سُورَةُ النَّحْلِ مَكِّيَّةٌ وَهِيَ مِائَةٌ وَثَمَانٍ وَعِشْرُونَ آيَةً مائة «١» و ثمانية و عشرون اية مكية الّا ثلاث آيات من آخرها روى ابن إسحاق و ابن جرير عن عطاء بن يسار قال نزلت النحل كلها بمكة الا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد أحد حين قتل حمزة و مثل به فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط فانزل اللّه وَ إِنْ عاقَبْتُمْ الى اخر السورة- ربّ يسّر و تمّم بالخير «٢» بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) و فى الأصل مائة و عشرون. (٢) الخطبة من الناشر-. _________________________________ ١ أَتى أَمْرُ اللّه اى دنا و قرب قال ابن عرفة يقول العرب أتاك الأمر و هو متوقع بعد- فالاتيان مجاز من الدنو او من وجوب الوقوع فان الأمر الواجب الوقوع فى المستقبل بمنزلة الماضي فى كونه متيقنا وجوده- و المعنى ان امر اللّه الموعود و هو قيام الساعة على ما قاله الكلبي و غيره واجب وقوعه استيقنوا به و لا ترتابوا فيه و اعدّوا له كانه قد اتى فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ اى لا تستعجلوا وقوعه إذ لا خير لكم فيه و لا خلاص لكم عنه- قال البغوي قال ابن عباس رضى اللّه عنهما لما نزل قوله تعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ قال الكفار بعضهم لبعض ان هذا الرجل يزعم ان القيامة قد قربت فامسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتّى ننظر ما هو كائن فلما لم ينزل شي ء قالوا ما نرى شيئا مما تخوّفنا به فنزل قوله تعالى اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ فاشفقوا فلما امتددن الأيام قالوا يا محمّد ما نرى شيئا مما تخوّفنا به فانزل اللّه تعالى أَتى أَمْرُ اللّه فوثب النبي صلى اللّه عليه و سلم و رفع الناس رءوسهم و ظنوا انها قد أتت حقيقة فنزل فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فاطمانوا- اخرج ابن مردوية عن ابن عباس قال لما نزلت أَتى أَمْرُ اللّه ذعر اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتّى نزلت فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ- و الاستعجال طلب الشي ء قبل أوانه- قال البغوي و لمّا نزلت هذه الاية قال النبي صلى اللّه عليه و سلم بعثت انا و الساعة كهاتين فاشار بإصبعيه كادت لتسبقنى- قلت و فى الصحيحين عن انس بعثت انا و الساعة كهاتين- و روى الترمذي عن المستور بن شداد عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال بعثت فى نفس الساعة فسبقتها كما سبقت هذه هذه و أشار بإصبعيه السبابة و الوسطى- و قال البغوي قال ابن عباس كان بعث النبي صلى اللّه عليه و سلم من اشراط الساعة و لما مر جبرئيل عليه السلام باهل السموات مبعوثا الى محمّد صلى اللّه عليه و سلم قالوا اللّه اكبر قامت الساعة- و قال قوم المراد بالأمر هاهنا عقوبة المكذبين و العذاب بالسيف و ذلك ان النضر بن الحارث قال اللّهمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ فاستعجلوا العذاب فنزلت هذه الاية و قتل النضر يوم بدر صبرا سُبْحانَهُ اى اسبح اللّه سبحانا و انزهه تنزيها وَ تَعالى يعنى تعاظم و ترافع بالأوصاف الجليلة عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) عن ان يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم او عما يصفه به المشركون- قرا حمزة و الكسائي بالتاء على الخطاب فى الموضعين مطابقا لقوله تعالى فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ و الباقون بالياء على الالتفات او على ان الخطاب للمؤمنين او لهم و لغيرهم لما مر فى الحديث انه وثب النبي صلى اللّه عليه و سلم و رفع الناس رءوسهم فنزلت فلا تستعجلوه-. ٢ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ قرا العامة بضم الياء و كسر الزاء من الافعال و نصب الملائكة على المفعولية و يعقوب بالتاء الفوقانية و فتح الزاء على صيغة المضارع من التفعيل بحذف احدى التاءين و رفع الملائكة على الفاعلية بِالرُّوحِ اى بالوحى او القران فانه يحيى به القلوب الميتة بالجهل مِنْ أَمْرِهِ اى بامره و من اجله عَلى مَنْ يَشاءُ ان يتخذه رسولا مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا اى اعلموا من نذرت هكذا إذا علمته و ان مفسرة لان الروح بمعنى الوحى الدال على القول او مصدرية فى موضع الجر على البدل من الروح او النصب بنزع الخافض- او مخففة من الثقيلة أَنَّهُ اى الشأن لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) رجوع الى مخاطبتهم بما هو المقصود او يقال انذروا بمعنى خوّفوا اهل الشرك و المعاصي بالعذاب و اعلموا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ اى خافون- و فى الاية تنبيه على ان الوحى حاصله التنبيه على التوحيد و هو منتهى كمال القوة العلمية و الأمر بالتقوى الّذي هو أقصى كمالات العملية و الآيات الآتية دالة «١» على الواحدية من حيث انها تدل على انه تعالى هو الموجد لاصول العالم و فروعه على وفق الحكمة و المصلحة و لو كان له شريك لقدر على ذلك و أمكن التمانع- و فى تعقيب هذه الاية لقوله تعالى أَتى أَمْرُ اللّه اشارة الى الطريق الّذي علم الرسول بذلك إتيان الساعة و ازاحة لاستبعادهم باختصاصه بالعلم-. (١) فى الأصل ادلة-. ٣ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ متلبسا بِالْحَقِّ أوجدهما على مقدار و شكل و أوضاع و صفات مختلفة بحيث يدل على صانع قديم واحد قدير حكيم تَعالى تعاظم و ارتفع عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) منهما او يفتقر فى وجوده او بقائه عليهما و هما لا يقدران على خلقها و فيه دليل على انه تعالى ليس من قبيل الاجرام. ٤ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ جماد لا حس لها و لا حركة سيالة لا يحفظ الوضع و الشكل حتّى صار قويّا شديدا فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ منطيق مجادل مُبِينٌ (٤) للحجة على نفى البعث بقوله مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ- او ظاهر الجدال بخالقه قال البغوي نزلت فى أبيّ بن خلف الجمحي و كان ينكر البعث فجاء بعظم رميم فقال أ تقولون ان اللّه يحيى هذا بعد مارم و نزلت فيه ايضا وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ- و اخرج ابن ابى حاتم عن السدىّ هذه القصة فى قوله تعالى أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ الاية- و المعنى ان هذا المنكر لم يتفرس بان اللّه تعالى خلقه و قد كان نطفة فاىّ استبعاد فى خلقه مرة اخرى بعد مارم و لفظ الاية عام و ان كان المورد خاصّا و اللّه اعلم-. ٥ وَ الْأَنْعامَ يعنى الإبل و البقر و الغنم منصوب بمضمر يفسره قوله خَلَقَها لَكُمْ او بالعطف على الإنسان و جملة خَلَقَها لَكُمْ بيان لما خلق لاجله و ما بعده تفصيله فِيها دِفْ ءٌ فى القاموس انه نقيض حدة البرد يعنى تستدفئون من اوبارها و اشعارها و أصوافها و يجعل منها ملابس و لحفا وَ مَنافِعُ من النسل و الدر و الركوب و الحمل و سقى الزرع و البيع وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (٥) ما يؤكل منها كاللحوم و الشحوم و الألبان- و تقديم الظرف للمحافظة على رؤس الاى او لان الاكل منها هو المعتاد المعتمد عليه فى المعاش بخلاف الاكل من سائر الحيوانات المأكولة فانها اما على سبيل التفكه او التداوى. ٦ وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ زينة حِينَ تُرِيحُونَ تردونها من مراعيها الى مراحيها بالعشي وَ حِينَ تَسْرَحُونَ (٦) اى تخرجونها بالغداة الى المراعى فان الافنية تتزين بها فى الوقتين و يجلّ أهلها فى أعين الناظرين إليها و تقديم الاراحة لان الحال فيها اظهر فانها تروح ملا البطون حاقلة الضروع. ٧ وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ فضلا من ان تحملوها على ظهوركم اليه إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ بالمشقة و الجهد- قرا ابو جعفر بفتح الشين و الجمهور بكسرها- و هما لغتان نحو رطل و رطل إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) حيث خلقها لانتفاعكم بها. ٨ وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ عطف على الانعام لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً اى لتركبوها و لتتزيّنوا بها زينة- و قيل هى معطوفة على محل لتركبوها و تغير النظم لان الزينة بفعل الخالق و الركوب فعل اختياري للمخلوق و لان المقصود من خلقها الركوب كما ان المقصود من خلق البقر الحرث و انما يحصل التزيين بالدواب بالعرض- احتج بهذه الاية ابو حنيفة على حرمة لحوم الخيل او كراهتها قال صاحب الهداية هذه الاية خرج مخرج الامتنان و الاكل من أعلى منافعها و الحكيم لا يترك الامتنان بأعلى النعم و يمتن بأدناها- قلت أكل لحوم الشاة و الدجاجة و نحوها أطيب جدّا من لحوم الخيل و يتيسر ذلك بأدنى مؤنة بخلاف لحوم الخيل فلذلك لم يعتبر أكل لحوم الخيل من منافعها فالقول بان الاكل أعلى منافعها ممنوع بل أعلى منافعها ما لا يحصل الا به كالركوب و الزينة و لاجل ذلك ذكر اللّه سبحانه المنفعتين المذكورتين فى الامتنان و اللّه اعلم- و كيف يدل الاية على حرمة الخيل و الحمر و البغال مع ان الاية مكية و كلها كانت حلالا حينئذ و انما حرمت لحوم الحمر الاهلية يوم خيبر سنة ست من الهجرة و قد مر المسألة فى تفسير سورة المائدة فى قوله تعالى الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ... وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) يعنى ما أعد للمؤمنين فى الجنة و للكافرين فى النار مما لم يره عين و لم يسمعه اذن و لم يخطر على قلب بشر. ٩ وَ عَلَى اللّه بيان قَصْدُ السَّبِيلِ اى الطريق المستقيم الموصل الى الحق رحمة و تفضلا- او عليه قصد السبيل يعنى يصل الى اللّه تعالى من يسلكه لا محالة يفال سبيل قصد و قاصد اى مستقيم كانه يقصد الوجه الّذي يقصده السالك لا يميل عنه و المراد بالسبيل الجنس و لذلك أضاف إليها و الاضافة بمعنى من وَ مِنْها اى من السبيل جائِرٌ مائل عن القصد او عن اللّه و تغير الأسلوب لان المقصود بيان سبيله و تقسيم السبيل الى القصد و الجائر انما جاء بالعرض فالقصد من السبيل السنة و الجائر منها الأهواء و البدع و ملل الكفر كلها وَ لَوْ شاءَ اللّه هدايتكم أجمعين لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) الى قصد السبيل و المراد بالهداية هاهنا الإيصال الى المطلوب و من قوله عَلَى اللّه قَصْدُ السَّبِيلِ اراءة الطريق-. ١٠ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ اى ماء تشربونه و لكم صلة انزل او خبر شراب و من تبعيضية متعلقة به و تقديمها يوهم الحصر و وجه الحصر ان مياه الآبار و العيون منه لقوله تعالى فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ و قوله فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ... وَ مِنْهُ اى من ذلك الماء شَجَرٌ اى شرب أشجاركم و حيات نباتكم فِيهِ اى فى الشجر تُسِيمُونَ (١٠) اى ترعون مواشيكم من سامت الماشية و أسامها صاحبها و أصلها السومة و هى العلامة لانها تؤثر بالرعي علامة. ١١ يُنْبِتُ قرا ابو بكر عن عاصم بالنون على التكلم و الباقون بالياء على الغيبة اى ينبت اللّه لَكُمْ بِهِ اى بالماء الّذي انزل الزَّرْعَ وَ الزَّيْتُونَ وَ النَّخِيلَ وَ الْأَعْنابَ وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ اى بعض كل ما يمكن من الثمار و انما ذكر لفظ التبعيض لان كل الثمرات لا يكون الا فى الجنة و خلق فى الدنيا بعضها ليكون تذكرة لها و لعل تقديم ما يسام فيه على ما يؤكل منه لانه سيصير غذاء حيوانيا و هو اشرف الاغذية و من هذا القبيل تقديم الزرع و التصريح بالأجناس الثلاثة و ترتيبها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً اى دلالة واضحة على وجود الصانع و علمه و حكمته لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) فان من تأمل ان الحبة تقع فى الأرض و يتصل إليها ندوة ينفذ فيها فينشق أعلاها و يخرج منه ساق الشجر و ينشق أسفلها فيخرج منه عروقها ثم ينمو و يخرج منه الأوراق و الازهار و الاكمام و الثمار فى بعض الازمنة دون بعض و يشتمل كل منها الأجسام المختلفة الاشكال و الطبائع مع اتحاد المواد و اتحاد نسبة الطبائع السفلية و العلوية الى الكل علم ان ذلك ليس الا بفعل فاعل مختار تقدس عن منازعة الاضداد و الانداد. ١٢ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ اى هيّا هما لمنافعكم وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ مُسَخَّراتٌ قرا ابن عامر الاربعة بالرفع على انها مبتدا و خبر وقرا اهل الحجاز و الشام «١» و الكوفة غير حفص بنصب الاربعة الثلاثة عطفا على النهار و مسخّرت على انه حال من الجميع اى جعلها بحيث ينفعكم حال كونها مسخرات للّه تعالى خلقها و دبّرها كيف شاء او مسخرات لما خلقن و قرا حفص الشّمس و القمر بالنصب على العطف وَ النُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بالرفع على الابتداء بِأَمْرِهِ اى بايجاده و تقديره او بحكمه و فى الاية إيذان بالجواب لمن يقول ان المؤثر فى تكوين النبات حركات الكواكب و أوضاعها فان ذلك ان سلم فلا شك انها حادثة ممكنة الذات و الصفات واقعة على بعض الوجوه المحتملة فلا بد لها من مخصص مختار واجب الوجود دفعا للدور و التسلسل و التحقيق ان تأثيرات الأشياء الفلكية او العنصرية كلها امور عادية جرى عادة اللّه تعالى على خلق بعض الأشياء عقيب بعض منها و لا يتصور نسبة الإيجاد على الحقيقة الى ما هو معدوم فى حد ذاته لا يقتضى ذاته وجوده فانه كيف يقتضى وجود غيره إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) جمع الاية و ذكر العقل لانها تدل أنواعا من الدلالات الظاهرة لذوى العقول السليمة غير محوجة الى استيفاء فكر كاحوال النبات. (١) الصحيح و قرا اهل الحجاز و البصرة و الكوفة غير حفص إلخ- ابو محمّد. ١٣ وَ ما ذَرَأَ اى خلق لَكُمْ عطف على الليل اى سخر لاجلكم ما خلق فِي الْأَرْضِ من الحيوانات و النباتات و المعادن مُخْتَلِفاً نصب على الحال أَلْوانُهُ اى اصنافه فان الأصناف يتخالف باللون غالبا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) يعتبرون ان اختلافها فى الطباع و الهيئات و المناظر ليس الا بصنع صانع حكيم-. ١٤ وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ اى جعله بحيث يتمكنون من الانتفاع به بالركوب و الاصطياد و الغوص لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا اى غضّا جديدا يعنى السمك وصفه بالطراوة لانه أرطب اللحوم فيسرع اليه الفساد فيسارع الى أكله و وجه كثرة العطش بعد أكل السمك انها بالطبع ملتزق بالأمعاء فالطبيعة لدفعه من الأمعاء تطلب الماء لا لكونها حارا او يابسا- و فى وصفه بالطراوة اظهار لقدرته تعالى فى خلقه عذبا طريا فى ماء زعاق مرّ مالح- و تمسك مالك و الثوري بهذه الاية على انه من حلف لا يأكل لحما حنث بأكل السمك و أجيب عنه بان مبنى الايمان على العرف و هو لا يفهم منه عند الإطلاق الا ترى ان اللّه تعالى قال شَرَّ الدَّوَابِّ فى الكفار و لا يحنث الحالف بان لا يركب دابة بركوبه على الكافر وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها كاللؤلؤ و المرجان اى تلبس نساؤكم فاسند إليهم لانهن من جملتهم و لانهن تتزين بها لاجلهم وَ تَرَى الْفُلْكَ اى السفن عطف على قوله لتأكلوا لانه فى قوة لتركبوا الفلك و جاز ان يكون استينافا مَواخِرَ فِيهِ اى جوارى و قال قتادة مقبلة و مدبرة احداها تقبل و اخرى تدبر تجريان بريح واحدة و قال الحسن اى مملوة و قال الفراء و الأخفش شقاق تشق الماء بجناحيها و المخر شق الماء و قيل المخر صوت جرى الفلك و قال ابو عبيدة المخر صوت هبوب الريح عند شدتها و قال مجاهد تمخر السفن الرياح اى تستقبل و فى القاموس مخزت السفينة كمنع مخرا و مخورا جرت و استقبلت الريح فى جريها و مخر السّابح شق الماء بيديه و الفلك المواخر الّتي يسمع صوت جريها او تشق الماء بجآجئها «١» او المقبلة و المدبرة بريح واحدة- و فى الحديث إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح و فى لفظ استمخروا الريح اى اجعلوا ظهوركم الى الريح كانه إذا ولّاها شقها بظهره و أخذت عن يمينه و يساره وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ اى من سعة رزقه بركوبها للتجارة ان كان قوله تعالى وَ تَرَى الْفُلْكَ معطوفا على لتأكلوا فهذا معطوف عليه و ان كان مستأنفا فهذا معطوف على محذوف تقديره لتعتبروا و لتبتغوا وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) اللّه إذا رايتم صنعه فيما سخر لكم و لعل تخصيصه بتعقيب الشكر لانه أقوى فى باب الانعام من حيث انه جعل المهالك سببا لتحصيل المعاش قلت و جعل الأشياء المذكورة بحيث يفضى الى الشكر من أعظم الإنعامات حيث يفيد مزيد النعمة فى الدنيا و الثواب الجزيل فى دار القرار فهو من تتمة الإحسانات- (١) جؤجؤ كهدهد بمعنى الصدر و جمعه جاجئى .... كذا فى القاموس- منه رح. ١٥ وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ اى جبالا ثوابت أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ اى لئلا تميد بكم او كراهة ان تميد بكم و الميد الاضطراب و ذلك لان الأرض قبل ان يخلق فيها الجبال كانت كروية تتحرك بأدنى سبب للتحريك فلما خلقت الجبال على وجهها توجهت الجبال بثقلها نحو المركز فصارت كالاوتاد الّتي تمنعها عن الحركة- قال البغوي قال وهب لما خلق اللّه الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة ان هذه غير مقرة أحدا على ظهرها فاصبحت و قد أرسيت بالجبال فلم تدر الملائكة مما خلقت الجبال- و اخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم من طريق قتادة عن الحسين عن قيس ابن عباد قال ان اللّه تعالى لمّا خلق الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة ما هذه مقرة على ظهرها أحدا فاصبحت صبحا و فيها رواسى فلم يدروا من اين خلقت فقالوا ربنا هل من خلقك شي ء هو أشد من هذا قال نعم الحديد فقالوا هل من خلقك شي ء هو أشد من الحديد قال نعم النار قالوا ربنا هل من خلقك شي ء هو أشد من النار قال نعم الماء قالوا ربنا هل من خلقك شي ء هو أشد من الماء قال نعم الريح قالوا ربنا هل من خلقك شي ء هو أشد من الريح قال نعم الرجل قالوا ربنا هل من خلقك شي ء هو أشد من الرجل قال نعم المرأة انتهى- فان قيل هل ينتهى هذا السؤال الى حد قلت لا و ذلك لان اللّه هو القوى المتين ذو مرة و الممكنات بأسرها عاجزة بل عديمة فى حد ذواتها فحيثما يتجلى قوته يشتد امره على غيره فالفيل قوى من النملة لكن إذا شاء اللّه تعالى ان يظهر عجز الفيل جعل النملة مظهرا و مجلّا لتجلى قوته فيشتد امره على الفيل- و الشدة و القوة قد يكون لاحد الأشياء زائدا على غيره بجميع الوجوه و قد يكون بوجه من الوجوه و هذا هو المتحقق فى الأشياء المذكورة و اللّه اعلم وَ أَنْهاراً اى جعل فيها أنهارا لانّ القى فيه معنى الجعل وَ سُبُلًا اى طرقا لنيل مقاصدكم لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) الى مقاصدكم او الى معرفة اللّه بالاستدلال بها. ١٦ وَ عَلاماتٍ على السبل من الأشجار و الجبال و الابنية و النجوم و غير ذلك يستدل بها السابلة و منها الأسباب و العلل الشرعية كالاوقات لوجوب الصلاة و الصوم و الزكوة و الإسكار للحرمة- و منها الادلة الطبيعية و العقلية كسرعة النبض على الحمى و العالم على الصانع و المعجزة على وفق الدعوى للنبوة و غير ذلك وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) ليلا فى الصحارى و البحار و المراد بالنجم الجنس- و قال محمّد بن كعب أراد بالعلامات الجبار فالجبال علامات النهار و النجوم علامات الليل- و قال الكلبي أراد بالكل النجوم منها ما يكون علامات و منها ما يهتدون بها- و قال السدّى أراد بالنجوم الثريا و بنات النعش و الفرقدين و الجدى يهتدى بها الى الطرق و القبلة- قلت و ذلك لكونها قريبة من القطب الشمالي فقلما تتحرك عن أماكنها لصغر دوائرها و الضمير لقريش لانهم كثيرا ما كانوا يسافرون بالليل للتجارة و كانوا مشهورين بالاهتداء فى أسفارهم بالنجوم فلذلك قدم النجم و اقحم الضمير و اخرج عن سنن الخطاب للتخصيص كانه قيل و بالنجم خصوصا هؤلاء يهتدون فالاعتبار بذلك و الشكر عليه الزم عليهم-. ١٧ أَ فَمَنْ يَخْلُقُ و هو اللّه سبحانه كَمَنْ لا يَخْلُقُ اى ما يعبدون من دون اللّه مغلّبا فيه أولوا العلم- او المراد بها الأصنام و أجريت مجرى اولى العلم لانهم سموها الهة و من حق الا له ان يعلم او للمشاكلة بينه و بين من يخلق او للمبالغة كانه قيل ان من يخلق ليس كمن لا يخلق من اولى العلم فكيف بما لا يعلم و لا يشعر- و الهمزة للانكار و الفاء للتعقيب يعنى بعد هذه الادلة الواضحة المتكاثرة على كمال علم اللّه و قدرته و تناهى حكمته و تفرده بالخلق لا معنى لاشراك من ليس مثله فى خلق الأشياء بل لا يقدر على خلق شي ء من الأشياء الجواهر و الاعراض حتّى لا يقدر على تحريك الذباب و لا على منعه وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ و كان حق الكلام أ فمن لا يخلق كمن يخلق لكنه عكس تنبيها على انهم بالاشراك باللّه جعله من جنس المخلوقات العجزة شبيها بها أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) انكار على عدم التذكر و