سُورَةُ طٰهٰ مَكِّيَّةٌ

وَهِيَ مِائَةٌ وخَمْسٌ وثَلاَثُونَ آيَةً

مكيّة و هى مائة و خمس و ثلاثون اية

بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

 ربّ يسّر و تمّم بالخير.

_________________________________

١

طه (١) قرا أبو بكر- حمزة و الكسائي بامالة فتح الطاء و الهاء و ورش و ابو عمرو بامالة الهاء خاصة و الباقون بفتحهما- و هما من السماء الحروف و قد مرّ الكلام عليها في أوائل سورة البقرة و قيل هو اسم من اسماء اللّه تعالى و هو قسم كقوله صلى اللّه عليه و سلم حم لا ينصرون- أخرجه ابو داود و الترمذي و النسائي و الحاكم و صححه عن البراء بن عازب ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ليلة الخندق حم لا ينصرون و قال مقاتل بن حيان معناه طى الأرض بقدميك و يريد في التهجد- اخرج ابن مردوية في تفسيره عن على رضى اللّه عنه

و اخرج البزار عنه انه قال لما نزل على النبي صلى اللّه عليه و سلم يايّها المزّمّل قم اللّيل الّا قليلا قام الليل كله حتى تورمت قدماه فجعل يرفع رجلا و يضع اخرى فهبط عليه جبرئيل فقال طه على الأرض بقدميك يا محمد كذا قرئ- فعلى هذا أصله طامن و طايطا فقلبت الهمزة هام و قلبت الهمزة في يطا الف ثم بنى عليه الأمر و ضم إليه ها السكت و يحتمل ان يكون الف طا مبدلة من الهمزة و الهاء ضمير راجع الى الأرض لكن يرد على هذا كتابتها على صورة الحروف

و قال مجاهد و عطاء و الضحاك معناه يا رجل- و قال قتادة هو يا رجل بالسريانية- و قال الكلبي هو يا انسان بلغة عك «١»- فعلى هذا «٢» خطاب للنبى صلى اللّه عليه و سلم و لهذا اعدوا طه من اسماء النبي صلى اللّه عليه و سلم لكونه كناية عنه-

قال البغوي قال

(١) له هكذا في الأصل و في تفسير البغوي كل و هو الصحيح- الفقير الدهلوي.

(٢) ينبغى تكرار هذا كما لا يخفى على المتفطن ١٢٠ الفقير الدهلوي.

الكلبي لمّا نزل على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الوحى بمكة اجتهد في العبادة حتى كان يرواح بين قدميه في الصلاة لطول قيامه فبراوح «١» بين قدميه إذا قام على أحدهما مرة قام على الاخرى مرة) و كان يصلى الليل كله فانزل اللّه تعالى هذه الاية و امره ان يخفف على نفسه فقال.

(١) قد راجعت الى التفسير البغوي فلم أجد فيه العبارة بين القوسين ١٢ الفقير الدهلوي-.

٢

ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) اى لتتعب في القاموس الشقاء الشدة و العسر وليد و قال الجوهري الشقاوة خلاف السعادة- و كما ان الشقاوة ضربان دنيويّة و اخروية كذلك السعادة ثم السعادة الدنيوية ثلاثة اضرب نفسية و بدنية و خارجية- كذلك الشقاوة على هذه الأضرب- و المراد في هذه الاية الشقاوة الدنيوية البدنية- و هو التعب- و قال بعضهم قد يوضع الشقاء موضع التعب- و

قال البيضاوي الشقاء شائع بمعنى التعب و منه أشقى من رابض المهر و سيد القوم أشقاهم و لعله عدل اليه للاشعار بانه انزل عليه ليسعد- اخرج ابن مردوية عن ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه و سلم كان أول ما انزل اللّه عليه الوحى يقوم على صدور قدميه إذا صلى- فانزل اللّه طه ما أنزلنا عليك القران لتشقى

و اخرج عبد بن حميد عن الربع بن انس قال كان النبي صلى اللّه عليه و سلم إذا صلّى فام على رجل و رفع اخرى فانزل اللّه طه ما أنزلنا عليك القران لتشقى- و قيل هذه الاية رد لقول الكفار و تكذيب لهم حين راوا اجتهاد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في العبادة فقالوا ما انزل القرآن عليك يا محمد الا لشقائك فنزلت هذه الاية و جاز ان يكون مراد الكفار و نسبة الشقاوة الى اسعد الناس نظرا منهم انه ترك دين الآباء فشقى فرد اللّه عليهم قولهم و بين سعادته بما انزل عليه تذكرة ممن اتصف بصفات الكمال- يدل عليه ما اخرج ابن مردوية من طريق العوفى عن ابن عباس قال قالوا لقد شقى هذه الرجل بربه فنزلت ما أنزلنا عليك القران لتشقى- و جلا ان يكون سعنى الاية ما أنزلنا عليك القرءان لتتعب و تبخع نفسك لفرطتا سفك على كفر قومك إذ ليس عليك الّا تبليغهم- و جملة ما أنزلنا خبر طه ان جعلته مبتدأ على انه اوّل بالسورة او القران و لفظ القران فيها واقع موقع العائد- و جواب ان جعلته مقسما به- و مناد «٢» له ان جعلته منادى و استيناف ان كانت جملة فعلية او اسمية بإضمار مبتدأ او طائفة من الحروف محكية.

(٢) هكذا في الأصل و الصحيح منادى له ١٢ التفسير الدهلوي.

٣

إِلَّا تَذْكِرَةً استثناء منقطع يعنى لكن تذكيرا- و لا يجوز ان يكون بدلا من محل تشقى لاختلاف الجنسين و لا مفعولا له لانزلنا لان الفعل الواحد لا يتعدى الى العلتين- و جاز ان يكون مستثنى مفرغا منصوبا على العلية لفعل محذوف من جملة مستانفة تقديره ما أنزلناه الّا تذكرة و قيل هى مصدر في موقع الحال من الكاف او القرآن او مفعولا له على ان لتشقى متعلق بمحذوف هو صفة للقران تقديره ما أنزلنا عليك القرءان المنزل لتتعب بتبليغه لغرض الّا تذكرة لِمَنْ يَخْشى (٣) اى لمن كان في قلبه خشية ورقة تلين بالإنذار- او لمن علم اللّه منه ان يخشى بالتخويف فانه هو المنتفع به.

٤

تَنْزِيلًا منصوب بإضمار فعله- او بيخشى او على المدح او على البدل من تذكرة ان جعل حالا لا ان جعل مفعولا له لفظا او معنى لان الشي ء لا يعلل بنفسه و لا بنوعه مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَ السَّماواتِ الْعُلى (٤) متعلق بتنزيلا او صفة له- و فيه التفات من التكلم الى الغيبة للتفنن في الكلام و تفخيم المنزل من وجهين اسناد انزاله الى ضمير الواحد العظيم شأنه و نسبته الى المختص بالصفات و الافعال العظيمة فذكر أفعاله و صفاته على الترتيب الّذي هو عند العقل فبدا بخلق الأرض و السموات الّتي هى اصول العالم و قدم الأرض لانها اقرب الى الحس و اظهر عنده من السموات العلى و هى جمع العليا تأنيث الأعلى-.

