سُورَةُ الْإسْرَاءِ مَكِّيَّةٌ وَهِيَ مِائَةٌ وَإِحْدَى عَشَرَةَ آيَةً مائة و احدى عشرة اية مكية الا و ان كادوا ليفتنونك الى اخر ثمان آيات ربّ يسّر و تمّم بالخير «١» بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) الخطبة من الناشر-. _________________________________ ١ سُبْحانَ اسم بمعنى التسبيح الّذي هو التنزيه و قد يستعمل علما له فيقطع عن الاضافة و بمنع الصرف و انتصابه بفعل متروك إظهاره تقديره سبحوا اللّه سبحان او اسبح اللّه سبحانه- ثم نزل سبحان منزلة الفعل فسد مسده و دل على التنزيه البليغ و تصدير الكلام به للتنزيه عن العجز عما ذكر بعد و يكون بمعنى التعجب الَّذِي أَسْرى يعنى سيّر ليلا بِعَبْدِهِ محمّد صلى اللّه عليه و سلم لَيْلًا منصوب على الظرف و فائدة ذكره مع ان الاسراء لا يكون الا بالليل الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الاسراء مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كما فى الصحيحين عن انس عن مالك بن صعصعة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال بينا انا فى المسجد الحرام بين النائم و اليقظان إذا تأنى جبرئيل بالبراق- و فى لفظ بينما انا فى الحطيم مضطجعا إذا تأنى ات الحديث- و قد ذكرناه فى تفسير سورة النجم- و قيل كان الاسراء من دار أم هانى فالمراد بالمسجد الحرام حينئذ الحرم سماه المسجد الحرام لان كله مسجد- او لانه محيط به ليطابق المبدا المنتهى- و يدل على كون النبي صلى اللّه عليه و سلم فى البيت دون المسجد ما فى الصحيحين عن انس عن ابى ذر يحدث عن النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال ففرج عنى سقف بيتي و انا بمكة الحديث و ذكرناه ايضا فى سورة النجم- و ما رواه ابو يعلى فى مسنده و الطبراني فى الكبير من حديث أم هانى انه كان فى بيت أم هانى فاسرى به فرجع من ليلته و قص القصة عليها- و قال مثل لى النبيون فصليت بهم- ثم خرج الى المسجد و اخبر به قريشا فتعجبوا منه استحالة- و ارتد ناس ممن أمن به- و سعى رجال الى ابى بكر فقال ان كان قال ذلك فقد صدق قالوا أ تصدقه على ذلك قال انى لاصدقه على ابعد من ذلك و سمى بذلك الصديق- و استنعته طائفة سافروا الى بيت المقدس فحلى له فطفق ينظر اليه و ينعته لهم فقالوا اما النعت فقد أصاب فقالوا أخبرنا عن عيرنا فاخبرهم بعدد جمالها و أموالها و قال يقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جملا أورق- فخرجوا يشتدون الى الثنية فصادفوا العير كما أخبرهم ثم لم يؤمنوا او قالوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ- و قلت و يمكن الجمع بين الحديثين بتعدد المعراج مرة من الحطيم و مرة من بيت أم هانى- قال البغوي قال مقاتل كانت ليلة الاسراء قبل الهجرة بسنة يقال كان فى رجب و قيل فى شهر رمضان- إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى يعنى البيت المقدس سمى أقصى لبعده من المسجد الحرام و لم يكن حينئذ وراءه مسجد- و تعجب قريش لبعده و استحالوه قال البيضاوي و الاستحالة مدفوعة بما ثبت فى الهندسة ان ما بين طرفى قرص الشمس ضعف ما بين طرفى كرة الأرض مائة و نيفا و ستين مرة- ثم ان طرفها الأسفل يصل موضع طرفها الا على فى الأقل من ثانية- و قد برهن فى الكلام ان الأجسام متساوية فى قبول الاعراض و ان اللّه تعالى قادر على كل شي ء من الممكنات فيقدر ان يخلق مثل هذه الحركة السريعة او اسرع منها فى بدن النبي صلى اللّه عليه و سلم او فيما يحمله- و التعجب من لوازم المعجزات الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ بالأنهار و الأشجار و الثمار و قال مجاهد سماه مباركا لانه مقر الأنبياء و مهبط الملائكة و الوحى و منه يحشر الناس يوم القيامة لِنُرِيَهُ يعنى عبده محمّدا صلى اللّه عليه و سلم مِنْ آياتِنا اى بعض عجائب قدرتنا كذهابه فى برهة من الليل الى مسيرة أربعين ليلة و من هناك الى السموات و تمثيل الأنبياء له و ما راى فى تلك الليلة من آيات ربه الكبرى- و صرف الكلام من الغيبة الى التكلم لتعظيم تلك الآيات إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لاقوال النبي صلى اللّه عليه و سلم و المجيب لدعائه الْبَصِيرُ (١) لافعاله و أحواله الحفيظ له فى ظلمة الليل- قال البغوي و روى عن عائشة انها كانت تقول ما فقد جسد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و لكن اللّه اسرى بروحه- يعنى فى المنام و يدل عليه ما رواه البخاري من حديث انس بن مالك يقول ليلة اسرى برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من مسجد الكعبة انه جاء ثلاثة نفر قبل ان يوحى اليه و هو نائم فى المسجد الحرام فقال أولهم ايّهم هو فقال أوسطهم هو خيرهم فقال آخرهم خذوا خيرهم- فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتّى أتوه ليلة اخرى فيما يرى قلبه و ينام عينه و لا ينام قلبه- و كذلك الأنبياء ينام أعينهم و لا ينام قلوبهم- فلم يكلموه حتّى احتملوه فوضعوه عند زمزم فشق جبرئيل ما بين نحره الى لبته حتّى فرغ من صدره و جوفه فغسله من ماء زمزم بيده- و ساق حديث المعراج بقصته- فاذا هو فى السماء الدنيا بنهرين يطردان قال هذا النيل و الفرات عنصرهما- ثم مضى به فى السماء فاذا هو بنهر اخر عليه قصر من لؤلؤ و زبرجد فضرب بيده فاذا هو مسك أذفر- قال ما هذا يا جبرئيل قال هذا الكوثر الّذي خبأ لك ربك و ساق الحديث و قال ثم عرج بي الى السماء السابعة و قال قال موسى رب لم أظن ان يرفع علىّ أحد- ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه الا اللّه- حتّى جاء سدرة المنتهى و دنا الجبار رب العزة فتدلى- حتّى كان منه قاب قوسين او ادنى فاوحى اليه ما اوحى خمسين صلوة كل يوم و ليلة فلم يزل يردده موسى الى ربه حتّى صارت الى خمس صلوات- ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال يا محمّد و اللّه لقد راودت بنى إسرائيل قومى على ادنى من هذا فضعفوا عنه و تركوه- و أمتك أضعف أجسادا و قلوبا و أبدانا و ابصارا و اسماعا - فارجع فليخفف عنك ربك كل ذلك يلتفت النبي صلى اللّه عليه و سلم الى جبرئيل ليشير عليه و لا يكره ذلك جبرئيل- فرفعه عند الخامسة فقال يا رب ان أمتي ضعفاء أجسادهم و قلوبهم و استماعهم و أبدانهم فخفف عنا- فقال الجبار يا محمّد فقال لبيك و سعديك- قال انه لا يبدل القول لدىّ كما فرضت عليك فى أم الكتاب فكل حسنة بعشر أمثالها فهى خمسون فى أم الكتاب و هى خمس عليك- فقال موسى ارجع الى ربك فسئله فليخفف عنك ايضا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و اللّه «١» قد استحييت من ربى فيما اختلفت عليه- قال فاهبط بسم اللّه فاستيقظ و هو فى المسجد الحرام- و روى مسلم هذا الحديث مختصرا فان قوله فاستيقظ و هو فى المسجد الحرام يدل على كونه رؤيا فى المنام- و الأكثرون على ان اللّه تعالى اسرى بعبده محمّد «٢» صلى اللّه عليه و سلم ليلة المعراج بجسده فى اليقظة و تواترت الاخبار الصحيحة بذلك و عليه انعقد الإجماع- و لو كان المعراج فى المنام لما أنكر عليه قريش إذ لا استبعاد فى الرؤيا- قال البغوي قال شيخنا الامام رضى اللّه عنه قد قال بعض اهل الحديث ما وجدنا لمحمّد بن اسمعيل و لمسلم فى كتابيهما شيئا لا يحتمل مخرجا الا هذا الحديث المذكور الّذي يدل على كون الاسراء فى المنام بروحه و أحال الآفة فيه الى شريك بن عبد اللّه و أنكر ايضا على ان ذلك قبل ان يوحى اليه- و قد اتفق اهل العلم على ان المعراج كان بعد الوحى بنحو من اثنى عشر سنة قبل الهجرة بسنة- ثم قال البغوي قال شيخنا الامام هذا الاعتراض عندى لا يصح لان هذا كان رؤيا فى المنام أراه اللّه تعالى قبل الوحى- ثم عرج به فى اليقظة بعد الوحى قبل الهجرة بسنة تحقيقا لرؤياه من قبل- كما انه راى فتح مكة فى المنام عام الحديبية سنة ست من الهجرة ثم كان تحقّقه سنة ثمان و اللّه اعلم- قال البغوي روى انه لما رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليلة اسرى به فكان بذي طوى قال يا جبرئيل ان قومى لا يصدقونى قال يصدقك ابو بكر و هو الصديق- قال البغوي قال ابن عباس و عائشة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لما كان ليلة اسرى بي فاصبحت بمكة قطعت بامرى و عرفت ان الناس مكذبى- فروى انه صلى اللّه عليه و سلم قعد معتزلا محزونا- فمر به ابو جهل فجلس اليه فقال له كالمستهزئ هل استفدت من شي ء- قال نعم قال انى اسرى بي الليلة قال الى اين قال الى بيت المقدس قال ثم أصبحت بين ظهر أنينا قال نعم- فلم ير ابو جهل ان ينكر ذلك مخافة ان يجحده الحديث ثم قال أتحدث قومك بما حدثتنى قال نعم- فقال ابو جهل يا معشر بنى كعب بن لوى هلم- قال فانتقضت المجالس (١) و فى الأصل قد و اللّه استحييت. (٢) و فى الأصل محمّدا. فجاءوا حتّى جلسوا إليهما- قال فحدث قومك ما حدثتنى قال نعم انى اسرى بي الليلة قالوا الى اين قال الى بيت المقدس قالوا ثم أصبحت بين ظهرانينا قال نعم- قال فمن بين مصفق و من بين واضع يده على رأسه متعجبا- و ارتد ناس ممن كان أمن به و صدقه- و سعى رجل من المشركين الى ابى بكر فقال هل لك فى صاحبك يزعم انه اسرى به الليلة الى بيت المقدس- قال أوقد قال ذلك قالوا نعم قال ان كان قال ذلك لصدق- قالوا و تصدقه انه ذهب الى بيت المقدس فى ليلة و جاء قبل ان يصبح قال نعم انى لاصدقه بما هو ابعد من ذلك أصدقه بخبر السماء فى غدرة و روحة- فلذلك سمى ابو بكر الصديق قال و فى القوم من قد اتى المسجد الأقصى فقالوا هل تستطيع ان تنعت لنا المسجد قال نعم- قال فذهبت انعت و انعت فما زلت انعت حتّى التبس علىّ بعض النعت- قال فجي ء بالمسجد و انا انظر اليه حتّى وضع دون دار عقيل فنعت المسجد و انا انظر اليه- فقالوا اما النعت فو اللّه لقد أصاب ثم قالوا يا محمّد أخبرنا عن عيرنا فهى أهم إلينا فهل لقيت منها شيئا- قال نعم مررت على عير بنى فلان و هى بالروحاء قد أضلوا بعيرا لهم و هم فى طلبه- و فى رحالهم قدح من ماء فعطشت فاخذته فشربته ثم وضعته كما كان فسلوهم هل وجدوا الماء فى القدح حين رجعوا اليه قالوا هذه اية- قال و مررت بعير بنى فلان و فلان و فلان راكبان قعودا لهما بذي مر فنفر بعيرهما منى «١» فاسئلوهما عن ذلك قالوا و هذه اية- قالوا و أخبرنا عن عيرنا قال مررت بها بالتنعيم قالوا فما عدتها و احمالها و هيئتها قال كنت فى شغل عن ذلك ثم مثلت له مكانه بالحرورة بعدتها و هيئتها و من فيها- قال نعم هيئتها كذا و كذا و فيها فلان يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان يطلع عليكم عند طلوع الشمس- قالوا و هذه اية فخرجوا يشتدون نحو الثنية و هم يقولون و اللّه لقد قص محمّد شيئا و بيّنه حتّى أتوا كداء فجلسوا عليه فجعلوا ينتظرون متى تطلع الشمس فيكذّبونه إذ قال قائل منهم و اللّه هذه الشمس قد طلعت و قال الاخر و اللّه و هذه الإبل قد طلعت يقدمها بعير أورق فيها فلان و فلان كما قال لهم فلم يؤمنوا و قالوا ان هذا السحر مبين- و روى مسلم عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لقد رايتنى فى الحجر و قريش تسئلنى عن مسراى- فسالنى عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربا ما كربت مثله قط- فرفعه اللّه لى انظر اليه ما يسئلونى عن شي ء الا انبأتهم به- و قد رايتنى فى جماعة من الأنبياء و إذا موسى قائم يصلى فاذا رجل ضرب جعد كانّه من رجال شنوة أشبه الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي- و إذا ابراهيم قائم يصلى أشبه الناس به صاحبكم (يعنى نفسه) فحانت الصلاة فاممتهم فلما فرغت من الصلاة قال لى قائل يا محمّد هذا مالك صاحب النار فسلم عليه فالتفت اليه فبدانى بالسلام- و روى البخاري فى الصحيح قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليلة اسرى به لقيت موسى (قال فنعته) فاذا هو رجل (حسبته قال) مضطرب رجل الرأس كانه من رجال شنؤة قال و لقيت عيسى (فنعته النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال) ربعة احمر كانّما خرج من ديماس يعنى الحمام و رايت ابراهيم و انا أشبه ولده به قال و أوتيت بانائين أحدهما فيه لبن و الاخر فيه خمر فقيل لى خذ أيهما شئت فاخذت اللبن فشربته فقال لى هديت الفطرة او أصبت الفطرة اما لو أخذت الخمر غوت أمتك- و فى الصحيحين عن جابر انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول لمّا كذّبنى قريش فى الحجر فجلى اللّه بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته و انا انظر اليه و قد ذكرنا أحاديث اخر فيها قصة المعراج الى السموات السبع و سدرة المنتهى فى سورة النجم. (١) فرمى لفلان فانكسرت يده- كذا فى البغوي عبد الرّحمن غفر له مدرس و مفتى مدرسه امينيه دهلى. ٢ قوله تعالى وَ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التورية وَ جَعَلْناهُ اى موسى او الكتاب هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا ان مفسرة لفعل دل عليه الكتاب يعنى كتبنا و فيه معنى القول تقديره كتبنا إليهم أَلَّا تَتَّخِذُوا او مقدر بحرف الجر يعنى لان لا تتّخذوا و قيل ان زائدة و القول مضمر- قرا ابو عمرو لا يتّخذوا بالياء التحتانية على الغيبة و الباقون بالتاء الفوقانية على الخطاب مِنْ دُونِي وَكِيلًا (٢) ربّا تتوكلون عليه و تكلون اليه أموركم غيرى يا. ٣ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ فى السفينة فانجيناهم- فيه تذكير لانعام اللّه عليهم فى إنجاء ابائهم من الغرق بحملهم مع نوح فى السفينة ذرية منصوب على الاختصاص او النداءان قرئ لا تتخذوا بالتاء الفوقانية للخطاب او على انه أحد مفعولى لا تتخذوا و من دونى حال من وكيلا فيكون كقوله تعالى وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً ... إِنَّهُ يعنى نوحا عليه السلام كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) اى كثير الشكر اخرج ابن مردوية عن ابى فاطمة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال كان نوح لا يعمل شيئا صغيرا و لا كبيرا الا قال بسم اللّه و الحمد للّه فسماه اللّه عبدا شكورا و اخرج ابن جرير و الطبراني عن سعد بن مسعود الثقفي الصحابي رضى اللّه عنه قال انما سمى نوح عبدا شكورا لانه كان إذا أكل او شرب او لبس ثوبا حمد اللّه و فيه حث على الشكر يعنى أنتم ذرية من أمن به و حمل معه فكونوا مثله-. ٤ قوله تعالى وَ قَضَيْنا اى أوحينا وحيا مقضيّا مبتوتا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ التورية بانكم لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ ارض الشام و قال ابن عباس و قتادة كلمة الى بمعنى على و معنى الاية و قضينا على بنى إسرائيل فى الكتاب اى اللوح المحفوظ لتفسدن جواب قسم محذوف او جواب لقضينا اجراء للقضاء المبتوت مجرى القسم مَرَّتَيْنِ إفسادتين اولا هما ان خالفوا احكام التورية و ركبوا المحارم و قتلوا شعيا بن امضيا - و ثانيتهما ان قتلوا زكريا و يحيى و قصدوا قتل عيسى عليهم السلام- و قيل اولاهما قتل زكريا و ثانيتهما قتل يحيى و قصد قتل عيسى عليهم السلام وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) يعنى لتستكبرون عن طاعة اللّه و تظلمون الناس. ٥ فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما اى وعد عقاب اولاهما بَعَثْنا اى سلطنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا يعنى سخاريب من اهل نينوى كذا قال سعيد بن جبير و قال قتادة يعنى جالوت و جنوده الّذي قتله داؤد عليه السلام و قال ابن إسحاق بخت نصر البابلي قال البغوي و هو الأظهر أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ اى ذوى قوة و بطش فى الحرب فَجاسُوا اى تردّدوا خِلالَ الدِّيارِ اى وسط دياركم يطلبونكم و يقتلونكم قال الزجاج الجوس طلب الشي ء بالاستقصاء و قال الفراء جاسوا اى قتلوكم بين بيوتكم وَ كانَ وعد عقابكم وَعْداً مَفْعُولًا (٥) اى لا بد ان يفعل. ٦ ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ اى الدولة و الغلبة عَلَيْهِمْ اى على الذين بعثوا قال البيضاوي و ذلك بان اللّه القى فى قلب بهمن بن إسفنديار لما ورث الملك من جده كستاسف بن لهراسف شفقة عليهم- فرد اسراهم الى الشام و ملّك دانيال عليهم و استولوا على من كان فيها من اتباع بخت نصر او بان سلط داؤد على جالوت فقتله وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) ممّا كنتم و النفير من ينفر مع الرجل من قومه- و قيل هو جمع نفر على وزن عبيد و النفر قوم مجتمعون للذهاب الى العدو- فلما رد اللّه لهم الكرة عاد البلد احسن مما كان- قال اللّه تعالى. ٧ إِنْ أَحْسَنْتُمْ بالطاعة أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ لان ثوابه لها و اللّه تعالى غنى عن طاعتكم وَ إِنْ أَسَأْتُمْ بالفساد فَلَها ذكر اللام موضع عليها ازدواجا يعنى و بالها عليها فَإِذا جاءَ وَعْدُ اى وقت وعد عقوبة المرة الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ اى بعثناهم ليسوءوا وجوهكم اى يجعلوها بادية اثار المساءة فيها- حذف بعثنا هاهنا لدلالة ذكره اولا عليه- قرا الكسائي و يعقوب «١» لنسوءا بالنون و فتح الهمزة على التكلم و التعظيم على وفق قضينا و بعثنا و قرا ابن عامر و حمزة و ابو بكر بالياء التحتانية و فتح الهمزة على صيغة الغائب الواحد اى ليسوءا اللّه وجوهكم او ليسوءا الوعد او البعث و الباقون بالياء التحتانية و ضم الهمزة على صيغة الجمع المذكر للغائب اى ليسوءوا العباد أولوا البأس الشديد وجوهكم- قال البغوي سلط اللّه عليهم الفرس و الروم و خردوش و ططيوس حتّى قتلوهم و سبوهم و نفوهم عن ديارهم وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ يعنى بيت المقدس و نواحيه كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا اى ليهلكوا ما عَلَوْا اى ما غلبوا و استولوا عليه او مدة علوهم تَتْبِيراً (٧) قال البغوي قال محمّد بن إسحاق كانت بنوا إسرائيل فيهم الأحداث و الذنوب و كان اللّه فى ذلك متجاوزا عنهم محسنا إليهم و كان أول ما نزل بهم بسبب ذنوبهم كما اخبر اللّه على لسان موسى عليه السلام ان ملكا منهم كان يدعى صديقه و كان اللّه تعالى إذا ملك الملك عليهم بعث معه نبيّا يسدّده و يرشده لا ينزل عليهم الكتب انما يؤمرون باتباع التورية و الاحكام الّتي فيها فلما ملك ذلك الملك بعث اللّه معه شعيا بن امضيا و ذلك قبل مبعث زكريا و يحيى و عيسى عليهم السلام- و شعيا (١) و يعقوب مع ابى عمرو- ابو محمّد. هو الّذي بشر بعيسى و محمّد عليهما الصلاة و السلام فقال أبشري أورشليم الان يأتيك راكب الحمار و من بعده صاحب البعير- فملك ذلك الملك بنى إسرائيل و بيت المقدس زمانا فلما انقضى ملكه عظمت فيهم الأحداث و شعيا معه بعث اللّه سخاريب ملك بابل معه ستمائة الف رأية فاقبل سائرا حتّى نزل حول بيت المقدس- و الملك مريض فى ساقه قرحة- فجاء النبي شعيا فقال له يا ملك بنى إسرائيل ان سخاريب ملك بابل قد نزل بك هو و جنوده بستمائة الف رأية و قدها بهم الناس و فرقوا- فكبر ذلك على الملك فقال يا نبى اللّه هل أتاك وحي من اللّه فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل اللّه بنا و بسخاريب و جنوده- فقال لم يأتينى وحي فبينماهم على ذلك اوحى اللّه الى شعيا النبي عليه السلام ان ايت ملك بنى إسرائيل فمره ان يوصى وصية و يستخلف على ملكه من يشاء من اهل بيته- فاتى شعيا ملك بنى إسرائيل صديقة فقال ان ربك قد اوحى الىّ ان أمرك ان توصى وصيتك و تستخلف من شئت على ملكك من اهل بيتك فانك ميّت- فلما قال ذلك شعيا لصديقة اقبل على قبلته فصلّى و دعا و بكى فقال و هو يتضرع و يبكى و يتضرع الى اللّه بقلب مخلص- اللّهم رب الأرباب و اله الالهة يا قدوس المتقدس يا رحمان يا رءوف الّذي لا تأخذه سنة و لا نوم اذكرني بعملي و فعلى و حسن قضائى على بنى إسرائيل و ذلك كله منك و أنت اعلم به منى سرى و علانيتى لك- و ان الرحمان استجاب دعاءه و كان عبدا صالحا- فاوحى اللّه الى شعيا ان تخبر صديقة ان ربه قد استجاب له و رحمه و اخّر اجله خمس عشرة سنة و أنجاه من عدوه سخاريب- فاتاه شعيا فاخبره بذلك- فلما قال له ذلك ذهب عنه الروع و انقطع عنه الحزن و خرّ ساجدا و قال يا الهى و اله ابائى لك سجدت و سبحت و كرّمت و عظّمت أنت الّذي تعطى الملك من تشاء و تنزع الملك ممن تشاء و تعز من تشاء و تذل من تشاء عالم الغيب و الشهادة أنت الاول و الاخر و الظاهر و الباطن و أنت ترحم و تستجيب دعوة المضطرين أنت الّذي أجبت دعوتى و رحمت تضرعى فلما رفع رأسه اوحى اللّه الى شعيا ان قل للملك صديقة فيامر عبدا من عبيده فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى فيصبح و قد برئ ففعل فشفى- و قال الملك لشعيا سل ربك ان يجعل لنا علما بما هو صانع بعدونا هذا قال اللّه لشعيا قل انى قد كفيتك عدوك و انجيتك منهم و انهم سيصبحون كلهم موتى الا سخاريب و خمسة نفر من كتّابه- فلما أصبحوا جاء صارخ فصرخ على باب المدينة يا ملك بنى إسرائيل ان اللّه قد كفاك عدوك- فاخرج فان سخاريب و من معه قد هلكوا- فلمّا خرج الملك التمس سخاريب فلم يوجد فى الموتى فارسل الملك فى طلبه فادركه الطلب فى مغارة و خمسة نفر من كتابه أحدهم بخت نصر- فجعلوهم فى الجوامع ثم أتوا بهم ملك بنى إسرائيل فلما راهم خرّ ساجدا من حين طلعت الشمس الى العصر- ثم قال لسخاريب كيف ترى فعل ربنا بكم الم يقتلكم بحوله و قوته و نحن و أنتم غافلون- فقال سخاريب قد أتاني خبر ربكم و نصره إياكم و رحمته الّتي يرحمكم بها قبل ان اخرج من بلادي فلم أطع مرشدا و لم يلقنى فى الشقوة إلا قلة عقلى و لو سمعت او عقلت ما غزوتكم- فقال صديقة الحمد للّه رب العزة الّذي كفاناكم بما شاء ان ربنا لم يبقك و من معك لكرامتك على ربك و لكنه انما أبقاك و من معك لتزدادوا شقوة فى الدنيا و عذابا فى الاخرة- و لتخبروا من ورائكم بما رايتم من فعل ربنا بكم فتنذر من بعدكم- و لو لا ذلك لقتلتكم و لدمك و دم من معك أهون على اللّه من دم قراد لو قتلت ثم ان ملك بنى إسرائيل امر امير حرسه فقذف فى رقابهم الجوامع و طاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس و ايليا و كان يرزقهم كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم- فقال سخاريب لملك بنى إسرائيل القتل خير مما تفعل بنا فامر بهم الملك الى سجن القتل- فاوحى الى شعيا النبي عليه السلام ان قل لملك بنى إسرائيل يرسل سخاريب و من معه لينذروا من ورائهم و ليكرمهم و ليحملهم حتّى يبلغوا بلادهم فبلّغ شعيا الملك ذلك ففعل الملك صديقة ما امر به- فخرج سخاريب و من معه حتّى قدموا بابل فلما قدموا جمع الناس فاخبرهم كيف فعل اللّه بجنوده فقال له كهانه و سحرته يا ملك بابل قد كنا نقص عليك خبر ربهم و خبر نبيهم و وحي اللّه الى نبيهم فلم تطعنا و هى امة لا يستطيعها أحد مع ربهم- و كان امر سخاريب تخويفا لهم ثم كفاهم اللّه تذكرة و عظة ثم لبث سخاريب بعد ذلك سبع سنين ثم مات و استخلف بخت نصر ابن ابنه فخلف بخت نصر على ما كان عليه جده يعمل عمله فلبث سبع عشرة سنة- ثم قبض اللّه ملك بنى إسرائيل صديقة فمرج امر بنى إسرائيل و تنافسوا الملك بعده حتّى قتل بعضهم بعضا و نبيهم شعيا عليه السلام معهم و لا يقبلون منه فلما فعلوا ذلك قال اللّه لشعيا تم فى قومك فاوحى على لسانك فلما قام النبي انطق اللّه على لسانه بالوحى فقال يا سماء اسمعي و يا ارض انصتى فان اللّه يريد ان يقص شأن بنى إسرائيل الذين رباهم بنعمته و اصطنعهم لنفسه و خصّهم بكرامته و فضلهم على عباده- و هم كالغنم الضائعة الّتي لا راعى لها فاوى شاذتها و جمع ضالتها و جبر كسيرها و داوى مريضها و اسمن مهزولها و حفظ سمينها- فلمّا فعل ذلك بطرت فتنا طحت فقتل بعضها بعضا حتّى لم يبق منها عظم صحيح يجبر اليه اخر كسير- فويل لهذه الامة الخاطئة الذين لا يدرون انّى جاءهم الحين- ان البعير مما يذكر وطنه فيستابه و ان الحمار مما يذكر الارى الّذي يشبع عليه فيراجعه و ان الثور مما يذكر الارى الّذي يشبع عليه فيراجعه و ان الثور مما يذكر المرح الّذي سمن منه فينتابه- و ان هؤلاء القوم لا يذكرون من حيث جاءهم الحين و هم أولوا الألباب و العقول ليسوا ببقر و لاحمز انى ضارب لهم مثلا فليستمعوه قل لهم كيف ترون فى ارض كانت خواء زمانا خربة مواتا لا عمران فيها- و كان لها ربّ حكيم قوى فاقبل عليها بالعمارة و كره ان يخرب ارضه و هو قوى او ان يقال ضيع و هو حكيم فاحاط عليها جدارا و شيّد فيها قصرا و انط نهرا و صفّ فيها غراسا من الزيتون و الرمان و النخيل و الأعناب و ألوان الثمار كلها- و ولّى ذلك و استحفظه ذا رأى و همة حفيظا قويا أمينا فلمّا اطلعت جاء طلعها خروبا قالوا بئست الأرض هذه- نرى ان يهدم جدارها و قصرها و يدفن نهرها و يقبض فمها و يحرق غرسها حتّى تصير كما كانت أول مرة خرابا مواتا لا عمران فيها- قال اللّه قل لهم فان الجدار دينى و ان القصر شريعتى و ان النهر كتابى و ان القيم نبيى و ان الغراس هم- و ان الخروب الّذي اطلع الغراس أعمالهم الخبيثة و انى قد قضيت عليهم قضاء هم على أنفسهم و انه مثل ضربته لهم- يتقرّبون الىّ بذبح البقر و الغنم و ليس ينالنى اللحم و لا أكله- و يدعون ان يتقرّبوا الىّ بالتقوى و الكف عن ذبح الأنفس الّتي حرمتها فايديهم مخضوبة منها و ثيابهم متزملة بدمائها- و يشيدون لى البيوت مساجد و يطهرون أجوافها و يتنجسون قلوبهم و أجسادها و يدنسوها- و يروقون لى المساجد و يزيّنونها و يخربون عقولهم و اخلاقهم و يفسدونها- فاىّ حاجة لى الى تشييد البيوت و لست أسكنها و اىّ حاجة لى الى ترويق المساجد و لست أدخلها انما أمرت برفعها لا ذكر و اسبح فيها- يقولون صمنا فلم يرفع صيامنا و صلينا فلم تنور صلاتنا و تصدقنا فلم تزك صدقاتنا و دعونا بمثل حنين الحمار و بكينا بمثل عواء الذئاب فى كل ذلك لا يستجاب لنا- قال اللّه فاسألهم ما الّذي يمنعنى ان استجيب لهم الست اسمع السامعين و ابصر الباصرين و اقرب المجيبين و ارحم الراحمين- فكيف ارفع صيامهم و هم يلبّسونه بقول الزور يتقوون عليه بطعمة الحرام- و كيف أنور صلاتهم و قلوبهم صاغية الى من يحاربنى و يحادّنى و ينتهك محارمى- أم كيف يزكوا عندى صدقاتهم و هم يتصدقون باموال غيرهم انما اجر عليها أهلها المعصومين- أم كيف استجيب دعاءهم و انما هو قول بألسنتهم و الفعل من ذلك بعيد انما استجيب للوادع اللين و انما اسمع قول المستعف المسكين- و ان من علامة رضائى رضاء المساكين- يقولون لما سمعوا كلامى و بلّغتهم رسالتى انها أقاويل متقوّلة و أحاديث متوارثة و تأليف مما يؤلف السحرة و الكهنة- و زعموا انهم لو شاءوا ان يأتوا بحديث مثله فعلوا- و لو شاءوا ان يطلعوا على علم الغيب بما يوحى إليهم الشياطين اطلعوا- و انى قد قضيت يوم خلقت السماء و الأرض قضاء أثبته و حتمته على نفسى و جعلت دونه أجلا مؤجلا لا بد انه واقع فان صدقوا بما ينتحلون من علم الغيب فليخبروك متى انفذه او فى اىّ زمان يكون- و ان كانوا ان يقدرون على ان يأتوا بما يشاءون فليأتوا بمثل القدرة الّتي بها أمضيه فانى مظهره على الدين كله و لو كره المشركون و ان كانوا يقدرون على ان يؤلفوا ما يشاءون فليؤلفوا مثل الحكمة الّتي بها ادبّر امر ذلك القضاء ان كانوا صادقين- و انى قد قضيت يوم خلقت السموات و الأرض ان اجعل النبوة فى الاجراء و ان اجعل الملك فى الرعاء و العز فى الأذلاء و القوة فى الضعفاء و الغنى فى الفقراء و العلم فى الجهلة و الحكم فى الأميين- فسلهم متى هذا و من القائم به و من أعوان هذا الأمر و أنصاره ان كانوا يعلمون- فانى باعث لذلك نبيّا اميّا ليس بفظّ و لا غليظ و لاصحاب فى الأسواق و لا متزين بالفحش و لا قوال للحياء- اسدده لكل خميل واهب له كل خلق كريم ثم اجعل السكينة لباسه و البر شعاره و التقوى ضميره و الحكمة معقوله و الصدق و الوفاء طبيعته و العفو و المعروف خلقه و العدل سيرته و الحق شريعته و الهدى امامه و الإسلام ملته و احمد اسمه- اهدى به بعد الضلالة و اعلم به من الجهالة و ارفع به بعد الخمالة و أشهر به بعد النكرة و اكثر به بعد القلة و اغنى به بعد العيلة و اجمع به بعد الفرقة و اؤلف به بين قلوب مختلفة و أهواء متشتة و امم متفرقة- و اجعل أمته خير امة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر توحيدا لى و ايمانا بي و إخلاصا لى- يصلّون لى قياما و قعودا و ركعا و سجودا- و يقاتلون فى سبيلى صفوفا و زحوفا- و يخرجون من ديارهم و أموالهم ابتغاء رضوانى- الهمهم التكبير و التوحيد و التسبيح و التحميد و المدحة و التمجيد لى فى مسيرهم و مجالسهم و مضاجعهم و متقلبهم و مثواهم- يكبرون و يهللون و يقدسون على رءوس الاشراف و يطهرون لى الوجوه و الأطراف و يعقدون الثياب على الانصاف- قربانهم دماؤهم و أناجيلهم صدورهم رهبان بالليل ليوث بالنهار- و ذلك فضلى أوتيه من أشاء و انا ذو الفضل العظيم- فلما فرغ شعيا من مقالته عدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فلقيته شجرة فانفلقت له فدخل فيها فادركه الشيطان و أخذ بهدبة من ثوبه فاراهم إياها فوضعوا المنشار فى وسطها فنشروها حتّى قطعوها و قطعوه فى وسطها- و استخلف اللّه على بنى إسرائيل بعد ذلك رجلا منهم يقال له ناشية بن اموص و بعث لهم ارميا بن حلقيا نبيّا من سبط هارون بن عمران- و ذكر ابن إسحاق انه الخضر عليه السلام و اسمه ارميا سمى الخضر لانه جلس على فروة «١» بيضاء فقام عنها (١) الفروة الأرض اليابسة و قيل الهشيم اليابس من النيان ١٢ نهايه منه رحمه اللّه [.....]