربه بالسيف- فجعل يخاصم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و يراجعه فدار اربد خلف النبي صلى اللّه عليه و سلم ليضربه- فاخترط من سيفه شبرا ثم حبسه اللّه عنه و لم يقدر على سلّه- و جعل عامر يومى اليه فالتفت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فراى اربد و ما صنع بسيفه فقال اللّهم اكفنيهما بما شئت فارسل اللّه تعالى على اربد صاعقة فى يوم صحو قائظ فاحرقته و ولى عامر هاربا و قال يا محمّد دعوت ربك حتّى قتل اربد- و اللّه لاملانها عليك خيلا جردا و فتيانا مردا- فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يمنعك اللّه من ذلك- و ابنا قيلة يريد الأوس و الخزرج فنزل عامر بيت امراة سلوليّة- فلما أصبح ضم عليه سلاحه و قد تغير لونه فجعل يركض فى الصحراء- و يقول ابرز يا ملك الموت- و يقول الشعر- و يقول و اللات و العزى لان اضحى الى محمّد و صاحبه يعنى ملك الموت لانفذتهما برمحى- فارسل اللّه تعالى ملكا فلطمه بجناحه فاداره فى التراب- و خرجت على ركبته فى الوقت غدة عظيمة فعاد الى بيت السلوليّة- و هو يقول غدة كغدة البعير و موت فى بيت السلوليّة- ثم دعا بفرسه فركبه ثم أجراه حتّى مات على ظهره فاجاب اللّه تعالى دعاء رسوله صلى اللّه عليه و سلم- فقتل بالطعن و اربد بالصاعقة- و انزل اللّه تعالى فى هذه القصة قوله عز و جلّ سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَ سارِبٌ بِالنَّهارِ لَهُ يعنى لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم معقّبت من بين «١» يديه و من خلفه يحفظونه من امر اللّه يعنى تلك المعقبات من امر اللّه و كذا اخرج الثعلبي-

و اخرج الطبراني عن ابن عباس ان اربد بن قيس و عامر بن الطفيل قدما المدينة على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- فقال عامر يا محمّد ما تجعل لى ان أسلمت- قال لك ما للمسلمين و عليك ما عليهم- قال أ تجعل لى «٢» الأمر من بعدك- قال ليس ذلك لك و لا لقومك- فقال عامر لاربد انى اشغل عنك وجه محمّد بالحديث فاضربه بالسيف- فرجعا فقال عامر يا محمّد قم معى فقام معه و وقف يكلمه و سلّ اربد السيف فلما وضع يده قائم السيف يبست- و التفت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فراه فانصرف عنهما- فخرجا حتّى إذا كانا بالرقم أرسل اللّه على اربد صاعقة فقتله- فانزل اللّه تعالى اللّه يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى الى قوله شَدِيدُ الْمِحالِ-

(١) فى الأصل معقبت يحفظونه من بين يديه و من ... خلفه من امر اللّه.

(٢) فى الأصل ا تجعل الأمر إلخ-.

إِنَّ اللّه لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من العافية و النعمة حَتَّى يُغَيِّرُوا اى القوم ما بِأَنْفُسِهِمْ من الأحوال الجميلة بالأحوال القبيحة وَ إِذا أَرادَ اللّه بِقَوْمٍ بعد ما يغيروا ما بانفسهم سُوْءاً عذابا و هلاكا فَلا مَرَدَّ لَهُ مصدر بمعنى الفاعل يعنى لا رادّ له- و العامل فى إذا ما دل عليه الجواب وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١) يلى أمرهم فيدفع عنهم السوء و فيه دليل على ان خلاف مراد اللّه محال.

١٢

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً من الصاعقة و من ضرر المطر فى السفر و للزرع فى بعض الأحيان و بعض الامكنة وَ طَمَعاً من الغيث حين ينفع للزرع او لدفع الحر- و انتصابهما على العلة بتقدير المضاف اى ارادة خوف او طمع- او بتأويل الاخافة و الاطماع- او على الحال من البرق- او من المخاطبين بتقدير ذو- او اطلاق المصدر بمعنى المفعول او الفاعل مبالغة وَ يُنْشِئُ السَّحابَ جمع سحابة و هو الغيم فانه ينسحب اى ينجر بالهواء فى الجو- و هو جمع سحابة كذا فى القاموس- و

قال البيضاوي اسم فيه معنى الجمع و لذا وصف بقوله الثِّقالَ (١٢) جمع ثقيلة يعنى مملوّة بالمطر

قال البغوي قال على رضى اللّه عنه السحاب غربال الماء-.

١٣

وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ متلبسا بِحَمْدِهِ يعنى يقول سبحان اللّه و الحمد للّه- روى الترمذي و صححه و النسائي عن ابن عباس سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن الرعد- فقال ملك مؤكل بالسحاب معه مجاريق من نار يسوق بها السحاب وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ اى من خيفة اللّه و خشيته- قيل أراد بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد جعل اللّه له «١» أعوانا- فهم خائفون خاضعون طائعون- فالضمير حينئذ جاز ان يعود الى الرعد يعنى يسبح الملائكة من خيفة الرعد- قال ابن عباس من سمع صوت الرعد فقال سبحان الّذي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ... وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فان أصابته صاعقة فعلى دينه- و عن عبد اللّه بن الزبير انه كان إذا سمع صوت الرعد ترك الحديث- و قال سبحان من يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ- و يقول ان هذا الوعيد لاهل الأرض لشديد- و قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس الرعد موكل بالسحاب يصرّفه الى حيث يؤمر- و انّ بحور الماء

(١) فى الأصل جعل اللّه أعوانا.

فى نقرة إبهامه- و انه يسبح اللّه فاذا سبح لا يبقى ملك فى السماء الا رفع صوته بالتسبيح- فعندها ينزل القطر- و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ربكم لو ان عبادى أطاعوني لاسقيتهم المطر بالليل و لاطلعت عليهم الشمس بالنهار و لما اسمعتهم صوت الرعد- رواه احمد بسند صحيح و الحاكم و

قال البيضاوي فى تفسير الاية وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ اى يسبح سامعوه عليه السلام متلبسين به فيصيحون سبحان اللّه و الحمد للّه- او يدل الرعد على وحدانيته تعالى و كمال قدرته متلبسا بالدلالة على فضله و نزول رحمته-

قلت هذا على تقدير عدم ثبوت كون الرعد ملكا يسبح وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ جمع صاعقة و هى العذاب المهلك و المراد هاهنا نار ينزل من السماء ينزل من البرق فيحرق من يصيبه فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ فيهلكه وَ هُمْ يُجادِلُونَ اى يخاصمون النبي صلى اللّه عليه و سلم فِي اللّه اى توحيده و الإقرار بكمال علمه و قدرته و إعادة الناس و مجازاتهم- و الجدال التشدد فى الخصومة من الجدل و هو القتل- و الواو اما لعطف الجملة- على الجملة او للحال يعنى اللّه يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى و يفعل كذا و كذا و يرسل الصّواعق- و هم ينكرون صفات كماله و لا يستدلون بما ذكر على وجوده تعالى و كمال قدرته و يخاصمون النبي صلى اللّه عليه و سلم و المؤمنين و على تقدير نزول الاية فى قصة اربد بن ربيعة كما ذكرنا- فالظاهر ان الواو للحال و الجملة حال من مفعول يشاء يعنى يصيب بها من يشاء أصابته و هو اربد بن ربيعة و أمثاله فى حال هم يجادلون فى اللّه فى تلك الحال-

قال البغوي قال محمّد بن على الباقر الصاعقة تصيب المسلم و غير المسلم و لا تصيب المسلم الذاكر-

و اخرج النسائي و البزار عن انس قال بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رجلا من أصحابه الى رجل من عظماء الجاهلية يدعوه الى اللّه تعالى- فقال ايش ربك الّذي تدعونى اليه أمن حديد هو او من نحاس او من فضة او ذهب- فاتى النبي صلى اللّه عليه و سلم فاخبره فاعاده الثانية و الثالثة فارسل اللّه عليه صاعقة فاحرقته- و نزلت هذه الاية وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ الى آخرها- و

قال البغوي نزلت فى شأن اربد بن ربيعة حيث قال للنبى صلى اللّه عليه و سلم مم ربك أمن درام من ياقوت أم من ذهب فنزلت صاعقة من السماء فاحرقته- و قال سئل الحسن عن قوله تعالى وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ الاية فقال كان رجل من طواغيت العرب بعث اليه النبي صلى اللّه عليه و سلم نفرا يدعونه الى اللّه و الى رسوله فقال لهم أخبروني عن رب محمّد هذا الّذي تدعوننى اليه ممّ هو من ذهب او فضة او حديد او نحاس- فاستعظم القوم مقالته فانصرفوا الى النبي صلى اللّه عليه و سلم- فقالوا يا رسول ما راينا رجلا اكفر قلبا و لا أعتى على اللّه منه فقال ارجعوا اليه- فرجعوا اليه فجعل يزيدهم على مثل مقالته الاولى و قال أجيب محمّدا الى رب لا أراه و لا أعرفه- فانصرفوا و قالوا يا رسول اللّه ما زادنا الا على مقالته و أخبث فقال ارجعوا- فرجعوا اليه فبينماهم عنده ينازعونه و هو يقول هذه المقالة إذا ارتفعت سحابة فكانت فوق رءوسهم- فرعدت «١» و برقت و رمت بصاعقة فاحترق الكافر و هم جلوس فجاءوا يسعون ليخبروا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاستقبلهم قوم من اصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم- و قالوا لهم احترق صاحبكم فقالوا من اين علمتم فقالوا اوحى اللّه الى النبي صلى اللّه عليه و سلم و يرسل الصّواعق فيصيب بها من يشاء و هم يجادلون فى اللّه

وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣)

قال البغوي قال الحسن شديد الحقد

و قال مجاهد شديد القوة- و قال ابو عبيدة شديد العقوبة- و قيل شديد المكر و المغالبة- قال فى القاموس المحال ككتاب الكيد و روم الأمر بالحيل و التدبير و المكر و القدرة و الجدال و العذاب و العقاب و العداوة و القوة و الشدة و الهلاك و الإهلاك و هذه المعاني أكثرها يصح هاهنا فهو فعال من المحل- و قيل هو مفعل من الحول او الحيلة او الحيلولة اعل على غير قياس- فعلى هذا ما قال ابن عباس معناه شديد الحول و قال علىّ شديد الاخذ-.