٥

الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) مر تفسيره في سورة يونس.

٦

لَهُ ما فِي السَّماواتِ من الملائكة و الكواكب و الجبال و الأنهار وَ ما فِي الْأَرْضِ من الجبال و الأنهار و الأشجار و المعادن و الحيوانات و الجن و الانس و الشياطين و الملائكة وَ ما بَيْنَهُما من الهواء و الرباح و السحاب و الرعد و البرق و غير ذلك وَ ما تَحْتَ الثَّرى (٦) و هو التراب الندى في الحديث فاذا كلب يأكل الثرى من انعطش يقال ثرى التراب إذا رشّ عليه الماء-

قال البغوي قال الضحاك و يعنى ما وراء الثرى من شي ء- و قال ابن عباس ان الأرضين على ظهر النون- و النون على مجرو راسه و ذنبه يلتقيان تحت العرش- و البحر على صخرة خضراء خضرة السماء منها و هى الصخرة الّتي ذكر اللّه في قصة لقمان فتكن في صخرة- و الصخرة على قرن ثور و الثور على الثرى و لا يعلم تحتها الا اللّه عزّ و جلّ و ذلك الثور فاتح فاه- فاذا جعل اللّه البحار بحرا واحدا سالت في جوف ذراعى الثور فاذا وقعت في جوفه يبست- الرحمن مبتدأ ما بعده خبره او مرفوع على المدح و ما بعده خبر محذوف او الرحمن خبر مبتدأ محذوف اى هو الرحمن و جملة على العرش استوى و جملة له ما في السّموات و ما في الأرض و ما بينهما و ما تحت الثّرى- اخبار مترادفة بغير عاطف نحو زيد عالم عاقل و جملة هو الرحمن الى آخره بعد ذكر خلق الأرض و السموات العلى اما مستأنفة في جواب بين لنا صفته و اما مؤكدة لمضمون جملة لخلق.

٧

وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى (٧)

قال البيضاوي تقديره ان تجهر بذكر اللّه و دعائه فاعلم انه غنى عن جهرك فانّه يعلم السّرّ و أخفى- و عندى تقديره ان تجهر بالقول اى بذكر اللّه و دعائه او تخافت به فاللّه يعلمه و يجيبه و يثيب عليه فانّه اى لانه يعلم السّرّ و أخفى فضلا من الجهر- حذف او تخافت به لدلالة سياق الكلام عليه كما حذف من قوله تعالى سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ قوله و البرد-

قال البغوي قال الحسن السّرّ ما اسر الرجل الى غيره و أخفى من ذلك ما اسر في نفسه- و عن ابن عباس و سعيد بن جبير السر ما يسر في نفسه و أخفى من السر ما يلقى اللّه في قلبك من بعد و لا تعلم انه سيحدث به لانّا تعلم ما تسريه اليوم و لا تعلم ما تسريه غدا- و اللّه يعلم ما أسرت اليوم و ما تسر غدا- و قال على بن طلحة عن ابن عباس السر ما اسر ابن آدم في نفسه و أخفى ما خفى عليه مما هو فاعله قبل ان يعمله-

و قال مجاهد السر العمل الّذي تسرون من الناس و أخفى الوسوسة و قيل السر العزيمة و أخفى ما يخطر على القلب و لم يعرم عليه و قال زيد بن اسلم يعلم السّرّ و أخفى سره من عباده فلا يعلمه أحد- و قالت الصوفية العلية السّر و أخفى من المجردات الخمسة ترى بنظر الكشف فوق العرش و تتجلى برزاتها في بدن الإنسان و هى القلب و الروح و السر و الخفي و الأخفى- فالقلب مهبط لتجليات الولاية الآدمية و الروح لولاية النوحيّة و الابراهيميّة و السّر لولاية الموسوية- و الخفي لولاية العيسوية- و الأخفى لولاية المحمدية عليه و عليهم الصلوات و التسليمات.

٨

اللّه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مبتدأ و خبر لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨) خبر ثان و الجملة الكبرى موكدة مقررة لمضمون له ما في السّموات الى آخره- لان من له ملك السموات و الأرض لا يجوز الا ان يكون متوحدا بالالوهية متصفا بجميع صفات الكمال الّتي يدل عليها الأسماء الحسنى الّتي لا يمكن الاتصاف بها لغيره- و الحسنى تأنيث الأحسن- و فضل اسماء اللّه تعالى على سائر الأسماء في الحسن لدلالتها على معان هى اشرف المعاني و أفضلها- و قد ذكرنا بحث اسماء اللّه الحسنى في سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى وَ للّه الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها-.

٩

وَ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) استفهام تقرير اى قد أتاك و الجملة معطوفة على مضمون ما سبق من الكلام اعنى قوله الّا تذكرة فانه مضمونه لكن أنزلناه تذكرة او قوله تنزيلا يعنى نزل تنزيلا يعنى أتاك القران و أصبت تعب العبادة و نلت اصناف السعادة- و قد أتاك حديث موسى متضمنا ما أصابه من التعب و ما ناله من اللّه جات- فاللّه سبحانه بعد تمهيد نبوته صلى اللّه عليه و سلم ذكر قصة موسى- ليأتم به في تحمل احياء النبوة و تبليغ الرسالة و الصبر على مقاسات الشدائد فان هذه السورة من أوائل ما نزل.

١٠

إِذْ رَأى ناراً ظرف لحديث موسى يعنى هل أتاك ما وقع من حادثة موسى وقت رويته نارا- او الفعل مضمر اى حين راى نارا كان كيت و كيت- او مفعول لا ذكر مقدر

قال البغوي و ذلك ان موسى عليه السلام استاذن شعيبا عليه السلام في الرجوع الى مصر لزيارة والدته و أخته فاذن له- فخرج باهله و ماله و كانت ايام الشتاء فاخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام- و امرأته في شهرها لا يدرى أ ليلا تضع او نهارا- فسار في البرية غير عارف بطرقها فالجاه المسير الى جانب الطور الغربي الايمن في ليلة مظلمة مثلجة شديدة البرد- و أخذ امرأته الطلق فقدح زندة فلم يوره- و قيل ان موسى كان رجلا غيورا فكان يصحب الرفقة بالليل و يفارقهم بالنهار لئلا ترى امرأته- فاخطا مرة الطريق في ليلة مظلمة شاتئة لما أراد اللّه عزّ و جلّ كرامته- فجعل يقدح الزند و لا يورى فابصر نارا من بعيد عن يسار الطريق من جانب الطور فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا أقيموا مكانكم خطاب لامراته و الرفقة- و قيل خطاب لامراته بتأويل الأهل على سبيل التعظيم لكونها ابنة شعيب- قرا حمزة لاهله امكثوا هنا و في القصص بضم الهاء في الوصل و الباقون بكسرها فيه إِنِّي قرأ نافع و ابن كثير و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها آنَسْتُ ناراً اى أبصرتها ابصارا لا شبهة فيه و قيل الإيناس أبصار ما يونس به لَعَلِّي قرأ الكوفيون بإسكان الياء و الباقون بفتحها آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ اى شعلة نار تقتبس اى تطلب من معظم النار كذا في القاموس جملة مستانفة أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) اى هاديا يدنى على الطريق او يهدينى أبواب الدين فان أفكار الأبرار مائلة إليها في ما يعن لهم- و لما كان حصولها مترقبا غير مقطوع به أورد كلمة الترجي بخلاف الإيناس فانه كان محققا و لذلك حققه و معنى الاستعلاء في على النار ان أهلها مشرفون او مستعلون المكان القريب منها- كما ان قوله مردن بزيد الباء للصوق مروره بمكان يقرب منه زيد-.