. و هى تهتز خضراء فبعث اللّه ارميا الى ذلك الملك يسدده و يرشده ثم عظمت الأحداث فى بنى إسرائيل و ركبوا المعاصي و استحلوا المحارم فاوحى اللّه الى ارميا ان ايت قومك من بنى إسرائيل فاقصص عليهم ما أمرك به و ذكّرهم نعمى و عرفهم باحداثهم- فقال ارميا يا رب انى ضعيف ان لم تقولى عاجز ان لم تبلغنى مخذول ان لم تنصرنى- قال اللّه تعالى الم تعلم ان الأمور كلها تصدر عن مشيّتى و ان القلوب و الالسنة بيدي أقلبها كيف شئت انى معك و لم يصل إليك شي ء معى- فقام ارميا فيهم و لم يدر ما يقول فالهمه اللّه فى الوقت خطبة بليغة بيّن لهم فيها ثواب الطاعة و عقاب المعصية و قال فى آخرها عن اللّه عز و جل و انى حلفت بعزتي لأقيّضنّ لهم فتنة يتحير فيها الحليم و لا سلطنّ عليهم جبارا قاسيا البسه الهيبة و انزع من صدره الرحمة يتبعه عسكر مثل سواد الليل المظلم- ثم اوحى اللّه الى ارميا انى مهلك بنى إسرائيل بيافث و يافث اهل بابل فسلط اللّه عليهم بخت نصر فخرج عليهم فى ستمائة الف رأية و دخل بيت المقدس بجنوده و وطى الشام و قتل بنى إسرائيل حتّى أفناهم و خرّب بيت المقدس و امر جنوده ان يملا كل واحد منهم ترسه ترابا ثم يقذفه فى بيت المقدس ففعلوا ذلك حتّى ملاوه ثم أمرهم ان يجمعوا من فى بلاد بيت المقدس كلهم فاجتمع عندهم كل صغير و كبير من بنى إسرائيل فاختار منهم سبعين الف صبى- فلمّا خرجت غنائم جنده و أراد ان يقسمهم فيهم قالت له الملوك الذين كانوا معه ايها الملك لك الغنائم كلها و اقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بنى إسرائيل- فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فاصاب كل رجل منهم اربعة غلمة- و فرق من بقي من بنى إسرائيل ثلاث فرق فثلثا أقرّ بالشام و ثلثا سبى و ثلثا قتل- و ذهب بناشية بيت المقدس و بالصبيان السبعين الالف حتّى أقدمهم بابل فكانت هذه الوقعة الاولى الّتي انزل ببني إسرائيل بظلمهم فذلك قوله تعالى فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يعنى بخت نصر و أصحابه- ثم ان بخت نصر اقام فى سلطانه ما شاء اللّه- ثم راى رؤيا أعجبته إذ راى شيئا أصابه فانساه الّذي راى- فدعا دانيال و حنانيا و عزاريا و ميشائيل و كانوا من ذرارى الأنبياء و سالهم عنها قالوا أخبرنا عنها نخبرك بتأويلها قال ما أذكرها و لان لم تخبرونى بها و بتأويلها لا نزعن أكتافكم- فخرجوا من عنده فدعوا اللّه و تضرعوا اليه فاعلمهم الّذي سالهم عنه فجاءوه فقالوا رايت تمثالا قدماه و ساقاه من فخار و ركبتاه و فخذاه من نحاس و بطنه من فضة و صدره من ذهب و رأسه و عنقه من حديد (قال صدقتم) فبينا أنت تنظر اليه قد أعجبك أرسل اللّه صخرة من السماء فدقّته فهى الّتي أنسيتها- قال صدقتم فما تأويلها قالوا تأويلها انك اريت ملك الملوك بعضهم كان ألين ملكا و بعضهم كان احسن ملكا و بعضهم كان أشد ملكا- الفخار أضعفه ثم فوقه النحاس أشد منه ثم فوق النحاس الفضة احسن من ذلك و أفضل و الذهب أفضل و احسن من الفضة ثم الحديد ملكك فهو أشد و أعز مما كان قبله و الصخرة الّتي رايت أرسل اللّه من السماء فدقّته هى يبعثه اللّه من السماء فيدق ذلك اجمع و يصير الأمر اليه- ثم ان اهل بابل قالوا لبخت نصر ارايت هؤلاء الغلمان الّذي كنا سالناك ان تعطينا ففعلت فانا قد أنكرنا نساءنا منذ كانوا معنا لقد راينا نساءنا انصرفت عنا وجوههن إليهم فاخرجهم من بين أظهرنا او اقتلهم قال شأنكم بهم فمن أحب منكم ان يقتل من كان فى يده فليفعل- فلما قربوهم الى القتل بكوا الى اللّه و قالوا يا رب أصابنا البلاء بذنوب غيرنا فوعدهم اللّه ان يحييهم فقتلوا الا من استبقى بخت نصر منهم دانيال و حنانيا و عزاريا و ميشائيل- ثم لما أراد اللّه هلاك بخت نصر انبعث فقال لمن فى يده من بنى إسرائيل ارايتم هذا البيت الّذي أخربت و الناس الذين قتلت منهم فما هذا البيت- قالوا هذا بيت اللّه و هؤلاء اهله كانوا من ذرارى الأنبياء فظلموا و تعدّوا فسلطتّ عليهم بذنوبهم- و كان ربهم رب السموات و الأرض و رب الخلق كلهم يكرّمهم و يعزّهم فلمّا فعلوا ما فعلوا اهلكهم و سلط عليهم غيرهم- فاستكبر و ظن انه بجبروته فعل ذلك ببني إسرائيل قال فاخبرونى كيف لى ان اطلع الى السماء العليا فاقتل من فيها و اتخذها ملكا فانى قد فرغت من ملك الأرض- قالوا ما يقدر عليها أحد من الخلائق قال لتفعلن اولا قتلنكم عن آخركم فبكوا و تضرعوا الى اللّه فبعث اللّه عليه بقدرته بعوضة فدخلت منخره حتّى عضت بام دماغه فما كان يقر و لا يسكن حتّى يؤجاله رأسه على أم دماغه فلما مات شقوا رأسه فوجدوا البعوضة عاضة على أم دماغه ليرى اللّه العباد قدرته- و نجّى اللّه من بقي من بنى إسرائيل فى يده فردّهم الى الشام فبنوا فيه و كثروا حتّى كانوا على احسن ما كانوا عليه و يزعمون ان اللّه تعالى أحيا أولئك الذين قتلوا فلحقوا بهم- ثم انهم لما دخلوا الشام دخلوها و ليس معهم عهد من اللّه عز و جل و كانت التورية قد أحرقت- و كان عزير من السبايا الذين كانوا ببابل فرجع الى الشام يبكى عليها ليله و نهاره و قد خرج من الناس و هو كذلك- إذ اقبل اليه رجل و قال يا عزير ما يبكيك قال ابكى على كتاب اللّه و عهده الّذي كان بين أظهرنا لا يصلح دنيانا و آخرتنا غيره قال أ فتحبّ ان ترد إليك ارجع فصم و تطهّر و طهّر ثيابك ثم موعدك هذا المكان غدا- فرجع عزير فصام و تطهّر و طهّر ثيابه ثم عهد الى المكان الّذي وعده فجلس فيه فاتاه ذلك الرجل باناء فيه ماء و كان ملكا بعثه اللّه اليه فسقاه من ذلك الإناء فتمثلت التورية فى صدره- فرجع الى بنى إسرائيل فوضع لهم التورية فاحبوه حبّا لم يحبوا حبه شيئا قط ثم قبضه اللّه- و جعلت بنو إسرائيل بعد ذلك يحدثون الأحداث و يعود اللّه عليهم و يبعث فيهم الرسل ففريقا يكذّبون و فريقا يقتلون حتّى كان اخر من بعث اللّه فيهم من أنبيائهم زكريا و يحيى و عيسى عليهم السلام و كانوا من بيت ال داود فمات زكريا و قيل قتل زكريا- فلما رفع اللّه عيسى من بين أظهرهم و قتلوا يحيى بعث اللّه عليهم ملكا من ملوك بابل يقال له خردوش فسار إليهم باهل بابل حتّى دخل عليهم الشام فلما ظهر عليهم امر رأسا من رءوس جنوده يدعى يبورز أذان صاحب الفيل فقال انى قد كنت حلفت بإلهي لان اظفرت على اهل بيت المقدس لاقتلنهم حتّى تسيل دماؤهم فى وسط عسكرى الا ان لا أجد أحدا اقتله- فامره ان يقتلهم حتّى يبلغ ذلك منهم و ان يبورز أذان دخل بيت المقدس فقام فى البقعة الّتي كانوا يقربون فيها قربانهم- فوجد فيها دما يغلى فسالهم فقال يا بنى إسرائيل ما شأن هذا الدم يغلى أخبروني خبره- قالوا هذا دم قربان لنا قربناه فلم يقبل منا فكذلك يغلى و لقد قرّبنا منذ ثمان مائة سنة القربان فيقبل منا الا هذا- فقال ما صدقتمونى قالوا لو كان كاول زماننا ليقبل منا و لكن قد انقطع منا الملك و النبوة و الوحى فلذلك لم يقبل منا- فذبح منهم يبورز أذان على ذلك الدم سبعمائة و سبعين زوجا من رءوسهم فلم يهدأ- فأمر فاتى بسبعمائة غلام من غلمانهم فذبحهم على الدم فلم يبرد- فلما راى يبورز أذان ان الدم لا يهدا قال لهم يا بنى إسرائيل ويلكم اصدقونى (و اصبروا على امر ربكم فقد طال ما ملكتم فى الأرض تفعلون فيها ما شئتم) قبل ان لا اترك منكم نافخ نار ذكر و لا أنثى الا قتلته- فلمّا راوا الجهد و شدة القتل صدقوا الخبر فقالوا ان هذا دم نبىّ كان ينهانا عن امور كثيرة من سخط اللّه فلو اطعناه فيها لكان ارشد لنا و كان يخبرنا يأمركم فلم نصدقه فقتلناه فهذا دمه- قال يبورز أذان ما كان اسمه قالوا يحيى بن زكريا قال الان صدقتمونى لمثل هذا ينتقم ربكم منكم- فلما راى يبورز أذان انهم صدقوه خر ساجدا و قال لمن حوله أغلقوا أبواب المدينة و اخرجوا من كان هاهنا من جيش خردوش و خلافى بنى إسرائيل- و قال يا يحيى بن زكريا قد علم ربى و ربك ما أصاب قومك من أجلك و ما قتل منهم فاهدا بإذن ربك قبل ان لا أبقى من قومك أحدا فهدا الدم بإذن اللّه- و رفع يبورز أذان عنهم القتل و قال امنت بما امنت به بنو إسرائيل و أيقنت انه لا رب غيره- و قال لبنى إسرائيل ان خردوش أمرني ان اقتل منكم حتّى تسيل دماؤكم وسط عسكره و انى لست أستطيع ان أعصيه- قالوا له افعل ما أمرت به فامرهم فحفروا خندقا و امر باموالهم من الخيل و البغال و الحمير و الإبل و البقر و الغنم فذبحها حتّى سال الدم فى العسكر و امر بالقتلى الذين قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم- فلم يظن خردوش الا ان ما فى الخندق من بنى إسرائيل فلمّا بلغ الدم عسكره أرسل الى يبورز أذان ان ارفع عنهم القتل ثم انصرف الى بابل و قد أفنى بنى إسرائيل او كاد يفنيهم و هى الوقعة الاخيرة الّتي انزل اللّه لبنى إسرائيل فقوله تعالى لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ فكانت الوقعة الاولى بخت نصر و جنوده و الاخرى خردوش و جنوده و كانت أعظم الوقعتين- فلم تقم بعد ذلك لهم رأية و انتقل الملك بالشام و نواحيها الى الروم و اليونانية- الا ان بقايا بنى إسرائيل كثروا و كانت لهم الرياسة ببيت المقدس و نواحيها على غير وجه الملك- و كانوا فى نعمة الى ان بدلوا و أحدثوا الأحداث فسلط اللّه عليهم ططيوس بن اسيانوس الرومي فاخرب بلادهم و طردهم عنها و نزع اللّه عنهم الملك و الرياسة و ضرب عليهم الذلة فليسوا فى امة الا و عليهم الصغار و الجزية و بقي بيت المقدس خرابا الى ايام عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه فعمّره المسلمون بامره- و قال قتادة بعث اللّه عليهم فى الاولى جالوت فسبّى و خرّب ثمّ رددنا لكم الكرّة عليهم فى زمان داؤد- فاذا جاء وعد الاخرة بعث اللّه عليهم بخت نصر فسبّى و خرّب ثم قال. ٨ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ فعاد اللّه عليهم بالرحمة ثم عاد القوم بشر ما بحضرتهم فبعث اللّه عليهم ما شاء نقمته و عقوبته- ثم بعث عليهم العرب كما قال وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ- فهم منهم فى عذاب الى يوم القيامة و ذكر السدىّ بإسناده ان رجلا من بنى إسرائيل راى فى النوم ان خراب بيت المقدس على يدى غلام يتيم ابن ارملة بابل يدعى بخت نصر و كانوا يصدقون فتصدق رؤياهم- فاقبل يسئل عنه حتّى نزل على امه و هو يحتطب فجاء و على رأسه حزمة حطب فالقاها ثم قعدو كلمه ثم أعطاه ثلاثة دراهم فقال اشتر بهذا طعاما و شرابا فاشترى بدرهم لحما و بدرهم خبزا و بدرهم خمرا فاكلوا و شربوا- و فعل فى اليوم الثاني كذلك و فى الثالث كذلك- ثم قال انى أحب ان تكتب لى أمانا ان أنت ملكت يوما من الدهر قال أ تستخر منى- فقال انى لا أسخر منك و لكن ما عليك ان تتخذ بها عندى يدا- فكتب له أمانا فقال ان جئت و الناس حولك قد حالوا بينى و بينك- قال ترفع صحيفتك على قصبة فاعرفك فكتب له و أعطاه- ثم ان ملك بنى إسرائيل كان يكرّم يحيى بن زكريا عليه السلام و يدنى مجلسه و انه هوى بنت امرأته و قال ابن عباس ابنة أخته فسال يحيى فنهاه عن نكاحها- فبلغ ذلك أمها فحقدت على يحيى و عمدت حين جلس الملك على شرابه فالبستها ثيابا رقاقا حمرا و طيبتها و ألبستها الحلي و أرسلتها الى الملك و أمرتها ان تسقيه- فان راودها على نفسه أبت عليه حتّى يعطيها ما سالته- فاذا أعطاها سالته رأس يحيى بن زكريا ان يؤتى به فى طست- ففعلت فلما أرادها فقالت لا افعل حتّى تعطينى ما أسئلك قال ما تسئلنى قالت رأس يحيى بن زكريا فى هذا الطست فقال ويحك سلينى غير هذا- فقالت ما أريد الا هذا فلما أبت عليه بعث فاتى برأسه فوضع بين يديه و الرأس يتكلم يقول لا تحل لك- فلمّا أصبح إذا دمه يغلى فامر بتراب فالقى عليه فاذا الدم يغلى و القى عليه من التراب حتّى بلغ سور المدينة و هو فى ذلك يغلى- فبعث صخابين ملك بابل جيشا إليهم و امّر عليهم بخت نصر فسار بخت نصر حتّى إذا بلغوا ذلك المكان تحصنوا منه فى مداينهم فلما اشتد عليه المقام أراد الرجوع- فخرجت اليه عجوز من عجائز بنى إسرائيل فقالت تريد ان ترجع قبل فتح المدينة قال نعم قد طال مقامى و جاع أصحابي- قالت ارايت ان فتحت لك المدينة تعطينى ما أسئلك فتقتل من أمرك بقتله و تكف إذا امرتك ان تكف قال نعم- قالت إذا أصبحت فاقسم جندك اربعة أرباع ثم أقم على كل زاوية ربعا ثم ارفعوا ايديكم الى السماء فنادوا انّا نستفتحك باللّه بدم يحيى بن زكريا فانها سوف تساقط- ففعلوا فتساقطت المدينة و دخلوا من جوانبها فقالت كف يدك و انطلقت به الى دم يحيى بن زكريا عليهما السلام- و قالت اقتل على هذا الدم حتّى تسكن فقتل عليه سبعين الفا حتّى سكن- فلما سكن قالت كف يدك فان اللّه لم يرض إذا قتل نبى حتّى يقتل من قتله و من رضى بقتله- و أتاه صاحب الصحيفة بصحيفته فكف عنه و عن اهل بيته فخرب بيت المقدس و طرح فيه الجيف و أعانه على خرابه الروم من أجل ان بنى إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا عليهما السلام و ذهب معه وجوه بنى إسرائيل و ذهب بدانيال و قوم من أولاد الأنبياء و ذهب معه برأس جالوت- فلما قدم بابل وجد صخابين قد مات فملك مكانه- و كان أكرم الناس عنده دانيال و أصحابه فحسدهم المجوس و وشوا بهم اليه و قالوا ان دانيال و أصحابه يكذّبون إلهك و لا يأكلون ذبيحتك فسالهم- فقالوا أجل ان لنا ربّا نعبده و لسنا نأكل من ذبيحتكم فامر بخدّ فخدّ لهم و القوا فيه و هم ستة و القى معهم سبع صار ليأكلهم فذهبوا ثم راحوا فوجدوهم جلوسا و السبع مفترش ذراعيه معهم لم يخدش منهم أحدا- و وجدوا معهم رجلا سابعا فقال ما هذا السابع انما كانوا ستة فخرج السابع و كان ملكا فلطمه لطمة فصار فى الوحش و مسخه اللّه سبع سنين- و ذكر وهب ان اللّه تعالى مسخ بخت نصر نسرا فى الطير ثم مسخه ثورا فى الدواب ثم مسخه أسدا فى الوحش فكان مسخه سبع سنين و قلبه فى ذلك قلب انسان ثم رد اللّه اليه ملكه فامن- فسئل وهب أ كان مؤمنا فقال وجدت اهل الكتاب اختلفوا فيه فمنهم من قال مات مؤمنا و منهم من قال احرق بيت اللّه و كتبه و قتل الأنبياء فغضب اللّه عليه فلم يقبل توبته- قال السدىّ ثم ان بخت نصر لما رجع الى صورته بعد المسخ ورد اللّه اليه ملكه كان دانيال و أصحابه أكرم الناس عليه فحسدهم المجوس و قالوا لبخت نصر ان دانيال إذا شرب الخمر لم يملك نفسه ان يبول و كان ذلك فيهم عارّا فحمل لهم طعاما و شرابا فاكلوا و شربوا و قال للبواب انظروا أول من يخرج ليبول فاضربه بالطبرزين و ان قال انا بخت نصر فقل كذبت بخت نصر أمرني- فكان أول من قام ليبول بخت نصر فلما راه شدّ عليه فقال ويحك انا بخت نصر فقال كذبت بخت نصر أمرني فضربه فقتل- قال البغوي هذا ما ذكره فى المبتدأ الا ان رواية من روى ان بخت نصر غزا بنى إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريا عليهما السلام غلط عند اهل السير- بل هم مجمعون على ان بخت نصر انما غزا بنى إسرائيل عند قتلهم شعيا فى عهد ارميا و من وقت ارميا و تخريب بيت المقدس الى مولد يحيى بن زكريا عليهما السلام اربعمائة و احدى و ستون سنة و ذلك انهم يعدون من لدن تخريب بخت نصر بيت المقدس الى حين عمرانه فى عهد كيرش بن اخشورش ابن اصبهبد بابل من قبل بهمن بن إسفنديار سبعين سنة و من بعد عمرانه الى ظهور الإسكندر على بيت المقدس ثمانية و ثمانين سنة ثم من بعد مملكته الى مولد يحيى بن زكريا ثلاثمائة و ثلاثا و ستين سنة و الصحيح من ذلك ما ذكره محمّد بن إسحاق- عَسى رَبُّكُمْ يا بنى إسرائيل أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد ذلك ان أمنتم بمحمّد صلى اللّه عليه و سلم و اصلحتم أعمالكم باتباع القران وَ إِنْ عُدْتُمْ الى المعصية و مخالفة الرسول صلى اللّه عليه و سلم عُدْنا الى العقوبة و الانتقام فرحم اللّه من أمن منهم بمحمّد صلى اللّه عليه و سلم مثل عبد اللّه بن سلام و من معه و النجاشي و كعب الأحبار و غيرهم و أثني عليهم بقوله مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّه آناءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ إلخ و بقوله وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ إلخ و عاد بنوا قريظة و بنوا النضير و أشباههم فارادوا قتل النبي صلى اللّه عليه و سلم و سحروه و جعلوا السم فى طعامه و حاربوه فعاد اللّه عليهم بالانتقام فقتل بنى قريظة و اجلى بنى النضير و ضرب عليهم الجزية يؤدونها عن يدوهم صاغرون وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨) محبسا فى الاخرة لا يقدرون على الخروج منها ابدا- و قيل بساطا كما يبسط الحصير. ٩ إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي للحالة او للطريقة الّتي هِيَ أَقْوَمُ الحالات او الطرق و أعدلها او الكلمة الّتي هى اعدل و هى شهادة ان لا اله الا اللّه وَ يُبَشِّرُ قرا حمزة و الكسائي بالتخفيف من الافعال و الباقون بالتشديد من التفعيل يعنى يبشر القران الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ اى بان لهم أَجْراً كَبِيراً (٩) اى الجنة. ١٠ وَ أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) اى النار عطف على أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً يعنى يبشر المؤمنين ببشارتين ثوابهم و عذاب أعدائهم او على يبشّر بإضمار يخبر-. ١١ وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ سقط الواو من يدعو من اللفظ لاجتماع الساكنين و من الخط توقيفا على خلاف القياس- يعنى يدعو اللّه عند غضبه على نفسه و اهله و ماله بِالشَّرِّ او يدعوه بما يحسبه خيرا و هو شر كمن يدعو ان يعطى اللّه حظه فى الدنيا دُعاءَهُ اى مثل دعائه بِالْخَيْرِ و ذلك ان يعطيه ربه فى الدنيا حسنة و فى الاخرة حسنة و يقيه من النار و لو استجاب اللّه دعاءه على نفسه لهلك و لكن اللّه تعالى قد لا يستجيب بفضله عليه وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا (١١) يسارع الى كل ما يخطر بباله لا ينظر عاقبته فيدعو على نفسه ما يكره ان يستجاب له و قال ابن عباس يدعو ضجر الا صبر له على سراء و لا على ضراء- قيل المراد بالإنسان آدم فانه لما انتهى الروح الى سرته ذهب لينهض فسقط- أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضى اللّه عنهما و روى الواقدي فى المغازي من طريق مولى عائشة عنها ان النبي صلى اللّه عليه و سلم دخل عليها بأسير فقال احتفى به قالت فلهرت مع امراة فخرج و لم أشعر- فدخل النبي صلى اللّه عليه و سلم فسال عنه فقالت لا أدرى و غفلت عنه فخرج فقال قطع اللّه يدك ثم خرج عليه السلام فصاح به فخرجوا فى طلبه حتّى وجدوه- ثم دخل على فراشى و انا أقلّب يدى فقال مالك قلت أنتظر دعوتك- فرفع يديه و قال اللّهم انما انا بشر أسف و اغضب كما يغضب البشر فايما مؤمن او مؤمنة دعوت عليه بدعوة فاجعلها له زكوة و طهرا- و اللّه اعلم و الظاهر ان المراد بالإنسان الكافر و بالدعاء الدعاء بالعذاب استعجالا «١» و استهزاء كقول النضر بن الحارث اللّهم انصر خير الحزبين اللّهمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ فضرب عنقه يوم بدر صبرا-. (١) اخرج البيهقي فى الدلائل عن سعيد المقبري ان عبد اللّه بن سلام سال النبي صلى اللّه عليه و سلم عن السواد الّذي فى القمر فقال كانا شمسين فقال اللّه فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ قال فالسواد الّذي رايت هو المحو- ١٢ منه رحمه اللّه. ١٢ وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ علامتين دالتين على القادر الحكيم بتعاقبهما على نسق واحد مع إمكان غيره فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ اى الاية الّتي هى الليل و الاضافة بيانية كاضافة العدد الى المعدود يعنى جعلناها مظلمة وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً يعنى جعلنا النهار مضيئا مبصرا للناس و قيل المراد بالآيتين الشمس و القمر و تقدير الكلام و جعلنا بين الليل و النهار ايتين او جعلنا الليل و النهار ذوى ايتين فمحونا اية الليل يعنى القمر يعنى انقصنا نوره شيئا فشيئا الى المحاق و جعلنا اية النهار يعنى الشمس مبصرة ذات شعاع دائم يبصر الأشياء بضوئها قال الكسائي يقول العرب ابصر النهار إذا صار بحيث يبصر بها قال ابن عباس جعل اللّه ضوء الشمس سبعين جزءا و نور القمر كذلك فمحى من نور القمر تسعة و ستين جزءا فجعلها مع نور الشمس حتّى ان اللّه تعالى امر جبرئيل فامرّ جناحه على وجه القمر ثلاث مرات فطمس عنه الضوء و بقي فيه النور- و سال ابن الكواء عليّا عليه السلام عن السواد الّذي فى القمر فقال هو اثر المحو «٢» لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ اى الراحة و الفراغ للطاعة بالليل و اسباب المعاش بالنهار وَ لِتَعْلَمُوا باختلافهما او بحركاتهما عَدَدَ السِّنِينَ وَ جنس الْحِسابَ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ تحتاجون اليه فى امور الدين و الدنيا فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا (١٢) اى بيّناه بيانا شافيا غير ملتبسين فازحنا عللكم و ما تركنا لكم حجة علينا-. (٢) فى الأصل استعجالا استهزاء-. ١٣ وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ قال ابن عباس عمله و ما قدر عليه فهو ملازمه أينما كان- و قال الكلبي و مقاتل خيره و شره معه لا يفارقه حتّى يحاسب به و قال الحسن يمنه و شومه- قال اهل المعاني أراد بالطائر ما قضى عليه انه عامله و ما هو صائر اليه من سعادة او شقاء- سمى طائرا على عادة العرب فيما كانت تتفال و تتشام به من سوانح «١» الطير و بوارحها- و قال ابو عبيدة و القتيبي أرد بالطائر حظه من الخير و الشر من قولهم طارسهم فلان بكذا- و خص العنق من سائر الأعضاء لانه موضع القلائد و الاطواق و غيرها مما يزين او يشين- فجرى كلام العرب بتشبيه الأشياء اللازمة الى الأعناق- و عن مجاهد قال ما من مولود الانى عنقه ورقة مكتوب فيها شقى او سعيد وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً هى صحيفة عمله قرا الجمهور نخرج بالنون على التكلم و التعظيم من الافعال- و كتابا منصوبا على المفعولية او على انه حال من مفعول محذوف و هو الطائر و يؤيده قراءة يعقوب و ابى جعفر- و قرا يعقوب و الحسن و مجاهد بفتح الياء المثناة التحتانية و ضم الراء اى يخرج له الطائر يوم القيامة كتابا- و قرا ابو جعفر بضم الياء و فتح الراء على البناء للمجهول اى يخرج له الطائر كتابا يلقه قرا ابن عامر و ابو جعفر بضم الياء و فتح اللام و تشديد القاف يعنى يلقى الإنسان ذلك الكتاب اى يؤتاه- و الباقون بفتح الياء و سكون اللام و تخفيف القاف اى براه مَنْشُوراً (١٣) و هما صفتان لكتاب او يلقاه صفة و منشورا حال من مفعوله- قال البغوي جاء فى الآثار ان اللّه تعالى يأمر الملك بطىّ الصحيفة إذا تم عمر العبد فلا تنشر الى يوم القيامة. (١) السانح مامر من الطير و الوحش بين يديك من جهة يسارك الى يمينك و العرب يتيمن به لانه أمكن للرمى و الصيد- و البارح ما مر من يمينك الى يسارك و العرب يتطير به لانه لا يمكنك ان ترميه حتّى ينحرف ١٢ نهايه منه رحمه اللّه. ١٤ اقْرَأْ كِتابَكَ اى يقال له- او خط فيها اقرأ كتابك كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) اى كفى نفسك و الباء زائدة و حسيبا تميز و على صلته- لانه اما بمعنى الحاسب كالصريم بمعنى الصارم من حسب عليه كذا- او بمعنى الكافي وضع موضع الشهيد لانه يكفى المدعى ما أهمه و تذكيره على ان الحساب و الشهادة مما يتولاه الرجال- كانه قيل كفى بنفسك اليوم رجلا حسيبا- او على تأويل النفس بالشخص اخرج البيهقي عن انس رضى اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال الكتب كلها تحت العرش فاذا كان الموقف بعث اللّه تعالى ريحا فتطير بالايمان و الشمائل- و اخرج ابن جرير عن قتادة قال سيقرأ يومئذ من لم يكن قاريا فى الدنيا- و قال البغوي قال الحسن لقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك و اخرج ابن المبارك عن الحسن قال كل اوتى فى عنقه قلادة فيها نسخة عملها فاذا طويت قلدها و إذا بعث نشرت له- و قيل له اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً- و اخرج أصبهاني عن ابى امامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان الرجل ليؤتى كتابه منشورا فيقول يا رب فاين حسنات كذا و كذا عملتها ليست فى صحيفتى فيقول محوت باغتيابك للناس-. ١٥ مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ لها ثوابها لا ينجى اهتداؤه غيره وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها عليها عقابه لا يردى ضلاله سواه و اللّه اعلم اخرج ابن عبد البر بسند ضعيف عن عائشة قالت سالت خديجة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن أولاد المشركين قال هم من ابائهم- ثم سالته بعد ذلك فقال اللّه اعلم بما كانوا عاملين- ثم سالته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى اى لا تحمل حاملة حمل نفس اخرى اى ثقلها من الآثام بل انما تحمل وزر نفسها وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (١٥) يبيّن الحجج و يمهد الشرائع فيلزمهم الحجة- قال الشافعي فى هذه الاية دليل على انه لا وجوب قبل البعثة بالعقل- فلا يعذب من لم يبلغه الدعوة على الشرك و لا على شي ء من المعاصي و قال ابو حنيفة رحمه اللّه الحاكم هو اللّه تعالى لكن العقل قد يدرك بعض ما وجب عليه- و هو التوحيد و التنزيهات و الإقرار بالنبوة بعد مشاهدة المعجزات- فهذه الأمور غير متوقفة على الشرع و إلا لزم الدور لان الشرع يتوقف عليها- فيجب على الإنسان إتيان هذه الأمور قبل بعثت الرسل و يعذب المشرك و ان لم يبلغه الدعوة- و يؤيد هذا القول ما فى الصحيحين عن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال يقول اللّه يا آدم فيقول لبيك و سعديك و الخير فى يديك- قال اخرج بعث النار- قال و ما بعث النار- قال من كل الف تسعمائة و تسعة و تسعين فعنده يشيّب الصغير وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى وَ ما هُمْ بِسُكارى وَ لكِنَّ عَذابَ اللّه شَدِيدٌ - قالوا يا رسول اللّه ايّنا ذلك الواحد قال ابشروا فان منكم رجلا و من يأجوج و مأجوج الف الحديث- وجه الاستدلال ان يأجوج و مأجوج رجال وراء السد لم يبعث فيهم رسول- فلو لا التعذيب على الشرك قبل بعثة ... الرسل لما عذبت يأجوج و مأجوج- و قد ورد فى اهل الفترة و من لم يبلغه الدعوة من الأمم أحاديث تدل على انهم يمتحنون يوم القيامة- منها ما اخرج البزار عن ثوبان ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال إذا كان يوم القيامة جاءت اهل الجاهلية يحملون أوزارهم على ظهورهم- فيسئلهم ربهم- فيقولون «١» ربنا لم ترسل إلينا رسولا و لم يأتنا امر لك- و لو أرسلت إلينا رسولا لكنّا أطوع عبادك- فيقول لهم ربهم ارايتم ان أمرتكم بامر تطيعونى فيأخذ على ذلك مواثيقهم- فقال اعمدوا لها فادخلوها اى النار فينطلقون حتّى إذا راوها فرقوا فرجعوا فقالوا ربنا فرقنا منها فلا نستطيع ان ندخلها- فيقول ادخلوها داخرين فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم لو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردا و سلاما- و ما اخرج احمد و ابن راهويه فى مسنديهما و البيهقي فى كتاب الاعتقاد و صححه عن الأسود بن سريغ رضى اللّه عنه ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال اربعة يحتجون يوم القيامة رجل أصم لا يسمع شيئا- و رجل أحمق- و رجل هرم- و رجل مات فى فترة فاما الأصم فيقول رب جاء الإسلام و ما اسمع شيئا- و اما الأحمق فيقول يا رب جاء الإسلام و الصبيان يخذفوننى بالبعر- و اما الهرم فيقول لقد جاء الإسلام و ما اعقل شيئا- و اما الّذي مات فى فترة فيقول يا رب ما أتاني لك رسول- فاخذ مواثيقهم ليطيعنّه فيرسل إليهم ان ادخلوا النار فو الّذي نفس محمّد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا و ما اخرج الثلاثة ايضا من حديث ابى هريرة مرفوعا مثله غير انه كان فى آخره فمن دخلها كانت عليه بردا و سلاما- و من لم يدخلها يسحب إليها- و اخرج ابن المبارك عن مسلم بن يسار قال لى انه يبعث (١) و فى الأصل فيقول-. يوم القيامة عبد كان فى الدنيا أعمى أصم ابكم كذلك لم يسمع شيئا قط و لم يبصر شيئا قط و لم يتكلم شيئا- فيقول اللّه تعالى ما عملت فيما وليت و فيما أمرت به فيقول اى رب و اللّه ما جعلت لى بصرا ابصر به الناس فاقتدى بهم- و ما جعلت لى سمعا فاسمع به ما أمرت به و نهيت عنه- و ما جعلت لى لسانا فاتكلم بخير او بشر- و ما كنت الا كالخشبة فيقول اللّه عز و جل تطيعنى الان فيما أمرك به قال نعم فيقول قع فى النار فيأبى فيدفع فيها- قلت على ما قالت الحنفية ان المشرك يعذب ان كان عاقلا قبل ان تبلغه الدعوة كما يدل عليه قوله تعالى إِنَّ اللّه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فانه يعم اصحاب الفترة- تحمل هذه الأحاديث على ان بعض المشركين من اهل الفترة لعلّهم يجادلون اللّه تعالى و يعتذرون بالجهل فيلزمهم اللّه تعالى الحجة بالامتحان- كما ان المشركين لما ينكرون شركهم و يقولون وَ اللّه رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ و يطلبون على أنفسهم شهودا- فحينئذ يشهد عليهم جوارحهم فيلزمهم الحجة و للّه الحجة البالغة- لا ينصب نفسا شاء ان يعذبها الا عذبها- و هو عادل فيه هذا فى التوحيد- و اما سائر الشرائع فالعقل غير كاف فى إدراكها- فلا تجب على الإنسان إتيانها قبل البعثة- لقوله تعالى ما كانَ اللّه لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ- و بناء على مذهب الحنفية قال صاحب المدارك فى تفسير هذه الاية ما صح منا ان نعذب قوما عذاب استيصال فى الدنيا الا بعد ان نبعث إليهم رسولا فنلزمهم الحجة- قلت و هذا التأويل بعيد جدّا- لان قوله تعالى ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ يدل على عموم نفى التعذيب لوقوع النكرة فى سياق النفي- و لا وجه للتخصيص بالتعذيب فى الدنيا و لا بتعذيب الاستيصال- كيف و عدم التعذيب فى الدنيا من غير إتمام الحجة يقتضى عدم التعذيب فى الاخرة بالطريق الاولى- فالاولى ان يقال ان عدم التعذيب قبل البعثة مخصوص بالمعاصي دون الشرك حيث قال اللّه تعالى إِنَّ اللّه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فالتقدير ما كنّا معذّبين على المعاصي حتّى نبعث رسولا يبين لهم ما يتقون- و قيل المراد بالرسول أعم من البشر و العقل فان العقل ايضا رسول من اللّه يدرك به الخير و الشر- فما يدركه العقل و يكفى فى إدراكه من الواجبات يعذب اللّه العاقل عليها على عدم إتيانها- (فصل) هذه الاية تدل على عدم تعذيب الصغار و المجانين و ان كانوا من ذرارى المشركين حيث لم يبلغهم دعوة رسول بشرا كان او عقلا- كما يدل عليه سياق الاية حيث قال اللّه تعالى وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى - و من الأحاديث ما رواه احمد بسند حسن عن خنساء بن معاوية بن مريم قال حدثنى عمى قال قلت يا رسول اللّه من فى الجنة قال النبي فى الجنة و الشهيد فى الجنة و المولود فى الجنة و الوئيد فى الجنة- و ما رواه البخاري عن سمرة ابن جندب فى حديث المنام الطويل انه صلى اللّه عليه و سلم مر على شيخ تحت شجرة و حوله ولدان فقال له جبرئيل هذا ابراهيم و هؤلاء أولاد المسلمين و أولاد المشركين قالوا يا رسول اللّه و أولاد المشركين قال نعم و أولاد المشركين- فقيل أولاد المشركين خدم اهل الجنة لما روى الطيالسي عن انس انه سئل عن أطفال المشركين فقال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لم يكن لهم سيئات فيكونوا «١» من اهل النار و لم يكن لهم حسنات فيجازوا بها فيكونوا من مملوك «٢» اهل الجنة هم خدم اهل الجنة- و ما اخرج ابن جرير عن سمرة قال سالنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن أطفال المشركين فقال هم خدم اهل الجنة- و اخرج مثله عن ابن مسعود موقوفا- فان قيل فى الصحيح ما يدل على عدم الجزم بذلك- اخرج الشيخان فى الصحيحين عن ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه سئل عن أطفال المشركين- فقال اللّه اعلم بما كانوا عاملين- و اخرج مثله من حديث ابن عباس قلنا هذا الحكم اعنى عدم الجزم بكونهم فى الجنة الّذي دل عليه هذان «٣» الحديثان منسوخ كان قبل نزول اية الفتح الناسخة لقوله تعالى وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ- فانه صلى اللّه عليه و سلم كان قبل ذلك يردّ بها على من شهد لاحد بعينه بالجنة- ورد بها على من شهدت لعثمان بن مظعون كما فى الصحيح فلما نزلت اية الفتح سرّ بها كثيرا و شهد بعدها لجماعة بأعيانهم بالجنة- و هذا هو الجواب لحديث رواه مسلم عن عائشة قالت دعى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الى جنازة صبى من الأنصار فقالت يا رسول اللّه طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء و لم يدرك فقال او غير ذلك يا عائشة ان اللّه خلق الجنة و خلق لها أهلا و هم فى أصلاب ابائهم و خلق النار و خلق لها أهلا و هم فى أصلاب ابائهم فان هذا الحديث يدل على التوقف فى أطفال المسلمين (١) و فى الأصل فيكونون. (٢) و فى الأصل ملوك-. (٣) و فى الأصل هذين الحديثين-. ايضا و قد انعقد الإجماع على كونهم فى الجنة- نقله الامام احمد و ابن ابى زيد و ابو يعلى من الفراء و غيرهم و نصوص الكتاب و الأحاديث صريحة فى ذلك كذا قال النووي و السيوطي- و هو الجواب عما رواه ابن حبان فى صحيحه و البزار عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يزال امر هذه الامة متقاربا ما لم يتكلموا فى القدر و الولدان- قال ابن حبان يعنى أطفال المشركين فانا نحمل هذا الحديث ايضا على كونه قبل اية الفتح و قبل ان يعلم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كونهم فى الجنة- فان قيل بعض الأحاديث يدل على كون أطفال