(١) اخرج الترمذي و صحه و احمد و النسائي عن ابن عباس فقال أقبلت اليهود الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقالوا أخبرنا من الرعد ما هو قال ملك من ملائكة السحاب يسوقه حيث امره اللّه فقالوا فما هذا الصوت نسمع قال صوته

و اخرج ابن مردوية عن جابر بن عبد اللّه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ان ملكا مؤكل بالسحاب يلم العاصية و يلم الدامية فى يده محراق فاذا رفع برقت و إذا زحرر عدت و إذا ضرب صعقت منه رحمه اللّه.

١٤

لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ اى الدعوة المجابة مختصة به تعالى دون غيره كما يدل عليه ما بعده- او المعنى له الدعاء الحق فانه الّذي يحق ان يعبد و يدعى الى عبادته و يسئل منه الحوائج دون غيره- او معناه له الدعاء بالإخلاص- و الحق على هذه التأويلات ضد الباطل- و الاضافة فى الظاهر اضافة و الموصوف الى صفته- فيئوّل على طريقة مسجد الجامع- و جانب الغربي و يقال دعوة المدعو الحق فان المدعو بدعوة اللّه سبحانه بالإخلاص يتحقق- او يقال اضافة الدعوة الى الحق لما بينهما من الملابسة كما يقال رجل صدق- و قيل الحق هو اللّه سبحانه و كل دعاء اللّه دعوة الحق-

فان قيل هذا الحمل غير مفيد فان دعاء اللّه تعالى مختص به تعالى لا محالة كما ان دعاء غيره مختص بغيره

قلنا فى ذكر اللّه تعالى بلفظ الحق اشعار بان دعاؤه حق لان دعاء الحق لا يكون الا حقا و دعاء الباطل لا يكون الا باطلا- فالمعنى على هذا التأويل يؤل الى ما سبق فهو بمنزلة الدعوى مع البرهان-

قال البغوي قال على رضى اللّه عنه دعوة الحقّ التوحيد- و قال ابن عباس رضى اللّه عنهما شهادة ان لا اله الا اللّه-

قلت التوحيد و الشهادة ان كانا تفسيرين للحق فالاضافة حقيقية و المعنى للّه الدعوة الى التوحيد و الشهادة- و المراد بالجملتين ان كانت الاية فى عامر و اربد ان هلاكهما من حيث لم يشعر انه محال من اللّه- و اجابة لدعوة رسوله صلى اللّه عليه و سلم و دالة على انه على الحق- و ان كانت عامة فالمراد وعيد الكفرة على مجادلة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بحلول محالة و تهديدهم بإجابة دعوة الرسول صلى اللّه عليه و سلم عليهم او بيان ضلالهم و فساد رأيهم وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ أشياء كائنة مِنْ دُونِهِ يعنى يعبدون الأصنام و يذكرونهم و يسئلون منها حوائجهم فحذف المفعول لدلالة قوله مِنْ دُونِهِ عليه- او المعنى و الذين يدعونهم المشركون كائنة من دون اللّه فحذف الراجع- و المراد بالموصول حينئذ الأصنام لا يَسْتَجِيبُونَ الضمير راجع الى الموصول على التقدير الثاني او الى محذوف موصوف عن دونه على التقدير الاول و المعنى لا يجيبون لَهُمْ اى للكفار بِشَيْ ءٍ يريدونه من نفع او دفع ضر إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ يعنى الا استجابة كاستجابة من بسط كفيه إِلَى الْماءِ و هو عطشان جالس على شفير البئر يمد يده الى البئر فلا يبلغ قعر البئر و يدعو الماء لِيَبْلُغَ فاهُ متعلق بباسط اى يطلب من الماء ان يبلغ فاه وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ لانه جماد لا يشعر بدعائه و لا يقدر على اجابته و الإتيان بغير ما جبل عليه- كذلك الهتهم لا يشعرون بدعائهم و لا يقدرون على اجابتهم فاضافة الاستجابة الى الباسط اضافة المصدر الى المفعول- هذا معنى قول مجاهد و مثله عن على رضى اللّه عنه و عطاء- و قيل شبهوا فى قلة جدوى دعائهم لها بمن أراد ان يغرف الماء ليشربه فبسط كفيه ليقبض على الماء- و القابض على الماء لا يكون فى يده شي ء و لا يبلغ الى فيه منه شي ء- كذلك الّذي يدعو الأصنام و هى لا تضر و لا تنفع لا يكون بيده شي ء و هذا التأويل مروى عن ابن عباس قال كالعطشان إذا بسط كفيه فى الماء لا ينفعه ذلك ما لم يغرف بهما الماء و لا يبلغ فاه ما دام باسط كفيه- فهذا مثل ضربه لخيبة الكفار وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ أصنامهم اى عبادتهم لها و طلب حاجتهم منها إِلَّا فِي ضَلالٍ (١٤) فى ضياع و خسار و بطلان- و قال الضحاك عن ابن عباس و ما دعاء الكفرين ربهم جلّ و على الا فى ضلال لان أصواتهم محجوبة عن اللّه تعالى بحجب الكفر و المعاصي و اللّه اعلم-.

١٥

وَ للّه يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً يعنى الملائكة و المؤمنين وَ كَرْهاً يعنى المنافقين و الكافرين الّذين اكرهوا على السجود بالسيف- او انهم يسجدون حالة الشدة و الضرورة مع كراهيتهم ذلك- و انتصاب طوعا و كرها بالحال او العلة وَ ظِلالُهُمْ يسجد معهم بالعرض- و يحتمل ان يراد بالسجود انقيادهم «١» لما اراده منهم شاءوا او كرهوا- و انقياد ظلالهم لتصريفه إياها بالمد و التقليص- و يمكن ان يقال المراد بمن فى السّموت و الأرض حقائق من فيها و أرواح الملائكة و المؤمنين و بظلالهم أشخاصهم و قوالبهم- كما عبر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى دعائه الظاهر بالسواد و الباطن بالخيال- حيث قال فى سجوده سجد لك سوادى و خيالى- و هذا التأويل اولى مما سبق لان الظلال الّتي يرى فى ضح الشمس عبارة عن سواد موضع لم يصل اليه ضوء الشمس لحجاب جثة الشي ء- و ذلك امر عدمى لا وجود لها فكيف يسند إليها السجود بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ (١٥) ظرف ليسجد و المراد بهما الدوم- و الآصال جمع اصيل و هو ما بين العصر الى المغرب-.

(١) فى الأصل ما اراده.

١٦

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خالقهما و مدبرهما و متولى أمرهما استفهام تقرير- فانهم كانوا يقولون بان اللّه خالقهم و خالق السموات و الأرض قُلِ اللّه يعنى ان لم يقولوه فاجب أنت عنهم- إذ لا جواب لهم سواه و هم يقولون بذلك- و لانه هو البين الّذي لا يحتمل الاختلاف او لقنهم الجواب به-

قال البغوي روى انه لما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم للمشركين من ربّ السّموت و الأرض- قالوا أجب أنت فقال اللّه تعالى قُلِ اللّه- ثم قال فالزمهم بذلك و قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ عطف على محذوف و الاستفهام للانكار تقديره ء أقررتم بربوبيته تعالى للعالمين فاتخذتم أشياء كائنة مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ و اتخذتموه ظهريا و هذا امر منكر بعيد عن مقتضى العقل- ثم اجرى على الأولياء وصفا بقوله لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا يعنى لا يقدرون على ان يجلبوا الى أنفسهم نفعا او يدفعوا عنها ضرّا فكيف يتولون أموركم و كيف يستطيعون إيصال الخير إليكم او دفع الضرّ عنكم- و هو دليل ثان على ضلالهم و فساد رأيهم فى اتخاذهم اولياء رجاء ان يشفعوا لهم قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى يعنى الّذي لا عقل له و لا بصيرة او لا يستعملها وَ الْبَصِيرُ (٥) اى ذو بصيرة يدرك بها حقيقة العبادة و الموجب لها- و يميّز من يستحق العبادة و الولاية ممن لا يستحق ذلك- و قيل المراد بالأعمى المعبود الغافل منكم- و بالبصير المعبود المطلع على أحوالكم أَمْ هَلْ تَسْتَوِي قرا حمزة و الكسائي و ابو بكر بالياء التحتانية- و الباقون بالتاء الفوقانية لتأنيث الفاعل لكنه غير حقيقى الظُّلُماتُ وَ النُّورُ (٥) يعنى الكفر و الايمان لا أَمْ يعنى بل ا جعلوا للّه شركاء و الاستفهام للانكار «١» و قوله خَلَقُوا كَخَلْقِهِ صفة لشركاء داخلة فى حكم الإنكار فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ خلق اللّه و خلق الشركاء- و المعنى ما اتخذوا شركاء خالقين مثله حتّى يتشابه عليهم الخلق فيقولوا هؤلاء خلقوا كما خلق اللّه فاستحقوا العبادة كما استحقها- و لكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق فضلا عما يقدر عليه الخالق قُلِ اللّه خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ يعنى كل ما يشاء من الأجسام و الاعراض و الأرواح المجردة لا خالق غير اللّه- و لا يتصور ممن لا يقتضى ذاته وجوده ان يوجد غيره فلا يجوز العبادة لغيره- و من قال ان اللّه تعالى لم يخلق افعال العباد بل هم خلقوها فهو ممن تشابه الخلق عليهم وَ هُوَ الْواحِدُ المتوحد بالربوبية و استحقاق العبادة- بل المتوحد بالوجود المتأصل لا موجود غيره الا بوجود هو ظل وجوده الْقَهَّارُ (١٦) الغالب على كل شي ء لا يقاومه شي ء- إذ لا يتصور من المعدوم فى نفسه الموجود بغيره مقاومة ذلك الغير الّذي هو الموجود المتأصل بوجوده-.

