سُورَةُ مَرْيَمَ مَكِّيَّةٌ

وَهِيَ ثَمَانٍ وَتِسْعُونَ آيَةً

مكيّة و هى ثمان و تسعون اية

بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

 ربّ يسر و تمم بالخير.

_________________________________

١

كهيعص (١) قرا أبو بكر و الكسائي بامالة فتحة الهاء و الياء و ابن كثير و حفص بفتحهما و ابن عامر و حمزة بفتح الهاء و امالة الياء و نافع بامالة الفاء و الياء بين بين.

٢

ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ يظهر قال لفظة صاد عند الذال من ذكر نافع و عاصم و الباقون يدغمونها ذكر خير لما قبله ان كان المراد به السورة او القران فانه مشتمل عليه او خبر مبتداء محذوف اى هذا المتلوّ ذكر رحمت ربّك او مبتدا حذف خبره اى فيما يتلى عليك ذكر رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ مفعول للرحمة او الذكر على ان الرحمة فاعله على الاتساع كقولك ذكرنى جود زيد زَكَرِيَّا (٢) بدل منه او عطف بيان قرا حمزة و الكسائي و حفص بالقصر و الباقون بالمد.

٣

إِذْ نادى الظرف متعلق بالرحمة او بالذكر يعنى دعا رَبَّهُ فى مجرابه نِداءً خَفِيًّا (٣) اى سرّا في جوف الليل لان الذكر و الدعاء سرا اكثر إخلاصا و الإخفاء سنة الدعا و ثم فسر النداء بقوله.

٤

قالَ رَبِّ اى يا ربى حذف حرف النداء و المضاف اليه اختصارا إِنِّي وَهَنَ اى ضعف ورق الْعَظْمُ مِنِّي أسند الوهن الى العظم لانه دعامة البدن و اصل بنائه او لانه أصلب أعضاء البدن فاذا وهن كان ما وراؤه اوهن- و توحيده بارادة الجنس وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً شبّه الشيب بالنار لبياضه و انتشاره في الشعر باشتعالها و أسند الاشتعال الى الراس و جعل الشيبا تمييزا مبالغة و اشارة الى استيعاب الشيب جميع الراس و اكتفى باللام عن الاضافة لان ظهور المراد يغنى عن التقييد فانه يحكى عن رأسه لا عن رأس غيره و المعنى رب انى شبت و اختلفوا في سنه حينئذ فقيل ستون أخرجه ابن ابى حاتم عن ابن المبارك و قيل سبعون أخرجه عبد الرزاق و ابن ابى حاتم عن الثوري- و قال المحلى مائة و عشرون سنة و بلغت امرأته ثمان و تسعين سنة

وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ اى يا ربى شَقِيًّا (٤) اى خيّبا يعنى كلما دعوتك في الماضي استجبت لى و لم تخيبنى قط- فالاجابة منك لدعائى جرى منك و عادة و سنة و انى أطمع الاجابة منك الان لماء لودتنى به و الكريم لا يخيب من أطمعه فالمصدر مضاف الى المفعول اى بدعائى إياك- و جاز ان يكون مضافا الى الفاعل و يكون المعنى انك لما دعوتنى للايمان امنت بك و لم أشق بترك الايمان- فاستجب دعائى ببركة الايمان بك و اجابة دعائك- و جملة لم أكن معطوفة على ما سبق او حال من ضمير المتكلم فانه في المعنى فاعل إذ معناه شبت-.

٥

وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ اى انباء عمى مِنْ وَرائِي و اى بعد موتى متعلق بمحذوف اى خفت فعل الموالي بعد موتى او الذين يلون الأمر من بعدي اى ان لا يحسنوا خلافتى في أمتي بعد موتى و يبدّلوا عليهم دينهم- و الجملة اما معطوفة او حال من فاعل أكن وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً لا تلد فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ فان مثله لا يرجى الا بفضلك و كمال قدرتك فانى و امرأتى لا نصلح للولادة عادة وَلِيًّا (٥) يعنى ابنا يلى امرى بعد مونى.

٦

يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قرأ ابو عمرو و الكسائي الفعلين بالجزم على انهما جواب الدعاء و الباقون بالرف على انهما صفتان لوليّا- و المراد ميراث العلم و النبوة دون المال لان الأنبياء لا يورثون المال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان العلماء ورثة الأنبياء و ان الأنبياء لم يورثوا دينارا و لا درهما و انما ورثوا العلم فمن اخذه أخذ بحظ وافر- رواه احمد و ابو داود و ابن ماجة و الدارمي من حديث كثير بن قيس و رواه الترمذي و سماه قيس بن كثير- و لهذا منع ابو بكر فاطمه رضى اللّه عنهما عن ميراث أبيها صلى اللّه عليه و سلم حين طلبته و عليه انعقد الإجماع- روى البخاري في الصحيح عن عائشة ان فاطمة و العباس أتيا أبا بكر رضى اللّه عنهم يلتمسان ميراثهما من النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال لهما أبو بكر سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول لا نورث ما تركناه صدقة و روى البخاري ايضا في الصحيح ان ازواج النبي صلى اللّه عليه و سلم حين توفى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أردن ان يبعثن عثمان الى ابى بكر يسئلنه ميراثهن. فقالت عائشة أ ليس قد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا نورث ما تركنا صدقة و روى البخاري ايضا عن مالك بن أوس بن الحدثان قال انطلقت حتى ادخل على عمر فاتاه حاجبه يرفا فقال هل لك في عثمان و عبد الرحمن و الزبير و سعد قال نعم فاذن لهم ثم قال فهل لك في على و عباس قال نعم فقال عباس يا امير المؤمنين اقض بينى و بين هذا قال أنشدكم باللّه الّذي باذنه تقوم السماء و الأرض هل تعلمون ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لا نورث ما تركنا صدقة يريد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نفسه قال الارهط قد قال ذلك فاقبل على على و عبّاس فقال هل تعلمان ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ذلك و الحديث و روى البخاري ايضا عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لا يقتسم ورثتى دينارا ما تركت بعد نفقه نسائى و مولة عاملى فهو صدقته و في الباب حديث حذيفة بن اليمان و زبير بن العوام و ابى الدرداء و الروافض ينكرون حديث لا نورث و به ينكرون على ابى بكر رضى اللّه عنه مع ان مقتداهم محمد بن يعقوب الكليني روى في جامعه عن ابى عبد اللّه جعفر الصادق بلفظ ان الأنبياء لم يورثوا درهما و لا دينارا و انما أورثوا أحاديث من أحاديثهم الحديث و ايضا سياق الاية لا يقتضى ميراث المال حيث قال يرتنى و يرث من ال يعقوب مع انه لا يمكن ان يرث من ال يعقوب بأجمعهم ميراث المال و ايضا يبعد ان يشفق زكريا و هو نبى من الانبيا ان يرثه بنوا عمه ماله و اللّه اعلم وَ اجْعَلْهُ رَبِّ يا ربى رَضِيًّا (٦) اى مرضيا ترضاه قولا و عملا- او راضيا عنك في السراء و الضراء.

٧

يا زَكَرِيَّا فيه اختصار تقديره فاستجاب اللّه دعاءه فقال يا زكريا- و لقد مرّ الخلاف في مد زكريا و قصوه في ال عمران إِنَّا نُبَشِّرُكَ قد مرّ الخلاف في الشديد و التخفيف فيه في ال عمران بِغُلامٍ ولد ذكر يرثك كما سألت اسْمُهُ يَحْيى صفة لغلام تولى اللّه سبحانه تسمينه تشريفا له لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) حال او صفية بعد صفة لغلام قال قتادة و الكلبي لم يسم أحد بيحيى قبله و فيه دليل على ان التسمية بالأسامي الغريبة تعظيم للمسمى و قال سعيد بن جبير و عطاء اى لم نجعل له شبيها و مثلا كما قال اللّه تعالى هَلْ تَعْلَمُ له سميّا

قال البغوي و معنى؟؟؟ انه لم يكن له مثل انه لم يعص اللّه و لم يهم بمعصيته-

قلت لعل المراد منه اجتماع اكثر الفضائل و ان كان بعضها موجبا للفضل الجزئى ككونه حصورا و ليس المراد كونه أفضل ممن قبله فضلّا عليا لان الخليل و الكليم كانا قبله و كانا أفضل منه- و قال على بن ابى طلحة عن ابن عباس اى لم يلد العواقر مثله

قال البيضاوي الأظهر انه اسم أعجمي و ان كان عربيا فمنقول من الفعل كيعيش و بعمرو قيل سمى به لانه حيى به رحم امه أو لأن ديناللّه حيى بدعوته-.

٨

قالَ رَبِّ اى يا ربى أَنَّى اى كيف يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً حال ثانية او معطوف على ما سبق و هذا سوال استكشاف اى باىّ طريق يكون الولد نحوّل شابين او نلذهرمين و فيه استعجاب من الولادة نظرا الى ملاحظة الأسباب لا بالنظر الى كمال قدرته تعالى وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) أصله عتق كقعود فاستثقلوا توال السفتين و الواوين فكسروا التاء فانقلبت الواو الاولى ياء ثم قلبت الثانية و أدغمت- فقرأ الجمهور عتيّا بضم الفاء اى العين و كسر ما بعدها و حفص و حمزه و الكسائي بكسرها اتباعا لما بعده و معنى العتو الإباء من الطاعة و المراد هاهنا كمال الهرم فان الضعيف لا يطيع أعضاء نفسه و لا يستطيع ان يأتى بما يريد- و قال قتادة يريد نحول «١»

العظم يقال عتا الشيخ يعتو عتيّا و عسيّا إذا انتهى سنه و كبره فهو عات و عاس إذا صارا الى اليبس و الجفاف.

(١) نحل جسمه نحولا اى ذهب من مرض او سفر ورق من قاموس ١٢ سنه رحمه اللّه تعالى.

٩

قالَ اللّه تعالى او الملك المبلغ للبشارة تصديقا له كَذلِكَ اى الأمر كذلك اى كما قلت انه مستبعد بملاحظة الأسباب مستعجب لكن

قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ او المعنى الأمر كما وعدت و قال ربّك هو علىّ هيّن لا احتاج فيما أريد ان افعل الى الأسباب و جاز ان يكون المعنى قال زكريا كنا لك يعنى كما سبق فهو تكرير على التأكيد- و جاز ان يكون كذلك منصوبا بقال في قال ربّك و تنازع الفعلان اعنى قال و قال في للفاعلية فاعمل الثاني و أضمر في الاول و جاز عكس ذلك يعنى قال ربّك كذلك و هو اشارة الى ما سبق يعنى نبشرك بغلام إلخ هو علىّ ميّن بان أرد عليك قوة الجماع و افتق رحم امرأتك للعلوق او اشارة الى مبهم يفسره قوله هو علىّ هيّن وَ قَدْ خَلَقْتُكَ قرأ حمزة و الكسائي خلقنك بالنون و الالف على التعظيم و الباقون بصيغة الافراد- حال من الضمير المجرور في علىّ متعلق بهيّن

مِنْ قَبْلُ هذا «٢» وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) بل كنت معدوما حال من كاف خلقتك- و فيه دليل على ان المعدوم ليس بشي ء.

(٢) الاولى في التفسير ان يقال اى من قبل هل ١٢؟؟؟ الفقير دهلوى. [.....].

١٠

قالَ رَبِّ اى يا ربى اجْعَلْ لِي قرأ نافع و ابو عمرو يفتح الياء و الباقون بإسكانها آيَةً علامة تدل على حمل امراتى قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ و أيامها كما يدل عليه اية ال عمران في القصة انه لم يقدر في تلك و الأيام و الليالى على الكلام من الناس فاذا ذكر اللّه انطق لسانه و تجرد للذكر و الشكر

سَوِيًّا (١٠) حال من فاعل لا نكلّم يعنى صحيحا سليما من غير خرس و لا بكم

و قال مجاهد لا يمنع من الكلام مرض- و قيل سويّا اى متتابعات و الاول أصح.

١١

فَخَرَجَ عطف على مقدر يعنى فظهرت الاية و منع من التكلم فخرج عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ اى من المسجد فانها موضع الحرب مع الشيطان- و في القاموس الغرفة و صدر البيت و أكرم مواضعه و مقام الامام من المسجد و الموضع الّذي ينفرد به الملك فيتباعد عن الناس

قال البغوي كان الناس من وراء المحراب ينتظرونه ان يفتح لهم الباب فيدخلون و يصلون إذ خرج عليهم زكريا متغير اللون فقالوا مالك يا زكريا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ فاونى إليهم لقوله تعالى الّا رمزا

و قال مجاهد كتب لهم في الأرض أَنْ سَبِّحُوا ان مفسرة لا وحي فان فيه معنى القول او مصدرية اى صلوا و نزّهوا ربكم بُكْرَةً غدوة وَ عَشِيًّا (١١).

١٢

يا يَحْيى تقديره فحملت أم يحيى بيحيى ثمّ ولدته- ثم

قلنا له حين صار أهلا للخطاب- و قال المحلى بعد ولادته بسنتين يا يحيى خُذِ الْكِتابَ اى التورية بِقُوَّةٍ اى؟؟؟ استظهار بالتوفيق وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ اى الحكمة و فهم الكتب عطف على

قلنا يا يحيى صَبِيًّا (١٢) و هو ابن ثلاث سنين فقرأ التورية فهو صغير- و من هاهنا قيل انه من قرا القران قبل ان يبلغ فقد اوتى الحكم صبيا قيل دعاه الصبيان الى اللعب فقال ما اللعب خلقنا- و قيل المراد بالحكم النبوة استنباه اللّه صغيرا.

١٣

وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا عطف على الحكم يعنى أعطيناه رحمة عليه من عندنا- او رحمة و تعطفا في قلبه على أبويه و غيرهما- او هيبة و وقارا او رزقا او بركة- فى القاموس حنان كسحاب الرحمة و الرزق و الهيبة و الوقار ورقة القلب و منه الحنّان اسم اللّه تعالى بمعنى الرحيم؟؟؟ وَ زَكاةً طهارة من الذنوب و قيل عنى بالزكاة الطاعة و الإخلاص و قال قتادة هى العمل الصالح و هو قول الضحاك و قال الكلبي صدقة تصدق اللّه بها على أبويه وَ كانَ تَقِيًّا (١٣) مسلما مخلصا مطيعا لم يعمل خطيئة و لا هم بها عطف على اتيناه.

١٤

وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ اى بارّا لطيفا محسنا إليهما وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً اى متكبرا و قيل الجبار الّذي يضرب و يقتل على الغضب عَصِيًّا (١٤) اى عاصيا ربه.

١٥

وَ سَلامٌ عَلَيْهِ جملة معترضة اى سلام من اللّه مما يؤذيه يَوْمَ وُلِدَ سلم من ان يناله الشيطان بما ينال به بنى آدم وَ يَوْمَ يَمُوتُ من عذاب القبر وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥) من عذاب النار و هول يوم القيامة- قال سفيان بن عيينة بهم الإنسان في هذه الأحوال يوم ولد فيخرج هما كان فيه- و يوم يموت و يرى قوما لم يكن عاينهم و يوم يبعث حيّا فيرى نفسه في محشر لم ير مثله قط- فخص يحيى بالسلامة في هذه المواطن- و الظرف يعنى يوم ولد مع ما عطف عليه متعلق بالظرف المستقر اعنى عليه في سلام عليه

فان قيل الظرف المستقر اما مقدر بحصل و استقر كما هو مذهب البصريين او بحاصل و مستقر كما هو مذهب الكوفيين و على التقديرين لا دلالة له الأعلى زمان واحد اما الماضي و اما الحال فكيف يتصور ظرفية يوم ولد على التقدير الثاني و الأخيرين على التقدير الاول

قلنا المحققون على ان العامل في الظرف عامل معنوى و هو معنى الحصول و الاستقرار من غير ملاحظة زمان و لهذا قالوا العامل في الحال في قوله زيد في الدار قائما عامل معنوى و انما يعبرونه بلفظ حصل او حاصل تجوزا كما يقال هذا زيد قائما تقديره أشير زيدا قائما فلا دلالة هاهنا على الزمان أصلا- فيجوز تعلق الظروف الزمانية الثلاثة من الماضي و الحال و الاستقبال به لاستشمام معنى الفعل منه- و لو سلمنا انه في الأصل متعلق بحصل او حاصل فبعد ما سد الظرف مسده و انتقل الضمير من المحذوف اليه انخلع الظرف عن معنى الزمان فجاز تعلق الظروف الثلاثة به-.