الاعتبار بعد مشاهدة ما يوجب التذكرة. ١٨ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّه لا تُحْصُوها اى لا تضبطوا عددها فضلا ان تطيقوا القيام بشكرها يعنى ليس نعماء اللّه تعالى منحصرة فيما ذكر بل هى غير محصورة فحق عبادته تعالى غير مقدور لاحد و انما المطلوب منكم التوجه بشراشركم اليه وحده و الاعتراف بالتقصير إِنَّ اللّه لَغَفُورٌ لتقصيركم فى أداء شكرها رَحِيمٌ (١٨) بكم حيث وسع عليكم النعم قبل استحقاقكم و لا يقطعها عنكم بالتقصير و المعاصي و لا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها. ١٩ وَ اللّه يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ من العقائد و النيات و الشكر و معرفة قصور أنفسكم عن أداء حقوق العبودية او الغفلة و الاستكبار وَ ما تُعْلِنُونَ (١٩) من الأعمال الصالحة او الفاسدة فيجازيكم عليه. ٢٠ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ اى تدعونها الهة كائنة مِنْ دُونِ اللّه قرا عاصم و يعقوب يدعون بالياء التحتانية و الباقون بالتاء لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً أصلا و ان كان محقرا من الجواهر و الاعراض فضلا ان يشاركونه فى خلق السموات و الأرضين و أمثال ذلك فكيف يدعونها الهة و شركاء للّه تعالى وَ هُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) يعنى وجوداتهم مستعارة من غيرها لا يقتضى ذواتها وجوداتها فكيف يتصور منها خلق شي ء من الأشياء و اقتضاء وجود غيرها. ٢١ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ خبر مبتدا محذوف يعنى هم أموات فان كان المراد بالموصول الأصنام فالمعنى هم أموات لم يعترهم الحيوة أصلا و ان كان المراد به كلما عبد غير اللّه فالمعنى هم أموات فى أنفسها غير احياء بالذات بل حياتهم مستعارة من الحي القيوم و كلما هذا شأنه لا يكون الها وَ ما يَشْعُرُونَ لكونهم أمواتا مخلوقين أَيَّانَ اى متى يُبْعَثُونَ (٢١) يعنى ليس بعثهم و لا بعث عبدتهم باختيارهم و لا فى حيز علمهم فكيف يقدرون على جزاء من عبدهم فاىّ فائدة فى عبادتهم فلا يستحقون العبادة و فيه تنبيه على ان البعث من لوازم التكليف-. ٢٢ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ تكرير للمدعى بعد اقامة الحجة يعنى ثبت بالحجة ان إلهكم واحد فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ لما أنعم اللّه عليهم مما لا يحصى عدها مع ظهورها بالبداهة و البرهان و انما انكار قلوبهم ذلك لان اللّه تعالى ما القى فيها نور المعرفة فهم عمهون عن عبد اللّه بن عمرو قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ان اللّه خلق خلقه فى ظلمة فالقى عليهم من نوره فمن أصاب من ذلك النور اهتدى و من أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم اللّه رواه احمد و الترمذي وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) عن عبادة اللّه تعالى لا يرون عليهم له تعالى استحقاق العبادة حيث ينكرون نعماءه و يستكبرون عن اتباع الرّسول صلى اللّه عليه و سلم و لو انهم كانوا يعرفون نعماء اللّه تعالى و استحقاق العبادة له تعالى عليهم لامنوا بالاخرة الّتي فيها جزاء العبادة و الانتقام على تركها و لم يستكبروا عن اتباع الرسول صلى اللّه عليه و سلم بل اجتهدوا فى طلب سبيل الرشاد. ٢٣ لا جَرَمَ اى حق حقّا او لا بد او لا محالة- او المعنى ليس على ما ينبغى ما هم عليه من الإنكار و الاستكبار كسب الكاسب الحكم أَنَّ اللّه يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من انكار النعم و استحقاق العبادة وَ ما يُعْلِنُونَ من الاستكبار عن العبادة و اتباع الرسول فانّ مع جملته على التأويلات السابقة فى موضع الرفع بلا جرم و على التأويل الأخير فى محل النصب على المفعولية و فاعل جرم مضمر إِنَّهُ تعالى لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يدخل الجنة مثقال ذرة من كبر و لا يدخل النار مثقال ذرة من ايمان فقال رجل يا رسول اللّه ان الرجل يحب ان يكون ثوبه حسنا قال ان اللّه جميل يحب الجمال الكبر من بطر الحق و غمص الناس رواه مسلم عن ابن مسعود قال فى النهاية معنى بطر الحق هو ان يجعل ما جعله اللّه حقّا من توحيده و عبادته باطلا- و قيل هو ان يتجبر عند الحق فلا يراه حقّا- و قيل هو ان يتكبر عن الحق فلا يقبله قلت حاصل الأقوال ان لا يرى عبادة اللّه عليه واجبا حيث ينكر العامة عليه بل يرى ما أنعم اللّه عليه حقّا له على اللّه تعالى و معنى غمص الناس اى احتقرهم قلت وجه مقابلة الكبر بالايمان فى الحديث ان المؤمن يرى وجوده و ما استتبعه من الكمالات مستعارة من اللّه تعالى حتّى يرى نفسه عارية عنها فلا يستكبر و الكافر يرى وجوده و توابعه من نفسه فيرى نفسه كبيرا و ينسى الكبير المتعال- و الفناء المصطلح فى التصوف عبارة عن رؤية نفسه فانيا عاريا عن الوجود و توابعه برؤيتها مستعارة من اللّه تعالى و اللّه اعلم-. ٢٤ وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ اى لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالاخرة- و ذلك ان احياء العرب كانوا يبعثون ايام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى اللّه عليه و سلم حين بلغهم دعواه النبوة فكان إذا جاء الوافد سال عن مشركى مكة الذين اقتسموا عقابها ايام الموسم ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ما ذا منصوب بانزل يعنى اىّ شي ء انزل او مرفوع بالابتداء يعنى اىّ شي ء أنزله ربكم قالُوا يعنى مشركى مكة هو أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) السطر الصف من الشي ء من الكتاب او الشجر المغروس او القوم الوقوف- جمعه اسطر و سطور و اسطار و جمع الجمع أساطير و اسطرة و المعنى ان ذلك المسئول عنه ليس بمنزل بل شي ء كتبه الأولون كذبا لا تحقيق لها نحو قوله اكتتبها فهى تملى عليه بكرة و أصيلا. ٢٥ لِيَحْمِلُوا متعلق بقوله قالوا يعنى قالوا ذلك ليضلوا الناس فيحملوا أَوْزارَهُمْ اى ذنوب ضلال أنفسهم كامِلَةً فان اضلالهم نتيجة رسوخهم فى الضلال يَوْمَ «١» الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ يعنى بعض أوزار الذين ضلوا باضلالهم فان من ذنوبهم ما يخصهم ليس لهؤلاء المضلين فيها تسبيب و منها ما حصل باضلالهم فهم يحملون هذا القسم الأخير مثل ذنوب من تبعهم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من دعا الى هدى كان له من الاجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا و من دعا الى ضلالة كان عليه من الإثم مثل اثام من تبعه لا ينقص ذلك من اثامهم شيئا رواه احمد و مسلم فى الصحيح و اصحاب السنن الاربعة عن ابى هريرة بِغَيْرِ عِلْمٍ اى بغير حجة فهو حال من فاعل يضلونهم- او المعنى يضلون من لا يعلم انهم ضلال فهو حال من المفعول و فيه تنبيه على انّ جهلهم لا يصلح لهم عذرا إذ كان عليهم ان يبحثوا او يميزوا بين الحق و الباطل أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) اى بئس شيئا يزرونه اى يحملونه فعلهم او بئس الّذي يزرونه فعلهم فمحل ما رفع على الفاعلية او نصب على التميز من الضمير المبهم و المخصوص محذوف-. (١) ليس فى الأصل يوم القيمة. ٢٦ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ اى سوّوا حيلا ليمكروا بها رسل اللّه فَأَتَى اللّه بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ يعنى اتى امر اللّه لابطال حيلهم من الأصول وَ أَتاهُمُ الْعَذابُ المهلك مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) اى لا يحتسبون و لا يتوقعون فصارت تلك الحيل أسبابا لهلاكهم كمثل قوم بنوا بنيانا ليحرزوا أنفسهم و يأخذوا فيها عدوهم بالحيل فاتى البنيان من الأساطين بان ضعضعت فسقط عليهم السقف فهلكوا فالكلام وارد على التمثيل- و اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم عن ابن عباس و ذكر البغوي عنه و عن وهب ان المراد بالذين من قبلهم نمرود بن كنعان الّذي حاج ابراهيم فى ربه بنى الصرح ببابل ليصعد الى السماء و كان طول الصرح فى السماء خمسة آلاف ذراع- و قال كعب و مقاتل كان طوله فرسخان فهبت الريح و القت رأسها فى البحر و خر عليهم الباقي فهلكوا. ٢٧ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ اى يذلّهم و يعذبهم عذاب الخزي سوى ما عذبوا فى الدنيا قال اللّه تعالى رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ و يقول لهم اللّه على لسان الملائكة توبيخا أَيْنَ شُرَكائِيَ أضاف الى نفسه استهزاء او حكاية لاضافتهم زيادة فى توبيخهم- قرا البزي بخلاف عنه شركاى بغير همزة و الباقون بالهمزة الَّذِينَ كُنْتُمْ ايها الكفار تُشَاقُّونَ فِيهِمْ الرسول و المؤمنين- قرا الجمهور تشاقّون بفتح النون اى يخالفون فيهم و قرا نافع بكسر النون الدال على حذف ياء المتكلم يعنى تشاقّونى فان مشاقة المؤمنين مشاقة اللّه سبحانه قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ اى الأنبياء و الملائكة و المؤمنون إظهارا للشماتة و زيادة للاهانة و شكرا على ما أنعم اللّه عليهم من الهداية و فى هذه الحكاية لطف من اللّه سبحانه بمن سمعه إِنَّ الْخِزْيَ اى الذلّ و الهوان الْيَوْمَ يوم القيامة وَ السُّوءَ اى العذاب عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) ٢٨ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يعنى ملك الموت و أعوانه- قرا حمزة يتوفّيهم فى الموضعين بالياء على التذكير و الباقون بالتاء لتانيث الفاعل لفظيا غير حقيقى ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بالكفر حيث عرضوها للعذاب المخلد منصوب على الحال فَأَلْقَوُا السَّلَمَ فسالموا و انقادوا قائلين ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ من كفران و لا عدوان و يجوز ان يكون تفسيرا للسّلم على ان المراد به القول الدال على الاستسلام فيجيبهم ملائكة الموت بَلى كنتم تعملون السيئات إِنَّ اللّه عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) من السيئات فهو يجازيكم عليه و لا ينفعكم انكاركم- قال عكرمة عنى بذلك من قتل من الكفار ببدر- و قيل قوله فَأَلْقَوُا السَّلَمَ الى اخر الآيات استيناف و رجوع الى شرح حالهم يوم القيامة و يحتمل ان يكون الرّادّ عليهم هو اللّه سبحانه و أولوا العلم. ٢٩ فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ كل صنف بابا اعدّ له و قيل أبواب جهنم اصناف عذابها خالِدِينَ فِيها اى مقدرين الخلود فيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩) اى الكافرين جهنم. ٣٠ وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عن الضلال و الإضلال قال لهم الوافد من احياء العرب ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا اى المؤمنون خَيْراً اى انزل ربنا خير الكلام ما فيه صلاح الدين و الدنيا و الاخرة و نصبه دليل على انهم لم يتوقفوا فى الجواب و أطبقوا على السؤال معترفين بالانزال بخلاف الكفرة فانهم قطعوا الكلام عن الجواب و أتوا بالرفع على الابتداء و لم يعترفوا بالانزال حيث قالوا هو أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعنى ليس بمنزل لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا العقائد و الأعمال فِي هذِهِ الدُّنْيا متعلق بأحسنوا حَسَنَةٌ قال ابن عباس هى تضعيف الاجر الى العشر- و قال الضحاك هى النصر و الفتح- و قال مجاهد هى الرزق الحسن- قلت هى الحيوة الطيبة فى الدنيا بحيث يرتضيه الخالق و كل من له عقل سليم و طبع مستقيم من الخلق و ذلك ان لا يعبد ممكنا عاجزا مثل نفسه بل اللّه الواحد القهار و يكتسب معرفة اللّه و درجات قربه و يستحل الطيبات و يستحرم الخبائث و لا يؤذى أحدا بغير حق و يعمل أعمالا يثمر له الى الابد وَ لَدارُ الحيوة الْآخِرَةِ خَيْرٌ من دار الحيوة الدنيا للمتقين حيث يرى هناك ثمرات ما اكتسبه فى الحيوة الدنيا و يبقى فى كرامة اللّه ابد الآبدين و هو عدة لِلَّذِينَ اتَّقَوْا على قولهم و يجوز ان يكون بما بعده حكاية بقولهم بدلا و تفسيرا لخير على انه منتصب بقالوا يعنى قالوا هذا القول فقدم عليه تسميته خيرا وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) قال الحسن هى الدنيا لان اهل التقوى يتزودون فيها الى الاخرة- و قال اكثر المفسرين هى دار الاخرة فحذف المخصوص بالمدح لتقدم ذكرها- قلت و جاز ان يكون الاضافة للجنس يعنى نعم دار المتقين اىّ دار كانت الدنيا او الاخرة. ٣١ جَنَّاتُ عَدْنٍ مبتدا خبره محذوف اى لهم جنات عدن- او خبر مبتدا محذوف اى هى او دارهم جنات عدن و يجوز ان يكون هذا مخصوصا بالمدح يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ من انواع المشتهيات و فى تقديم الظرف تنبيه على ان الإنسان لا يجد جميع ما يشتهيه الا فى الجنة كَذلِكَ اى مثل لهذا الجزاء المذكور يَجْزِي اللّه الْمُتَّقِينَ (٣١) من الشرك و سوء الأعمال. ٣٢ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ اى طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر و المعاصي لانه فى مقابلة ظالمى أنفسهم و هؤلاء هم الذين حيوا حيوة طيبة- و قال مجاهد زاكية أفعالهم و أقوالهم- و قيل معناه فرحين ببشارة إياهم بالجنة او طيبين بقبض أرواحهم لتوجه نفوسهم بالكلية الى حضرة القدس يَقُولُونَ اى الملائكة لهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ و قيل تبلغهم سلام اللّه ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) حين تبعثون فانها معدة لكم على أعمالكم او المعنى يقول لهم الملائكة عند التوفى سلام عليكم و يقال لهم فى الاخرة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ- ٣٣ هَلْ يَنْظُرُونَ اى ما ينتظر الكفار الذين مر ذكرهم شيئالَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ لقبض أرواحهم قرا حمزة و الكسائي بالياء و الباقون بالتاءوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ القيامة او العذاب المستأصل ذلِكَ اى مثل ذلك الفعل من الشرك و التكذيب عَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فاصابهم ما أصابهم ما ظَلَمَهُمُ اللّه بتعذيبه إياهم عذاب الاستيصال لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) بكفرهم و معاصيهم المؤدية اليه. ٣٤ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا اى جزاء سيئات أعمالهم على حذف المضاف و تسمية الجزاء باسمها- او المعنى عقوبات ما عملوا من الكفر و المعاصي وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤) اى نزل و أحاط بهم جزاء استهزائهم او المعنى نزل بهم العذاب الّذي كانوا به يستهزءون و يقولون على سبيل الاستهزاء لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللّه بِما نَقُولُ .... ٣٥ وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّه ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ نَحْنُ وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ انما قالوا ذلك استهزاء و منعا لبعثة الرسل و التكليف متمسكين بان ما شاء اللّه كان و ما لم يشأ لا يكون فما الفائدة فيهما او إنكارا لقبح ما هم عليه من الشرك و تحريم البحائر و السوائب و نحو ذلك متمسكين بانه لو لا ان اللّه رضيها لنا لما شاء اللّه صدورها عنا- و مبنى الشبهتين ان الرضاء يلازم المشية و ليس كذلك كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فاشركوا باللّه و حرموا حله وردوا له و قالوا مثل قول هؤلاء فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) يعنى ليس عليهم الهداية فانها بيد اللّه تعالى و على مشيته انما عليهم التبليغ الموضح لمرضات اللّه تعالى- ثم بيّن ان البعثة امر جرت السنة الالهية فى الأمم كلها «١» بكونها سببا لهدى من شاء هدايته و زيادة الضلال لمن شاء ضلاله و كالغذاء الصالح ينفع المزاج الصالح و يقويه و يضر المنحرف و يعينه فى الانحراف بقوله. (١) فى الأصل كلها سببا-. ٣٦ وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللّه يعنى أرسله اللّه إليهم بان اعبدوا اللّه وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ اى لا تطيعوا الشيطان الطاغي فى معصية اللّه فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللّه اى شاء هدايتهم و وفقهم للايمان بإرشادهم وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ اى وجبت بالقضاء السابق عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فلم يوفقهم و لم يرد هداهم فاهلكهم اللّه على كفرهم و اخلى ديارهم فتركوا بئرا معطلة و قصرا مشيدا فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ يا معشر قريش فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) للرسل من عاد و ثمود و قوم لوط و اصحاب الايكة- و فيه حل لاشكالهم المبنى على كون المشية و الرضاء متلازمين إذ لو كان كذلك لما عذبهم اللّه بكفرهم المبنى على مشية اللّه ثم بين اللّه سبحانه لرسوله صلى اللّه عليه و سلم ان هؤلاءالكفار من قريش ممن حقت عليهم الضلالة حتّى لا يتعب نفسه و لا يحرص على هداهم فقال. ٣٧ إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللّه لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ قرا الكوفيون لا يهدى بفتح الياء و كسر الدال على البناء للفاعل يعنى لا يهدى اللّه من يرد ضلاله و هو المعنى ل مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ و الباقون بضم الياء و فتح الدال على البناء للمفعول فقوله مَنْ يُضِلُّ مبتدا خبره لا يهدى يعنى من يضلّه اللّه لا يهدى اى لا هادى له أحد و الجملة خبر ان و اللّه اسمه وَ ما لَهُمْ اى لمن أضلهم اللّه مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) يمنعونهم من جريان حكم اللّه عليهم و يدفعون عنهم عذابه الّذي أعد لهم و تقدير الكلام ان تحرص و تتعب نفسك يا محمّد على هداهم و قد أضلهم اللّه فلا ينفعك حرصك و اتعابك نفسك و لا تقدر عليه لان اللّه تعالى قوى قاهر لا هادى لمن شاء ان يضله و لا ناصر لمن شاء ان يعذبه فحذف الجزاء و أقيم السبب مقامه و اللّه اعلم- اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم عن ابى العالية قال كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فاتاه يتقاضاه فكان فيما تكلم به و الّذي أرجوه بعد الموت لكذا و كذا فقال له المشرك انك لتزعم انك تبعث بعد الموت فاقسم باللّه جهد يمينه لا يبعث اللّه من يموت فانزل اللّه تعالى. ٣٨ وَ أَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللّه مَنْ يَمُوتُ معطوف على وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إيذانا بانهم كما أنكروا التوحيد أنكروا البعث مقسمين عليه زيادة فى القطع على فساده فقال اللّه تعالى ردا عليهم بأبلغ الوجوه بَلى يبعثهم وَعْداً مصدر مؤكد لنفسه و هو ما دل عليه بلى اعنى يبعثهم وعد من اللّه عَلَيْهِ إنجازه لامتناع الخلف فى وعده و لاقتضاء الحكمة البعث حَقًّا صفة اخرى للوعد وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) ان وعد اللّه حق او لا يعلمون البعث لعدم علمهم بانه مقتضى الحكمة الّتي جرت العادة بمراعاتها و لقصور نظرهم بالمألوف فيتوهمون امتناعه. ٣٩ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ متعلق بما دل عليه بلى اى يبعثهم ليبيّن لهم و الضمير لمن يموت و هو يشتمل المؤمنين و الكافرين الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ اى الحق وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) فى قولهم لا يَبْعَثُ اللّه مَنْ يَمُوتُ و فيه اشارة الى السبب الداعي الى البعث المقتضى له من حيث الحكمة و هو التميز بين الحق و الباطل و المحق و المبطل بالثواب و العقاب و جاز ان يكون ليبين و ليعلم متعلقا بقوله وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا يعنى بعثنا رسولا ليبين لهم الرسول ما اختلفوا فيه قبله و انهم كانوا على الضلالة مفترين على اللّه الكذب. ٤٠ إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ اى أردنا وجوده فى المبدا او المعاد قولنا مبتدا خبره أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠) اى فهو يكون قرا ابن عامر و الكسائي هنا و فى يس فيكون بالنصب عطفا على نقول او جوابا لقوله كن و قد ذكرنا كلاما على تقدير الجواب فى سورة البقرة- و فى هذه الاية بيان لامكان البعث و تقريره ان تكوين اللّه تعالى بمحض قدرته و مشيته لا توقف له على شي ء اخر و الا لزم التسلسل و لا على تعب و تجشم و الا لزم العجز المنافى للالوهية- و لمّا أمكن تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادة و مثال أمكن له تكوينها إعادة بعده- عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال اللّه عزّ و جلّ كذّبنى عبدى و لم يكن له ذلك و شتمنى عبدى و لم يكن له ذلك فاما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدنى كما بدانى و ليس أول الخلق باهون علىّ من إعادته و اما شتمه إياي فقوله اتخذ اللّه ولدا و انا الأحد الصمد الّذي لم الد و لم اولد و لم يكن لى كفوا أحد- و فى رواية ابن عباس و اما شتمه إياي فقوله لى ولد فسبحانى ان اتخذ صاحبة او ولدا رواه البخاري. ٤١ وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللّه اى فى سبيله و حقه و لوجهه مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا اى عذبوا و أوذوا اخرج عبد الرزاق و ابن جرير و ابن ابى حاتم عن ابن عباس و داود ابن هند قال نزلت هذه الاية فى ابى جندل بن سهيل- و قال البغوي نزلت فى بلال و صهيب و خبّاب و عمّار و عائش و جبير و ابى جندل بن سهيل أخذهم المشركون بمكة و عذبوهم و اخرج ابن المنذر و ابن ابى حاتم و عبد بن حميد عن قتادة هم اصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم ظلمهم اهل مكة فاخرجوهم من ديارهم حتّى لحق طائفة منهم بالحبشة ثم بوّاهم اللّه المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة و جعل لهم أنصارا من المؤمنين لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً اى مباءة حسنة و هى المدينة او تبوية حسنة وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ مما يعجل لهم فى الدنيا قال البغوي روى ان عمر بن الخطاب كان إذا اعطى رجلا من المهاجرين عطاء يقول خذ بارك اللّه فيه هذا ما وعدك اللّه فى الدنيا و ما ذخر لك فى الاخرة أفضل ثم تلا هذه الاية- و قيل معناه لنحسنن إليهم الدنيا حسنة- و قيل الحسنة فى الدنيا التوفيق و الهداية لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الضمير للكفار اى لو علموا ان اللّه يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لمّا ظلموهم و لوافقوهم- او للمهاجرين اى لو علموا ذلك لزادوا فى اجتهادهم و صبرهم. ٤٢ الَّذِينَ صَبَرُوا على الشدائد كاذى الكفار و مفارقة الأوطان و محله النصب او الرفع على المدح وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) ينقطعون الى اللّه يفوّضون أمورهم اليه- و لما أنكر كفار قريش نبوة محمّد صلى اللّه عليه و سلم و قالوا اللّه أعظم من ان يكون رسوله بشرا فهلا بعث إلينا ملكا فانزل اللّه سبحانه. ٤٣ وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ الى الناس إِلَّا رِجالًا دون ملائكة نُوحِي إِلَيْهِمْ على السنة الملائكة- قرا حفص نوحى بالنون للمتكلم على البناء للفاعل و الباقون بالياء على الغيبة فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ يعنى ان شككتم فى إرسال اللّه الرجال فاسئلوا اهل العلم بالكتب السابقة من اليهود و النصارى هل أرسل الى بنى إسرائيل موسى و عيسى و غيرهم من أنبياء بنى إسرائيل و من قبلهم ابراهيم و نوحا و آدم و غيرهم فانهم يشهدون بذلك إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) و فى الاية دليل على وجوب المراجعة الى العلماء للجهال فيما لا يعلمون و ان الاخبار مفيدة للعلم ان كان المخبر ثقة يعتمد عليه. ٤٤ بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ متعلق بقوله أرسلنا اى ما أرسلنا بالبينات اى المعجزات الواضحات و الزبر اى الكتب الا رجالا- و يجوز ان يتعلق بأرسلنا داخلا فى الاستثناء اى ما أرسلنا الا رجالا بالبينات- او متعلق بمحذوف صفة لرجالا يعنى ما أرسلنا الا رجالا متلبّسين «١» بالبينات و الزبر- او منصوب على المفعولية او على الحال من قائم مقام الفاعل ليوحى على قراءة المبنى للمفعول و على التقادير كلها فاسئلوا اعتراض او هو متعلق بلا تعلمون على ان الشرط للتبكيت و الإلزام وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ اى القران سمى ذكرا لانه موعظة لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ فى الذكر بتوسط انزاله إليك من الوعد و الوعيد و الاحكام و الشرائع المجملة او مما تشابه عليهم- و البيان قد يكون صريحا بالقول او الفعل او التقرير و قد يكون غير صريح كالامر بالقياس وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) اشارة الى البحث فى نظم الكلام «٢» و وجوه دلالاته حتّى يظهر لهم المراد من غير حاجة الى بيان من الشارع كما ان لفظ الحرث يشعر ان المراد فى قوله فَأْتُوا حَرْثَكُمْ الإتيان فى القبل دون الدبر لانه ليس بمحل للحرث و فى لفظ ثلاثة فى قوله تعالى ثَلاثَةَ قُرُوءٍ يشعر ان المراد بها الحيض دون الطهر لان الطلاق المسنون يكون فى الطهر اجماعا فاطهار العدة لا يكون الا اكثر من الثلاثة او اقل منها و اللّه اعلم- (١) فى الأصل ملتبسين. (٢) فى الأصل فى نظم كلام- [.....]. ٤٥ أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ اى المكرات السيئات هم الذين قصدوا برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان يقتلوه او يثبتوه او يخرجوه و أرادوا صد الناس عن الايمان. أَنْ يَخْسِفَ اللّه بِهِمُ الْأَرْضَ كما خسف بقارون أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) بغتة من جانب السماء كما فعل بقوم لوط و اصحاب الايكة و غيرهم. ٤٦ أَوْ يَأْخُذَهُمْ بالعذاب فِي تَقَلُّبِهِمْ اى تصرفهم فى الاسفار قال ابن عباس فى اختلافهم و قال ابن جريج فى إقبالهم و ادبارهم فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) اى سابقين اللّه. ٤٧ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ حال من الفاعل او المفعول اى على تنقص من تخوفته إذا تنقصته و ذلك بان يهلك بعضهم ثم بعضهم حتّى يهلك جميعهم- و يقال تخوفه الدهر اى تنقصه فى ماله و جسمه- قال البغوي يقال هذه لغة هذيل- و قال الضحاك و الكلبي هو الخوف- قلت بان يهلك قوما قبلهم فيتخوّفوا فيأتيهم و هم متخوّفون او بان يظهر امارات الهلاك قبل هلاكهم فيهلكوا كما فعل بثمود فى ثلاثة ايام اصفرت وجوههم فى الاول و احمرت فى الثاني و اسودت فى الثالث ثم اهلكوا و على هذا التأويل حال من المفعول فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) و من ثم لا يعجل فى العقوبة و ذلك هو الباعث على كونهم امنين و لا ينبغى ذلك فانه تعالى مع ذلك قهار منتقم ذو البطش الشديد لا يطاق انتقامه و لاجل ذلك أنكر اللّه على امنهم و قال أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ الاية- و الفاء للتعقيب عطف على قوله وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا- يعنى إذا علموا ان المرسلين لم يكونوا الا رجالا فمكرهم بمحمّد صلى اللّه عليه و سلم و امنهم على ذلك المكر مع كونه مثل من سبق من الرسل ليس على ما ينبغى-. ٤٨ أَ وَ لَمْ يَرَوْا بالياء على الغيبة على قراءة الجمهور و الضمير الى الذين مكروا السيئات و قرا حمزة و الكسائي بالتاء على الخطاب إليهم على سبيل الالتفات من الغيبة و كذلك فى سورة العنكبوت و الاستفهام للانكار يعنى انهم قد رأوا إِلى ما خَلَقَ اللّه مِنْ شَيْ ءٍ فما بالهم لا يدركون كمال قدرته تعالى و قهرمانه و لا يخافون من عذابه و ما موصولة مبهمة بيانها من شي ء يفيد عموم خلقه جميع الأشياء يَتَفَيَّؤُا اقرأ ابو عمرو و يعقوب بالتاء الفوقانية و الباقون بالياء التحتانية ظِلالُهُ يعنى أ و لم ينظروا الى المخلوقات الّتي لها ظلال متفيئة يرجع ظلالها بارتفاع الشمس و انحدارها او باختلاف مشارقها و مغاربها بتقدير اللّه تعالى عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ يعنى عن إيمانها و شمائلها يعنى عن جانبى كل واحد منها استعارة عن يمين الإنسان و شماله- و توحيد اليمين و جمع الشمائل باعتبار لفظة ما و معناه كتوحيد الضمير فى ظلاله و جمعه فى قوله سُجَّداً للّه وَ هُمْ داخِرُونَ (٤٨) اى اذلة «١» و هما حالان من الضمير فى ظلاله و المراد بالسجود الاستسلام طبعا او اختيارا- يقال سجدت النخلة إذا مالت بكثرة الحمل و سجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب- او سجّدا حال من الظلال و هم دخرون حال من الضمير يعنى يرجع ظلها منقادة لما قدر لها من التفيؤ- او واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة السجود و الاجرام فى أنفسها ايضا صاغرة ذليلة منقادة لافعال اللّه تعالى- و جمع داخرون بالواو لان من جملتها من يعقل او لان الدخور من أوصاف العقلاء-. (١) عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اربع قبل الظهر بعد الزوال تحسب بمثلهن من صلوة السحر قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ليس من شي ء الا و هو يسبح اللّه تلك الساعة ثم قرا يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً للّه الاية كلها ١٢ ازالة الخفا- منه رحمه اللّه. ٤٩ وَ للّه يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ من الشمس و القمر و النجوم وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ و قيل من دابة بيان لهما لان الدبيب هى الحركة الجسمانية سواء كانت فى ارض او سماء وَ الْمَلائِكَةُ عطف على ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فان المراد بها ما فى السموات من جنسها من الشمس و نحوها و ما فى الأرض من جنسها من الدواب و اما الملائكة فليست من جنس شي ء منهما و منهم من ليسوا فى السماء و لا فى الأرض كحملة العرش و غيرهم- و قيل خص الملائكة بالذكر تشريفا كعطف جبرئيل على الملائكة- و ما يستعمل للعقلاء و غير العقلاء فكان استعمالها حيث اجتمع القبيلتان اولى من استعمال من تغليبا- و المراد بالسجود الانقياد أعم من الانقياد لارادته و تأثيره طبعا و الانقياد لتكليفه و امره طوعا ليصح اسناده الى عامة الخلائق حتّى الكفار الذين هم شر الدواب- و قيل المراد بسجود الأشياء كلها ظهور اثر الصنع فيها بحيث يدعوا الغافلين الى السجود- و الاولى ان يقال المراد بالسجود الطاعة و الأشياء كلها مطيعة للّه عز و جل من حيوان و جماد فانها و ان كانت لا تعقل طواعا «١» عندنا لكنها عند اللّه تعالى مطيعة عاقلة غير خالية عن نوع من الحيوة- قال اللّه تعالى قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ- و قال اللّه تعالى وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ- و قال اللّه يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها- و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أطت السماء و حق لها ان تأطّ- لكن على هذا التأويل الاية مخصوصة بما عد الكفار من الجن و الانس فانها غير مطيعة قال اللّه تعالى فى اية السجدة فى سورة الحج وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ و يدل على هذا التخصيص قوله تعالى وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) عن عبادته. (١) و فى الأصل ظواها-. ٥٠ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ اى يخافونه ان يرسل عليهم عذابا من فوقهم او يخافونه و هو فوقهم اى غالب عليهم بالقهر كقوله وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ- و الجملة حال من الضمير المستكن فى لا يستكبرون او بيان له لان من خاف اللّه لا يستكبر عن عبادته وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠) به من الطاعة ما يليق بهم فان هذه الصفات هو عدم الاستكبار و الخوف و إتيان الأوامر لا توجد فى الكفار- اللّهم الا ان يقال ان كان المراد بالسجود الانقياد العام او ظهور اثر الصنع بحيث يدعوا الى السجود- كان قوله وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ الى آخره بيانا لحال الملائكة خاصة و اللّه اعلم- عن ابى ذر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انى ارى ما لا ترون و اسمع ما لا تسمعون أطت السماء أطا و حق لها ان تأطّ و الّذي نفسى بيده ما فيها موضع اربعة أصابع الا و ملك واضع جبهته ساجدا للّه و لو اللّه لو تعلمون ما اعلم لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا و ما تلذذتم بالنساء على الفرشات و لخرجتم الى الصعدات تجئرون الى اللّه- قال ابو ذر يا ليتنى كنت شجرة تعضد- رواه احمد و الترمذي و ابن ماجة و البغوي-. ٥١ وَ قالَ اللّه لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ ذكر العدد مع ان المعدود يدل عليه دلالة على ان مساق النهى اليه او ايماء بان الاثنينية ينافى الالوهية كما ذكر الواحد فى قوله إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ للدلالة على ان المقصود اثبات الوحدانية دون الالهية و التنبيه على ان الوحدة من لوازم الالهية فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) فيه التفات من الغيبة الى الخطاب مبالغة فى الترهيب و تصريحا بالمقصود كانه قيل فانا ذلك الإله الواحد فاياى ارهبوا فارهبونى لا غير قرا يعقوب فارهبونى بإثبات الياء و الباقون بحذفها. ٥٢ وَ لَهُ اى للّه المتوحد فى الالهية ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خلقا فلا يمكن خلق شي ء من الأشياء من غيره خلافا للمعتزلة فى افعال العباد- و ملكا فلا يتصور الظلم منه لانه هو التصرف فى ملك غيره بغير اذنه- و لا يجوز لاحد تصرف فى شي ء من الأشياء الا بإباحته و اذنه وَ لَهُ الدِّينُ اى الطاعة و الإخلاص واصِباً اى دائما ثابتا لا يحتمل سقوطه لانه هو الإله وحده و الحقيق بان يرهب منه فحق العباد ان يطيعوه دائما فى جميع الأحوال كما وصف به الملائكة حيث قال لا يَعْصُونَ اللّه ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق رواه احمد و الحاكم بسند صحيح عن عمران و الحكيم بن عمرو الغفاري و فى الصحيحين و سنن ابى داود و النسائي عن علىّ بلفظ لا طاعة لاحد فى معصية اللّه انما الطاعة فى المعروف و فى معناه و له الدين ذا كلفة يعنى لا يجوز لاحد تكليف أحد الا باذنه لانه هو المالك لا غير و المالك يتصرف فى ملكه كيف يشاء و ليس ذلك لغير المالك الا باذنه- و قيل الدين الجزاء على اعمال العباد دائما لا ينقطع ثوابه لمن أمن و لا ينقطع عقابه لمن كفر- و قيل المراد بالدين العذاب على الكفر و معنى الواصب المرض و السقم اللازم يقال وصب فلان يوصب إذا توجع- قال اللّه تعالى وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ و فى حديث عائشة انا وصّبت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اى مرّضته- قال فى النهاية الوصب دوام الوجع و لزومه و معنى وصّبته اى دبّرته فى مرضه كمرضته- و فى القاموس الوصب المرض و اوصبه اللّه أمرضه و وصب يصب وصوبا دام وثبت كاوصب و وصب على الأمر واظب و احسن القيام عليه فالمراد بالآية الوعيد لمن اتخذ الهين اثنين يعنى من فعل ذلك فللّه العذاب الشديد الدائم أَ فَغَيْرَ اللّه تَتَّقُونَ (٥٢) استفهام انكار يعنى لا تخاطوا غيره إذ لا ضار سواه كما لا نافع غيره كما قال-. ٥٣ وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ ما اما شرطية او موصولة متضمنة معنى الشرط يعنى اىّ شي ء اتصل بكم او الّذي اتصل بكم من عافية او غنى او خصب او غيرها فَمِنَ اللّه اى فهو من اللّه و معنى الشرط انما هو باعتبار الاخبار دون الحصول فان استقرار النعمة بهم يكون سببا للاخبار بانها من اللّه لا حصولها منه فانه مقدم على الاستقرار ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ من مرض او فقر او جدب او غيرها فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ اى لا تتضرعون الا اليه و الجواد رفع الصوت فى الدعاء و الاستغاثة. ٥٤ ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) فى العبادة غيره و كلمة من للتبعيض ان كان الخطاب عاما و ان كان خاصّا بالكفار فمن للبيان كانه قال فاذا فريق و هم أنتم- و يجوز ان يكون من على هذا ايضا للتبعيض على ان بعضهم يعتبرون قال اللّه تعالى فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ .... ٥٥ - لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من النعماء خصوصا نعمة الكشف و اللام للعاقبة يعنى صار عاقبة أمرهم الكفر بنعماء اللّه لانهم لما عبدوا غيره فكانّهم اثبتوا الانعام منه فَتَمَتَّعُوا امر تهديد فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥) اغلظ وعيد. ٥٦ وَ يَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ اى للاصنام الّتي هى جماد لا علم لها فيكون الضمير لما- او المعنى يجعلون لما لا يعلمونها مستحقة للعبادة لا نافعة و لا ضارة بل يسمونها الهة و يقولون جهلا منهم انها الهة تضر و تنفع و تشفع- او لا يعلمون لها حقّا فالضمير الى الكفار و العائد الى ما محذوف و ما على التأويلين موصولة- او المعنى يجعلون لجهلهم على ان ما مصدرية و المجعول له محذوف للعلم به يعنى يجعلون لجهلهم للاصنام نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الحرث و الانعام فَقالُوا هذا للّه بِزَعْمِهِمْ وَ هذا لِشُرَكائِنا ... تَاللّه لَتُسْئَلُنَّ التفات من الغيبة الى الخطاب يوم القيامة عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) من انها الهة و هو وعيد لهم عليه-. ٥٧ وَ يَجْعَلُونَ للّه الْبَناتِ اى يحكمون بثبوت البنات للّه تعالى و هم خزاعة و كنانة قالوا الملائكة بنات اللّه سُبْحانَهُ تنزيها لذاته اى أسبحه سبحانا من نسبة الولد او تعجب من قولهم وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) يعنى البنين و يجوز فى ما الرفع على الابتداء و لهم خبره و النصب عطفا على البنات على ان الجعل بمعنى الاختيار و على هذا ضمير الفاعل و المفعول لشي ء واحد لكن لا يبعد تجويزه فى المعطوف و سبحانه حينئذ اعتراض بين المعطوف و المعطوف عليه. ٥٨ وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى اى بولادة الأنثى له ظَلَّ وَجْهُهُ اى صار دوام النهار كله فان النهار زمان الاغتمام و السرور لاجل المذاكرة و اختلاط الناس و اما الليل فزمان النوم و الغفلة مُسْوَدًّا من الكآبة و الحياء من الناس و اسوداد الوجه كناية عن الاغتمام وَ هُوَ كَظِيمٌ (٥٨) ممتلى حزنا و غيظا فهو يكظمه اى يمسكه و لا يظهره. ٥٩ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ اى يستخفى من قومه مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ اى من أجل سوء المبشر به مترددا فيما يفعل به أَ يُمْسِكُهُ اى يبقيه حيّا عَلى هُونٍ ذل أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أم يخفيه فيه و يدفنه و تذكير الضمير نظرا الى لفظة ما- قال البغوي ان مضر و خزاعة و تميما كانوا يدفنون البنات احياء خوفا من الفقر عليهن و طمع غير الأكفاء فيهن- و كان الرجل من العرب إذا ولدت له بنت و أراد ان يستحييها ألبسها جبة من صوف او شعر ترعى له الإبل و الغنم فى البادية- و إذا أراد ان يقتلها تركها حتّى إذا صارت سداسية قال لامها زيّنها حتّى اذهب بها الى اجمائها و قد حفر لها بئرا فى الصحراء فاذا بلغ بها البئر قال لها انظري الى هذا البئر فيدفعها من خلفها فى البئر ثم يهيل على راسها التراب حتّى يستوى البئر بالأرض- و كان صعصعة جد الفرزدق إذا أحس بشي ء من ذلك وجّه الى والد البنت ابلا يحييها بذلك فقال الفرزدق مفتخرا شعر وجدي الّذي منع الوائدات فاحيا الوئيد فلم يؤد أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) حيث يجعلون لمن هو متعال عن الولد أسوأ الفريقين و لا يختارون ذلك لانفسهم و يختارون لانفسهم الذكور نظيره قوله تعالى أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى .... ٦٠ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ اى الذين يصفون للّه البنات مَثَلُ السَّوْءِ اى صفة السوء و هى الحاجة الى الولد لبقاء النسل بعد موته و استبقاء الذكور استظهارا بهم و كراهية الإناث و وأدهن خشية إملاق وَ للّه الْمَثَلُ الْأَعْلى و هو الوجوب الذاتي و الغنى المطلق و انه لا اله الا هو و الاتصاف بجميع صفات الجلال و الكمال من العلم و القدرة و البقاء و غيرها و التنزه عن صفات المخلوقين- قال ابن عباس مثل السوء النار و مثل الأعلى شهادة ان لا اله الا اللّه وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠) المتفرد بكمال القدرة و الحكمة-. ٦١ وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللّه اى يعاجل بالعقوبة النَّاسَ اللام للعهد و المراد بهم الكفار بقرينة المؤاخذة و اضافة الظلم إليهم فى قوله بِظُلْمِهِمْ اى بكفرهم و عصيانهم و عبارة البيضاوي تشعر بان المراد بالناس كلهم حيث قال و لا يلزم من عموم الناس و اضافة الظلم إليهم ان يكون كلهم ظالمين حتّى الأنبياء عليهم السلام لجواز ان يضاف إليهم لما شاع فيهم و صدر عن أكثرهم- قلت و يلزم على هذا ان يؤاخذ الناس كلهم بظلم أكثرهم و هذا مردود بقوله تعالى لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ... ما تَرَكَ عَلَيْها اى على الأرض كناية عما دلّ عليه لفظ الناس و الدابة مِنْ دَابَّةٍ اما ان يكون المراد به من دابه ظالمة كما ذكر صاحب المدارك عن ابن عباس- او يكون المراد من دابة من دواب الأرض غير المؤمنين الصالحين- فانه لا يجوز ان يهلك المؤمنون بظلم الظالمين و ذنبهم- الا إذا تركوا الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر فحينئذ يعذبون معهم لرضائهم بذنبهم او لتركهم ما وجب عليهم- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان الناس إذا راوا منكرا فلم يغيروه يوشك ان يعمهم اللّه بعقابه- رواه ابن ماجة و الترمذي و صححه من حديث ابى بكر الصديق و روى ابو داود و جرير بن عبد اللّه بمعناه- و اما غير المؤمنين الصالحين من دواب الأرض فجاز ان يهلك بذنب ابن آدم تبعا لهم لان خلقتها تبع لخلقة الإنسان و نفع وجودها يعود إليهم- حيث قال اللّه تعالى خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً- قال قتادة فى هذه الاية ان اللّه تعالى قد فعل ذلك فى زمن نوح فاهلك من على الأرض الا من كان فى سفينة نوح - و روى البيهقي عن ابى هريرة انه سمع رجلا يقول ان الظالم لا