(١) عن ابن جريج فى قوله تعالى أَمْ جَعَلُوا للّه شُرَكاءَ قال ابن جريج عن ليث عن ابى محمّد عن حذيفة عن ابى بكر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه قال الشرك فيكما خفى من دبيب النمل الا أخبرك بقول يذهب صغاره و كباره قال بلى قال يقول كل يوم ثلاث مرات اللّهم انى أعوذ بك من ان أشرك بك و انا اعلم و استغفرك لما لا اعلم و الشرك ان يقول أعطاني اللّه و فلان و ان يقول لو لا فلان لقتلنى فلان- و عن معقل بن يسار نحوه- منه رحمه اللّه تعالى-.

١٧

أَنْزَلَ اللّه الواحد القهار مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ جمع واد و هو الموضع الّذي يسيل فيه الماء بكثرة- فاتسع فيه و استعمل للماء الجاري فيه كقولك سال الميزاب- و تنكيرها لان المطر انما يأتى على طريق المتادبة بين البقاع فيسيل بعض اودية الماء دون بعض بِقَدَرِها اى بقدر الاودية فى الصغر و الكبر فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ اى الماء السائل فى الاودية زَبَداً اى خبثا يظهر على وجه الماء رابِياً عاليا مرتفعا فوق الماء الصافي وَ مِمَّا يُوقِدُونَ قرا حمزة و الكسائي و حفص بالياء على ان الضمير للناس و إضماره للعلم به و الباقون بالتاء على الخطاب- و الإيقاد جعل النار تحت شي ء ليذوب- و من لابتداء الغاية اى منه ينشأ زبد مثل زبد الماء- او للتبعيض اى و بعض ما توقدون عَلَيْهِ فِي النَّارِ يعم الفلذات كالذهب و الفضة و الحديد و النحاس و الصفر- و الظرف حال من الضمير فى عليه ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ منصوب على الحال من فاعل يوقدون او على العلة- يعنى يوقدون مبتغين حلية او لابتغاء حلية اى زينة مثل الذهب- و الفضة أَوْ مَتاعٍ اى ما يتمتع و ينتفع به كالاوانى من النحاس و الصفر و غيرها و آلات الحرب و الحرث من الحديد- و المقصود من ذلك بيان منافعها زَبَدٌ مِثْلُهُ اى مثل زبد الماء و ذلك خبثه الّذي ينفيه الكير- و زبد فاعل لقوله مِمَّا يُوقِدُونَ- او مبتدا و هو خبره المقدم عليه كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّه مثل الْحَقَّ وَ الْباطِلَ (٥) فان الحق يعنى العلم المنزل من السماء مثله فى افادته و انتفاع الناس به انواع المنافع الدنيوية و الاخروية- و اتساع القلوب إياه بقدرها و سعتها- و ثباته الى يوم القيامة بل الى ابد الآبدين كمثل الماء الّذي ينزل من السماء فتسيل به الاودية على قدر الحاجة و المصلحة و على قدر صغر الوادي و كبرها- و ينتفع به الناس انواع المنافع و يمكث فى الأرض بان يثبت بعضه فى منافعه و يسلك بعضه فى عروق الأرض الى العيون و القنى و الآبار- و كمثل الفلذ الّذي ينتفع به الناس فى صوغ الحلي و اتخاذ الامتعة المختلفة و يدوم ذلك مدة متطاولة- و الباطل يعنى خرافات الكفار و هواجسالنفس و خطرات الشيطان مثلها فى انتشارها و شهرتها و عدم الانتفاع بها و عدم استقرارها كمثل الزبد المستعلى على الماء و الفلز فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً يجفى به اى ما يرمى به السيل او الفلز المذاب- يقال جفا الوادي و اجفأ إذا القى غثاءه- و قيل جفاء اى متفرقا يقال جفات الريح القسم اى فرقته و انتصابه على الحال فالباطل يرميه الحق و يفرقه وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ من الماء و الفلز و كذلك العلم النافع فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ اى يبقى و لا يذهب و ينتفع به الناس كَذلِكَ اى كما ضرب اللّه المثل للحق و الباطل يَضْرِبُ اللّه الْأَمْثالَ (١٧) لايضاح المشتبهات قيل هذه تسلّية للمؤمنين بزوال ظلمة الكفر و ان كان فى الصورة عاليا مستعليا و بقاء نور الإسلام و استقراره الى يوم القيامة-.

١٨

لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا اى أجابوا لِرَبِّهِمُ دعوته الى الإسلام و أطاعوه فيما أمرهم به الْحُسْنى صفة لمصدر يعنى الاستجابة الحسنى او مفعول به يعنى استجابوا لربهم الدعوة الحسنى وَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ يعنى الكفار و اللام متعلقة بيضرب على انه جعل ضرب المثل لشأن الفريقين ضرب المثل لهما- و قيل للذين استجابوا خبر الحسنى و هى المثوبة الحسنى او الجنة و الذين لم يستجيبوا مبتدا خبره لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ يوم القيامة لفكاك أنفسهم من النّار و على التأويل الثاني هذا كلام مبتدا لمال غير المستجيبين أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ و هو ان يناقش فيه و لا يغفر من ذنبه شي ء كذا قال ابراهيم النخعي وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (١٨) مهادهم و هو جهنم قال اللّه تعالى لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ-.

١٩

أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هو الْحَقُّ فيؤمن به و يعمل بمقتضاه كَمَنْ هُوَ أَعْمى القلب لا يستبصر و لا يدرك الحق من الباطل- و الهمزة للانكار و الفاء للعطف على محذوف تقديره أ يشتبه امر الفريقين بعد ما ضرب من المثل فمن يعلم يكون عند المخاطب كمن هو أعمى لا- قيل نزلت الاية فى حمزة او عمار و ابى جهل فالاول حمزة او عمار و الثاني ابو جهل إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) اى ذووا العقول السليمة المنزهة عن شائبة الانف و معارضة الوهم.

٢٠

الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّه اى ما عوهدوا على أنفسهم يوم الميثاق من الاعتراف بربوبيته حين قالوا بلى و ما عاهد اللّه عليهم فى كتبه من امتثال الأوامر و الانتهاء عن المناهي وَ لا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) ما وثقوه من المواثيق بينهم و بين اللّه تعالى و بينهم و بين العباد فهو تعميم بعد تخصيص.

٢١

وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللّه بِهِ أَنْ يُوصَلَ هذا لفظ عام مندرج فيه الايمان بجميع الكتب و الرسل بحيث لا يفرق بين أحد منهم- و موالاة المؤمنين و صلة الرحم- و

قال البغوي الأكثرون على ان المراد به صلة الرحم- عن عبد الرّحمن بن عوف قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول قال اللّه عزّ و جلّ انا اللّه و انا الرّحمن خلقت الرحم و شققت لها اسما من اسمى فمن وصلها وصلته و من قطعها بتّته- رواه ابو داود و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خلق اللّه الخلق- فلما فرغ منه قامت الرحم فاخذت بحقوى الرّحمن فقال مه- قالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة- قال ا لا ترضين ان اصل من وصلك و اقطع من قطعك- قالت بلى يا رب قال فذاك لك- متفق عليه و عن عبد الرّحمن بن عوف قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثلاثة تحت العرش يوم القيامة القران يحاج العباد (له ظهر و بطن) و الامانة و الرحم تنادى الا من وصلني وصله اللّه و من قطعنى قطعه اللّه- رواه البغوي و الحكيم و محمّد بن نصر و عن انس بن مالك ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال من أحب ان يبسط اللّه فى رزقه و ينسأله فى اثره فليصل رحمه- متفق عليه و عن ابى أيوب الأنصاري قال عرض أعرابي لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى منزله فقال أخبرني ما يقرّ بنى من الجنة و يباعدنى من النار- فقال عليه السلام تعبد اللّه و لا تشرك به شيئا و تقيم الصلاة و تؤتى الزكوة و تصل الرحم- رواه البغوي و عن عبد اللّه بن عمرو قال قال النبي صلى اللّه عليه و سلم ليس الواصل المكافي و لكن الواصل إذا انقطعت رحمه وصلها- رواه البخاري و عن ابى هريرة قال قال رجل يا رسول اللّه من احقّ بحسن صحابتى- قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أبوك و فى رواية أمك ثم أمك ثم أمك ثم «١» أبوك ثم أدناك و أدناك- متفق عليه و عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان من ابرّ البرّ صلة الرجل اهل ودّ أبيه بعد ان يولّى- رواه مسلم و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تعلموا من انسابكم ما تصلون به أرحامكم فى صلة الرحم محبة فى الأهل مثراة فى المال منساة فى الأثر- رواه الترمذي و قال هذا حديث غريب

(١) فى الأصل ثم أباك.

وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ اى وعيده عموما وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) خصوصا فيحاسبون أنفسهم قبل ان يحاسبوا-.