١١

فَلَمَّا أَتاها ظرف لنودى

قال البغوي راى شجرة خضراء من أسفلها الى أعلاها أطافت نارا بيضاء «١» «٢» تتقد كأضوء ما يكون- فلا ضوء يغيّر خضرة الشجرة و لا خضرة الشجرة تغير ضوء النار

(١) الزند العود الّذي يقدح به النار و السفلى زنذة و لا يقال زندتان- قاموس ١٢- منه.

(٢) و في تفسير البغوي أطافت بها ١٢ ال؟؟؟ فسير الدهلوي.

قال ابن مسعود كانت الشجرة سمرة خضراء و قال قتادة و مقاتل و الكلبي كانت من العوسج و قال وهب كانت من العليق- و قيل كانت شجرة العناب- روى ذلك عن ابن عباس قال اهل التفسير لم يكن الّذي راه موسى نارا بل كان نورا ذكر بلفظ النار لان موسى عليه السلام حسبه نارا و قال اكثر المفسرين انه نور الرب و هو قول ابن عباس و عكرمة و غيرهما قال سعيد بن جبير هى النار بعينها و هى أحد عجب اللّه عزّ و جلّ يدل عليه ما روى عن ابى موسى الأشعري عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال حجابه النار- مشفها لاحرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره من خلقه- كذا

قال البغوي لكن في صحيح مسلم و سنن ابن ماجة حجابه النور-

قلت البزر هو ما لطف من النار بحيث لا يحرق فالمال واحد و في القصة ان موسى احذ شيئا من الحشيش اليابس و قصد الشجرة- فكان كلّما دنا ناءت منه النار- و إذا نأى دنت- فوقف متحيرا و سمع تسبيح الملائكة و ألقيت عليه السكينة و نُودِيَ يا مُوسى (١١).

١٢

إِنِّي قرأ نافع و ابن كثير و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها أَنَا رَبُّكَ قرأ ابن كثير و ابو عمرو و ابو جعفر بفتح همزة انّى اى بانّى و كسر الباقون بإضمار القول او بإجراء النداء مجراه و تكرير الضمير للتاكيد و التحقيق-

قال البغوي قال وهب نودى من الشجرة فقيل يموسى فاجاب سريعا ما يدرى من دعا فقال انى اسمع صوتك و لا أدرى مكانك فاين أنت- قال انا فوقك و معك و امامك و خلفك و اقرب إليك من نفسك- فعلم ان ذلك لا ينبغى الّا للّه عزّ و جلّ فايقن به-

قال البيضاوي قيل انه لما نودى- قال من المتكلم قال انى انا اللّه فوسوس اليه إبليس لعلك تسمع كلام شيطان- فقال انا عرفت انه كلام اللّه بانى أسمعه من جميع الجهات و جميع الأعضاء و هو اشارة الى انه عليه السلام تلقى من ربّه كلاما تلقيا روحانيّا ثم تمثل ذلك الكلام لبدنه و انتقل الى الحس المشترك فانتقش به من غير اختصاص بعضو و جهة فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ فيدم امر بذلك لكون الحفوة تواصعا للّه تعالى و

قال البغوي كان السبب فيه ما روى عن ابن مسعود مرفوعا قال كانتا من جلد حمار ميّت و يروى غير مدبوغ- و قال عكرمة و مجاهد امر بخلع النعلين ليباشر بقدميه تراب الأرض المقدسة فتناله بركتها لانها قدست مرتين فخلعهما موسى و القاهما وراء الوادي إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ اى المطهر طُوىً (١٢) قرا اهل الكوفة و الشام بالتنوين هاهنا و في سورة النازعات بتأويل المكان- و قيل هو كثنى من الطى مصدر لنودى او لمقدس اى نودى ندائين او قدس مرتين-

قلت اصل الطى الدرج و جعل الشي ء بعضه على بعض فلاجل هذه المشابهة استعمل بمعنى التثنية

و قرا الباقون بلا تنوين للعلمية و العدل لانه علم للوادى معدول عن طاو- او للتانيث مع العلمية بتأويل ابقعة عطف بيان للوادى- قال الضحاك وادي طوى مستدير عميق مثل الطور في استدارته و قيل طوى بالتنوين مصدر قائم مقام فعله حال من الضمير المرفوع المستكن في الظرف الراجع الى المخاطب و هو موسى- و هو اشارة الى حالة حصلت له على طريق الاجتباء فكانه طوى عليه اى قطع عليه مسافة لو اجتهد في قطعها لبعد عليه غاية البعد- قالت الصوفية العلية عروج القلب الى أصله اى الى فوق العرش لو حصل بالاجتهاد فرضا لحصل في مدة خمسين الف سنة بل اكثر فان المسافة بين الأرض الى العرش خمسين الف سنة و هى المكنيّة بقوله تعالى فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ لكن ذلك العروج انما يحصل بجذب الشيخ على سبيل الاجتباء قال العارف الرومي قدس سره سير زاهد هر شبى يك روزه راه سير عارف هر دمى تا تخت شاه .

١٣

وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ للنبوة و الرسالة و اصطفيتك قرا حمزة و انّا مشددة النون و اخترنك على التعظيم فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إليك اللام متعلق بكل من الفعلين على سبيل التنازع.