المشركين فى النار- منها ما اخرج ابو يعلى عن البراء رضى اللّه عنه قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن أطفال المسلمين فقال هم مع ابائهم و سئل عن أطفال المشركين فقال هم مع ابائهم- و ما روى ابو داؤد عن عائشة قالت قلت يا رسول اللّه ذرارى المؤمنين قال من ابائهم فقلت يا رسول اللّه بلا عمل قال اللّه اعلم بما كانوا عاملين- قلت فذرارى المشركين قال من ابائهم قلت بلا عمل قال اللّه اعلم بما كانوا يعملون- و اخرج احمد عن عائشة بسند ضعيف جدا انها ذكرت لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أطفال المشركين فقال ان شئت أسمعتك تصاعدهم فى النار- و اخرج عبد اللّه بن احمد فى زوائد المسند بسند فيه مجهول و انقطاع و ابن ابى حاتم فى السنة عن علىّ قال سألت خديجة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن ولدين ماتا فى الجاهلية فقال هما فى النار فلما راى الكراهية فى وجهها قال لها و لو رايت مكانهما لابغضتهما قالت فولدى منك قال ان المؤمنين و أولادهم فى الجنة و ان المشركين و أولادهم فى النار- ثم تلا وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ- و اخرج ابو داؤد عن ابن مسعود بسند حسن قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الوائدة و الموءودة فى النار- و اخرج ايضا بسند حسن عن سلمة بن قيس الأشجعي قال أتيت انا و أخي النبي صلى اللّه عليه و سلم فقلنا ان امّنا ماتت فى الجاهلية و كانت تقرى الضيف و تصل الرحم و انها وادت اختالها فى الجاهلية لم تبلغ فقال الوائدة و الموءودة فى النار الا ان تدرك الوائدة الإسلام فتسلم- قلنا اما الموءودة الواردة فى الحديث فالمراد بها الموءودة لها يعنى الام- و الوائدة هى القابلة دفعا للتعارض- و اما الأحاديث المذكورة فى كون أطفال المشركين فى النار فليس شي ء منها يقوى قوة الأحاديث المتقدمة فسقطت بالأحاديث الصحيحة فضلا عن مصادمة القران- و القول يكون تلك الأحاديث منسوخة لا يجوز لان الاخبار لا يحتمل النسخ- اللّهم الا ان يقال ان اللّه رفع عنهم العذاب بعد ما كتب عليهم بشفاعة النبي صلى اللّه عليه و سلم- يدل عليه حديث ابن ابى شيبة عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سالت ربى اللاهين من ذرية البشر ان لا يعذبهم فاعطانيهم- قال ابن عبد البر هم الأطفال لان أعمالهم كاللّهو و اللعب من غير عقل و لا عزم- قال السيوطي اختلف الناس قديما و حديثا فى أطفال المشركين على اقوال أحدها انهم فى النار للاحاديث المذكورة الّتي دلت على ذلك لكنها ضعيفة لا تقوم بها حجة- و الثاني انهم فى الجنة و الثالث انهم خدم اهل الجنة- (قلت لا تعارض بين هذين القولين فان خدم اهل الجنة فى الجنة) و الرابع انهم فى مشية اللّه لا يحكم عليهم و هذا ما نقل عن الحمادين و ابن المبارك و ابن راهويه و الشافعي و نقله النسفي عن ابى حنيفة (قلت و مبنى هذا القول على الاحتياط و الصحيح ان هذا الحكم منسوخ كما ذكرنا) و الخامس انهم يمتحنون فى الاخرة كما يمتحن اصحاب الفترة- لما اخرج البزار و ابو يعلى عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يؤتى باربعة يوم القيامة بالمولود و المعتوه و من مات فى الفترة و الشيخ الفاني كلهم يتكلم بحجته فيقول الرب تبارك و تعالى لعنق من النار أبرز و يقول انى كنت ابعث الى عبادى رسلا من أنفسهم و انى رسول نفسى إليكم ادخلوا هذه فيقول من كتب عليه الشقاء يا رب اندخلها و منها كنا نفر و من كتب عليه السعادة يمضى فيقتحم فيها مسرعا فيقول اللّه تعالى أنتم كنتم لرسلى أشد تكذيبا و معصية فيدخل هؤلاء الى الجنة و هؤلاء الى النار- و اخرج البزار و محمّد بن يحيى الذهبي عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يحتج الهالك فى الفترة و المعتوه و المولود يقول الهالك فى الفترة رب لم يأتينى كتاب و يقول المعتوه رب لم تجعل لى عقلا اعقل به خيرا و لا شرا و يقول المولود رب لم أدرك العقل فترتفع لهم نار فيقول ردوها فيردها من كان فى علم اللّه سعيدا لو أدرك العمل و يمسك عنها من كان فى علم اللّه شقيّا لو أدرك العمل فيقول إياي عصيتم فكيف لو رسلى أتتكم- و اخرج الطبراني و ابو نعيم عن معاذ بن جبل عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال يؤتى يوم القيامة بالممسوح عقلا و بالهالك فترة و بالهالك صغيرا فيقول الممسوح عقلا رب لو أتيتني عقلا ما كان من أتيته عقلا بأسعد منى و ذكر فى الهالك فى الفترة و الصغير نحو ذلك فيقول الرب تبارك و تعالى انى أمركم بامرى فتطيعونى فيقولون نعم فيقول اذهبوا فادخلوا النار- قال لو دخلوها ما ضرتهم فيخرج عليهم فرائض فيظنون انها قد أهلك ما خلق اللّه من شي ء فيرجعون سراعا ثم يأمر الثانية فيرجعون ذلك فيقول الرب تعالى قبل ان خلقتكم علمت ما أنتم عاملون- قلت و هذا القول الخامس لا يلائم ضروريات الدين قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون المغلوب على عقله حتّى يبرا- و عن النائم حتّى يستيقظ- و عن الصبى حتّى يكبر رواه احمد و ابو داود و الحاكم عن عائشة بسند صحيح و عن على و عمر بسند صحيح- و فى لفظ اخر رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتّى يستيقظ و عن المبتلى حتّى يبرا و عن الصبى حتّى يكبر رواه احمد و ابو داؤد و النسائي و ابن ماجة و الحاكم عن عائشة بسند صحيح- و قد ثبت بالحديث انه من همّ بسيئة لا يؤاخذ بها ما لم يعملها- فكيف بمن لم يهمّ بها و لم يعقلها- و قال اللّه تعالى لا يُكَلِّفُ اللّه نَفْساً إِلَّا وُسْعَها و قال اللّه تعالى لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ- ... وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى - و اجمع الامة على ان مناط التكليف العقل و البلوغ- فلعل لفظ المولود و المجنون فى هذه الأحاديث من وهم الرواة او المولود و المجنون يمتثلون امر اللّه و يدخلون النار عند الامتحان فينجون بخلاف المشركين من اهل الفترة- قال السيوطي و قيل فى أطفال المشركين انهم يكونون فى برزخ بين الجنة و النار- و قيل يصيرون ترابا- و لا دليل على ذلك و اما أولاد المسلمين فلم يجر فيهم خلاف بل الإجماع انهم فى الجنة و اللّه اعلم. ١٦ قوله تعالى وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها اى متنعميها و جبائرتها- قرا مجاهد امّرنا بالتشديد اى سلّطنا و جعلناهم أمراء- و قرا الحسن و قتادة و يعقوب أمرنا بالمد اى أكثرنا- و قرا الجمهور مقصورا مخففا اى أمرنا مترفيها بالطاعة على لسان رسول بعث إليهم- و يدل على هذا التقدير قوله تعالى فيما قبل وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا و فيما بعد فَفَسَقُوا فِيها فان الفسق هو الخروج عن الطاعة و التمرد فى العصيان- فيدل على الطاعة- و قيل معنى الاية أَمَرْنا مُتْرَفِيها بالفسق ففسقوا- كقولك أمرته فجلس فانه لا يفهم منه الا الأمر بالجلوس- و الأمر حينئذ ليس بمعناه الحقيقي ف إِنَّ اللّه لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ- لكنه مجاز من الحمل عليه و التسبيب له- بان صبّ عليهم من النعم ما ابطرهم و امضى بهم الى الفسوق- و قيل معناه معنى كثّرنا يقال أمرت الشي ء و أمرته فامر اى كثرته فكثر- و فى الحديث خير المال سكة مأبورة و مهرة مامورة اى طريقة مصطفة من النخل مصلحة- و ولد الفرس أنثى اى كثير النسل و النتاج و منه قول ابى سفيان فى حديث هرقل لقد امر امر ابن ابى كبشة اى كثر و ارتفع شأنه- يعنى النبي صلى اللّه عليه و سلم و منه الحديث ان رجلا قال له مالى ارى أمرك يأمر- قال و اللّه ليامرن اى يزيد على ما ترى- و منه حديث ابن مسعود قال كنا نقول فى الجاهلية قد امر بنوا فلان اى كثروا- و فى القاموس امره و امره كنصره لغيّة كثر نسله و ماشيته- و يحتمل ان يكون منقولا من امر بالضم امارة اى جعلناهم أمراء- و تخصيص المترفين لان غيرهم يتبعهم- و لانهم اسرع الى الحماقة و اقدر على الفجور فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ اى وجب عليها الكلمة السابقة بالعذاب بحلوله او الكلمة السابقة بظهور معاصيهم او انهماكهم فيها فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) اى أهلكناها بهلاك أهلها و تخريب ديارها- روى البخاري عن أم حبيبة بنت ابى سفيان عن زينب بنت جحش ان النبي صلى اللّه عليه و سلم دخل عليها فزعا و هو يقول لا اله الا اللّه ويل للعرب من شرّ قد اقترب فتح اليوم من ددم يأجوج و مأجوج مثل هذه و حلق بإصبعيه الإبهام و الّتي يليها- قالت زينب فقلت يا رسول اللّه أ يهلك و فيها الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث. ١٧ وَ كَمْ اى كثيرا أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ بيان لكم و تميز له- و القرن القوم المقترنون فى زمان واحد- يعنى يكون ولادتهم فى وقت واحد- فى القاموس يقال هو على قرنى اى على سنى و عمرى- و انقضاء القرن ان لا يبقى منهم أحد- فى القاموس هو كل امة هلكت فلم يبق منها أحد- قلت و اما قرن الصحابة و قرن التابعين فيقال باعتبار مقارنتهم فى مصاحبة الرسول صلى اللّه عليه و سلم او مصاحبة أحد ممن صاحبه صلى اللّه عليه و سلم- و قيل القرن مدة من الزمان عشرة سنين او عشرون او ثلاثون او أربعون او خمسون او ستون او سبعون او ثمانون او مائة سنة او مائة و عشرون كذا فى القاموس من الأقوال- و اعتبرت الحنفية فى مدة المفقود تسعين «١» سنة و الأصح انه مائة سنة- لما روى محمّد بن القاسم عن عبد اللّه ابن تستر المازني ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وضع يده على رأسه و قال يعيش هذا الغلام قرنا- قال محمّد بن القاسم مازلنا نعدله حتّى تمّت مائة سنة ثم مات مِنْ بَعْدِ نُوحٍ كعاد و ثمود و غيرهم تخويف لكفار مكة وَ كَفى بِرَبِّكَ فى محل الرفع و الباء زائدة بِذُنُوبِ عِبادِهِ متعلق بما بعده على سبيل التنازع خَبِيراً و ان اخفوها فى الصدور بَصِيراً (١٧) و ان ارخوا عليها الستور-. (١) و فى الأصل تسعون-. ١٨ مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ يعنى الدار العاجلة اى الدنيا مقصورا عليها همته عَجَّلْنا لَهُ فِيها «٢» أعطيناه فى العاجلة ما نَشاءُ كل ما يريده او بعضه قيد به لانه لا يجد كل أحد جميع ما يتمناه غالبا لِمَنْ نُرِيدُ ان نفعل به ذلك بدل من له بدل البعض قيد به لانه لا يجد كل متمنّ متمنّاه ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ فى الاخرة جَهَنَّمَ يَصْلاها يدخل نارها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) مطرودا مبعدا من رحمة اللّه. (٢) و ليس فى الأصل فيها-. ١٩ وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعى لَها اى للاخرة حق سَعْيَها و هو الايتمار بالأوامر و الانتهاء عن المناهي- لا بمجرد التمني او التقرب بما يخترعون بآرائهم فهو منصوب على المصدرية- و جاز كونه منصوبا على المفعولية- و فائدة اللام اعتبار النية و الإخلاص وَ هُوَ مُؤْمِنٌ ايمانا صحيحا لا شرك معه و لا تكذيب فانه العمدة فَأُولئِكَ اى الجامعون للشرائط الثلاثة كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) من اللّه اى مقبولا عنده مثابا عليه فان شكر اللّه الثواب على الطاعة. ٢٠ كُلًّا التنوين بدل من المضاف اليه اى كل واحد من الفريقين نُمِدُّ بالعطاء مرة بعد اخرى- و نجعل آخره مدد السابقة هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ بدل من كلّا مِنْ عَطاءِ اى من معطاة رَبِّكَ متعلق بنمدّ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) ممنوعا لا يمنعه فى الدنيا من مؤمن و لا من كافر تفضلا. ٢١ انْظُرْ يا محمّد كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فى الرزق و الجمال فى الدنيا و انتصاب كيف بفضّلنا على الحال وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلًا (٢١) اى التفاوت فى الاخرة اكثر من التفاوت فى الدنيا لان التفاوت فيها بالجنة و درجاتها و النار و دركاتها و اللّه اعلم. ٢٢ لا تَجْعَلْ الخطاب للرسول صلى اللّه عليه و سلم و المراد أمته- او لكل واحد اى لاقعل ايها الإنسان مَعَ اللّه إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ اى فتصير من قولهم شخذ الشفرة حتّى قعدت كانها حربة- او فتعجز من قولك قعد عن الشي ء إذا عجل عنه مَذْمُوماً من الملائكة و المؤمنين مَخْذُولًا (٢٢) غير منصور-. ٢٣ وَ قَضى رَبُّكَ اى امر امرا مقطوعا به كذا قال ابن عباس و قتادة و الحسن و الربيع بن انس «١» أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ اى بان لا تعبدوا الّا ايّاه- لان العبادة الّتي هى غاية التعظيم لا يحق الا لمن له غاية العظمة و نهاية الانعام- و هو كالتفصيل لسعى الاخرة- و يجوز ان يكون ان مفسرة لانّ فى قضى معنى القول و لا يجوز كونها ناصبة وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً اى و ان تحسنوا او أحسنوا بالوالدين إحسانا لانهما السبب الظاهري للوجود و التعيش إِمَّا ان شرطية زيدت عليها ما للتأكيد فادغمت النون فى الميم- و لذلك صح لحوق النون المؤكدة فى الفعل و ان أفردت ان لم يصح دخولها- إذ لا يقال ان تكر من زيدا يَبْلُغَنَّ قرا حمزة و الكسائي يبلغانّ بالألف على التثنية- و الضمير راجع الى الوالدين عِنْدَكَ اى فى كتفك و كفالتك (١) و فى الأصل و الربيع بن الحسن-. الْكِبَرَ أَحَدُهُما بدل من ضمير التثنية فى يبلّغان أَوْ كِلاهُما عطف على أحدهما و قرا الجمهور بغير الف و فاعل الفعل أحدهما مع ما عطف عليه اى ان يبلغ الكبر أحدهما او كلاهما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ قرا نافع و حفص و ابو جعفر هنا و فى الأنبياء و الأحقاف بالتنوين للتنكير كتنوين صه و كسر الفاء- و ابن كثير و ابن عامر و يعقوب بفتح الفاء من غير تنوين- و الباقون بكسرها من غير تنوين- و هى كلمة كراهية صوت يدل على التضجّر- و قيل اسم للفعل الّذي هو التضجر- قال ابو عبيدة اصل الأف و التف الوسخ على الأصابع- و فى القاموس الافّ قلامة الظفر و وسخه- او وسخ الاذن و ما رفعته من الأرض من عود او قصبة- او الأف معناه القلة يعنى لا تقل لهما كلمة تدل على ادنى كراهة فيحرم بذلك سائر انواع الإيذاء بدلالة النص بالطريق الاولى- يقال فلان لا يملك النقير و لا القطمير وَ لا تَنْهَرْهُما اى لا تزجرهما عما لا يعجبك وَ قُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً (٢٣) حسنا جميلا لينا قال ابن المسيب كقول العبد المذنب للسيد الفظّ قال مجاهد إذا بلغا عندك من الكبر فلا تقذرهما و لا تقل لهما أف حين تميط عنهما الخلاء و البول كما كانا يميطان عنك صغيرا-. ٢٤ وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ اى تذال لهما و تواضع فيهما جعل للذل جناحا و امره بخفضهما مبالغة- او أراد جناحه كقوله وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ و إضافته الى الذل للبيان و المبالغة- كما أضيف حاتم الى الجود و المعنى و اخفض لهما جناحك الذليل و اخضع- و قال عروة بن الزبير لن لهما حتّى لا يمتنعا من شي ء احباه مِنَ الرَّحْمَةِ اى من فرط رحمتك عليهما لافتقارهما الى من كان أفقر خلق اللّه إليهما وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما يعنى ادع اللّه لهما ان يرحمهما برحمته الباقية و لا تكتف برحمتك الفانية- قال البغوي أراد ان كانا مسلمين- قال ابن عباس هذا منسوخ بقوله ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ- و قال البيضاوي و ان كانا كافرين لان من الرحمة ان يهديهما للاسلام كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) اى رحمة مثل رحمتهما علىّ و تربيتهما علىّ و إرشادهما لى فى صغرى وفاء بوعدك للراحمين- عن ابى الدرداء قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الوالد اوسط أبواب الجنة فحافظ ان شئت أو ضيع- رواه احمد و الترمذي و ابن ماجة و الحاكم بسند صحيح و عن عبد اللّه بن عمرو رضى اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال رضاء اللّه فى رضاء الوالد و سخط اللّه فى سخط الوالد- رواه الترمذي و الحاكم و صححه و روى البزار عن ابن عمرو عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يدخل الجنة منان و لا عاق و لا مد من خمر و رواه النسائي و الدارمي عن ابن عمر و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رغم انف رجل ذكرت عنده فلم يصل علىّ و رغم انف رجل اتى عليه شهر رمضان فلم يغفر له و رغم انف رجل أدرك أبويه الكبر فلم يدخلاه الجنة- رواه البغوي و الترمذي و الحاكم و صححه و رواه مسلم و احمد بلفظ رغم انفه ثم رغم انفه ثم رغم انفه قيل من يا رسول اللّه قال من أدرك عنده الكبر أحدهما او كلاهما ثم لم يدخل الجنة- و عن ابى امامة ان رجلا قال يا رسول اللّه ما حق الوالدين على ولدهما قال هما جنتك و نارك رواه ابن ماجة و عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من أصبح للّه مطيعا فى والديه أصبح له بابان مفتوحان من الجنة و ان كان واحدا فواحدا- و من امسى عاصيا للّه فى والديه أصبح له بابان مفتوحان من النار و ان كان واحدا فواحدا- قال رجل و ان ظلماه قال و ان ظلماه و ان ظلماه و ان ظلماه- و عنه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ما من ولد بار ينظر والديه نظر رحمة الا كتب اللّه له بكل نظرة حجة مبرورة- قالوا و ان نظر كل يوم مائة مرة- قال نعم اللّه اكبر و أطيب- و عن ابى بكرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كل الذنوب يغفر اللّه منها ما يشاء الا عقوق الوالدين فانه يعجل لصاحبه فى الحيوة قبل الممات- روى الأحاديث الثلاثة- البيهقي فى شعب الايمان و الاول منها ابن عساكر- و عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كل الذنوب يؤخر اللّه ما شاء منها الى يوم القيامة الا عقوق الوالدين فانه يعجل لصاحبه فى الحيوة الدنيا قبل الممات- رواه الطبراني بسند ضعيف و الحاكم-. ٢٥ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من البر إليهما و الاعتقاد بما يجب لهما من التوقير فكانه تهديد على ان يضمر لهما كراهية و استثقالا- و جاز ان يقال معناه ربكم اعلم بنياتكم فى بر الوالدين ان كان ذلك احتسابا و امتثالا لامر اللّه تعالى فاجره على اللّه و ان كان لغرض من اغراض الدنيا فهو على ما نوى إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ اى قاصدين الاجر عند اللّه و الصلاح و قال البغوي ان تكونوا أبرارا مطيعين بعد تقصير كان منكم فى القيام بما لزمكم من حق الوالدين فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ اى التوابين بعد المعصية فى حقهما غَفُوراً (٢٥) لما فرط منهم- قال سعيد بن جبير فى هذه الاية هو الرجل يكون منه البادرة الى أبويه لا يريد بذلك الا الخير فانه لا يؤاخذ به- و جاز ان يكون الاية عامة لكل تائب و يندرج فيه الجاني على أبويه لوروده على اثره- قال سعيد بن المسيب الأواب الّذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب و قال سعيد بن جبير الرجاع الى الخير- و عن ابن عباس قال هو الرجاع الى اللّه فيما يجزيه و ينوبه- و عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال هم المسبحون دليله قوله تعالى يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ- و قال قتادة المصلون- و قال عوف العقيلي هم الذين يصلّون صلوة الضحى- روى البغوي عن زيد بن أرقم قال خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على اهل قبا و هم يصلّون الضحى فقال صلوة الاوّابين إذا رمضت الفصال من الضحى و رواه احمد و مسلم و رواه عبد بن حميد و سيبويه عن عبد اللّه بن ابى اوفى- قال البغوي و روى عن ابن عباس انه قال ان الملائكة لتحفّ بالذين يصلّون بين المغرب و العشاء و هى صلوة الأوابين-. ٢٦ وَ آتِ ذَا الْقُرْبى اى ذوى قرابتك حَقَّهُ من صلة الرحم و حسن المعاشرة و البر عليهم و عليه اكثر المفسرين- و قال ابو حنيفة يجب النفقة على الغنى لكل ذى رحم محرم إذا كان صغيرا فقيرا او امراة بالغة فقيرة او ذكرا زمنا او أعمى فقيرا- لان فيه ابقاء النفس و هو اصل البر و الصلة- و قد ذكرنا هذه المسألة فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى وَ عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ- و ذكر البغوي عن على بن الحسين عليهما السلام انه تعالى أراد به قرابة الرسول صلى اللّه عليه و سلم- و كذا اخرج ابن ابى حاتم عن السدىّ و اخرج الطبراني و غيره عن ابى سعيد الخدري قال لما نزلت وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاطمة فاعطاها فدك- و روى ابن مردوية عن ابن عباس مثله- قال ابن كثير هذا مشكل فانه يشعر بان الاية مدنية و المشهور خلافه- قلت و ايضا المشهور المعتمد عليه ان فاطمة سالت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فدك فلم يعطها- كذا روى عن عمر بن عبد العزيز- و لو كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أعطاها فاطمة لما منعها عنها الخلفاء الراشدون لا سيما على رضى اللّه عنه فى خلافته و اللّه اعلم وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ قد مر فى سورة البقرة وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) اى لا تنفق مالك فى المعصية- قال مجاهد لو أنفق الإنسان ماله كله فى الحق ما كان تبذيرا- و لو أنفق مدا فى الباطل كان تبذيرا- و سئل عن ابن مسعود عن التبذير فقال انفاق مال فى غير حقه- قال شعبة كنت امشى مع ابى إسحاق فى طريق الكوفة فاتى على جدار بنى بجص و اجر فقال هذا التبذير فى قول عبد اللّه انفاق المال فى غير حقه. ٢٧ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ اى أمثالهم فى الشرارة قال البغوي يقول العرب لكل ملازم سنة قوم هو أخوهم وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) جحودا للنعمة مبالغا فى الكفر و الكفران- فليس ينبغى ان يطاع- اعلم ان الشكر على ما قاله اهل التحقيق صرف النعمة فى رضاء المنعم- و التبذير صرف المال فى المعصية فهو ضد الشكر- فمن اتى به كان كفورا و اللّه اعلم- اخرج سعيد بن منصور عن عطاء الخراسانى قال جاء ناس من مزينة يستحملون رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- فقال لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ- ف تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً- ظنوا ذلك من غضب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فانزل اللّه تعالى. ٢٨ وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ ان شرطية و ما زائدة و المعنى و ان تعرض يا محمّد عَنْهُمُ يعنى عن ذوى القربى و المساكين و ابن السبيل- أراد بالاعراض عدم الانفاق عليهم على سبيل الكناية- و قال البغوي نزلت فى مهجع و بلال و صهيب و سالم و خباب كانوا يسئلون النبي صلى اللّه عليه و سلم ما يحتاجون اليه- و لا يجد فيعرض عنهم حياء و يمسك عن القول- فنزل وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ يعنى حياء من الرد- ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ اى لاجل انتظار رزق مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها ان يأتيك فتعطيه او منتظرا له- و قيل معناه لفقد رزق من ربك ترجوه ان يفتح لك- فوضع الابتغاء موضع الفقدان لانه مسبب عنه- و جاز ان يكون الابتغاء متعلقا بقوله فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً (٢٨) اى قل لهم قولا ليناكى يرحمك اللّه برحمتك عليهم باجمال القول- و الميسور من يسر الأمر مثل سعد الرجل و نحس- قال البغوي هو العدة اى عدهم وعدا جميلا- و قيل الدعاء لهم بالميسور و هو اليسر مثل أغناكم اللّه و رزقنا اللّه و إياكم و اللّه اعلم- اخرج سعيد بن منصور عن سيار ابى الحكم قال اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ببزّ- و كان معطيا كريما فقسّمه بين الناس- فاتاه قوم فوجدوه قد فرغ منه- فانزل اللّه تعالى. ٢٩ وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ و اخرج ابن مردوية و غيره عن ابن مسعود قال جاء غلام الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال ان امّى تسئلك كذا و كذا فقال ما عندنا اليوم شي ء- قال فتقول اكسنى قميصك فدفعه اليه فجلس فى البيت حاسرا- فانزل اللّه تعالى هذه الاية- و اخرج ابن ابى حاتم عن المنهال بن عمرو بمعناه- و اخرج ايضا عن ابى امامة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال لعائشة انفقى ما ظهر كفى قالت اذن لا يبقى شي ء فانزل اللّه تعالى هذه الاية- و قال البغوي قال جابر اتى صبى فقال يا رسول اللّه ان امّى تستكسيك درعا- و لم يكن لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الا قميصه- فقال للصبى من ساعة الى ساعة يظهر فعد وقتا اخر- فعاد الى امه فقالت له قل ان امّى تستكسيك الدرع الّذي عليك فدخل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم داره و نزع قميصه فاعطاه- و قعد عريانا فاذّن بلال بالصلوة فانتظروه فلم يخرج فشغل قلوب أصحابه فدخل عليه بعضهم فراه عريانا فانزل اللّه تعالى وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ يعنى لا تمسك يدك عن النفقة فى الحق كالمغلول يده لا يقدر على ردها- و لا تبسطها بالعطاء كلّ البسط فتعطى جميع ما عندك بحيث لا تقدر على أداء حقوق نفسك و أهلك و من له الحق عليك- قال البيضاوي هذان تمثيلان لمنع الشحيح و إسراف المبذّر نهى عنهما و امر بالاقتصاد بينهما الّذي هو الكرم فَتَقْعُدَ مَلُوماً اى تصير ملوما عند اللّه و عند الناس بالإمساك مع السعة او بالإسراف و سوء التدبير مَحْسُوراً (٢٩) قال قتادة نادما على ما فرط منك فى الفصلين- او المعنى تصير ملوما يلومك السائلون بالإمساك إذا لم تعطهم مع السعة محسورا منقطعا بك لا شي ء عندك- من حسره السفر إذا بلغ فيه- و حسرته بالمسألة إذا الحفت عليه- فيكون النشر على ترتيب اللف. ٣٠ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ اى يوسع الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ من عباده و ليس البسط إليك وَ يَقْدِرُ اى يضيق الرزق على من يشاء على ما يقتضيه حكمته- فلا لوم عليك ان أمسكت بعض ما تحتاج اليه إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠) يعلم سرهم و علانيتهم فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم و يرزقهم على حسب مصالحهم و يجوز ان يراد ان البسط و القبض من امر اللّه الّذي يعلم سرائرهم و ظواهرهم- و اما العباد فعليهم ان يقتصدوا- او يراد انه تعالى يبسط تارة و يقبض اخرى فاستنوا بسنته و لا تقبضوا كل القبض و لا تبسطوا كل البسط- و يجوز ان يكون هذا تمهيدا لقوله. ٣١ وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ يعنى البنات كما كانوا يفعلون خَشْيَةَ إِمْلاقٍ مخافة الفقر نهاهم عن القتل و ضمن لهم أرزاقهم فقال نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً قرا ابن عامر برواية ابن ذكوان و ابو جعفر بفتح الخاء و الطاء مقصورا- و ابن كثير بكسر الخاء و فتح الطاء ممدودا- و الباقون بكسر الخاء و سكون الطاء- قال البغوي معنى الكل واحد اى اثما كَبِيراً (٣١) و قال البيضاوي على قراءة الجمهور مصدر من خطأ خطأ كاثم اثما- و على قراءة ابن عامر اسم من أخطأ يضاد الصواب و قيل لغة فيه كمثل و مثل و حذر و حذر- و على قراءة ابن كثير اما لغة او مصدر خاطا خطاء كقاتل قتالا- عن ابن مسعود قال سالت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اىّ الذنب أعظم قال ان تجعل للّه ندّا و هو خلقك- قلت ان ذلك لعظيم ثم اىّ قال ان تقتل ولدك مخافة ان تطعم معك- قلت ثم اىّ قال ان تزنى حليلة جارك- متفق عليه. ٣٢ وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى اى لا تأتوا بدواعيها من العزم عليه- او على بعض مقدماتها فضلا ان تباشروه إِنَّهُ اى الزنى كانَ فاحِشَةً فعلة ظاهرة القبح زائدته وَ ساءَ سَبِيلًا (٣٢) بئس طريقا طريقه- و هو الغصب على الابضاع المودي الى قطع الأنساب و هيجان الفتن عن بريدة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ان السموات السبع و الأرضين السبع ليلعنّ الشيخ الزاني و ان فروج الزناة لتؤذى اهل النار بنتن ريحها- رواه البزار و عن انس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال المقيم على الزنى كعابد وثن- رواه الخرابطى و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا زنى الرجل خرج منه الايمان فكان عليه كالظلة فاذا قلع رجع اليه الايمان- رواه ابو داؤد و اللفظ له و الترمذي و البيهقي و الحاكم و فى الصحيحين عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يزنى الزاني حين يزنى و هو مؤمن و لا يسرق السارق حين يسرق و هو مؤمن و لا يشرب الخمر حين يشربها و هو مؤمن-. ٣٣ وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّه قتلها من مسلم او ذمى إِلَّا بِالْحَقِّ يعنى بحد او قصاص او بغى او سب الصحابة رضى اللّه عنهم و نحو ذلك و اما المرتد فنفسه ليست مما حرم اللّه قال اللّه تعالى إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّه وَ رَسُولَهُ ... «١» أَنْ يُقَتَّلُوا الاية- و قال اللّه تعالى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي- و قال اللّه تعالى النَّفْسَ «٢» بِالنَّفْسِ- و عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ان لا اله الا اللّه و انى رسول اللّه الا بإحدى ثلاث الثيب الزاني و النفس بالنفس و التارك لدينه المفارق للجماعة- رواه الشيخان و ابو داؤد و الترمذي و النسائي و ليس المراد بتارك دينه المولد لانه ليس بامرئ مسلم يشهد ان لا اله الا اللّه بل المراد به الفاني فى الهوى المفارق للجماعة من الروافض و الخوارج و أمثال ذلك و اللّه اعلم (فصل) عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أول ما يقضى يوم القيامة فى الدماء- متفق عليه و عن البراء بن عازب ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لزوال الدنيا أهون على اللّه من قتل مؤمن بغير حق- رواه ابن ماجة بسند حسن و البيهقي و زاد لو اهل سمواته و اهل ارضه اشتركوا فى دم مؤمن لادخلهم اللّه النار- و روى النسائي من حديث بريدة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قتل المؤمن (١) و فى القرآن و رسوله و يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ ... فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا-. (٢) و فى القران أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ. أعظم عند اللّه من زوال الدنيا- و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقى اللّه مكتوب بين عينيه آئس من رحمة اللّه- رواه ابن ماجة و الاصبهانى و زاد قال ابن عيينة هو ان يقول اق لا يتم كلمة اقتل- و اخرج البيهقي من حديث ابن عمر نحوه و عن معاوية قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كل ذنب عسى اللّه ان يغفره الا الرجل يموت كافرا او يقتل مؤمنا متعمدا- رواه النسائي و صححه الحاكم و اخرج ابو داؤد و صححه ابن حبان و الحاكم من حديث ابى الدرداء نحوه- و عن ابى موسى قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا أصبح إبليس بث جنوده من أضل اليوم مسلما البسه التاج قال فيجي ء هذا فيقول لم ازل به حتّى طلق امرأته- فيقول او شك ان يتزوج- قال و يجي ء هذا فيقول لم ازل «١» به حتّى