١٦

وَ اذْكُرْ عطف على مضمون الكلام السابق لان ما يذكر يذكر ليعلمه المخاطب و ليحفظه فكانه متضمن لقوله اعلم هذه القصة و احفظه فالتقدير اعلم ذكر رحمة ربّك زكريّا و اذكر فِي الْكِتابِ اى في القران مَرْيَمَ اى قصتها إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها الظرف اما بدل من مريم بدل الاشتمال لان الوقت مشتمل على ما فيها- او بدل الكل لان المراد بمريم قصتها و بالظرف الأمر الواقع فيه و هما واحد او ظرف لمضاف مقدر و قيل إذ بمعنى ان المصدرية كقولك اكرمتك إذ لم تكرمنى فيكون بدلا لا محالة- اى اعتزلت و تباعدت منهم و النبذ إلقاء الشي ء و هو يستلزم البعد مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) اى مكانا في الدار مما يلى المشرق و كان يوما شاتيا فجلست في مشرقه تفلى رأسها و قيل كانت طهرت من الحيض فذهبت لتغسل- و قيل تخلّت للعبادة من البيت جانب المشرق قال الحسن و من ثم اتخذ النصارى المشرق قبلة- و مكانا ظرف او مفعول به لان في انتبذت معنى أتت.

١٧

فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً قال ابن عباس سترا و قيل جلست من وراء جدار و قال مقاتل وراء جبل و قال عكرمة ان مريم كانت تكون في المسجد فاذا حاضت تحولت الى بيت خالتها حتى إذا طهرت عادت في المسجد فبينما هى تغتسل من الحيض قد تجردت إذ عرض لها جبرئيل في صورة رجل شابّ امرد و ضئ الوجه جعد الشاعر سوى الخلق كما قال اللّه تعالى فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا يعنى جبرئيل عليه السلام أضاف الى نفسه للتشريف سمى روحا لان الدين يحيى به و بوحيه فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) اى رجلا شابّا امر دسوىّ الخلق- و قيل المراد بالروح عيسى «١» جاء في صورة بشر فحملت به و الاول أصح فلمّا رات مريم جبرئيل يقصد نحوها نادته من بعيد و.

(١) يأباه قوله الآتي لاهب لك غلما زكيا فافهم ١٢ الفقير الدهلوى.

١٨

قالَتْ إِنِّي قرا نافع و ابن كثير و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ قالت ذلك من غاية عقتها إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) و جواب الشرد محذوف اى فلا تتغرضنى او فتنتهى عنى بتعوذى و هذا كقول القائل ان كنت مومنا فلا تظلمنى اى ينبغى ان يكون إيمانك مانعا لك من الظلم فالمعنى ينبغى ان تتقى اللّه و يكون تقواك مانعا لك من الفجور و قيل مبنى هذا الكلام على المبالغة و تقديره ان كنت تقيّا فانى أعوذ منك فكيف إذا لم تكن كذلك- و جاز ان يكون ان نافية.

١٩

قالَ جبرئيل إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ يعنى لست بشرا تخافينه و تتعوذين منه لكنى رسول ربّك من الملائكة أرسلني إليك لِأَهَبَ لَكِ أسند الفعل الى نفسه مجازا لكونه سببا ظاهريّا بالنفخ في الدرع- و يجوز ان يكون حكاية لقوله تعال تقديره أرسلني ربّك إليك يقول أرسلت رسولى إليك لاهب لك بتوسط كسبه النفخ في درعك

و قرا ورش و ابو عمرو لهب لك و كذلك روى الحلواني عن قالون يعنى ليهب ربّك لك غُلاماً زَكِيًّا (١٩) طاهرا من الذنوب معصوما او ناميا على الخير لا يزال مرتقيا على مساعد الخير و الصلاح- قال الصوفية العلية من استوى يوماه فهو مغبون.

٢٠

قالَتْ مريم متعجبة من قوله لكونه على خلاف العادة أَنَّى كيف يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ حال يعنى انّى يكون لى غلم في حال لم يمسسنى بشر اى بنكاح فان هذه الكنايات انما يطلق فيه- و اما في السفاح فيقال خبث بها و فجر و نحو ذلك وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) فاجرة عطف على ما سبق و هو فعول عند المبرّد أصله يغى في قلبت واوه ياء و أدغمت ثم كسرت الغين اتباعا و لذلك لم يلحقه التاء- و عند غيره فعيل بمعنى فاعل و لم يلحقه التاء لانه للمبالغة- أرادت مريم ان الولد يكوان من نكاح او سفاح و لم يتحقق شي ء منهما-.

٢١

قالَ جبرئيل الأمر كَذلِكِ يعنى يهب اللّه لك غلاما و ان لم يمسسك بشر و لم تك بغيا يعنى بلا اب قالَ رَبُّكِ هُوَ اى خلق الولد من غير اب عَلَيَّ هَيِّنٌ جملة قال ربك اما علة لجملة محذوفة دل عليه كذلك او حال منه بتقدير قد- و جاز ان يكون كذلك _

مقولة لقال ربّك تقديره قال جبرئيل قال ربك كنا لك يعنى أهب لك غلاما من غير اب و قوله هو علىّ هيّن في معنى العلة وَ لِنَجْعَلَهُ اما عطف على قوله هو علىّ هيّن لكونه في معنى العلة يعنى تفعل ذلك لكونه هينا و لنجعله- او على علة مقدرة لجملة محل دفة ت؟؟؟ ره أهب لك غلاما لنجتبيه بوحينا و لنجعله آيَةً لِلنَّاسِ اى علامة و برهانا على كمال قدرتنا- و قيل لنجعله عطف على لبهب على طريقة الالتفات من الغيبة الى التكلم وَ رَحْمَةً مِنَّا عطف على موضع لنجعل اى لنجعله اية منا على العباد يهتدون بإرشاده او على اية اى لنجعله رحمة مِنَّا وَ كانَ ذلك أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) تعلق به قضاؤنا في الأزل او قدّر و سطر في اللوح او امرا حقيقا بان يقضى و يفعل لكونه اية و رحمة.

٢٢

فَحَمَلَتْهُ عطف على محذوف تقديره فاطمانّت بقول الملك فنفخ الملك في جيب درعها فحملت حين لبست كذا قيل و قيل مد جبرئيل جيب درعها بإصبعيه و نفخ في الجيب و قيل نفخ في كم قميصها- و قيل في فيها و قيل نفخ جبرئيل نفخة من بعيد فوصل الريح إليها فحملت بعيسى عليه السلام في الحال فَانْتَبَذَتْ به اى تنحت متلبسا بالحمل مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) اى في مكان بعيد من أهلها قال ابن عباس ا؟؟؟ طى الوادي و هو وادي بيت المقدس فرارا من قومها ان يعيروها بالحمل من غير زوج

قال البغوي اختلفوا في مدة حملها و وقت وضعها فقال ابن عباس كان الحمل و الولادة في ساعة واحدة و قيل كان مدة حملها تسعة أشهر كحمل سائر النساء و قيل ولدت لثمانية اشهد و قيل لستة أشهر و قال مقاتل بن سليمان حمته مريم في ساعة و صور في ساعة و وضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها و هى بنت عشر سنين و كانت حاضت حيضتين قبل ان تحمل بعيسى-.

٢٣

فَأَجاءَهَا فالجاها و هو في الأصل مشتق من جاء ع؟؟؟ ى بهمزة الافعال لكنه خص بالإلجاء في الاستعمال كما استعمل اتى في اعطى الْمَخاضُ اى وجع الولا و معيد مخضت المرأة إذ التحرك الولد في بطنها للخروج- أسند الفعل اليه مجازا يعنى أجاءها اللّه عند المخاض- او المعنى جاءت بسبب المخاض فالمخاض سبب داع للمجيئ فكانه أجاءها إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ لنستتر به و لتعمد عليه و تتمسك به على وجع الولادة و الجذع هو العرق و الغصن و كانت نخلة يابسة في الصحراء في شدة الشتاء لم يكن لها سعف- اخرج ابن ابى حاتم عن ابى روق بلفظ انتهت مريم الى جذع ليس له راس فهزتها فجعل بها راسا و حوصا و رطبا و التعريف للجنس

قال البيضاوي لعله تعالى ألهمها ذلك ليريها من الآيات ما يسكن روعتها و يطعمها الرطب فانها غير مطاعم النساء قالَتْ استحياء من الناس و مخافة لومهم على الولادة من غير زوج يا لَيْتَنِي المنادى محذوف تقديره يا ايها المخاطب ليتنى و لعل المخاطب هاهنا نفسها او جبرئيل عليه السلام و قيل يا للتنبيه و الجملة الندائية لاستبعاد المتمنى مِتُّ قرا ابن كثير و ابو عمرو و ابن عامر و أبو بكر بكسر الميم «١» من مات يمات بكسر العين في الماضي و فتحها في الغابر مثل خاف يخاف و الباقون بفتحها من مات يموت بفتح العين في الماضي و ضمها في الغابر مثل قال يقول قَبْلَ هذا الأمر وَ كُنْتُ نَسْياً قرأ حفص و حمزة بفتح النون و الآخرون بكسرها- و النسيان هو ضد الحفظ و ترك الإنسان ضبط ما استودع اما لضعف قلبه او عن غفلة او عن قصد حتى يمحو عن القلب ذكره- و كل نسيان ذمه اللّه فهو ما كان أصله عن تعمد قال اللّه تعالى فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا- و كلّما عذر فيه فنا؟؟؟ ليس عن تعمد و منه قوله صلى اللّه عليه و سلم رفع عن أمتي الخطاء و النسيان و قد يطلق النسيان على ترك الشي ء على طريق الاهانة و هو المراد إذا نسب النسيان الى اللّه تعالى كما في قوله تعالى نسوا اللّه فنسيهم- و النّسى بالكسر أصله ما نسى كالنقض لما ينقض و صار في المتعارف اسما له يقل الاعتداد به- تقول العرب احفظوا انساكم اى ما من شأنه ان ينسى و بالفتح قيل لغة فيه مثل الوتر و الوتر و الحبس و الحبس و قيل هو مصدر سمى به او وضع المفعول و المراد بانسى ء اما نسى كما هو الأصل و لهذا عقبه بقوله مَنْسِيًّا (٢٣) دفعا لتوهم انه أريد به ما يقل الاعتداد به و ان لم ينس- و

قال البغوي انسى ما القى و نسى و لم يذكر لحقارية و منسيّا اى متروكا قال قتادة اى شيئا لا يذكر و لا يعرف و قال عكرمة و الضحاك و مجاهد جيفة ملقاة و قيل معناه لم اخلق

فان قيل لا يجوز التمني بالموت لضرّ نزل به كما ذكر في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى فتمنّوا الموت ان كنتم صدقين-

قلنا لعل ذلك قبل ورد النهى في شريعتهم او بغلبة الحال بلا قصد منها او لاجل خوف الفتنة ك الدين فان الإنسان عند خوف الفضيحة قد يكذب و قد يهلك نفسه و اللّه اعلم و قد ذكرنا في سورة البقرة ان تمنى الموت لاجل خوف الفتنة جائز لا بأس به-

(١)؟؟؟ ست المسألة من زلة القلم و الصحيح فرا ابن كثير و ابو عمرو و ابن عامر و أبو بكر و ابو جعفر و يعقوب بضم اليم من مات بموت بفتح العين في الماضي و ضمها في الغابر مثل قال يقوّل- و الباقون بكسر الميم من مات يمات بكسر العين في الماضي و فتحها في الغابر مثل يخاف يخاف كما مرّ في ال عمران- ابو محمد عفا اللّه عنه.

٢٤

فَناداها مِنْ تَحْتِها قرا ابو جعفر و نافع و حمزة و الكسائي و حفص بكسر الميم في من على انها جارة و جر ما بعدها و على هذا فاعل نادى محذوف يعنى نادها مناد و هو جبرئيل عليه السلام كذا قال ابن عباس و السدىّ و قتادة و الضحاك و جماعة قالوا كانت مريم على اكمة و جبرئيل من وراء الاكمة تحتها فناداها لما سمع جزعها

و قال مجاهد و الحسن هو عيسى عليه السلام لمّا خرج من بطنها ناداها.

فان كان المراد به عيسى فالجنة معطوفة على جملة محذوفة معطوفة على ما سبق تقديره فرضعت حملها فناداها-

و قرا الباقون بفتح الميم و التاء على انها موهولة و هى مع صلتها فاعل لنادى يعني ناواها للذى كان تحتها و هو جبرئيل عليه السلام او عيسى عليه السلام و مغير تحتها راجعت الى مريم و قيل الى التحلة أَلَّا تَحْزَنِي ان مفسرة لنادى اى لا تحزن بالوحدة و عدم الطعام و الشراب و مقالة الناس قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) جملة في مقام التعليل للنهى و التبري ال؟؟؟ هم الصغيل أخرجه الطبراني في معجم الصغير من حديث البراء بن عازب مرفوعا لكن قال لم يرفعه عن ابى اسحق الا ابو ستان و أعله بن عدى في الكامل عن ابى سفيان و هو معاوية بن يحيى و حكى تضعيف عن ابن معين و النسائي و ابن المديني و ذكر البخاري تعليتما عن البراء و استد عبد الرزاق و ابن جرير و ابن مردوية في تفاسيرهم عن البراء موقوفا عليه و كذا رواه الحاكم في المستدرك فقال انه صحيح على شرط مسلم و أخرجه الطبراني و ابو نعيم في الحلية من حديث ابن عمران السّرى أخرجه اللّه لتشرب امه اى أم عيسى منه و فيه أيوب بن نهيك؟؟؟ ه ابو زرعة و ابى حاتم- قيل معنى تحتك تحت أمرك ان امرتيه بجرى جرى و ان امرتيه بالإمساك امسك قال ابن عباس ضرب جبرئيل و قيل عيسى برجليه الأرض فظهرت عين ماء عذاب و جرى- و قيل كان هناك نهر يابس اجرى اللّه فيه الماء و حييت النخلة اليابسة فاورقت و أثمرت و أرطبت- و قيل البسرى السيّد من اسرد و المراد به العيسى عليه السلام قال الحسن كان عيسى و اللّه عبدا سريّا او رفيعا سيّدا-.

٢٥

وَ هُزِّي إِلَيْكِ اى حركى بجذب و دفع و اميلى إليك بِجِذْعِ النَّخْلَةِ و الباء زائدة لتأكيد قال البغاء تقول العرب هزّه و هزّ به تُساقِطْ قرأ الجمهور بفتح التاء و القاف و تشديد السين و حمزة بضمهما مع التخفيف أصله يتساقط من التفاعل حذف حمزة احدى التاءين و ادغمها غيره في السين

و قرا حفص بضم التاء و كسر القاف من المفاعلة بمعنى أسقط و التأنيث لكون الضمير عائدا الى النخلة

و قرا يعقوب بالياء التحتانية و الضمير حينئذ يعود الى الجذع عَلَيْكِ رُطَباً تمير من سة تتساقط و فيه مبالغة على قراة الجمهور و مفعولا به على قرأة حفص و يعقوب جَنِيًّا (٢٥) يعنى الّذي بلغ الغاية و جاءا و ان اجتنانه قال الربيع بن هيثم ما للنفساء عندى خير من الرطب و لا للمريض خير من العسل.