٢٢

وَ الَّذِينَ صَبَرُوا قال ابن عباس على ما أمروا به- و قال عطاء على المصائب و النوائب- و قيل عن الشهوات- و قيل عن المعاصي- و الاولى ان يقدر على مخالفة الهوى فيعم جميع الأقوال ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ اى طلبا لمرضاته لا لغرض من اغراض الدنيا او رياء او سمعة وَ أَقامُوا الصَّلاةَ المفروضة و ما شاءوا من السنن و النوافل وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ اى بعضه فى الزكوة المفروضة و النفقات الواجبة و الصدقات النافلة سِرًّا وَ عَلانِيَةً السر أفضل فى النافلة و العلانية فى المفروضة نفيا للتهمة- و قدم السر على العلانية لان الغالب من حال المسلم الصدقة النافلة- و قلّ ما يجب على المسلم الزكوة وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ قال ابن عباس اى يدفعون بالصالح من العمل السيّ ء نظيره قوله تعالى إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ- عن ابى ذر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه قال إذا عملت سيئة فاتبعها حسنة تمحها- رواه احمد بسند صحيح و روى ابن عساكر عن عمر ابن الأسود مرسلا ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال إذا عملت عشر سيّئات فاعمل حسنة تحدرهن بها- و عن عقبة بن عامر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان مثل الّذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته- ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ثم عمل حسنة فانفكت اخرى حتّى طرح الى الأرض- رواه الطبراني و قال ابن كيسان معنى الاية يدفعون الذنب بالتوبة- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا عملت سيئة فاحدث عندها توبة السر بالسر و العلانية بالعلانية- رواه احمد فى الزهد عن عطاء مرسلا و قيل معناه لا يكافؤن الشر بالشر و لكن يدفعون الشر بالخير- و قال السدىّ معناه إذا سفه عليهم حلموا- فالسفه السيئة و الحلم الحسنة- و قال قتادة ردوا عليه معروفا- نظيره قوله تعالى وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً- قال الحسن إذا حرموا اعطوا و إذا ظلموا عفوا و إذا قطعوا وصلوا- عن ابى هريرة ان رجلا قال يا رسول اللّه ان لى قرابة أصلهم و يقطعونى و احسن إليهم و يسيئون الىّ و احلم عنهم و يجهلون علىّ- قال لئن كنت كما قلت فكانما تسفهم المل و لا يزال منك من اللّه ظهير عليهم ما دمت على ذلك- رواه مسلم قال عبد اللّه بن المبارك هذه ثمان خلال مشيرة الى ثمانية أبواب الجنة أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) العقبى جزاء الأمر و أعقبه جازاه كذا فى القاموس- سمى جزاء الفعل عقبى لانه يعقبه لكن العقبة و العقبى و العاقبة مختصة بالثواب و خير الجزاء على الحسنة- كما ان العقوبة و المعاقبة و العقاب مختصة بالعذاب و سوء الجزاء على السيئة- قال اللّه تعالى فى الثواب خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً و قال أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ- و فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ و قال وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ- و قال فى العذاب فَحَقَّ عِقابِ ... شَدِيدُ الْعِقابِ و قال وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ و قال وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ- لكن بالاضافة يستعمل العاقبة فى العقوبة ايضا قال اللّه تعالى ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى و فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ- فهو اما مستعمل بالاشتراك او يكون استعارة من ضده كقوله تعالى فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ و المراد بالدار النشئة الاخرة فانها المستقر بخلاف الدنيا فانها معبر- و اضافة العقبى الى الدار بمعنى فى كمصارع مصر- و المعنى أولئك لهم جزاء حسن فى الدار الاخرة- و الجملة خبر للموصولات ان رفعت بالابتداء و ان جعلت صفات لاولى الألباب فاستيناف بذكر ما استوجبوا بتلك الصفات.

٢٣

جَنَّاتُ «١» عَدْنٍ اى اقامة عطف بيان لعقبى الدار او مبتدا خبره يَدْخُلُونَها وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ عطف على الضمير المرفوع فى يدخلون و ساغ عند البصريين للفصل بالضمير المنصوب و قال الزجاج هو مفعول معه- و المراد بالصلاح نفس الايمان فحسب لاكمال الصلاح المراد بقوله أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ بدليل العطف- فان العطف يقتضى المغائرة و لو كان المراد بالصلاح كما له لدخل المعطوف فى المعطوف عليه- فهذه الاية تدل على ان اللّه تعالى يعطى درجات الكاملين من لم يبلغ درجتهم و لم يعمل مثل أعمالهم من ابائهم و أزواجهم و ذرياتهم تطييبا لقلوبهم و تعظيما لشأنهم بشرط ايمانهم- فان التقييد بالصلاح يفيد ان مجرد الأنساب لا تنفع بدون الايمان و الأمهات تدخل فى حكم الآباء بدلالة النص- و يشكل على هذا قوله صلى اللّه عليه و سلم كل سبب و نسب منقطع يوم القيامة الا سببى و نسبى- رواه

(١) عن مجاهد قال قرا عمر على المنبر جنّت عدن فقال ايها الناس هل تدرون ما جنت عدن قصر فى الجنة له عشرة آلاف باب على كل باب خمسة و عشرون الفا من الحور العين لا يدخله الا نبى او صديق او شهيد- منه رحمه اللّه-.

الطبراني و الحاكم و البيهقي عن عمر بسند صحيح و الطبراني عن ابن عباس و عن المسور بن مخرمة و روى ابن عساكر عن ابن عمر بسند صحيح بلفظ كل نسب و صهر ينقطع الا نسبى و صهرى- فان هذا الحديث يدل على ان قرابة غير النبي صلى اللّه عليه و سلم لا يفيد يوم القيامة- و حل هذه الاشكال عندى ان المؤمنين كلهم أبناء لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال اللّه تعالى النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ- و زاد أبيّ فى قراءته و هو اب لّهم- و قال اللّه تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ- و قد ذكرنا فى تفسير سورة الكوثر ان العاص بن وائل حين قال فى النبي صلى اللّه عليه و سلم دعوه فانه رجل ابتر لا عقب له- فانزل اللّه تعالى فيه إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ مع انه كان لعاص بن وائل عقب و هو عمرو هشام- و ان تأويله ان عمرو هشاما أسلما فقد انقطعت بينه و بينهما حتّى لا يرثانه فهما من أبناء النبي صلى اللّه عليه و سلم- فعلى هذا معنى الحديث كل نسب و سبب منقطع الا سببى و نسبى و لو بواسطة يعنى نسبى و نسب ابنائى و ان سقلوا و سببى و من له منى سبب- فكانّ المراد ان قرابات الكفار و موالاتهم تنقطع دون قرابات المؤمنين و موالاتهم نظيره قوله تعالى- الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ...

وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) من أبواب الجنة او من أبواب قصورهم او من أبواب الفتوح و التحف- قال مقاتل يدخلون عليهم فى مقدار يوم و ليلة من ايام الدنيا ثلاث مرات معهم الهدايا و التحف قائلين.

٢٤

سَلامٌ عَلَيْكُمْ فى موضع الحال بتقدير القول كما ذكرنا يعنى سلمكم اللّه من الآفات الّتي كنتم تخافونها و لا زوال لما أنعم اللّه عليكم بِما صَبَرْتُمْ متعلق بعليكم او بمحذوف اى هذا الثواب بما صبرتم عن المعاصي على الطاعات على خلاف الأهواء و على المصائب- و ليس متعلقا بسلام فان الخبر فاصل و الباء للسببية فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) عقباهم عن ابى امامة قال ان المؤمن ليكون على أريكته إذا دخل الجنة و عنده سلطان من خدم- و عند طرف السماطين باب مبوّب- فيقبل الملك من ملائكة اللّه تعالى يستأذن فيقوم ادنى الخدم الى الباب فاذا هو بالملك يستأذن فيقول للذى يليه ملك يستأذن و يقول للذى يليه ايذنوا له كذلك حتّى يبلغ أقصاهم الّذي عند الباب- فيفتح له فيدخل فيسلم ثم ينصرف- رواه البغوي و عن ابن عمر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال أول من يدخل الجنة من خلق اللّه فقراء

المهاجرين الذين تسربهم الثغور و تتقى بهم المكاره يموت أحدهم و حاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء فيقول اللّه لمن يشاء من ملائكته ايتوهم فحيوهم فيقول الملائكة ربنا نحن سكان سمائك و خيرتك من خلقك فتأمرنا ان نأتى هؤلاء و سلم عليهم قال اللّه تعالى انهم كانوا عبادا يعبدوننى و لا يشركون بي شيئا و تسربهم الثغور و تتقى بهم المكاره و يموت أحدهم و حاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء قال فتأتيهم الملائكة عند ذلك ف يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ

٢٥

وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّه يعنى مقابلى الأولين مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ اى بعد ما أوثقوه به من الإقرار و القبول وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللّه بِهِ أَنْ يُوصَلَ يؤمنون ببعض الكتاب و يكفرون ببعض و يفرقون بين اللّه و رسوله و يقطعون الأرحام وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ يعملون بالمعاصي و يهلكون الحرث و النسل و يقطعون السبيل و يبغون بغير الحق- عن ابى بكرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ما من ذنب أحرى ان يعجل اللّه لصاحبه العقوبة فى الدنيا مع ما يدخر له فى الاخرة من البغي و قطيعة الرحم- رواه احمد و البخاري فى الأدب و ابو داود و الترمذي و ابن ماجة و الحاكم و ابن حبان- و عن جبير بن مطعم قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول لا يدخل الجنة قاطع رحم- متفق عليه و عن عبد اللّه بن ابى اوفى قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول لا ينزل الرحمة على قوم فيهم قاطع رحم- رواه البيهقي فى شعب الايمان و عن عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يدخل الجنة منان و لا عاق و لا مد من خمر- رواه النسائي و الدارمي- أولئك لهم اللّعنة البعد من رحمة اللّه عزّ و جلّ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) يعنى الجزاء السوء فى الدار الاخرة و هو نار جهنم-.

٢٦

اللّه يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ اى يوسع على من يشاء و يضيق على من يشاء وَ فَرِحُوا يعنى اهل مكة أشروا و بطروا بِالْحَياةِ الدُّنْيا اى بما بسط لهم من الرزق و غيره فى الدار الدنيا و لم يشكروا وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي جنب الحيوة الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ (٢٦) اى متعة لا تدوم كعجالة الراكب و زاد الراعي-

لا يصلح نعيمها لان يقنع عليها و يهمل السعى للاخرة- و يفرح بها و يبطر بل ينبغى ان تصرف فيما يستوجبون به نعيم الاخرة-.

٢٧

وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا بعد ما راوا المعجزات الباهرة و الآيات القاطعة لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ اى على محمّد صلى اللّه عليه و سلم آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ يشهد له يعنى اقترحوا الآيات عنادا و تعنتا قُلْ إِنَّ اللّه يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ يعنى لا قصور فى نزول الآيات و قيام الشواهد لكن الآيات لا توجب الهداية- انما الهداية و الضلالة بيد اللّه تعالى يضل من يشاء ممن كان على صفتكم فلا سبيل الى اهتدائهم و ان أنزلت كل اية وَ يَهْدِي إِلَيْهِ اى الى الايمان به و طاعته و الترقي الى مدارج قربه و الى جنته مَنْ أَنابَ (٢٧) يعنى من يشاء اللّه انابته فاناب يعنى اقبل اليه بقلبه و رجع عن العناد- فاللّه يهديه بما جئت به بل بأدنى منه من الآيات.