عق والديه- فيقول أوشك ان يبرهما- و يجي ء هذا فيقول لم ازل به حتّى أشرك فيقول أنت أنت و يجي ء هذا فيقول لم ازل به حتّى قتل فيقول أنت أنت و يلبسه التاج رواه ابن حبان فى صحيحه وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً غير مستوجب للقتل عمدا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ اى لمن يلى امره بعد وفاته و هو الوارث سُلْطاناً اى قوة و تسلطا بالمؤاخذة بالقصاص فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ قرا حمزة و الكسائي لا تسرف بالتاء الفوقانية على الخطاب- و الباقون بالياء التحتانية على الغيبة- قيل الخطاب للقاتل و الضمير راجع اليه- يعنى لا يسرف القاتل فى القتل بان يقتل من لا يحق قتله فان العاقل لا يفعل ما يعود عليه بالهلاك فى الدنيا و الاخرة- و قال ابن عباس و اكثر المفسرين الخطاب و الضمير لولى المقتول و المعنى لا يقتل الولي غير القاتل- و ذلك انهم كانوا فى الجاهلية إذا قتل منهم قتيل لا يرضون بقتل قاتله حتّى يقتلوا اشرف منه- و قال سعيد بن جبير إذا كان القاتل واحدا فلا يقتل جماعة بدل واحد و كان اهل الجاهلية إذا كان المقتول شريفا لا يرضون بقتل القاتل وحده حتّى يقتلوا معه جماعة من أقربائه- و قال قتادة معناه لا يمثّل بالقاتل إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) قال مجاهد الضمير راجع الى من قتل ظلما يعنى ان المقتول ظلما منصور فى الدنيا بايجاب القواد على قاتله- و فى الاخرة بتكفير خطاياه و إيجاب النار لقاتله- و قال قتادة الضمير راجع الى وليه يعنى انه منصور على القاتل باستيفاء القصاص منه- يجب على الائمة نصره و قيل الضمير راجع الى الّذي يقتله الولي إسرافا بايجاب القصاص و الوزر على المسرف-. (١) و فى الأصل لم ازل حتّى قتل-. ٣٤ وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ فضلا ان تتصرفوا فيه إِلَّا بِالَّتِي اى بالطريقة الّتي هِيَ أَحْسَنُ الطرق من محافظة مال اليتيم و التجارة فيه لاجله حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ غاية لجواز التصرف الصالح الّذي دل عليه الاستثناء وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ اى بما عاهدكم اللّه من تكاليفه و ما عاهدتم الناس عهدا مشروعا إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا (٣٤) اى مطلوبا يطلب من العاهد ان لا يضيعه و يفى ء به او مسئولا عنه فيسئل عن الناكث و يعاتب عليه او يسئل العهد تبكيتا للناكث كما يقال للموءودة باىّ ذنب قتلت و يجوز ان يراد صاحب العهد بحذف المضاف. ٣٥ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ و لا تبخسوا فيه وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ قرا حمزة و الكسائي و حفص هنا و فى الشعراء بكسر القاف و الباقون بضمها و هو الميزان- قال مجاهد هو لفظ رومى عرّب- و لا يقدح ذلك فى كون القران عربيا لان اللفظ العجمي إذا استعمل فى الكلام العربي و اجرى عليه ما يجرى على العربي من الاعراب و التعريف و التنكير صار عربيّا- و قال الأكثر هو عربى ماخوذ من القسط بمعنى العدل الْمُسْتَقِيمِ السوي ذلِكَ خَيْرٌ فى الدنيا وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٣٥) اى عاقبة تفعيل من ال إذا رجع. ٣٦ وَ لا تَقْفُ اى لا تتبع من قفا يقفوا إذا تبع اثره- و منه القافة لتتبّعهم الآثار ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ اى ما لم يتعلق به علمك بالحس او الخبر الصادق او البرهان- احتج بهذه الاية من قال انه لا يجوز العمل بالادلة الظنّية- و جوابه ان المراد بالعلم هاهنا الاعتقاد الراجح المستفاد من سند سواء كان قطعيّا او ظنيّا و استعماله بهذا المعنى شائع- و قيل انه مخصوص بالعقائد- و قيل برمى المحصنات و شهادة الزور قال مجاهد معناه لا ترم أحدا بما ليس لك به علم- و قال قتادة معناه لا تقل رايت و لم تره و سمعت و لم تسمعه و علمته و لم تعلمه- قلت وجوب العمل بأحاديث الآحاد الجامعة للشرائط فى الرواة و القياس الصحيح و الحكم بشهادة رجلين او رجل و امرأتين ثبت بالادلة القطعية من النصوص و الإجماع- كقوله تعالى فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا- و قوله تعالى فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ- و قوله تعالى وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ الاية- و بما تواتر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه كان يرسل احاد الصحابة لتبليغ الاحكام فاتباعها اتباع للعلم لاستناد الظن بالعلم و اللّه اعلم إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (٣٦) ضمير عنه راجع الى مصدر لا تقف يعنى كل واحد من هذه الأعضاء كان عن ذلك القفوة و الاتباع مسئولا- او الضمير راجع الى كلّ يعنى كل من هذه الأعضاء كان مسئولا عن نفسه يعنى عما فعل به صاحبه- او الضمير راجع الى صاحب السمع و البصر يعنى كل هذه الأعضاء يسئل عن صاحبها فيسئل السمع انه هل سمع صاحبه ما قال سمعته- و يسئل البصر هل ابصر صاحبه ما قال رايت- و يسئل القلب هل علم صاحبه ما قال علمت- عن شكل بن حميد قال أتيت النبي صلى اللّه عليه و سلم فقلت يا نبى اللّه علمنى تعويذا أتعوذ به فاخذ بيدي فقال قل أعوذ بك من شر سمعى و من شر بصرى و شر لسانى و شر قلبى و شر منيّى- قال حفظتها رواه الترمذي و ابو داؤد و النسائي و الحاكم و صححه و البغوي قال سعيد يعنى راوى الحديث المنى ماؤه يعنى يضع ماءه فى ما لا يحل- و الأعضاء لما كانت مسئولة عن أحوالها شاهدة على صاحبها أجريت مجرى العقلاء و اطلق عليها لفظ أولئك- او يقال ان أولاء و ان غلبت فى العقلاء لكنه من حيث انه اسم جمع لذا و هو يعم القبيلتين جاء لغيرهم- و خص الأعضاء الثلاثة بالذكر لانها آلات لتحصيل العلوم الّتي يجب الحصر على اتباعها فان اكثر المحسوسات يدرك بالسمع و البصر- و المعقولات بأسرها تدرك بالقلب-. ٣٧ وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً اى ذا مرح و هو الكبر و الاختيال إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ بشدة وطأتك و تكبرك وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا (٣٧) بتطاولك و استعلائك و هو تهكم بالمختال و تعليل للنهى بان الاختيال حماقة محضة لا تفيد أصلا و لا يقدر المختال على شي ء أصلا الا بمشية اللّه- عن عياض بن حمار المجاشعي ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ان اللّه اوحى الىّ ان تواضعوا حتّى لا يفخر أحد على أحد و لا يبغى أحد على أحد- رواه مسلم و عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر- الحديث رواه مسلم و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول اللّه الكبرياء ردائى و العظمة إزاري فمن نازعنى واحدا منهما أدخلته النار- رواه مسلم و عن سلمة بن الأكوع قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتّى يكتب فى الجبارين فيصيبه ما أصابهم- رواه الترمذي و عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال يحشر المتكبرون أمثال الذر يوم القيامة فى صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون الى سجن فى جهنم يسمى بونس تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة اهل النار طينة الخبال- رواه الترمذي و عن اسماء بنت عميس قالت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول بئس العبد عبد تخيل و اختال و نسى الكبير المتعال الحديث- رواه الترمذي و البيهقي فى شعب للايمان و عن عمر قال و هو على المنبر يا ايها الناس فانى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول من تواضع للّه رفعه اللّه فهو فى نفسه صغير و فى أعين الناس كبير و من تكبر وضعه اللّه فهو فى أعين الناس صغير و فى نفسه كبير حتّى لهو أهون عليهم من كلب او خنزير و اللّه اعلم- اخرج ابن جرير عن ابن عباس رضى اللّه عنهما انه قال ان التورية كلها فى خمس عشرة اية من بنى إسرائيل ثم قرا وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللّه إِلهاً آخَرَ الآيات. ٣٨ كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ قرا الكوفيون و ابن عامر بضم الهمزة و الهاء على التذكير مرفوعا على انه اسم كان و ما بعده خبره- فذلك اشارة الى الخصال المذكورة من قوله تعالى. وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللّه إِلهاً آخَرَ و ضمير سيّئه راجع الى الكل- أضاف السىّ ء الى الكل يعنى ان المنهي عن الأشياء المذكورة فان من الأشياء المذكورة مأمورات و منهيات- و قرا اهل الحجاز و البصرة سيّئة بفتح التاء للتانيث مع التنوين منصوبا على انه خبر كان- و الاسم ضمير كل و ذلك اشارة الى ما نهى عنه خاصة من قوله وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ الى هنا فانها سيئات لا حسنة فيها و على هذا قوله عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) بدل من سيئة او صفة لها محمولة على المعنى فانه بمعنى سيئا- و يجوز ان يكون مكروها منصوبا على الحال من المستكن فى كان او فى الظرف على انه صفة سيئة و المراد بالمكروه المبغوض المقابل للمرضى ٣٩ ذلِكَ اى الاحكام المتقدّمة مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ فى القاموس الحكمة بالكسر العدل و العلم و الحلم بمعنى الاناءة و العقل و النبوة و القران و الإنجيل- قلت و المراد هاهنا العلم النافع وَ لا تَجْعَلْ ايها الإنسان مَعَ اللّه إِلهاً آخَرَ كرره للتنبيه على ان التوحيد مبدا الأمر و شرط لصحة الأعمال كلها و منتهاه فانه من قصد بفعله او تركه غير وجه اللّه ضاع سعيه و انه رأس الحكمة و ملاكها- فالتوحيد علم مقصود بذاته و العلوم غيره مقصودة للعمل و رتب عليه اولا ما هو عائدة الشرك فى الدنيا و ثانيا ما هو نتيجته فى العقبى فقال فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً تلوم نفسك و يلومك اللّه و الخلائق كلها مَدْحُوراً (٣٩) مبعدا عن رحمة اللّه. ٤٠ أَ فَأَصْفاكُمْ خطاب لمن قال الملائكة بنات اللّه- و الاستفهام للانكار و الفاء للعطف على محذوف تقديره اجعل لكم البنين فاصفاكم اختاركم رَبُّكُمْ بما هو الصفوة من الأولاد اى بِالْبَنِينَ وَ اتَّخَذَ لنفسه بناتا مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً و هذا خلاف ما عليه عقولكم و عادتكم إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً (٤٠) فى القباحة حيث تنسبون الأولاد اليه تعالى و هى من خواص بعض الأجسام الّتي يتطرق إليها سرعة الزوال ثم تجعلون له تعالى من الأولاد أدون الصنفين ثم تجعلون الملائكة الذين هم الطف خلق اللّه أدونها-. ٤١ وَ لَقَدْ صَرَّفْنا اى كررنا هذا المعنى بوجوه من التقرير فِي مواضع عديدة من هذَا الْقُرْآنِ او المعنى و لقد كررنا بوجوه من التقرير ما ذكرنا فى هذا القران من العبر و الحكم و الأمثال و الاحكام و الحجج و التذكير- و يجوز ان يراد بهذا القران ابطال نسبة الولد لا سيما البنات اليه تعالى- و التقدير و لقد صرفنا القول فى هذا المعنى و التشديد فى صرفنا للتكثير لِيَذَّكَّرُوا قرا الجمهور بتشديد الذال من التذكر اى ليتعظوا فلا ينسبوا الى اللّه تعالى ما لا يليق به- و يأتوا بما أمروا و ينتهوا عما نهوا عنه- و قرا حمزة و الكسائي بسكون الذال و ضم الكاف و كذلك فى الفرقان من الذكر و هو ايضا بمعنى التذكر وَ ما يَزِيدُهُمْ تصريفنا و تذكيرنا شيئا إِلَّا نُفُوراً (٤١) اى ذهابا عن الحق و تباعدا. ٤٢ قُلْ يا محمّد لهؤلاء المشركين لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ قرا ابن كثير و حفص بالياء على الغيبة على ان الكلام مع الرسول و الباقون بالتاء على الخطاب للمشركين إِذاً اى إذا كان كذلك ظرف لما بعده لَابْتَغَوْا لطلبوا إِلى ذِي الْعَرْشِ الّذي هو مالك الملك سَبِيلًا (٤٢) بالمغالبة و القهر كما هو عادة الملوك و إمكان التمانع ثابت بالبداهة و التمانع يستلزم عجز أحدهما او كليهما و هو مناف للالوهية- و الجملة جواب لقولهم و جزاء للو. ٤٣ سُبْحانَهُ تنزه اللّه تنزيها عن التمانع و العجز المنافى للالوهية وَ تَعالى عَمَّا يَقُولُونَ اى المشركون عُلُوًّا اى تعاليا كَبِيراً (٤٣) اى تباعدا غاية البعد فانه تعالى فى أعلى مراتب الوجود و البقاء كذاته- و اتخاذ الولد من ادنى مراتبه فانه من خواص ما يتسارع اليه الفناء- و المشاركة من ادنى مراتب المالكية- قرا حمزة و الكسائي تقولون بالتاء خطابا للمشركين و الباقون بالياء للغيبة على انه تعالى تنزه به نفسه عن مقالتهم-. ٤٤ تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ قرا ابو عمرو و حفص و حمزة و الكسائي و يعقوب تسبح بالتاء لتأنيث الفاعل و الباقون بالياء التحتانية للحائل و كون التأنيث غير حقيقى وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ له اى ينزهه عما هو من لوازم الإمكان و توابع الحدوث و مناف للالوهية «١» متلبسا بِحَمْدِهِ على جمال ذاته و كمال صفاته و تواتر انعاماته بلسان المقال الّتي أعطاها اللّه إياه و يسمعها من اعطى اللّه سبحانه سماعا لقلبه- عن عبد اللّه بن مسعود قال كنا نعد الآيات بركة و أنتم تعدونها تخويفا- كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى سفر فقلّ الماء فقال اطلبوا فضلة من ماء فجاءوا باناء فيه ماء قليل- فادخل يعنى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يده فى الإناء ثم قال حى على الطهور المبارك و البركة من اللّه- فلقد رايت الماء ينبع من بين أصابع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- و لقد كنا نسمع تسبيح الطعام و هو يؤكل- رواه البخاري و قال (١) و فى الأصل ملتبسا [.....]. مجاهد كل الأشياء تسبح للّه حيّا كان او جمادا و تسبيحها سبحان اللّه و بحمده- و قال ابراهيم النخعي و ان من شي ء جماد اوحى الا يسبح بحمده حتّى صرير الباب و نقيض السقف- و حصر بعضهم التسبيح على الحي من الأشياء- و قال قتادة تسبح «١» الحيوانات و الناميات- و قال عكرمة الشجرة تسبح و الاسطوانة لا تسبح- و لا وجه للقول بالتخصيص و قد صح حنين الاسطوانة بمفارقة النبي صلى اللّه عليه و سلم- و قال اللّه تعالى يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ- و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان الجبال ينادى الجبل هل مربك أحد ذكر اللّه فاذا قال نعم استبشر- رواه الطبراني عن ابن مسعود و ايضا يسبح كل شي ء بلسان الحال حيث يدل بامكانها و حدوثها على الصانع القديم الواجب الوجود لذاته المنزه عما لا يليق به من النقص و الزوال المتصف بصفات الكمال- و الاقتصار على القول بأحد النوعين من التسبيح تقصير وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ ايها الناس يعنى أكثرهم تَسْبِيحَهُمْ المقالى و المشركون لكمال غباوتهم و العمه غافلون عن التسبيح الحالي ايضا إِنَّهُ كانَ حَلِيماً لا يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم و شرككم غَفُوراً (٤٤) لمن تاب منكم اخرج ابن المنذر عن ابن شهاب قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا تلا القران على مشركى قريش و دعاهم الى اللّه- قالوا (يهزءون به) قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ «٢» بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ- فانزل اللّه تعالى فى ذلك من قولهم. (١) عن عمر بن الخطاب قال لا تلطموا وجوه الدواب فان كل شي ء يسبح بحمده- و عن ميمون بن مهران قال اتى ابو بكر الصديق بغراب وافر الجناحين فجعل ينشر جناحيه و يقول ما صيد من صيد و لا عضدت من شجرة الا بما ضيّعت من التسبيح- و روى نحوه الزهري و قال اتى ابو بكر بغراب الحديث ١٢ ازالة الخفا منه رحمه اللّه-. (٢) و فى الأصل و بيننا بينك حجاب-. ٤٥ وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً يحجب القلوب عن فهمه و الانتفاع به قال قتادة هو الاكنة مَسْتُوراً (٤٥) ذلك الحجاب عن الحس او مستورا بحجاب اخر حيث لا يفهمون و لا يفهون انهم لا يفهمون- و قيل المستور هاهنا بمعنى الساتر كما فى قوله تعالى كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا يعنى آتيا- و فسر بعضهم بالحجاب بين رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و بين الناس يحجبه صلى اللّه عليه و سلم عن الأعين الظاهرة كما قال البغوي انه روى عن سعيد بن جبير انه لما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ جاءت امراة ابى لهب و معها حجر و النبي صلى اللّه عليه و سلم مع ابى بكر فلم تره- فقالت لابى بكر اين صاحبك بلغني انه هجانى فقال و اللّه ما ينطق بالشعر و لا يقوله- فرجعت و هى تقول قد كنت أتيت بهذا الحجر لارضخ به رأسه- فقال ابو بكر ما راتك يا رسول اللّه قال لا لم يزل ملك بينى و بينها يسترنى- قلت فحينئذ الاية واقعة حال إذ لم يكن انه صلى اللّه عليه و سلم كلما قرا القران لا يراه الكفار. ٤٦ وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً اغطية تكنها و تحول دونها عن ادراك الحق و قبوله أَنْ يَفْقَهُوهُ اى كراهة ان يفقهوه او لئلا يفقهوه- و يجوز ان يكون مفعولا لما دل عليه قوله و جعلنا على قلوبهم اكنة اى منعناهم ان يفقهوه وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً يمنعهم عن السماعة سماع قبول و لما كان القران معجزا من حيث اللفظ و المعنى اثبت لمنكريه مانعا عن فهم المعنى و عن ادراك حسن النظم وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ غير مشفوع به الهتهم مصدر وقع موقع الحال و أصله واحدا وحده وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) عنه هربا من استماع التوحيد و نفرة فهو منصوب على العلية او نفورا يعنى تولية فهو منصوب على المصدرية- او نفورا يعنى نافرين جمع نافر كعاقد و عقود منصوب على الحال. ٤٧ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ اى نحن اعلم بالحال او بالطريقة الّتي يستمعون القران بسببه و لاجله او متلبسا به من الاستهزاء بك و بالقران فمفعول يستمعون محذوف و به صلة او حال و بيان لما اى يستمعون القران للاستهزاء او هازئين و الواجب ان يستمعوه جادين إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ و أنت تقرا القران ظرف لا علم و كذا وَ إِذْ هُمْ نَجْوى مصدر بمعنى الفاعل او محمول بتقدير ذو- او جمع نجى يعنى نحن اعلم بغرضهم من الاستماع حين هم يستمعون إليك مضمرون له- او حين هم يتناجون بينهم اى يتحدثون او ذووا نجوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ يعنى الوليد بن المغيرة و أصحابه- او بدل من إذ قبله وضع المظهر اى لفظ الظالمين موضع المضمر للدلالة على ان قولهم إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (٤٧) ظلم و المسحور الّذي سحر به فزال عقله- و قال مجاهد مخدوعا و قيل مصروفا عن الحق يقال ما سحرك عن كذا يعنى ما صرفك و قال ابو عبيد يعنى ذا سحر و السحر الرية يعنى بشرا ذا رية مثلكم يأكل و يشرب و يتنفس. ٤٨ انْظُرْ يا محمّد كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فقال بعضهم ساعر و قال بعضهم ساحر او مسحور و قال بعضهم كاهن و قال بعضهم مجنون فَضَلُّوا عن الحق حيث ضربوا أمثالا لا مصداق لها أصلا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (٤٨) الى الحق و الرشاد حيث جعل اللّه على قلوبهم اكنة- او المعنى لا يستطيعون سبيلا الى ما يريدون من الطعن الموجه بل يأتون طعنا غير موجه- فيتها فتون و يخبطون فى امره كالمتحير فى امره لا يدرى ما يصنع-. ٤٩ وَ قالُوا يعنى مشركى مكة أَ إِذا كُنَّا عِظاماً بعد الموت وَ رُفاتاً و هو ما تكسر و بلى من كل شي ء كالفتات و الحطام فى القاموس رفته يرفته كسره و دقّه و انكسروا ندق لازم و متعدو كغراب الحطّام- و قال مجاهد يعنى ترابا أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) مجدّدا انكار و استبعاد لما بين غضاضة الحي و يبوسة الرميم من المنافاة- و خلقا منصوب على المصدرية من مبعوثين- او حال من النائب مناب فاعله و العامل فى إذا ما دل عليه مبعوثون لا نفسه لان ما بعد انّ لا يعمل فيما قبلها. ٥٠ قُلْ يا محمّد جوابا لهم كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) ٥١ أَوْ خَلْقاً اى مخلوقا اخر مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ اى من جنس ما يبعد عندكم من قبول الحيوة حتّى يكون ابعد فى الصدور لقبول الحيوة من العظام الرميمة كالسموات و الأرضين و الجبال- فان اللّه قادر على احيائكم على ذلك التقدير ايضا لاشتراك الأجسام فى قبول الاعراض فكيف إذا كنتم عظاما مرفوتة و قد كانت غضة موصوفة بالحياة قبل ذلك و الشي ء اقرب للقبول بما عهد فيه مما لم يعهد و ليس هذا امر تكليف و الزام بل امر تقدير اى افرضوا أنفسكم حجارة او حديدا فى الشدة و قوة الجمادية بحيث لا يقبل الحيوة فى زعمكم فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا حيّا بعد الموت قُلِ يعيدكم حيّا بعد الموت الَّذِي فَطَرَكُمْ خلقكم أَوَّلَ مَرَّةٍ و قد كنتم ترابا و هو ابعد من الحيوة- و ليس أول الخلق باهون من الاعادة فَسَيُنْغِضُونَ اى يحركون إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ تعجبا و استهزاء وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ هو اى بعثكم و اعادتكم حيّا قَرِيباً (٥١) فان كل ما هو ات قريب- او المعنى يكون اقرب زمانا من بدء خلق العالم- و قريبا منصوب على الخبر و جاز ان يكون اسم عسى مضمرا و ان يكون خبره و قريبا منصوب على الظرف اى فى زمان قريب-. ٥٢ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ اى فتجيبون من القبور بدل من قوله قريبا على تقدير كونه خبرا او ظرفا- او هو منصوب باذكر اى يوم يدعوكم اللّه من القبور الى موقف القيامة للمحاسبة على لسان اسرافيل عليه السلام فتجيبونه و قيل معناه يبعثكم فتبعثون استعار لهما الدعاء و الاستجابة للتنبيه على سرعتهما و المقصود منهما الإحضار للمحاسبة و الجزاء بِحَمْدِهِ حال من فاعل تستجيبون اى حامدين على كمال قدرته مقرين بانه «١» خالقهم و باعثهم يحمدون حين لا ينفعهم الحمد- او المعنى منقادين لبعته انقياد الحامدين عليه- و قيل هذا خطاب مع المؤمنين فانهم يبعثون حامدين بخلاف الكفار- فانهم يبعثون قائلين يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ... يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّه- روى الختلي فى الديباج عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال أخبرني جبرئيل انّ لا اله الا اللّه انس للمسلم عند موته و فى قبره و حين يخرج من قبره يا محمّد لو تراهم حين يقومون من قبورهم ينفضون رءوسهم- هذا يقول لا اله الا اللّه و الحمد للّه فيبيض وجهه- و هذا ينادى يحسرتى على ما فرّطتّ فى جنب اللّه مسودة وجوههم- و روى الطبراني و ابن ابى حاتم و ابن مردوية عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليس على اهل لا اله الا اللّه وحشة فى الموت و لا فى القبور و لا فى النشور- كانى انظر إليهم عند الصيحة ينفضون رءوسهم من التراب يقولون الْحَمْدُ للّه الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ- و اخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير نحوه وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ فى الدنيا او فى القبور إِلَّا قَلِيلًا (٥٢) لما يرون من الهول قال قتادة يستحقرون مدة الدنيا فى جنب القيامة- قال الكلبي كان المشركون يؤذون المسلمين فشكوا الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فانزل اللّه عز و جل. (١) و فى الأصل بانهم خالقهم-. ٥٣ وَ قُلْ يا محمّد لِعِبادِي المؤمنين يَقُولُوا الكلمة الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الكلمات يعنى الدعوة الى الإسلام و قول لا اله الا اللّه بالرفق و اللين و اقامة البراهين و اظهار النصح بلا خشونة مع المشركين و لا ان تكافؤهم بسفههم- و قال الحسن يقول له يهديك اللّه و كان هذا قبل الاذن فى القتال- و قيل نزلت فى عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه شتمه بعض الكفار فامره بالعفو- و قيل امر اللّه المؤمنين بان يقولوا و يفعلوا الكلمة و الخلة الّتي هى احسن الكلمات و الخلل- و قيل الأحسن كلمة الإخلاص لا اله الا اللّه إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ النزغ إيقاع الشر و إفساد ذات البين- يعنى لا يقولوا ما يتطرق اليه الشيطان بالفساد فيفسد و يلقى العداوة بينهم إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) ظاهر العداوة فيفضى الكفار الى جهنم و يفضى المؤمنين الى الشر العاجل. ٥٤ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ اى يوفقكم للايمان فيرحمكم أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ اى يميتكم على الشرك فيعذبكم كذا قال ابن جريج- قيل هذا تفسير للّتى هى احسن و ما بينهما اعتراض- اى قولوا لهم هذه الكلمة و نحوها يعنى لا تسافهوهم و لا تشاتموهم و لا تصرحوا بانكم من اهل النار- فانه يهجّهم على الشر مع ان اختتام أمرهم غيب لا يعلمه الا اللّه- و قال الكلبي هذا خطاب من اللّه للمؤمنين و المعنى إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ فينجيكم من اهل مكة أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ فيسلطهم عليكم وَ ما أَرْسَلْناكَ يا محمّد عَلَيْهِمْ يعنى على الكفار وَكِيلًا (٥٤) موكولا إليك أمرهم حتّى تكرههم على الايمان و تهتم بكفرهم انما أرسلناك مبشرا و نذيرا فدارهم و مر أصحابك باحتمال الأذى منهم-. ٥٥ وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من غيره يعلم من هو اهل لنبوته و ولايته و مخلوق و مجبول للسعادة و من هو على نقيض ذلك- فهو رد لاستبعاد قريش ان يكون يتيم ابى طالب نبيّا و يكون فقراء الناس كبلال و صهيب أولياءه و من اهل الجنة و يكون شرفاء قريش من اهل النار وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ بالفضائل النفسانية و التبرّى عن العلائق الجسمانية لا بكثرة الأموال و الأولاد و نحو ذلك- قال قتادة فى هذه الاية اتخذ اللّه ابراهيم خليلا و كلم موسى تكليما و قال لعيسى كن فكان (قلت كلمه فى المهد صبيّا و أتاه الكتاب و الحكمة و علمه التورية و الإنجيل و أيده بروح القدس) قال و اتى سليمان ملكا لا ينبغى لاحد من بعده يعنى سخر له الجن و الانس و الشياطين مقرنين فى الأصفاد و اتى داؤد زبورا كما قال وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥) يعنى فضله بما اوحى اليه من الكتاب لا بما اوتى من الملك- ففى هذه الاية رد على ما أنكر كفار مكة فضل النبي صلى اللّه عليه و سلم بان فضل الأنبياء انما كان بالفضائل النفسانية و التبرّى عن العلائق الجسمانية و العلوم الموحى إليهم و مراتب القرب من اللّه تعالى و شيوع الهداية لا بكثرة الأموال و الأولاد و نحو ذلك- فاللّه سبحانه فضله على سائر النبيين بجعله خاتم النبيين و أمته خير الأمم المذلول عليه ما كتب فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ- و أعطاه القران اقل حجما و اكثر علما و اظهر معجزة- و رفعه درجات دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى - قال البغوي الزبور كتاب علمه اللّه داود يشتمل على مائة و خمسين سورة كلها دعاء و تحميد و ثناء على اللّه عز و جل ليس فيها حلال و لا حرام و لا فرائض و لا حدود انتهى- و تنكيره هاهنا و تعريفه فى قوله تعالى وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ لانه فى الأصل فعول للمفعول كالودود بمعنى المودود- او للمصدر كالقبول و يؤيده قراءة حمزة بالضم فهو كالعباس و الفضل- او لان المراد بعض الزبور او بعضا من الزبور فيه ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اعلم اخرج البخاري و غيره عن ابن مسعود قال كان ناس من الانس يعبدون ناسا من الجن فاسلم الجنيون و استمسك الآخرون بعبادتهم فانزل اللّه تعالى. ٥٦ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ انها الهة مِنْ دُونِهِ من الجن فَلا يَمْلِكُونَ اى لا يستطيعون كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ كالمرض و الفقر و القحط وَ لا تَحْوِيلًا (٥٦) اى تحويل ذلك منكم الى غيركم. ٥٧ أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ اى يدعوهم المشركون الهة و يعبدونهم من الجن يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ حيث أمنوا برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يطلبون الى اللّه القربة بالطاعة- و قيل الوسيلة التوصل الى شي ء برغبة و هى أخص من الوصيلة لتضمنها معنى الرغبة- فالوسيلة الى اللّه مراعاة سبيله بالعلم و العمل و تحرى مكارم الشريعة فهى القربة- و فى القاموس الوسيلة و الواسلة المنزلة عند الملك الدرجة و القربة و وسّل الى اللّه تعالى توسّلا عمل عملا تقرب به اليه أَيُّهُمْ أَقْرَبُ بدل من واو يبتغون اى يبتغى من هو اقرب منهم الى اللّه الوسيلة فكيف بغير الأقرب كذا قال الزجاج- و قيل معناه يطلبون أيهم اقرب الى اللّه فيتوسلون به او ضمن يبتغون الوسيلة معنى يحرصون فكانه قال يحرصون أيهم يكون اقرب الى اللّه و ذلك بالطاعة و ازدياد الخير وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ فكيف يزعمون انها الهة إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧) حقيقا بان يحذره كل أحد حتّى الرسل و الملائكة- و قال البيضاوي المراد ان الذين زعمتم انها الهة من دونه كالملائكة و المسيح و عزير لا يملكون كشف الضر و يبتغى أقربهم الى اللّه الوسيلة قال ابن عباس و مجاهد عيسى و امه و عزير و الملائكة و الشمس و القمر و النجوم يطلبون إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ... وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ و قال البغوي أصاب المشركين قحط شديد حتّى أكلوا الميتة و الجيف فاستغاثوا بالنبي صلى اللّه عليه و سلم ليدعو لهم فانزل اللّه تعالى قُلِ للمشركين ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ انها الهة من دون اللّه فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ-. ٥٨ وَ إِنْ اى ما مِنْ قَرْيَةٍ من القرى إِلَّا قرية نَحْنُ مُهْلِكُوها اى مخربوها و مهلكوا أهلها بالموت قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً إذا كفروا و عصوا قال مقاتل و غيره يعنى مهلكوها فى حق المؤمنين بالاماتة او معذبوها فى حق الكفار بانواع العذاب قال ابن مسعود إذا ظهر الزنى و الربوا فى قرية اذن اللّه فى هلاكها كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ اى فى اللوح المحفوظ مَسْطُوراً (٥٨) مكتوبا عن عبادة بن الصامت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان أول ما خلق اللّه القلم فقال له اكتب قال ما اكتب قال اكتب القدر فكتب ما كان و ما هو كائن الى الابد رواه الترمذي و قال هذا حديث غريب اسنادا و اللّه اعلم- اخرج الطبراني و الحاكم عن ابن عباس و الطبراني و ابن مردوية عن ابن الزبير نحوه ابسط منه انه سال اهل مكة النبي صلى اللّه عليه و سلم ان يجعل لهم الصفا ذهبا و ان ينحى عنهم الجبال فيزرعوا فاوحى اللّه الى رسوله ان شئت ان أستأني بهم فعلت و ان شئت ان أوتيهم ما سالوا فعلت فان لم يؤمنوا أهلكتهم كما أهلكت من كان قبلهم فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم لا بل تستانّ بهم فانزل اللّه عز و جل. ٥٩ وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ الّتي سالها الكفار استعير المنع لترك إرسال الآيات و ان مع صلتها فى موضع النصب على انه مفعول ثان لمنعنا إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا اى بالآيات المقترحة المستثنى فى محل الرفع بمنعنا الْأَوَّلُونَ اى كفار الأمم السابقة الذين كفار مكة أمثالهم فى الطبع و العادة فاهلكوا- و انه لو أرسلنا بالآيات لكذّب هؤلاء كما كذّب أولئك فيهلك هؤلاء كما أهلك أولئك- لان من سنتنا فى الأمم انهم إذ سالوا الآيات ثم لم يؤمنوا بعد إرسال الآيات ان نهلكهم و لا نمهلهم- و قد حكمنا بامهال هذه الامة قال اللّه تعالى بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَ السَّاعَةُ أَدْهى وَ أَمَرُّ ثم ذكر بعض الأمم المهلكة بسبب تكذيب الآيات المقترحة فقال وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ بسوالهم مُبْصِرَةً اى اية بينة ذات أبصار فَظَلَمُوا اى كفروا بِهَا او ظلموا أنفسهم بعقرها فاهلكوا وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ المقترحة الباء زائدة إِلَّا تَخْوِيفاً (٥٩) من نزول العذاب المستأصل فى الدنيا- فان لم يخافوا نزل بهم العذاب فى الدنيا- او المعنى ما نرسل بالآيات الّتي نرسلها يعنى غير المقترحة من المعجزات او آيات القران إِلَّا تَخْوِيفاً بعذاب الاخرة منصوب على العلية و جاز ان يكون بالآيات فى موضع الحال و يكون المفعول محذوفا- اى ما نرسل الرسل متلبسين بالآيات الا لاجل التخويف من عذاب الاخرة. ٦٠ وَ إِذْ قُلْنا لَكَ اى اذكر إذا وحينا إليك إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ ذاتا و علما و قدرة فلا تبال أحدا منهم و بلّغ ما أرسلت به- او المعنى أحاط بقريش بمعنى اهلكهم من أحاط بهم العدو- فهو بشارة بوقعة بدر و التعبير بلفظ الماضي لتحقق وقوعه و اللّه اعلم- اخرج ابو يعلى عن أم هانى و ابن المنذر عن الحسن نحوه انه صلى اللّه عليه و سلم لما اسرى به يعنى ليلة المعراج أصبح يحدث نفرا من قريش و هم يستهزءون به- فطلبوا منه اية فوصف لهم بيت المقدس و ذكر لهم قصة العير- فقال الوليد بن المغيرة هذا ساحر- فانزل اللّه تعالى وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ ليلة المعراج من الآيات إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ حيث أنكرها كفار مكة و ارتد ناس ممن أمن به- و من هذه الاية قال من قال ان المعراج كان بالمنام اسرى بروحه دون بدنه كما ذكرنا قول عائشة و يدل عليه حديث رواه البخاري و قال ابن عباس المراد بالرؤيا هاهنا رؤيا عين و هو قول سعيد ابن جبير و الحسن و مسروق و قتادة و مجاهد و عكرمة و ابن جريح و الأكثرين «١»- و العرب يقول رايت بعيني رؤية و رؤيا- و قال بعضهم كان له صلى اللّه عليه و سلم معراجان معراج رؤية بالعين و معراج رؤية بالقلب- و اخرج ابن مردوية عن الحسين بن على عليهما السلام ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أصبح يوما مهموما فقيل مالك يا رسول اللّه قال انى رايت فى المنام كانّ بنى امية يتعاورون منبرى هذا- فقيل يا رسول اللّه لا تهتم فانها دنيا تنالهم فانزل اللّه تعالى وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ و المراد بالفتنة على هذا ما حدث فى ايامهم من البدعة و الفسوق- و أخرجه ابن جرير من حديث سهل بن سعد بلفظ راى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بنى فلان ينزون على منبره نزوة القردة فساءه ذلك فانزل اللّه ذلك و أخرجه ابن ابى حاتم من حديث عمرو بن العاص و من حديث يعلى بن مرة و اخرج ابن ابى حاتم و ابن مردوية و البيهقي فى الدلائل عن سعيد بن المسيب مرسلا قال راى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بنى امية على المنابر فساءه «٢» (١) فى الأصل و الأكثرون-. (٢) عن ابن عمرو ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال رايت ولد الحكم بن ابى العاص على المنابر كانهم القردة و انزل اللّه فى ذلك وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ يعنى الحكم و ولده و روى تريب من ذلك عن سهل بن سعد و معلى بن مرة و الحسين بن على و سعيد بن المسيب و عائشة- منه رحمه اللّه. ذلك فاوحى اللّه اليه انما أعطوها فقرت عينه- و أسانيد هذه الأحاديث ضعيفة- و قال قوم أراد بهذا الرؤيا ما راى النبي صلى اللّه عليه و سلم عام الحديبية انه دخل مكة هو و أصحابه فعجّل السير الى مكة قبل للاجل فصده المشركون فرجع فكان رجوعه فى ذلك العام بعد ما اخبر انه يدخلها فتنة و موجبا للشك لبعض الناس حتّى دخلها فى العام المقبل فانزل اللّه تعالى لَقَدْ صَدَقَ اللّه رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ- قال البيضاوي و فيه نظر إذ الاية مكية الا ان يقال راها بمكة و حكاها حينئذ قلت و هو ايضا غير سديد و قال لعله رؤيا راها ما كان فى وقعة بدر كقوله إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّه فِي مَنامِكَ قَلِيلًا فقد روى انه لما ورد ماءه قال لكانّى انظر الى مصارع القوم هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان فتسامعت به قريش و استسحروا منه- وَ الشَّجَرَةَ يعنى شجرة الزقوم عطف على الرؤيا يعنى و ما جعلنا الشجرة الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ الا فتنة للناس قال البغوي و ذلك الفتنة من وجهين أحدهما ان أبا جهل قال ان ابن كبشة يوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يزعم انها تنبت فيها شجرة و تعلمون ان النار تحرق الشجرة- و لم يشعر السفيه ان من قدر على ان يحفظ دبر السمندل من ان يحرقه النار و أحشاء النعامة من أذى الحمر و قطع الحديد المحماة الّتي تبلعها قادر على ان يخلق فى النار شجرة لا يحرقها- قال فى المدارك السمندل دويبة ببلاد الترك يتخذ منها مناديل إذا توسخت طرحت فى النار فذهب الوسخ و بقي المنديل سالما لا يعمل فيه النار- و فى القاموس هو طائر ببلاد الهند لا يحترق بالنار- ثانيهما ان ابن الزبعرى قال ان محمّدا يخوّفنا بالزقوم؟؟؟ عرف الزقوم الا الزبد و التمر- فقال ابو جهل يا جارية تعالى زقّمينا فاتت بالزبد و التمر فقال يا قوم تزقموا فان هذا ما يخوّفكم به محمّد فوصفه اللّه فى الصافات- و اخرج ابن ابى حاتم و البيهقي فى البعث عن ابن عباس قال لما ذكر اللّه الزقوم و خوّف به هذا الحي من قريش قال ابو جهل هل تدرون ما هذا الزقوم الّذي يخوّفكم به محمّد قالوا لا قال عجوة يثرب بالزبد اما لان أمكننا منها لنتزقّمنّها تزقما فانزل اللّه تعالى وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ الاية و انزل إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ- و لعنها فى القران بمعنى لعن طاعمها وصفه به على المجاز للمبالغة او وصّفها به لانها فى اصل الجحيم و هو ابعد مكان من الرحمة- او لانها مكروهة مؤذية يقول العرب لكل طعام كريه ضار ملعون و قد اولت بالشيطان و ابى جهل و الحكم بن ابى العاص وَ نُخَوِّفُهُمْ بانواع التخويف فَما يَزِيدُهُمْ تخويفنا شيئا إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً (٦٠) اى تمردا و عتوا عظيما-. ٦١ وَ اذكر إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) اى لمن خلقته من طين فنصبه بنزع الخافض او على التميز- و يجوز ان يكون حالا من الراجع المحذوف الى الموصول اى خلقته و هو طين و حمله باعتبار ما كان او و هو من طين- و فيه على الوجوه ايماء لعلة الإنكار- قال البغوي و ذلك ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس ان اللّه بعث إبليس حتّى أخذ كفّا من تراب الأرض من عذبها و ملحها فخلق منه آدم فمن خلقه من العذب فهو سعيد و ان كان ابن كافرين و من خلقه من الملح فهو شقى و ان كان ابن نبيين- و روى احمد و الترمذي و ابو داود و الحاكم و صححه و البيهقي عن ابى موسى الأشعري قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ان اللّه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنوا آدم من قدر الأرض منهم الأحمر و الأبيض و الأسود و بين ذلك و السهل و الحزن و الخبيث و الطيب. ٦٢ قالَ إبليس أَ رَأَيْتَكَ الكاف لتأكيد الخطاب لا محل له من الاعراب هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ هذا مفعول أول لا رايت و الموصول صفته و المفعول الثاني محذوف لدلالة صلته عليه- و المعنى أخبرني عن هذا الّذي كرمته علىّ و تأمرونى بالسجود له لم كرّمته علىّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ اثبت الياء فى الحالين ابن كثير و أثبتها فى الوصل فقط نافع و ابو عمرو و حذفها الباقون فى الحالين و المعنى لان أمهلتني و لا تميتنى إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ و لهذا كلام مبتدا و اللام موطية للقسم و جوابه لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ اى لاستأصلنّهم بالإغواء من احتنك الجراد الزرع إذا أكله كله- او المعنى لاقودنّهم كيف شئت و استولينّ عليهم من قول العرب حنك الدابة يحنكها إذا شد فى حنكها الأسفل حبلا يقودها- فى القاموس احتنكه استولى عليه و الجراد الأرض أكلت ما عليها إِلَّا قَلِيلًا (٦٢) يعنى المعصومين الذين استثناهم اللّه تعالى و قال إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ قال البيضاوي انما علم ان ذلك يتسهل له اما استنباطا من قول الملائكة أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها مع التقرير او تفرسا من خلقته ذا وهم و غضب و شهوة-. ٦٣ قالَ اللّه تعالى اذْهَبْ امض لما قصدته و هو طرد و تخلية بينه و بين ما سولت له نفسه ثم عقبه بما افضى اليه سوء اختياره فقال فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ اى جزاؤك و جزاء اتباعك فغلّب المخاطب على الغائب جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) اى وافرا مكملا من قولهم وفر لصاحبك عرضه- و انتصاب جزاء على المصدر بإضمار فعله او حال موطية لقوله. مَوْفُوراً ٦٤ وَ اسْتَفْزِزْ اى استخف و استزل و استجهل فى القاموس استفزه استخفه و أخرجه من داره. مَنِ اسْتَطَعْتَ ان تستفزه مِنْهُمْ اى من ذرية آدم بِصَوْتِكَ قال ابن عباس اى بدعائك إياهم الى المعصية- و كل داع الى معصية اللّه فهو من جند إبليس- و قال الأزهري اى ادعهم دعاء تستفزهم به الى جانبك و قال مجاهد اى بالغناء و المزامير وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ جلبه يجلبه اجتلبه ساقه من موضع الى اخر كذا فى القاموس- و منه فى الحديث لاجلب- قال فى النهاية الجلب فى شيئين أحدهما ان يقدم المصدق على الزكوة فينزل موضعا ثم يرسل من يجلب اليه فنهى عن ذلك و أمران تؤخذ صدقاتهم على مياههم و أماكنهم- ثانيهما فى السباق و هو ان يتبع الرجل فرسه فيزجره و يجلب عليه و يصيح حثّا له على الجري فنهى عن ذلك و فى القاموس اجلب على الفرس زجره و ايضا الجلبة الصوت- فى القاموس رعد فجلب اى فصوّت و اجلب عليه إذا صاح به و استحثه فى حديث الزبير يقود الجيش ذا الجلب قال القتيبي هو جمع جلبة و هو الأصوات- و ايضا الجلب الاجتماع قال فى النهاية يقال اجلبوا عليه إذا تجمعوا و اجلبه اى أعانه فى حديث العقبة انكم تبايعون محمّدا صلى اللّه عليه و سلم على ان تحاربوا العرب و العجم مجلبة اى مجتمعة على الحرب- فمعنى الاية اجمع مكائدك و خيلك و رجلك او المعنى صح عليهم و حثهم على المعاصي او المعنى سقهم الى المعاصي او المعنى أعنهم على المعاصي و قال معناه استعن عليهم بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ اى بركبانك و مشاتك قال اهل التفسير كل راكب و ماش فى المعاصي فهو من جند إبليس- و قال مجاهد قتادة ان له خيلا و رجلا من الجن و الانس و هو كل من يقاتل فى المعصية- و قال البيضاوي معناه صح عليهم باغوائك من راكب و راجل- و يجوز ان يكون تمثيلا لتسلطه على من يغويه بمن عدا على قوم فاستفزهم من أماكنهم و اجلب عليهم بجنده حتّى استأصلهم- قرا حفص رجلك بكسر الجيم و الباقون بسكونها و هما لغتان وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ بحملهم على كسبها و جمعها من الحرام و صرفها فيها كذا قال مجاهد و الحسن و سعيد بن جبير- و قال عطاء هو الربوا و قال هو ما كان المشركون يحرمونه من الانعام كالبحيرة و السائبة و الوصيلة و الحام- و قال الضحاك و ما كانوا يذبحونه لالهتهم وَ الْأَوْلادِ روى عن ابن عباس انها الموءودة- و قال مجاهد و الضحاك هم أولاد الزنى- و قال الحسن و قتادة هو انهم هوّدوا أولادهم و نصّروهم و مجسّوهم- و عن ابن عباس رواية اخرى هو تسمية الأولاد عبد الحارث و عبد الشمس و عبد العزى و عبد الدار و نحوها- و روى عن جعفر بن محمّد عليهما السلام ان الشيطان يقعد على ذكر الرجل فلم يقل بسم اللّه أصاب معه امرأته و انزل فى فرجها كما ينزل الرجل- قال البغوي و فى بعض الاخبار ان فيكم مغربين قيل و من المغربين قال الذين شارك فيهم الجن وَ عِدْهُمْ المواعيد الباطلة كشفاعة الأصنام و الاتكال على كرامة الآباء و تأخير التوبة و ان لا جنة و لا نار و لا بعث- فان قيل هذا امر بالمعصية و اللّه لا يأمر بالفحشاء قلنا هذا امر بمعنى التهديد كقوله تعالى اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ- او للاهانة يعنى لا يخلّ ذلك بملكي وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً (٦٤) اعتراض لبيان مواعيده و الغرور تزيين الباطل بما يظن انه حق- قال البغوي فى الآثار ان إبليس لما اخرج الى الأرض- قال يا رب أخرجتني من الجنة لاجل آدم فسلطنى عليه و على ذريته- قال أنت مسلط فقال لا استطيعه الا بك فزدنى قال اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ الاية- و قال آدم يا رب سلطت ا؟؟؟ علىّ و على ذريتى و انى لا استطيعه الا بك- قال لا يولد لك ولد الا وكلت به؟؟؟ قال زدنى قال الحسنة بعشر أمثالها- قال زدنى قال التوبة معروضة ما دام الروح؟؟؟ قال زدنى قال يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا الاية- و فى الخبر ان إبليس قال يا رب بعثت أنبياء و أنزلت كتبا- فما قراءتى قال الشعر قال فما كتابى قال الوشم قال و من رسلى قال الكهنة قال و ابن مسكنى قال الحمّامات قال و اين مجلسى قال الأسواق قال اى شي ء مطعمى قال ما لم يذكر عليه اسمى قال ما شرابى قال كل مسكر قال و ما حبالتى قال النساء قال و ما اداتى قال المزامير. ٦٥ إِنَّ عِبادِي اى المخلصين و الاضافة للتعظيم لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ اى على اغوائهم سُلْطانٌ قدرة وَ كَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (٦٥) اى من يتوكلون به فى الاستعاذة منك و يوكلون اليه أمورهم فهو يحفظهم منك. ٦٦ رَبُّكُمُ الَّذِي اى هو الّذي يُزْجِي اى يسوق و يجرى لَكُمُ الْفُلْكَ اى السفن فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ الربح و انواع الرزق ما ليس عندكم إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) حيث هيّا لكم ما تحتاجون اليه و سهّل لكم ما تعسّر. ٦٧ وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ شدة الخوف من الغرق فِي الْبَحْرِ ضَلَّ اى ذهب عن خواطركم مَنْ تَدْعُونَ اى من تدعونه الهة إِلَّا إِيَّاهُ اى الا اللّه تعالى فانكم لا تذكرون حينئذ سواه- او ضل من تدعونه الهة عن اغاثتكم و لكن اللّه يذهب عنكم الضر فالاستثناء حينئذ منقطع فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من الغرق إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عن التوحيد وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) للنعم هذا كالتعليل للاعراض. ٦٨ أَ فَأَمِنْتُمْ الهمزة للانكار و الفاء للعطف على محذوف تقديره أ نجوتم فامنتم فحملكم ذلك على الاعراض و لا ينبغى ذلك فانه من قدر ان يهلككم فى البحر بالغرق قدر أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ اى يقلب اللّه ناحية البر و أنتم عليه او يقلبه بسببكم فيهلككم فقوله بكم اما حال أو صلة أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً اى ريحا يحصب به اى يرمى بالحصباء اى الحصى و هى الحجارة الصغار ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (٦٨) مانعا يحفظكم من ذلك إذ لا راد لفعله. ٦٩ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ اى فى البحر تارَةً مرة أُخْرى يخلق دواعى يلجيكم الى ان ترجعوا فتركبوا البحر فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ قال ابن عباس اى عاصفا و هى الريح الشديدة و قال ابو عبيدة الّتي تقصف اى تدق و تحطم كل شي ء و قال القتيبي هى الّتي تقصف الشجر اى تكسره فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ اى بسبب اشراككم او بكفرانكم نعمة الانجاء أول مرة- قرا ابن كثير و ابو عمرو ان نّخسف و نرسل و نعيد و نغرقكم بالنون فيهن على التكلم و التعظيم و الباقون بالياء على الغيبة غير ان أبا جعفر و يعقوب قرا فتغرقكم بالتاء الفوقانية على التأنيث و الضمير راجع الى الريح ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩) اى ناصرا و ثائرا يتبعنا مطالبا بالثار و قيل من يتبعها بالإنكار-. ٧٠ وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ بحسن الصورة و المزاج إلا عدل و اعتدال القامة و التميز بالعقل و الافهام بالنطق و الاشارة و الخط و التهدى الى اسباب المعاش و المعاد و التسلط على ما فى الأرض بان سخر لهم سائر الأشياء و التمكن من الصناعات و اتساق الأسباب و المسببات العلوية و السفلية الى ما يعود عليهم بالمنافع و ان يتناول الطعام بيده الى فيه بخلاف سائر الحيوانات و العشق و المعرفة و الوحى و مراتب القرب من اللّه تعالى- اخرج الحاكم فى التاريخ و الديلمي عن جابر بن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الكرامة الاكل بالأصابع وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ على الدواب وَ الْبَحْرِ على السفن من حملته حملا إذا جعلت له ما يركبه او حملناهم فيهما حتّى لا يخسف بهم الأرض و لم يغرقهم الماء وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ اى المستلذّات من المطاعم و المشارب وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (٧٠) الفضل فى اللغة الزيادة و المراد هاهنا الزيادة فى الثواب و مراتب القرب الى اللّه تعالى فالضمير المنصوب فى فضلناهم راجع الى بنى آدم باعتبار بعض افراده يعنى المؤمنين كما فى قوله تعالى وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ الى قوله تعالى وَ بُعُولَتُهُنَّ اى الرجعيات منهن أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ و ذلك لان الكفار منهم هم أدون خلق اللّه و ابغضهم اليه و أخبثهم و أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ- و ظاهر الاية تدل على ان فضلهم على كثير من الخلائق لا على كلهم فقال قوم فضلوا على جميع الخلق الا الملائكة- و قال الكلبي فضلوا على الخلائق كلهم الأعلى طائفة من الملائكة منهم جبرئيل و ميكائيل و اسرافيل و ملك الموت- و قال قوم فضلوا على جميع الخلق و على الملائكة كلهم و قد يوضع الأكثر موضع الكل كما قال اللّه تعالى هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ الى قوله وَ أَكْثَرُهُمْ «١» كاذِبُونَ اى كلهم و يؤيده حديث جابر يرفعه قال لما خلق اللّه آدم و ذرّيّته قالت «٢» الملائكة يا رب خلقتهم يأكلون و يشربون و ينكحون و يركبون فاجعل لهم الدنيا و لنا الاخرة فقال اللّه تعالى لا اجعل من خلقته بيدي و نفخت فيه من روحى كمن قلت له كن فكان- رواه البيهقي فى شعب الايمان- و التحقيق ان عوام المؤمنين اى الصالحين منهم و هم اولياء اللّه أفضل من عوام الملائكة و اما غير الأولياء من المؤمنين فبعد ما يمحصون من الخطايا اما بالمغفرة و اما بالعقاب بقدر ذنوبهم و يدخلون الجنة يلتحقون بالأولياء- و خواص المؤمنين و هم الأنبياء عليهم السلام أفضل من خواص الملائكة قال اللّه تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ- و روى عن ابى هريرة انه قال المؤمن أكرم على اللّه من الملائكة الذين عنده كذا ذكر البغوي- و رواه ابن ماجة بلفظ المؤمن أكرم على اللّه من بعض ملائكته يعنى جنس المؤمن أكرم على اللّه من بعض ملائكته قلت قيد الأكثر فى هذه الاية و كذا قيد البعض فى حديث ابى هريرة عند ابن ماجة لا ينفى افضلية بعض المؤمنين يعنى الأنبياء على جميع الملائكة الا بالمفهوم و لا عبرة بالمفهوم لا سيما فى مقابلة عموم منطوق قوله تعالى أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ- الا ترى ان معنى الاية فضلنا جميع المؤمنين يعنى كل واحد منهم على كثير من الخلائق- و ذالا ينافى ما قال اهل السنة فى كتب العقائد ان الخواص منهم فضلوا على كل ملك حتّى خواصهم و وجه فضلهم على الملائكة انهم مجبولون على الطاعة فيهم عقل بلا شهوة و فى البهائم شهوة بلا عقل و فى الإنسان عقل و شهوة فمن عمل على مقتضى عقله و ترك شهوته جاهد فى اللّه حق جهاده فاجتباه اللّه و قال اللّه تعالى الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللّه لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ- و من عمل بشهوته و أهمل عقله وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فالجحيم له المأوى و هم كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ-. (١) و فى الأصل و أكثرهم الكاذبون-. (٢) و فى الأصل ... قالت يا رب-. ٧١ يَوْمَ نَدْعُوا منصوب بإضمار اذكر او ظرف لما دل عليه وَ لا يُظْلَمُونَ ... كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قال مجاهد و قتادة اى بنبيهم و قال ابو صالح و الضحاك بكتابهم الّذي انزل إليهم اخرج ابن مردوية عن على قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يدعى قوم بامام لهم و كتاب ربهم- و عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بامام زمانهم الّذي دعاهم فى الدنيا الى ضلالة او هدى قال اللّه تعالى وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا- و قال وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ و قيل بمعبودهم- و عن سعيد بن المسيب قال كل قوم يجتمعون الى رئيسهم فى الخير و الشر- و قال الحسن و ابو العالية أعمالهم الّتي قدموها- و قال قتادة ايضا بكتابهم الّذي فيه أعمالهم بدليل سياق الاية و يسمى الكتاب اماما- قال اللّه تعالى وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ- و قيل بالقوى الحاملة لهم على عقائدهم و أفعالهم- و قال محمّد بن كعب بامهاتهم جمع أم كخف و خفاف و الحكمة فى ذلك إجلال عيسى عليه السلام و اظهار شرف الحسن و الحسين رضى اللّه عنهما- و ان لا يفتضح أولاد الزنى- قوله بامامهم حال اى مختلطين بمن ايتمّوا به من نبىّ او كتاب او رئيس فى الخير او الشر او حاملين أعمالهم او صحائفها- او صلة لندعوا يعنى ندعوهم باسم امامهم يقال يا امة فلان يا اتباع فلان يا اهل دين و كتاب كذا يا اصحاب اعمال كذا يا ابن مريم يا ابن فاطمة و نحو ذلك فَمَنْ أُوتِيَ من المدعوين كِتابَهُ اى كتاب عمله بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٧١) منصوب على المصدرية اى لا يظلمون ظلما قدر فتيل- او على المفعولية بتضمين ينقصون اى لا تنقص من أجورهم ادنى شي ء قدر فتيل- و الفتيل ما يكون فى شق النواة او ما فتلته بين أصابعك من الوسخ- و جمع اسم الاشارة و الضمير لان من اوتى فى معنى الجمع و تعليق القراءة بايتاء الكتاب باليمين يدل على من اوتى كتابه بشماله او وراء ظهره إذا اطلع ما فيه غشيهم من الحجل و الحيرة ما يحبس ألسنتهم من القراءة فلا يقرءون بل يقولون يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ- و لم يذكر الكفار و إيتاء كتبهم اكتفاء بقوله. ٧٢ وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى قيل هذه اشارة الى النعم الّتي عدها اللّه من قوله رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ الى قوله تفضيلا- يعنى من كان فى هذه النعم الّتي قد عاين أعمى فهو فى الاخرة الّتي لم يره أشد عمى و أضل سبيلا- يروى هذا عن ابن عباس- و قيل اشارة الى الدنيا يعنى من كان فى هذه الدنيا أعمى القلب عن روية ادلة التوحيد و طريق الحق فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى قيل معناه التفضيل يعنى أشد عمى منه فى الدنيا لا يرى طريق النجاة أصلا- فان قيل افعل التفضيل شرطه ان لا يكون من لون او عيب فكيف اعتبر فيه معنى التفضيل- قلنا المراد بالعمى هاهنا عمى القلب و المانع من بناء افعل التفضيل العيب الظاهري- فالاعمى هاهنا كالاحمق و الأجهل و الأبله و لذلك امال ابو عمرو و يعقوب فى الاول فقط- و لم يميلا فى الثانية لان افعل التفضيل إذا استعمل بمن كانت الفه فى حكم المتوسط فلا يمال بخلاف افعل الصفة و اما ابو بكر و حمزة و الكسائي فقرءوا بالامالة فى الحرفين و ورش بين بين فيهما و الباقون بالفتح فيهما على أصولهم فهم لا يعتبرون معنى التفضيل وَ أَضَلُّ سَبِيلًا (٧٢) منه فى الدنيا لزوال الاستعداد و فقدان الآلة و المهلة و كان فى الدنيا تقبل توبته ان تاب و فى الاخرة لا تقبل توبته او المعنى أضل سبيلا من الأعمى- اخرج ابن مردوية و ابن ابى حاتم من طريق ابن إسحاق عن محمّد بن ابى محمّد عن عكرمة عن ابن عباس قال خرج امية بن خلف و ابو جهل بن هشام و رجال من قريش فاتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالوا يا محمّد تعال فتمسّح بآلهتنا و ندخل معك فى دينك و كان يحب اسلام قومه فرق لهم فانزل اللّه تعالى. ٧٣ وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الاية قال صاحب لباب النقول فى اسباب النزول هذا أصح ما ورد فى سبب نزولها و هو اسناد جيد و له شواهد- اخرج ابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يستلم الحجر فقالوا لا ندعك لتستلم حتى تلمّ بآلهتنا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ما علىّ لو فعلت و اللّه يعلم منى خلافه- و ذكر البغوي نحوه و فيه و اللّه يعلم انى لكاره بعد ان يدعونى حتّى استلم الحجر- و اخرج ابن ابى حاتم عن ابن شهاب نحوه و اللّه اعلم- و اخرج ابن ابى حاتم عن جبير بن نفير ان قريشا آتوا النبي صلى اللّه عليه و سلم فقالوا ان كنت أرسلت إلينا فاطرد الذين اتبعوك من سقاط الناس و مواليهم فنكون نحن أصحابك فركن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إليهم فنزلت- و اخرج ابن ابى حاتم عن محمّد بن كعب القرظي انه صلى اللّه عليه و سلم قرا النجم أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى فالقى عليه الشيطان تلك الغرانيق العلى ان شفاعتهن لترتجى فنزلت هذه الاية فما زال مهموما حتّى انزل اللّه تعالى وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى الاية- و فى هذه الأحاديث دليل على ان هذه الاية مكية- و قيل انها مدنية و ذكر سبب نزوله ما اخرج ابن مردوية من طريق العوفى عن ابن عباس ان ثقيفا قالوا للنبى صلى اللّه عليه و سلم اجّلنا سنة حتّى تهدى لالهتنا فاذا قبضنا الّذي تهدى للالهة احرزنا بم اسلمنا- فهمّ ان يؤجلهم فنزلت و اسناده ضعيف و ذكر البغوي هذه القصة بانه قال ابن عباس و قد ثقيف على النبي صلى اللّه عليه و سلم فقالوا نبايعك على ان تعطينا ثلاث خصال قال و ما هن قالوا لا نحنى فى الصلاة اى لا ننحنى- و لا نكسر أصنامنا بايدينا- و ان تمتعنا باللات سنة من غير ان نعبدها- فقال صلى اللّه عليه و سلم لا خير فى دين لا ركوع فيه و لا سجود و اما ان لا تكسروا أصنامكم بايديكم فذلك لكم و اما الطاغية يعنى اللات و العزى فانى غير متمتعكم بها قالوا يا رسول اللّه انا نحب ان يسمع العرب انك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا فان خشيت ان يقول العرب اعطيتهم ما لم تعطنا فقل اللّه امر بذلك فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فطمع القوم فى سكوته ان يعطيهم ذلك فانزل اللّه تعالى وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ الاية- ان هى المخففة و اللام هى الفارقة و المعنى ان الشأن انهم قاربوا بمبالغتهم ان يوقعوك فى الفتنة بالاستنزال عن الّذي أوحينا إليك من الاحكام لِتَفْتَرِيَ اى لتختلق عَلَيْنا غَيْرَهُ اى غير ما أوحينا إليك وَ إِذاً اى إذا فعلت ذلك الافتراء لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (٧٣) وليّا لهم-. ٧٤ وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ يعنى لو لا ثبّت تثبيتا إياك على الحق لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ اى لقاربت ان تميل الى اتباع مرادهم شَيْئاً من الركون و لليل قَلِيلًا (٧٤) منصوب على المصدرية يعنى كنت على قرب من الركون إليهم لقوة خدعهم و شدة احتيالهم و حرصك على إسلامهم قليلا من الركون لا كثيرا منه لو لا عصمتنا إياك و لكن أدركتك عصمتنا فمنعت ان تقرب من ادنى الركون إليهم فضلا من القرب الى شدة الركون و من نفس الركون بالطريق الاولى- فالاية دلت على كمال الاستقامة و الصلاح فى استعداد النبي صلى اللّه عليه و سلم- بحيث لو لم يتداركه العصمة و التثبيت من اللّه فرضا لا تقرب من الميلان الى المعصية الا قليلا و قليل الاقتراب الى المعصية لا يقتضى الوقوع فى المعصية فكيف إذا أدركته العصمة و منعته من قليل الاقتراب من الركون فضلا من كثير الاقتراب و شتّان بينه و بين نفس الركون فالاية صريح فى انه صلى اللّه عليه و سلم ما همّ بإجابتهم مع قوة الداعي و اللّه اعلم. ٧٥ إِذاً اى إذا قاربت الى الركون شيئا قليلا لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ اى عذاب الدنيا و عذاب الاخرة ضعف ما يعذب به فى الدارين غيرك لان خطاء الخطير اخطر- و كان اصل الكلام عذابا ضعفا فى الحيوة و عذابا ضعفا فى الممات يعنى مضاعفا ثم حذف الموصوف و أقيم الصفة مقامه ثم أضيفت لما تضاف موصوفها- و قيل الضعف من اسماء العذاب سمى العذاب ضعفا لتضاعف الألم فيه و المعنى عذاب الحيوة عذاب الدنيا و من عذاب الممات ما يكون بعد الموت- و قيل المراد بضعف الحيوة عذاب الاخرة و بضعف الممات عذاب القبر ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) يدفع العذاب عنك و اللّه اعلم اخرج ابن ابى حاتم و البيهقي فى الدلائل من حديث شهر بن حوشب عن عبد الرّحمن ابن غنم ان اليهود آتوا النبي صلى اللّه عليه و سلم فقالوا ان كنت نبيّا فالحق بالشام فان الشام ارض المحشر و ارض الأنبياء فصدّق رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما قالوا و غزا غزوة تبوك لا يريد الا الشام فلما بلغ تبوك انزل اللّه تعالى آيات من سورة بنى إسرائيل. ٧٦ وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ اى ليزعجونك و الاستفزاز الا زعجاج بسرعة مِنَ الْأَرْضِ اى المدينة لِيُخْرِجُوكَ مِنْها فامره بالرجوع الى المدينة فقال له جبرئيل سل ربك فان لكل نبى مسئلة فقال ما تأمرنى ان اسئل قال قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً- فهؤلاء نزان فى رجعته من تبوك هذا مرسل ضعيف و له شواهد من مرسل سعيد بن جبير عند ابى حاتم و لفظه قالت المشركون للنبى صلى اللّه عليه و سلم كانت الأنبياء تسكن الشام فما لك و المدينة فهمّ ان يشخص فنزلت- و له طريق اخرى مرسلة عند ابن جرير ان بعض اليهود قال له- و ذكر البغوي قول الكلبي انه