٢٦

فَكُلِي يا مريم من الرطب وَ اشْرَبِي من السرى او من الرطب و عصيره وَ قَرِّي عَيْناً اى طيبى نفسا و ارفضى عنك ما أحزنك- عينا تميز من نسبة قرّى يعنى لتقر عينك قبل يعنى؟؟؟ ك و اشتقاقه من القرار فان العين إذا رأت ما يسر النفس سكنت اليه عن النقل الى غيره و يقال قر اللّه عينك اى صادف فوادك ما يرضيك فيقرك بالنظر اليه من النظر الى غيره- و قبل أقر اللّه عليه اى أنامها يقال أقر يقر إذا سكن او من القرّ ضد الحر فان دمعة السرور باردة و دمعة الحزن حارة- و لذلك يقال قرة العين للمحبوب و سخنتها للمكروه فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً ما زائدة أدغمت نون ان الشرطية فيها و النون للتأكيد يعنى فكلّما ترينّ يا مريم ارميا فيسئلك عن شأن ولدك فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً اى صمتا كذلك كان ابن مسعود يقرأ يعنى نذرت الرحمن ان امسك عن الكلام في شأنه و غيره مع الاناسىّ- و قال السدى كان في بنى إسرائيل من يجتهد صام عن الكلام كما يصوم عن الطعام فلا يتكلم حتى يمسى- فقيل ان اللّه أمها ان تقول هذا اشارة لكراهة المجادلة و الاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام فانه قاطع الطعن و قيل أمها ان تقول هذا لقدر نطقا ثم تمسك من الكلام بعده فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) بعد ان أخبرتكم بنذرى يقال كانت تكلم الملائكة و لا تكلم الانس.

٢٧

فَأَتَتْ بِهِ اى بعيسى قَوْمَها تَحْمِلُهُ اى حاملة إياه قيل انها ولدت ثم حملته في الحال الى قومها- و قال الكلبي حمل يوسف النجار مريم و ابنها عيسى الى غار مكثت فيه أربعين يوما حتى طهرت من نفاسها- ثم حملته مريم الى قومها فكلمها عيسى في الطريق فقال يا أماه أبشري فانى عبد اللّه و مسيحه- فلما دخلت على أهلها و معها صبى راوا و بكوا و خزنوا و كانوا اهل بيت صالحين و قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) جواب قسم محذوف اى منكرا من فرى الجلد بمعنى الشق و منه قول الحسان لافرينّهم فرى الأديم اى اشقهم بالهجاء كما يشق الأديم و منه يستعمل في القران كثيرا بمعنى تصنّع الكذب و الشرك و الظلم قال اللّه تعالى و من اظلم ممّن افترى على اللّه الكذب- و قال و من يشرك باللّه فقد افترى اثما عظيما- فان المنكر من الشرك و المعاصي يشق عصمة الرجل و صلاحه- و قيل معناه عظيما عجيبا كانه يفرى العادة اى يقطعها و يشقها- قال و عبيدة كل امر فائق من عجب او عمل فهو فرىّ- قال النبي صلى اللّه عليه و سلم في عمر فلم ار عبقريّا يفرى فريه اى يعمل عمله عجيبا فالقافى العجب.

٢٨

يا أُخْتَ هارُونَ اخرج ابن ابى حاتم عن السدي انهم عنوا به هارون النبي أخا موسى عليهما السّلام لانها كانت من نسله كما يقال للقيمى يا أخا تميم- و قيل لانها كانت من أعقاب من كان مع هارون النبي في طبقة الاخوة أخرجه ابن ابى حاتم عن علّى بن ابى طلحة- و قال الكلبي كان هرون أخا مريم من أبيها و كان أمثل رجل في بنى إسرائيل روى البغوي عن المغيرة بن شعبة قال شاقدمت نجران سالوق فقالوا انكم تقرءون ياخت هرون و موسى كان قبل عيسى بكذا و كذا- فلمّا قدمت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سالته عن ذلك فقال انهم كانوا يسمون بانبيائهم و الصالحين من قبلهم- رواه مسلم في الصحيح و

قال البغوي قال قتادة و غيره كان هارون رجلا صالحا عابد في بنى إسرائيل روى انه تبع جنازته يوم مات أربعون الفا كلهم يسمى هارون بنى إسرائيل سوى سائر الناس- شبهوها به على معنى انك مثله في الصلاح و ليس المراد منه الاخوة في النسب كما قال اللّه تعالى إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ اى أشباههم- كذا اخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد عن فتادة و انما شبهوها به تهكما او لما راو اقبل ذلك عن صلاحها و قيل كان هارون رجلا فاسقا من بنى إسرائيل عظيم الفسق فشبهوها به شتما كذا اخرج ابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير ما كانَ أَبُوكِ عمران امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ عنّه بَغِيًّا (٢٨) زانية فيه تقرير لكون ذلك منها امرا فريّا فان الفواحش من أولاد الصالحين افحش و اعجب.

٢٩

فَأَشارَتْ مريم إِلَيْهِ اى الى عيسى ان كلموه قال ابن مسعود لمّا لم يكن لها حجة اشارت اليه ليكون كلامه حجة لها و في القصة انها لما اشارت اليه غضب القوم و قالوا بئسما فعلت تسخرين منّا قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ كان زائدة كما في قوله تعالى هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا و صلة من قوله فِي الْمَهْدِ اى الظرف المستقر صَبِيًّا (٢٩) حال من المستكن في الظرف- و جاز ان يكون كان تامة او للدوام كما مرّ في قوله تعالى كانَ اللّه عَلِيماً حَكِيماً او بمعنى صار- و المراد بالمهد حجر امه و قيل هو المهد بعينه- يعنون انه لم نعهد عاقلا كلم صبيّا اى في المهدى صبيا لم يعقل فلم يتكلم بعد قال السدى فلمّا سمع عيسى كلامهم ترك الرضاع و اقبل عليهم و قيل لما اشارت اليه ترك الثدي و اتكى على يساره و اقبل عليهم و جعل يشير بيمينه و.

٣٠

قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّه أشار باضافة نفسه الى اللّه انه عبد مكرّم و لمّا كان القوم منكرين لذلك أورده بالتأكيد- قال وهب أنا ها زكريا عند مناظرتها اليهود فقال لعيسى النطق بحجتك ان كنت أمرت بها- فقال عند ذلك عيسى و هو ابن أربعين يوما و قال مقاتل قال يوم ولد انّى عبد اللّه أقرّ على نفسه بالعبودية للّه عزّ و جلّ أول ما تكلم لئلا يتخذه النّاس الها آتانِيَ قرأ حمزة بإسكان الياء و الباقون بفتحها الْكِتابَ قال الحسن الهم التورية و هو في بطن امه- و قال الأكثرون أوتي الإنجيل و هو صغير طفل و كان يعقل عقل الرجال و قيل معناه سيؤتينى الكتب اى الإنجيل و كذا قوله وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) يعنى سيجعلنى نبيا و التعبير بلفظ الماضي بجعل المحقق وقوعه كالواقع- و قيل هذا اخبار عما كتب له في اللوح المحفوظ كما قيل للنبى صلى اللّه عليه و سلم متى كنت نبيّا- قال كنت نبيّا و آدم بين الروح و الجسد- رواه ابن سعد و ابو نعيم في الحلية عن ميسرة الفجر بن سعد عن ابى الجدعاء و الطبراني عن ابن عباس-.

٣١

وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً البركة اما بمعنى ثبات الخير و قراره ماخوذ من برك البعير- و اما بمعنى الزيادة في العطاء يقال اللّهم بارك في عطائك- او بمعنى العظمة و الكرم يقال هذا من بركة فلان- قيل معناه هاهنا اى نفّاعا

و قال مجاهد معلما للخير و قال عطاء ادعوا الى اللّه و الى توحيده و عبادته و قيل مباركا على من تبعني أَيْنَ ما كُنْتُ حيث كنت و في الأرض او في السماء و حيث توجّهت- و يستفاد منه انه نفاع في السماء يستفيد منه الملائكة وَ أَوْصانِي أمرني بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ اى تطهير المال بأداء ما وجب فيه و تطهير النفس عن الرذائل-

قال البغوي

فان قيل لم يكن بعيسى مال فكيف يؤمر بالزكاة قيل معناه أمرني بالزكاة لو كان لى مال و قيل باستكثار الخير و قيل معناه أوصاني بان أمركم بالصلوة و الزكوة ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) ظرف للصلوة و الزكوة يعنى أوصاني بان أصلي و ازكى مدة حياتى.

٣٢

وَ بَرًّا اى بارّا بِوالِدَتِي عطف على مباركا او منصوب بفعل دل عليه أوصاني اى و كلفنى برا و برّا حينئذ مصدر وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً اى عاتيا منكبرا شَقِيًّا (٣٢) عاصيا بربه قيل الشقي الّذي يذنب و لا يتوب.

٣٣

وَ السَّلامُ اى السلامة عَلَيَّ جملة فعليه في الأصل و لذلك عطف على فعلية سابقة جعلت اسمية للدلالة على الاستمرار يَوْمَ وُلِدْتُ من طعن الشيطان وَ يَوْمَ أَمُوتُ من عذاب القبر وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٢) من الأهوال و عذاب النار او التحية من اللّه عند كل تغير الأحوال- و اللام للعهف او للجنس و فيه تعريض باللعن على أعدائه فانه لما جعل جنس السلام على نفسه و على من هو في معناه بالايمان- عرض بان ضداه على من يضاده كقوله تعالى و السّلام على من اتّبع الهدى فانه تعريض بانّ العذاب على من كذّب و تولّى

قال البغوي فلمّا كلمهم عيسى بهذا علموا براءة مريم ثم سكت عيسى فلم يتكلم بعد ذلك حتى نبلغ المدة الّتي يتكلم فيها الصبيان-.

٣٤

ذلِكَ الّذي تقدم ذكره بكونه معترفا بالعبودية و غير ذلك عِيسَى مبتدا و خبر ابْنُ مَرْيَمَ نعت او خبرثان يعنى ليس عيسى من يصفه النصارى بالالوهية فانه منحوت خيالهم- فيه تكذيب لهم فيما يصفونه على الوجه الأبلغ و الطريق البرهاني حيث جعله الموصوف باضداد ما يصفونه- ثم عكس الحكم قَوْلَ الْحَقِّ قرأ ابن عامر و عاصم و يعفو بالنصب على انه مصدر موكد تقديره أقول قول الحقّ او على المدح- و الباقون بالرفع على انه خبر مبتداء محذوف اى الكلام السابق قول الحقّ لاريب فيه و اضافة القول الى الحق للبيان و قيل هذا صفة لعيسى او بدل منه او خبرثان لذلك و الحق هو اللّه و معناه و كلمته اللّه الَّذِي فِيهِ اى في امره يَمْتَرُونَ (٣٤) اى يشكوّن و يتنازعون فقالت اليهود ساحر كذاب و قالت النصارى ابن اللّه او هو اللّه- ثم نفى عن نفسه الولد فقال.

٣٥

ما كانَ للّه أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ جى ء بمن لتأكيد النفي سُبْحانَهُ مصدر أقيم مقام الفعل اى أسبحه سبحانا- فهو جملة معترضة للدلالة على تنزه ذاته عن اتخاذ الولد إِذا قَضى أَمْراً اى أراد ان يحدث شيئا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) و من ذلك احداث عيسى بلا اب و من كان كذلك كان منزعا من مشابهة الخلق بريّا من الحاجة في اتخاذ الولد باحبال الإناث و التجزى بالعلوق- فالجملة الشرطية في مقام التعليل لنفى اتخاذ الولد- قرا ابن عامر فيكون بالنصب على الجواب-.

٣٦

وَ إِنَّ اللّه رَبِّي وَ رَبُّكُمْ قرأ الكوفيون و ابن عامر و يعقوب بكسر الالف على الاستيناف عطفا على انّى عبد اللّه- و اهل الحجاز و ابو عمرو بفتح الالف عطفا على الصلاة و الزكوة يعنى و أوصاني بان اللّه ربى- او مبتدأ حذف خبره تقديره و ثابت انّ اللّه ربّى و ربّكم و الجملة معطوفة على انّى عبد اللّه مقولة للقول- فيه اشارة الى استكمال القوّة النظريّة باعتقاد التوحيد و في قوله فَاعْبُدُوهُ اشارة الى استكمال القوّة العمليّة بإتيان المأمورات و الانتهاء عن المناهي و الفاء للسبية- و في قوله هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) تعليل لقوله فاعبدوه و تأكيد لما سبق يعنى الجمع بين الامرين هو الطريق المشهود له بالخير-.

٣٧

فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ يعنى اليهود و النصارى او فرق النصارى تحزّبوا اى تفرقوا ثلاث فرق في امر عيسى قالت النسطورية انه ابن اللّه- و قالت اليعقوبية انه هو اللّه هبط الى الأرض ثم صعد الى السماء و قالت الملكائية هو عبد اللّه و رسوله و جملة فاختاف معطوفة على قال عيسى مِنْ بَيْنِهِمْ كلمة من زائدة و الظرف متعلق باختلف- و المعنى من بين أصحابه او من بين قومه او من بين الناس فَوَيْلٌ الفاء للسببية و وبل في الأصل مصدر منصوب معناه هلكوا هلاكا- ثم نقلت الجملة من الفعلية الى الاسمية و رفع على الابتداء للدلالة على الاستقرار نحو سلام عليكم لِلَّذِينَ كَفَرُوا كان في الأصل متعلقا بالمصدر ثم جعل ظرفا مستقرا خبرا للمبتدا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) متعلق بويل اى من شهود يوم عظيم هو له و حسابه و جزاؤه و هو يوم القيمة او من وقت الشهود او من مكانه فيه- او من شهادة ذلك اليوم عليهم و هو ان يشهد عليهم الملائكة و الأنبياء و امة محمد صلى اللّه عليه و سلم و ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم بالفسوق و الكفر- او من وقت الشهادة عليهم او من مكانها- و قيل هو ما شهدوا به في عيسى-.

٣٨

أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا يعنى يوم القيمة صيغة التعجب و اللّه تعالى لا يوصف بالتعجب فالجمهور على ان المراد ان أسماعهم أبصارهم يوم القيامة جدير بان يتعجب منها لاجل شدة استماعهم و أبصارهم الحق حين لا ينفعهم الاستماع و الابصار بعد ما كانوا صمّا و عميا في الدنيا منه حين كان ينفعهم لو سمعوا و ابصروا- او تهديد بما سيسمعون و يبصرون يومئذ مما او عدوا به و لم يسمعوا الانذار في الدنيا و الجار و الجرور في محل الرفع بصيغة التعجب- و قيل هو صيغة امر امر اللّه نبيه صلى اللّه عليه و سلم ان يسمعهم و يبصرهم مواعيد ذلك اليوم و الجار و المجرور على هذا في محل النصب لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ اى في الدنيا طرف متعلق بالظرف المستقر اعنى قوله فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وضع الظالمين موضع الضمير اشعارا بانّهم ظلموا- حيث لم يستعملوا الاسماع و الابصار حين كان ينفعهم و اغفلوا أنفسهم- و سجل على إغفالهم بانهم في ضلال مبين-.