٢٨

الَّذِينَ آمَنُوا بدل من قوله من أناب او خبر مبتدا محذوف وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّه يعنى يستقر فيها الايمان و اليقين و يزول عنه الريب و الشك بذكر اللّه تعالى يعنى القران- فان الايمان طمانية و النفاق شك و ريبة- او المعنى يزول و ساوس الشيطان عن قلوب المؤمنين بذكر اللّه- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما من آدميّ الا و لقلبه بيتان- فى أحدهما الملك و فى الاخر الشيطان فاذا ذكر اللّه خنس و إذا لم يذكر اللّه وضع الشيطان منقاره فى قلبه فوسوس له- رواه ابن ابى شيبة فى المصنف عن عبد اللّه بن شقيق و رواه البخاري تعليقا عن ابن عباس مرفوعا بلفظ الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فاذا ذكر اللّه خنس و إذا غفل وسوس- او المعنى ان القلوب الصافية للمؤمنين انما قوتهم ذكر اللّه تعالى فاذا ذكروا اللّه تطمئن قلوبهم أنسا به تعالى كاطمينان السمك فى الماء- و حيوان البر فى الهواء- و الوحش فى الصحراء- و إذا غشيهم غاشية توجب الغفلة او ابتلوا بصحبة اهل الغفلة لحق قلوبهم اضطراب و قلق- كما يلحق الاضطراب للسمك خارج الماء و لحيوان البر فى الماء و للوحش فى القفص- و هذه الحالة بديهية من الوجدانيات لخدام الصوفية العلية- فالمراد بقوله الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّه هم الصوفية أَلا بِذِكْرِ اللّه تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) اى القلوب المزكّية

قال البغوي

فان قيل أ ليس قد قال اللّه تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللّه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فكيف يكون الطمأنينة و الوجل فى حالة واحدة- قيل الوجل عند ذكر الوعيد و العقاب و الطمأنينة عند ذكر الوعد و الثواب- فالقلب توجل إذا ذكرت عدل اللّه و شدة حسابه- و تطمئن إذا ذكرت فضل اللّه و كرمه- و هذا الكلام يقتضى المنافاة بين الطمأنينة و الوجل- و عندى لا منافاة بينهما فان الطمأنينة المبنية على الانس يجتمع مع الوجل- و ايضا الخوف و الرجاء يجتمعان فى حالة واحدة- عن انس قال دخل النبي صلى اللّه عليه و سلم على شابّ و هو فى الموت- فقال كيف تجدك قال أرجو اللّه يا رسول اللّه و انى أخاف ذنوبى- فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يجتمعان فى قلب عبد فى مثل هذا الموطن الا أعطاه اللّه ما يرجو و امنه مما يخاف- رواه الترمذي و ابن ماجة و قال الترمذي حديث غريب-.

٢٩

الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ فعلى من الطيب مصدر طاب يطيب كبشرى و زلفى قلبت ياؤه واو الضمة ما قبلها- و محله الرفع او النصب كقولك طيبا لك و طيب لك و سلاما عليك و سلام عليك- و اللام فى لهم للبيان نحو سقيا لك- و معناه على قول ابن عباس فرح لهم و قرة عين- و قال عكرمة نعم مالهم- و قال قتادة حسنى لهم- و قال معمر عن قتادة يقول الرجل طوبى لك إذا أصبت خيرا- و قال ابراهيم خير لهم و كرامة- و قال سعيد بن جبير طوبى اسم الجنة بالحبشية- و

قال البغوي روى عن ابى امامة- و ابى هريرة و ابى الدرداء رضى اللّه عنهم قالوا طوبى شجرة «١» فى الجنة يظلّ الجنان كلها- و قال عبيد بن عمير هى شجرة فى جنة عدن أصلها فى دار النبي صلى اللّه عليه و سلم و فى كل دار و غرفة غصن منها- لم يخلق اللّه لونا و لا زهرة الا و فيها منها الا السواد- و لم يخلق اللّه فاكهة و لا ثمرة الا و فيها منها- ينبع من أصلها عينان الكافور و السلسبيل و قال مقاتل كل ورقة منها يظل امة- عليها ملك يسبح اللّه بانواع التسبيح- اخرج احمد و ابن حبان و الطبراني و ابن مردوية و البيهقي عن عتبة ابن عبد اللّه السلمى قال قال أعرابي يا رسول اللّه فى الجنة فاكهة- قال نعم فيها شجرة طوبى يطابق الفردوس- قال اىّ شجرة ارضنا يشبه- قال ليس يشبه شيئا من شجر أرضك و لكن

(١) عن ابن عمر قال ذكر عند النبي صلى اللّه عليه و سلم طوبى فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم يا أبا بكر هل بلغك ما طوبى قال اللّه و رسوله اعلم قال شجرة فى الجنة لا يعلم طولها الا اللّه فيسير الراكب تحت غصن من أغصانها سبعين خريفا ورقها الحلل يقع عليها كامثال البخت قال ابو بكر ذلك الظّئر باعم قال أنعم منه من أكله و أنت منهم يا أبا بكر إنشاء اللّه- ازالة الخفا- منه رحمه اللّه.

أتيت الشام قال لا- قال فانها تشبه شجرة بالشام تدعى الجوزة تنبت على ساق واحد ثم ينشر أعلاها- قال ما عظم أصلها قال لو ارتحلت برمة من ابل أهلك ما أحطت بأصلها حتّى تنكسر ترقوتا هرما- قال فهل فيها عنب- قال نعم قال ما عظم العنقود منها- قال مسيرة شهر للغراب الا يقع قال ما عظم الجثة منها قال هل ذبح أبوك تيسا من غنمه عظيما قط- قال نعم قال فاسلخ إهابه فاعطى أمك فقال ادبغى هذا ثم افرى لنا منه دلوا نروى فيه ما شينا ...

قال فان تلك الحبة يشبعنى و اهل بيتي قال نعم و عامة عشيرتك- و روى عن ابى سعيد الخدري رضى اللّه عنه قال ان رجلا سال النبي صلى اللّه عليه و سلم ما طوبى قال شجرة فى الجنة مسيرة مائة سنة- ثياب اهل الجنة تخرج من أكمامها- رواه ابن حبان و عن معاوية بن قرة عن أبيه يرفعه طوبى شجرة غرسها اللّه بيده و نفخ فيها من روحه تنبت الحلي و الحلل و ان أغصانها ليرى من وراء سور الجنة- و روى البغوي بسنه عن ابى هريرة قال ان فى الجنة شجرة يسير الراكب فى ظلها مائة سنة لا يقطعها اقرءوا ان شئتم و ظلّ مّمدود- متفق عليه و أخرجه احمد و زاد فى آخره و ان ورقها ليخمر الجنة-

و اخرج البغوي و هناد بن سرى فى الزهد و زاد فى آخره فبلغ ذلك كعبا فقال صدق و الّذي انزل التورية على موسى و القران على محمّد صلى اللّه عليه و سلم- لو ان رجلا ركب حقة او جذعة ثم أدار بأصل تلك الشجرة ما بلغها حتّى يسقط هرما- ان اللّه غرسها بيده و نفخ فيها من روحه و ان أفنانها لمن وراء سور الجنة- ما فى الجنة نهر الا و هو يخرج من اصل تلك الشجرة- و عن ابى هريرة قال فى الجنة شجرة يقال لها طوبى يقول لها اللّه تعالى تفتقى لعبدى عما يشاء فتفتق له عن فرس بسرجه و لجامه و هيئته كما يشاء- و تفتق له عن الراحلة برحلها و زمامها و هيئتها كما يشاء- و عن الثياب- رواه ابن ابى الدنيا و البغوي

و اخرج ابن المبارك و ابن جرير عن شهر بن حوشب قال طوبى شجرة فى الجنة كل شجرة الجنة من أغصانها من وراء سرر الجنة وَ حُسْنُ مَآبٍ (٢٩) اى حسن المنقلب-.

٣٠

كَذلِكَ يعنى مثل ارسالنا الرسل قبلك أَرْسَلْناكَ يا محمّد فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ أرسلوا إليهم فليس ارسالك امرا مبدعا لِتَتْلُوَا لتقرا عَلَيْهِمُ القران الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ و حالهم انهم يكفرون بالبليغ الرحمة الّذي أحاطت بهم نعمته و وسع كل شي ء رحمته- فلم يشكروا نعمته خصوصا لم يشكروا ما أنعم عليهم بإرسالك إليهم و إنزال القران الّذي هو مناطا لمنافع الدينية و الدنياوية عليهم-

قال البغوي قال قتادة و مقاتل و ابن جريح نزلت الاية فى صلح الحديبية- و كذا اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ عن قتادة و ذلك ان سهل بن عمرو لما جاء و اتفقوا على ان يكتبوا كتاب الصلح كما ذكرنا القصة فى سورة الفتح- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لعلىّ اكتب بسم اللّه الرّحمن الرّحيم- قالوا لا نعرف الرّحمن الا صاحب اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب اكتب كما كنت تكتب باسمك اللّهم- فهذا معنى قوله وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ-

قال البغوي و المعروف ان الاية مكية و سبب نزولها ان أبا جهل سمع محمّدا صلى اللّه عليه و سلم و هو فى الحجر يدعو يا اللّه يا رحمان فرجع الى المشركين فقال ان محمّدا يدعو الهين يدعو اللّه و يدعو الرّحمن و لا نعرف الرّحمن الا رحمان اليمامة- فنزلت هذه الاية و نزلت قُلِ ادْعُوا اللّه أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى - و روى الضحاك عن ابن عباس انها نزلت فى كفار قريش حين قال لهم النبي صلى اللّه عليه و سلم اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ ... قُلْ يا محمّد هُوَ رَبِّي اى الرّحمن الّذي انكرتم معرفته هو خالقى و متولى امرى لا إِلهَ لا يستحق العبادة إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ اعتمدت فى نصرتى عليكم وَ إِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) توبتى او اليه مرجعى فيثيبنى- قرا يعقوب متابى و عقابى و مابى بالياء فى الحالين و الباقون يحذفونها- اخرج الطبراني و غيره عن ابن عباس قال قالوا للنبى صلى اللّه عليه و سلم ان كان كما تقول فارنا أشياخنا الاول نكلمهم من الموتى و افسح لنا هذه الجبال جبال مكة فنزلت.