١٤

إِنَّنِي قرأ نافع و ابن كثير و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها أَنَا اللّه لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي و لا تعبد غيرى- الجملة بدل من ما يوحى دال على انه مقصور على تقدير التوحيد الّذي هو كمال العلم و الأمر بالعبادة الّتي هى كمال العمل وَ أَقِمِ الصَّلاةَ تخصيص بعد تعميم لكمال الاهتمام بها و علو منزلتها في سائر العبادات قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- الصلاة عماد الدين- رواه ابو نعيم و البيهقي عن عمرو صاحب مسند الفردوس عن على رضى اللّه عنه بلفظ الصلاة عماد الايمان و ابن عساكر عن انس بلفظ الصلاة نور الايمان- و في الصحيحين عن ابن مسعود قال سألت النبي صلى اللّه عليه و سلم اىّ الأعمال أحب الى اللّه- قال الصلاة. و روى مسلم عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بين العبد و بين الكفر ترك الصلاة و روى احمد و اصحاب السنن عن بريدة نحوه و روى احمد و الدارمي و البيهقي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه ذكر الصلاة يوما فقال من حافظ عليها كانت له نورا و برهانا و نجاة يوم القيامة و من لم يحافظ عليها لم تكن له نورا و لا نجاة و كان يوم القيامة مع قارون و فرعون و هامان و أبيّ ابن خلف و روى الترمذي عن عبد اللّه بن شقيق قال كان اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة- و بناء على ظاهر هذه الأحاديث قال احمد بن حنبل من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر- و ايضا وجه كونها أفضل العبادات انها حسنة لذاتها بخلاف اكثر العبادات فان الصوم لاجل قهو النفس الامارة بالسوء- و الزكوة لدفع حاجة الفقير- و الحج لتعظيم البيت و نحو ذلك- و للدلالة على كونها حسنة لذاتها ذكر اللّه علة للام بإقامتها فقال لِذِكْرِي (١٤) قرا نافع و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها- اى لتذكرنى فيها فانّ الصلاة بجميع اجزائه ذكر له تعالى و اشتعال به بالقلب و اللسان و الجوارح- و قيل معنى لذكراى لانى ذكرتها في الكتب و أمرت بها فيها- و قيل معناه لان أذكرك بالرحمة و الثناء قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول اللّه تعالى انا عند ظن عبدى بي و انا معه إذا ذكرنى فان ذكرنى في نفسه ذكرته في نفسى و ان ذكرنى في ملأ ذكرته في ملأ خير منه- متفق عليه من حديث ابى هريرة و قيل هذا تقييد و ليس بتعليل للامر بالإقامة و معناه أقم الصّلوة لذكرى خاصة لا ترائى بها و لا تشوبها بذكر غيرى- و قيل معناه لاوقات ذكرى و الاية على هذا مجمل ورد بيانه في موضع اخر بما قال أقم الصّلوة لدلوك الشّمس الى غسق اللّيل و قرّاء ان الفجر و نحو ذلك- و بحديث امامة جبرئيل المشهور و قيل معناه أقم الصّلوة لذكر صلاتى- عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من نسى صلوة او نام عنها فكفارتها ان يصليها أ فأذكرها- و في رواية لا كفارة لها الا ذلك قال اللّه تعالى أقم الصّلوة لذكرى متفق عليه و عن ابى قتادة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليس في النوم تغريط انما التفريط في اليقظة فاذا نسى أحدكم صلوة او نام عنها فليصلها إذا ذكرها فان اللّه تعالى قال و أقم الصّلوة لذكرى- رواه مسلم.

١٥

إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ الجملة في مقام التعليل للامر بالعبادة او مستانفة لبيان فائدتها او معترضة للترتيب و

قال البغوي قيل معناه و انّ السّاعة اتية اى بتقدير حرف العطف أَكادُ أُخْفِيها قال الأخفش معناه أريد أخفيها اى أخفى وقتها و

قال البغوي لفظة كاد زائدة و المعنى أخفى وقتها- و قيل معناه أكاد أخفيها فلا أقول انها اتية و لو لا ما في الاخبار من اللطف بالعباد قطع الاعذار لما أخبرت بإتيانها- نظيرة قوله تعالى تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ يعنى لو لا حلم اللّه لتفطرت السموات على القائلين باتخاذ الولد-

قلت لعل فيه اشارة الى ان الايمان باللّه و عبادته في مرتبة من الفضل و الحسن و الشرف كان حقيقا بين بكونان «١» مقصودين للناس بذاتهما لا نعرض و غاية و إتيان الساعة المشتملة على الجنة و النار و ان كان من لوازم إتيانهما و عدم إتيانهما و ثمراتهما المترتبة عليهما- لكن الايمان في نفسه عز و شرف لا بد من إتيانه- و الكفر في نفسه ذل و خسران لا بد من التحرز عله فلو لا اخبر اللّه تعالى بإتيان الساعة لم يكن ايمان من أمن باللّه طمعا في الجنة او خوفا من النار بل خالصا لوجه اللّه- و من هاهنا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نعم الرجل صهيب لو لم يخف اللّه لم يعصه رواه «٢» يعنى لم يعصه لو لم يخف عذاب اللّه و لم تكن النار و قالت الرابعة البصرية أريد ان احرق الجنة و أطفئ النار حتى الى؟؟؟ د الناس اللّه خالصا لوجهه من غير خوف و طمع لكن اللّه سبحانه اخبر بإتيانها لطفا بالعباد و قطعا لاعذار الكفار و اكثر المفسرين قالوا معناه أكاد أخفيها من نفسى فكيف يعلمها اى يعلم وقتها غيرى- و يؤيد هذا التأويل ان في بعض القراءات فكيف أظهرها لكم- و هذا الكلام على عادة العرب انهم إذا بالغوا في كتمان الشي ء قالوا كتمت سرك من نفسى اى اخفيه غاية الإخفاء- و الحكمة في الإخفاء التهويل و التخويف لا لهم إذا لم لعلموا متى تقوم الساعة كانوا على حذر منها كل وقت- و قيل معناه أكاد أظهرها من أخفاه إذا سلب خفاه-

قال البيضاوي يؤيد هذا المعنى القراءة بفتح الهمزة

قال البغوي قرا بفتح الالف و معناه أظهرها يقال خفيت الشي ء إذا اظهرته و أخفيته إذا سترته كذا في النهاية للجزرى-

فان قيل إذا كان الخفاء المجرد بمعنى الإظهار و همزة الإخفاء للسلب فكيف يكون معنى الإخفاء على القراءة المتواترة الإظهار و كيف يويدها قراءة الحسن-

قلت المجرد قد يكون بمعنى الإظهار و قد يكون بمعنى الستر قال في القاموس خفى يخفى يعنى مثل ربى يرمى خفيا و خفيا أظهره و استخرجه كاختفاه و خفى يخفى كرضى يرضى خفاء فهو خاف و خفى لم يظهر- فعلى هذا إذا زيد همزة الافعال على المجر و المفتوح العين في الماضي و مكسوره في الغابر كان معناه الستر و سلب الإظهار كما هو المشهور و إذا زيد على مكسور العين في الماضي كان معناه الإظهار و سلب الستر لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) متعلق بآتية او باخفيها على معنى أظهرها و كذا على معنى أكاد أخفى إتيانها فلا أقول اتية يعنى لا اخبر بإتيانها حتى تجزى كل نفس عملت حبّا للّه من غير طمع في الجنة و خوف من النار بجزاء ما تسغى و ذلك الجزاء هو لقاء اللّه و مراتب قربه

(١) هكذا في الأصل و هو كما ترى ١٢ الفقير الدهلوي.

(٢) بياض في الأصل ١٢ ابو محمد عفى عنه.