٣٩

وَ أَنْذِرْهُمْ يا محمد يَوْمَ الْحَسْرَةِ مفعول ثان لانذرهم- و جملة انذرهم معترضة او معطوفة على فاختلف بتقدير

قلنا اى و

قلنا لك انذرهم يوم الحسرة إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ او بدل من اليوم او ظرف للحسرة و ذلك إذا فرغ من الحساب ء ادخل اهل الجنة الجنة و اهل النار النار و ذبح الموت عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادى بناد يا اهل الجنة فيشرفون و ينظرون فيقول هل تعرفون هذا قالوا هذا الموت و كلهم قدراؤه-

فيذبح ثم يقول يا اهل الجنة خلود فلا موت و يا اهل النار خلود فلا موت تم قرا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و انذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر الآية رواه البغوي و روى الشيخان في الصحيحين عنه نحوه و روى الشيخان ذبح الموت من حديث ابن عمر نحوه و لكن ليس فيه قراءة الآية و كذ روى ابو يعلى و البزار و الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن انس و الحاكم و ابن حيان عن ابى هريرة من غير ذكر قراءة الآية و

قال البيضاوي اى يوم يتحسر الناس المسي ء على إساءته و المحسن على قلة إحسانه و روى الطبراني و ابو يعلى عن معاذ بن جبل قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليس يتحسر اهل الجنة الا على ساعة مرت بهم و لم يذكروا اللّه تعالى فيها و روى البغوي عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما من أحد يموت الا ندم قالوا فما ندمه يا رسول اللّه قال إن كان محسنا ان لا يكون ازداد و إن كان مسيئا ندم ان لا يكون نزغ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ عما هم عليه من الضلال و عما يعمل بهم في الاخرة وَ هُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) اى لا يصدقون المخبر الصادق و الجملتان حالان من الضمير المستكن في الظرف اى في ضلال مبين و ما بينهما اعتراض او من الضمير المنصوب في أنذرهم يعنى انذرهم غافلين غير مومنين فيكون حالا متضمنا للتعليل.

٤٠

إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْها يعنى يغنى الأرض و من عليها و يبقى الرب وحدة كما يبقى الوارث بعد موت المورث و ذكر كلمة من تغليبا للعقلاء او المعنى يسلب اللّه تعالى مالكية غيره تعالى عن الأرض و عمن عليها باهلاك الملاك فيكون الملك للّه وحده وَ إِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠) بعد ما يبعثون فنجازيهم على حسب أعمالهم و جملة إلينا يرجعون مرفوع المحل على انه خبر انا عطفا على نرث.

٤١

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ ٥ اى خبره إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً قيل معناه كثير الصدق و قيل بل من لم يكذب قط و قيل بل من لم يتاتى منه الكذب لتعوده الصدق و قيل بل من صدّق بقوله و اعتقاده و حقق صدقه و تصديقه بفعله و قيل كثير التصديق للّه تعالى فيما غاب عنه من وحدانيته و صفاته و أنبيائه و رسوله و بالبعث بعد الموت و بحسن ما امر به و تقبح ما نهى عنه و حقق تصديقه بفعله فقام على إتيان الأوامر و الانتهاء عن المناهي قلت ليس المراد بكثرة التصديق كثرته باعتبار متعلقه كما يدل عليه ظاهر عبارة البغوي فان التصديق جميع ما جاء به النبي صلى اللّه عليه و سلم توجد في كل مومن حتى انه من لم يومن بشي ء منها كان كافرا و القيام على إتيان الأوامر و ترك المناهي حظ الصالحين منهم و ليس كل صالح صديقا بل المراد بكثرة التصديق قوته و شدته و ذلك بالنبوة أصالة او وراثة اى بكمال متعابعة الأنبياء ظاهرا و باطنا و الاستغراق في كمالات النبوة و التجليات الذاتية الصرفة الداعية بلا حجاب بالوارثة و التبعية الا ترى انه تعالى ذكر اربعة اصناف الذين أنعم اللّه عليهم فقال من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و بشر غيرهم من المؤمنين بمعيتهم فالصديقون على درجة من الشهداء و الصالحين و قد ذكرنا ذلك في سورة النساء في تفسير قوله تعالى أولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين فالصديقون هم الذين قال اللّه منهم ثلة من الأولين و قليل من الآخرين و تفسيرها في سورة الواقعة و اكبر الصديقين بعد الأنبياء اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا سيما الخواص منهم قال رضى اللّه عنه انا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي الا كاذب يعنى بعدي من حيث الرتبة دون الزمان و أكبرهم جميعا أبو بكر سماه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صديقا و عليه انعقد الإجماع نَبِيًّا (٤١) من النبوة و هى ما ارتفع من الأرض و هو العالي في الرتبة بإرسال اللّه تعالى إياه او من النبا بمعنى الخبر يعنى المخبر من اللّه على اختلاف القرائتين كما مر.

٤٢

إِذْ قالَ بدل من ابراهيم و ما بينهما اعتراض او متعلق بكان او صديقا نبيا لِأَبِيهِ آزر و قد مر ذكره في سورة الانعام يا أَبَتِ ذكر الابوة للاستعطاف و لذلك كردها لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ المفعول للفعلين منسي غير منوى اى ما لا سمع له و لا بصر و جاز ان يكون تقديره مالا يسمع شيئا و لا يبصره فيعرف حالك و يسمع ذكرك و يرى خضوعك وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) من الإغناء في جلب نفع او دفع ضر فشيئا منصوب على المصدرية او المعنى لا يدفع عنك شيئا من المضار فهو منصوب على المفعولية بيّن ابراهيم عليه السلام أباه ضلالته برفق و شفقة و دعاه الى الهدى و احتج عليه باوضح حجة و برهان قاطع مع رعاية الأدب حيث لم يصح بضلالته بل طلب منه بيان ما يقتضى عبادة الأوثان و أشار الى انهن ادنى رتبة من ان يركن إليهن عاقل فان العاقل لا يفعل فعلا الا لغرض صحيح و العبادة الّتي هى غاية التعظيم لا يستحقه الا من له الاستغناء التام و الانعام انعام القادر على الاثابة و الإيلام فدرة تأته ليستطيع أحد مدافعته و لهو الخالق الرازق المحيي و المميت المقتدر المعاقب المثيب فاما من كان ممكنا مثله محتاجا فى الوجود و توابعه الى غيره و ان كان مميزا سميعا بصيرا مقتدرا على الانعام و الإيلام بل و إن كان اشرف الخلائق كالنبيين و الملئكة فان العقل السليم يستنكف عن عبادته معرضا عن عبادة خالقه و جاعله كذلك فانه استعارة من المستعير و طلب حاجة من المحتاج الفقير فكيف إذا كان جماد الا يسمع و لا يبصر و لا يغنى شيئا ثم دعاه الى ان يتبعه ليهديه الى الحق القويم فقال.

٤٣

يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ باللّه و أحكامه ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي على دينى أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) مستقيما يوصلك الى فلاح الدارين و من كمال كربه و خلقه انه لم يسم إياه بالجهل المقرط و لا نفسه بالعلم الفائق بل جعل نفسه كرفيق له في مسير يكون اعرف بالطريق منه ثم اظهر مضار ما كان عليه أبوه بعد ذكر خلوه عن النفع بان ما هو عليم في الحقيقة عبادة للشيطان لكونه امرا به فقال.

٤٤

يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ اى لا تطعه فيما يزين لك من الكفر و عبادة الأوثان و بين وجه المضرة فيه بان الشيطان مستعص على ربك المولى للنعم كلها بقوله إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) كثير العصيان و معلوم ان المطاوع للعاصى عاص و كل عاص حقيق بان يسترد منه النعم و ينتقم منه و لذلك عقبه بتخويفه و سوء عاقبته و ما يجر اليه فقال.

٤٥

يا أَبَتِ إِنِّي قرأ نافع و ابن كثير و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون باسكانهما أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ اى يصيبك عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ ان أقمت على الكفر و إطاعة الشيطان و في ذكر الرحمن مع ذكر العذاب اشارة الى ان العصيان يقتضى العذاب ممن هو موصوف بالرحمة الكاملة فان كمال الرحمة على المطيعين لا ينافى كمال الغضب على العاصين المتمردين فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قريبا في اللعن في الدنيا و عذاب النار في الآخرة تليه و يليك

قال البيضاوي لعل اقتصاره على عصيان الشيطان من جناياته لارتفاع همته في الربانية و لانه ملاكها او لانه من حيث انه نتيجة معاداته لادم و ذريته.

٤٦

قالَ ابو ابراهيم أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ فتعيبها قابل استعطاف و لطفه في الإرشاد بالغظاظة و غلطة العناد فناداه باسمه و لم يقابل يابت يا بنى و أخره و قدم الخبر على المبتدأ صدّره بالهمزة لانكار نفس الرغبة على ضرب من التعجب كانها مما لا يرغب عنها عاقل ثم هدده بقوله لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عن مقالك فيها او عن الرغبة عنها لَأَرْجُمَنَّكَ قال الكلبي و مقاتل و الضحاك لاشتمنك لابعدنك بالقول القبيح و قال ابن عباس لا ضربنك و قال الحسن لاقتلنك بالحجارة وَ اهْجُرْنِي عطف على ما دل عليه لارجمنك اى فاحذرنى و اهجرني مَلِيًّا (٤٦) قال الكلبي اجتنبى طويلا

و قال مجاهد و عكرمة حينا و قال سعيد بن جبير دهرا و اصل الملي المكث يقال تمليت حينا و الملوان الليل و النهار و قال قتادة و عطاء سالما و قال ابن عباس اعتزلني سالما لا يصيبك منى معرة يقال يلى بامر كذا إذا كان كافيا.

٤٧

قالَ ابراهيم عليه السلام سَلامٌ عَلَيْكَ سلام توديع و متاركة مقابلة للسيئة بالحسنة كما هو داب الحليم في مقابلة السفيه كما قال اللّه تعالى و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما اى سلمت منى لا اصيبك بمكروه سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي قرأ نافع و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها قال اكثر المفسرين معناه أسأل اللّه تعالى لك ان يرزقك التوحيد و الإسلام و يوفقك للتوبة فيغفر لك فان السؤال بالمغفرة للكافر لا يجوز الا استدعاء التوفيق لما يوجب مغفرته و عندى ليس كذلك لما قال اللّه تعالى لقد كان لكم أسوة حسنة في ابراهيم و الذين معه الى قوله تعالى الا قول ابراهيم لابيه لاستغفرن لك فانه صريح في انه لا يجوز اقتداء ابراهيم في الاستغفار للمشرك مع انه يجوز الدعاء للمشرك بالتوفيق فالاولى ان يقال ان ذلك كان قبل النهى عن الاستغفار للمشرك و قد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لعمه ابى طالب و اللّه لاستغفرن لك ما لو انه عنه فنزلت ما كان للنبى و الذين أمنوا ان يستغفروا للمشركين الآية و قد مر في سورة التوبة و ايضا لو كان ابراهيم سأل اللّه تعالى ان يرزق أباه الايمان لرزقه اللّه الايمان فان كل نبى مجاب لكنه لما لم يكن إيمانه مقدرا لم يسأل ابراهيم ذلك و اللّه اعلم إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) اى بليغا في البر و الألطاف قال الكلبي عالما يستجيب لى إذا دعوته قال مجاهد عودنى الاجابة لدعائي.

٤٨

وَ أَعْتَزِلُكُمْ بالمهاجرة بديني عطف على ساستغفر وَ ما تَدْعُونَ عطف على الضمير المنصوب يعنى و اعتزل ما تدعونه اى تعبدونه مِنْ دُونِ اللّه قال مقاتل كان اعتزاله إياهم انه فارقهم من كوثى فهاجر منها الى الأرض المقدسة وَ أَدْعُوا اى اعبد رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) اى لا أشقى و لا أخيب بدعائه و عبادته كما تنشقون أنتم بعبادة الأصنام أورد كلمه عسى تواضعا و هضما للنفس و تنبيها على ان الاجابة و الاثابة تفضل من اللّه غير واجب عليه و ان ملاك الأمر الخاتمة و هى لا تدرى.

٤٩

فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه مهاجرا الى الشام وَهَبْنا لَهُ بدلا ممن فارقهم من الكفرة إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أقر اللّه عينيه باولاد كرام على اللّه لما ظرف متعلق لوهبنا و جملة وهبنا معطوف على محذوف تقديره قال سلام عليك الى آخره فاعتزلهم فوهبنا له اسحق و يعقوب وَ كُلًّا اى كلا واحد منهما.

جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩)

٥٠

وَ وَهَبْنا لَهُمْ اى للثلاثة مِنْ رَحْمَتِنا و كلمة من للتبعيض اى بعض رحمتنا قال الكلبي هو المال و الأولاد الكرام و قيل الكتاب و النبوة

قال البيضاوي لعل تخصيصهما بالذكر لانهما شجرتا الانبيا او لانه أراد ان يذكر اسمعيل بفضله على الانفراد

وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠) المراد باللسان ما يصدر منه يقال لسان العرب اى لغتهم يعنى كلام صدق و هو ما يثنون عليهم اهل الملل كلهم و يفتخرون بهم استجابة لدعوته و اجعل لى لسان صدق في الآخرين و اضافة اللسان الى الصدق و توصيفه بالعلو للدلالة على انهم أحقاء بما يثنون عليهم و ان مجامدهم لا تخفى على تباعد الاعصار و تبدل الملل لهم ظرف مستقر مفعول ثان لجعلنا و عليا حال من الضمير المرفوع المستكن في الظرف.

٥١

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً قرأ الكوفيون بفتح اللام يعنى أخلصه اللّه و اختاره لنفسه و نزهه عن التدنس بالتوجه الى غيره و الباقون بكسر اللام يعنى أسلمه وجهه و أخلص نفسه للّه و نزه عبادته عن الشرك الجلى و الخفي وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا (٥١) يعنى أرسله اللّه الى الخلق فصار رفيعا في الدرجة مخبرا من اللّه باحكامه و لذلك قدم رسولا مع كون الرسالة أخص و أعلى من النبوة.

٥٢

وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ و هو جبل بين مصر و مدين و يقال اسمه الزبير و ذلك حين اقبل من مدين و راى النار فنودى يا موسى انى انا اللّه رب العلمين الْأَيْمَنِ اى جانب الّذي يلى يمين موسى عليه السلام إذ لا يمين للجبل و انما أضيف الى الطور لادنى ملابسة و كان موسى سائرا من مدين الى مصر فلما وصل الى الطور كان الطور على يمين موسى و المراد من جانبه الميمون فانه تمثل له الكلام من تلك الجهة وَ قَرَّبْناهُ بذاته تعالى قربا غير متكيف من لم يذقه لم يدر نَجِيًّا (٥٢) حال من هذا الضميرين في قربناه اى مناجيا ربه بان اسمه كلامه.

٥٣

وَ وَهَبْنا لَهُ اى لموسى حين دعا و قال و اجعل لى وزيرا من أهلي هارون أخي مِنْ رَحْمَتِنا اى من أجل رحمتنا او بعض رحمتنا أَخاهُ مفعول لوهبنا ان كان من للسببيته و بدل منه ان كان للتبعيض هارُونَ عطف بيان لاخاه نَبِيًّا (٥٣) حال من مفعول وهبنا يعنى وهبنا له نبوة أخيه و الا فكان هارون اكبر سنامنه

قال البغوي و لذلك سمى هارون هبة اللّه.

٥٤

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ بن ابراهيم جد النبي صلى اللّه عليه و سلم عليه عليهما إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ قال مجاهد لم يعد شيئا إلا وفى به و قال مقاتل وعد رجلا ان يقيم مكانه حتى يرجع اليه الرجل فاقام اسمعيل مكانه ثلثة ايام للميعاد حتى رجع اليه الرجل و قال الكلبي انتظره حتى حال عليه الحول و ناهيك انه وعد الصير على الذبح حيث قال ستجدنى إنشاء اللّه من الصابرين فوفى به وَ كانَ رَسُولًا الى جرهم نَبِيًّا (٥٤)

قال البيضاوي هذا يدل على ان الرسول لا يلزم ان يكون صاحب الشريعة فان أولاد ابراهيم عليه السلام كانوا على شريعته.