يضر الا نفسه قال ابو هريرة بلى و اللّه حتّى الحبارى لتموت فى وكرها هزلا بظلم الظالم- و اخرج ابن ابى شيبة و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و البيهقي فى شعب الايمان عن ابن مسعود قال ان الجعل تعذب فى جحرها بذنب ابن آدم- و قيل معنى الاية لواخذ اللّه اباء الظالمين بظلمهم انقطع النسل و لم يوجد الأبناء فلم يبق فى الأرض أحد و من أجل ذلك لم يدع نوح على قومه حتّى علم بالوحى ان اللّه تعالى ان يذرهم لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً ... وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ اى يمهل الظّالمين بحلمه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى سماه لاعمارهم او لعذابهم كى يتوالدوا فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً بعد بلوغ الاجل وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) الآجال عطف على إذا جاء. ٦٢ وَ يَجْعَلُونَ للّه ما يَكْرَهُونَ لانفسهم من البنات و الشركاء فى الرياسة و الاستخفاف بالرسل و اراذل الأموال وَ تَصِفُ اى تقول أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ مع ذلك أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى منصوب على انه بدل من الكذب قال يمان يعنى بالحسنى الجنة فى المعاد- و ذلك انهم كانوا يقولون نحن فى الجنة ان كان محمّد صادقا فى البعث لا جَرَمَ حقّا و لا محالة و قال البغوي قال ابن عباس بلى قلت هذا على ما قيل ان لا فى لا جرم رد لما سبق و كان فيما سبق زعمهم ان لهم الحسنى و مقتضى ذلك انهم لا يدخلون النار فرد اللّه قولهم أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) قرا نافع بكسر الراء مخففا من الافراط فى المعاصي فى القاموس مفرطون اى مجاوزون لما حدّ لهم و قال البغوي المسرفون- و قرا ابو جعفر بكسر الراء و التشديد من التفريط بمعنى التقصير و التضييع اى المقصرون فى الطاعات و المضيعون لامر اللّه و الباقون بفتح الراء مخففا- قال فى القاموس اى منسيون متروكون فى النار او مقدمون معجلون إليها- قال البغوي قال ابن عباس منسيون فى النار- و قال مقاتل متروكون فى النار- و قال قتادة معجلون الى النار- و قال الفراء مقدمون الى النار و منه قوله صلى اللّه عليه و سلم انا فرطكم على الحوض اى مقدمكم- و قال سعيد بن جبير مبعدون-. ٦٣ تَاللّه لَقَدْ أَرْسَلْنا رسلا من الناس إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ كما أرسلناك الى هذه الامة فَزَيَّنَ لَهُمُ اى للامم اى لاكثرهم الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ الخبيثة من الإشراك باللّه و تكذيب الرسل فاصروا عليها فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الضمير لكفار قريش لان سوق الكلام فيهم و الولي الناصر و القرين يعنى الشيطان قرين لهؤلاء يزيّن لهم أعمالهم الخبيثة الْيَوْمَ كما كان يزيّن لمن كان قبلهم ناصرا لهم فى معاداة المؤمنين و جاز ان يكون الضمير للامم السابقة على انه حكاية حال ماضية يعنى فالشيطان كان وليهم فى الدنيا حين كان يزيّن لهم- و جاز ان يكون المراد باليوم يوم القيامة و الكلام حكاية حال اتية و المعنى فالشيطان قرين لهم يوم القيامة فى الأصفاد- او المعنى فالشيطان ناصر لهم يوم القيامة يعنى لا ناصر لهم غيره و هو عاجز عن نصر نفسه فكيف ينصرهم- فهو نفى الناصر لهم على ابلغ الوجوه- و جاز ان يقال بحذف المضاف تقديره فهو ولى أمثالهم من الكفار اليوم يعنى كفار قريش وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) يوم القيامة. ٦٤ وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ اى للناس الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ من التوحيد و الصفات و القدر و احوال المعاد و افعال العباد و احكام اللّه تعالى وَ هُدىً من الضلالة وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) معطوفان على محل لتبيّن منصوبان على العلية لكونهما فعلان لفاعل أنزلنا بخلاف لتبيّن لانه فعل المخاطب. ٦٥ وَ اللّه أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ اى نباتها يعنى جعلها خضرا ناميا بَعْدَ مَوْتِها اى يبسها و انخلاعها عن الروح النباتي إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً على جواز البعث لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) سماع تدبر و انصاف-. ٦٦ وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً دلالة يعتبر بها من الجهل الى العلم نُسْقِيكُمْ قرا نافع و ابن عامر و ابو بكر و يعقوب هاهنا و فى المؤمنين بفتح النون من المجرد و الباقون «١» بضمها من الافعال و هما لغتان مِمَّا فِي بُطُونِهِ استيناف لبيان العبرة ذكّر الضمير و وحده هاهنا نظرا الى اللفظ و انثه فى المؤمنين نظرا الى المعنى لان الانعام اسم جمع لفظه مفرد عدّه سيبويه فى المفردات المبنية على افعال كاخلاق و أكباش كذا قال الفراء و ابو عبيدة و الأخفش- ان النعم و الانعام واحد يذكر و يؤنث فمن انث فلمعنى الجمع و من ذكر فلحكم اللفظ- و قال الكسائي رده الى ما يعنى فى بطون ما ذكرنا و قال المؤرخ الكناية راجعة الى البعض فان اللبن لبعضها دون جميعها و قيل المراد به الجنس مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ و هو ما فى الكرش من السفل فاذا خرج منه لا يسمى فرثا وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً من الدم و الفرث ليس عليه لون دم و لا رائحة فرث مع كونه متولدا منهما سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) اى سهل المروي فى الحلق قال (١) غير ابى جعفر فانه قرا بالتاء المفتوحة- ابو محمّد. البغوي قال ابن عباس رضى اللّه عنهما إذا أكلت الدابة العلف فاستقر فى كرشها و طحنته فكان أسفله الفرث و أوسطه اللبن و أعلاه الدم- و الكبد مسلطة عليها يقسمها بتدبير اللّه فيجرى الدم فى العروق و اللبن فى الضروع و يبقى الفرث كما هو- قال البيضاوي لعل المراد ان أوسطه تكون مادة اللبن و أعلاه مادة الدم الّذي يغذى البدن- و قال الكبد يجذب صفاوة الطعام المنهضم فى الكرش و يبقى ثفله ثم يمسكها ثم يهضمها هضما ثانيا فيحدث اخلاط اربعة معها مائية- فيميز القوة المميزة المائية بما زاد على قدر الحاجة فيدفعها الى الكلية و المرارة و الطحال- ثم يوزع الباقي على الأعضاء فيجرى الى كل حقه على ما يليق به بتقدير الحكيم العليم- ثم ان كان الحيوان أنثى زاد أخلاطها على قدر غذائها لاستيلاء البرودة و الرطوبة على المزاج فيندفع الزائد اولا الى الرحم لاجل الجنين- فاذا انفصل انصبت ذلك الزائد او بعضه الى الضروع فيبيض بمجاورة لحومها العذبة البيض فيصير لبنا- و من تدبر صنع اللّه تعالى فى احداث الاخلاط و الألبان و اعداد مقارّها و مجاريها و الأسباب المولدة لها و القوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق اضطر الى الإقرار بكمال حكمته و تناهى رحمته- و من الاولى تبعيضية لان اللبن بعض ما فى بطونها- و الثانية ابتدائية كقولك سقيت من الحوض لان بين الفرث و الدم المحل الّذي يبتدا منه الاسقاء و هى متعلقة بنسقيكم او حال من لبنا قدمت عليه لتنكيره و التنبيه على انه موضع العبرة-. ٦٧ وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ اى عصيرهما متعلق بمحذوف اى و نسقيكم من ثمرات النخيل و الأعناب و قوله تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً استيناف لبيان الاسقاء او هو متعلق بتتخذون و منه تكرير الظرف تأكيدا- او من ثمرات النخيل خبر لمحذوف صفته تتخذون تقديره و من ثمرات النخيل و الأعناب ثم تتخذون منه- و تذكير الضمير على الوجهين الأولين لانه للمضاف المحذوف الّذي هو العصير او لان الثمرات بمعنى الثمر- و السّكر اسم لما يكون منه السّكر او هو مصدر سمى به الخمر- قال فى القاموس سكر كفرح سكرا و سكرا و سكرا و سكرا و سكرانا نقيض صحا و السّكر محركة الخمر و نبيذ يتخذ من التمر و الكشوث و كل ما يسكرو ما حرم من ثمره و الخل و الطعام- قال صاحب الهداية السّكر هو الّتي من ماء التمر اى الرطب- قال شريك بن عبد اللّه انه مباح بهذه الاية فان اللّه تعالى امتن علينا به و هو بالمحرم لا يتحقق و لنا اجماع الصحابة رضى اللّه عنهم على تحريمه و الاية محمولة على الابتداء و كانت الاشربة مباحة كلها يعنى فى ابتداء الإسلام انتهى كلامه- و قال البغوي قال قوم السّكر الخمر و الرزق الحسن الخل و الربّ و التمر و الزبيب قالوا و هذا قبل تحريم الخمر و الى هذا ذهب ابن مسعود و ابن عمرو سعيد بن جبير و الحسن و مجاهد- و قال روى عن ابن عباس قال السكر ما حرّم من ثمرها و الرزق الحسن ما احلّ- و قال ابو عبيدة السكر الطعم يقال هذا سكر لك اى طعم لك- و قال الشعبي السكر ما شربت و الرزق الحسن ما أكلت- و روى العوفى عن ابن عباس ان السّكر هو الخل بلغة الحبشة- و قال بعضهم السّكر هو بلغة الحبشة النبيذ المسكر هو نقيع التمر و الزبيب إذا اشتدوا لمطبوخ من العصير و هو قول الضحاك و النخعي- و من يبيح شرب النبيذ و من حرّمه يقول المراد الاخمار لا الاحلال و اولى الأقاويل ان قوله تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً منسوخ انتهى كلام البغوي- و قال البغوي فى موضع اخر و جملة القول ان اللّه انزل فى الخمر اربع آيات نزلت بمكة وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً فكان المسلمون يشربونها و هى حلال لهم يومئذ ثم نزلت فى المدينة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ ثم نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى و اخر الآيات نزولا ما فى المائدة و قد ذكرنا قصة نزول الآيات الاربعة فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ ... إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) اى يستعملون عقولهم بالنظر و التأمل فى الآيات-. ٦٨ وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ اى ألهمها و قذف فى قلوبها أَنِ اتَّخِذِي ان مفسرة لان فى الوحى معنى القول مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) قرا ابن عامر و أبو بكر بضم الراء و الباقون بكسرها اى مما يجعلونه سقفا للبيت يستظل به او يجعل للكرم و اصل العرش السقف و ذكر بحرف التبعيض لانه لا يبنى فى كل جبل و كل شجرة و كل سقف او كرم و لا فى مكان منها- و انما سمى ما تبنيه للعسل بيتا تشبيها ببناء الإنسان لما فيه من حسن الصنعة و صحة القسمة الّتي لا يقوى عليها حذاق المهندسين و لعل ذكره للتنبيه على ذلك. ٦٩ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ اللام للجنس اى من كل ثمرة تشتهيها و تتيسر لها مرها و حلوها و ليس معنى الكل الاستغراق فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ يعنى كونى سالكة فى الطرق الّتي ألهمك ربك و أفهمك فى عمل العسل او إذا أكلت الثمار فى المواضع البعيدة من بيوتك فاسلكى راجعة الى بيوتك سبل ربك لا تضلينى او فاسلكى يعنى ادخلى ما أكلت فى مسالك الّتي يستحيل فيها بقدرته النّور عسلا من اجوافك ذُلُلًا جمع ذلول حال من السبل اى مذلّلة ذللّها اللّه و سهلها لك او حال من الضمير فى اسلكى يعنى فاسلكى أنت منقادة لامر ربك- و يقال ان أربابها ينقلونها من مكان الى مكان و لها يعسوب إذا وقف وقفت و إذا سار سارت يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها فيه التفات من الخطاب الى الغيبة كانه عدل به عن خطاب النحل الى خطاب الناس لانه محل الانعام عليهم و المقصود من خلق النحل و الهامة انتفاعهم شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ابيض و احمر و اصفر و اخضر فِيهِ اى فى ذلك الشراب شِفاءٌ لِلنَّاسِ و قال مجاهد فيه اى فى القران شفاء و الظاهر هو الاول و لفظ الاية يشعر ان فى العسل شفاء و لو فى الجملة و لو فى بعض الأمراض لكونها نكرة و سياق الكلام يقتضى نوعا من التعميم و الا فما من شي ء من الأشياء الا و فيه شفاء لبعض الأمراض حتّى السموم فانها تستعمل فى الادوية فيقال التنوين للتعظيم و المعنى فيه شفاء عظيم للناس يعنى فى اكثر الأمراض و اكثر الأوقات و يؤيده حديث ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عليكم بالشفاءين العسل و القران رواه ابن ماجة و الحاكم بسند صحيح فان هذا الحديث يدل على كونه شفاء غالبا- و ذكر البغوي قول ابن مسعود ان العسل شفاء من كل داء و القران شفاء لما فى الصدور فكانّه فهم ابن مسعود من الحديث المرفوع التعميم فقال البيضاوي ان العسل شفاء اما بنفسه كما فى الأمراض البلغمية او مع غيره كما فى سائر الأمراض إذ قل ما يكون معجون الا و العسل جزء منه- و ما فى الصحيحين عن ابى سعيد الخدري انه جاء رجل الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال ان أخي استطلق بطنه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اسقه عسلا فسقاه ثم جاء فقال انى سقيته فلم يزده الا استطلاقا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صدق اللّه و كذب بطن أخيك فسقا فبرئ يدل على كونه شفاء منفردا فيقال انه من شربه منفردا بحسن النية لاىّ مرض كان شفاه اللّه تعالى ان شاء اللّه تعالى كذا قال السيوطي إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩) فان من تدبر اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة و الافعال العجيبة حق تدبر علم قطعا انه لا بد له من قادر حكيم يلهمها ذلك و يحملها عليه-. ٧٠ وَ اللّه خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ صبيانا او شبانا او كهولا او شيوخا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ اى اخسّه و هو الهرم قال قتادة أرذل العمر تسعون سنة- و روى عن على عليه السلام انه قال أرذل العمر خمس و سبعون سنة و قيل ثمانون و قد كان فى دعائه صلى اللّه عليه و سلم اللّهم انى أعوذ بك من سوء العمر و فى رواية من ان اردّ الى أرذل العمر و نحو ذلك روى فى الصحيحين و غيرهما لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً اى ينسى معلوماته كلها فيصير له حالة مشابهة بحال الأطفال فى عدم العلم و سوء الفهم قال عكرمة من قرا القران لم يصر بهذه الحالة إِنَّ اللّه عَلِيمٌ بمقادير أعمارهم قَدِيرٌ (٧٠) على كل شي ء يميت الشاب القوى و يبقى الهرم الفاني و فيه تنبيه على ان تفاوت احوال الناس ليس الا بتقدير قادر حكيم عليم و لو كان ذلك مقتضى الطباع لم يبلغ التفاوت هذا المبلغ-. ٧١ وَ اللّه فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فمنكم غنى و مالك و ملك ينفق ألوف آلاف و منكم مملوك او عسكرى او فقير لا يقدر على شي ء فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا يعنى الأغنياء و الملاك بِرَادِّي رِزْقِهِمْ اى معطى فضل رزقهم الّذي أعطاهم اللّه عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ اى مماليكهم فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ يعنى حتّى يستوواهم و عبيدهم فى ذلك فهذه جملة اسمية وقعت فى موضع الجواب للنفى كانه قيل فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فيستووا فى الرزق فهو رد و انكار على المشركين حيث يشركون باللّه بعض مخلوقاته فى الالوهية مع عدم صلاحيتهم لان يشاركوه فى شي ء من الأشياء بوجه من الوجوه و لا يرضون ان يشاركهم عبيدهم فيما أنعم اللّه عليهم فيساويهم فيه مع ان مماليكهم من جنسهم مرزوقين اللّه تعالى- و جاز ان يكون المعنى ما هم برادّى رزقهم يعنى رزق أنفسهم على ما ملكت ايمانهم بل كل ما يردّون على المماليك من الرزق فهو رزق لمماليكهم جعله اللّه تعالى فى أيديهم فهم فيه سواء- يعنى ان الموالي و المماليك سواء فى ان اللّه رزقهم جميعا فالجزاء لازمة للجملة المتقدمة او مقرر لها أَ فَبِنِعْمَةِ اللّه يَجْحَدُونَ (٧١) حيث يتخذون له شركاء فانه يقتضى ان يضاف إليهم بعض ما أنعم اللّه عليهم و جحود كونها من عند اللّه او حيث أنكروا أمثال هذه الحجج بعد ما أنعم اللّه عليهم بايضاحها و الباء لتضمن الجحود معنى الكفر- قرا ابو بكر بالتاء الفوقانية للخطاب لقوله وَ اللّه فَضَّلَ بَعْضَكُمْ و الباقون بالتحتانية لقوله فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ-. ٧٢ وَ اللّه جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ اى من جنسكم أَزْواجاً لتستأنسوا بها و ليكون أولادكم مثلكم- و قيل معناه خلق حواء من آدم و سائر النساء من نطف الرجال و النساء وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً و هم أولاد الأولاد او المسرع فى الخدمة يعمهم قال فى القاموس حفد يحفد حفد او حفدا ناخف فى العمل و اسرع كاحتفد و خدم و الحفدة محركة الخدم و الأعوان جمع حافد- و حفدة الرجل أولاد أولاده كالحفيد و الاصهار و البنات- قال البغوي قال ابن مسعود و النخعي الحفدة يعنى فى الاية الأختان على بناته و عن ابن مسعود ايضا انهم الاصهار فيكون معنى الاية على هذا القول وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ و بنات تزوجوهن فيحصل بسببهن الأختان و الاصهار- و قال عكرمة و الحسن و الضحاك هم الخدم- و قال مجاهدهم الأعوان- و قال عطاءهم ولد الرجل الذين يعينونه و يخدمونه- قلت فالمراد فى الاية بالحفدة على هذه الأقوال هم البنون أنفسهم و العطف لتغائر الوصفين كذا قال البيضاوي احدى التأويلات- و قال مقاتل و الكلبي البنين الصغار و الحفدة كبار الأولاد الذين يعينونه على عمله- و قال قتادة مهنة يمتهنونكم و يخدمونكم من أولادكم و روى مجاهد و سعيد بن جبير عن ابن عباس انهم ولد الولد و روى العوفى عنه انهم بنوا امرأة الرجل ليسوا منه يعنى الربائب قلت لعل ذلك التسمية لاجل ان الرجل ان ربى أولاد غيره يستخدمهم مالا يستخدم من أولاده و قال البيضاوي احدى التأويلات ان المراد بالحفدة فى الاية البنات إذ البنات يخد من فى البيوت أتم خدمة وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من اللذائذ او من الحلالات و من للتبعيض فان المرزوق فى الدنيا أنموذج منها أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ حيث يقولون الأصنام ينفعهم وَ بِنِعْمَتِ اللّه هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) حيث أضافوا نعمته الى الأصنام- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال اللّه تعالى انّى و الجن و الانس فى نبا عظيم اخلق و يعبد غيرى و ارزق و يشكر غيرى- و تقديم الصلة على الفعل لايهام التخصيص مبالغة و لمحافظة الفواصل و قيل الباطل ما أمرهم الشيطان من تحريم البحيرة و السائبة و الوصيلة يؤمنون به و بنعمة اللّه اى بالطيبات من الرزق الّتي أحل اللّه لهم يكفرون و يجحدون تحليله و قيل الباطل الشيطان و نعمة اللّه محمّد صلى اللّه عليه و سلم. ٧٣ وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يعنى من مطر و نبات شَيْئاً قال الأخفش هو بدل من الرزق و المراد به المرزوق و المعنى لا يملكون من المرزوقات شيئا قليلا و لا كثيرا و قال الفراء رزقا مصدر و شيئا منصوب به على المفعولية وَ لا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) ان يتملكوه او لا استطاعة لهم أصلا و جمع الضمير فيه و توحيده فى لا يملك نظرا الى لفظة ما و معناه و يجوز ان يعود الضمير الى الكفار يعنى لا يستطيع هؤلاء الكفار مع كونهم احياء فكيف بالجمادات-. ٧٤ فَلا تَضْرِبُوا للّه الْأَمْثالَ فان ضرب المثل تشبيه حال بحال و أنتم لا تعرفون اللّه تعالى و لا تعلمون صفاته و لا ما يجوز وصفه به و ما لا يجوز فكيف يصح منكم ضرب المثل و قياسكم عليه فى هذا المقام باطل لكونه قياسا للغائب على الشاهد و من غير جامع إِنَّ اللّه يَعْلَمُ ضرب الأمثال و كنه الأشياء وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤) كنه الأشياء او المعنى انه تعالى يعلم خطاء ما تضربون من الأمثال و فساد ما تقولون عليه بالقياس كقولهم عبادة عبيد الملك ادخل فى التعظيم من عبادته و يعلم عظم جرمكم فيما تفعلون و أنتم لا تعلمون ذلك و لو علمتموه لما جرأتم عليه فهو تعليل للنهى. ٧٥ ضَرَبَ اللّه مَثَلًا لنفسه و لمن عبد دونه عَبْداً بدل من مثلا مَمْلُوكاً احتراز عن الحر فانه ايضا عبد اللّه لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ احتراز عن المكاتب و المأذون وَ مَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً من موصولة لكونه معطوفا على عبد قسيم له فالمعنى و حرّا غنيّا كثير المال فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً مثّل ما يشرك به بالملوك العاجز عن التصرف رأسا و مثّل نفسه بالحر الغنى السخي ينفق ما يشاء كيف يشاء و احتج بهذا على امتناع الإشراك و التسوية بين الأصنام الّتي هى أعجز المخلوقات و بين اللّه الغنى القادر هَلْ يَسْتَوُونَ جمع الضمير و لم يقل يستويان لانه للجنسين فان المعنى هل يستوى الأحرار و العبيد الْحَمْدُ للّه يعنى الحمد كله للّه تعالى لا يستحقه غيره فضلا عن استحقاق العبادة لانه مولى النعم كلها دون غيره بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) فيضيفون نعمة اللّه الى غيره فيعبدونه لاجلها- و قيل قوله عبدا مّملوكا لا يقدر مثل للكافر حيث لم يقدّر اللّه تعالى له ان يقدم خيرا او ينفق شيئا فى سبيل اللّه فهو العاجز و من رزقنه الى آخره مثل للمؤمن المنفق- روى ابن جريج عن عطاء عبدا مّملوكا اى ابو جهل و من رزقنه رزقا