١٦

فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها اى لا يصرفنك عن لقاء اللّه او عن الايمان بإتيان الساعة او عن اقامة الصلاة او عن العمل للساعة مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها نهى الكافر من ان يصد موسى عنها و المراد منه نهيه عليه السلام من ان ينصد عنها بصده- كقوله لا ارينك هاهنا تنبيها على ان الفطرة السليمة يأبى عن الاعراض عنها و يقتضى الرسوخ في الدين و ان صدر الكافر انما هو لاعوجاج فيه وَ اتَّبَعَ هَواهُ فمال الى اللذات المحسوسة الفانية- و كف نظره عن درك ما فيها من الشر و عن اعتقاد العقاب عليها عطف على لا يؤمن او حال بتقدير قد من فاعله فَتَرْدى (١٦) فتهلك بالانصداد منصوب بتقدير ان بعد الفاء في جواب النهى-.

١٧

وَ ما تِلْكَ استفهام تقدير استيقاظا و تنبيها على انها عصا حتى يظهر كونها معجزة عظيمة إذا راى منها عجائب كلمة ما مبتدء و تلك خبره و هى بمعنى هذه و قوله بِيَمِينِكَ حال منها و العامل فيه معنى الاشارة اى قارة او ماخوذة بيمينك او تلك موصول صلة بيمينك بِمُوسى (١٧) تكرير لزيادة الاستيناس و التنبيه.

١٨

قالَ هِيَ عَصايَ

قال البغوي و كانت له شعبتان وفى لمسفلها سنان و لها محجن قال مقاتل اسمها تبعة أَتَوَكَّؤُا اعتمد عَلَيْها إذا أعييت و عند الوثبة و إذا وقفت على راس القطيع وَ أَهُشُّ بِها اى اضرب بها الشجرة ليسقط ورقها عَلى رؤس غَنَمِي كى تأكلها في القاموس هش الورق يهش خبطه إذا ضربه ضربا شديدا وَ لِيَ قرأ ورش و حفص بفتح الياء و الباقون بإسكانها فِيها مَآرِبُ حاجات اى قضاؤها أُخْرى (١٨) صفة لما رب و القياس آخر و انما قال اخرى ردّا الى الجماعة لرعاية رؤس الآي و كذا الكبرى- و ذلك المآرب ان يلقيها على عاتقه فيعلق بها اداوته و زاده و ان يعرض الزندين على شعبتيها و يلقى عليها الكساء و يستظل به و إذا قصر الرشاء يصل به- و إذا تعرضت السباع لغنمه يقاتل به-

قال البيضاوي كانه عليه السلام فهم ان المقصود من السؤال ان يتذكر حقيقتها و ما يرى من منافعها حتى إذا راى بعد ذلك على خلاف تلك الحقيقة و وجد منها خصائص اخرى استيقن كونها خارقة العادة و لاجل ذلك ذكر حقيقتها و منافعها مفصلا و مجملا- ليطابق جوابه الغرض الّذي فهمه- و معنى الكلام انها من جنس العصا ينتفع عنها منافع أمثالها- و قال بعض اهل العشق ان موسى عليه السلام زاد على قدر الجواب بقوله عصاى و بسط في الكلام التذاذا بمكالمة المحبوب ثم أجمل و لم يفصل جميعها أدبا و خوفا من تطويل الكلام.

١٩

قالَ اللّه تعالى أَلْقِها يا مُوسى (١٩) يعنى اصرح عصاك نتفرغ ممّا نتكى و لا تتكى الأنبياء- و ترى كنه ما فيها من المآرب- قال وهب ظن موسى انه تعالى يقول ارفضها.

٢٠

فَأَلْقاها موسى على وجه الرفض ثم جانت منه نظره فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) تمشى بسرعة على بطنها- و قال اللّه سبحانه في موضع اخر كانّها جانّ و هى الحية الخفيفة الصغيرة الجسم- و قال في موضع اخر فاذا هى ثعبان و هو اكبر ما يكون من الحيات- و اما الحية فانها تطلق على الصغيرة و الكبيرة و الذكر و الأنثى- فقيل في تطبيق الآيات ان الجانّ عبادة عن ابتداء حالها فانها صارت اولا على قدر العصا ثم تورمت و تنفضت حتى صارت ثعبانا في انتهاء حالها- و قيل انها كانت في عظم الثعبان و سرعة الجانّ و لذالك قال كانّها جانّ و لم يقل فاذا هى جانّ كما قال فاذا هى ثعبان مبين- قال محمد بن إسحاق نظر موسى فاذ العصا حية من أعظم ما يكون من الحيات صارت شعتاها شدقين لها و المحجن عنقا و عرفا تهتز كالنيازك و- و عيناها تتقدان كالنار- تمرّ بالصخرة العظيمة مثل الحلقة من الإبل فتلقمها- و تقصف الشجرة العظيمة بإتيانها- و سمع لاسنانها صريفا عظيما فلما عاين ذلك موسى ولى مدبرا و شرب- ثم ذكر ربه فوقف استجياء منه- ثم نودى و قال اللّه تعالى يموسى اقبل و.

٢١

خُذْها بيمينك وَ لا تَخَفْ انّى لا يخاف لدىّ المرسلون الّا من ظلم ثمّ بدّل حسنا بعد سوء فانّى غفور الرّحيم سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا اى هيأتها و حالاتها الْأُولى (٢١) كما كانت و السيرة فعلة من السير تجوز بها للطريقة و الهيئة و قوله سيرتها بدل اشتمال من الضمير المنصوب في سنعيدها اى سنعيد سيرتها- و قيل انتصابها بنزع الخافض تقديره الى سيرتها او يقال على ان أعاد منقول من عاده بمعنى عاد اليه- او على الظرف اى سنعيدها في سيرتها- او على المصدرية بتقدير فعلها اى سنعيد العصا بعد ذهابها تسير سيرتها الاولى- او على طريقة ضربته سوطا- اى سنعيدها بسيرتها الاولى- او مفعول ثان لنعيدها بتضمين معنى الجعل- اى سنعيدها و نجعلها ذات سيرتها الاولى فتنتفع بها كما «١» كنت تنتفع بها-

قال البغوي كانت على موسى مدرعة من صوف قد خلها بعيدان- فلما قال اللّه خذهالف طرف المدرعة على يده- فامر اللّه ان يكشف يده فكشف- و ذكر بعضهم انه لمالف المدرعة على يده قال له ملك ارايت لو اذن اللّه بما تحاذره- أ كانت المدرعة تغنى عنك شيئا- قال لا لكنى ضعيف من ضعف خلفت- فكشف عن يده ثم وضعها في فم الحية فاذا هى عصا كما كانت- و يده في شعبتيها

(١) و لم يكن في الأصل كماء ابو محمد- [.....].

فى الموضع الّذي كان يضعها إذا توكّا- قال المفسرون أراد اللّه ان يرى موسى ما أعطاه من الآية الّتي لا يقدر عليها مخلوق لئلا يفزع منها إذا القاها عند فرعون-

قال البغوي روى عن ابن عباس ان موسى كان يحمل على عصاه زاده و سقاه فكانت تماشيه و تحدثه- و كان يضرب بها الأرض فيخرج ما يأكل يومه و يركزها فيخرج الماء فاذا رفعها ذهب الماء و لو اشتهى ثمرة ركزها فتغصنت غصن تلك و الشجرة و أورقت و أثمرت- و إذا أراد الاستقاء من البئر أدلاها فطالت على طول البئر و صارت شعبتاها كالدلو حتى يستقى و كانت تضي ء بالليل بمنزلة السراج- و إذا ظهر عدو كانت تحارب و تناضل عنه-.