٣١

وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الاية

و اخرج ابن ابى حاتم و ابن مردوية عن عطية العوفى قال قالوا للنبى صلى اللّه عليه و سلم لو سيّرت جبال مكة حتّى يتسع فنحرث فيها او قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح و أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيى الموتى لقومه فانزل اللّه تعالى هذه الاية- و ذكر البغوي مبسوطا ان الاية نزلت فى نفر من مشركى مكة منهم ابو جهل بن هشام و عبد اللّه بن امية جلسوا خلف الكعبة فارسلوا الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال له عبد اللّه بن امية ان سرّك ان نتبعك فسيّر جبال مكة بالقران حتّى ينفسح فانها ارض ضيّقة لمزارعنا- و اجعل لنا فيها عيونا و أنهارا لنغرس فيها الأشجار و نزرع و نتخذ البساتين- فلست كما زعمت باهون على ربك من داود سخرت له الجبال تسبح معه- او سخّر لنا الريح فنركبها الى الشام لميرتنا و حوائجنا و نرجع فى يومنا- فقد سخرت الريح لسليمان كما زعمت و لست باهون على ربك من سليمان- و احيى لنا جدك قصيّا او من شئت من موتانا لنسئله عن أمرك أحق ما تقول أم باطل- فان عيسى كان يحى الموتى و لست باهون على اللّه منه- فانزل اللّه تعالى هذه الاية-

و اخرج ابو يعلى فى مسنده من حديث الزبير بن العوام بمعناه يعنى لو ثبت ان قرانا يعنى كتابا من الكتب السماوية سيرت به الْجِبالُ اى أزيلت عن مقارها أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ فى السير بان يسخر اللّه الريح فيركبونها و يقطعون الأرض او شققت الأرض فجعلت أنهارا و عيونا أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى اى أحيا به الموتى حتّى تكلموا- تذكير كلّم خاصة لاشتمال الموتى على المذكر الحقيقي- بل المراد به قصىّ «١» و أمثاله- و جواب الشرط محذوف يعنى لكان هذا القران لانه الغاية فى الاعجاز لكن اللّه سبحانه لم يقدّر كذلك- او لما أمنوا نظيره قوله تعالى وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ «٢» الْمَلائِكَةَ وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَ حَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا- و قيل الجواب مقدم و هو قوله وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ و ما بينهما اعتراض- كانّه قال لو سيرت به الجبال لكفروا بالرحمن و لم يؤمنوا- لما كتبناه عليهم من الشقاء و لان مبادى تعيناتهم ظلال الاسم المضلّ فانى لهم الهداية بَلْ للّه الْأَمْرُ جَمِيعاً إضراب عن كلام مقدر يدل عليه معنى لو من نفى تسيير الجبال و تقطيع الأرض و تكليم الموتى- تقديره ليس ذلك النفي لكون الأمور المذكورة غير مقدورة للّه تعالى بَلْ للّه الْأَمْرُ جَمِيعاً فهو قادر على ما اقترحوا من الآيات و كل شي ء سواه الا ان إرادته لم يتعلق بذلك لعلمه بانهم لا يؤمنون و لو يروا كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ- او لان اللّه تعالى لم يرد هدايتهم «٣»-

قال البغوي ان اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لما سمعوا هذا من المشركين طمعوا فى ان يفعل اللّه ما سالوا حتّى يؤمنوا فانزل اللّه تعالى أَ فَلَمْ يَيْأَسِ قرا البزي بفتح الياء من غير همز الَّذِينَ آمَنُوا

(١) فى الأصل قصيّا- [.....].

(٢) فى الأصل عليهم-.

(٣) فى الأصل سخر له.

عن ايمانهم حتّى طمعوا ذلك مع ما راوا من أحوالهم انهم راوا من الآيات ما هو أعظم من ذلك فلم يؤمنوا الا ترى ان انشقاق القمر باشارة النبي صلى اللّه عليه و سلم أشد اعجازا من تسيير الجبال و تقطيع الأرض- و تكليم الحصى أشد إعجازا من تكليم الموتى و غير ذلك ما لا يحصى أَنَّ مخففة من الثقيلة اى انه لَوْ يَشاءُ اللّه متعلق بمحذوف تقديره أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا من ايمانهم علما منهم أَنْ لَوْ يَشاءُ اللّه لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً او متعلق بامنوا و ان مصدرية يعنى الذين آمنوا بان لَوْ يَشاءُ اللّه لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً- و قال اكثر المفسرين معنى ا فلم يايئس أ فلم يعلم- قال الكلبي هى لغة النخع و قيل لغة هو اذن و أنكر الفراء ان يكون بمعنى العلم و زعم انه لم يسمع أحدا من العرب يقول يئست بمعنى علمت و يمكن ان يقال انه استعمل الإياس بمعنى العلم مجازا لانه مسبب عن العلم فان المأيوس عنه لا يكون الا معلوما و لذلك علقه بقوله أَنْ لَوْ يَشاءُ اللّه اى انه لَوْ يَشاءُ اللّه لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً و السبب لهذا القول ما اخرج ابن جرير عن علىّ و ابو عبيدة و سعيد بن منصور و ابن المنذر عن ابن عباس انهما قرا ا فلم يتبيّن الّذين آمنوا ان لّو يشاء اللّه لهدى النّاس جميعا فكانه تفسير لقوله (ا فلم «١» يياسوا) و اللّه اعلم- وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا من الكفر و الأعمال الخبيثة قارِعَةٌ اى داهية تقرعهم من انواع البلاء أحيانا بالجدب و أحيانا بالسلب و أحيانا بالقتل و الاسر- قال ابن عباس أراد بالقارعة السرايا الّتي كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يبعتهم إليهم أَوْ تَحُلُّ يعنى القارعة من السرايا و غير ذلك قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ فيقرعون منها و يتطاء إليهم شررها- و قيل معناه او تحل أنت يا محمّد بنفسك الكريمة قريبا من دارهم و قد حلّ بالحديبية و الاية على هذا و على ما قال ابن عباس فى كفار مكة حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّه اى الموت او القيامة ان كانت الاية عامة او فتح مكة ان كانت فى كفار مكة إِنَّ اللّه لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١) لامتناع الكذب و الخلف فى كلامه و لمّا كان الكفار يسئلون هذه الأشياء على سبيل الاستهزاء انزل اللّه تعالى تسلّية للنبى صلى اللّه عليه و سلم.

(١) فى الأصل هكذا و فى الاية أَ فَلَمْ يَيْأَسِ-.

٣٢

وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ كما يستهزءون بك فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الملوة المدة الطويلة من الدهر و منه الملوان الليل و النهار باعتبار امتدادهما- و ليست الملوان حقيقة الليل و النهار بدليل قول الشاعر نهار و ليل دائم ملوهما «١» على كل حال المرء يختلفان- فلو كانا الليل و النهار لما أضيف الى ضميرهما فمعنى فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا تركتهم فى مدة من الدهر من غير تعذيب و أمهلتهم ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بالعقوبة فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢) عقابى إياهم اى هو واقع موقعه فكذلك افعل بمن استهزا بك.

(١) فى الأصل ملوها-.

٣٣

أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ رقيب عليه بِما كَسَبَتْ من خير و شر لا يخفى عليه شي ء من أعمالهم و لا يفوت عنده شي ء من جزائهم و الخبر محذوف تقديره كمن ليس كذلك- و الاستفهام للانكار و الفاء للعطف على محذوف تقديره أ تشركون باللّه أصناما فتجعلون من هو قائم على كلّ نفس لمن ليس كذلك و هو جماد عاجز عن نفسه يعنى ليس كذلك فلا تشركوا به وَ جَعَلُوا للّه شُرَكاءَ استيناف او لطف على كسبت ان جعل ما مصدرية- او على مقدر تقديره لم يوحدوه و جعلوا للّه شركاء- و يكون الظاهر فيه موضع الضمير للتنبيه على انه المستحق للعبادة قُلْ سَمُّوهُمْ يعنى صفوهم فانظروا هل هم يستحقون العبادة و يستأهلون الشركة أَمْ تُنَبِّئُونَهُ اى بل أ تخبرون اللّه بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ اى بشركاء يستحقون العبادة لا يعلمهم اللّه- او بصفات للاصنام يستحقون العبادة لاجلها لا يعلمها اللّه- و هو العالم بكل ما هو كائن أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ أم تسمونها شركاء بظاهر من القول مسموع ليس لها مصداق أصلا- كتسمية الزنجي كافورا- و قيل معناه بباطل من القول قال الشاعر و عيرنى الواشون الى أحبها و تلك شكاة ظاهر عنك عاريها - اى باطل بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعنى زين لهم الشيطان مَكْرُهُمْ اى كيدهم و تمويهم فتخيلوا أباطيل او كيدهم للاسلام بشركهم وَ صُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ قرا الكوفيون بضم الصاد هاهنا و فى حم المؤمن اى صرفوا عن الدين صرفهم اللّه تعالى و أضلهم الشيطان-

و قرا الباقون بالفتح اى صدوا الناس عن الايمان و طريق الهدى وَ مَنْ يُضْلِلِ اللّه بخذ لانه إياه فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) يوفقه للّهدى.

٣٤

لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بالقتل و الاسر و ضرب الجزية وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ أشد و أدوم منه

وَ ما لَهُمْ مِنَ اللّه اى من عذابه- او من رحمته مِنْ واقٍ (٣٤) حافظ-.