٥٥

وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ اشتغالا بالأهم و هو ان يقبل الرجل على نفسه و من هو اقرب الناس اليه بالتكميل قال اللّه تعالى و انذر عشيرتك الأقربين و امر أهلك بالصلوة قوا أنفسكم و أهليكم نارا و قيل المراد به أمته فان الأنبياء اباء الأمم بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ قال ابن عباس يريد الّتي افترض اللّه عليهم و هى الحنفية الّتي افترضت علينا و خص العبادتين بالذكر لان الصلاة أفضل العبادات البدنية و الزكوة أفضل العبادات المالية

وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) رضى اللّه لنبوته و رسالته و رضى عنه لاجل قيامه على طاعته و استقامة اعماله و أفعاله.

٥٦

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ هو سبط شيث جد ابى نوح عليهم السلام اسمه أخنوخ قيل سمى إدريس لكثرة درسه الكتب و

قال البيضاوي اشتقاقه من الدرس يرده منع الصرف نعم لا يبعد ان يكون معناه في تلك اللغة قريبا من ذلك فلقب به لكثره درسه حيث انزل اللّه تعالى عليه ثلثين صحيحفة

قال البغوي هو أول من خط بالعالم و أول من خاط الثياب و ليس المخيط و كان من قبله يلبسون الجلود و أول من اتخذ السلاح و قاتل الكفار و أول من نظر في علم النجوم و الحساب إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦).

٥٧

وَ رَفَعْناهُ عطف على كان صديقا مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) قيل يعنى درجة رفيعة بشرق النبوة و الزلفى عند اللّه و قيل الجنة و قيل السماء السادسة او الرابعة روى انس بن مالك عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه رأى إدريس ليلة المعراج في السماء الرابعة و قد مر الحديث في سورة بنى إسرائيل و سورة النجم و كان سبب دفع إدريس على ما قاله كعب و غيره انه ساد يوما في حاجة فاصابه وهج الشمس فقال يا رب انا مشيت يوما فاصابنى من حر الشمس ما أصابني فكيف من يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد اللّهم خفف عنه من ثقلها و حرها فلما أصبح الملاف وجد من خفة الشمس و حرها مالا يعرف فقال يا رب ما الّذي قضيت فيه قال ان عبدى إدريس سألنى ان أخفف عنك حملها و حرها فاجبته فقال رب اجعل بينى و بينه خلة فاذن له حتى إذا جاء الى إدريس فكان يسأله إدريس فقال انى أخبرت انك أكرم الملئكة و أمكنهم عند ملك الموت فاشفع لى اليه ليوخر اجلى فازداد شكرا و عبادة فقال الملك لا يؤخر اللّه نفسا إذا جاء أجلها و انا مكلمه فرفعه الى السماء و وضعه عند مطلع الشمس ثم اتى ملك الموت فقال حاجتى إليك قال صديق لى من بنى آدم يشفع بي إليك لتوخر اجله فقال ليس ذلك الى و لكن ان أحببت أعلمته اجله فيقدم لنفسه قال نعم فنظر في ديوانه فقال انك كلمتنى في انسان ما أراه ان يموت ابدا قال و كيف قال لا أجده ان يموت الا عند مطلع الشمس قال فانى أتيتك و تركته هناك قال فانطلق فلا أراك تجده الا و قد مات فو اللّه ما بقي من أجل إدريس شي ء فرجع الملك فوجده ميتا قال وهب و اختلفوا في انه حى في السماء امر ميت فقال قوم هو حى و قالوا اربعة من الأنبياء احياء اثنان في الأرض الخضر و الياس و اثنان في السماء إدريس و عيسى و قال وهب كان يرفع لادريس كل يوم من العبادة مثل ما يرفع لجميع اهل الأرض في زمانه فعجب منه الملئكة و اشتاق اليه ملك الموت فاستاذن ربه في زيارته فاذن له فاتاه في صورة بنى آدم و كان إدريس يصوم الدهر فلما كان وقت إفطاره دعاه الى طعامه فابى ان يأكل معه ففعل ذلك ثلث ليال فانكوه إدريس فقال له الليلة الثالثة انى أريد ان اعلم من أنت قال انا ملك الموت استأذنت ربى انى أصحبك قال فلى إليك حاجة قال ما هى قال تقبض روحى فاوحى اللّه اليه ان اقبض روحه فقبض روحه وردها اللّه تعالى بعد ساعة قال له ملك الموت ما في سوالك قبض الروح قال لا ذوق كرب الموت و عمقه فاكون أشد استعدادا له ثم قال إدريس ان لى إليك حاجة اخرى قال و ما هى قال ترفعنى الى السماء لا نظر إليها و الى الجنة و النار فاذن اللّه له في رفعه فلما قرب من النار قال لى حاجة قال و ما تريد قال تسأل مالكا حتى يفتح لى ابوابها فاوردها ففعل ثم قال فكما أريتني النار فارنى الجنة فذهب إليها فاستفتح ففتح له ابوابها فادخله الجنة ثم قال ملك الموت اخرج لتعود الى مقرك فتعلق بشجرة و قال لا اخرج منها فبعث اللّه ملكا حكما بينهما فقال له الملك مالك لا تخرج قال لان اللّه تعالى قال كل نفس ذائقة الموت فقد ذقتة و قال و ان منكم الا واردها و قد وردتها و قال و ما هم بخارجين منها فلست اخرج فاوحى اللّه تعالى الى ملك الموت بأذني دخل الجنة و بامرى يخرج فهو حى هناك فذلك قوله تعالى وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا

٥٨

أُولئِكَ اى المذكورين في السورة من ذكريا الى إدريس الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمْ بانواع النعم الدنيوية و الدينية مِنَ النَّبِيِّينَ بيان للموصول حال من الضمير في عليهم مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ و هو إدريس عليه السلام و غيره أجمعون بدل من من النّبيين باعادة الجار او صفة او حال من النبيين و يجوز ان يكون من فيه للتبعيض لان المنعم عليهم أعم من الأنبياء و أخص من الذرية وَ مِمَّنْ اى من ذرية من حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ فى السفينة خصوصا و هم ماعدا إدريس فان ابراهيم كان من ذرية سام بن نوح عليهما السلام وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ و هم اسمعيل و اسحق و غيرهم وَ إِسْرائِيلَ عطف على ابراهيم يعنى و من ذرية اسراءيل و منهم موسى و هارون و زكريا و يحيى و عيسى فيه دليل على ان أولاد البنات من الذرية وَ مِمَّنْ هَدَيْنا اى من جملة من هديناه الى الحق يحتمل العطف على من الاولى البيانية و على من الثانية على تقدير كونها للتبعيض فان كان معطوفا على الاولى فهو يشتمل مريم و اهل اسمعيل الذين ذكروا في قوله تعالى كان يأمر اهله بالصلوة وَ اجْتَبَيْنا اى اجتبيناه من الأنام للنبوة و الكرامة و الهداية إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً جمع ساجد يعنى ساجدين رغبة فيها وَ بُكِيًّا (٥٨) قرا حمزة و الكسائي بكسر الباء و الجمهور بالضم و معهم حفص هاهنا جمع باك يعنى باكين رهبة الظرف متعلق بخروا و جملة خروا خبر لاولئك ان جعلت الموصول صفته و استيناف ان جعلته خبره لبيان خشيتهم من اللّه تعالى مع مالهم من علو الرتبة في شرف النسب و كمال النفس و الزلفى من اللّه عزّ و جلّ روى ابن ماجة و اسحق بن راهويه و البزار في مسنديهما من حديث ابن ابى وقاص قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اتلو القران و ابكوا فان لم تبكوا فتباكوا.

٥٩

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعنى فعقبهم و جاء بعدهم خَلْفٌ يعنى عقب سوء يقال خلف صدق بفتح اللام و خلف سوء بسكونها أَضاعُوا اى تركوا الصَّلاةَ المفروضة و قال ابن مسعود و ابراهيم أخروها عن وقتها و قال سعيد ابن المسيب هو ان لا يصلى الظهر حتى يأتي العصر و لا العصر حتى تغرب الشمس قلت و من اضاعة الصلاة ان يأتوها على وجه مكروه او يتركوا سننها و آدابها و نحو ذلك وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ يعنى اثروا شهوات النفس على طاعة اللّه تعالى و أتوا بالمعاصي فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) اى يقذفون فيه و الغى على ما

قال البغوي قول «١» وهب) فهو في جهنم بعيد تعره خبيث طبعه- و قال قال ابن عباس هو واد في جهنم و ان اودية جهنم لتستعيذ من حرها أعد للزانى المصر عليه و لشارب الخمر المدمن عليها و لآكل الربا الّذي لا ينزع عنه و لاهل المعقوق و لشاهد الزور «٢»- و كذا اخرج ابن مردوية من حديث ابن عباس مرفوعا و

قال البغوي قال عطاء واد في جهنم يسيل قيحا و دما و قال قال كعب هو واد في جهنم أبعدها قعرا و أشدها حرّا فيبئر يسمى الهيم كلما خبت جهنم فتح اللّه تلك البئر فيسعر بها في جهنم- و روى البغوي عن زكريا بن ابى مريم الخزاعي قال سمعت أبا امامة الباهلي يقول ان ما بين شفير جهنم الى قعرها مسيرة سبعين خريفا من سجر يهوى او قال صخرة تهوى عظمها كعشر عشراوات عظام سمان- فقال له مولى لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد هل تحت ذلك شي ء يا أبا امامة قال نعم غىّ و اثام-

و اخرج بن جرير و ابن ابى حاتم و سعيد بن منصور و جناد؟؟؟ و الفرياني و الحاكم و صححه و البيهقي من طرق عن ابن مسعود في هذه الاية انه قال الغى واد في جهنم و في لفظ نهر في جهنم بعيد القعر خبيث الطعم و في لفظ نهر حميم في النار يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات

و اخرج البيهقي في الاية عن البراء بن عازب قال الغى واد في جهنم بعيد القعر مئتن الريح-

و اخرج الطبراني و البيهقي عنه مرقوما قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو ان صخرة زنة عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها سبعين خريفا ثم تنتهى الى غىّ و اثام قلت ما غىّ و اثام قال نهران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد اهل النار- و هم الذان ذكرهما اللّه تعالى في كتابه فسوف يلقون غيّا- من يفعل ذلك يلق أثاما- و قيل الغىّ هو الضلال ضد الهداية فالمعنى يلقون غيّا- عن طريق الجنة- و قيل كل شر عند العرب غىّ و كل خير رشاد و من هاهنا قال الضحاك معناه يلقون خسرانا و قيل هلاكا و قيل عذابا فان كل ذلك تفسير لشر- و قيل حذف المضاف و أقيم المضاف اليه مقامه يعنى سوف يلقون جزاء غى و ضلال كان عليه في الدنيا من العقائد و الأعمال الفاسدة-.

(١) و في تفسير البغوي قال ابن وهب إلخ الفقير الدهلوي.

(٢) و فيه و لامراة أدخلته لا زوجها ولدا ١٢ الفقير الدهلوي.

٦٠

إِلَّا مَنْ تابَ عما ارتكبه من اتباع الشهوات و ترك الصلاة وَ آمَنَ بعد ما كان كافرا وَ عَمِلَ صالِحاً على ما يقتضيه الايمان-

قال البيضاوي هذه الاية تدل على ان الاية في الكفرة يعنى الوعيد المذكور مختص بالكفرة يعنى يدل الاية لاجل هذه الاستثناء قلت و المستثنى من أمن و عمل صالحا لا من أمن و لم يعمل صالحا فالفاسق ايضا داخل في الوعيد المذكور كما يدل عليه ما مرّ من حديث ابن عباس في الغى انه الزاني و الشارب و غير ذلك اى المصرّين على الكبائر و اللّه اعلم-

فَأُولئِكَ اشارة الى من تاب و أمن و عمل صالحا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قرا ابن كثير و ابى عمرو و يعقوب و أبو بكر على البناء للمفعول من ادخل- و الباقون على البناء للفاعل من دخل وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) منصوب على المفعولية اى لا ينقصون شيئا من جزاء أعمالهم او على المصدرية اى لا يظلمون شيئا من الظلم و التنقيص- و فيه تنبيه على ان كفرهم السابق لا يضر قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الإسلام يهدم ما كان قبله- رواه مسلم في حديث عمرو ابن العاص و جملة أولئك في مقام التعليل على مضمرن الاستثناء.

٦١

جَنَّاتِ عَدْنٍ بدل من الجنة بدل البعض لاشتمالها عليها او منصوب على المدح او مفعول لفعل محذوف و هو اعنى- و عدن ان كان بمعنى الاقامة فما أضيف اليه نكرة و قيل هو علم لجنة معينة و الاضافة اضافة الى الاسم و قيل هى علم لارض الجنة فعلى هذين التقديرين جنّت عدن معرفة و صفت بقوله تعالى الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ و على تقدير كونه نكرة الموصول صفة للجنة او بدل من جنات عدن و الضمير العائد في الصلة محذوف تقديره الّتي وعد الرّحمن بها عباده بِالْغَيْبِ حال من عباده اى مللبسين بالغيبة عن الجنة اى غائبين عنها- او حال من الجنة اى متلبسّة بالغيبة اى غائبة عنهم او متعلق بوعد بحذف المضاف يعنى وعد الرّحمن بسبب تصديق الغيب و الايمان إِنَّهُ تعالى كانَ وَعْدُهُ اى ما وعد به و هو الجنة مَأْتِيًّا (٦١) يأتيها أهلها لا محالة- و قيل هو مفعول بمعنى فاعل يعنى أتيا لان كل ما أتاك فقد أتيته- و الحرب لا يفرق بين قول القائل اتى على خمسون سنة و قوله أتيت على خمسين سنة و وصل الىّ الخبر؟؟؟ لتالى الخبر.

٦٢

لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً اى فضولا من الكلام- جملة مستاففة او حال مقدرة من عباده او من الجنة او من الضمير المحذوف في الصلة العائد الى الموصوف بالموصول إِلَّا سَلاماً استثناء منقطع اى لكن يسمعون تسليما من اللّه تعالى و من الملئكة او من بعضهم على بعض- او المعنى لكن يسمعون قولا يسلمون فيه من العيب و النقيصة وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا (٦٢) قيل المراد به رفاهية العيش و سعة الرزق- قال الحسن البصري كانت العرب لا يعرف من العيش أفضل من الرزق بالبكرة و العشى فوصف اللّه جنته بذلك-

و اخرج سعيد بن منصور و ابن ابى حاتم عن ابن عباس في هذه الآية انه قال يؤتون به فى الاخرة على مقدار ما كانوا يؤتون به في الدنيا-

و اخرج ابن المبارك عن الضحاك في هذه الاية قال على مقادير الليل و النهار-

و اخرج ابن المنذر عن الوليد بن مسلم قال سألت زهير بن محمد عن قوله تعالى وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا قال ليس في الجنة ليل هم في نور ابدا يعرف لهم مقدار النهار يرفع الحجب و مقدار الليل بإرخاء الحجب-

و اخرج الحكيم الترمذي في النوادر عن الحسن و ابى قلابة رضى اللّه عنهما قالا قال رجل يا رسول اللّه هل في الجنة من ليل فان اللّه يقول في كتابه لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا قال ليس هناك ليل انما هو ضوء نور يرد الغدوّ على الرواح و الرواح على الغدو- و يأتيهم ظرف الهدايا من اللّه لمواقيت الصلاة الّتي كانوا يصلون فيها و تسلّم عليهم الملائكة.

٦٣

تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ اى نورثها مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣) اى نبقيها عليهم من ثمرة تقواهم كما يبقى على الوارث مال مورثه- ذكر لفظ الوراثة لكونها أقوى الأسباب في التمليك و الاستحقاق من حيث انها لا تعقب بفسح و لا استرجاع و لا يبطل برد و إسقاط- و قيل يورث المتقون من الجنة المساكن الّتي كانت لاهل النار لو أطاعوه زيادة في كرامتهم و اللّه اعلم- اخرج ابن ماجة و البيهقي بسند صحيح عن ابى هريرة رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما منكم من أحد إلا له منزلان منزل في الجنة و منزل في النار فاذا مات فدخل النار ورث اهل الجنة منزلة فذلك قوله تعالى أولئك هم الوارثون-

و اخرج ابن ماجة عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من فرّ من ميراث وارثه قطع اللّه ميراثه من الجنة- و اللّه تعالى اعلم- اخرج البخاري عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لجبرئيل ما يمنعك و ان تزورنا فنزلت.