حسنا ابو بكر رضى اللّه عنه الحمد للّه الّذي ميّز المحق من المبطل بل أكثرهم لا يعلمون-. ٧٦ وَ ضَرَبَ اللّه مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ ولد اخرس لا يفهم و لا يتكلم لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ من الصنائع و التدابير لنقصان عقله وَ هُوَ كَلٌّ ثقيل و وبال عَلى مَوْلاهُ اى على من يلى امره أَيْنَما يُوَجِّهْهُ حيثما يرسله مولاه فى امر لا يَأْتِ بِخَيْرٍ اى لا ينجح لعامة مهمّه فهو مثل للصنم لا يسمع و لا ينطق و لا يعقل و هو كل على عابده يحتاج الى ان يحمله و يضعه و هو لا ينفعه أصلا هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ اى هو سليم فهيم منطيق ذو كفاية و رشد ينفع الناس يحثهم على العدل الشامل لجميع الفضائل وَ هُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) و هو فى نفسه على طريق مستقيم لا يتوجه الى مطلب الّا يبلغه بأقرب ما ينبغى- هذا مثل ضربه تعالى لنفسه- و قيل من يأمر بالعدل و هو على صراط مستقيم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- و قيل كلا المثلين للمؤمن و الكافر يرويه عطاء عن ابن عباس- و قال عطاء فى هذه الاية الأبكم أبيّ بن خلف و من يأمر بالعدل حمزة و عثمان بن عفان و عثمان بن مظعون و قال مقاتل نزلت فى هاشم بن عمرو بن الحارث من ربيعة القرشي كان قليل الخير يعادى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- و اخرج ابن جرير عن ابن عباس فى قوله ضَرَبَ اللّه مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً قال نزلت فى رجل من قريش و عبده و فى قوله رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ قال نزلت فى عثمان و مولى له كافر و هو أسيد بن ابى العيص كان يكره الإسلام و يأباه و ينهاه عن الصدقة و المعروف-. ٧٧ وَ للّه غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يعنى لا يعلم الغيب أحد غيره تعالى الا بتعليمه و قد ذكرنا شرح الغيب و الشهادة فى تفسير سورة الجن وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ اى امر قيام الساعة فى سرعته و سهولته إذا أراد اللّه تعالى إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ فى القاموس لمنح كمنع اختلاس النظر قلت فمعناه كاختلاس البرق البصر و قال البيضاوي الا كرجع الطرف من أعلى الحديقة الى أسفلها ضرب اللّه تعالى به المثل لانه لا يعرف زمان اقل منه فى العرف ثم قال أَوْ هُوَ أَقْرَبُ يعنى بل هو اقرب فانه تعالى محى الخلائق دفعة إذا قال له كن فيكون و ما يوجد دفعة كان فى ان غير ممتد إِنَّ اللّه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (٧٧) يقدر ان يحى الخلائق دفعة كما قدر ان أحياهم فى الدنيا متدرجا- قال البغوي نزلت الاية فى الكفار الذين استعجلوا القيامة استهزاء ثم دل على قدرته فقال. ٧٨ وَ اللّه أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ قرا الكسائي بكسر الهمزة على لغة او اتباعا لما قبلها و حمزة بكسرها و كسر الميم و الباقون بضم الهمزة و فتح الميم- و الهاء زائدة كما فى اهراق لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً جهّالا مستصحبين جهل الجمادية وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ اى الاسماع وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ اداة تتعلّمون بها فتحسّون بمشاعركم جزئيات الأشياء فتدركونها ثم تنبهون بقلوبكم لمشاركات و مبائنات منها بتكرير الاحساس حتّى يتحصل لكم بعض العلوم البديهية و تتمكنوا من تحصيل العلوم الكسبية بالنظر فيها لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) كى تعرفوا ما أنعم اللّه عليكم طورا بعد طور فتشكرونه. ٧٩ أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ قرا ابن عامر و يعقوب و حمزة بالتاء الفوقانية لتغليب الخطاب على الغيبة و الباقون بالتحتانية لقوله تعالى يعبدون مُسَخَّراتٍ مذلّلات للطيران بما خلق لها من الاجنحة و الأسباب المواتية فِي جَوِّ السَّماءِ و هو الهواء بين السماء و الأرض قال البغوي روى عن كعب الأحبار ان الطير يرتفع فى الهواء اثنا عشر ميلا و لا يرتفع فوق ذلك ما يُمْسِكُهُنَّ فى الهواء إِلَّا اللّه بقدرته فان ثقل جسدها يقتضى سقوطها و لا علاقة فوقها و لا دعامة تحتها تمسكها إِنَّ فِي ذلِكَ اى فى تسخير الطير بان خلقها خلقة يمكن معه الطيران فى الجو و أمسكها فى الهواء على خلاف طبعها لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) لانهم هم المنتفعون بها-. ٨٠ وَ اللّه جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ الّتي بنى من الحجر و المدر سَكَناً اى موضعا تسكنون فيه وقت اقامتكم فعل بمعنى مفعول وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً يعنى خياما و اخبية و القنات من الادم و يجوز ان يتناول المتخذ من الوبر و الصوف و الشعر فانها من حيث انها ثابتة على جلودها منها تَسْتَخِفُّونَها اى تجدونها خفيفة فى الحمل و الثقل يَوْمَ ظَعْنِكُمْ اى رحلتكم فى سفركم قرا ابن عامر و الكوفيون بسكون العين و الباقون بفتحها و هما لغتان وَ يَوْمَ إِقامَتِكُمْ اى وقت الحضر او النزول وَ مِنْ أَصْوافِها اى أصواف الانعام من الضأن وَ أَوْبارِها من الإبل وَ أَشْعارِها من المعز و اضافتها الى الانعام لانها من جملتها أَثاثاً و هو متاع البيت من الفرش و الاكسية و اللباس لا واحد له او المال اجمع كذا فى القاموس وَ مَتاعاً ما يتجربه إِلى حِينٍ (٨٠) الى مدة أراد اللّه تعالى بقاءها. ٨١ وَ اللّه جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ من الشجر و الجبل و الابنية و غيرها ظِلالًا تتقون بها حر الشمس وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً اى مواضع تستترون بها و تسكنون فيها من الكهوف و البيوت المنحوتة فيها جمع كن وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ اى قمصا من القطن و الصوف و الكتان و القز تَقِيكُمُ الْحَرَّ اى و البرد خص أحد الضدين بالذكر و المراد كلاهما لدلالة الكلام على الاخر وَ سَرابِيلَ من حديد او قز او غير ذلك تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ من السلاح ان يصيبكم فى الحرب كَذلِكَ يعنى كما أتم عليكم النعماء المذكورة يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ حيث أرسل إليكم رسوله و أيده بالمعجزات و انزل عليكم كتابه و أوضح لكم الحجة و أعز الإسلام لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) لكى يسلم اكثر الناس و يخلصون للّه الطاعة قال عطاء الخراسانى انما نزل القران على قدر معرفتهم فقال وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً و ما جعل لهم من السهول أعظم و اكثر لكنهم كانوا اصحاب جبال كما قال وَ مِنْ أَصْوافِها وَ أَوْبارِها وَ أَشْعارِها لانهم كانوا اصحاب وبر و شعر و صوف كما قال وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ و ما انزل من الثلج اكثر لكنهم كانوا لا يعرفون الثلج و قال تَقِيكُمُ الْحَرَّ و ما تقى من البرد اكثر و لكنهم كانوا اصحاب حر. ٨٢ فَإِنْ تَوَلَّوْا اى اعرضوا عن الإسلام و لم يقبلوا منك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يعنى ان تولوا فلا تهتم و لا تك فى ضيق لانه ما عليك ان يؤمنوا انما عليك البلاغ و قد بلّغت كمال الإبلاغ أقيم السبب مقام المسبب- اخرج ابن ابى حاتم عن مجاهد ان اعرابيّا اتى النبي صلى اللّه عليه و سلم فساله فقرا عليه وَ اللّه جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً قال الاعرابى نعم قال وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَ يَوْمَ إِقامَتِكُمْ قال نعم ثم قرا كل ذلك يقول نعم حتّى بلغ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ فولى الاعرابى فانزل اللّه تعالى فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ٨٣ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّه الّتي عدها عليهم و غيرها حيث يعترفون بها و بانها من عند اللّه ثُمَّ يُنْكِرُونَها حيث اعرضوا عن عبادة اللّه مخلصين له الدين حنفاء غير مشركين- و قال السدىّ يعرفون نعمة اللّه يعنى نبوة محمّد صلى اللّه عليه و سلم عرفوها بالمعجزات ثم أنكروها عنادا و معنى ثم استبعاد الإنكار بعد المعرفة- قال البغوي قال مجاهد و قتادة يعرفون ما عدّ عليهم من النعم فى هذه السورة ثم إذا قيل لهم تصدقوا و امتثلوا امر اللّه فيها ينكرونها و يقولون ورثناها من ابائنا و قال الكلبي هو انه إذا ذكر لهم هذه النعم قالوا نعم هذه كلها من اللّه و لكنها بشفاعة الهتنا- و قال عون بن عبد اللّه هو قول الرجل لو لا فلان لكان كذا لو لا فلان لما كان كذا وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣) بعد الاعتراف بالنعماء عنادا- و ذكر الأكثر اما لان بعضهم لم يعرف الحق لنقصان العقل او التفريط فى النظر ا و لم يقم عليه الحجة لانه لم يبلغ حد التكليف و اما لانه قال الأكثر و أراد به الكل-. ٨٤ وَ يَوْمَ نَبْعَثُ تقديره اذكر او خوّفهم او يحيق بهم ما يحيق يوم نبعث مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً و هو رسولها يشهد عليهم و لهم بالكفر و الايمان ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا فى الاعتذار إذ لا عذر لهم و قيل فى الكلام مطلقا و قيل فى الرجوع الى الدنيا و ثم لزيادة ما يحيق بهم من شدة المنع عن الاعتذار لما فيه من الاقناط الكلى بعد شهادة الرسل عليهم وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) اى و لا هم يسترضون يعنى لا يطلب منهم رضاء ربهم إذ لا يمكن ذلك حينئذ فان الاخرة ليست بدار التكليف و لا يرجعون الى الدنيا حتّى يتوبوا و يعملوا موجبات مرضاته تعالى. ٨٥ وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ عذاب جهنم فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ اى العذاب بعد الدخول وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) اى لا يمهلون قبل الدخول. ٨٦ وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ أوثانهم قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ أربابا نعبدهم او نطيعونهم و هو اعتراف بانهم كانوا مخطئين فى ذلك- او التماس بان ينصّف عذابهم فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ اى قالوا لهم يعنى أوثانهم ينطقهم اللّه إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) فى انهم شركاء اللّه- او فى انهم عبدوهم حقيقة بل انما عبدوا أهواءهم و حاصل قولهم انا ما دعوناكم الى عبادتنا نظيره قوله تعالى سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ او فى انهم حملوهم على الكفر و الزموهم إياه كقوله وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي .... ٨٧ وَ أَلْقَوْا يعنى الذين ظلموا إِلَى اللّه يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ الاستسلام لحكمه بعد الاستكبار فى الدنيا وَ ضَلَّ اى ضاع و بطل عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) من انها يشفع لهم. ٨٨ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا الناس عَنْ سَبِيلِ اللّه بالمنع عن الإسلام و الحمل على الكفر زِدْناهُمْ عَذاباً بصدهم فَوْقَ الْعَذابِ المستحق بكفرهم قال عبد اللّه بن مسعود عقارب لها أنياب أمثال النخل الطوال- اخرج ابن مردوية عن البراء عن النبي صلى اللّه عليه و سلم نحوه- و قال سعيد بن جبير حيّات أمثال البخت و عقارب أمثال البغال تلسع إحداهن اللسعة يجد صاحبها حمتها أربعين خريفا- و قال ابن عباس و مقاتل يعنى خمسة انهار من صفر مذاب كالنار تسيل من تحت العرش يعذبون بها ثلاثة على مقدار الليل و اثنان على مقدار النهار- و قيل انهم يخرجون من حر النار الى الزمهرير فيبادرون من شدة الزمهرير الى الدار مستغيثين بها بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) فى الدنيا بالكفر و الصدّ. ٨٩ وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعنى نبيهم فان نبى كل امة بعث منهم وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ على أمتك وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ استيناف او حال بإضمار قد تِبْياناً بيانا بليغا لِكُلِّ شَيْ ءٍ مفصلا او مجملا كما فى قوله تعالى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ... وَ مَنْ ... يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى و قوله تعالى فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ ... وَ هُدىً من الضلالة وَ رَحْمَةً للجميع و انما حرم من حرم من تقصيره وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩) خاصة. ٩٠ إِنَّ اللّه يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ لفظ العدل يقتضى المساوات و منه يقال للفدية و الجزاء عدلا باعتبار معنى المساوات و منه قوله تعالى أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً و أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ يعنى تسووا بينهن فى كل شي ء فمعنى الاية إِنَّ اللّه يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ اى بالمساوات فى المكافاة ان خيرا فخيرا و ان شرّا فشرّا- و الإحسان ان يقابل الخير بأكثر و أفضل منه و الشر باقل و أسهل منه و بالمساوات بين المدعى و المدعى عليه إذا حكم بينهما يعنى لا يميل الى أحدهما بل يسوى بينهما و يحكم بما قضى اللّه تعالى- قلت او المراد بالعدل الاستقامة على الحق ضد الجور و هو الميلان عن الحق فى القاموس العدل ضد الجور و ما قام فى النفوس انه مستقيم- و قيل المراد بالعدل التوسط بين الأمور كالتوحيد المتوسط بين التعطيل و التشريك- و القول بالكسب المتوسط بين الجبر و القدر- و التعبد بالواجبات و النوافل بحيث لا يفوّت حقّا من حقوق اللّه- و العبادة «١» المتوسطتة بين البطالة و الترهب- و الجود المتوسط بين البخل و التبذير- و الشجاعة المتوسط بين الجبن و التهور- و العفة المتوسطة بين الفجور و الحصر- قال البغوي و روى عن ابن عباس العدل التوحيد و الإحسان أداء الفرائض و عنه الإحسان الإخلاص فى التوحيد- و ذلك معنى قوله صلى اللّه عليه و سلم الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك- رواه الشيخان فى الصحيحين فى حديث سوال جبرئيل عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه- و قال مقاتل العدل التوحيد و الإحسان العفو عن الناس- و قيل العدل الفريضة و منه قوله صلى اللّه عليه و سلم لا يقبل اللّه منه صرفا و لا عدلا يعنى نافلة و لا فريضة و الإحسان النافلة لان الفرض ان يقع فيه تفريط تجبره النافلة وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى اى إعطاء ذى قرابته ما يحتاج اليه يعنى صلة الرحم وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ اى ما اشتد قبحه قولا او فعلا و قال ابن عباس الزنى وَ الْمُنْكَرِ اى ما أنكره الشرع و العقل السليم وَ الْبَغْيِ اى الكبر و الظلم قال البيضاوي الفحشاء الافراط فى متابعة القوة الشهوية كالزنى فانه أقبح احوال الإنسان و اشنعها- و المنكر ما ينكر عن تعاطيه فى اثارة القوة الغضبية- و البغي هو الاستعلاء و الاستيلاء على الناس و التجبر عليهم فانها الشيطنة الّتي هى مقتضى القوة الوهمية- و لا يوجد من الإنسان شر الا و هو مندرج فى هذه الاقسام صادر بتوسط احدى هذه القوى الثلاث و لذلك قال ابن مسعود اجمع اية فى القران هذه- قلت أخرجه سعيد بن منصور و البخاري فى الأدب و محمّد بن نصر و ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و الطبراني و الحاكم و صححه و البيهقي فى شعب الايمان و اخرج احمد و البخاري فى الأدب و ابن ابى حاتم و الطبراني و ابن مردوية عن ابن عباس ان تلك الاية صارت سببا لاسلام عثمان بن مظعون- و قال البغوي قال ابن عيينة العدل استواء السر و العلانية و الإحسان ان يكون سريرته احسن من العلانية و الفحشاء و المنكر ان يكون علانيته احسن من سريرته يَعِظُكُمْ بالأمر و النهى و التميز «٢» بين الخير و الشر لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) تتعظون قال البيضاوي لو لم يكن فى القران غير هذه الاية لصدق عليه انه تبيان لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ- قال البغوي قال أيوب عن عكرمة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قرا هذه الاية على الوليد فقال له يا ابن أخي أعد فاعاد عليه فقال ان له و اللّه لحلاوة و ان عليه لطلاوة و ان أعلاه لمثمر و ان أسفله لمعذق و ما هو قول البشر-. (١) فى الأصل او العباد. (٢) فى الأصل و الميز-. ٩١ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللّه اى بميثاقه إِذا عاهَدْتُمْ اخرج ابن جرير عن بريدة قال نزلت الاية فى بيعة النبي صلى اللّه عليه و سلم و قال البغوي العهد هاهنا اليمين قال الشعبي العهد يمين و كفارته كفارة يمين وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ اى ايمان البيعة او مطلق الايمان بَعْدَ تَوْكِيدِها اى توثيقها بذكر اللّه وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللّه عَلَيْكُمْ كَفِيلًا شاهدا على تلك البيعة فان الكفيل مراع بحال المكفول به رقيب عليه و الجملة حال إِنَّ اللّه يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) من الوفاء بالعهود او نقضها و قال مجاهد نزلت الاية فى حلف الجاهلية ثم ضرب اللّه مثلا لنقض العهد فقال. ٩٢ وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ متعلق بنقضت اى نقضت غزلها من بعد ابرامه و أحكامه فجعلته أَنْكاثاً جمع نكث و هو ما ينكث قتله اخرج ابن ابى حاتم عن ابى بكر ابن ابى حفص قال كانت سعيدة الاسدية مجنونة تجمع الشعر و الليف فنزلت هذه الاية- و قال البغوي قال الكلبي و مقاتل هى امراة خرقاء حمقاء من قريش يقال لها ربطة بنت عمر بن سعد بن كعب بن زيد بن مناة بن تميم و تلقب بجعر و كانت بها وسوسة فكانت تخذت مغزلا بقدر ذراع و اوصارة مثل الإصبع و فلكة عظيم على قدرها و كانت تغزل الغزل من الصوف و الوبر و الشعر و تأمر جواريها بذلك فكن يغزلن من الغداة الى نصف النهار فاذا انتصف النهار تنقض جميع ما غزلن فهذا كان دأبها و معنى الاية لا تكونوا كما كانت انها لم تكف عن العمل و بعد ما عملت لم تكف عن النقض فانتم اما ان لا تعهدوا و اما ان توفوا إذا عاهدتم و لا تكونوا ان تعاهدوا كل مرة فتنقضوا العهود كلّما عاهدتم تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ حال من الضمير فى لا تكونوا او فى الجار و المجرور الواقع موقع الخبر اى لا تكونوا مشبهين بامراة هذا شأنها متخذى ايمانكم مفسدة و دغلا و خديعة و خيانة بينكم- و اصل الدخل ما يدخل فى الشي ء و لم يكن منه لاجل الفساد و قيل الدخل و الدغل ان يظهر الوفاء و يبطن النقض أَنْ تَكُونَ اى لا تكون أُمَّةٌ اى جماعة هِيَ أَرْبى يعنى اكثر عددا و أوفر مالا مِنْ أُمَّةٍ اخرى قال مجاهد و ذلك انهم كانوا يحالفون الحلفاء و إذا راوا قوما اكثر منهم و أعز نقضوا حلف هؤلاء و حالفوا أعداءهم الأكثرين «١»- فمعناه طلبتم العز بنقض العهد من الضعفاء و العهد من الأقوياء و لا ينبغى ذلك- او المعنى تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ لكون امة أنتم فيه أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ عاهدتم منهم فما باليتم بنقض العهد كما ان قريشا عاهدوا المؤمنين عام الحديبية على وضع الحرب بينهم عشر سنين ثم نقضوا العهد بعد سنتين لما راوا جماعة قريش أزيد عددا و أوفر مالا من جماعة المؤمنين- هى اربى مبتدا و خبر فى موضع الرفع صفة لامة و امة فاعل تكون و هى تامة و هى ليست بفصل لوقوعها بين نكرتين إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللّه بِهِ الضمير لان تكون امّة يعنى يختبركم اللّه بكون امة اربى من امة فينظر هل تمسكون بحبل الوفاء بعهد اللّه و بيعة رسوله أم تنقضون بكثرة قريش و شوكتهم و قلة المؤمنين و ضعفهم- و قيل الضمير للربو و المعنى قريب مما ذكر- و قيل للامر بالوفاء يعنى يختبركم اللّه بامره بالوفاء بالعهد وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) فى الدنيا إذا جازاكم على أعمالكم فيظهر الذين وفوا عهودهم بالثواب و الذين نقضوا ايمانهم بالعذاب-. (١) فى الأصل أكثرون-. ٩٣ وَ لَوْ شاءَ اللّه لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً متفقة على الإسلام موفون العهود غير مختلفين وَ لكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ بالخذلان وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ بالتوفيق وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) سوال تبكيت و مجازاة. ٩٤ وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا خديعة و فسادا بَيْنَكُمْ فتغرون به الناس حيث يعتمدوا على ايمانكم و يأمنون ثم تنقضونها- تصريح بالنهى عنه بعد التضمين تأكيدا و مبالغة فى قبح المنهي فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها يعنى فتهلكوا بعد ما كنتم امنين- و العرب يقول لكل مبتلى بعد عافية او ساقط فى ورطة بعد سلامة زلّت قدمه- او المعنى فتزل قدم عن الصراط المستقيم و محجّة الإسلام بعد ثبوتها و ذلك ان بيعة النبي صلى اللّه عليه و