٣٥

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ اى صفتها الّتي هى مثل فى الحسن و الغرابة- مبتدا خبره محذوف عند سيبويه- اى فيما يقص عليكم و ما بعده حال من العائد المحذوف من الصلة- و قيل خبره تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ على طريقة قولك صفة زيد اسمه- او على حذف الموصوف اى مَثَلُ الْجَنَّةِ جنة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ- او يقال لفظ المثل زائد و المعنى (الجنّة الّتي وعد المتّقون تجرى من تحتها الانهر أكلها) اى ثمرها دائِمٌ لا ينقطع- اخرج البزار و الطبراني عن ثوبان انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول لا ينزع رجل من اهل الجنة ثمرها الا أعيد فى مكانها مثلها- و فى هذه الاية و الحديث رد على الجهمية حيث قالوا ان نعيم الجنة يفنى وَ ظِلُّها اى و ظلها كذلك لا ينسخ كما ينسخ فى الدنيا بالشمس- اخرج البيهقي عن شعيب بن الجيحان قال خرجت انا و ابو العالية الرياحي قبل طلوع الشمس فقال نبّئت ان الجنة هكذا ثم تلا وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ ... تِلْكَ اى الجنة الموصوفة بما ذكرنا عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا اى جزاؤهم او مالهم و منتهى أمرهم وَ عُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) ان كان العقبى بمعنى الجزاء فاستعماله هاهنا على سبيل الاستعارة- كما فى قوله تعالى.

هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ «١»- و فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ.

(١) فى الأصل يعملون-.

٣٦

وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعنى اصحاب محمّد صلى اللّه عليه و سلم- او مؤمنوا اهل الكتاب كعبد اللّه بن سلام و أصحابه و من أمن من النصارى من اهل الحبشة و غيرهم يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القران لموافقته ما عندهم وَ مِنَ الْأَحْزابِ يعنى الكفار الذين تحزّبوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- او الذين كفروا من اليهود و النصارى ككعب بن الأشرف و أصحابه- و السيد و العاقب و أمثالهما مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ و هو ما يخالف أهواءهم- او ما يخالف شرائعهم من شريعتنا و نبوة محمّد صلى اللّه عليه و سلم-

قال البغوي قال جماعة كان ذكر الرّحمن قليلا فى القران فى الابتداء- فلمّا اسلم عبد اللّه بن سلام و أصحابه ساءهم قلة ذكره فى القران مع كثرة ذكره فى التورية فلما كرر اللّه ذكره فى القران فرحوا به- فانزل اللّه تعالى هذه الاية- و قيل المراد بقوله و من الأحزاب من ينكر بعضه يعنى مشركى مكة حين كتب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى كتاب الصلح بسم اللّه الرّحمن الرّحيم- قالوا لا نعرف الرّحمن الا رحمان اليمامة يعنى مسيلمة الكذّاب فانزل اللّه وَ هُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ ...- وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ- و انما قال بَعْضَهُ لانهم كانوا لا ينكرون ذكر اللّه و ينكرون ذكر الرّحمن قُلْ يا محمّد إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ اى بان أَعْبُدَ اللّه وَ لا أُشْرِكَ بِهِ الاية ان كان فى جواب منكرى اهل الكتاب فالمعنى قل لهم انى أمرت فيما انزل الىّ ان اعبد اللّه و اوحّده- و هو العمدة فى الدين و لا سبيل لكم الى إنكاره- و اما ما تنكرونه مما يخالف شرائعكم من الاحكام فليس ببدع- فان الشرائع و الكتب السماوية ينسخ بعضها بعضا فى جزئيات الاحكام- و ان كان فى عامة الكفار فالمعنى انى أمرت ان اعبد اللّه وحده- و ذكره بأسماء كثيرة من اللّه و الرّحمن و الرّحيم لا ينافى التوحيد فانكاركم على اسم الرّحمن لا معنى له- و لعل انكارهم ذكر الرّحمن مبنى على ان استعدادهم يأبى عن رحمة اللّه تعالى إِلَيْهِ أَدْعُوا الناس لا الى غيره وَ إِلَيْهِ لا الى غيره مَآبِ (٣٦) مرجعى و لا سبيل الى انكار ذلك.

٣٧

وَ كَذلِكَ اى مثل انزالنا الكتب السابقة بلغات من أرسل إليهم أَنْزَلْناهُ اى القران عليك حُكْماً فى القضايا و الوقائع و الحلّ و الحرمة و غيرها على ما يقتضيه الحكمة عَرَبِيًّا مترجما بلسان قومك العرب ليسهل لك و لقومك فهمه وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ فيما أنكروا عليك فرضا بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللّه مِنْ وَلِيٍّ وَ لا واقٍ (٣٧) يعنى ناصر و حافظ يقيك و يمنع العقاب عنك روى ان اليهود قالوا ان هذا الرجل ليس له همة الا فى النساء فانزل اللّه تعالى.

٣٨

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ بشرا مثلك لا ملائكة وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَ ذُرِّيَّةً اى نساء و أولادا كما هى لك وَ ما كانَ لِرَسُولٍ اى ما صح له و لم يكن فى وسع أحد منهم أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ يقترح عليه و حكم يلتمس منه إِلَّا بِإِذْنِ اللّه لانهم عبيد مربوبون لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) اى لكل أمد- و لوقت كل شي ء كتاب كتب اللّه فى الأزل بدايته و نهايته- يعنى كتب اللّه فى الأزل انّ زيدا يولد فى وقت كذا و يبقى منذ كذا كافرا و يسلم فى وقت كذا و نحو ذلك- و كذا لنزول اية من القران او معجزة قضى وجوده وقت مكتوب عند اللّه لا يتقدمه و لا يتاخر و ان استعجل الناس- و جاز ان يكون هذا متعلقا بقوله تعالى وَ مِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ على ان يكون تلك الاية فى انكار اهل الكتاب على احكام يخالف احكام التورية يقول اللّه لكل أمد و وقت حكم يكتب على العباد على ما يقتضى استصلاحهم-.

٣٩

يَمْحُوا اللّه ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ قرا ابن كثير و ابو عمرو و يعقوب و عاصم يثبت بالتخفيف من الافعال- و الباقون بالتشديد من التفعيل- و اختلفوا فى معنى الاية قال سعيد بن جبير و قتادة يَمْحُوا اللّه ما يَشاءُ من الفرائض و الشرائع فينسخه و يبدّله و يثبت ما يشاء منها فلا ينسخه- و هذا يناسب التأويل الثاني للاية المتقدمة عليها- و قال ابن عباس يَمْحُوا اللّه ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ يعنى مما كان فى اللوح- فما كان مكتوبا قابلا للمحو يسمى بالقضاء المعلق- يمحوه اللّه تعالى بايجاد ما علق محوه به- سواء كان ذلك التعليق مكتوبا فى اللوح او مضمرا فى علم اللّه تعالى- و ما ليس قابلا للمحو يسمى بالقضاء المبرم- و ذلك القضاء لا يرد قال ابن عباس يَمْحُوا اللّه ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ الا الرزق و الاجل و السعادة و الشقاوة يعنى انها «١» لا تمحى-

قال البغوي روينا عن حذيفة بن أسيد عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه قال يدخل الملك على النطفة بعد ما يستقر فى الرحم بأربعين او خمسة و أربعين ليلة- فيقول يا رب أشقى أم سعيد فيكتبان- فيقول اى رب اذكر أم أنثى فيكتبان- و يكتب عمله و اثره و اجله و رزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها و لا ينقص- و فى الصحيحين عن ابن مسعود قال حدثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو الصادق المصدوق ان خلق أحدكم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة- ثم تكون علقة مثل ذلك- لم تكون مضغة مثل ذلك- ثم يبعث اللّه اليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله و أحله و رزقه و شقى او سعيد- ثم ينفخ فيه الروح الحديث-

(١)

و اخرج الطبراني بسند ضعيف عن ابن عمر سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول يَمْحُوا اللّه ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ الا الشقاوة و السعادة و الحياة و الموت-

و اخرج ابن مردوية عن جابر بن عبد اللّه عن رباب عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال يمحوا من الرزق و يزيد فيه و يمحوا من الاجل و يزيد فيه-

و اخرج ابن مردوية عن ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه و سلم سئل عن قوله تعالى يَمْحُوا اللّه ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ قال ذلك كل ليلة القدر يرفع و يجير و يرزق غير الحيوة و الموت و الشقاوة و السعادة فان ذلك لا يبدل- منه رحمه اللّه.

و

قال البغوي و عن عمرو ابن مسعود انهما قالا يمحو السعادة و الشقاوة ايضا و يمحو الرزق و الاجل و يثبت ما يشاء- و روى عن عمر انه كان يطوف بالبيت و هو يبكى و يقول اللّهم ان كنت كتبتنى فى اهل السعادة فاثبتنى فيها- و ان كنت كتبت علىّ الشقاوة فامحنى و أثبتني فى اهل السعادة و المغفرة فانك تمحو ما تشاء و تثبت و عندك أم الكتاب- و مثله عن ابن مسعود و فى بعض الآثار ان الرجل قد يكون قد بقي من عمره ثلاثون سنة فيقطع رحمه فيرد الى ثلاثة ايام- و الرجل قد يكون قد بقي له من عمره ثلاثة ايام فيصل رحمه فيمد الى ثلاثين سنة- ثم روى البغوي بسنده الى ابى الدرداء رضى اللّه عنه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ينزل اللّه فى اخر ثلاث ساعات يبقين من الليل- فينظر فى الساعة الاولى منهن فى الكتاب الّذي لا ينظر فيه أحد غيره- فيمحو ما يشاء و يثبت- اخرج ابن مردوية عن علىّ انه سال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن هذه الاية فقال لا قرن عينك بتفسيرها و لا قرن عين أمتي من بعدي بتفسيرها- الصدقة على وجهها وبر الوالدين و اصناع المعروف يحوّل الشقاء سعادة و يزيد فى العمر-