لما قدم النبي صلى اللّه عليه و سلم المدينة كره اليهود مقامه فى المدينة حسدا فاتوه و قالوا يا أبا القاسم لقد علمت ما هذه بأرض الأنبياء و ان ارض الأنبياء الشام و هى الأرض المقدسة و كان بها ابراهيم و الأنبياء عليهم السلام فان كنت نبيّا مثلهم فأت الشام- و انما يمنعك من الخروج إليها مخافتك الروم و ان اللّه سيمنعك منهم ان كنت رسوله فعسكر النبي صلى اللّه عليه و سلم على ثلاثة أميال من المدينة و فى رواية الى ذى الحليفة حتّى يجتمع اليه أصحابه و يخرج فانزل اللّه هذه الاية- و قال مجاهد و قتادة الأرض ارض مكة و الاية مكية همّ المشركون ان يخرجوه منها فكفهم اللّه عنها حتّى امره اللّه بالهجرة فخرج بنفسه- قال البغوي و هذا أليق بالآية لان ما قبلها خبر عن اهل مكة و السورة مكية- و قيل هم الكفار كلهم أرادوا ان يستفزوه من ارض العرب باجتماعهم و تظاهروا عليه فمنع اللّه رسوله صلى اللّه عليه و سلم و لم ينالوا منه ما أملوا و اللّه اعلم وَ إِذاً اى إذا استفزوك لا يلبثون خلفك قرا ابن عامر و حمزة و الكسائي و يعقوب خلافك بكسر الخاء و الالف بعد اللام و الباقون بفتح الخاء و اسكان اللام و المعنى واحد يعنى بعد خروجك او بعد استفزازك إِلَّا قَلِيلًا (٧٦) اى الا زمانا قليلا قيل و كان كذلك فان يهود المدينة قتل منهم بنوا قريظة و اجلى بنوا النضير و اجلى يهود خيبر فى خلافة عمر و قتل مشركوا مكة بعد خروج النبي صلى اللّه عليه و سلم يوم بدر و اخرج الكفار كلهم من جزيرة العرب- و قيل لم يتحقق الاستفزاز و لو استفزوا لاستوصلوا. ٧٧ سُنَّةَ نصب على المصدر اى سن اللّه ذلك سنة و هو ان يهلك كل امة اخرجوا رسولهم من بين أظهرهم فهذه سنة اللّه تعالى و انما أضاف الى الرسل حيث قال مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا لان ذلك السنة كان لاجل الرسل وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (٧٧) اى تغيرا. ٧٨ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ اللام للتاقيت كما فى قولك لثلاث خلون- يعنى صل وقت دلوك الشمس- و معناه الزوال على قول ابن عباس و ابن عمرو جابر و هو قول عطاء و قتادة و مجاهد و الحسن و اكثر التابعين كذا روى ابن مردوية عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى اللّه عليه و سلم و كذا روى البزار و ابن مردوية بسند ضعيف عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم و يدل عليه ما رواه إسحاق بن راهويه فى مسنده و ابن مردوية فى تفسيره و البيهقي فى المعرفة من حديث ابى مسعود الأنصاري قوله صلى اللّه عليه و سلم أتاني جبرئيل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر الحديث و هو من الدلك لان الناظر إليها يدلك عينه ليدفع شعاعها- و قيل معناه الغروب قال البغوي روى عن ابن مسعود انه قال الدلوك الغروب و هو قول ابراهيم النخعي و مقاتل بن حبان و الضحاك و السدىّ و معنى اللفظ يجمعهما لان اصل الدلوك الميل و الشمس يميل إذا زالت او غربت- و فى القاموس دلكت الشمس دلوكا غربت او اصفرت او زالت عن كبد السماء- قال البيضاوي اصل التركيب للانتقال و منه الدلك فان الدالك لا يستقر يده و كذا ما يتركب من الدال و اللام كدلج و دلح و دلع و دلف و دله- قال البغوي و الحمل على الزوال اولى القولين لكثرة القائلين به و لانا إذا حملنا عليه كانت الاية جامعة لمواقيت الصلاة كلها حيث قال اللّه تعالى إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ اى الى غيبوبة شفق الليل و امتلائه ظلمة و معنى الغسق الامتلاء كما ذكرنا فى سورة الفلق و فى القاموس الغسق ظلمة أول الليل و الغاسق القمر او الليل إذا غاب الشفق فذكر فيه مواقيت اربع من الصلوات الخمس الظهر و العصر و المغرب و العشاء و ذكر وقت الفجر بقوله وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ اى صلوة الفجر سميت الصلاة قرانا لان القران ركن فيها- كما سميت ركوعا و سجودا- و انتصاب القران اما على انه عطف على الصلاة اى و أقم قران الفجر قاله الفراء و قال اهل البصرة هو على الإغراء اى و عليك قران الفجر- و جاز ان يكون التقدير و اقرأ قران الفجر يعنى اقرأ القران فى صلوة الفجر- فيكون امرا بالقراءة فى صلوة الفجر عبارة و فى غيرها دلالة- و قد ذكرنا مواقيت الصلاة فى سورة النساء فى تفسير قوله تعالى إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ... إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) يشهده ملائكة الليل و ملائكة النهار عن ابى هريرة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول تفضل صلوة الجميع على صلوة أحدكم وحده بخمس و عشرين جزءا و يجتمع ملائكة الليل و ملائكة النهار فى صلوة الفجر- ثم يقول ابو هريرة اقرءوا ان شئتم وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً- رواه البخاري و غيره قال البيضاوي او يشهده شواهد القدرة من تبدل الظلمة بالضياء و النوم الّذي هو أخو الموت بالانتباه- او كثير من المصلين او من حقه ان يشهده الجم الغفير- و قيل المراد بالصلوة فى قوله تعالى أَقِمِ الصَّلاةَ صلاة المغرب لِدُلُوكِ الشَّمْسِ اى وقت غروبها إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ اى الى غيبوبة الشفق ففيه بيان لمبدا وقت المغرب و منتهاه و دلّت الاية على هذا على كون وقت المغرب ممتدا الى غيبوبة الشفق فحينئذ امر اللّه بالصلوتين لكمال اهتمامهما-. ٧٩ وَ مِنَ اللَّيْلِ اى بعض الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ اى فاترك الهجود يعنى النوم للصلوة و الضمير فى به للقران- فى القاموس الهجود بضم الهاء النوم كالتهجد و تهجّد استيقظ كهجد ضدوا هجدنام و أنام كهجّد و هجده تهجيدا أيقظه و نوّمه ضد- و الحاصل ان التشديد ان كان للازالة فمعناه ترك النوم و هو المراد هاهنا و ان كان للتعدية فمعناه نومه- قال البغوي التهجد لا يكون الا بعد النوم يقال تهجد إذا قام بعد ما ينام- قلت لما كان معناه ترك النوم للصلوة فهو يشتمل من ترك النوم الليل كله او بعضه بعد النوم او قبله فلا وجه لاشتراط النوم قبل الصلاة لقيام الليل عن ابى ذر قال ضمنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتّى بقي سبع فقام بنا حتّى ذهب ثلث الليل فلما كانت السادسة لم يقم بنا فلما كانت الخامسة قام بنا حتّى ذهب شطر الليل فقلت يا رسول اللّه لو نفلتنا قيام هذه الليلة قال ان الرجل إذا صلى مع الامام حتّى ينصرف حسب له قيام ليله فلما كانت الرابعة لم يقم بنا حتّى بقي ثلث الليل فلما كانت الثالثة جمع اهله و نساءه و الناس فقام بنا حتّى خشينا ان يفوتنا الفلاح- قلت ما الفلاح قال السحور ثم لم يقم بنا بقية الشهر- رواه اصحاب السنن الا ان الترمذي لم يذكر ثم لم يقم بقية الشهر- و عن السائب بن يزيد قال امر عمر أبيّ بن كعب و تميما الداري ان يقوما للناس بإحدى عشر ركعة فكان القاري يقرا بالمئين حتّى كنا نعتمد على العصا من طول القيام- فما كنا ننصرف الا فى فروع الفجر رواه مالك و عن أبيّ ابن كعب كان يقول كنا ننصرف فى رمضان من القيام فيستعجل الخدم بالطعام مخافة السحور و فى رواية مخافة الفجر رواه مالك- و قد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يسافر الى قريب من الصبح و فى حديث ابن عمر قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يصلى فى السفر على راحلته حيث توجهت به يومى ايماء صلوة الليل الا الفرائض و يؤتر على راحلته- متفق عليه و قال ابن عباس كان صلاتهم أول الليل هى أشد وطأ- بمعنى أجدر ان يحصوا ما فرض اللّه عليكم من القيام لان الإنسان إذا نام لم يدر متى يستيقظ- لكن التهجد اخر الليل أفضل و اكثر ثوابا منها أول الليل لما فى الصحيحين من حديث ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ينزل ربنا كل ليلة الى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الاخر الحديث- و عن عبد الرّحمن بن عبد القاري قال خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة الى المسجد يعنى فى رمضان فاذا الناس اوزاع متفرقون يصلى الرجل لنفسه و يصلى الرجل و يصلى بصلاته الرهط فقال عمر لو جمعت هؤلاء على قارى واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبيّ بن كعب قال ثم خرجت معه ليلة اخرى و الناس يصلون بصلوة قارئهم قال عمر نعمت البدعة هذه و الّتي تنامون عنها أفضل من الّتي تقومون يريد اخر الليل و كان الناس يقومون اوله- رواه البخاري و اللّه اعلم (مسئلة) كانت صلوة الليل فريضة على النبي صلى اللّه عليه و سلم فى الابتداء و على الامة بقوله تعالى يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ثم نزل التخفيف فصار الوجوب منسوخا فى حق الامة بالصلوات الخمس و بقي الاستحباب قال اللّه تعالى فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ و اختلفوا فى انه هل بقي وجوب قيام الليل فى حق النبي صلى اللّه عليه و سلم خاصة أم صار منسوخا فى حقه ايضا فقال بعض الناس ببقاء وجوب قيام الليل فى حق النبي صلى اللّه عليه و سلم لما روى عن عائشة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ثلاث هن علىّ فريضة و هى سنة لكم الوتر و السواك و قيام الليل فالامر على هذا فى هذه الاية للوجوب و معنى قوله تعالى نافِلَةً لَكَ فريضة زائدة على سائر الفرائض فرضها اللّه تعالى عليك و المختار عندى ان افتراض قيام الليل نسخ عن النبي صلى اللّه عليه و سلم ايضا و كان له تطوعا كما هو مدلول هذه الاية صريحا و لو كان المعنى فريضة زائدة لقال نافلة عليك فان صلة الوجوب يكون على دون اللام فان قيل فما وجه تخصيصه بالنبي صلى اللّه عليه و سلم و هو نافلة للعباد كلهم قلنا وجه التخصيص ان نوافل العباد كفارة لذنوبهم و النبي صلى اللّه عليه و سلم كان معصوما لم يكن عليه ذنب و قد غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر يعنى زلّاته- و ما هو من قبيل ترك الاولى فيبقى له التهجد نافلة اى زائدة فى رفع الدرجات- كذا روى مجاهد و الحسن و ابو امامة و يدل على كون التهجد تطوعا فى حق النبي صلى اللّه عليه و سلم حديث المغيرة قال قام النبي صلى اللّه عليه و سلم حتّى تورمت قدماه فقيل له لم تصنع هذا و قد غفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك و ما تأخر- قال أ فلا أكون عبدا شكورا- و لم يقل انه فريضة علىّ خاصة- و حديث ابن عمر قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يصلى فى السفر على راحلته حيث توجهت به يومى ايماء صلوة الليل الا الفرائض و يوتر على راحلته متفق عليه مسئلة اختلفوا فى ان التهجد فى حق الامة من المؤكدات او من المستحبات و المختار عندى انه من المؤكدات لمواظبة النبي صلى اللّه عليه و سلم عليه و لحديث ابن مسعود قال ذكر عند النبي صلى اللّه عليه و سلم رجل فقيل له ما زال نائما حتّى أصبح ما قام الى الصلاة قال ذك رجل بال الشيطان فى اذنه متفق عليه و لا شك ان تارك المندوبات لا يستحق اللوم و العتاب- و قوله تعالى نافِلَةً لَكَ منصوب على انه حال من الضمير المجرور فى به او على المصدرية وضع نافلة موضع تهجدا نافلة اى عبادة زائدة مفروضة او تطوعا و قد ذكرنا فضائل صلوة الليل و بعض مسائلها و مقدار ما ينبغى القراءة فيها فى تفسير سورة المزّمل- (فصل) كيف كان قيام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حين يتجهد من الليل عن زيد بن خالد الجهني انه قال لارمقن صلوة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الليلة فتوسدتّ عتبته او فسطاطه فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة- رواه مسلم ذكر البغوي قوله ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثلاث مرات و ذكره فى المشكوة اربع مرات و قال هكذا فى صحيح مسلم و افراده من كتاب الحميدي و مؤطا مالك و سنن ابى داود و جامع الأصول فمعنى قوله أوتر على هذا أوتر بواحدة و على ما ذكره البغوي معناه أوتر بثلاث- و عن عائشة قالت ما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يزيد فى رمضان و لا فى غيره على احدى عشر ركعة يصلى أربعا فلا تسئل عن حسنهن و طولهن ثم يصلى أربعا فلا تسئل عن حسنهن و طولهن ثم يصلى ثلاثا- قالت عائشة فقلت يا رسول اللّه أ تنام قبل ان توتر فقال يا عائشة ان عينى تنامان و لا ينام قلبى متفق عليه و عنها قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يصلى فيما بين ان يفرغ من صلوة العشاء الى الفجر احدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين ثم يوتر بواحدة و يسجد سجدتين قدر ما يقرا أحدكم خمسين اية قبل ان يرفع رأسه و إذا سكت المؤذن من أذان الفجر و تبين له الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الايمن حتّى يأتيه المؤذن للاقامة فيخرج- متفق عليه و عن انس بن مالك قال ما كنا نشاء ان نرى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من الليل مصليا الا رايناه و ما نشاء ان نراه نائما الا رايناه- و قال كان يصوم من الشهر حتّى نقول لا يفطر منه شيئا و يفطر حتّى نقول لا يصوم منه شيئا- رواه النسائي و عنها قال كان النبي صلى اللّه عليه و سلم يصلى من الليل ثلاث عشرة ركعة منها الوتر و ركعتا الفجر رواه مسلم و عن مسروق قال سالت عائشة عن صلوة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بالليل قال سبع و تسع و احدى عشرة ركة سوى ركعتى الفجر- رواه البخاري و عن عائشة قالت كان النبي صلى اللّه عليه و سلم إذا قام من الليل ليصلى افتتح صلاته بركعتين خفيفتين- رواه مسلم و روى ايضا عن ابى هريرة مرفوعا إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين و عن ابن عباس رضى اللّه عنهما انه رقد عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاستيقظ فتسوك و هو يقول إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ حتّى ختم السورة يعنى ال عمران ثم قام فصلى ركعتين أطال فيهما القيام و الركوع و السجود ثم انصرف فنام حتّى نفخ ثم فعل ذلك ثلاث مرات ست ركعات كل ذلك يستاك و يتوضأ و يقرا هؤلاء الآيات ثم أوتر بثلاث- رواه مسلم و عن عائشة قالت لمّا بدّن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان اكثر صلاته جالسا- متفق عليه و عن حذيفة انه راى النبي صلى اللّه عليه و سلم يصلى من الليل فكان يقول اللّه اكبر ثلاثا ذو الملكوت و الجبروت و الكبرياء و العظمة ثم استفتح فقرا البقرة ثم ركع ركوعه نحوا من قيامه فكان يقول سبحان ربى العظيم ثم رفع رأسه من الركوع فكان قيامه نحوا من ركوعه يقول لربى الحمد ثم سجد فكان سجوده نحوا من قيامه فكان يقول فى سجوده سبحان ربى الأعلى ثم رفع رأسه من السجود و كان يقعد فيما بين السجدتين نحوا من سجوده و كان يقول رب اغفر لى رب اغفر لى فصلى اربع ركعات قرا فيهن البقرة و ال عمران و النساء و المائدة او الانعام شك شعبة رواه ابو داود و عن ابى ذر قال قام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتّى أصبح باية و الاية إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ- و عن رجل من اصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم قال لمّا صلى اللّه عليه و سلم صلوة العشاء اضطجع هويا من الليل ثم استيقظ فنظر فى الأفق فقال رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا حتّى بلغ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ ثم أهوى الى فراشه فاستل منه سواكا ثم افرغ فى قدح من اداوة عندنا فاستن ثم قام فصلى حتّى قلت قد صلى قدر ما نام ثم اضطجع حتّى قلت قد نام قدر ما صلى ثم استيقظ ففعل كما فعل أول مرة و قال مثل ما قال ففعل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثلاث مرات قبل الفجر- رواه النسائي و عن أم سلمة قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ينام قدر ما صلى ثم يصلى قدر ما نام ثم ينام قدر ما صلى حتّى يصبح ثم نعتت قراءته فاذا هى تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا رواه ابو داود و الترمذي و النسائي- عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ يوم القيامة مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) منصوب على الظرف بإضمار فعله اى فيقيمك مقاما محمودا- او بتضمين يبعثك معنى يقيمك أو على الحال بمعنى يبعثك ذا مقام محمود يحمده الأولون و الآخرون- قال البغوي عن ابى وائل عن عبد اللّه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ان اللّه اتخذ ابراهيم خليلا و ان صاحبكم خليل اللّه و أكرم الخلق على اللّه ثم قرا عسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال يجلسه على العرش- و عن عبد اللّه بن سلام قال يقعده على الكرسي- و الصحيح ان المقام المحمود مقام الشفاعة اخرج احمد و ابن ابى حاتم و الترمذي عن ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم فى هذه الاية قال هو المقام الّذي اشفع فيه لامتى- و فى الصحيحين عن انس رضى اللّه عنه ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال يحبس المؤمنون يوم القيامة حتّى يهموا بذلك فيقولون لو استشفعنا الى ربنا فيريحنا من مكاننا فيأتون آدم فيقولون أنت آدم ابو الناس خلقك اللّه بيده و أسكنك فى جنته و اسجد لك ملائكته و علمك اسماء كل شي ء اشفع لنا عند ربك حتّى يريحنا من مكاننا هذا فيقول لست هناكم و يذكر خطيئته الّتي أصاب أكله من الشجرة و قد نهى عنها و لكن ايتوا نوحا أول نبى بعثه اللّه الى اهل الأرض- فيأتون نوحا فيقول لست هناكم و يذكر خطيئته الّتي أصاب سواله ربه بغير علم و لكن ايتوا ابراهيم خليل الرّحمن قال فيأتون ابراهيم فيقول انى لست هناكم و يذكر ثلاث كذبات كذبهن و لكن ايتوا موسى عبدا أتاه اللّه التورية و كلمه و قربه نجيّا- قال فيأتون موسى فيقول انى لست هناكم و يذكر خطيئته الّتي أصاب قتله النفس و لكن ايتوا عيسى عبد اللّه و رسوله و روح اللّه و كلمته- قال فيأتون عيسى فيقول لست هناكم و لكن ايتوا محمّدا غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر قال فيأتونى فاستأذن على ربى فى داره فيؤذن لى عليه فإذا رايته وقعت ساجدا فيدعنى ما شاء اللّه ان يدعنى فيقول ارفع محمّد و قل تسمع و اشفع تشفّع رسل تعطه قال فارفع رأسى فاثنى على ربى بثناء و تحميد يعلمنيه ثم اشفع فيحدلى حدا فاخرج فاخرجهم من النار و أدخلهم الجنة ثم أعود الثانية فاستأذن على ربى فى داره فيؤذن لى عليه فاذا رايته وقعت ساجدا فيدعنى ما شاء اللّه ان يدعنى ثم يقول ارفع محمّد قل تسمع و اشفع تشفع و سل تعطه قال فارفع رأسى فاثنى على ربى بثناء و تحميد يعلمنيه ثم اشفع فيحدلى حدا فاخرج فاخرجهم من النار و أدخلهم الجنة ثم أعود الثالثة فاستأذن على ربى فى داره فيؤذن لى عليه فاذا رايته وقعت ساجدا فيدعنى ما شاء اللّه ان يدعنى ثم يقول ارفع محمّد قل تسمع و اشفع تشفع و سل تعطه قال فارفع رأسى فاثنى على ربى بثناء و تحميد يعلمنيه ثم اشفع فيحدلى حدا فاخرج فأخرجهم من النار و أدخلهم الجنة حتّى ما يبقى فى النار الا من قد حبسه القران اى وجب عليه الخلود ثم تلا هذه الاية عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال و هذا المقام المحمود الّذي وعده نبيكم- و فى رواية فى الصحيحين حديث انس فى الشفاعة بمعناه و فيه فاستأذن على ربى فيؤذن لى و يلهمنى محامد أحمده بها لا يحضرنى الان فاحمده بتلك المحامد و أخرّ له ساجدا فقال يا محمّد ارفع رأسك و قل تسمع و سل تعطه و اشفع تشفع فأقول رب أمتي أمتي فيقال انطلق فأخرج منها من كان فى قلبه مثقال شعيرة من ايمان فانطلق فافعل ثم أعود فاحمده بتلك المحامد ثم أخرّ له ساجدا فذكر مثله ثم يقال انطلق فاخرج من كان فى قلبه ادنى ادنى مثقال حبة من خردل من ايمان فانطلق فافعل ثم أعود الرابعة فذكر مثله و قال يا رب ايذن لى فيمن قال لا اله الا اللّه فيقول و عزتى و جلالى و كبريائى و عظمتى لأخرجن منها من قال لا اله الا اللّه- قال السيوطي فى هذا الحديث إشكال قوى نبه عليه العلماء و ذلك ان أول الحديث فى الاراحة من كرب الموقف و آخره فى الشفاعة فى الإخراج من النار و ذلك انما يكون بعد التحول من الموقف و المرور على الصراط و سقوط من يسقط فى تلك الحالة فى النار ثم تشفع الشفاعة فى الإخراج بعد ذلك- قال الدراوردي راوى الحديث كبر سكّا على غير أصله و قد وقع فى حديث حذيفة على الصواب و هو ذكر الصراط عقيب هذه الشفاعة و فى حديث ابى هريرة و أبى سعيد فى الأمر باتباع كل امة ما كانت تعبد ثم تميز المنافقين من المؤمنين ثم وضع الصراط و المرور عليه ثم الشفاعة فى الإخراج فكانّ الأمر باتباع كل امة ما كانت تعبد هو أول فصل القضاء و الاراحة من كرب الموقف و الإخراج من النار اخر الشفاعة كذا قال القاضي عياض و النووي و غيرهما- قلت و هذا لا يضر فكانّ فى الحديث حذف و اختصار ذكر أول الشفاعة للاراحة من كرب الموقف ثم اتبعه اخر الشفاعة شفاعة الإخراج من النار و قد ثبت كل من الشفاعتين فى أحاديث اخر- قلت و المراد بقوله صلى اللّه عليه و سلم استأذن على ربى فى داره يعنى فى الجنة و الاضافة اليه للتشريف و لان رؤيته تعالى يختص بالجنة- و اخرج البخاري عن ابن عمر قال ان الناس يصيرون جثيّا كل امة تتبع نبيها يقولون يا فلان اشفع لنا حتّى ينتهى الشفاعة الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فذلك يوم يبعثه اللّه مقاما محمودا- و فى لفظ له ان الشمس لتدنو حتّى يبلغ العرق نصف الاذان فبينماهم كذلك فاستغاثوا الى آدم فيقول لست بصاحب ذلك ثم بمحمّد صلى اللّه عليه و سلم فيشفع فيقضى اللّه تعالى بين الخلق فيمشى حتّى يأخذ باب الجنة فيومئذ يبعثه اللّه مقاما محمودا يحمده اهل الجمع كلهم- و اخرج البزار و البيهقي عن حذيفة قال يجمع اللّه الناس فى صعيد واحد لا يتكلم نفس فيكون أول من يدعى محمّد صلى اللّه عليه و سلم فيقول لبيك و سعديك و الخير فى يديك و الشر ليس إليك و المهدى من هديت و عبدك بين يديك و بك و إليك لا منجا منك الا إليك تباركت و تعاليت رب البيت فعنده يشفع فذلك قوله تعالى عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً- و اخرج الترمذي و حسنه و ابن خزيمة و ابن مردوية عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انا سيد ولد آدم و لا فخر و بيدي لواء الحمد و لا فخر و ما من نبى يومئذ آدم فمن سواه الا تحت لوائى و انا أول من تنشق عنه الأرض و لا فخر فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم فيقولون أنت أبونا فاشفع لنا فيقول إذ نبت ذنبا أهبطت الى الأرض و لكن ايتوا نوحا فيقول انى دعوت على اهل الأرض دعوة فاهلكوا و لكن اذهبوا الى ابراهيم فيأتون ابراهيم فيقول انى كذبت ثلاث كذبات (ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما منها كذبة الا و هو بما «١» حل بها عن دين اللّه) و لكن ايتوا موسى فيقول انى قتلت نفسا (١) بما حل اى يدافع و يجادل من المحال بالكسر و هو الكيد و قيل المكر و القوة و الشدة- ١٢ منه رحمه اللّه. و لكن ايتوا عيسى فيقول انى عبدت من دون اللّه و لكن ايتوا محمّدا فيأتون فانطلق معهم فاخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها فيقال من هذا فأقول محمّد فيفتح لى و يقولون مرحبا فاخرّ ساجدا فيلهمنى اللّه من الثناء و الحمد و المجد فيقال ارفع رأسك و سل تعطه و اشفع تشفع و قل تسمع فذلك هو المقام المحمود- قال القرطبي رحمه اللّه قوله صلى اللّه عليه و سلم فيفزع الناس ثلاث فزعات انما ذلك و اللّه اعلم حين يؤتى بالنار تجربا زمّتها فاذا رات الخلائق تمحلت و سبقت- و اخرج ابن خزيمة و الطبراني بسند صحيح عن سلمان قال تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين ثم تدنى من جماجم الناس- قال فذكر الحديث قال فيلقون النبي صلى اللّه عليه و سلم فيقولون اشفع لنا فيقول انا صاحبكم فيخرج حتّى ينتهى الى باب الجنة فيأخذ بحلقة فى الباب فيقرع الباب فيقال من هذا فيقول محمّد فيفتح له حتّى يقوم بين يدى اللّه فيسجد فنادى ارفع رأسك سل تعطه و اشفع تشفع فذلك المقام المحمود- أورده غير تام و أخرجه ابن ابى حاتم فى السنّة و ابن ابى شيبة بتمامه فذكر الحديث بطوله و فى آخره فيشفع فى كل من كان فى قلبه مثقال حبة من حنطة من ايمان او مثقال شعيرة من ايمان او مثقال حبة من خردلة من ايمان فذاك المقام المحمود- و اخرج الطبراني عن كعب بن مالك رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يبعث الناس يوم القيامة فاكون و أمتي على تل يوم القيامة فيكسونى ربى حلة خضراء ثم يؤذن لى فاثنى عليه بما هو اهله فذلك المقام المحمود- فائدة ورد فى الشفاعة العظمى فى فصل القضاء و الاراحة فى طول الموقف مطولا من حديث ابى بكر الصديق رواه البزار و ابو يعلى و ابو عوانة و ابن حبان فى صحيحهما و حديث ابى هريرة رواه الشيخان و غيرهما و حديث ابن عباس رواه احمد و أبو يعلى و حديث حذيفة و ابى هريرة رواه مسلم و الحاكم و حديث عقبة ابن عامر رواه الطبراني و ابن المبارك و ابن جرير و غيرهم و قد مر ذلك فى سورة ابراهيم فى تفسير قوله تعالى وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ قال القرطبي هذه الشفاعة العامة الّتي خص بها نبينا صلى اللّه عليه و سلم من بين سائر الأنبياء عليهم السلام هى المرادة بقوله صلى اللّه عليه و سلم لكل نبىّ دعوة مستجابة فتعجل كل نبى دعوته و انا اختبأت دعوتى شفاعة لامتى و هذه الشفاعة لاهل الموقف و قال و انما هى ليعجل حسابهم و يراحوا من هول الموقف قلت عندى ان المراد بقوله صلى اللّه عليه و سلم اختبأت دعوتى شفاعة لامتى الشفاعة الثالثة لاجل إخراج المذنبين من النار و يكون للنبى صلى اللّه عليه و سلم ثلاث شفاعات كما يدل عليه ما اخرج ابن جرير فى تفسيره و الطبراني فى المطولات و ابو يعلى فى مسنده و البيهقي فى البعث و ابو موسى المديني فى المطولات و على بن معبد فى كتاب الطاعة و العصيان و عبد بن حميد و ابو الشيخ فى كتاب العظمة عن ابى هريرة حديثا طويلا فى خلق الصور و نفخه نفخة الفزع و الصعق و البعث الى ان يدخل اهل الجنة الجنة و اهل النار النار و ان يخرج المؤمنون من النار مكتوبا فى رقابهم الجهنّميون عتقاء اللّه و انا اذكره منتخبا قد ذكر فى ذلك الحديث ان الناس يقفون موقفا واحد الا يقضى بينهم فيصيحون و يقولون من يشفع لنا فيأتون آدم و يقول ما انا بصاحب ذلك فيأتون الأنبياء نبيا نبيا فلما جاءوا نبيا يأبى عليهم حتّى يأتونى فأنطلق معهم حتّى اتى الفحص اى قدام العرش فاخرّ ساجدا فيقول اللّه ما شأنك و هو اعلم فأقول يا رب وعدتني الشفاعة فشفعنى فى خلقك فاقض بينهم فيقول شفعتك اتيكم فاقضى بينكم فذكر الحديث بطوله فذكر القضاء فى البهائم و الوحش ثم يقضى فى العباد فى الدماء و المظالم ثم يقول ليلحق كل قوم بآلهتهم فيلحقون و يبقى المؤمنون و فيهم المنافقون فيكشف لهم عن ساق فيخر المؤمنون ساجدين و يخر كل منافق على قفاه يجعل أصلابهم كصياصى البقر ثم يضرب الصراط فيمرون عليه الى قوله فناج سالم و ناج مخدوش- و مكدوش على وجهه فى جهنم- فاذا مضى اهل الجنة الى الجنة قالوا من يشفع لنا الى ربنا فندخل الجنة- فيقول من أحق من أبيكم آدم فيأتونه فيذكر ذنبا فيقول ما انا بصاحب ذلك و لكن عليكم بنوح فيأتونه فيقول نحو ذلك فيأتون ابراهيم و موسى و عيسى كل يقول نحو ذلك فيأتونى ولى عند ربى ثلاث شفاعات وعدنيهن فانطلق الى الجنة فاخذ بحلقة الباب ثم استفتح فيفتح لى فاذا نظرت الى ربى خررت ساجدا فيأذن لى فى حمده و تمجيده مالم يؤذن لاحد من خلقه ثم يقول ارفع رأسك يا محمّد اشفع تشفع سل تعطه فاقول رب وعدتني الشفاعة فشفعنى فى اهل الجنة ان يدخلوا الجنة فيشفعنى فذكر الحديث بطوله الى ان قال فاذا وقع اهل النار فى النار وقع فيها خلق كثير ممن خلق ربك قد أوثقهم أعمالهم فمنهم من تأخذه الى قدميه و لا تجاوز ذلك و منهم من تأخذه الى نصف ساقيه و منهم من تأخذه الى ركبتيه و منهم من تأخذه الى حقويه و منهم من تأخذ جسده كله الا وجهه حرم اللّه صورتهم عليها قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاقول يا رب من وقع فى النار من أمتي فيقول اخرجوا من النار من عرفتم فيخرج أولئك حتّى لا يبقى منهم أحد ثم يأذن اللّه فى الشفاعة فلا يبقى نبى و لا شهيد الا شفع فيقول اخرجوا من وجدتم فى قلبه زنة الدينار ايمانا ثم يقول اخرجوا من وجدتم فى قلبه ايمانا ثلثى دينار نصف دينار ثلث دينار ربع دينار قيراط حبة من خردل حتّى لا يبقى فى النار من عمل للّه خيرا قط- و لا يبقى أحد له شفاعة إلا شفع ثم يقول اللّه بقيت انا و انا ارحم الراحمين فيدخل اللّه يده فى جهنم فيخرج منها ما لا يحصيه كثرة كانهم الحمم الحديث- قال الحافظ مدار هذا الحديث على إسماعيل بن رافع قاضى اهل المدينة قد تكلم فيه بسبب هذا الحديث و فى بعض سياقه نكارة- و قد قيل انه جمع من طرق و أماكن متفرقة فسأقه سياقا واحدا- قال الحافظ ابو موسى المديني هذا الحديث و ان كان فى اسناده من تكلم فيه فالذى فيه يروى مفرقا بأسانيد ثابتة و قد اختلف الناس فى تصحيح هذا الحديث و تضعيفه فصححه ابن العربي و القرطبي و صوبه الحافظ ابن حجر- و ضعفه البيهقي و قال السيوطي ذكر يحيى بن سلام البصري فى تفسيره عن الكلبي انه إذا دخل اهل الجنة الجنة و اهل النار النار بقي زمرة من اخر زمر الجنة فيقول لهم اهل النار (و قد بلغت النار منهم كل مبلغ) اما نحن فقد أخذنا بالشك و التكذيب فما نفعكم توحيدكم فيصرخون عند ذلك فيسمعهم اهل الجنة و يأتون آدم فذكر الحديث الى ان قال فيأتون محمّدا صلى اللّه عليه و سلم فينطلق فيأتى رب العزة فيسجد له ثم يقول أناس من عبادك اصحاب ذنوب لم يشكّوا بك فعيرهم اهل الشرك بعبادتهم إياك فيقول و عزتى لاخرجنهم قال ابن حجر هذا لو ثبت لدفع الاشكال السابق عن الدراوردي من ذكر الإخراج فى اخر حديث الشفاعة فى الاراحة من كرب الموقف و لكنه ضعيف و مخالف لصريح الأحاديث الصحيحة ان السؤال انما يقع فى الموقف قبل دخول المؤمنين الجنة- قال السيوطي يحتمل الجمع بالتعدد مرتين مرة فى الموقف للاراحة و مرة فى الجنة للاخراج من النار من بقي من المؤمنين- قلت بل يقال بوقوع ذلك السؤال ثلاث مرات مرة فى الموقف للاراحة و مرة للاذن فى الدخول لاهل الجنة و مرة للاخراج من النار لمن بقي فيها من المؤمنين و هو المعنى بقوله صلى اللّه عليه و سلم و لى عند ربى ثلاث شفاعات وعدنيهن و المقام المحمود مقام الشفاعة و هى يعم كل شفاعة من الشفاعات الثلاث (مسئلة) و أنكر الخوارج و المعتزلة الشفاعة و قالوا ان اهل الكبائر إذا ماتوا من غير توبة لا شفاعة لهم و لا يخرجون من النار ابدا- و قد ورد فى الشفاعة أحاديث كثيرة بلغت حد التواتر بالمعنى منها ما أخرج مسلم عن ابن عمران رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ذكر قول ابراهيم رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ و قول عيسى إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فرفع يديه و قال أمتي أمتي ثم بكى فقال اللّه تعالى يا جبرئيل اذهب الى محمّد فقل له انّا سنرضيك فى أمتك و لا نسوءك- و ما اخرج البزار فى الأوسط و ابو نعيم بسند حسن عن علىّ رضى اللّه عنه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال اشفع لامتى حتّى ينادى ربى تبارك و تعالى أ رضيت يا محمّد فاقول اى رب رضيت و منها حديث ان ربى خيّرنى بين ان يدخل نصف أمتي الجنة بغير حساب و بين الشفاعة فاخترت الشفاعة و هى لكل مسلم و فى لفظ لمن مات لا يشرك باللّه شيئا رواه الترمذي و ابن ماجة و الحاكم