سلم كان محجّة الإسلام و الوفاء به الاستقامة عليه و نقضه زلّة القدم- و المراد فتزلّ أقدامكم بعد ثبوتها لكن وحد و نكر للدلالة على استعظام مزلّة قدم واحد عن طريق الحق بعد الثبوت عليها فكيف باقدام كثيرة وَ تَذُوقُوا السُّوءَ فى الدنيا بِما صَدَدْتُمْ اى بصدودكم عَنْ سَبِيلِ اللّه و خروجكم عن الدين او بصدكم غيركم لانهم لو نقضوا ايمان البيعة و ارتدوا لجعلوا نقضها سنّة لغيرهم يستنّون بها- او المعنى بما سهلتم طريق نقض العهد على الناس بنقضكم العهد فلا يعتمد أحد على عهدكم قط و يغركم غيركم بالعهود فيصيبكم مصيبة فى الدنيا وَ لَكُمْ فى الاخرة عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) بنقض العهود و نكث الايمان. ٩٥ وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللّه اى لا تستبدلوا بعهد «١» اللّه و بيعة رسوله ثَمَناً قَلِيلًا تطلبون بنقض العهود و البيعة و الايمان نيلا من الدنيا إِنَّما عِنْدَ اللّه على الوفاء بالعهود من النصر و النعيم فى الدنيا و الثواب فى الاخرة هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مما تطلبون إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) فضل ما بين العوضين- او المعنى ان كنتم من اهل العلم و التميز ما اخترتم الأدنى على الأعلى-. (١) و فى الأصل عهد اللّه. ٩٦ ما عِنْدَكُمْ من الدنيا يَنْفَدُ اى ينقضى و يفنى وَ ما عِنْدَ اللّه من خزائن رحمته باقٍ لا ينفد و هو تعليل للحكم السابق- عن ابى موسى الأشعري ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال من أحب دنياه أضر بآخرته و من أحب آخرته أضر بدنياه فاثروا ما يبقى على ما يفنى- رواه احمد بسند صحيح و الحاكم وَ لَنَجْزِيَنَّ قرا ابن كثير و ابو جعفر و عاصم بالنون على التكلم و الباقون بالياء التحتانية على الغيبة و الضمير راجع الى اللّه تعالى الَّذِينَ صَبَرُوا على مصائب الدنيا من المرض و الفقر و أذى الكفار و مشاق التكليف و الاستقامة فى الجهاد أَجْرَهُمْ اى يعطيهم ثواب صبرهم بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٢) اى بأحسن أجور أعمالهم يضاعف الحسنات الى عشرة أمثالها الى سبعمائة ضعف الى ما شاء اللّه- و قيل المراد بأحسن ما كانوا يعملون الواجبات و المندوبات فانها احسن من المباحات و الممنوعات. ٩٧ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بيّنه بالنوعين لدفع توهم التخصيص وَ هُوَ مُؤْمِنٌ إذ لا اعتداد باعمال الكفار فى استحقاق الثواب و انما المتوقع عليها تخفيف العذاب لان مبنى الثواب عند اللّه الإخلاص و حسن النية و ذا مفقود لهم فَلَنُحْيِيَنَّهُ فى الدنيا حَياةً طَيِّبَةً قال سعيد بن جبير و عطاء هى الرزق الحلال- و قال الحسن هى القناعة- و قال مقاتل ابن حبان هى العيش فى الطاعة- و قال ابو بكر الوراق هى حلاوة الطاعة- و قال البيضاوي يعيش عيشا طيبا فانه ان كان موسرا فظاهر و ان كان معسرا يطيب عيشه بالقناعة و الرضاء بالقسمة و توقع الاجر العظيم فى الاخرة بخلاف الكافر فانه ان كان معسرا فظاهر و ان كان موسرا لم يدع الحرص و خوف الفوات ان يتهيّأ بعيشه قلت و ذلك هو المعنى من قوله تعالى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً- قلت و الاولى ان يقال ان العبد إذا أحب اللّه تعالى فكل ما وصل اليه من المحبوب من حلاوة او مرارة يلتذّ به- قال المجدد رضى اللّه عنه إيلام المحبوب ألذّ للمحب من انعامه فان المراد فى الانعام كائن على مراده و فى الإيلام كائن على مراد المحبوب و مراد المحبوب أحب عنده من مراد نفسه- قال الفاضل الرومي قدس سره عاشقم بر لطف و بر قهرت بجد اى عجب من عاشقم بر هر دو ضد ناخوش از وى خوش بود در جان من جان فدائى يار دل رنجان من قلت او يقال قد قال اللّه تعالى فى أوليائه هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا و قد مر تفسيره فى سورة يونس - فالمؤمن إذا بشر برضاء اللّه تعالى و علو مقامه عنده و رفع درجاته لديه حصل له فى الدنيا أفضل ما يرجوه فى الجنة- حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه تعالى يقول لاهل الجنة هل رضيتم فيقولون ما لنا لا نرضى و قد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من الخلق فقال اما أعطينّكم أفضل من ذلك فيقول احلّ عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم ابدا- متفق عليه من حديث ابى سعيد و عند الطبراني فى الأوسط بسند صحيح عن جابر نحوه و من هاهنا قال بعض الكبراء امروز چون جمال تو بى پرده ظاهر است در حيرتم كه وعده فردا براى چيست- كان شيخى و سندى الشيخ محمّد عابد المجددى رضى اللّه عنه يقول لو علم الملوك و الأمراء من اهل الدنيا ما للفقراء من اللذّة و الراحة لحسدوهم و اغبطوهم- لا يقال هذه الحالة ينافى الخوف و الخوف و الرجاء فى الدنيا من لوازم الايمان- لانا نقول هذه الحالة المترتبة على الانس و المحبة لا ينافى الخوف- فان الخوف مبنى على رؤية عظمة اللّه و كبريائه و هو لا ينفك عن المؤمن فى شي ء من الأحوال- بل الأنبياء الذين هم قاطعون بحسن الخاتمة و رضوان اللّه تعالى يرون عظمة اللّه و كبريائه فوق ما يراه غيرهم و يخافونه فوق ما يخافونه غيرهم- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انّ أعلمكم و أتقاكم باللّه انا- و الصحابة الذين كانوا مبشرين بالجنة بالوحى القاطع حيث قال اللّه تعالى لَقَدْ رَضِيَ اللّه عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ و نحو ذلك كانوا يخافون اللّه تعالى كمال الخوف فما بال قوم بشروا برضوان اللّه بالكشف الظنى و اللّه اعلم قلت و جاز ان يكون المراد بالحياة الطيبة حيوة يثمر البركات- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عجبا لامر المؤمن ان امره كله خير و ليس ذلك لاحد الا للمؤمن ان أصابته سراء شكر فكان خيرا له و ان أصابته ضراء صبر فكان خيرا له- رواه احمد و مسلم فى الصحيح عن صهيب و احمد و ابن حبان فى الصحيح نحوه عن انس و البيهقي بسند صحيح نحوه عن سعد- و قال مجاهد و قتادة المراد بالحياة الطيبة الحيوة فى الجنة و رواه عوف عن الحسن و قال لا يطيب الحيوة لاحد الا فى الجنة و الظاهر هو المعنى الاول وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ فى الاخرة أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧). ٩٨ فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ يعنى إذا أردت قراءة القران فَاسْتَعِذْ بِاللّه مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) كيلا يوسوس فى القراءة و لا يلقى فى الامنية- فان شأنه انه ما أرسل اللّه مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ- عبر عن ارادة الفعل بالفعل المسبب عنها للايجاز و التنبيه على ان من أراد العبادة فليبادر إليها بحيث لا ينفك الارادة عن الفعل- و حكى عن النخعي و ابن سيرين ان يتعوذ بعد القراءة نظرا الى ظاهر هذه الاية و لان الدعاء بعدا العبادة اقرب الى الاجابة و التعوذ من الشيطان مطلوب دائما- و قد صح عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه كان يصلى قبل القراءة و عليه انعقد الإجماع من السلف و الخلف- لكنه سنة عند جمهور العلماء- و ذهب عطاء على كونه واجبا قبل القراءة احتجاجا بهذه الاية فان حقيقة الأمر للوجوب- و كونه لدفع الوسوسة فى القراءة لا يصلح صارفا عنه بل يصح شرع الوجوب معه فلا بد من جمله «١» على الوجوب- قال ابن الهمام و اللّه اعلم بالصارف عن الوجوب على قول الجمهور قلت و الصارف عنه انهم راو و النبي صلى اللّه عليه و سلم ترك التعوذ قبل القراءة فى بعض الأحيان و لو لا ذلك لما اجمعوا على جواز ترك ما لم يتركه النبي صلى اللّه عليه و سلم قط- و قد روى فى كثير من الأحاديث قراءته صلى اللّه عليه و سلم من غير ذكر التعوذ فى الصحيحين عن ابن عباس انه صلى اللّه عليه و سلم قعد الثلث الأخير من الليل فنظر الى السماء فقال إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ العشر الأواخر من ال عمران حتّى ختمها ثم قام فتوضا الحديث- و روى مسلم عن انس قال بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى اغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقلنا ما اضحكك يا رسول اللّه قال أنزلت علىّ آنفا سورة فقرا بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ الحديث- (مسئلة) اختلفوا فى التعوذ قبل القراءة فى الصلاة فقال ابو حنيفة و احمد يتعوذ فى أول ركعة- و قال الشافعي فى كل ركعة قال الشيخ ابن حجر استحب التعوذ فى كل (١) و فى الأصل فلا بد حمله-. ركعة الحسن و عطاء و ابن سيرين- و قال مالك لا يتعوذ فى المكتوبة- قال البيضاوي حجة للشافعى ان الحكم المترتب على شرط يتكرر بتكرره قياسا فالاية دليل على ان المصلى يستعيذ فى كل ركعة- و احتج مالك بحديث انس قال كنا نصلى خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ابى بكر و عمر و عثمان و كانوا يستفتحون بام القران فيما يجهر به و فى لفظ اخرج فى الصحيحين كانوا يفتتحون الصلاة ب الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعالَمِينَ- قلنا هذا الحديث لا ينافى التعوذ سرّا- و لنا ان النبي صلى اللّه عليه و سلم كان يتعوذ بعد الثناء فى الركعة الاولى و لم يرو عنه صلى اللّه عليه و سلم التعوذ فى ركعة غير الاولى- روى ابن ماجة و ابن السنى عن جبير بن مطعم رضى اللّه عنه قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا دخل فى الصلاة قال اللّه اكبر كبيرا ثلاثا و الحمد للّه كثيرا ثلاثا و سبحان اللّه بكرة و أصيلا ثلاثا أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم- و روى احمد و ابن حبان و ابو داود عنه من نفخه و نفثه و همزه- و روى الحاكم نحوه و روى احمد و اهل السنن و الحاكم عن ابى سعيد الخدري قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا قام للصلوة بالليل كبر ثم يقول سبحانك اللّهم و بحمدك و تبارك اسمك و تعالى جدك و لا اله غيرك ثم يقول لا اله الا اللّه ثلاثا ثم يقول اللّه اكبر ثلاثا ثم يقول أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم من نفخه و نفثه و همزه- و روى احمد من حديث ابى امامة نحوه و فيه أعوذ باللّه من الشيطان الرّجيم و فى اسناده من لم يسم- و روى ابن ماجة و ابن خزيمة من حديث ابن مسعود ان النبي صلى اللّه عليه و سلم كان يقول اللّهم انى أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه و نفخه و نفثه- و رواه الحاكم البيهقي بلفظ كان إذا دخل فى الصلاة و عن انس نحوه رواه الدار قطنى و فيه الحسين بن علىّ بن الأسود و فيه مقال- و فى مراسيل ابى داؤد عن الحسن ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان يتعوذ أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم- (فائدة) قال صاحب الهداية الاولى ان يقول استعيد باللّه ليوافق القران و يقرب منه أعوذ باللّه- قلت لكن المستعمل عند الحذاق من اهل الأداء و الفقهاء فى لفظها أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم دون غيره لما ذكرنا من الأحاديث- و اخرج الثعلبي و الواحدي عن ابن مسعود قال قرات على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقلت أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم قال قل أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبرئيل عن القلم عن اللوح المحفوظ- قال ابو عمرو الداني فى التيسير بهذا اللفظ بعينه قرات و به أخذ و لا اعلم خلافا بين اهل الأداء فى الجهر بها عند افتتاح القران (يعنى خارج الصلاة) و عند الابتداء برءوس الاجزاء و غيرها فى مذهب الجماعة اتباعا بالنص و اقتداء بالسنة و كذلك الرواية عن ابى عمرو (يعنى ابن العلاء) و روى عن حمزة انه كان يجهر بها فى أم القران خاصة و يخفيها بعد ذلك فى سائر القران كذا قال خلف عنه و قال خلاد عنه انه كان يخيّر الجهر و الإخفاء جميعا و الباقون لم يأت عنهم فى ذلك شي ء منصوص-. ٩٩ إِنَّهُ اى الشأن لَيْسَ لَهُ اى للشيطان سُلْطانٌ اى تسلط و استيلاء عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) فانهم لا يطيعون أوامره بحفظ اللّه تعالى و لا يقبلون وساوسه الا فيما يحتقرون على ندور و غفلة- و لذلك أمروا بالاستعاذة فذكر السلطنة بعد الأمر بالاستعاذة لئلا يتوهم منه ان له سلطانا كذا قال البيضاوي- قلت و جاز ان يكون هذه الاية فى مقام التعليل للامر بالاستعاذة- لان معنى قوله عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ انهم يلتجئون الى اللّه تعالى و يحرزون أنفسهم بعزة اللّه تعالى من تسلط الشيطان إذ لا حول و لا قوة الا به تعالى و ذلك معنى الاستعاذة- فالاستعاذة و هو الالتجاء الى اللّه تعالى و الاعتماد عليه من صفات قلوب المؤمنين المخلصين لا ينفك عنهم لكنهم أمروا بالاستعاذة باللسان ايضا حتّى يتادى سنة الدعاء و يطابق الباطن الظاهر فى التضرع و الابتهال فيحصل الامان من الشيطان على وجه الكمال. ١٠٠ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ اى يحبونه و يطيعونه فيجعلونه مسلطا على أنفسهم باختيارهم من غير ان يكون له عليهم سلطان يضطرهم الى اتباعه فلا منافاة بين هذا و بين قوله ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ و اللّه اعلم وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ اى باللّه تعالى او بسبب الشيطان مُشْرِكُونَ (١٠٠). ١٠١ وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ يعنى نسخنا تلاوة اية و أنزلنا مكانها اخرى او نسخنا حكم اية بحكم اية أخرى وَ اللّه أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ انه كان مصلحة ثم صار مفسدة او كان مفسدة ثم صار مصلحة- و الجملة حال من فاعل بدلنا و اسم اللّه على هذا ظاهر موضع المضمر او استيناف لفظا لكنه فى مقام التعليل سببا للتبديل يعنى بدلنا لانى اعلم بما هو أصلح للخلق فى وقت دون وقت- قرا ابو عمرو و ابن كثير ينزل بالتخفيف من الافعال و الباقون بالتشديد من التفعيل قالُوا يعنى الكفار إِنَّما أَنْتَ يا محمّد مُفْتَرٍ اى متقوّل على اللّه قال البغوي قالت المشركون ان محمّدا يسخر بأصحابه يأمرهم اليوم بامر و ينهاهم عنه غدا ما هو الا مفتر يتقوّله من تلقاء نفسه- و جملة قالوا جواب إذا بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) حكمة الاحكام و لا يميزون الخطاء و الصواب- او المعنى أكثرهم ليسوا من اهل العلم و التميز و لو كانوا اهل التميز لعرفوا ان القران ليس مما يمكن ان يقوّله بشر و محمّد صلى اللّه عليه و سلم أمين لا يصح ان يتهم بالافتراء شعر تبارك اللّه ما وحي بمكتسب و لا نبى على غيب بمتهم. ١٠٢ قُلْ يا محمّد ردّا لما قالوا نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ يعنى جبرئيل عليه السلام و اضافة الروح الى القدس و هو الطهر بمعنى الطاهر كقولهم حاتم الجود- قرا ابن كثير القدس بسكون الدال و الباقون بضمها- و فى ينزّل و نزّله تنبيه على ان انزاله مدرجا على حسب المصالح مما يقتضى التبديل مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ اى متلبسا «١» بالحكمة البالغة لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا على الايمان بانه كلام اللّه فانهم إذا سمعوا الناسخ و تدبروا ما فيه من رعاية الصلاح و الحكمة رسخت عقائدهم و اطمأنت قلوبهم- او المعنى ليبلوهم بالنسخ حتّى إذا قالوا هو الحق من ربنا و هو الحكمة لان الحكيم لا يفعل الا ما هو الحكمة حكم لهم بثبات القدم وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) المنقادين لحكمه و هما معطوفان على محل ليثبت اى تثبيتا و هداية و بشارة و فيه تعريض بحصول الاضداد لغيرهم- (١) فى الأصل ملتبسا-. ١٠٣ وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ آدمي و ما هو من عند اللّه قال البغوي اختلفوا فى هذا البشر قال ابن عباس كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يعلم قينا بمكة اسمه بلعام و كان نصرانيّا أعجمي اللسان و كان المشركون يرون رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يدخل عليه و يخرج فكانوا يقولون انما يعلمه بلعام- كذا اخرج ابن جرير فى مسنده بسند ضعيف عنه- و قال عكرمة كان النبي صلى اللّه عليه و سلم يقرئ غلاما لبنى المغيرة يقال له يعيش و كان يقرا الكتب فقالت قريش انما يعلمه يعيش- و قال الفراء قال المشركون انما يتعلم من عايش مملوك كان لحويطب بن عبد العزى و كان قد اسلم و حسن إسلامه و كان أعجمي اللسان- و قال ابن إسحاق كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فيما بلغني كثيرا ما يجلس عند المروة الى غلام رومى نصرانى عبد لبعض بنى الحضرمي يقال له جبر و كان يقرا الكتب- و قال عبد اللّه بن مسلم الحضرمي كان لنا عبد ان من اهل عين باليمن يقال لاحدهما يسار و يكنى أبا فكيهة و جبر و كانا يصنعان السيوف بمكة و كانا يقران التورية و الإنجيل فربما مر بهما النبي صلى اللّه عليه و سلم و هما يقران فيقف و يسمع- كذا اخرج ابن ابى حاتم من طريق حصين بن عبد اللّه ابن مسلم- قال الضحاك كان النبي صلى اللّه عليه و سلم إذا أذاه الكفار يقعد إليهما فيستروح بكلامهما فقال المشركون انما يتعلم محمّد منهما فنزلت هذه الاية و قال اللّه تعالى تكذيبا لهم لِسانُ اى لغة الرجل الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ قرا حمزة و الكسائي بفتح الياء و الحاء من المجرد و الباقون بضم الياء و كسر الحاء من الافعال قال فى القاموس لحد اليه مال اليه كالتحد و الحد مال و عدل يعنى يميلون اليه اى يشيرون اليه- او المعنى يميلون قولهم عن الصدق و الاستقامة اليه أَعْجَمِيٌّ غير فصيح بالعربية قال فى القاموس رجل و قوم أعجم و الأعجم من لا يفصح كالاعجمى و الأخرس و العجمي من جنسه العجم و ان افصح و العجم خلاف العرب و قال بعض المحققين العجمة خلاف الإبانة و الإعجام الإبهام يقال استعجمت الدار إذا مات أهلها و لم يبق فيها عريب اى من يبين جوابا وَ هذا اى القران لِسانُ لغة عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) فصيح ذو بيان واضح و الجملتان مستانفتان لابطال طعنهم لا محل لهما من الاعراب تقريره من وجهين أحدهما ان ما يسمع محمّد صلى اللّه عليه و سلم منه كلام أعجمي لا يفهمه هو و لا أنتم و القران عربى يفهمونه فكيف يكون هذا ذك- و ثانيهما ان معنى القران كما هو معجز فلفظه ايضا معجز فالقران و ان كان مطابقا لما كان الرجل الأعجمي يقراه من التورية و الإنجيل فى المعنى لكن تعبير تلك المعاني المنزلة فى الكتب بعبارة مثل عبارة القران ليس فى وسع البشر لما ظهر عجزهم بالتحدي بقوله فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ على ان تعلم العلوم الكثيرة المطوية فى الكتب السماوية لا يتصور الا بملازمة معلم فائق فى تلك العلوم مدة متطاولة فكيف يتصور تعلم جميع ذلك من رجل سمع منه فى بعض اوقات مروره عليه بلسان أعجمي لا يفهم معناه-. ١٠٤ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللّه لا يصدّقون انها من عند اللّه لا يَهْدِيهِمُ اللّه لا يرشدهم الى الحق او الى سبيل النجاة او الى الجنة وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) فى الاخرة ثم رد امر الافتراء على الكفار بعد مارد طعنهم و شبهتهم بأحسن الوجوه فقال. ١٠٥ إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللّه لانهم لا يخافون عقابا حتّى يردعهم عنه بخلاف المؤمنين وَ أُولئِكَ اشارة الى الكفار او الى قريش هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥) اى الكاذبون على الحقيقة لا غيرهم فان المؤمنين حينئذ كلهم كانوا صدوقا عادلين خير القرون- او الكاملون فى الكذب لان تكذيب آيات اللّه و رسوله المعصوم و الطعن فيهما بهذه الخرافات بعد ما ظهر امره بالمعجزات أعظم الكذب- او الذين عادتهم الكذب لا يصرفهم عنه دين و لا مروة- او الكاذبون فى قولهم إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ ... إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ- الجملة الفعلية تدل على انحصار صدور الافتراء عليهم و الاسمية على كونها وصفا لازما لهم- روى البغوي بسنده عن عبد اللّه بن حراد قال قلت يا رسول اللّه المؤمن يزنى قال قد يكون ذلك قلت المؤمن يسرق قال قد يكون ذلك قلت المؤمن يكذب قال لا قال اللّه إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللّه- و روى احمد عن ابى امامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يطبع المؤمن على الخلال كلها الا الخيانة و الكذب- و رواه البيهقي فى شعب الايمان عن سعد بن ابى وقاص- و روى مالك و البيهقي فى شعب الايمان مرسلا انه قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أ يكون المؤمن جبانا قال نعم فقيل له أ يكون المؤمن بخيلا قال نعم فقيل له أ يكون المؤمن كذابا قال لا- قلت الظاهر ان المراد بالمؤمن المذكور فى الأحاديث الموجودون «١» فى زمن النبي صلى اللّه عليه و سلم و لاجل ذلك انعقد الإجماع على كون الصحابة كلهم صدوقا عدولا لا يطعن فى حديث أحد منهم او المراد به المؤمن الكامل و هو الصوفي الفاني الباقي-. (١) فى الأصل الموجودين-. ١٠٦ مَنْ كَفَرَ بِاللّه مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ مبتدا تضمن معنى الشرط و خبره المتضمن للجواب محذوف و هو فعليهم غضب