٦٤

وَ ما نَتَنَزَّلُ تقديره قل يا جبرئيل لمحمّد صلى اللّه عليه و سلم و ما نتنزّل و للمتنزل هو النزول على مهلة لانه مطاوع نزّل من التنزيل- و قد يطلق بمعنى النزول مطلقا كما يطلق نزّل بمعنى انزل إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ منصوب المحل على الظرفية او المصدرية تقديره ما نتنزّل الا وقتا متلبسا بامر ربّك على ما يقتضيه حكمته- او تنزلا الّا تنزّلا متلبسا بامره-

و اخرج ابن ابى حاتم عن عكرمة قال ابطأ جبرئيل في النزول أربعين يوما فذكر لنحوه

و اخرج ابن مردوية عن انس قال سئل النبي صلى اللّه عليه و سلم اى البقاع أحب الى اللّه و ايها ابغض الى اللّه قال ما أدرى حتى اسئل- فنزل جبرئيل و كان قد ابطأ عليه فقال لقد أبطأت على حتى ظننت ان ترى على وحده فقال و ما نتنزّل الّا بامر ربّك-

و اخرج ابو نعيم فى الدلائل و ابن إسحاق عن ابن عباس ان قريشا لمّا سألوا عن اصحاب الكهف و ذى القرنين و الروح- و لم يدر ما يجيب و رجا ان يوحى اليه- فمكث خمس عشرة ليلة لا يحدث اللّه له في ذلك وحيا .. فلما نزل جبرئيل قال له ابطأت فذكره- و ذكر البغوي قول الضحاك و عكرمة و مقاتل و كلبى انه احتبس جبرئيل عن النبي صلى اللّه عليه و سلم حين سأله قومه عن اصحاب الكهف و ذى القرنين و الروح- فقال أخبركم غدا و لم يقل إنشاء اللّه حتى شق على النبي صلى اللّه عليه و سلم ثم نزل جبرئيل بعد ايام فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ابطأت علّى حتى ساء ظنى و اشتقت إليك- فقال له جبرئيل انى كنت أشوق و لكنى عبد مأمور إذا بعثت نزلت و إذا أحبست احتبست- فانزل اللّه هذه الاية و انزل و الضّحى و اللّيل إذا سجى ما ودّعك ربّك و ما قلى لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا جملة في محل النصب على العلية للمكث في النزول او على الحال و معنى له ما بين أيدينا بعد هذا الوقت الى قيام الساعة و الى مالا نهاية له من امر الدنيا و الاخرة و الثواب و العقاب وَ ما خَلْفَنا اى قبل هذا الوقت فيما مضى من الأشياء و الأحوال وَ ما بَيْنَ ذلِكَ اى الوقت الموجود و ما فيه و قيل ما بين أيدينا اى الأرض إذا أردنا النزول- و ما خلفنا اى السماء إذا نزلنا و ما بين ذلك اى الهواء- يعنى لا نتنزّل في زمان دون زمان الا بامر اللّه اولا ننتقل من مكان الى مكان الا بامر اللّه وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٣) اى تاركا لك اى ما كان عدم النزول لترك اللّه لك و توديعه إياك كما زعمت الكفرة بل كان لعدم الأمر به لحكمة راها فيه-.

٦٥

رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما بيان لامتناع النسيان عليه و هو خبر مبتدأ محذوف اى هو او بدل من ربك فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ خطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مرتب على ما سبق يعنى لمّا عرفت رحمت ربّك عليك و فضله و انه لا ينبغى له ان ينساك- فاقبل على عبادته شكرا لهذه النعمة و اصطبر عليها و لا فتشوش بإبطاء الوحى و استهزاء الكفار- عدى الاصطبار باللام و كان حق الكلام على عبادته للاشعار بما في العبارة من الالتذاذ- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم جعلت قرة عينى في الصلاة- او المعنى اصطبر على المشاق و الشدائد و إيذاء الكفار لاجل عبادته تعالى اى لتتمكن من عبادته و لتكون عابدا للّه تعالى هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥) قال ابن عباس يعنى مثلا يستحق ان يعبدوا يسمى انها- و قال الكلبي هل تعلم أحدا يسمى باللّه غيره فان المشركين و ان سموا الأصنام آلهة لم يسموا أحدا منها باللّه قط- و ذلك لظهور احديّته و تعالى ذاته عن المماثلة بحيث لم يقبل اللبس و المكابرة- و هو تقرير للامر بالعبادة فانه إذا ثبت ان لا أحد مثله و لا يستحق العبادة غيره لم يكن بد من التسليم لامره و الاشتغال بعبادته و الاصطبار على مشاقها.

٦٦

وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ المراد به الجنس فان قول بعضهم يسند الى الجنس او بعضهم المعهود

قال البغوي المراد به ابى ابن خلف الجمحي كان منكرا للبعث روى انه أخذ عظما باليا ففتتها و قال يزعم محمد انا نبعث. بعد ما نموت- فحكى اللّه تعالى قوله حيث قال أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ من الأرض او من حالة الموت حَيًّا (٦٦) تقديم الظرف و ايلاؤه حرف الإنكار لكون المنكر كون ما بعد الموت الحيوة- و الظرف متعلق بفعل- دل عليه اخرج لابه لان ما بعد اللام لا يعمل فيما قبله- و اللام هاهنا لمجرد التأكيد من غير ارادة معنى الحال- قرا ابن ذكوان بهمزة واحدة مكسورة على صورة الخبر يحذف همزة الاستفهام في اللفظ و المراد معنى الإنكار و الباقون بهمزتين.

٦٧

أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ قرأ نافع و عاصم و ابن عامر بإسكان الذال و ضم الكاف مخففك على وزن ينصر و الباقون بفتح الكاف و الذال مشددا أصله بتذكّر أدغمت التاء في الذال و معناه يتفكر عطف على يقول أورد همزة الاستفهام بين المعطوف و المعطوف عليه لانكار الجمع بينهما و كان الأصل إدخالها على المعطوف عليه لكن أريد الدلالة على ان المنكر بالذات هو المعطوف و انكار المعطوف عليه انما نشأ منه أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) أصلا مع ان إيجاز المعدوم الصرف اعجب من جمع المواد بعد التفريق و إيجاد مثل ما كان فيها من الاعراض.

٦٨

فَوَ رَبِّكَ اقسم بنفسه مضافا الى نبيه تفخيما لشان النبي صلى اللّه عليه و سلم و الفاء للسببية فان انكارهم البعث سبب لحشرهم مع الشياطين الى جهنم لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ الشَّياطِينَ مفعول معه و جاز كونه معطوفا

قال البغوي يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) حال من الضمير المنصوب قال ابن عباس يعنى جماعات جمع جثوة- و قال الحسن و الضحاك جمع جاث اى جاتين على الركب- و قال السدىّ قائمين على الركب بضيق المقام قلت يحضر اللّه حول جهنم جميع الناس السعداء و الأشقياء ليزداد السعداء غبطة و سرورا حين يرون ما نجاهم اللّه منه و يزداد الأشقياء و حسرة و غيظا من رجوع السعداء عنهم الى دار الثواب اخرج عبد اللّه بن احمد في زوائد الزهد و البيهقي عن عبد اللّه ابن نابتة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كانى أراكم بالكرم دون جهنّم جاثين- ثم قرا سفيان راوى الحديث وتر اى كلّ امّة جاثية الاية- قال ابن حجر المراد بالكرم المكان العالي الّذي يكون عليه امة محمد صلى اللّه عليه و سلم و كلمة ثم تدل على تراخى حضورهم حول جهنم من الحشر و ذلك لاحتباسهم دهرا طويلا في الموقف قبل ان يفصل بينهم.

٦٩

ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ اى من كل امة و اهل دين و أصله من شاع يشيع شيعا و شيوعا و مشاعا و شيوعة كديمومة و شيعانا محركة ذاع و فشا و شيعة الرجل بالكسر اتباعه و الضارة و الفرقة علحدة- و يقع على الواحد و الاثنين و الجمع و المذكر و المؤنث كذا في القاموس قلت و انما يطلق الشيعة على اتباع الرجل و أنصاره لان الشيوع و الانتشار يستلزم التقوية و الاتباع و الأنصار ينتشرون و يتقوى بهم امر المتبوع قال الجوهري الشياع الانتشار و التقوية يقال شاع الحديث اى كثر و قوى و شاع القوم انتشروا و كثروا و شيعت النار بالحطب قوت بها و الشيعة من يتقوى بهم الإنسان و ينتشرون عنه- و لما كان كل امة اهل دين ينتشرون بدينهم و يتقوى بهم أمرهم اطلق هاهنا عليه أَيُّهُمْ أَشَدُّ اى هو أشد عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) اى استكبارا او تجاوزا عن الحد في العصيان كذا في القاموس- او نبوا عن الطاعة

قال البغوي قال ابن عباس يعنى جرأة

و قال مجاهد فجورا- و كلمة عنيّا تميز من نسبة أشد يعنى أبهم أشد عتوة على الرّحمن و كلمة اىّ هاهنا في محل النصب على المفعولية لننزعنّ عند سيبويه-

قال البيضاوي كان حقه ان يبنى كسائر الموصولات لشبهها بالحروف كسائر الموصولات لكنه أعرب حملا على كل و بعض الملزوم الاضافة و إذا حذف صدر صلته زاد نقصه فعاد الى أصله- و عند الخليل مرفوع اما بالابتداء على انه استفهامى و خبره أشد و الجملة محكية و تقديره لننزعنّ من كلّ شيعة الذين يقال فيهم ايّهم أشدّ- او معلق عنها لننزعنّ لتضمّنه معنى التميز اللازم للعلم او مستانفة و كلمة من للتبعيض اى لننزعنّ بعض كل شيعة او زائدة و الفعل واقع على كل شيعة و اما لشيعة لانها بمعنى يشيع و على للبيان-.

٧٠

ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) اى لنحن اعلم بالّذين هم اولى بالصلي اوصليهم بالنار اولى- و كلمة ثم هاهنا للتراخى في الرتبة كما في قوله تعالى ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا- او يقال هذا الكلام كناية عن قولهم ثم لنعذبنهم فلا إشكال إذا التعذيب متاخر من الإحضار قيل اعلم هاهنا بمعنى العليم لاختصاص هذا العلم به تعالى و جاز ان يقال ان الكرام الكاتبين و غيرهم من الملائكة ايضا يعلمون الفاجر من التقى و السعيد من الشقي و اللّه تعالى اعلم بذلك- قرا حمزة و الكسائي و حفص جتيّا و عتيّا و صليّا بكسر اوائلها كما ذكرنا في قوله تعالى وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا- و الجمهور بضمها و هى على وزن فعول كما ذكرنا و قوله من كلّ شيعة ان كان يعمم الكفار و العصاة من المؤمنين ففى ذكر أشد تنبيه على انه تعالى يعفو كثيرا من اهل العصيان- و لو خص ذلك بالكفار على ما يقتضيه السياق كما اختاره البغوي و اكثر المفسرين فالمراد انه يميّز طوائفهم أعتاهم فاعتاهم و يطرحهم في النار على الترتيب- او يدخل كلّا طبقتها الّتي أعدت لهم اخرج ابن ابى حاتم و البيهقي عن ابن مسعود رضى اللّه عنه في الاية قال يحشر الاول على الاخر حتى إذا تكاملت العدة اثارهم ثم يبدا بالاكابر فالاكابر جرما ثم قرا فو ربّك لنحشرنّهم الى قوله عتيّا-

و اخرج هناد عن ابى الأحوص في الاية قال يبدء الأكابر فالاكابر جرما-.

٧١

وَ إِنْ مِنْكُمْ ان نافية و منكم صفة لمحذوف اى ان أحد منكم إِلَّا وارِدُها اى جهنم قيل القسم مضمر اى و اللّه ما منكم الّا واردها بدليل ما ورد في الأحاديث الا تحلة القسم و سنذكرها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً الحتم مصدر حتم الأمر إذا وجب يعنى واجبا أوجبه اللّه على نفسه مَقْضِيًّا (٧١) قضاه اللّه عليكم بان وعده وعدا لا يمكن خلفه ............

٧٢

ثُمَّ نُنَجِّي عطف على مضمون ما سبق تقديره نوردكم جميعا في جهنم ثمّ ننجّى- قرا الكسائي بالتخفيف من الافعال و الباقون بالتشديد من التفعيل الَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك فيساقون الى الجنة بلا تعذيب او بعد التعذيب وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ اى الكافرين فِيها اى في النار جِثِيًّا (٧٢) جميعا و قيل جاثين على الركب و المراد بالورود الدخول و إن كان بطريق المرور على الصراط الّذي هو على متن جهنم- و قال قوم من اهل الأهواء ليس المراد بالورود الدخول فانه من يدخلها لا ليخرج منها ابدا و قالوا النار لا يدخلها مؤمن ابدا لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها- بل المراد به الحضور و الروية فانهم يحضرون جميعا موضع الحساب و هو بقرب جهنم- ثم ينجى اللّه المتقين يأمرهم الى الجنة و يذر الظالمين فيها جثيا يأمرهم الى النار- نظيره قوله تعالى و لمّا ورد ماء مدين و قد كان موسى اشرف عليه و لم يدخله و يؤيده ما رواه احمد و ابو يعلى و الطبراني بسند لا بأس به عن معاذ بن انس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه قال من حرس وراء المسلمين في سبيل اللّه متطوعا لا بأخذ السلطان لم ير النار بعينه الا تحلة القسم و ان اللّه تعالى يقول وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها-

قلنا اطلاق الورود على الاشراف و الحضور و الروية تجوز لا يجوز ارتكابه الا لضرورة و لا ضرورة هاهنا و يأبى عن هذا التأويل قوله تعالى ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا لان الانجاء و الترك فيها لا يتصور الا بعد الدخول و لا دليل في الحديث على عدم الدخول فانه يثبت الروية تحلة القسم و لا ينفى الدخول و معنى قوله تعالى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ بعد ورودهم لا يسمعون حسيسها إذ ابعدوا- و قيل لا يسمعون حسيسها عند ورودهم النار لان اللّه تعالى يجعلها عليهم بردا و سلما- اخرج هناد و الطبراني و البيهقي عن خالد بن معدان قال إذا ادخل اهل الجنة الجنة قالوا ربنا الم تعدنا انا نرد النار- قال بلى و لكنّكم مررتم عليها و هى خامدة

و اخرج ابن عدى و الطبراني عن يعلى بن امية عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال تقول النار للمؤمن يوم القيمة جزيا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبى و لنا على كون الورود بمعنى الدخول و لو على سبيل المرور ما اخرج احمد و الحاكم و صححه و البيهقي عن ابى سميّه قال اختلفنا في الورود فقال بعضنا لا يدخلها مؤمن- و قال بعضنا يدخلونها جميعا ثمّ ننجى الّذين اتّقوا فلقيت جابر بن عبد اللّه فذكرت له فقال و أهوى بإصبعيه الى اذنيه صمننا ان لم أكن سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول لا يبقى بر و لا فاجر الا دخلها- فيكون على المؤمن بردا و سلما كما كانت على ابراهيم- حتى ان للنار ضجيجا من بردهم ثمّ ننجّى الّذين اتّقوا و نذر الظّالمين فيها جثيّا- و ذكر البغوي انه روى ابن عيينة عن عمرو بن دينار ان نافع بن الأزرق «١» مارى عن ابن عباس رضى اللّه عنه في معنى الورود- فقال ابن عباس هو الدخول و قال نافع ليس الورود الدخول فتلا ابن عباس انّكم و ما تعبدون من دون اللّه حصب جهنّم أنتم لها واردون- أدخلها هؤلاء أم لاثم قال يا نافع اما أنت و انا سنروها و انا أرجو ان يخرجنى اللّه و ما ارى اللّه ليخرجك بتكذيبك-

و اخرج سعيد بن منصور و عبد الرزاق و ابن جرير و ابن ابى حاتم و البيهقي عن مجاهد قال خاصم نافع بن الأزرق فذكر نحو ذلك و قال قراح ابن عباس انّكم و ما تعبدون من دون اللّه حصب جهنّم و أنتم

(١) هكذا في تفسير البغوي و امّا في اصل المفسر رح فهكذا نافع الأزرق خاصم و هو تصحيف ١٢ الفقير الدهلوي.