٢٢

وَ اضْمُمْ يَدَكَ اى كفك اليمنى إِلى جَناحِكَ

قال البغوي يعنى إبطك اليسرى و قال قال مجاهد تحت و جناح الإنسان عضده الى اصل ابطيه-

قال البيضاوي هو استعارة من جناحى الطائر سميّا بذلك لانه يجنحهما اى يميلهما و في القاموس الجوانح الضلوع تحت الترائب مما يلى الصدر واحدتها جانحة و الجناح اليد و العضد و الإبط تَخْرُجْ تقديره اضمم يدك الى جناحك

و اخرج تخرج فهو مجزوم على جواب الأمر بَيْضاءَ منيرة مشرقة حال من الضمير المستكن في تخرج مِنْ غَيْرِ سُوءٍ اى من غير عيب و قبح كنى به عن البرص لان الطباع تعافه متعلق بيضاء يعنى ابيضت من غير سوء-

قال البغوي قال ابن عباس كان ليده نور ساطع يضئ بالليل و النهار كضوء الشمس و القمر آيَةً اى معجزة دالة على صدقك في دعوى النبوة حال ثان من الضمير المستكن في تخرج او من الضمير في بيضاء او مفعول بإضمار خذا و دونك أُخْرى (٢٢) سوى العصا.

٢٣

لِنُرِيَكَ متعلق بالمضمر اعنى خذا و دونك او بما دل عليه الاية او القصة- اى دلنابها و فعلنا ذلك لنريك مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) صفة لاياتنا و لم يقل الكبر لرؤس الأمي او مفعول ثان لنريك و من ايتنا حال منها- و قيل فيه إضمار تقديره لنريك الاية الكبرى من آياتنا- قال ابن عباس كانت يد موسى اكبر آياته.

٢٤

اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ بهاتين الآيتين فادعه الى عبادتى إِنَّهُ طَغى (٢٤) اى جاوز الحد في العصيان و التمرد حتى ادّعى الالوهية- جملة معللة لقوله اذهب.

٢٥

قالَ موسى رَبِّ اى يا رب اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) حتى يسع فيه المعارف الحقة الّتي لا يكفى في دركها عقول العقلاء و منها درك انه لا يقدر أحد غير اللّه سبحانه على شي ء من الإنفاع و الإضرار- فيذهب من قلبه مخافة فرعون و جنوده- و نظرا الى ذلك قال ابن عباس يريد حتى لا أخاف غيرك- و ذلك ان موسى كان يخاف من فرعون خوفا شديدا لشدة شوكته و كثرة جنوده.

٢٦

وَ يَسِّرْ لِي قرأ نافع و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها أَمْرِي (٢٦) يعنى سهل علّى إتيان ما وجب علّى من تبليغ الرسالة و غير ذلك و من التكاليف- حتى يذهب عنى كلفة التكاليف و مشاقها و يحصل للنفس لذة في تحمل شدائدها و في إبهام المشروح و الميسّر اولا و دفعه بذكر الصدر و الأمر ثانيا تأكيد و مبالغه.

٢٧

وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) الظرف اما صفة لعقدة أو صلة لاحلل-

قال البغوي و ذلك ان موسى كان في حجر فرعون ذات يوم في صغره فاطمه فرعون لطمة و أخذ بلحية فقال فرعون لاسية امرأته ان هذا عدوى و أراد ان يقتله- فقالت آسية انه صبى لا يعقل و لا يميز و في رواية ان أم موسى لمّا فطمته ردته فنشا موسى في حجر فرعون و امرأته ير بيانه و اتخذاه ولدا- فبينهما هو يلعب يوما بين يدى فرعون و بيده قضيب يلعب به- إذ رفع قضيبا فضرب به راس فرعون- حتى هم فرعون بقتله- فقالت آسية ايها الملك انه صبى لا يعقل جربه ان شئت- و جاءت بطشتين في أحدهما الجمر و في الاخر الجواهر فوضعهما بين يدى موسى- فاراد ان يأخذ الجواهر فاخذ جبرئيل يد موسى عليهما السلام فوضعها على النار فاخذ جمرة فوضعها في فيه فاحترق لسانه و صارت عليه عقدة-

و اخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير ان فرعون حمل موسى يوما فاخذ بلحيته فنتفها فغصب و امر بقتله فقالت آسية انه صبى لا يفرق بين الجمر و الياقوت فاحضر بين يديه فاراد أخذ الجواهر فاخذ جبرئيل يده و وضعها على الجمرة و وضعها في فيه فاحترق لسانه و صارت عليه عقدة.

٢٨

يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) فانما يحسن التبليغ من البليغ- و اختلف في زوال العقدة بكمالها- فمن قال به تمسك بقوله تعالى قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ و من لم يقل به احتج بقوله هو افصح منّى لسانا و بقوله تعالى حكاية عن فرعون أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ و أجاب عن الاول بانه لم يسئل حل عقدة لسانه مطلقا بل عقدة يمنع الافهام و لذلك نكرّها و جعل يفقهوا مجزوما في جواب الأمر-.

٢٩

وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً معينا و ظهيرا مشتقا من الوزر بمعنى الثقل لانه يحمل الثقل عن الأمير- او من الوزر بمعنى الملجا من الجبل لان الأمير يعتصم برأيه و يلتجئ اليه في أموره و منه الموازرة- و قيل أصله ازير من الأزر بمعنى القوة فعيل بمعنى مفاعل كالعشير بمعنى المعاشر و الجليس بمعنى المجالس قلبت همزتها واو لقلبها في موازر مِنْ أَهْلِي (٢٩) اما صفة لوزيرا او صلة لاجعل.

٣٠

هارُونَ مفعول أول لاجعل و وزيرا ثانيهما قدم للعناية به- ولى صلة او حال و جاز ان يكون لى مفعولا ثانيا و وزيرا او لهما و هرون عطف بيان- و ان يكون مفعولاه وزيرا و من أهلي ولى تبيين كقوله وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ... أَخِي (٣٠) قرا ابن كثير و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها على الوجوه بدل من هرون او مبتدا خبره.

٣١

اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) قال في القاموس الأزر الإحاطة و القوة و الضعف عند التقوية و الظهر فالمعنى قوّ به ظهرى او اشدد به قوتى او قو به ضعفى.

٣٢

وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) اى في امر النبوة و تبليغ الرسالة- قرا ابن عامر اشدد بفتح الالف القطعي و اشركه بضم همزة القطع على صيغة المضارع المجزوم على انه جواب الأمر- و الجمهور بهمزة الوصل المضمومة في الابتداء- و فتح همزة القطع في الثاني على صيغة الأمر على انه بدل اشتمال من قوله اجعل.