من اللّه و لهم عذاب اليم دل عليه جواب من شرح- و جاز ان يكون بدلا من الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللّه و يكون وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ اعتراضا بين البدل و المبدل منه يعنى انما يفترى من كفر الا من اكره- و جاز ان يكون بدلا من المبتدا الّذي هو أولئك او من الخبر و هو الكاذبون يعنى من كفر باللّه هم الكاذبون او أولئك هم من كفر باللّه و جاز ان يكون منصوبا على الذم إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ قال البغوي قال ابن عباس نزلت هذه الاية فى عمار بن ياسر و ذلك ان المشركين أخذوه و أباه و امه سميّة و صهيبا و بلالا و خبيبا و سالما و عذبوهم فاما سميّة فانها ربطت بين بعيرين و وجئت قبلها بحربة فقتلت و قتل زوجها ياسر و هما أول قتيلين فى الإسلام رضى اللّه عنهما و اما عمار فانه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها على ذلك- و قال قتادة أخذ بنوا للمغيرة عمارا رضى اللّه عنه و غطوه فى بئر ميمون و قالوا له كفّر «١» بمحمّد فتابعهم على ذلك و قلبه كاره- فاخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بان عمارا كفر فقال كلا ان عمارا ملئ ايمانا من قرنه الى قدمه و اختلط الايمان بلحمه و دمه- فاتى عمار رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو يبكى فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما وراءك قال شر يا رسول اللّه نلت منك و ذكرت قال كيف وجدت قلبك قال مطمئنّا بالايمان فجعل النبي صلى اللّه عليه و سلم يمسح عينيه و قال ان عادوا لك فعدلهم بما قلت فنزلت هذه الاية- و كذا اخرج الثعلبي و الواحدي و اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس قال أراد النبي صلى اللّه عليه و سلم ان يهاجر الى المدينة أخذ المشركون بلالا و خبيبا و عمار بن ياسر فاما عمار فقال لهم كلمة (١) فى الأصل اكفر-. أعجبتهم تقية فلما رجع الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حدثه فقال كيف كان قلبك حين قلت أ كان منشرحا بالذي قلت قال لا فانزل اللّه هذه الاية- و ذكر البغوي و كذا اخرج ابن ابى حاتم انه قال مجاهد نزلت فى ناس من اهل مكة أمنوا فكتب إليهم بعض اصحاب رسول اللّه ان هاجروا فانا لا نراكم منا حتّى تهاجروا إلينا فخرجوا يريدون المدينة فادركتهم قريش فى الطريق ففتنوهم فكفروا كارهين- و قال البغوي قال مقاتل نزلت فى جبر مولى عامر بن الحضرمي أكرهه سيده على الكفر فكفر مكرها وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ اى ساكن به لم يتغير عقيدته و فيه دليل على ان الركن اللازم للايمان هو التصديق بالقلب- قال البغوي ثم اسلم مولى جبر و حسن إسلامه و هاجر جبر مع سيده وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً اى شرح و فتح صدره للكفر بالقبول و طاب نفسه و اختاره فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّه وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) اعلم ان الإكراه عبارة عن حمل الغير على فعل يكرهه و ذلك على نوعين أحدهما ما ينتفى به رضاه و لا يفسد اختياره كالاكراه بالضرب او الحبس ثانيهما ما يكون ملجيا يفسد اختياره كالاكراه بالقتل او قطع العضو و يشترط فى كلا القسمين من الإكراه قدرة المكره على ما يهدد به و ان يغلب على ظن المكره انه يفعله به فالقسم الاول من الإكراه غير مراد بالآية و غير مؤثر أصلا الا فى البيع و الشراء و الاجارة و الاستيجار و الإقرار و نحو ذلك فمن اكره على بيع ماله او على شراء سلعة او على ان يقرّ لرجل بألف او يؤاجر داره او يستأجر فالمكره بالخيار ان شاء امضى العقد بعد زوال الإكراه و ان شاء فسخه لان هذه العقود تحتمل الفسخ و اشترط لصحتها التراضي بقوله تعالى إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ و قد فات الرضاء بالإكراه فان شاء أجاز و ان شاء فسخ فان قبض الثمن طوعا فقد أجاز البيع- و المراد بالآية هو القسم الثاني فقد اجمع العلماء على انه من اكره على الكفر اكراها ملجيا يجوز له ان يتلفظ بما اكره عليه مطمئنّا قلبه بالايمان بهذه الاية و قصة عمار فلا يكفر بالتلفظ من غير اعتقاد و لم تبن منه امرأته- و ان ابى ان يقوله كان أفضل لقصة أبوي عمار و قد مر- و قصة خبيب و زيد بن الدثنة و عبد اللّه بن طارق انهم اختاروا القتل على الارتداد- ذكر اصحاب السير فى سرية الرجيع ان خبيبا حين قتل صلى ركعتين و روى البخاري عن ابى هريرة انه أول من سنّ الركعتين عند القتل انتهى- فلما صلى الركعتين جعلوه على الخشبة ثم وجهوه الى المدينة و أوثقوه رباطا ثم قالوا ارجع عن الإسلام نخلّ سبيلك قال و اللّه ما أحب انى رجعت عن الإسلام و انّ لى ما فى الأرض جميعا قالوا افتحب ان محمّدا مكانك و انك جالس فى بيتك قال لا و اللّه ما أحب ان يشاك محمّد صلى اللّه عليه و سلم شوكة و انا جالس فى بيتي فجعلوا يقولون ارجع خبيب فقال لا ارجع ابدا قالوا لئن لم ترجع لقتلناك قال ان قتلى فى اللّه لقليل روى البخاري عن ابى هريرة ان خبيبا ... حين قتل قال «١» أبياتا منها قوله شعر فلست أبالي حين اقتل مسلما على اىّ شق كان فى اللّه مصرعى و ذلك فى ذات الإله و ان يشاء يبارك فى أوصال شلو ممزع ذكر ابن عقبة ان زيدا و خبيبا قتلا فى يوم واحد و ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سمع يوما قتلا و هو يقول و عليكما السلام و اخرج ابن ابى شيبة عن الحسن مرسلا و عبد الرزاق فى تفسيره عن معمر مفصلا ان مسيلمة أخذ رجلين فقال «٢» لواحد ما تقول فى محمّد فقال رسول اللّه فقال ما تقول فىّ فقال أنت ايضا و قال للاخر ما تقول فى محمّد فقال رسول اللّه فقال ما تقول فىّ قال انا اصمّ فاعاد عليه ثلاثا فاعاد جوابه فقتله فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال اما الاول فقد أخذ برخصة اللّه و اما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له- (مسئلة) و من اكره على إتلاف مال مسلم وسعه ان يفعل ذلك لان مال الغير يستباح للضرورة كما فى حالة المخمصة و قد تحققت- و لصاحب المال ان يضمن المكره (بالكسر) لان المكره (بالفتح) فمعز الدولة له فيما يصلح فمعز الدولة له و الاتلاف من هذا القبيل- (مسئلة) و ان اكره على قتل غيره لم يسعه ان يقدّم عليه و يجب ان يصبر حتّى يقتل فان قتله كان اثما لان قتل المسلم لا يستباح لضرورة ما فكذا لهذا الضرورة و اختلف العلماء فى القصاص هل هو على المكره او المكره و لا يسع المقام للكلام فيه- (مسئلة) و ان اكره على ان يأكل الميتة او يشرب الخمر جاز له ان يقدم على ما اكره عليه اجماعا- و اختلفوا فى انه ان صبر و لم يأكل حتّى قتل هل يجوز له ذلك أم لا (١) و فى الأصل قال حين قتل قال. (٢) فى الأصل فقال ما تقول فى محمّد ص. فقال ابو حنيفة يجب عليه أكله و لا يسعه ان يصبر كما لو اكره على أكل شي ء مباح يجب عليه أكله فان صبر و قتل اثم لانه صار معاونا للمكره فى إتلاف نفسه بلا ضرورة و عن ابى يوسف انه لا يأثم و هو أصح قولى الشافعي لانه رخصة لا اباحة لان الحرمة قائمة فيكون أخذا بالعزيمة و قال ابو حنيفة حالة الاضطرار مستثناة بقوله إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ و هو تكلم بالباقي بعد الثّنيا فلا محرم فكان اباحة لا رخصة فصار الميتة حينئذ مباحا كالزكية بخلاف أكل مال الغير فانه لو صبر و لم يأكل حتّى قتل كان ماجورا اجماعا لان الحرمة هناك قائمة فمن هاهنا ظهران الإكراه لا يزيل الخطاب حتّى يباح مرة و يفترض و يحرم اخرى فلاجل ذلك قال ابو حنيفة رحمه اللّه كل تصرف ينسحب حكمه على التلفظ و لا يتوقف على الرضاء يترتب عليه حكمه ان فعل مكرها و هى عشرة تصرفات النكاح و الطلاق و الرجعة و الإيلاء و الفي ء و الظهار و العتاق و العفو عن القصاص و اليمين و النذر و به قال الشعبي و النخعي و الثوري- و قال مالك و الشافعي و احمد لا يترتب الحكم على شي ء من تصرفات المكره محتجين بحديث عائشة قالت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول لاطلاق و لاعتاق فى إغلاق- رواه احمد و ابو داود و ابن ماجة و الحاكم و ابن الجوزي و ابو يعلى و البيهقي من طريق صفية بنت عثمان عن شيبة عنها صححه الحاكم و فى اسناده محمّد بن عبيد المكي ضعفه ابو حاتم الرازي- وجه الاحتجاج انه قال ابن الجوزي قال قتيبة الاغلاق الإكراه على الطلاق و العتاق و هو من أغلقت الباب كانّ المكره اغلق حتّى يفعل قال الحافظ و هو قول الخطابي و ابن السيد- و يرد عليه ان فى تفسير الاغلاق اختلافا فقد قيل كما ذكر ابن الجوزي و قيل الاغلاق الجنون فان المجنون مستور عليه كانه اغلق عليه- و قيل الغضب وقع ذلك فى سنن ابى داود و كذا فسره احمد لكن تفسيره بالغضب غير مرضى رده ابن السيد و قال لو كان كذلك لم يقع على أحد طلاق لان أحدا لا يطلق حتّى يغضب- و بحديث الحسن عن النبي صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه عزّ و جلّ غفر لكم عن الخطاء و النسيان و ما استكرهتم عليه- رواه ابن الجوزي و لا يجوز الاحتجاج بهذا الحديث فى هذه المسألة لانه لا يدل الا على مغفرة ما فعله مكرها من المعاصي و لا يدل على عدم ترتب الاحكام الدنيوية على ما فعله مكرها- و قد يحتج فى المسألة بما رواه الطبراني عن ثوبان قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رفع عن أمتي الخطاء و النسيان و ما استكرهوا عليه- و كذا روى من حديث ابى الدرداء قال الحافظ فى اسنادهما ضعف و روى ابن ماجة و ابن حبان و الدار قطنى و الطبراني و البيهقي و الحاكم فى المستدرك من حديث الأوزاعي فقيل عنه عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس- و روى الوليد بن مسلم عن الأوزاعي و لم يذكر عبيد بن عمير- و للوليد اسنادان آخران روى عن محمّد بن المصفى عنه عن مالك عن نافع عن ابن عمرو عن ابن لهيعة عن موسى بن داؤد عن عقبة بن عامر قال ابن ابى حاتم سالت ابى عنها فقال هذه الأحاديث منكرة كانها موضوعة و قال عبد اللّه بن احمد سالت ابى عنه فانكره جدّا- و رواه ابن ماجة من حديث ابى ذر و فيه شهر بن حوشب و فى الاسناد انقطاع ايضا- فلو صح هذا الحديث- فالجواب عنه ان الحديث ليس على ظاهره إذ لا معنى لرفع الخطاء و النسيان فان ما وجد من الافعال خطأ او نسيانا فهى واقعة لا محالة فالمعنى رفع عن أمتي اثم الخطاء و النسيان و لا يجوز تقدير الحكم الّذي يعم احكام الدنيا و الاخرة إذ لا عموم للمقتضى- فالمراد اما احكام الدنيا و اما حكم الاخرة و الإجماع على ان حكم الاخرة و هو رفع المؤاخذة مراد فلا يراد الاخر معه و إلا عمم كذا قال ابن همام- و احتج ابن الجوزي ايضا بما روى ان رجلا على عهد عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه بدلى يسار علا فاقبلت امرأته فجلست على الجبل فقالت ليطلقها ثلاثا و الا قطعت الجبل عليه فذكرها اللّه و الإسلام فابت فطلقها ثلاثا ثم خرج الى عمر بن الخطاب فذكر ذلك له فقال ارجع الى أهلك فليس هذا بطلاق- و احتج ابو حنيفة رحمه اللّه بأحاديث منها حديث ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثلاث جدهن جد و هزلهن جد النكاح و الطلاق و الرجعة- رواه ابو داود و الترمذي و ابن ماجة و احمد و الحاكم و الدار قطنى قال الترمذي حسن و قال الحاكم صحيح- قال ابن الجوزي فيه عطاء بن عجلان متروك الحديث قال الحافظ ابن حجر و هم ابن الجوزي حيث قال هو عطاء بن عجلان و هو متروك بل هو عطاء بن ابى رباح صرّح له فى رواية ابى داؤد و الحاكم لكنه من رواية عبد الرّحمن بن جبير و هو مختلف فيه قال النسائي منكر الحديث و وثقه غيره فهو على هذا حسن فان قيل الإكراه لا يجامع الاختيار الّذي يعتبر به التصرف الشرعي بخلاف الهازل لانه مختار فى التكلم بالطلاق غير راض بحكمه فيقع طلاقه فلا وجه للاستدلال بهذا الحديث على طلاق المكره قلنا كذلك المكره مختار فى التكلم اختيارا كاملا الا انه غير راض بالحكم لانه عرف الشرّين فاختارا هونهما عليه غير انه محمول على اختياره ذلك قال ابن همام لا تأثير لكونه محمولا على اختياره فى نفى الحكم يدل عليه حديث حذيفة و أبيه حين حلّفهما المشركون فقال لهما «١» النبي صلى اللّه عليه و سلم نفى لهم بعهدهم و نستعين اللّه عليهم فبيّن ان اليمين طوعا و كرها سواء فعلم ان لا تأثير للاكراه فى نفى الحكم المتعلق بمجرد اللفظ عن اختيار بخلاف البيع لان حكمه يتعلق باللفظ و ما يقوم مقامه مع الرضاء و هو منتف بالإكراه- و منها حديث ابى هريرة كل طلاق جائز الإطلاق المعتوه المغلوب على عقله رواه الترمذي و قال الترمذي لا نعرفه الا من حديث عكرمة بن خالد عن ابى هريرة و الا من رواية عطاء بن عجلان عن عكرمة بن خالد و عطاء ضعيف ذاهب الحديث و منها حديث صفوان بن الأصم عن رجل من اصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم ان رجلا كان نائما مع امرأته فقامت فاخذت سكينا و جلست على صدره و وضعت السكين على حلقه و قالت «٢» له طلقنى او لاذبحنك فناشدها اللّه فابت فطلقها ثلاثا فذكر ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال لا قيلولة فى الطلاق- قال ابن الجوزي قال البخاري صفوان بن الأصم عن بعض اصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم فى المكره حديث منكر لا يتابع عليه و ذكر ابن همام عن عمر انه قال اربع مبهمات معضلات ليس فيهن رديد النكاح و الطلاق و العتاق و الصدقة- قلت الظاهر ان حجة ابى حنيفة راجحة و لو سلمنا التعارض فالمصير الى القياس و القياس يقتضى وقوعها كما ذكرنا و اللّه اعلم-. (١) و فى الأصل فقال لهما صلى اللّه عليه و سلم [.....]. (٢) و فى الأصل و قال له ١٠٧ ذلِكَ الكفر بعد الايمان او الوعيد بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا اى بسبب انهم اثروا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الحيوة الْآخِرَةِ وَ أَنَّ اللّه و بسبب ان اللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) فى علمه الى ما يوجب الثبات على الايمان و لا يعصمهم عن الزيغ ذكر اللّه سبحانه لاجل كفرهم و عذابهم سببين سبب ظاهرى و هو اختيارهم الكفر و عدم التدبر فى الآيات و سبب حقيقى و هو عدم ارادة اللّه تعالى فيهم الهداية فالاية دليل على ان افعال العباد بين الجبر و القدر. ١٠٨ أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّه عَلى قُلُوبِهِمْ فلا يدركون الحق حقّا وَ سَمْعِهِمْ فلا يسمعون الحق سماع قبول وَ أَبْصارِهِمْ فلا يبصرون الآيات نظر الاعتبار وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) الكاملون فى الغفلة حيث غفلوا عن صانعهم و لم يغفل عنه البهائم و الجمادات. ١٠٩ لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) حيث ضيعوا أعمارهم و صرفوها فيما افضى بهم الى العذاب المخلد و لم يكتسبوا شيئا ينجيهم من العذاب و يفضى بهم الى الفلاح بخلاف عصاة المؤمنين فانهم و ان ضيعوا اكثر أعمارهم فى الشهوات و المعاصي لكنهم تشبثوا بالتوحيد حتّى ينجيهم من عذاب اللّه الى الجنة-. ١١٠ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا قرا العامة بضم الفاء و كسر التاء على البناء للمفعول اى منعوا من الإسلام و عذبوا- و ثم لتباعد حال هؤلاء عن حال أولئك- اخرج ابن سعد فى الطبقات عن عمر بن الحاكم قال كان عمار بن ياسر يعذب حتّى لا يدرى ما يقول و كان صهيب يعذب حتّى لا يدرى ما يقول و كان ابو فكيهة يعذب حتّى لا يدرى ما يقول و بلال و عمار بن فهيرة و قوم من المسلمين و فيهم نزلت هذه الاية- و قال البغوي نزلت فى عياش بن ابى ربيعة أخي ابى جهل من الرضاعة و فى ابى جندل بن سهيل بن عمرو و الوليد بن الوليد بن المغيرة و سلمة بن هشام و عبيد اللّه بن أسيد الثقفي فتنهم المشركون فاعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم و هاجروا الى المدينة ثُمَّ جاهَدُوا مع النبي صلى اللّه عليه و سلم الكفار وَ صَبَرُوا على الايمان و الطاعات و الجهاد و المشاق و عن المعاصي و قال الحسن و عكرمة نزلت الاية فى عبد اللّه بن سعد بن ابى سرح و كان يكتب للنبى صلى اللّه عليه و سلم فاستزله الشيطان فلحق بالكفار فامر النبي صلى اللّه عليه و سلم بقتله يوم فتح مكة فاستجار له عثمان و كان أخاه لامه فاجاره رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثم انه اسلم و حسن إسلامه فانزل اللّه هذه الاية- و قرا ابى عامر الّذين هاجروا من بعد ما فتنوا بفتح الفاء و التاء على البناء للفاعل يعنى هاجروا بعد ما كفروا و عذبوا المؤمنين نزلت فى عامر الحضرمي اكره مولاه جبرا و عذبه حتّى ارتد ثم اسلم عامر و حسن إسلامه و اسلم جبر حيث كان ارتداده مكرها و هاجروا جميعا ثم جاهدوا الكفار مع النبي صلى اللّه عليه و سلم و صبروا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها اى بعد الهجرة و الجهاد و الصبر لَغَفُورٌ لما فعلوا قبل ذلك رَحِيمٌ (١١٠) ينعم عليهم فى الدنيا و الاخرة على ما صنعوا بعد ذلك خبر انّ الاولى محذوف دل عليه خبر انّ الثانية او يقال إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها تأكيد لفظى لما سبق. ١١١ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ منصوب برحيم او با ذكر تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها يعنى تسعى كل نفس فى خلاصها لا يهمها شأن غيرها فالكافر يقول رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا ... رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا ... وَ اللّه رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ... فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً و المؤمن يقول رب أسئلك نفسى نفسى لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ- اخرج ابن جرير فى تفسيره عن معاذ قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من اين يجاء بجهنم يوم القيامة قال يجاء بها من الأرض السابعة لها الف زمام لكل زمام سبعون الف ملك تسبح فاذا كانت من العباد مسيرة الف سنة زفرت زفرة فلا يبقى ملك مقرب و لا نبى مرسل الا جثى على ركبتيه يقول رب نفسى نفسى- و قال البغوي و روى ان عمر بن الخطاب قال لكعب الاخبار خوّفنا قال يا أمير المؤمنين و الّذي نفسى بيده لو وافيت القيامة بمثل عمل سبعين نبيا لاتت عليك تارات و أنت لا يهمك الا نفسك و ان لجهنم زفرة ما يبقى ملك مقرب و لا نبى منتخب الا وقع جاثيا على ركبتيه حتّى ابراهيم خليل الرّحمن يقول يا رب لا أسئلك الا نفسى و تصديق ذلك فى الّذي انزل اللّه عليكم يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها- و روى عكرمة عن ابن عباس فى هذه الاية قال ما نزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتّى يخاصم الروح الجسد فيقول الروح يا رب لم يكن لى يد ابطش بها و لا رجل امشى بها و لا عين ابصر بها و يقول الجسد خلقتنى كالخشب ليس لى يد ابطش بها و لا رجل امشى بها و لا عين ابصر بها فجاء هذا كشعاع النور فيه نطق لسانى و أبصرت عينى و مشت رجلى قال فضرب اللّه لهما مثل أعمى و مقعد دخلا حائطا فيه ثمار فالاعمى لا يبصر الثمر و المقعد لا يناله فحمل الأعمى المقعد فاصابا من الثمر فعليهما العذاب- أضيف النفس الى النفس فى قوله تعالى فى نفسها لانه يقال لعين الشي ء و ذاته نفسه و لنقيضه غيره كانه قال يوم تجادل كل أحد عن ذاته وَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ اى كل أحد جزاء ما عَمِلَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١) اى لا ينقصون أجورهم-. ١١٢ وَ ضَرَبَ اللّه مَثَلًا قَرْيَةً اى جعل اللّه قرية كما وصف مثلا لكل قوم أنعم اللّه عليهم فابطرتهم النعمة فكفروا فانزل به نقمته- فيجوز انه تعالى أراد بها قرية مقدرة على هذه الصفة او قرية من قرى الأولين قد كان بهذه الصفة فضربها مثلا لمكة انذارا من مثل عاقبتها- و قال البغوي أراد بالقرية «١» مكة فعلى هذا معنى الاية جعل اللّه تعالى مكة بحال يضرب بها مثلا لغيرها فانها كانَتْ آمِنَةً لا يهاج أهلها و لا يغار عليها مُطْمَئِنَّةً قارة باهلها لا يحتاجون الى الانتقال لضيق او خوف كما يحتاج اليه سائر العرب يَأْتِيها رِزْقُها أقواتها رَغَداً واسعا مِنْ كُلِّ مَكانٍ من نواحيها من البحر و البر فَكَفَرَتْ أهلها بِأَنْعُمِ اللّه اى بنعمه جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع و ادرع او جمع نعم كبؤس و ابؤس فَأَذاقَهَا اى أذاق أهلها اللّه لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ استعار الذوق لادراك اثر الضرر و اللباس لما اشتمله من اثر الجوع و الخوف و هو الهزال و تغير اللون و أوقع الا ذاقة عليه بالنظر الى المستعار له بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) من الكفر و الكفران- قال البغوي ابتلى اللّه اهل مكة بالجوع سبع سنين و قطعت العرب عنهم الميرة بامر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتّى جهدوا فاكلوا العظام المحرقة و الجيف و الكلاب الميتة و العلهز «٢» و هو الوبر يعالج بالدم حتّى كان أحدهم ينظر الى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع ثم ان رؤساء مكة كلموا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قالوا هذا عاديت الرجال فما بال النساء (١) عن سليم بن عمر قال صحبت حفصة زوج النبي صلى اللّه عليه و سلم و هى خارجة من مكة الى المدينة فاخبرت ان عثمان قد قتل فرجعت و قالت ارجعوا