لها واردون قال وردوا أم لا

و قرا يقدم قومه يوم القيمة فاوردهم النّار أوردها أم لا- اما انا و أنت فسندخلها فانظر هل تخرج منها أم لا

و اخرج من طريق العوفى عن ابن عباس في قوله تعالى ان منكم الّا واردها يعنى البر و الفاجر الم تسمع قوله تعالى فاوردهم النّار و بئس الورد المورود و قوله تعالى و نسوق المجرمين الى جهنّم وردا-

و اخرج الحاكم عن ابن مسعود انه سئل عن قوله تعالى و ان منكم الّا واردها قال و ان منكم الّا داخلها

و اخرج البيهقي عن عكرمة عن ابن عباس في الاية قال لا يبقى أحد الا دخلها فهذه الآيات مفسرة للورود بالدخول-

و اخرج احمد و الترمذي و الحاكم و صححه و البيهقي عن ابن مسعود في قوله تعالى وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يرد الناس كلهم النار ثم يصدرون عنها بأعمالهم فاوّلهم كلمح البرق ثم كالريح ثم كحفر؟؟؟ الفرس ثم كالراكب في رحله ثم كشد الرجل ثم كمشيه

و اخرج ابن ابى حاتم عن ابن مسعود قال يرد الناس جميعا ورودهم قيامهم حول النار ثم يصدون عن الصراط بأعمالهم فمنهم مثل البرق و منهم من يمرّ مثل الريح و منهم من يمر مثل الطير و منهم من يمر كاجز و الخيل و منهم من يمرّ كاجود الا؟؟؟ ل و من يمرّ كعدو الرجل حتى ان آخرهم سيرا نوره على موضع إبهام قدميه يمر يتكفاء به الصراط و أخرجها الشيخان عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار الا تحلة القسم- ثم قرا سفيان و ان منكم الّا واردها-

و اخرج الطبراني عن عبد بن بشير الأنصاري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من قات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم يرد الا عابر سبيل يعنى الجواز على الصراط-

و اخرج ابن جرير عن غنيم بن قيس قال ذكروا ورود النار فقال كعب تمسك النّار الناس كانها بين اهالة حتى يستوى عليها أقدام الخلائق برهم و فاجرهم- ثم ينادى مناد ان أمسكي أصحابك و دعي أصحابي- قال فيخسف بكل ولى لها هى اعلم بهم من الرجل بولده يخرج المؤمنون ندية ثيابهم قال السيوطي فسر بعض علماء اهل السنة الورود بالدخول و هو أحد القولين في الاية و رجّهه القرطبي و استشهد بحديث جابر و نحوه و منه بعضهم بالمرور على الصراط و رحجه النووي و استشهد بما روى عن ابن مسعود و فيه ذكر المرور على الصراط و حديث ابى هريرة و نحوهما قلت إذا كان الصراط على متن جهنم فالمرور يستلزم الدخول و لا يقضى الدخول الوقوع في النار البتة و لذلك قلت فالمراد بالورود الدخول و ان كان على طريق المرور على الصراط جميعا بين الأحاديث

فان قيل قول الحسن الورود الممر عليها من غير ان يدخلها (كذا اخرج البيهقي عنه) على ان المروي غير الدخول-

قلت المراد بالدخول في قول الحسن الوقوع و الاستقرار في النار لا مطلق الدخول هكذا فيما اخرج هناد عن حفصة انها قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انى لارجو ان لا يدخلها أحد شهد بدر او الحديبية- قالت يا رسول اللّه أ ليس اللّه يقول و ان منكم الّا واردها كان على ربّك حتما مقضيّا- قال الم تسمعية قال ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا- المراد فيه بعدم الدخول عدم الوقوع و الاستقرار بدليل قوله الم تسمعيه قال ثمّ ننجّى- فان هذا الجواب صريح في ان المراد بعدم الدخول عدم الاستقرار الّذي مفاد الانجاء و قال السيوطي قد اشفق كثير من السلف من تحقيق الورود و احتمال الصدور- اخرج هناد و احمد في الزهد و سعيد بن منصور و الحاكم و البيهقي عن حازم بن ابى حازم رضى اللّه عنه قال بكى عبد اللّه بن رواحة رضى اللّه عنه فقالت امرأته ما يبكيك قال انى انبئت انى وارد النار و لم انباء انى صادر

و اخرج هناد و البيهقي عن ابى إسحاق قال قام ابو ميسرة عمرو بن شرحبيل الى فراشة فقال ليت أمي لم تلد في فقالت امرأته لم فقال لان اللّه أخبرنا انا واردو النار و لم يبين انا صادرون عنها

و اخرج احمد في الزهد عن الحسن قال قال رجل لاخيه هل أتاك انّك وارد النار قال نعم فقال فهل أتاك انك صادر عنها قال لا- قال ففيم الضحك إذا فمارئى ضاحكا حتّى مات-.

٧٣

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ اى على الكفار معطوف على قوله فخلف من بعدهم او على قوله و يقول الإنسان آياتُنا بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على معانيها اما بنفسها او ببيان من الرسول صلى اللّه عليه و سلم او واضحات الدلالة على صدق الرسول باعجازها قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى النضر بن حارث و أمثاله من القريش لِلَّذِينَ آمَنُوا يعنى الفقراء اصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم و كانت فيهم قشافة و في عيشهم خشونة و في ثيابهم رثاثة- و المشركون كانوا يرجّلون شعورهم و يدهنون رؤسهم و يلبسون خير ثيابهم- فقالوا للمؤمنين أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ من المؤمنين و و الكافرين خَيْرٌ مَقاماً قرأ ابن كثير بضم الميم على انه ظرف او مصدر من الافعال يعنى خير اقامة او خير موضع للاقامة و الباقون بفتح الميم على انه ظرف من القيام اى خير موضعا للقيام وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) اى مجلسا و مجتمعا يعنى انهم لما سمعوا الآيات البينات و عجزوا عن معارضتها أخذوا في الافتخار بمالهم من حظوظ الدنيا و استدلوا بها على فضلهم و حسن حالهم عند اللّه- فرد اللّه عليهم ذلك مع التهدين على سبيل النقض فقال.

٧٤

وَ كَمْ خبرية منصوب بما بعده أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ تميز لكم سمى اهل كل عصر قرنا لاقترانهم في الزمان هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً

قال البغوي متاعا و أموالا و قال مقاتل ثيابا و لباسا و في القاموس الأثاث متاع البيت بلا واحد و المال اجمع و الواحدة اثاثة و هو مع ما عطف عليه تميز عن نسبة احسن الى الضمير المراجع الى القرن يعنى اثاثهم احسن وَ رِءْياً (٧٤) قرا قالون و ابن ذكوان بتشديد الباء من غير همز على قلب الهمزة ياء و ادغامها او على انه من الرىّ الّذى هو ضد العطش و معناه الارتواء من النعمة

و قرا الجمهور بالهمزة و معناه منظرا من الرؤية و وقف حمزة بابدال الهمز فوافق قالون جملة هم احسن صفة لقرن.

٧٥

قُلْ يا محمد مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا امر بمعنى الخبر اى يمده و يدعه في طغيانه و بمهله استدراجا و في إيراد لفظ الأمر إيذان بان امهاله مما ينبغى ان يفعله الرحمن حتى ينقطع معاذيره- قال اللّه تعالى أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ اما مع ما عطف عليه بدل من ما يوعدون تفصيل لما أجمل و المراد بالعذاب الاسر و القتل في الدنيا و إِمَّا السَّاعَةَ و ما ينالهم فيه من الخرق العذاب في الاخرة غاية للمدّ؟؟؟ او لقول الّذين كفروا للّذين أمنوا اىّ الفريقين خير فَسَيَعْلَمُونَ عند ذلك مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) اى أعواناهم أم المؤمنون فان جندهم الشياطين و جند المؤمنين الملائكة- و جملة فسيعلمون جواب الشرط و هذا ود على قولهم اىّ الفريقين خير مّقاما و احسن نديّا- قابل شرّ مّكانا بخير مّقاما و أضعف جندا- بأحسن نديّا- لان حسن النادي باجتماع وجوه القوم و أعيانهم و ظهور شوكتهم استظهارهم.

٧٦

وَ يَزِيدُ اللّه الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً اى ايمانا و إيصالا الى مقاصدهم و هو مراتب القرب من اللّه- عطف على مضمون الشرطية الواقعة بعد قل يعنى من كان في الضلالة يمده الرحمان و الذين اهتدوا زادهم هدى بالايمان بما ينزل عليهم من الآيات- يعنى امهال الكافرين و تمتيعهم في الدنيا ليس لفضلهم عند اللّه- و قصور حظ المؤمنين من الدنيا ليس لنقصهم بل لان اللّه تعالى جعل قلة حظهم من الدنيا سببا لمزيد ثوابهم و رفع درجاتهم عند اللّه و إيصالهم الى مقاصدهم من مراتب القرب- و قيل هو عطف على فليمدد لانه في معنى الخبر كانه قيل من كان في الضلالة بزيد اللّه في ضلالته و من يعانده يزيد في هدايته وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ اى الاذكار و الأعمال الصالحة الّتي تبقى عائدتها لصاحبها ابد الآبدين خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً عائدة مما متع به الكفار في الدنيا من النعم الفانية الّتي يفتخرون بها وَ خَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦) اى عاقبة و مرجعا و الخير هاهنا اما لمجرد الزيادة او على طريقة قولهم الصيف احرّ من الشتاء اى ابلغ في حره منه في برده و اللّه اعلم- اخرج الشيخان عن خباب بن الأرت قال كنت رجلا قينا فعملت للعاص بن وائل و اجتمع لى عنده فانيته أتقاضاه فقال لا و اللّه لا أقضيك حتى تكفر بمحمد- فقلت اما و اللّه لا اكفر حتى تموت ثم تبعث قال و انى لميت ثم مبعوث قلت نعم قال فانه سيكون لى ثمه مال و ولد فاقضيك فانزل اللّه تعالى.

٧٧

أَ فَرَأَيْتَ إلخ لما كانت الروية أقوى سندا للاخبار استعمل ارايت بمعنى أخبرني- و الخطاب للنبى صلى اللّه عليه و سلم او لمخاطب غير معين- و كلمة رايت بالفاء معطوفة على محذوف تقديره أوقع نظرك قرائت الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا يعنى العاص بن وائل وَ قالَ عطف على كفر لَأُوتَيَنَّ مالًا وَ وَلَداً (٧٧) قرا حمزة و الكسائي ولدا بضم الواو و سكون اللام و الباقون بفتحهما

قال البغوي هما لغتان مثل العرب و العرب و العجم و العجم- و قيل بالضم و السكون جمع و بالفتحتين مفرد مثل اسد و اسد.

٧٨

أَطَّلَعَ الْغَيْبَ الجملة بتأويل المفرد مفعول ثان لرايت و اطلع هاهنا من قبيل اطلع الجبل اى ارتقى الى أعلاه و استغنى بهمزة الاستفهام عن همزة الوصل قال ابن عباس انظر في اللوح المحفوظ

و قال مجاهد اعلم علم الغيب حتى ادعى ان يؤتى في الاخرة مالا و ولدا أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) يعنى قال لا اله الّا اللّه و قال قتادة يعنى عمل عملا صالحا و قال الكلبي عهد اللّه اليه ان يدخله الجنة.

٧٩

كَلَّا رد عليه يعنى ليس الأمر كذلك سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ اى سنحفظ عليه او سنظهر له انا كتبنا قوله او سننتقم منه ما كتبنا من قوله و وجه هذه التأويلات ان نفس الكتابة لا يتاخر عن القول لقوله تعالى ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ و اسناد الكتابة الى نفسه مع كون الملائكة الكرام كاتبين لان كتابتهم بامره تعالى وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) اى نزيد عذابه لاجل استهزائه بهذا القول فوق ما استحقه قبل ذلك بالكفر.

٨٠

وَ نَرِثُهُ باهلاكنا إياه و ابطال ملكه ما يَقُولُ يعنى المال و الولد وَ يَأْتِينا يوم القيمة فَرْداً (٨٠) لا يصحبه مال و لا ولد كان له في الدنيا فضلا ان يؤتى ثمه زائدا- و جملة سنكتب مع ما عطف عليه في محل العلة للردع المستفاد من كلّا.

٨١

وَ اتَّخَذُوا اى كفار قريش مِنْ دُونِ اللّه آلِهَةً يعنى الأصنام لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) اى ليتعززوا بهم عند اللّه بان يكونوا وصلة او شفعاء.

٨٢

كَلَّا ردع و انكار لتعزرهم بها سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ اى سيجحد الالهة عبادتهم و يتبرءون منهم و يقولون تبرّانا إليك ما كانوا ايّانا يعبدون او سيجحد الكفار عبادتهم إياها و يقولون و اللّه ربّنا ما كنّا مشركين وَ يَكُونُونَ اى الأصنام عَلَيْهِمْ اى على الكفار ضِدًّا (٨٢) اى ذلّا و هوانا فانه ضد العز و هذا التأويل يؤيد التأويل الاول فيما سبق او يضدهم و يخالفهم على معنى انها تكون اعداء لهم يكذبونهم و يلعنونهم او معونه على الكفار في تعذيبهم بان توقد بها نيرانهم- و جاز ان يكون الضمير الاول الكفار و الثاني للالهة و المعنى و يكون الكفار على الالهة منكرين كافرين بها بعد ان كانوا يعبدونها- و توحيد الضد لوحدة المعنى الّذي به مضادتهم فانهم بذلك كالشي ء الواحد نظيره قوله صلى اللّه عليه و سلم و هم يد على من سواهم- أخرجه ابو داود و ابن ماجة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده و ابو داود و النسائي من حديث على و ابن حبان من حديث ابن عمر- و في القاموس ان الضد يكون جمعا ايضا و منه قوله تعالى وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا-.

٨٣

أَ لَمْ تَرَ الم تعلم يا محمد أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ الاستفهام للانكار و انكار النفي اثبات اى سلطناهم عليهم و قيّضنا لهم قرناء-

قال البغوي و ذلك حين قال و استفزز من استطعت منهم بصوتك او المعنى خلّيناهم و إياهم من أرسلت البعير اى أطلقته تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) اى تهزهم و تعزّنهم على المعاصي بالتسويلات و اتباع الشهوات- و الاز و الهز التحريك و جملة تؤزهم ازّا حال من الشياطين و في الكلام تعجيب لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من أقاويل الكفار و تماديهم في الغى و تصميمهم على الكفر بعد وضوح الحق على ما نطقت به الآيات المتقدمة.

٨٤

فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ بدعائك عليهم بنزول العذاب إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ ايام اجالهم الّتي قضيناها مدة أعمارهم عَدًّا (٨٤) يعنى أعمارهم ايام محصورة معدودة و الفاء في فلا تعجل للسببية و حملة انّما نعدّلهم معللة او مستانفة و جملة ا لم تر انّا أرسلنا الشّيطين تائيد و تقرير لقوله و اتّخذوا من دونه الهة يوم.