٣٣

كَيْ نُسَبِّحَكَ تسبيحا كَثِيراً (٣٣) قال الكلبي اى نصلى لك و كثيرا.

٣٤

وَ نَذْكُرَكَ ذكرا كَثِيراً (٣٤) فان التعاون تهج الرغبات و تؤدى الى تكاثر الخيرات.

٣٥

إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥) عالما بأحوالنا و ان التعاون مما يصلحنا و ان هارون نعم المعين لى فيما أمرتني به-.

٣٦

قالَ اللّه تعالى قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ اى جميع مسئولاتك فعل بمعنى المفعول كالخبز بمعنى المخبوز و الاكل بمعنى المأكول يا مُوسى (٣٦)

٣٧

وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ جواب قسم محذوف اى و اللّه لقد أنعمنا عليك.

مَرَّةً أُخْرى (٣٧) اى في وقت اخر قيل ذلك و قيل هى هذه المرّة.

٣٨

إِذْ للتعليل و جاز ان يكون ظرفا لمننّا أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ بالهام او في المنام او على لسان بنى في وقتها او ملك (لا على وجه النبوة) كما اوحى الى مريم- (فائدة) الوحى و النبوة الّتي التشريع مختص بالأنبياء و هم الرجال فحسب و هى الّتي انقطعت و ختمت بخاتم النبيين محمد صلى اللّه عليه و سلم- و اما الوحى الّذي ليس للتشريع سواء كان بطريق الإلهام او بكلام الملائكة كما كان لمريم فغير مختص بالأنبياء- بل يكون للاولياء ايضا و لم ينقطع بعد النبي صلى اللّه عليه و سلم- و كذا حصول كمالات النبوة بالتبعية قد يكون لغير الأنبياء ايضا- قال الشيخ الأكبر محى الدين ابن العربي قدس سره في الفتوحات في الباب الماءتين و السبعين ان النبوة و ان انقطعت في هذه الامة بحكم التشريع فما انقطع الميراث منها فمنهم من يرث النبوة و منهم من يرث رساله و منهم يرث النبوة و الرسالة معا- و ما قال العلماء النبوة اختصاص الهى فالمراد منه نبوة التشريع بنصب الاحكام بوحي الهى- و هى الّتي عناها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حيث قال ان النبوة و الرسالة قد انقطعت فلا نبوة بعدي- و قال الشيخ في اخر باب الصلاة من الفتوحات نحو ذلك و قال هناك و هؤلاء هم المقربون الذين قال اللّه فيهم عينا يّشرب بها المقرّبون و قد ذكرت في تفسير سورة النساء و سورة الواقعة ان المراد بالمقربين هم الذين حصل لهم كما لان النبوة بالوراثة- فالوحى الّذي ليس التشريع و ليس مختص بالأنبياء هو الّذي عبر عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بالتحديث حيث قال لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون فان يكن من أمتي منهم أحد فانه عمر- رواه احمد و البخاري و مسلم و النسائي و ابو نعيم الموصلي في مسنده عن ابى هريرة و عن عائشة و في الصحيحين عن ابى هريرة بلفظ لقد كان فيمن كان قبلكم من بنى إسرائيل رجال يكلمون من غير ان يكونوا أنبياء فان يكن من أمتي أحد فعمر- و لاجل ذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو كان بعدي نبى لكان عمر بن الخطاب- رواه احمد و الترمذي و حسنه و ابن حبان و الحاكم و صحاه عن عقبة بن عامر و الطبراني عن عصمة بن مالك و عن ابى سعيد الخدري و ابن عساكر عن ابن عمر- قال الشيخ الشعراوى في اليواقيت و الجواهر هل يكون الإلهام بلا واسطة فالجواب نعم قد يلهم العبد من الوجه الخاص الّذي بين كل انسان و بين ربه عزّ و جلّ- فلا يعلم به الملك لكن هذا الوجهة يتسارع الناس الى إنكاره و منه انكار موسى على خضر- فعلم ان الرسول و البنى يشهد ان الملك رؤية بصر- و غير الرسول يحس باثره و لا يراه- فيلهم اللّه بواسطته ما يشاء او يعطيه من الوجه الخاص بارتفاع الوسائط و هذا أجل الإلقاء و أشرفه و يجتمع في هذا الرسول و الولي- و نقل الشيخ عبد الوهاب الشعراوى عن الشيخ ابى المواهب الشاذلى قدس اللّه سرهما انه كان يقول في انكار بعضهم على من قال حدثنى قلبى عن ربى لا انكار عليه لان المراد أخبرني قلبى عن ربى بطريق الإلهام الّذي هو وحي الأولياء- و هو دون وحي الأنبياء عليهم السلام و لا انكار الا على من قال كلمنى ربى كما كلم موسى عليه السلام انتهى كلامه-

قلت الولي ايضا قد يشهد الملك روية بصركما رأت مريم جبرئيل عليه السلام حين تمثّل لها بشرا سويّا و اللّه اعلم ما يُوحى (٣٨) اى مالا يعلم الا بالوحى او مما ينبغى ان يوحى لعظم شأنه و شدة اهتمامه.

٣٩

أَنِ اقْذِفِيهِ ان مفسره لما يوحى لان الوحى بمعنى القول- او مصدرية بتقدير الباء اى بان اقذفي موسى اى ألقيه فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ يعنى نهر النيل فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ اى الجانب سمى ساحلا لان الماء يسحله اى يقشره- أورد صيغة الأمر لتناسب ما تقدم و معناه الاخبار اى يلقيه اليمّ بالساحل و انما عطف نظرا الى التناسب اللفظي- و قيل هو امر بمعناه هو امر للبحر معطوف على امر لام موسى كما يقال احسن الى زيد و ليحسن زيد إليك- و قيل هو معطوف على أوحينا بتقدير

قلنا تقديره أوحينا الى أم موسى كذا- فقلنا ليلقه اليم بالساحل-

قلت ان كان الأمر بمعنى الخبر فهو داخل في الوحى- و ان كان بمعنى الأمر للبحر فلا حاجة الى تقدير

قلنا و جاز حينئذ عطفه على فاقذ فيه في اليمّ-

فان قيل كيف يتصور الأمر للبحر و البحر مما لا يعقل- قيل هو امر تكوين لا يشترط له التعقل و

قال البيضاوي لما كان إلقاء البحر إياه الى الساحل امرا واجبا لتعلق ارادة اللّه به جعل البحر كانه ذو تميز مطلع على امره بذلك-