و صححه و ابن حبان و البيهقي و الطّبرانى عن عوف بن مالك الأشجعي- و احمد و الطبراني و البزار بسند حسن عن معاذ بن جبل و ابى موسى- و أحمد و الطبراني و البيهقي بسند صحيح عن ابن عمرو فى آخره أ ترونها للمتقين و لكنها للمذنبين الخطائين المتلوثين- و منها حديث شفاعتى لاهل الكبائر من أمتي رواه ابو داود و الترمذي و الحاكم و البيهقي و صححاه عن انس- و الطبراني و ابو نعيم عن عبد بن بشير بمعناه- و الطبراني فى الأوسط عن ابن عمر نحوه- و فى الكبير عن أم سلمة بمعناه- و الترمذي و الحاكم عن جابر نحوه- و اخرج عن كعب بن عجرة- و عن طاءوس قال البيهقي هذا مرسل حسن يشهد لكون هذا اللفظ يعنى شفاعتى لاهل الكبائر شائعة بين التابعين- و اخرج ابن ابى حاتم فى السنة عن انس يرفعه قال ما زلت اشفع الى ربى و يشفعنى حتّى أقول اى رب شفعنى فيمن قال لا اله الا اللّه فيقول هذا ليس لك يا محمّد و لا لاحد هذه لى و عزتى و جلالى و رحمتى لا ادع أحدا فى النار يقول لا اله الا اللّه- و منها حديث نعم الرجل انا لشرار أمتي و قال اما شرار أمتي فيدخلهم اللّه الجنة بشفاعتى و اما خيارهم فيدخلهم اللّه الجنة بأعمالهم- و اخرج الطبراني عن عبادة بن الصامت ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال و الّذي نفسى بيده انا لسيد الناس يوم القيامة بغير فخر و ما من الناس الا تحت لوائى يوم القيامة ينتظر الفرج و ان معى لواء الحمد امشى و يمشى الناس معى الى باب الجنة فاستفتح فيقال من هذا فاقول محمّد فيقال مرحبا بمحمّد فاذا رايت ربى خررت ساجدا له شكرا فيقال ارفع رأسك قل تعطه اشفع تشفع فيخرج من أجرم برحمة اللّه و شفاعتى و فى الأوسط عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اتى جهنم فاضرب بابها فيفتح لى فادخلها فاحمد اللّه بمحامد ما حمده أحد قبلى و لا يحمده أحد بعدي ثم اخرج منها من قال لا اله الا اللّه مخلصا فيقوم الىّ ناس من قريش فينتسبون لى فاتركهم فى النار و اخرج البخاري عن عمران بن حصين مرفوعا يخرج قوم من النار بشفاعة محمّد و يدخلون الجنة و يسمّون الجهنميون- و فى الصحيحين عن جابر مرفوعا ان اللّه يخرج قوما من النار بالشفاعة فيدخلهم الجنة- و الطبراني بسند حسن عن ابن عمر مرفوعا قال يدخل من اهل هذه القبلة النار من لا يحصى عددهم الا اللّه بما عصوا و اجترءوا على معصية اللّه فيؤذن لى بالشفاعة فاثنى اللّه ساجدا كما اثنى قائما فيقال لى ارفع رأسك و سل تعطه و اشفع تشفع- و اخرج احمد و الطبراني بسند لا بأس به عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ان اللّه تبارك و تعالى قال يا محمّد انى لم ابعث نبيّا و لا رسولا الا و قد سألنى مسئلة أعطيتها إياه فسل يا محمّد تعطه فقلت مسئلتى شفاعتى لامتى يوم القيامة فقال ابو بكر يا رسول اللّه و ما الشفاعة قال فاقول يا رب شفاعتى الّتي اختبأت عندك فيقول الرب تعالى نعم فيدخل ربى بقية أمتي فيدخلهم الجنة- و منها حديث لكل نبى دعوة مستجابة فتعجل كل نبى دعوته و انا اختبأت دعوتى شفاعة لامتى رواه الشيخان فى الصحيحين عن ابى هريرة- و مسلم عن انس و جابر- و احمد عن عبد اللّه بن عمرو ابى سعيد الخدري- و البزار و البيهقي عن عبد الرّحمن بن عقيل- قال السيوطي هذا حديث متواتر- قلت فتعس من أنكر الشفاعة روى الشيخان فى الصحيحين عن عمر بن الخطاب انه خطب فقال انه سيكون فى هذه الامة قوم يكذّبون بالرجم و بالدجّال و يكذّبون بطلوع الشمس من مغربها و يكذبون بعذاب القبر و يكذبون بالشفاعة و يكذّبون بقوم يخرجون من النار بعد ما امتحشوا- و اخرج سعيد بن منصور و البيهقي و هناد عن انس قال من كذّب بالشفاعة فلا نصيب له و من كذّب بالحوض فليس له فيه نصيب- و اخرج ابو نعيم عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صنفان من أمتي لا ينالهما شفاعتى يوم القيامة المرجئة و القدرية- و اخرج البيهقي عن شبيب ابن ابى فضلة المكي قال ذكروا عند عمران بن حصين الشفاعة فقال رجل يا أبا نجيد انكم لتحدثون أحاديث لا نجد لها أصلا فى القران فغضب عمران بن حصين و قال للرجل قرأت القران قال نعم قال فهل وجدت صلوة العشاء أربعا و صلوة المغرب ثلاثا و صلوة الفجر ركعتين و الظهر أربعا و العصر أربعا قال لا قال فعمّن أخذتم هذا أ لستم عنّا أخذتموه و أخذنا عن النبي صلى اللّه عليه و سلم و وجدتم فى كل أربعين درهما درهم- و فى كل كذا شاة- و كل بعير كذا- اوجدتم فى القران هكذا قال لا قال و وجدتم فى القران وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ و وجدتم طوفوا سبعا و اركعوا ركعتين خلف المقام اوجدتم هذا فى القران او عمّن أخذتموه أ لستم أخذتموه عنا و أخذنا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قالوا بلى قال اوجدتم فى القران لا جلب و لا جنب و لا شغار فى الإسلام قالوا لا قال فان اللّه قال فى كتابه ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا و قد أخذنا عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أشياء ليس لكم بها علم- و ذكر البغوي انه روى عن يزيد بن صهيب الفقير قال كنت قد شغبنى رأى من رأى الخوارج و كنت رجلا شابّا فخرجنا فى عصابة نريد ان نحج فمررنا على المدينة فاذا جابر بن عبد اللّه يحدث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ذكر الجهنميين فقلت له يا صاحب رسول اللّه ما هذا الّذي تحدثون و اللّه عز و جل يقول إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ- و كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها فقال اى فتى تقرا القران قلت نعم قال سمعت مقام محمّد المحمود الّذي يبعثه اللّه فيه قلت نعم قال فانه مقام محمد المحمود الّذي يخرج اللّه به من يخرج من النار ثم نعت الصراط و عمر الناس عليه و قال ان قوما يخرجون من النار بعد ما يكونون فيها- (فصل) فى شفاعة الأنبياء و غيرهم روى ابن ماجة و البيهقي عن عثمان مرفوعا قال يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء و أخرجه البزار و زاد فى آخره ثم المؤذنون- و اخرج الديلمي عن ابن عمر موقوفا يقال للعالم اشفع فى تلامذتك و لو بلغت عدد نجوم السماء- و اخرج ابو داود و ابن حبان عن ابى الدرداء مرفوعا الشهيد يشفع فى سبعين من اهل بيته و احمد و الطبراني مثله عن عبادة بن الصامت مرفوعا و ابن ماجة مثله عن المقدام بن معد يكرب مرفوعا- و اخرج البيهقي عن الحسن و الحاكم و صححه و البيهقي و هنّاد عن الحارث بن قيس و احمد مثله عن ابى بردة و هناد مثله عن ابى هريرة و احمد و الطبراني و البيهقي بسند صحيح عن ابى امامة قالوا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من ربيعة و مضر و فى الباب أحاديث كثيرة لا يسعها المقام تدل على شفاعة غير نبينا صلى اللّه عليه و سلم- فان قيل لما لم يبق أحد فى النار بشفاعة محمّد صلى اللّه عليه و سلم فاين يكون شفاعة غيره قلت لعل شفاعة الأنبياء غير نبينا صلى اللّه عليه و سلم يختص بأمته و لا يشتمل جميعهم و شفاعة نبينا صلى اللّه عليه و سلم ينال غير أمته ايضا و لا يترك أحدا من أمته فى النار و أما غير الأنبياء فلعلهم اما يشفعون الى النبي صلى اللّه عليه و سلم و النبي صلى اللّه عليه و سلم يشفع لهم عند ربه و اما ان يحصل لغير النبي صلى اللّه عليه و سلم الاذن فى الشفاعة بشفاعة محمّد صلى اللّه عليه و سلم فائدة قال البيهقي قوله صلى اللّه عليه و سلم شفاعتى لاهل الكبائر من أمتي تدل على ان الشفاعة لاهل الكبائر يختص برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم دون الملائكة- و الملائكة انما يشفعون فى الصغائر و استزادة الدرجات فائدة قال المجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه تعقيب قوله تعالى عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً بعد قوله وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ يشعر بان لصلوة التهجد- مدخلا تامّا فى قيام الرجل مقام الشفاعة و اللّه اعلم- اخرج الترمذي عن ابن عباس قال كان النبي صلى اللّه عليه و سلم بمكة ثم امر بالهجرة فنزلت عليه. ٨٠ وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ يعنى المدينة وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ يعنى مكة كذا قال الحسن و قتادة و المدخل و المخرج اسم ظرف منصوب على الظرفية او مصدر يعنى أدخلني المدينة ادخالا مرضيا لا ارى فيه ما اكره و أخرجني من مكة إخراجا مرضيّا لا التفت بقلبي إليها- و قال الضحاك معناه أخرجني من مكة مخرج صدق أمنا من المشركين و أدخلني مكة مدخل صدق ظاهرا عليها بالفتح- و قال مجاهد أدخلني فى أمرك الّذي أرسلتنى به من النبوة مدخل صدق و أخرجني من الدنيا و قد قمت بما وجب علىّ من حقها مخرج صدق- و عن الحسن قال أدخلني مدخل صدق الجنة و أخرجني مخرج صدق من مكة- قلت الاولى ان يقال فى مقابلة أدخلني الجنة مدخل صدق أخرجني من الدنيا مخرج صدق- و قال البيضاوي أدخلني فى القبر ادخالا مرضيّا و أخرجني منه عند البعث إخراجا تلقى بالكرامة- و قيل معناه أدخلني فى طاعتك و أخرجني من المناهي- و قيل المراد إدخاله فى كل ما يلابس من مكان أو أمر و إخراجه منه اى لا تجعلنى ممن يدخل بوجه و يخرج بوجه فان ذا الوجهين لا يكون أمينا عند اللّه وحيها- و قيل المراد إدخاله الغار و إخراجه منه سالما- و وصف الإدخال و الإخراج بالصدق لما يؤل اليه الخروج و الدخول من مرضاة اللّه تعالى و النصر و العز و الكرامة و دولة الدين كما وصف القدم بالصدق فقال أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ- و التحقيق فى ذلك ان الصدق و الكذب فى الأصل هما صفتا القول بل الخبر منه دون الإنشاء و هو مطابقة الخبر الواقع و قد يطلق على الإنشاء لتضمنه معنى الاخبار كقول القائل أزيد فى الدار يتضمن انه جاهل بحاله- و قد يستعملان فى افعال الجوارح فيقال صدق فى القتال إذا وقى حقه و فعل على ما ينبغى و منه رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّه اى حققوا العهد- و قوله تعالى صَدَقَ اللّه رَسُولَهُ الرُّؤْيا اى حقق ايضا- و يعبر بالصدق عن كل فعل فاضل ظاهرا و باطنا فيضاف اليه ذلك الفعل الّذي يوصف به و منه قوله تعالى فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ- و لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ- و رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ- و اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فان ذلك سوال بان يجعل اللّه ذلك صالحا بحيث إذا اثنى عليه أحد كان صادقا و اللّه اعلم وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) قال مجاهد حجة بينة و قال الحسن ملكا قويا تنصربه على من ناوانى و عزّا ظاهرا أقيم به دينك- فوعده اللّه لينزعن ملك فارس و الروم و غيرهما فيجعله له- قال قتادة علم نبى اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان لا طاقة له بهذا الأمر الا بسلطان نصير من اللّه تعالى فسال سلطانا نصيرا لكتاب اللّه و حدوده و اقامة دينه- قلت بل علّمه اللّه ذلك و امره بان يسئل منه تعالى سلطانا نصيرا- قيل سال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حجة و ملكا ينصر الإسلام على الكفر فاستجاب اللّه له بقوله فَإِنَّ حِزْبَ اللّه هُمُ الْغالِبُونَ- ... لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ...- لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ٨١ وَ قُلْ يا محمّد عند دخولك مكة حين فتحت جاءَ الْحَقُّ اى الإسلام و عبادة اللّه وحده او القران وَ زَهَقَ الْباطِلُ اى ذهب و هلك الشرك و عبادة الأصنام من زهق روحه إذا خرج إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١) اى حقيقا للزهوق و عدم الثبات لبنائه على ما لا اصل له- عن ابن مسعود رضى اللّه عنه قال دخل النبي صلى اللّه عليه و سلم يوم الفتح و حول البيت ستون و ثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود فى يده و يقول جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ ... وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ رواه البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي و اخرج الطبراني فى الصغير و ابن مردوية و البيهقي فى الدلائل عن ابن عباس نحوه-. ٨٢ وَ نُنَزِّلُ قرا البصريان بالتخفيف من الافعال و الباقون بالتشديد من التفعيل مِنَ الْقُرْآنِ من للبيان ما هُوَ شِفاءٌ من امراض الكفر و الجهالات جلاء لظلمات القلوب و الأنفس- ماح لكدورات القلبية و القالبية و النفسانية- دافعة لرذائلها- و قيل من للتبعيض و الشفاء الشفاء من الأمراض الظاهرة و المراد من بعض القران ما هو يشفى السقيم كالفاتحة و نحوها- و هو المعنى بقوله صلى اللّه عليه و سلم عليكم بالشفاءين العسل و القران و قد مر فى سورة النحل وَ رَحْمَةٌ من اللّه تعالى لِلْمُؤْمِنِينَ اى للذين أمنوا و انتفعوا به خاصة يفيد لهم الفوائد الدينية و الدنيوية و الاخروية وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ اى المنكرين بالقران إِلَّا خَساراً (٨٢) لتكذيبهم و كفرهم به قال قتادة لن يجالس هذا القران أحد إلا قام عنه بزيادة او نقصان قضى اللّه تعالى الّذي قضى شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً ٨٣ وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ بالصحة و السعة او بنزول القران أَعْرَضَ عن ذكر اللّه يعنى لم يشكره وَ نَأى قرا الجمهور على وزن رمى بمعنى تباعد و قرا ابن ذكوان هاهنا و فى فصلت على وزن جاء و معناه نهض و قيل معناه بعد كذا فى القاموس و ابو جعفر و ابو محمّد و المال واحد أمال الكسائي و خلف فتحة النون و الهمزة هاهنا و فى فصلت و امال خلاد فتحة الهمزة فيهما فقط و قد روى عن ابى شعيب مثل ذلك و امال أبو بكر فتحة الهمزة هاهنا و أخلص هناك و الباقون بفتحهما و ورش على أصله فى ذوات الياء بِجانِبِهِ اى لوى عنقه و بعد بنفسه كانه مستغن عنه وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ من مرض او فقر كانَ يَؤُساً (٨٣) شديد اليأس و القنوط من روح اللّه-. ٨٤ قُلْ كُلٌّ اى كل واحد من الناس الشكور و الكفور يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ قال ابن عباس على ناحيته اى جانبه الّذي يميل اليه من الهدى او الضلال- و قال الحسن و قتادة على نيته يعنى من كان يميل الى الدنيا ينوى بعمله صلاح الدنيا و من كان يميل الى الآخرة ينوى بعمله وجه اللّه و صلاح الاخرة- و قال مقاتل على جبلته و قال الفراء على طريقته الّتي جبل عليها- و قال القتيبى على طبيعته و خليقته و مال الأحوال الثلاثة واحد يعنى على حسب استعداده الّذي أودع اللّه فيه فهو نظير قوله صلى اللّه عليه و سلم كل ميسر لما خلق له في حديث متفق عليه عن على رضى اللّه عنه مرفوعا و عن ابى الدرداء قال بينما نحن عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نتذاكر ما يكون إذ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوه و إذا سمعتم برجل تغير عن خلقه فلا تصدقوا فانه يصير الى ما جبل عليه رواه احمد- و الاستعداد عبارة عن الكيفية الحاصلة لكل أحد باعتبار علته الفاعلية و المادية اما باعتبار علته الفاعلية فكونه ظلا من ظلال الاسم الهادي او الاسم المضل و اما باعتبار علته المادية فهو الكيفية المزاجية الحاصلة من تركيب العناصر الاربعة و انما اختلاف شهوات النفوس على حسب اختلاف ثوران بعض العناصر دون بعض و اختلاف طبائع الاجزاء الارضية كما مر قوله صلى اللّه عليه و سلم فجاء بنو آدم على قدر الأرض منهم الأحمر و الأبيض و الأسود و بين ذلك و السهل و الحزن و الخبيث و الطيب- و قيل على شاكلته اى سبيله الّذي اختاره لنفسه قال البيضاوي اى على طريقته الّتي تشاكل حاله فى الهدى او الضلالة او جوهر روحه و أحواله التابعة لمزاج بدنه و فى القاموس الشكل الشبه و المثل و ما يوافقك و يصلحك و صورة الشي ء المحسوسة و المتوهمة و الشاكلة الشكل و الناحية و النية و الطريقة و المذهب فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا (٨٤) اى اسدّ طريقا و أبين منهجا يعنى من هو على طريقة موصلة الحق من العقائد و الأعمال و من فى طريقته اعوجاج قليل او كثير و اللّه أعلم- اخرج البخاري عن ابن مسعود قال كنت امشى مع النبي صلى اللّه عليه و سلم فى حرث المدينة و هو يتوكأ على عسيب معه فمر على نفر من اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح و قال بعضهم لا تسئلوه لا يجي ء الا بشي ء تكرهونه فقال بعضهم لنسئلنه فقام رجل منهم فقال يا أبا القاسم ما الروح فسكت فقلت انه يوحى اليه فقمت فلما انجلى عنه الوحى قال. ٨٥ وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ اى الّذي يحيى به بدن الإنسان و يدبره قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي اى من الإبداعيات الكائنة بقوله كن من غير مادة و لولد عن اصل كاعضاء الجسد و لما كان هذا غاية البيان باللسان على قياس فهم السائلين بحيث يحصل به امتياز الروح عن سائر الماديات و لم يكن مفيدا للعلم بحقيقته المسئولة بقولهم و ما الروح اعتذر عنه و قال وَ ما أُوتِيتُمْ ايها السائلون مِنَ الْعِلْمِ بالأشياء الكائنة إِلَّا قَلِيلًا (٨٥) اى ما تستفيدونه بتوسط حواسكم فان اكتساب العقل للمعارف النظرية انما هو من الضروريات المستفادة من احساس الجزئيات و لذلك قيل من فقد حسّا فقد فقد علما و لعل اكثر الأشياء لا يدركها الحس فلا يحصل عنده ذاتياتها فلا يدرك بعضها الا بعوارض تميّزه عما يلتبس به و الألفاظ انما وضعت بإزاء أشياء محسوسة او معقولة منتهية اكتسابها الى أشياء محسوسة و لذلك اقتصر موسى عليه السلام فى جواب قول فرعون و ما ربّ العلمين بذكر بعض صفاته- و هذه الاية لا يقتضى نفى العلم بالروح للنبى صلى اللّه عليه و سلم و لاصحاب البصائر من اتباعه- فان طور علمهم وراء طور علم العالمين بتوسط الحواس و الاكتساب فانهم يلهمون من اللّه تعالى حقائق الأشياء بلا توسط الحواس و الاكتساب- فان لقلوبهم اسماع يسمعون بها ما لا يسمعه الاذان و أبصار يبصرون بها ما لا يبصره العيون- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال اللّه تعالى لا يزال عبدى يتقرّب الىّ بالنوافل حتّى أحببته فاذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به و بصره الّذي يبصر به الحديث- و قد أدرك اصحاب البصائر حقيقة الروح و ظهر لهم ان لكل انسان خمسة من الأرواح العلوية- و الروح السفلى المسمى بالنفس سادسها- و الخمسة القلب و الروح و السر و الخفي و الأخفى- يمتاز عندهم كل منها عن الاخر ذاتا و صفاتا- و يعرفونها كما يعرفون أبناءهم- و قد يشتبه عند بعضهم بعضها ببعض- بل قد تشتبه هى لاجل لطافتها بمراتب الوجوب- حتّى قال بعضهم عبدت الروح ثلاثين سنة ثم اظهر اللّه تعالى حقيقته و إمكانه و حدوثه عليه- فقال لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ- فان قيل اخرج ابن مردوية عن عكرمة انه صلى اللّه عليه و سلم لما قال لهم ذلك قالوا نحن مختصون بهذا الخطاب قال بل نحن و أنتم فقالوا ما اعجب شأنك ساعة تقول وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً- و ساعة تقول هذا- فنزلت وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ الاية و هذه الرواية تدل على ان النبي صلى اللّه عليه و سلم ايضا لم يكن عارفا بحقيقة الروح- قلنا لو صح هذه الرواية فالمعنى ان الخطاب بقوله وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا يعم كلا الفريقين فلا شك ان علوم الأنبياء و الملائكة و سائر الخلائق «١» قليلة فى جنب علم اللّه تعالى كما يدل عليه قوله تعالى وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ الاية- و لا منافاة بين كون الحكمة الموهوبة للانبياء و كمل اتباعهم (و منها العلم بحقيقة الروح و غير ذلك) خيرا كثيرا فى نفسه متكفلا لكمالات الإنسان ظاهرا و باطنا و بين كونها قليلا بالنسبة الى علم اللّه الغير المتناهي- فائدة (١) و فى الأصل قليل-. ما ذكرنا من القصة يدل على كون الاية مدنية- و قال البغوي روى عن ابن عباس انها نزلت بمكة- حيث قال ان قريشا اجتمعوا- و قالوا ان محمّدا نشا فينا بالامانة و الصدق و ما اتهمناه بكذب و قد ادعى ما ادعى- فابعثوا نفرا الى اليهود بالمدينة و اسئلوهم عنه فانهم اهل كتاب- فبعثوا جماعة إليهم فقالت اليهود سلوه عن ثلاثة أشياء فان أجاب عن كلها أو لم يجب عن شي ء منها فليس بنبىّ- و ان أجاب عن الاثنين و لم يجب عن الواحد فهو نبى- فسلوه عن فتية قد اووا فى الزمن الاول ما كان من أمرهم فانه كان لهم حديث عجيب- و عن رجل بلغ شرق الأرض و غربها ما خيره- و عن الروح فسألوه فقال لهم النبي صلى اللّه عليه و سلم أخبركم بما سألتم غدا و لم يقل ان شاء اللّه فلبث الوحى قال مجاهد اثنتا عشرة ليلة- و قيل خمس عشرة- و قال عكرمة أربعين يوما و اهل مكة يقولون وعدنا محمّد غدا و قد أصبحنا لا يخبرنا بشي ء- حتّى حزن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من مكث الوحى و شقّ عليه ما يقول اهل مكة- إذ نزل جبرئيل بقوله تعالى وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللّه- و نزل فى الفتية أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً- و نزل فيمن بلغ الشرق و الغرب يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ- و نزل فى الروح قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي- و روى الترمذي هذه القصة مختصرا عنه قال ابن كثير يجمع بين الحديثين بتعدد النزول- و كذا قال الحافظ ابن حجر و زاد او يحمل سكوته حين سوال اليهود على توقع مزيد بيان فى ذلك- و الا فما فى الصحيح أصح و و ايضا يرجح ما فى الصحيح بانه رواية حاضر القصة بخلاف ابن عباس و قال البغوي و روى عن ابن عباس ان الروح الّذي وقع السؤال عنه هو جبرئيل و هو قول الحسن و قتادة قلت و كذا اخرج عبد بن حميد و ابو الشيخ عن الضحاك و قال البغوي و روى عن علىّ عليه السلام ان الروح هو ملك له سبعون الف وجه لكل وجه سبعون الف لسان يسبح اللّه تعالى بكلها- و قال مجاهد هو خلق على صورة ابن آدم لهم أيد و ارجل و رءوس و ليسوا بملائكة و لا ناس يأكلون الطعام- و قال سعيد بن جبير لم يخلق اللّه خلقا أعظم من الروح غير العرش- لو شاء ان يبتلع السموات السبع و الأرضين السبع و من فيها بلقمة واحدة لفعل- صورة خلقه على صورة الملائكة و صورة وجهه على صورة وجه الآدميين- يقوم يوم القيامة على يمين العرش و هو اقرب الخلق الى اللّه عزّ و جلّ عند الحجب السبعين- و اقرب الى اللّه يوم القيامة و هو يشفع لاهل التوحيد لو لا ان بينه و بين الملائكة سترا من نور لاحترق اهل السموات من نوره- و اخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن عكرمة قال الروح أعظم خلقا من الملائكة- و لا ينزل ملك الا و معه روح- و قيل الروح القران و معنى قوله تعالى مِنْ أَمْرِ رَبِّي انه من وحي اللّه و قيل المراد عيسى فانه روح اللّه و كلمته- و معنى الاية انه ليس كما يقول اليهود حيث بهتوا امه- و لا كما يقوله النصارى انه ابن اللّه- بل هو مخلوق من امر اللّه بكلمة كن من غير اب- و لما ذكر اللّه سبحانه ان علم العالمين قليل بالنسبة الى علمه تعالى- نبّه على نعمة الوحى و انه أوتى من العلوم ما لم يؤت غيره حثّا بالصبر على أذى الكفار بقوله. ٨٦ وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ اللام الاولى موطية للقسم و قوله لَنَذْهَبَنَّ جوابه النائب مناب جزاء الشرط- و المعنى ان شئنا ذهبنا بالقران و محوناه عن المصاحف و الصدور ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا (٨٦) يتوكل علينا استرداده محفوظا و مسطورا. ٨٧ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ يعنى الا ان ينالك رحمة من ربك فهى لسترده- و يجوز ان يكون الاستثناء منقطعا و معناه و لكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به- فيكون امتنانا بإبقائه بعد المنة فى تنزيله إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) حيث بعثك نبيّا و انزل عليك الكتاب و التزم عليه جمعه فى المصاحف و الصدور و قرانه و بيانه و اعطاك المقام المحمود و الحوض المورود و غير ذلك- قال البغوي قال ابن مسعود اقرءوا القران قبل ان يرفع فانه لا تقوم الساعة حتّى يرفع- قيل هذه المصاحف يرفع فكيف بما فى الصدور- قال ليسرى عليه ليلا فيرفع ما فى صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئا و لا يجدون فى المصاحف شيئا- ثم يفيضون فى الشعر- و عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال لا تقوم الساعة حتّى يرجع القران من حيث نزل له دوى حول العرش كدوى النحل فيقول الرب مالك فيقول يا رب اتلى و لا يعمل بي- قلت هكذا ذكر البغوي و فى الصحيحين عن عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد و لكن يقبض العلم بقبض العلماء حتّى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوسا جهالا فسالوا فافتوا بغير علم فضلوا و أضلوا- و روى احمد و ابن ماجة عن زياد بن لبيد قال ذكر النبي صلى اللّه عليه و سلم شيئا فقال ذلك عند أوان ذهاب العلم- قلت يا رسول اللّه و كيف يذهب العلم و نحن نقرا القران و نقرؤه أبناءنا و يقرئه أبناؤنا أبناءهم الى يوم القيامة- قال فقال ثكلتك أمك زياد ان كنت لاراك من افقه رجل بالمدينة- او ليس هذه اليهود و النصارى يقرءون التورية و الإنجيل لا يعملون بشي ء مما فيهما- و روى الترمذي عنه نحوه و روى الدارمي عن ابى امامة نحوه قلت و لعل ابن مسعود زعم رفع القران عن المصاحف و الصدور بما سمع من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول تعلموا العلم و علموه الناس تعلموا الفرائض و علموها الناس تعلموا القران و علموه الناس فانى امرؤ مقبوض و العلم سيقبض و يظهر الفتن حتّى يختلف اثنان فى فريضة لا يجدان أحدا يفصل بينهما- رواه الدار قطنى و الدارمي عن ابن مسعود و مقتضى حديث الصحيحين ان يحمل قبض العلم فى هذا الحديث على قبضه بقبض العلماء لا بالانتزاع- و مقتضى حديث زياد ان معنى ذهاب العلم ذهاب توفيق العمل به- قلت و الجمع بينهما انه يذهب توفيق العمل بالعلم اولا كما تراه فى زماننا- ثم يذهب العلم مطلقا بقبض العلماء كما ترى قلة العلم فى ذلك الزمان الى هذا الغاية بقلة العلماء و بعد ما كان كثيرا بكثرة العلماء و قلة توفيق التعليم و التعلم و اللّه اعلم- اخرج ابن إسحاق و ابن جرير من طريق سعيد او عكرمة عن ابن عباس قال اتى النبي صلى اللّه عليه و سلم سلام بن مشكم فى «١» جماعة يهود سماهم فقالوا كيف نتّبعك و قد تركت قبلتنا و ان هذا الّذي جئت به لا نراه متناسقا كما تناسق التورية فانزل علينا كتابا نقرؤه نعرفه و إلا جئناك بمثل ما تأتى به فانزل اللّه تعالى. (١) و فى الأصل فى عامة يهود-. ٨٨ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ فى البلاغة و حسن النظم و كمال المعنى لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ اى لا يقدرون على ذلك و فيهم العرب العرباء و ارباب البيان و الشعراء و اهل التحقيق و البلغاء- و هو جواب قسم دل عليه اللام الموطئة و لو لا هى لكان جواب الشرط بلا جزم لكون الشرط ماضيا وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ اى لبعضهم ظَهِيراً (٨٨) عونا و مظاهرا على الإتيان به و قال البغوي نزلت الاية حين قال الكفار لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا فكذّبهم اللّه- و فيه معجزة حيث كان كما اخبر اللّه تعالى به- و لم يقدروا على إتيان اقصر سورة منه مع كمال حرصهم على المعارضة- قال البيضاوي لعله لم يذكر اللّه تعالى الملائكة لان إتيانهم بمثله لا يخرجه عن كونه معجزة و لانهم كانوا وسائط فى إتيانه- قلت المراد بالإتيان الإتيان من عند أنفسهم على سبيل المعارضة و المجادلة من غير وحي من اللّه تعالى و لا شك ان الملائكة ايضا لا يقدرون على إتيان كلام مثل كلام غير مخلوق- لكنهم لم يذكروا لان الإتيان المذكور كفر انما يتصور من المنكر- و الملائكة معصومون يؤمنون به و لا يتصور منهم الإنكار و اللّه اعلم و جاز ان يكون الاية تقريرا لقوله لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا .... ٨٩ وَ لَقَدْ صَرَّفْنا كررنا بوجوه مختلفة فى التقرير و البيان لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ من كل معنى من العبر و الاحكام و الوعد و الوعيد و غيرها هو كالمثل فى غرابته و حسنه و وقوعه موقعا فى الأنفس فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (٨٩) جاز هاهنا وقوع المستثنى مفرغا فى الإثبات لكونه فى قوة النفي و معناه فلم يرض و لم يأت أكثرهم الا كفورا اى جحودا و إنكارا- ذكر البغوي عن عكرمة عن ابن عباس ان عتبة و شيبة ابني ربيعة و أبا سفيان ابن حرب و رجلا من بنى عبد الدار (سماه البغوي النضر بن الحارث) و أبا البختري و الأسود بن المطلب و زمعة بن الأسود و الوليد بن المغيرة و أبا جهل بن هشام و عبد اللّه ابن ابى امية و امية بن خلف و العاص بن وائل و منيبا و منبها ابني الحجاج اجتمعوا و من اجتمع منهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة- فقال بعضهم لبعض ابعثوا الى محمّد فكلموه و خاصموه حتّى تعذّروا فيه- فبعثوا اليه ان اشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سريعا- و هو يظن انه بدا لهم فى امره بدءا و كان عليهم حريصا يحب رشدهم حتّى جلس إليهم فقالوا يا محمّد انّا بعثنا إليك لنعذّر فيك و انّا و اللّه لا نعلم رجلا من العرب ادخل على قومه ما ادخلت على قومك لقد شتمت الآباء و عبت الدين و سفهت الأحلام و شتمت الالهة و فرقت الجماعة فما بقي امر قبيح الا و قد جئته فيما بيننا و بينك- فان كنت جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون اكثر مالا- و إن كنت انما تطلب الشرف فينا «١» سودناك علينا- و ان كنت تريد ملكا ملّكناك علينا- و ان كان هذا الّذي يأتيك بما يأتيك ربّيّا تراه قد غلب عليك لا تستطيع رده بذلنا لك أموالنا فى طلب الطب (و كانوا يسمون التابع من الجن الربّى) فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مابى ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم و لا الشرف عليكم و لا الملك عليكم و لكن اللّه بعثني إليكم رسولا و انزل علىّ كتابا و أمرني ان أكون لكم بشيرا و نذيرا فبلّغنكم رسالته و نصحتكم فان تقبلوا منى فهو حظكم فى الدنيا و الاخرة و ان تردوه علىّ اصبر لامر اللّه (١) و فى الأصل سودنا علينا-. حتّى يحكم بيننا و بينكم- قالوا يا محمّد فان كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت انه ليس أحد من الناس أضيق بلاد اولا اقل مالا و لا أشد عيشا منا فاسئل لنا ربك الّذي بعثك فليسيّر عنا هذه الجبال الّتي قد ضيقت علينا و ليبسط لنا بلادنا و ليفجر فيها أنهارا كانهار الشام و العراق و ليبعث لنا من قد مضى من ابائنا و ليكن منهم قصىّ بن كلاب فانه كان شيخا صدوقا فنسئلهم عما تقول أحق هو أم باطل فان صدّقوك صدّقناك- فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما بهذا بعثت فقد بلغتكم ما أرسلت به فان تقبلوا فهو حظكم فى الدنيا و الاخرة و ان تردوه اصبر لامر اللّه- قالوا فان لم تفعل هذا فسل ربك ان يبعث لنا ملكا يصدّقك و سله ان يجعل لك جنانا و قصورا و كنوزا من ذهب و فضة يغنيك بها عما نراك فانك تقوم بالأسواق و تلتمس المعاش كما نلتمسه- قال ما بعثت بهذا و لكن اللّه بعثني