قلت و يوافق مذهب عمر و ابن مسعود رضى اللّه عنهما ما ذكر فى المقامات المجددية ان المجدد رضى اللّه عنه نظر ببصيرة الكشف مكتوبا فى ناصية ملا طاهر اللاهورى شقى- و كان ملا طاهر معلما لابنيه الكريمين محمّد سعيد و محمّد معصوم رضى اللّه عنهما- فذكر المجدد رضى اللّه عنه ما ابصر لولديه الشريفين- فالتمسا منه رضى اللّه عنهم ان يدعو اللّه سبحانه ان يمحو عنه الشقاوة و يثبت مكانه السعادة- فقال المجدد رضى اللّه عنه نظرت فى اللوح المحفوظ فاذا فيه انه قضاء مبرم لا يمكن رده- فالجا ولداه الكريمان فى الدعاء لما التمسا منه- فقال المجدد رضى اللّه عنه تذكرت ما قال غوث الثقلين السيد السند محى الدين عبد القادر الجيلي رضى اللّه عنه ان القضاء المبرم ايضا يرد يدعونى- فدعوت اللّه سبحانه و قلت اللّهم رحمتك واسعة و فضلك غير مقتصر على أحد- ارجوك و أسئلك من فضلك العميم ان تجيب دعوتى فى محو كتاب الشقاء من ناصية ملا طاهر- و اثبات السعادة مكانه- كما أجبت دعوة سيد السند رضى اللّه عنه- قال فكانى انظر الى ناصية ملا طاهر انه محيى منها كلمة شقى و كتب مكانه سعيد وَ ما ذلِكَ عَلَى اللّه بِعَزِيزٍ- ثم أشكل علىّ هذا الأمر و قلت ما معنى رد القضاء المبرم بدعاء أحد فانه لا مرد لقضائه تعالى المبرم بوجه من الوجوه- و الا لا يكون المبرم مبرما- و هذا خلف او يلزم المحال- فالهمنى اللّه تعالى حل ذلك الاشكال ان القضاء المعلق نوعان- أحدهما ما كتب فى اللوح المحفوظ تعليقه و كتب ان رد هذا القضاء معلق بامر كذا- و ثانيهما ما لم يكتب تعليقه فى اللوح- فهو فى اللوح على صورة المبرم و معلق محوه و إثباته فى علم اللّه تعالى- فما قال السيد السند رضى اللّه عنه ان القضاء المبرم يرد بدعوتي- فذلك القضاء هو الّذي فى اللوح فى صورة المبرم و ليس مبرما فى علم اللّه تعالى- و كان شقاوة ملا طاهر من هذا القبيل مبرما فى اللوح معلقا محوه بدعاء المجدد رضى اللّه عنه فى علم اللّه تعالى و اللّه اعلم و قال الضحاك و الكلبي معنى الاية ان الحفظة يكتبون جميع اعمال ابن آدم و أقواله فيمحو اللّه من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب و لا عقاب- مثل قوله أكلت و شربت دخلت و خرجت و نحوها من كلام هو صادق فيه- و يثبت ما فيه ثواب او عقاب- قال الكلبي يكتب القول كله حتّى إذا كان يوم الخميس طرح منه كل شي ء ليس فيها ثواب و لا عقاب- و قال عطية عن ابن عباس رضى اللّه عنهما هو الرجل يعمل بطاعة اللّه ثم يعود يعصيه فيموت على ضلاله فهو الّذي يمحو- و رجل يعمل بطاعة اللّه فيموت و هو فى طاعته فهو الّذي يثبت- روى مسلم عن عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان قلوب بنى آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرّحمن كقلب واحد يصرّفه كيف يشاء- ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اللّهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك- و قال الحسن يمحو ما يشاء اى من جاء اجله يذهب به و يثبت من لم يجئ اجله الى اجله- و عن سعيد بن جبير قال يمحو ما يشاء من ذنوب العباد فيغفرها و يثبت ما يشاء فلا يغفرها- و قال عكرمة يمحو ما يشاء من الذنوب بالتوبة و يثبت بدل الذنوب حسنات- كما قال فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللّه سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ- روى مسلم عن ابى ذر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغائر ذنوبه فيعرض عليه صغائرها و تخبأ عنه كبائرها- فيقال عملت يوم كذا كذا و كذا و هو يقرّ و ليس ينكر و هو مشفق من الكبائر ان تخيى- فقال أعطوه مكان كل سيئة حسنة فيقول ان لى ذنوبا لا أراها هاهنا- فلقد رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ضحك حتّى بدت نواجذه-

قلت و لعل هذا فى من انغمس فى بحار المحبوبية الصرفة من الصوفية العلية- و قال السدى يمحو اللّه ما يشاء يعنى القمر و يثبت يعنى الشمس بيانه قوله تعالى فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً- و قال الربيع هذا فى الأرواح يقبضها اللّه تعالى عند النوم- فمن أراد موته محاه فامسكه و من أراد بقاءه أثبته ورده الى صاحبه- بيانه قوله تعالى اللّه يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها الاية- و قيل معناه يمحو من كتاب الحفظة من اعمال العباد ما عمل رياء و سمعة و يثبت ما عمل لوجه اللّه خالصا- و قيل يحو قوما و يثبت قوما وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) اى اصل الكتاب و هو علم اللّه- كذا قال كعب حين ساله ابن عباس عن أم الكتاب- و قال عكرمة عن ابن عباس هنا كتابان كتاب سوى أم الكتاب يمحو منه ما يشاء و يثبت و أم الكتاب الّذي لا يغير منه شي ء-

قال البغوي اللوح المحفوظ الّذي لا يبدل و لا يغير- و عن عطاء عن ابن عباس قال ان للّه لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام من درة بيضاء لها دفتان من ياقوت- للّه فيه كل يوم ثلاثمائة و ثلاثون لحظة يمحو ما يشاء و يثبت-.

٤٠

وَ إِنْ ما فيه ادغام نون ان الشرطية فى ما الزائدة نُرِيَنَّكَ قبل موتك بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من تعذيبهم و مغلوبيّتهم فى الدنيا و استيلاء اهل الإسلام كما أراه «١» صلى اللّه عليه و سلم هزيمتهم و قتلهم و اسرهم يوم بدر- الموعود بقوله تعالى سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ- و جواب الشرط محذوف اى فذك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل حلول ما نعدهم ثم نعذبهم فلا تغتم باعراضهم و لا تستعجل بعذابهم فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ لا غير و قد أتيت به وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) و الجزاء يوم القيامة فنجازيهم إذا صاروا إلينا ليس ذلك عليك.

(١) فى الأصل راه-.

٤١

أَ وَ لَمْ يَرَوْا يعنى كفار مكة أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها

قال البغوي اكثر المفسرين على ان المراد منه فتح ديار الشرك- فان ما زاد فى ديار الإسلام فقد نقص من ديار الشرك- و تقدير الكلام على هذا ينكرون ما نعدهم بانهم سينفقون أموالهم ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ- ... أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ اى نقصد ارض الكفرة نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها بما نفتحه على المسلمين منها أرضا بعد ارض حوالى ارضهم فلا يعتبرون- هذا قول ابن عباس و قتادة و جماعة و فيه تسلية للنبى صلى اللّه عليه و سلم حتّى لا يهتم و يعلم ان اللّه يتم ما وعده من الظفر- و قال قوم هو خراب الأرض و معناه الا يخافون ان نهلكهم و نخرب ديارهم وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ فنخريها و نهلك أهلها و مثل ذلك قال مجاهد و الشعبي وَ اللّه يَحْكُمُ فى خلقه ما يشاء لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ يعنى لا راد لقضائه و لا ناقض لحكمه- و المعقّب الّذي يعقّب الشي ء و يكر عليه بالابطال- و المعنى انه تعالى حكم للاسلام بالإقبال و على الكفر بالادبار و ذلك كائن لا مرد له- و محل لا مع المنفي «١» النصب على الحال اى يحكم نافذا حكمه وَ هُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) فيحاسبهم فى الاخرة بعد ما يعذبهم بالقتل و الاسر و الاجلاء فى الدنيا.

(١) فى الأصل مع النفي-.

٤٢

وَ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ اى قبل مشركى مكة مكر كفار الأمم السابقة بانبيائهم و المؤمنين منهم كما مكر هؤلاء لك- و المكر إيصال المكروه الى أحد من حيث لا يشعر فَللّه الْمَكْرُ جَمِيعاً اى عند اللّه جزاء مكرهم و قيل معناه ان اللّه خالق مكرهم جميعا بيده الخير و الشر و من عنده النفع و الضرّ فلا يضر مكر أحد أحدا الا باذنه فمكرهم كلا مكر يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ فيجازيه على حسب عمله فهذا هو المكر كله لانه يأتيهم من حيث لا يشعرون وَ سَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ قرا ابن عامر و الكوفيون بصيغة الجمع و اهل الحجاز و ابو عمرو الكفر على التوحيد بارادة الجنس لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) اى لمن جزاء الحسنات فى الدار الاخرة من الفئتين- حين يأتيهم العذاب المعهود و هم فى غفلة منه و المؤمنون يدخلون الجنة- و هذا كالتفسير لمكر اللّه بهم.

٤٣

وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى كفار مكة و قيل رءوساء اليهود لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ يا محمّد كَفى بِاللّه شَهِيداً الباء زائدة دخلت على الفاعل و شهيدا تميز من النسبة و المعنى كفى شهادة اللّه تعالى بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ على صدقى فانه اظهر من الادلة على رسالتى ما يغنى عن شاهد يشهد عليها- و انه تعالى هو الحاكم يوم الجزاء فلا يكون لهم عند اللّه عذر يومئذ

وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣) عطف على اللّه و المراد مؤمنوا اهل الكتاب كعبد اللّه بن سلام و أمثاله- يعنى و يشهد ايضا المؤمنون من أحبار اليهود و لا يضر انكار الكافرين منهم- لان اقرار من أقر منهم لا تهمة فيه أصلا- و اما انكار الكفار منهم فمبنى على الحسد و العناد لاجل المال و الجاه- و لاجل هذا التأويل قيل هذه الاية من هذه السورة مدنية و ان كانت سائرها مكية و أنكر الشعبي و ابو بشر هذا التأويل- قالا السورة مكية و عبد اللّه بن سلام اسلم بالمدينة-

قلت لو سلمنا كون الاية مكية فلا مانع ان يكون المراد بالموصول اهل الكتاب- كانّه ارشاد لكفار مكة بانه ان لم يستيقنوا برسالة محمّد صلى اللّه عليه و سلم فاسئلوا اهل الكتاب سيشهد لكم ثقات منهم- و قال الحسن و مجاهد وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ هو اللّه تعالى و المراد بالكتاب اللوح المحفوظ و المعنى كفى شهيدا الّذي يستحق العبادة- و من لا يعلم ما فى اللوح الا هو فتجزى الكاذب منّا- و يؤيده قراءة الحسن و سعيد بن جبير من عنده بكسر الميم و الدال على ان من جارة و علم الكتب على صيغة الفعل الماضي المجهول و اللّه اعلم

﴿ ٠