٨٥

نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ مع ما عطف عليه ظرف لفعل محذوف اى نفعل بالفريقين ما نفعل او منصوب با ذكر او متعلق بلا يملكون إِلَى الرَّحْمنِ اى الى موضع كرامته و تجلياته وَفْداً (٨٥) حال من المتقين جمع وافد اى وافدين عليه كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين لكرامتهم و إنعامهم- اخرج الحاكم و البيهقي و عبد اللّه بن احمد في زوائد المسند و ابن جرير و ابن ابى حاتم عن علىّ بن ابى طالب انه قرا هذه الاية فقال و اللّه ما يحشر الوفد على أرجلهم و لا يساقون سوقا و لكنهم يؤتون بنوق من نوق الجنة لم ينظر الخلائق الى مثلها عليها بر حال الذهب و ازمّتها الزبرجد فيركبون عليها حتى يقرعوا باب الجنة و ذكر البغوي قول علىّ رضى اللّه عنه ما يحشرون و اللّه على أرجلهم و لكن على نوق رحالها الذهب و نجائب مرحبها اليواقيت ان هموابها سارت و ان هموا طارت-

و اخرج البيهقي من طريق طلحة بن ابى طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً قال ركبانا و نسوق المجرمين الى جهنّم وردا قال عطاشا-

و اخرج ابن جرير عن ابى طلحة عن ابى هريرة قال وفدا اى على الإبل

و اخرج ابن ابى حاتم عن عمر بن قيس الملائى ان المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في احسن صورة و أطيب ريح فيقول هل تعرفنى فيقول لا الا ان اللّه قد طيب ريحك و احسن صورتك- فيقول كذلك كنت في الدنيا انا عملك الصالح طال ما ركبتك في الدنيا اركبنى اليوم و تلا يوم نحشر المتّقين الى الرّحمن وفدا- و ان الكافر استقبله عمله في اقبحه صورة و أنتنه ريحا فيقول اولا تعرفنى فيقول لا الا ان اللّه فبح صورتك و نتن ريحك فقال كذلك كنت في الدنيا انا عملك السي ء طال ما ركبتنى في الدنيا و انا أركبك اليوم و تلاوهم يحملون أوزارهم على ظهورهم.

٨٦

وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ بكفرهم إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦)

قال البغوي مشاة او قيل عطاشا و قد تقطعت أعناقهم من العطش و الورد جماعة يردون الماء و لا يرد أحد الماء بعد العطش و قد قال ابن عباس في تفسيره يعنى عطاشا-

قلت ذكر اللّه سبحانه حال الفريقين أحدهما المتقين الكاملين في التقوى الأنبياء و غيرهم- و ثانيهما المجرمين اى الكافرين و لم يذكر حال عامة المؤمنين من الصالحين و المذنبين- و قد ذكر في الحديث انّ من الناس من يحشر مشأة و هم عامة المؤمنين و قد ذكرنا في سورة بنى إسرائيل في تفسير قوله تعالى يحشرون عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا- حديث ابى هريرة و حديث معاوية بن جند و حديث ابى ذر ان الناس يحشرون على ثلاثة اصناف ركبانا و مشاة و على وجوههم-

و اخرج الشيخان عن ابى هريرة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين و راهبين و اثنان على بعير و ثلاثة على بعير و عشرة على بعير نحشر يقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا و تبيت معهم حيث باتوا- قال ابن حجر في قوله صلى اللّه عليه و سلم راغبين و راهبين قال هم الطريقة الاولى هم عوام المؤمنين- و اثنان على بعير الى اجزه الطريقة الثانية- و لم يذكر واحدا على بعير اشارة على انه يكون لمن فوقهم كالابرار و قال البيهقي قوله راغبين اشارة الى الأبرار و راهبين الى المخلطين الذين هم بين الخوف و الرجاء و الذين يحشرهم النار الكفار- و ذكر الحليمي مثله و زاد ان الأبرار هم المتقون يؤتون بنجائب من الجنة و اما البعير الّذي يحمل عليه المخلطون فيحتمل ان تكون الإبل الّتي تحيى و تحشر يوم القيامة- قال السيوطي و الثاني أشبه لانهم بين الخوف و الرجاء فلا يليق ان يردوا على نجائب الجنة- قال و يشبه ايضا تخصيص هؤلاء بمن يغفر لهم ذنوب عند الحساب و لا يعذبون- و اما الذين يعذبون بذنوبهم فانهم يكونون مشاة على أقدامهم و يحتمل ان يمشوا و ما يركبوا او يكونوا ركبانا فاذا قاربوا المحشر نزلوا فمشوا- قال و اما الكفار فانهم مشاة على وجوههم

و اخرج الطبراني عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يحشر الأنبياء يوم القيامة على الدواب ليوافوا المحشر- و يبعث صالح على ناقته و ابعث على البراق و يبعث أبناء الحسن و الحسين على ناقتين من فوق الجنة- و يبعث بلال على ناقة من نوق الجنة فينادى بالأذان محضا بالشهادة حقا حتى إذا قال اشهد ان محمد رّسول اللّه شهد له المؤمنون من الأولين و الآخرين فقبلت ممن قبلت و ردّت لمن ردّت ( (تنبيه)) جزم الحليمي و الغزّالى بان الذين يحشرون ركبانا يركبون من قبورهم و مال الإسماعيليّ الى انهم يمشون الى الموقف و يركبون من ثمه جميعا بينه و بين حديث الصحيحين و الترمذي عن ابن عباس انه قال قام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قال يا ايها الناس انكم تحشرون الى اللّه حفاة مشاة عزاة غرلا ثم قرا كما بدأنا اوّل خلق نعيده الاية و أول من يكسى من الخلائق ابراهيم - و كذا اخرج الشيخان عن عائشة و الطبراني عن سوة بنت زمعة و أم سلمة- و سهل بن سعد و الحسن بن علّى و البزار عن ابن مسعود و ليس في تلك الأحاديث قراأة الاية و لا قوله أول من يكسى ابراهيم و زاد في تلك الأحاديث انه قالت لبعض نسائه وا سوأتاه ينظر بعضنا الى بعض قال شغل الناس عن ذلك لكلّ امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه و نحو ذلك و اللّه اعلم.

٨٧

لا يَمْلِكُونَ الضمير فيه للعباد المدلول عليها بذكر القسمين و جملة لا يملكون اما حال من المتقين و المجرمين و اما مستانفة الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧) يعنى الا من تحلى بما يستعد به و يستأهل ان يشفع للعصاة من الايمان و العمل الصالح على ما وعد اللّه- حيث قال ادعوني استجب لكم و قال يستجيب الّذين أمنوا و عملوا الصّلحت و يزيدهم من فضله- قال ابن صالح عن ابن عباس يشفعهم في إخوانهم و يزيدهم من فضله في اخوان إخوانهم- او المعنى الا من اتخذ من اللّه اذنا في الشفاعة نظيره قوله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ- يقال عهد الأمير الى فلان بكذا إذا امره به و محل الموصول الرفع على البدل من الضمير او النصب على الاستثناء و جاز ان يكون المستثنى مفرغا و يكون الواو في يملكون علامة الجمع لا الضمير مثل أكلوني البراغيث اى لا يملك الشفاعة أحد الّا من اتخذ- قيل المراد بمن اتّخذ عند الرّحمن عهدا من قال لا اله الا اللّه- فان اللّه وعد المؤمنين بالمغفرة حيث قال من يعمل مثقال ذرّة خيرا يره- و قال انّ اللّه يغفر الذّنوب جميعا- و قال عليه السلام حق العباد على اللّه ان لا يعذب من لا يشرك به متفق عليه من حديث معاذ و محل الموصول حينئذ النصب على تقدير المضاف تقديره لا يملكون الشّفاعة الّا شفاعة من اتّخذ عند الرّحمن عهدا على ان الشفاعة مضاف الى المفعول- نظيره قوله تعالى لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى - و قيل الضمير للمجرمين و يكون الشفاعة مصدرا مبنيّا للمفعول و الاستثناء و حينئذ منقطع- و المعنى لا يملك المجرمون ان يشفع لهم لكن المؤمنين يشفع لهم-.

٨٨

وَ قالُوا اى اليهود و النصارى و بعض العرب القائلون بان الملائكة بنات اللّه- و الضمير عائد الى غير مذكور لشهدة هذا القول منهم كانهم معلومون معهودون اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) قرا حمزة و الكسائي بضم الواو و سكون اللام في جميع المواضع من هذه السورة و في الزخرف و سورة نوح- و وافقهما ابن كثير و ابو عمرو و يعقوب في سورة نوح و الباقون بفتحهما.

٨٩

لَقَدْ جِئْتُمْ ايها القائلون بهذا القول- فيه التفات من الغيبة الى الخطاب تهديدا الكمال شنامة القول شَيْئاً إِدًّا (٨٩) قال ابن عباس يعنى منكرا و قال قتادة و مجاهد عظيما في الإنكار يقال أدّني الأمر و آدني أثقلني و عظم علىّ- و

قال البغوي الإدّ في كلام العرب أخظم الدواهي.

٩٠

تَكادُ السَّماواتُ قرأ نافع و الكسائي هاهنا و في خم عسق بالياء التحتانية لتقدم الفعل و كون التأنيث غير حقيقى- و الباقون بالتاء الفوقانية لتأنيث الفاعل يَتَفَطَّرْنَ قرأ نافع و ابن كثير و حفص و الكسائي و ابو جعفر بالياء التحتانية و التاء الفوقانية و فتح الطاء المشددة من التفعل- و الباقون بالنون و كسر الطاء محففة من الانفعال- يقال انفطر الشي ء و تفطّر اى تشقق و التفعل ابلغ لانه مطاوع للتفعيل بخلاف الانفعال فانه مطاوع للمجرد و لان اصل التفعل التكلّف مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) اى تنكسر كسرا في القاموس الهد الهدم الشديد و الكسر قيل معنى يتفطّرن السّموات اى يسقطن عليهم و تنشقّ الأرض اى تخسف بهم و تخرّ الجبال هدّا اى تنطبق عليهم.

٩١

أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) بضم الواو و سكون اللام و بفتحهما على ما مرّ من الخلاف- و ان مع صلتها في محل النصب على العلة على حذف المصاف و إيصال الفعل اليه تقديره كراهة ان دعوا- او على الظرفية متعلقا بيتفطرن و تنشق و تخر على سبيل التنازع- او في محل الجر بإضمار اللام او بالابدال من الضمير في منه- او الرفع على انه خبر محذوف تقديره الموجب لذلك ان دعوا- او فاعل هذّا اى هدها دعاء الولد و هو من دعا بمعنى سمى المتعدى الى مفعولين و انما اقتصر على الثاني ليحيط بكل ما دعى له- او من دعا بمعنى نسب الّذي مطاوعه ادعى الى فلان إذا انتسب اليه- قال ابن عباس و كعب فزعت السموات و الأرض و الجبال و جميع الخلائق الا الثقلين و كادت ان تزول و غضبت الملائكة و أسعرت جهنم حين قالوا ولد اللّه- و قيل معناه انّ هول هذه الكلمة و عظمها بحيث لو لا حلم اللّه لخرّب العالم و بدّد قوائمه غضبا على من تفوّه بها.

٩٢

وَ ما يَنْبَغِي انبغى ينبغى مطاوع لبغى إذا طلب و معناه ما يتاتى لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) اى ما يتطلب لو طلب فرضاه يعنى ليس هذا داخلا تحت القدرة لكونه مستحيلا غير ممكن- او المعنى لا يليق ذلك لعلو شانه فانه نقص بالاضافة اليه و هو منزه عن المناقص و عمالا يليق به-

قال البيضاوي لعل ترتيب الحكم بصفة الرحمانية للاشعار بان كل ما عداه نعمة او منعم عليه فلا يجانس من هو مبدا النعم كلها و مولى أصولها و فروعها- فكيف يمكن له ان يتخذ ولدا ثم صرح به في قوله.

٩٣

إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من لكرة موصوفة بالظرف و كلّ متده و المستثنى المفرغ خبره يعنى ما منهم أحد إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) اى الا و هو مملوك مخلوق له و يأوي اليه بالعبودية و الانقياد و يأتيه يوم القيمة ذليلا- و العبودية المجازية ينافى النبوة و لذلك من ملك ابنه عتق عليه فكيف العبودية الحقيقية المساوية للمخلوقية- و افراد اتى و عبدا حملا على لفظة كل.

٩٤

لَقَدْ أَحْصاهُمْ اى حصرهم و أحاط بهم بحيث لا يخرجون من علمه و قدرته وَ عَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) يعنى عدّ أشخاصهم و أنفاسهم و أفعالهم و أحوالهم و أرزاقهم- فان كلّ شي ء عنده بمقدار.

٩٥

وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥) منفردا عن الامتاع و الأنصار و ليس معه شى مما في الدنيا- اخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن عوف انه لمّا هاجر الى المدينة وجد في نفسه على فراق أصحابه بمكة منهم شيبت بن ربيعة و عتبة بن ربيعة و امية بن خلف فانزل اللّه تعالى.

٩٦

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) يعنى محبة في قلوب المؤمنين او محبّا يحبهم- قال في القاموس الودّ و الواد الحب و يثلثان يعنى يقران بكسر الواو و فتحها و ضمها- و الود ايضا المحب و يثلث كالوديد الكثير الحب- و فيه تسلية لعبد الرحمن بن عوف و وعد له بان يجعل اللّه له محبين عن المؤمنين بدلا من الكافرين-

و اخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال نزلت هذه الاية في علىّ ابن ابى طالب رضى اللّه عنه يعنى يجعل اللّه تعالى محبته في قلوب المؤمنين و سائر الخلائق غير الكافرين قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من كنت مولاه فعلى مولاه رواه احمد و ابن ماجة عن البراء و احمد عن بريدة و الترمذي و النسائي عن زيد بن أرقم و قال عليه السلام ذكر علّى عبادة- رواه صاحب مسند الفردوس عن عائشة و في لفظ حبّ علىّ عبادة و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا أحب اللّه العبد قال لجبرئيل قد أحببت فلانا فاحبه فيحبه جبرئيل ثم ينادى في اهل السماء ان اللّه قد أحب فلانا فاجده فيحبه اهل السماء ثم وضع له القبول في الأرض رواه البخاري و مسلم من حديث ابى هريرة قلت و يمكن تأويل هذه الاية ان اللّه تعالى يتخذه محبا لنفسه قال اللّه تعالى لا يزال عبدى يتقرب الىّ بالنوافل حتى أحببته الحديث.

٩٧

فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ الباء بمعنى على أدهى على أصله و عدى يسرناه بالباء لتضمنه معنى أنزلناه اى أنزلناه بلغتك هو على هذا حال اى متلبسا بلغتك-

قلت و يمكن ان يقال تقديره يسرناه على أمتك متلبسا بافتك لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ عن الشرك وَ تُنْذِرَ به الضمير المنصوب في يسّرناه و المجرور في به راجع الى القران قَوْماً لُدًّا (٩٧) أشداء الخصومة الذين يختارون النار مع وضوح الحق تعصبا و خصومة و عنادا و قال الحسن معناه ضمّا عن الحق

و قال مجاهد الالدّ الظالم الّذي لا يستقيم- و قال ابو عبيدة الألد الّذي لا يقبل الحق و يدعى الباطل و الحصر إضافي يعنى ما أنزلنا القرآن لتتعب نفسك و تبخعهاان لم يؤمنوا انما أنزلناه لتبشر و تنذر.

٩٨

وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ اى قبل كفار قومك مِنْ قَرْنٍ تخويف للكافرين و تجسير للرسول صلى اللّه عليه و سلم على إنذارهم

هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ اى هل فحس منهم أحدا بإحدى الحواس الخمس و قيل معناه هل ترى و قيل هل تجد و قيل هل تشعر

أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨) الركز الصوت الخفي و اصل التركيب للخفاء و منه ركز الرمح أقاغيب طرفه في الأرض و الركاز المال المدفون و اللّه اعلم-

﴿ ٠