بشيرا و نذيرا- قالوا فأسقط السماء كما زعمت ان ربك لو شاء فعل- فقال ذلك الى اللّه ان شاء فعل ذلك بكم فعله- و قال قائل منهم لن نؤمن لك حتّى تأتينا باللّه و للملائكة قبيلا- فلمّا قالوا قام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قام معه عبد اللّه بن ابى امية و هو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب- فقال يا محمّد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سالوك لانفسهم أمورا يعرفون بها منزلتك من اللّه فلم تفعل ثم سالوك ان تعجل ما تخوّفهم به من العذاب فلم تفعل فو اللّه لا أؤمن لك ابدا حتّى تتخذ الى السماء سلّما ثم ترتى فيه و انا انظر حتّى تأتيها و تأتى معك نسخة منشورة و معك اربعة من الملائكة يشهدون لك بما تقول و ايم اللّه لو فعلت ذلك لظننت ان لا أصدقك فانصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الى اهله حزينا لما راى من مباعدتهم فانزل اللّه تعالى. ٩٠ وَ قالُوا عطف على ابى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ الاية الى قوله بَشَراً رَسُولًا- و اخرج ابن جرير من طريق ابن إسحاق عن شيخ من اهل مصر عن عكرمة عن ابن عباس- و اخرج سعيد بن منصور عن سعيد بن جبير فى هذه الاية قال نزلت فى أخي أم سلمة عبد اللّه بن امية قال فى لباب النقول هذا مرسل صحيح شاهد لما قبله يجبر المبهم فى اسناده- يعنى قال كفار مكة تعنتا و اقتراحا بعد ما لزمتهم بيان اعجاز القران و انضمام غيره من المعجزات لن نؤمن لك حَتَّى تَفْجُرَ قرا الكوفيون بفتح التاء و ضم الجيم مخففا من المجرد- و الباقون بضم التاء و فتح الفاء و كسر الجيم مشددا من التفعيل لَنا مِنَ الْأَرْضِ ارض مكة يَنْبُوعاً (٩٠) اى عينا لا ينضب ماؤها يفعول من نبع الماء. ٩١ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ بستان مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ من التفعيل باتفاق القراء الْأَنْهارَ خِلالَها وسطها تَفْجِيراً (٩١) تشقيقا. ٩٢ أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً يعنون قوله تعالى أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ قرا نافع و ابن عامر و عاصم بفتح السين كقطع لفظا و معنى جمع كسفة و هى القطعة و الباقون بسكون السين على التوحيد و جمعه كسياف و كسوف اى يسقطها طبقا واحدا و قيل معناه ايضا القطع و هى جمع مثل سدرة و سدر- و قرا فى الشعراء كسفا بالفتح حفص- و فى الروم ساكنة ابو جعفر و ابن عامر أَوْ تَأْتِيَ بِاللّه وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (٩٢) قال ابن عباس و الضحاك اى كفيلا لما تدّعيه اى شاهدا على صحته ضامنا لدركه- و قال قتادة اى مقابلا نراهم عيانا كالعشير بمعنى المعاشر و قال الفراء هو من قول العرب لقيت فلانا قبيلا و قبلا اى معائنة- و هو حال من اللّه و الحال من الملائكة محذوف لدلالتها عليه- و قال مجاهد هو جمع القبيلة اى بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة صنفا صنفا فيكون حالا من الملائكة. ٩٣ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ اى ذهب واصله الزينة أَوْ تَرْقى اى تصعد فِي السَّماءِ فى معارجها هذا قول عبد اللّه بن امية وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ اى لصعودك وحده حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ و كان فيه تصديقك و نؤمر فيه باتباعك قُلْ قرا ابن كثير و ابن عامر على صيغة الماضي اى قال محمّد و الباقون على صيغة الأمر أي قل يا محمّد تعجبا من اقتراحاتهم او تنزيها للّه تعالى من ان يأتى او يتحكم عليه او يشاركه أحد فى القدرة سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ اى ما كنت إِلَّا بَشَراً رَسُولًا (٩٣) يعنى ليس ما سالتم فى طوق البشر بل لو أراد اللّه ان ينزل ما طلبوا لفعل و لكنه لا ينزل الآيات على ما يقترحه البشر غالبا و قد اعطى اللّه تعالى لرسوله من الآيات و المعجزات ما يغنى عن هذا كله مثل القران و انشقاق القمر و نبع الماء من بين الأصابع و ما أشبهها و هذا هو الجواب المجمل و أما التفصيل فقد ذكر فى آيات اخر وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ الاية وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ ... وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى يعنى لم يؤمنوا بَلْ للّه الْأَمْرُ جَمِيعاً-. ٩٤ وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا محل ان النصب على انه مفعول ثان لمنع إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى اى النبي و القران إِلَّا أَنْ قالُوا محله الرفع على انه فاعل منع أَ بَعَثَ اللّه بَشَراً رَسُولًا (٩٤) يعنى ما منعهم عن الايمان بمحمّد صلى اللّه عليه و سلم و القران بعد نزول الوحى و ظهور الحق شي ء الا قولهم على سبيل الإنكار يعنى الا انكارهم ان يرسل اللّه بشرا- و هذا الإنكار واقع غير موقعه فان النقل و العقل حاكم بأن الرسول لا بد ان يكون من جنس المرسل إليهم حتّى يبلّغهم رسالات ربهم فيستفيدون منه لاجل المناسبة نبّه اللّه سبحانه على هذا المعنى بقوله. ٩٥ قُلْ يا محمّد جوابا لشبهتهم لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ كما يمشى بنوا آدم مُطْمَئِنِّينَ ساكنين فيها غير ذاهبين الى السماء فيسمعوا من أهلها و يعلموا ما يجب عليهم لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا (٩٥) يعنى لا نرسل الى قوم رسولا الا من جنسهم ليمكنهم من الاجتماع به و التلقي منه- و ملكا يحتمل ان يكون حالا من الرسول او موصوفا به و كذلك بشرا و الاول أوفق. ٩٦ قُلْ كَفى بِاللّه شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ على انى رسوله إليكم فانه تعالى اظهر المعجزات على يدى على وفق دعواى او على انى بلغت ما أرسلت به إليكم و انكم عاندتم بعد ظهور الحق فهو يحكم بيننا و بينكم بإثابة المحق و تعذيب المبطل- و شهيدا نصب على الحال او التميز إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ المنذرين و المنذرين خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) يعلم بظواهر أحوالهم و بواطنها فيجازيهم عليه- فيه تسلّية للنبى صلى اللّه عليه و سلم و تهديد للكفار-. ٩٧ وَ مَنْ يَهْدِ اللّه فَهُوَ الْمُهْتَدِ اثبت الياء فى الوصل نافع و حذفها الباقون فى الحالين وَ مَنْ يُضْلِلْ اى من يخذله و لم يعصم حتّى قبل وساوس الشيطان فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ يهدونه مِنْ دُونِهِ وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يمشون عَلى وُجُوهِهِمْ او يسحبون عليها عن انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سئل كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة قال أ ليس الّذي أمشاه على رجليه قادر على ان يمشيه على وجهه- متفق عليه و اخرج ابو داود و البيهقي عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة اصناف ركبانا و مشاة و على وجوههم- فقال رجل يا رسول اللّه او يمشون على وجوههم قال الّذي أمشاهم على أقدامهم قادر على ان يمشيهم على وجوههم و كذا اخرج الترمذي و حسنه و روى الترمذي و حسنه عن معاوية بن جيد سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول انكم تحشرون رجالا و ركبانا و تجرون على وجوهكم و اخرج النسائي و الحاكم و البيهقي عن ابى ذر قال حدثنى الصادق المصدوق صلى اللّه عليه و سلم ان الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج فوج طاعمين كاسين راكبين و فوج يمشون و يسعون و فوج يسحبهم الملائكة على وجوههم عُمْياً لا يرون ما تقربه أعينهم وَ بُكْماً لا ينطقون بحجة او اعتذار يقبل منهم وَ صُمًّا لا يسمعون شيئا يسرّهم لانهم فى الدنيا لم يستبصروا بالآيات و العبر و تصاموا عن استماع الحق و أبوا ان ينطقوا بالصدق كذا ذكر البغوي قول ابن عباس فلا منافاة بين هذه الاية و بين قوله تعالى وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ و قوله تعالى دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً و قوله تعالى سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً و قوله تعالى رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً و غيرها من الآيات الّتي تثبت لهم الرؤية و الكلام و السمع- و قيل يحشرون كما وصفهم اللّه تعالى ثم يعطى لهم السمع و البصر و النطق إذا عرضوا على النار و عند الحساب- و قيل يحشرون بعد الحساب من الموقف الى النار مؤفى القوى و الحواس- و اخرج سعيد بن منصور و البيهقي عن محمّد بن كعب قال لاهل النار خمس دعوات يجيبهم اللّه فى اربع فاذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها ابدا يقولون رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ فيجيبهم ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللّه وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ الاية ثم يقولون رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ فيجيبهم فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ الاية ثم يقولون رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَ نَتَّبِعِ الرُّسُلَ فيجيبهم أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ الاية ثم يقولون رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ فيجيبهم أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ الاية ثم يقولون رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ فيجيبهم اخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ فلا يتكلمون بعدها ابدا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ اى سكن لهبها بان أكلت جلودهم و لحومهم زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) وقودا فيتوقد النار بان يبدل جلودهم و لحومهم كانّهم لمّا كذبوا بالاعادة بعد الافناء جزاهم اللّه بانهم لا يزالون على الافناء و الاعادة و اليه أشار بقوله-. ٩٨ ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) فان الاشارة بذلك الى ما تقدم من عذابهم. ٩٩ أَ وَ لَمْ يَرَوْا الاستفهام للانكار و العطف على محذوف تقديره أنكروا البعث و لم يعلموا أَنَّ اللّه الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ مع عظمها و شدتها من غير سبق مثال قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ مع صغرهم و ضعفهم فانهم ليسوا أشد خلقا منهن و لا الاعادة أصعب عليه من الإبداء وَ جَعَلَ لَهُمْ عطف على خبر انّ يعنى الم يعلموا ان اللّه جعل لهم أَجَلًا اى وقتا لعذابهم لا رَيْبَ فِيهِ اى فى ان يأتيهم قيل هو الموت و قيل يوم القيامة فَأَبَى الظَّالِمُونَ مع وضوح الحق إِلَّا كُفُوراً (٩٩) اى جحودا و إنكارا عطف على لم يروا يعنى الم يروا قدرة اللّه على خلقه و جعله لهم أجلا فابوا كل شي ء الا جحودا و فيه وضع الظاهر اى الظالمون موضع الضمير للتصريح بكونهم ظالمين فى الإنكار و الكفر. ١٠٠ قُلْ يا محمّد لَوْ أَنْتُمْ ايها الناس مرفوع بفعل يفسره تَمْلِكُونَ و فائدة الحذف و التفسير المبالغة و الدلالة على الاختصاص مع الإيجاز خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي اى رزقه و سائر نعمائه قرا نافع و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها إِذاً اى إذا ملكتم ظرف لما بعده لَأَمْسَكْتُمْ و بخلتم خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ اى لاجل الخوف من الفقر بالإنفاق و قيل خشية النفاد يقال نفق الشي ء إذا ذهب وَ كانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠) بخيلا ممسكا لان بناء امره على الحاجة و البخل بما يحتاج اليه و ملاحظته العوض فيما يبذل بخلاف اللّه سبحانه فانه جواد غير محتاج الى شي ء قادر على إيجاد أضعاف غير متناهية مما وجد فلا ينفد خزائنه-. ١٠١ وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ اى معجزات واضحات قال ابن عباس و الضحاك هى العصا- و اليد البيضاء- و العقدة الّتي كانت بلسانه فحلّها- و فلق البحر- و الطوفان- و الجراد- و القمّل- و الضفادع- و الدم- و قال عكرمة و مجاهد و عطاء هى الطوفان- و الجراد- و القمل- و الضفادع- و الدم و العصا- و اليد- و السنون- و نقص الثمرات- قال و كان رجل منهم مع اهله فى فراشه و قد صارا حجرين و المرأة منهم قائمة تختبز فصارت حجرا- و ذكر محمّد ابن كعب القرظي الطمس و انفلاق البحر و نتق الطور على بنى إسرائيل- و قيل الطوفان و السنون و نقص الثمرات مكان الثلاثة الاخيرة- و عن صفوان بن عسال قال قال يهودى لصاحبه اذهب بنا الى هذا النبي فقال له صاحبه لا تقل له نبى انه لو سمعك لكان له اربع أعين فاتيا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فسالاه عن تسع آيات بينات فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا تشركوا باللّه شيئا- و لا تسرقوا- و لا تزنوا- و لا تقتلوا النفس الّتي حرم اللّه الا بالحق- و لا تمشوا ببرىّ الى ذى سلطان ليقتله و لا تسحروا- و لا تأكلوا الربوا- و لا تقذفوا محصنة- و لا تولوا الفرار يوم الزحف و عليكم خاصة اليهود ان لا تعتدوا فى السبت- قال فقبّلا يديه و رجليه و قالا نشهد انك نبى- قال فما يمنعكم ان تتبعونى- قالا ان داود عليه السلام دعا ربه ان لا يزال من ذريته نبى و انا نخاف ان تبعناك ان يقتلنا اليهود رواه ابو داود و النسائي و ابن ماجة و الترمذي و قال حسن صحيح و الحاكم و قال صحيح لا نعرف له علة- و روى البغوي بلفظ ان يهوديا قال لصاحبه تعال حتّى نسئل هذا النبي فقال الاخر لا تقل له انه نبى انه لو سمع صارت له اربع أعين فاتياه فسالاه عن هذه الاية وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ الحديث فعلى هذا المراد بالآيات الاحكام العامة للملل الثابتة فى كل الشرائع سمى بذلك لانها تدل على حال من يتعاطى متعلقها فى الاخرة من السعادة و الشقاوة و قوله و عليكم خاصة اليهود ان لا تعتدوا حكم مستانف زائد على الجواب و لذلك غير فيه سياق الكلام فَسْئَلْ اى فقلنا لموسى فاسئل بَنِي إِسْرائِيلَ من فرعون ليرسلهم معك- أو سل يا موسى بنى إسرائيل عن دينهم و يؤيد كون الخطاب لموسى قراءة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فسأل على لفظ الماضي بغير همزة الوصل أخرجه سعيد بن منصور فى سننه و احمد فى الزهد عن ابن عباس إِذْ جاءَهُمْ متعلق بقلنا مقدر- او المعنى فاسئل يا محمّد بنى إسرائيل عمّا جرى بين موسى و فرعون إذ جاءهم و عن الآيات ليظهر للمشركين صدقك او لتسلّى نفسك و تعلم انه تعالى لو اتى بما اقترحوا لاصروا على العناد و المكابرة كمن قبلهم او ليزداد يقينك لان تظاهر الادلّة توجب قوة اليقين و طمانية القلب- و على هذا كان إذ منصوبا باتينا او بإضمار يخبروك على انه جواب الأمر او بإضمار اذكر على الاستيناف فَقالَ لَهُ اى لموسى فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) سحرت فاختل عقلك حيث تدعى امرا مستحيلا يعنى الرسالة من اللّه تعالى كذا قال الكلبي- و قيل مصروفا عن الحق- و قال الفراء و ابو عبيدة ساحرا وضع المفعول موضع الفاعل- و قال محمّد بن جرير معطى علم السحر فهذه العجائب الّتي تفعلها من سحرا-. ١٠٢ قالَ موسى فى جوابه لَقَدْ عَلِمْتَ قرا الكسائي بضم التاء على اخباره عن نفسه اى علمت انا و يروى ذلك عن علىّ- و قال لم يعلم الخبيث ان موسى على الحق و لو علم لا من و لكن موسى هو الّذي علم- و قرا الباقون بفتح التاء اى لقد علمت أنت يا فرعون- قال ابن عباس علمه فرعون و لكن عاند قال اللّه تعالى وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ... ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ الآيات إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ جمع بصيرة اى بينات يبصرك صدقى و لكنك تعاند و انتصابه على الحال وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) قال ابن عباس ملعونا و قال مجاهد هالكا- و قال قتادة مهلكا- و قال الفراء مصروفا ممنوعا عن الخير مطبوعا على الشر من قولهم ما ثبرك عن هذا اى ما صرفك- نازع ظنه بظنه و شتّان ما بين الظنين فان ظن فرعون باطل معارض للادلّة الموجبة لليقين- و ظن موسى يحوم حول اليقين من تظاهر اماراته. ١٠٣ فَأَرادَ فرعون أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ اى يستخف و يخرج موسى و قومه مِنَ الْأَرْضِ ارض مصر او الأرض مطلقا بالقتل و الاستيصال فَأَغْرَقْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) على عكس ما أراد بموسى و قومه يعنى فاستفززناه و قومه بالاغراق. ١٠٤ وَ قُلْنا مِنْ بَعْدِهِ اى من بعد فرعون و إغراقه لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ الّتي أراد فرعون ان يستفزكم منها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ اى الكرة او الحيوة او الساعة او الدار الاخرة يعنى قيام القيامة جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤) اى جميعا مختلطين إياكم و إياهم ثم يحكم و يميز سعداءكم من اشقيائكم- و اللفيف الجماعات من قبائل شتى إذا اختلطوا و جمع القيامة كذلك فيهم المؤمن و الكافر و البرّ و الفاجر و قال الكلبي فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ يعنى مجي ء عيسى من السماء جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً اى كل قوم من هاهنا و هاهنا لقوا جميعا-. ١٠٥ وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ تقديم الظرف يفيد الحصر يعنى ما أنزلنا القران الا متلبسا بالحق اى بالحكمة المقتضية لانزالها و ما نزل الا متلبسا بالحق اى الحكمة و الصدق الّذي اشتمل عليه- و قيل معناه ما أنزلناه من السماء الا محفوظا بالرصد من الملائكة و ما نزل على الرسول الا محفوظا بهم من تخليط الشياطين- أراد نفى اعتراء البطلان اوله و آخره وَ ما أَرْسَلْناكَ يا محمّد إِلَّا مُبَشِّراً للمطيعين بالجنة وَ نَذِيراً (١٠٥) للعاصين من النار- فليس عليك الا التبشير و التنذير دون جبرهم على الهداية. ١٠٦ وَ قُرْآناً منصوب بفعل يفسره فَرَقْناهُ يعنى نزلناه نجوما متفرقا و لم ننزله جملة- بدليل قراءة ابن عباس بالتشديد لكثرة نجومه فانه نزل فى عشرين سنة- او معناه فصلناه و بيناه و قال الحسن معناه فرقنا فيه الحق من الباطل فحذف كما حذف فى قوله و يوما شهدناه لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ اى مهلة فانه أيسر للحفظ و أعون للفهم وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (١٠٦) على حسب الحوادث-. ١٠٧ قُلْ يا محمّد آمِنُوا بِهِ اى بالقران أَوْ لا تُؤْمِنُوا هذا على طريق التهديد و الوعيد يعنى ايمانكم و انكاركم لا يعود على القران منفعة- فان ايمانكم لا يزيده كمالا بل لانفسكم- و امتناعكم عنه لا يورثه نقصانا بل يضركم و قوله إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ تعليل له يعنى فان لم تؤمنوا فقد أمن غيركم الذين هم خير منكم- و هم علماء اهل الكتاب الذين قرءوا الكتب السابقة- و عرفوا حقيقة الوحى و امارات النبوة- و تمكنوا من التميز بين المحق و المبطل- حيث قرءوا نعتك و صفة ما انزل إليك فى تلك الكتب- و قيل المراد بالموصول الذين كانوا يطلبون الدين قبل مبعث النبي صلى اللّه عليه و سلم ثم اسلموا بعد مبعثه مثل زيد بن عمرو بن نفيل و سلمان الفارسي و أبو ذر و غيرهم- و يجوز ان يكون تعليلا على سبيل التسلّية كانه قيل تسلّ بايمان العلماء عن ايمان الجهلة و لا تكترث بايمانهم و اعراضهم إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ القران يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ قال ابن عباس أراد به الوجوه اى يسقطون على وجوههم سُجَّداً (١٠٧) تعظيما لامر اللّه و شكرا لانجازه وعده فى تلك الكتب ببعثة محمّد صلى اللّه عليه و سلم على فترة من الرسل- و إنزال القران عليه. ١٠٨ وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا عن خلف الموعد إِنْ كانَ يعنى انه كان وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (١٠٨) كائنا لا محالة يعنى ما وعد اللّه تعالى فى الكتب المنزلة و بشر به من بعثة محمّد صلى اللّه عليه و سلم و إنزال القران عليه كان منجزا كائنا البتة. ١٠٩ وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ كرر لاختلاف الحال او السبب فان الاول للشكر عند انجاز الوعد- و الثاني لما اثر فيهم من مواعظ القران- و جملة يبكون فى محل النصب على الحال يعنى يخرون حال كونهم باكين من خشية اللّه- و ذكر الذقن لانه أول ما يلقى الأرض من وجه الساجد و اللام فيه لاختصاص الخرور بها وَ يَزِيدُهُمْ سماع القران خُشُوعاً (١٠٩) اى يزيدهم علما و يقينا و خشوعا لاجل نزول بركات القران على بواطنهم- (مسئلة) يستحب البكاء عند قراءة القران عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يلج النار من بكى من خشية اللّه حتّى يعود اللبن فى الضرع- و لا يجتمع غبار فى سبيل اللّه و دخان جهنم فى منخرى مسلم ابدا- رواه البغوي و رواه الحاكم و صححه و البيهقي عنه بلفظ حرم على عينين ان تنالهما النار عين بكت من خشية اللّه- و عين باتت تحرس الإسلام و اهله من اهل الكفر- و عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول حرمت النار على ثلاثة أعين عين بكت من خشية اللّه و عين سهرت فى سبيل اللّه و عين غضت عن محارم اللّه- رواه البغوي و عن ابى ريحانة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حرمت النار على عين بكت من خشية اللّه و حرمت النار على عين سهرت فى سبيل اللّه و حرمت النار على عين غضت عن محارم اللّه او عين فقئت فى سبيل اللّه- رواه الطبراني فى الكبير و صححه و عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما من عبد مؤمن يخرج من عينه دموع و ان كان مثل رأس الذباب من خشية اللّه ثم يصيب شيئا من حر وجهه الا حرمه اللّه على النار رواه ابن ماجة و اللّه اعلم- اخرج ابن مردوية و غيره عن ابن عباس قال صلّى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ذات يوم فدعا فقال فى دعائه يا اللّه يا رحمن فقال المشركون انظروا الى هذا الصابي ينهاتا ان ندعوا الهين فانزل اللّه تعالى. ١١٠ قُلِ ادْعُوا اللّه أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ و ذكر البغوي قول ابن عباس انه سجد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بمكة ذات ليلة فجعل يقول فى سجوده يا اللّه يا رحمن فقال ابو جهل ان محمّدا ينهانا عن الهتنا و هو يدعو الهين فانزل اللّه تعالى هذه الاية و معناها انهما اسمان لذات واحدة و ان اختلف اعتبار اطلاقهما و ذلك لا ينافى توحيد ذات واحدة يستحق العبادة هو لا غير- و كلمة او للتخيير و قيل قالت اليهود انك لتقل ذكر الرّحمن و قد أكثره اللّه فى التورية فانزل اللّه تعالى هذه الاية و المعنى انهما متساويان فىحسن الإطلاق و الإفضاء الى المقصود أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى الدعاء هاهنا بمعنى التسمية و هو معدى الى مفعولين حذف أولهما استغناء عنه- و التنوين فى ايّا عوض عن المضاف اليه و ما صلة لتأكيد ما فى اىّ من الإبهام- و الضمير فى له للمفعول الاول المحذوف يعنى أياما تدعوه فله اى لذات المعبود بالحق الأسماء الحسنى و جملة له الأسماء الحسنى واقعة موقع الجزاء للمبالغة و الدلالة على ما هو الدليل عليه و كان اصل الكلام اىّ اسم من هذين الاسمين تدعوا اللّه اى تسموه به فهو حسن صحيح لان له تعالى الأسماء الحسنى منها هذين الاسمين و كونها حسنى لدلالتها كلها على صفات الجلال و الكمال و التنزه عن النقص و الزوال- و قد ذكرنا اسماء اللّه سبحانه و ما يتعلق بها فى سورة الأعراف فى تفسير قوله تعالى وَ للّه الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها الاية- وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ اى بقراءتك فى الصلاة بحيث يسمعها المشركون وَ لا تُخافِتْ بِها كل المخافة بحيث لا يسمع من خلفك من المؤمنين وَ ابْتَغِ اى اطلب بَيْنَ ذلِكَ اى كمال الجهر و المخافة سَبِيلًا (١١٠) متوسطا فان خير الأمور أوسطها- و المراد بالصلوة صلوة الليل فريضة كانت او نافلة للاجماع على وجوب الإخفات فى صلوة النهار للنقل المتوارث- او المعنى و ابتغ بين ذلك سبيلا يعنى بالاخفاة نهارا و حيث يكون بمسمع من المشركين و بالجهر المتوسط ليلا- روى البغوي من طريق البخاري عن ابى بشير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فى هذه الاية قال نزلت و رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مختفى بمكة كان إذا صلّى بأصحابه رفع صوته بالقران فاذا سمعه المشركون سبّوا القران و من أنزله و من جاء به فقال اللّه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه و سلم وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ اى بقراءتك فيستمع المشركون فيسبّوا القران وَ لا تُخافِتْ بِها عن أصحابك فلا تسمعهم و روى البخاري عن ابى بشير بإسناد مثله و زاد وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أسمعهم و لا تجهر حتّى لا يأخذوا عنك القران- قال البغوي و قال قوم الاية فى الدعاء و هو قول عائشة و النخعي و مجاهد و مكحول رضى اللّه عنهم روى البخاري عن عائشة وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها قالت انزل ذلك فى الدعاء- و اخرج ابن جرير من طريق ابن عباس مثله ثم رجح الرواية الاولى بكونها أصح سندا- و كذا رجحها النووي و غيره قال الحافظ ابن حجر لكن يحتمل الجمع بينهما بانها نزلت فى الدعاء داخل الصلاة- و قد اخرج ابن مردوية من حديث ابى هريرة قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا صلّى عند البيت رفع صوته بالدعاء فنزلت- قلت و هذا الجمع عندى غير مرضى لان الدعوات المأثورة فى الصلاة المتوارث فيها الإخفات و لا خلاف الا فى دعاء القنوت و ايضا قوله تعالى ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ يقتضى الإخفاء فى الدعوات كلها فى الصلاة و خارجها فالاولى ان يقال المراد بالدعاء فى قول عائشة انها نزلت فى الدعاء و كذا فى حديث ابى هريرة رفع صوته بالدعاء سورة الفاتحة لاشتمالها على قوله تعالى اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إلخ و ما اخرج ابن جرير و الحاكم عن عائشة قالت اللّهم ارحمني فنزلت و أمروا ان لا تخافتوا و لا تجهروا- و ما قال البغوي قال عبد اللّه بن شداد كان اعراب بنى تميم إذا سلم النبي صلى اللّه عليه و سلم قالوا اللّهم ارزقنا مالا و ولدا و يجهرون بذلك فانزل اللّه تعالى هذه الاية يجب رده للتقل المتوارث فلا يصادم ما فى الصحيح فى سبب نزول هذه الاية و اللّه اعلم- روى البغوي من طريق الترمذي عن عبد اللّه بن رباح الأنصاري ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال لابى بكر مررت بك و أنت تقرا و تخفض من صوتك فقال انى أسمعت من ناجيت فقال ارفع قليلا و قال لعمر مررت بك و أنت ترفع صوتك فقال انى اوقظ الوسنان و اطرد الشيطان قال اخفض قليلا و روى ابو داود و غيره من حديث ابى قتادة نحوه- و قد ذكرنا بعض مسائل الجهر بالقراءة و الإخفات بها فى سورة الأعراف فى تفسير قوله تعالى وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ الاية و ذكرنا مسئلة ذكر الجهر و الخفي ايضا فى تلك السورة فى تفسير قوله تعالى ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً الاية- (فصل) كيف كان قراءة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن ابى هريرة قال كانت قراءة النبي صلى اللّه عليه و سلم يرفع طورا و يخفض طورا رواه ابو داود- و عن ابن عباس رضى اللّه عنهما قال كانت قراءة النبي صلى اللّه عليه و سلم على قدر ما يسمعه من فى الحجرة و هو فى البيت رواه ابو داود- و عن أم سلمة انها نعتت قراءته صلى اللّه عليه و سلم فاذا هى تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا رواه ابو داود و الترمذي و النسائي و عن أم هانى قالت كنت اسمع قراءة النبي صلى اللّه عليه و سلم الليل و انا على عريشى رواه الترمذي و النسائي و ابن ماجة- و عن عبد اللّه بن قيس قال سالت عائشة عن قراءة النبي صلى اللّه عليه و سلم كان يسر بالقراءة أم يجهر قالت كل ذلك قد كان يفعل ربما اسر و ربما جهر قلت الحمد للّه الّذي جعل فى الأمر سعة- قال الترمذي حديث حسن صحيح غريب و اللّه اعلم- اخرج ابن جرير عن محمّد بن كعب القرظي قال ان اليهود و النصارى قالوا اتخذ اللّه ولدا و قالت العرب لبيك لا شريك لك لبيك الا شريكا هو لك تملكه و ما ملك و قال الصابئون و المجوس لو لا اولياء اللّه لذلّ فانزل اللّه تعالى. ١١١ وَ قُلِ الْحَمْدُ للّه الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ اى فى الالوهية وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ اى ولى يواليه من أجل مذلة به ليدفعها بولايته- نفى عنه ان يكون له ما يشاركه من جنسه و من غير جنسه اختيارا و اضطرارا- و ما يعاونه و يقويه- و رتب الحمد عليه للدلالة على انه يستحق جنس الحمد لانه كامل الذات المتفرد بالإيجاد المنعم على الإطلاق و ما عداه ناقص مملوك نعمة او منعم عليه فكل حمد راجع اليه تعالى وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١) أي عظّمه عن ان يكون له شريك او ولىّ تعظيما بالغا- روى احمد فى مسنده و الطبراني بسند حسن عن معاذ الجهني عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انه كان يقول اية العز الْحَمْدُ للّه الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً الى اخر السورة و اللّه اعلم- فى هذه الاية تنبيه على ان العبد و ان بالغ فى التنزيه و التمجيد و اجتهد فى العبادة و التحميد ينبغى ان يعترف بالقصور عن حقه فى ذلك- عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أول من يدعى الى الجنة يوم القيامة الحمادون الذين يحمدون فى السراء و الضراء رواه الطبراني و الحاكم و صححه و البيهقي- و عن عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الحمد رأس الشكر ما شكر اللّه عبد لا يحمده رواه البيهقي و عبد الرزاق فى الجامع- و عن جابر بن عبد اللّه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ان أفضل الدعاء الحمد للّه و أفضل الذكر لا اله الا اللّه رواه الترمذي و ابن ماجة- و عن سمرة بن جندب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أحب الكلام الى اللّه اربع لا اله الا اللّه و اللّه اكبر و سبحان اللّه و الحمد للّه لا يضرك بايتهن بدأت رواه مسلم و احمد بسند صحيح و روى البغوي الأحاديث الاربعة و عن عمران بن حصين ان أفضل عباد اللّه يوم القيامة الحمادون رواه الطبراني- و عن ابى ذر أحب الكلام الى اللّه ان يقول العبد سبحان اللّه و بحمده رواه احمد و مسلم و الترمذي و عن انس كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا افصح الولد من بنى عبد المطلب علمه وَ قُلِ الْحَمْدُ للّه الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً الاية و أخرجه ابن السنى فى عمل اليوم و الليلة و كذا اخرج من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده و رواه عبد الرزاق و ابن ابى شيبة فى مصنفهما من حديث عمرو بن شعيب مفصلا و اللّه اعلم الحمد للّه رب العالمين و صلى اللّه تعالى على خير خلقه محمّد و اله و أصحابه أجمعين |
﴿ ٠ ﴾