بي فو الّذي نفسى بيده انها للبقرية الّتي قال اللّه قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً الاية ١٢ ازالة الخفا- منه رح. (٢) و هو شي ء يتخذونه فى سنى المجاعة يخلطون الدم باوبار الإبل ثم يشوّونه بالنار و يأكلون و قيل يخلطون فيه القردان و يقال للقرار الضخم علهز و قيل العلهز شي ء ينبت فى ديار سليم نهايه- منه رح. و الصبيان فاذن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم للناس بحمل الطعام إليهم و هم بعد مشركون- قلت السورة مكية و انما أذاق اللّه اهل مكة الجوع إذا قحطوا سبع سنين و الخوف من سرايا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعد الهجرة فاما ان يقال بنزول هذه الآيات بعد الهجرة و اما ان يقال بالتوجيه الاول يعنى ان المراد قرية غير مكة ضربها اللّه مثلا لاهل مكة انذارا لاهلها من مثل عاقبتها فلما لم يعتبروا به و لم يسمعوا ما ضرب اللّه لهم من المثل عوقبوا بمثل ما عوقب به أولئك. ١١٣ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ يعنى محمّدا صلى اللّه عليه و سلم و الضمير لاهل مكة عاد الى ذكرهم يعد ما ذكر مثلهم فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَ هُمْ ظالِمُونَ (١١٣) اى حال التيامهم بالظلم و المراد بالعذاب ما أصابهم من الجدب الشديد او وقعة بدر و هذه الاية ايضا تدل على كون نزولها بعد الهجرة- و يمكن ان يقال ان قوله وَ لَقَدْ «١» جاءَهُمْ فى محل النصب على الحال من فاعل كفرت او مستأنفة لبيان حال تلك القرية الّتي ضرب بها المثل و المراد بالرسول الرسول المبعوث الى تلك القرية-. (١) و فى الأصل و لقد جاءت-. ١١٤ فَكُلُوا ايها المؤمنون الذين أنجاهم اللّه من الكفر و هداهم للايمان بمحمّد صلى اللّه عليه و سلم مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه حَلالًا طَيِّباً وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللّه يعنى نبوة محمّد صلى اللّه عليه و سلم و ما أنعم عليهم فى الدنيا إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) دون غيره- امر اللّه سبحانه بأكل ما أحل اللّه سبحانه و شكر ما أنعم اللّه عليهم بعد ما زجر و هدّد على الكفر و ذكر من التمثيل و العذاب الّذي حلّ بكفار قومهم صدّا لهم عن صنيع الجاهلية و مذاهبها الفاسدة و قيل المخاطبون بهذا الكلام هم المخاطبون بما سبق أمرهم يأكل ما أحل لهم و شكر ما أنعم عليهم بعد ما زجرهم عن الكفر و هدّدهم عليه و المعنى ان كنتم إياه تعبدون فى زعمكم كانوا يزعمون انا نعبد اللّه وحده و الأصنام شفعاؤنا عند اللّه. ١١٥ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) ١١٦ وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ اى السنة قومكم من الكفار الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ كما قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا الاية و قالوا بتحريم البحائر و السوائب و نحوها و الحصر المستفاد من سياق الكلام و تصدير الجملة بانما حصر إضافي بالنسبة الى ما قالت الكفار بتحريمها فلا مرد لتحريم ما ثبت حرمتها بالأحاديث الصحيحة و قد بسطنا الكلام فيها فى سورة المائدة و اللّه اعلم- الكذب منصوب بلا تقولوا اى لا تقولوا الكذب لما تصفه السنتكم من البهائم بالحل او الحرمة على خلاف ما هى عليه من غير استناد ذلك الوصف الى علة موجبة للحل او الحرمة من اللّه تعالى- و قوله هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ بدل من الكذب او متعلق بتصف و ما مصدرية اى لا تقولوا هذا حلل و هذا حرام لوصف السنتكم الكذب اى لا تحلوا و لا تحرموا بمجرد قول ينطق به السنتكم من غير دليل و وصف الالسنة بالكذب مبالغة فى وصف كلامهم بالكذب كانّ حقيقة الكذب كانت مجهولة و ألسنتهم تصفها و تعرفها بكلامهم و لذلك عد من فصيح الكلام كقولهم وجهها يصف الجمال و عينها تصف السحر لِتَفْتَرُوا عَلَى اللّه الْكَذِبَ ان اللّه حرم لهذا و اللام لتعليل لا يتضمن الغرض إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ «١» لا يُفْلِحُونَ (١١٦) (١) عن ابى النضرة قال قرأت هذه الاية فى سورة النحل وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ فلم ازل أخاف الفتيا الى يومى هذا- و عن ابن مسعود قال عسى رجل ان يقول ان اللّه امر بكذا و نهى عن كذا فيقول اللّه كذبت او يقول ان اللّه حرم كذا و أحل كذا فيقول اللّه له كذبت ١٢ ازالة الخفا- منه رح-. ١١٧ مَتاعٌ قَلِيلٌ خبر مبتدا محذوف اى ما هم فيه متاع اى منفعة قليلة تنقطع عن قريب يفترون لاجله او مبتدا خبره محذوف يعنى لهم متاع قليل فى الدنيا وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) فى الاخرة لاجل افترائهم-. ١١٨ وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ هذا فى سورة الانعام بقولنا وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ و قوله من قبل متعلق بقصصنا او بحرمنا وَ ما ظَلَمْناهُمْ بتحريم بعض الطيبات وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ببغيهم فعوقبوا بتحريمها فيه تنبيه على ان التحريم قد يكون للمضرة فى الفعل و المصلحة فى الترك و قد يكون للعقوبة. ١١٩ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ اى بسببها او متلبسين «١» بها ليعم الجهل باللّه و بعقابه و عدم التدبر فى العواقب لغلبة الشهوة و السوء يعم الكفر و المعاصي ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا العمل إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها اى بعد التوبة لَغَفُورٌ لذلك السوء رَحِيمٌ (١١٩) يثيب على الانابة-. (١) و فى الأصل ملتبسين-. ١٢٠ إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قال فى القاموس الامة بالضم الرجل الجامع للخير و الامام و من هو على الحق و مخالف لسائر الأديان و النشاط و الطاعة و العالم و غير ذلك من المعاني ذكرت منها ما يناسب المقام- و كان ابراهيم عليه السلام رجلا جامعا لفضائل لا تكاد توجد فى اشخاص كثيرة- و جعله اللّه اماما للناس و كان هو على الحق مؤمنا وحده مخالفا لسائر الأديان إذ كان حينئذ سائر الناس كفارا- و كان متصفا بالنشاط و الطاعة فكان نشاطا و طاعة على طريقة زيد عدل و كان عالما باللّه و أحكامه- قال ابن مسعود كان معلما للخير يأتم به اهل الدنيا- فهو فعلة بمعنى المفعول كالرحبة من امّه إذا قصده- و قال مجاهد كان مؤمنا وحده و الناس كلهم كفار قانِتاً للّه اى مطيعا للّه قائما باوامره حَنِيفاً مائلا من الباطل و قيل مستقيما على دين الإسلام و قيل مخلصا وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) رد لما زعمت قريش انهم على دين ابراهيم. ١٢١ شاكِراً لِأَنْعُمِهِ ذكر بلفظ القلة للتنبيه على انه لم يترك الشكر على القليل من النعم فكيف على الكثير اجْتَباهُ اللّه وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) الى دين الإسلام و دعوة الخلق الى اللّه. ١٢٢ وَ آتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً يعنى الرسالة و الخلة قال المجدد رضى اللّه عنه المراد بها الخلة فان كل أحد يظهر على خليله كل سر له بمحبه او محبوبه- و لاجل ذلك طلب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صلوة مثل الصلاة عليه فقال اللّهم صل على محمّد و ال محمّد كما صليت على ابراهيم و ال ابراهيم- و لمّا كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مرتقيا الى أعلى درجات المحبوبية الصرفة لم يتركه المحبوبية ان يستقر فى مقام الخلة و ان كانت فى الطريق لكونها أسفل و أحط مرتبة من المحبوبية الصرفة و لكن أراد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان يعطيه اللّه تعالى استقرار ذلك المقام علاوة على مقامه- و لمّا لم يتصور ذلك لما ذكرنا من المحبوبية أعطاه اللّه ذلك المقام بان اعطى لفرد من افراد أمته بطفيل اتباعه و هو المجدد للالف الثاني الشيخ احمد السرهندى قدسنا اللّه تعالى بسره- و ذلك ان كل كمال للتابع فهو كمال لمتبوعه لانه كالجزء من كماله و حاصل بمتابعته فاللّه سبحانه أجاب دعوته صلى اللّه عليه و سلم بعد الف سنة من هجرته حتّى تم دولته و سلطانه كما يتم دولة السلاطين بفتح بعض امرائه القلاع المغلقة بسطوته و قهرمانه صلى اللّه تعالى عليه و اله و اتباعه كما صلى على ابراهيم و اله و اتباعه- و قيل هى اللسان الصدق و الثناء الحسن فان جميع اهل الأديان يثنون عليه- و قال مقاتل بن حبان يعنى الصلاة عليه فى قول هذه الامة اللّهم صل على محمّد و ال محمّد كما صليت على ابراهيم و قيل أولادا أبرارا على الكبر وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) اى من الأنبياء المعصومين فان كمال الصلاح بالعصمة و مقتضى العصمة فى الاخرة بقاء ثواب كل حسنة بلا احتمال حبط شي ء منها و ذلك مختص بالمعصومين فان من عمل سيئة صغيرة او كبيرة يحتمل ذهاب بعض حسناته فى مقابلة تلك السيئة فى الميزان ان لم يتداركه رحمة اللّه و مغفرته كانّ هذه الاية بيان لاستجابة دعوته حيث قال أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ-. ١٢٣ ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمّد أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً فى التوحيد و الدعوة الى اللّه بالرفق و إيراد الدلائل مرة بعد اخرى و المجادلة مع كل أحد على حسب فهمه و فى التوجه الى قبلته فى الصلاة و التشرع بشرائع دينه و هذه الجملة من تتمة ما أنعم اللّه على ابراهيم على قنوته و شكره على ما أنعم اللّه عليه- و فى كلمة ثم تعظيم لمنزلة نبينا صلى اللّه عليه و سلم و إجلال محله و الإيذان بان اشرف ما اوتى خليل اللّه من الكرامة اتباع رسولنا ملته صلى اللّه عليهما و سلم (فائدة) امر اللّه تعالى رسولنا صلى اللّه عليه و سلم باتباع ملة ابراهيم عليه السلام لان نبينا صلى اللّه عليه و سلم كان شائقا لمرتبة الخلة و كان كثير المحبة به عليه السلام يدل عليه قوله تعالى قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها قال البغوي كان النبي صلى اللّه عليه و سلم مامورا بشريعة ابراهيم عليه السلام الا ما نسخ فى شريعته و ما لم ينسخ صار شرعا له وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) كرر هذا ردّا على زعم اليهود و النصارى و اهل مكة انهم على دينه-. ١٢٤ إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ يعنى انما جعل تعظيم السبت و تحريمه و التخلي فيه للعبادة مفروضة عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ يعنى خالفوا فيه نبيهم- قال الكلبي أمرهم موسى عليه السلام بالجمعة و قال تفرغوا للّه فى كل سبعة ايام يوما فاعبدوه يوم الجمعة و لا تعملوا فيه لصنعتكم و ستة ايام لصناعتكم- قالوا لا نريد الا اليوم الّذي فرغ اللّه فيه من الخلق يوم السبت- فجعل اللّه ذلك اليوم عليهم و شدد عليهم- ثم جاءهم عيسى عليه السلام بيوم الجمعة فقالوا لا نريد ان يكون عيدهم بعد عيدنا فاتخذوا الأحد- فاعطى اللّه الجمعة هذه الامة فقبلوها و بورك لهم فيها- روى الشيخان فى الصحيحين من حديث ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد انهم أوتوا الكتاب من قبلنا و أوتيناه من بعدهم- ثم هذا يومهم اللّه فرض عليهم يعنى الجمعة فاختلفوا فيه فهدانا له و الناس لنا فيه تبع اليهود غدا و النصارى بعد غد- و روى البغوي هذا الحديث و زاد فى آخره قال اللّه تعالى إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ- و فى رواية لمسلم عنه و عن حذيفة نحوه و قالا فى اخر الحديث نحن الآخرون من اهل الدنيا الأولون يوم القيامة المقضى لهم قبل الخلائق- و قيل معنى الاية ما فرض اللّه تعظيم السبت و تحريمه الأعلى الذين اختلفوا فيه يعنى اليهود فقال قوم هو أعظم الأيام لان اللّه فرغ من خلق الأشياء يوم الجمعة ثم سبت يوم السبت- و قال قوم بل أعظم الأيام يوم الأحد لان اللّه ابتدا فيه خلق الأشياء فاختاروا تعظيم غير ما فرض عليهم- و قد افترض اللّه عليهم تعظيم يوم الجمعة و قيل معنى الاية انما جعل السبت لعنة و مسخا على الذين اختلفوا فيه قال قتادة هم اليهود استحله بعضهم يعنى اصطادوا فيه السمك و حرّمه بعضهم وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) بالمجازاة على الاختلاف فيجازى كل فريق بما يستحقه-. ١٢٥ ادْعُ الناس يا محمّد إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ اى الى الإسلام بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ يعنى بالقران الّذي هو محكم المقالات لا يتطرق اليه الطعن و المعارضة و هو الدليل الموضح للحق المزيح للشبهات و هو الموعظة الحسنة بالترغيب و الترهيب و قيل الموعظة الحسنة هى القول اللين الرقيق من غير غلظة و لا تعسف وَ جادِلْهُمْ اى خاصم الناس و ناظرهم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ اى بالخصومة الّتي هى احسن الخصومات و هى المناظرة على وجه لا يتطرق اليه طغيان النفس و لا وسواس الشيطان بل يكون خالصا لوجه اللّه و إعلاء كلمته إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) يعنى انما عليك البلاغ و الدعوة و اما حصول الهداية و المجازاة عليها و على الضلالة فلا إليك بل اللّه اعلم بالضالين و المهتدين و هو المجازى لهم و اللّه اعلم- روى الحاكم عن جابر بن عبد اللّه رضى اللّه عنهما قال فقد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حمزة حين فاء الناس من القتال يوم أحد فقال رجل رايته عند تلك الصخرة و هو يقول انا اسد اللّه و اسد رسوله اللّهم ابرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعنى أبا سفيان و أصحابه و اعتذر إليك مما صنع هؤلاء بانهزامهم- فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نحوه فلما راى جثته بكى فلما راى ما مثل به شهق ثم قال الا كفن فقام رجل من الأنصار فرمى بثوبه عليه ثم قام اخوه فرمى بثوبه عليه فقال يا جابر هذا الثوب لابيك و هذا العمى- و قال صلى اللّه عليه و سلم رحمة اللّه عليك فانك كنت كما علّمتك فعولا للخيرات وصولا للرحم- لو لا ان تحزن صفية و فى لفظ نساؤنا و فى لفظا و لا حزن ما بعدك عليك و تكون سنة من بعدك لتركتك حتّى تحشر فى بطون السباع و حواصل الطير- ثم قال ابشروا جاءنى جبرئيل فاخبرنى ان حمزة مكتوب فى اهل السموات السبع حمزة بن عبد المطلب اسد اللّه و اسد رسوله- و قال لان ظفرنى اللّه تعالى على قريش فى موطن من المواطن لامثلن بسبعين منهم مكانك- فلمّا راى المسلمون حزن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و غيظه على من فعل بعمه ما فعل قالوا و اللّه لان ظفرنا اللّه تعالى يوما بهم من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب- قال ابو هريرة كما رواه ابن سعد و البزار و ابن المنذر و البيهقي فى الدلائل و الحاكم فنزل جبرئيل (و النبي صلى اللّه عليه و سلم واقف) بخواتيم سورة النحل. ١٢٦ وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ العقوبة و العقاب هو جزاء السيئة و انما سمى الفعل الاول عقوبة و انما هى الثانية لازدواج الكلام كما فى قوله تعالى وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها مع ان الثانية ليست بسيئة و المعنى لا تجاوزوا فى جزاء السيئة عن المماثلة وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ عن الانتقام و المعاقبة لَهُوَ اى الصبر خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) من الانتقام وضع المظهر موضع المضمر و التقدير فهو خير لكم ثناء من اللّه عليهم بانهم صابرون على الشدائد- حث اللّه سبحانه على العفو تعريضا بقوله وَ إِنْ عاقَبْتُمْ و تصريحا على الوجه الاكد بقوله وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ الاية- ثم صرح بالعفو لرسوله صلى اللّه عليه و سلم لانه اولى الناس به لوفور علمه و وثوقه عليه فقال. ١٢٧ وَ اصْبِرْ على أذى الكفار وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللّه اى بتوفيقه و اعانته وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ اى على الكافرين او على المؤمنين و ما فعل بهم وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ اى ضيق صدر مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) اى الكفار بالمؤمنين يعنى لا تهتم بمكرهم فانا ناصرك عليهم و علينا جزاؤهم- قرا ابن كثير هاهنا و فى النمل ضيق بكسر الضاد و الباقون بالفتح فى الموضعين و هما لغتان كالقول و القيل- و قال ابو عمرو الضيق بالفتح الغم و بالكسر الشدة و قال ابو عبيدة الضيق بالكسر قلة فى المعاش و المساكن فاما ما كان فى القلب و الصدر فانه بالفتح و هذان القولان يأبى عنهما كتاب اللّه فان القرائتين متواترتان و المراد انما هو الغم فالصحيح ما قالوا انهما لغتان بمعنى- و قال ابو قتيبة الضيق بالفتح تخفيف ضيّق مثل هين و هيّن و لين و ليّن فعلى هذا هو صفة كانه قال فلا تكن فى امر ضيّق من مكرهم. ١٢٨ إِنَّ اللّه مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا المعاصي وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨) فى أعمالهم او مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا اللّه بتعظيم امره وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ بالشفقة على خلقه- او مع الّذين اتّقوا العدوان فى المعاقبة وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ الى الناس بالعفو فاللّه معهم بالولاية و الفضل و العون و النصر «١» معية ذاتية لا كيف لها- قال ابو هريرة فى الحديث المذكور الّذي رواه ابن سعد و غيره فكفّر النبي صلى اللّه عليه و سلم عن يمينه و امسك عن الّذي أراد و صبر يعنى لما نزلت لهذه الآيات- و روى ابن المنذر و الطبراني و البيهقي عن ابن عباس نحو ما روى عن ابى هريرة رضى اللّه عنهم فى شأن نزول الاية- و قد ذكرنا فى صدر السورة رواية ابن إسحاق و ابن جرير عن عطاء فى نزول الاية نحوه- و روى الترمذي و حسنه و عبد اللّه بن الامام احمد فى زوائد المسند و النسائي و ابن المنذر و ابن خزيمة و ابن حبان و الضياء فى صحيحيهما عن أبيّ بن كعب رضى اللّه عنه قال لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار اربعة و ستون رجلا و من المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا بهم- فقالت الأنصار لان أصبنا منهم يوما مثل هذا لنرثينّ عليهم- فلما كان فتح مكة انزل اللّه تعالى وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ «٢» خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نصبر و لا نعاقب كفوا عن القوم الا اربعة- و قال البغوي نزلت الاية فى شهداء أحد و ذلك ان المسلمين لما راوا ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد من تبقير البطون و المثلة السيئة حتّى لم يبق أحد من قتلى المسلمين الأمثل به- غير حنظلة بن الراهب غسيل الملائكة فان أباه أبا عامر الراهب (قلت الّذي سماه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أبا عامر الفاسق) كان مع ابى سفيان فتركوا حنظلة لذلك- فقال المسلمون حين راوا ذلك لان أظهرنا اللّه عليهم لنزيدن على صنيعهم و لنمثلنّ بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد- فوقف رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على عمه حمزة و قد جدعوا انفه و اذنه و قطعوا مذاكيره و بقروا بطنه- و أخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها ثم اشترطتها لتأكلها فلم تلبث فى بطنها حتّى رمت بها- فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال اما انها لو اكلتها لم تدخل النار ابدا- حمزة أكرم على اللّه من ان يدخل شيئا من جسده النار- فلما نظر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الى عمه حمزة نظر الى شي ء لم ينظر الى شي ء (١) و فى الأصل و معية ذاتية. (٢) و فى الأصل فهو-. قط كان أوجع لقلبه منه فقال صلى اللّه عليه و سلم رحمة اللّه عليك أبا السائب فانك ما علمت ما كنت الا فعالا للخيرات وصولا للرحم و لو لا حزن من بعدك عليك لسرّنى ان أدعك حتّى تحشر من أفواج شتى- اما و اللّه لان ظفرنى اللّه بهم لامثلن منهم بسبعين مكانك فانزل اللّه تعالى هذه الآيات فقال صلى اللّه عليه و سلم بل نصبر و امسك عما أراد و كفّر عن يمينه- (فائدة) حديث أبيّ بن كعب يدل على تأخر نزول الآيات الى الفتح و فى حديث ابى هريرة و ابن عباس و عطاء بن يسار رضى اللّه عنهم نزولها بأحد- و جمع ابن الحصار بانها نزلت اولا بمكة ثم ثانيا بأحد ثم ثالثا بعد الفتح تذكيرا من اللّه لعباده- قال البغوي قال ابن عباس و الضحاك رضى اللّه عنهم كان حكم هذه الاية قبل نزول براءة حين امر النبي صلى اللّه عليه و سلم بقتال من قاتله و منع من الابتداء بالقتال فلما أعز اللّه الإسلام و اهله و نزلت براءة و أمروا بالجهاد نسخت هذه الاية- و قال النخعي و الثوري و السدى و مجاهد و ابن سيرين رحمهم اللّه الاية محكمة نزلت فيمن ظلم بظلامة فلا يحل له ان ينال من ظالمه اكثر مما نال الظالم منه امر بالجزاء او العفو و منع من الاعتداء مسئلة المثلة لا يجوز اجماعا روى ابن إسحاق عن سمرة بن جندب رضى اللّه عنه قال ما قام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى مقام قط ففارقه حتّى امر بالصدقة و نهى عن المثلة- و قد روى فى النهى عن المثلة أحاديث كثيرة و اللّه اعلم- |
﴿ ٠ ﴾