و اخرج الجواب مخرج جواب الأمر فقال يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ يعنى فرعون و قال المحققون من الصوفية ان الجمادات و ان كانت لا تعقل و لا تفهم بالنسبة إلينا و لا يجوز إلينا مخاطبتها- لكنها عاقلة مطيعة لامر اللّه سبحانه كما يدل عليه النصوص- قال اللّه تعالى وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ ... و قال اللّه تعالى قالنا اتينا طائعين ... و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان الجبل ينادى الجبل اى فلان هل مربك أحد يذكر اللّه- و قال الفاضل الرومي خاك و باد و آب و آتش بنده اند پيش تو مرده و بر حق زنده اند و اطلاق العدو على فرعون بالنسبة الى اللّه كان على الحقيقة لكونه مشركا و بالنسبة الى موسى كان على المجاز باعتبار ما يؤل- فانه لم يكن عدوّا له وقت الاخذ و لاجل ذلك كرر لفظ العدو لامتناع الجمع بين الحقيقة و المجاز- و جاز ان يكون التكرير للمبالغة و يكون المراد في اللفظين باعتبار ما يؤل او باعتبار الوقت الموجود حيث كان في صدد قتل موسى بأخبار الكهنة إياه انه يولد في بنى إسرائيل غلام يكون زوال ملكك على يديه- و لاجل ذلك قتل كثيرا من أبناء بنى إسرائيل و لم يعرف موسى انه ذلك الغلام و الا لقتله- و الضمائر كلها راجعة الى موسى عليه السلام و رجوع بعضها اليه و بعضها الى التابوت يفضى الى تنافر النظم- و المقذوف في البحر و الملقى الى الساحل و ان كان هو التابوت بالذات- لكن كان موسى ايضا بالعرض لكونه في جوف التابوت-

قال البغوي اتخذت أم موسى تابوتا و جعلت فيه قطنا محلوجا و وضعت فيه موسى و قرت رأسه و خصاصه يعنى شقوقه ثم ألقته في النيل- و كان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون- فبينما فرعون جالس على رأس النهر مع امرأته آسية إذا هو بتابوت يجئ به الماء- فامر الجواري و الغلمان بإخراجه فاخرجوه و فتحوا رأسه فاذا فيه صبى من أصبح الناس وجها- فلما راه فرعون أحبه بحيث لم يتمالك نفسه فذالك قوله تعالى وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي (٥٠) ظرف مستقر صفة لمحبة او لغو متعلق بألقيت اى ألقيت عليك محبّة كائنة منّى قد ذرعتها في القلوب- او ألقيت منّى محبّة عليك يعنى أحببتك و متى أحبه اللّه أحبته القلوب- قال ابن عباس أحببته و حبّبته الى خلقى قال عكرمة ما رأه أحد الّا احبّه قال قتادة ملاحة كانت في عينى موسى ما راه أحد الا عشقه و جاز ان يكون المعنى ألقيت محبّة كائنة منّى عليك اى في قلبك بحيث لستولى تلك المحبة عليك فاجبتنى و أخلصت قلبك لمحبتى بحيث لم يلتفت الى غيرى فصرت راس المحبين- قال المجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه كان مبداء تعيّن الكليم صلوات اللّه عليه المحبيّة الصرفة و مبداء تعيّن الحبيب محمد صلى اللّه عليه و سلم المحبوبيّة الصرفة فلاجل ذلك كان الكليم عليه السلام رأس المحبين و الحبيب صلى اللّه عليه و سلم راس المحبوبين- و الصوفي بنظر الكشف يرى في دائرة الحب محيطا و هى الخلّة مبد التعين الخليل عليه السلام و مركزا و هو المحبة الصرفة مبدا لتعيّن الكليم - و المركز أعلى و أفضل و أوسع من المحيط كالقمر بالنسبة الى الهالة ثم المركز عند الصعود اليه يرى دائرة محيطها مبد التعين الكليم عليه السلام و مركزها لتعين الحبيب صلى اللّه عليه و سلم و على إخوانه- و لمّا كان الحبيب صلى اللّه عليه و سلم في غاية المرتبة من المحبوبية صار مبدا تعينه مركز الدائرة المحبوبية الصرفة و ترك محيطها (و هو المحبوبية الممتزجة) لبعض افراد أمته- و ذلك الفرد هو المجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه و اللّه اعلم و ظاهر اللفظ يقتضى ان اليم القاها بالساحل فالتقطه ال فرعون ليكون لهم عدوّا و حزنا فان صح ان ال فرعون أخرجوه من اليم فيول الساحل بحيث فهو نهره و اللّه اعلم و قوله ألقيت معطوف على قوله أوحينا وَ لِتُصْنَعَ اى تربى و يحسن إليك من صنعت فرسى إذا أحسنت القيام عليه- قرا ابو جعفر بالجزم على انها امر عَلى عَيْنِي قرأ نافع و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها حال من ضمير المخاطب المرفوع يعنى لتصنع كائنا على حفظى- و قوله لتصنع على قراءة الجمهور معطوف على علة مضمرة تقديره ليطعف عليك و لتضع او على الجملة السابقة بإضمار فعل معلل تقديره و فعلت ذلك لتصنع- و على قراة ابو جعفر معطوف على يأخذه.

٤٠

إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ مريم لتعرف خبرك و احضروا مراضع و أنت لا تقبل ثدى واحدة منها- ظرف لالقيت او لتصنع او بدل من إذ أوحينا على ان المراد بها وقت متسع- و قيل إذ للتعليل فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ اى على امراة ترضعه و بضم إليها- فلمّا قالت ذلك قالوا نعم- فجاءت بامه فقيل ثديها فذلك قوله تعالى فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ لما وعدناها بقولنا انا رادّوه إليك كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بلقائك وَ لا تَحْزَنَ هى يفراقك او أنت على فراقها و فقد إشفاقها وَ قَتَلْتَ نَفْساً اى رجلا قبطيّا كافرا ظالما- استغاثه عليه السلام عليه الاسرائيلىّ كذا قال ابن عباس- و كان إذ ذاك ابن اثنى عشر سنة كذا قال كعب الأحبار فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ اى غم قتله خوفا من عقاب اللّه بالمغفرة و من اختصاص فرعون بالأمن منه بالهجرة الى مدين وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً مصدر كالقعود او جمع-

قال البغوي قال ابن عباس اختبرناك اختبارا و قال الضحّاك و ابتليناك ابتلاء على انه مصدر- او أنواعا من الابتلاء على انه جمع فتن او فتنة على ترك الاعتداد بالتاء كحجور و بدر في حج رة و بدرة-

و قال مجاهد اخلصناك إخلاصا- و في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس ان الفتون وقوعه في محن خلصه اللّه منها اوّلها ان امّه حملته في السنة الّتي كان فرعون يذبح الأطفال- ثم القاؤه في البحر في التابوت- ثم منعه الرضاع الا من ثدى امه- ثم اخذه بلحية فرعون حتى هم بقتله- ثمّ تناوله الجمرة بدل الدرة- ثم قتله القبطي- ثم خروجه الى مدين-

قلت ثم ما ناله في سفره الى مدين من الهجرة عن الوطن و مفارقة آلاف و المشي راجلا على حذر و فقد الزاد و ايجار نفسه الى غير ذلك فالمعنى خلصناك من تلك المحن مرة بعد اخرى كما يفتن الذهب بالنار فيتخلص من كل خبث فيه- فَلَبِثْتَ عشر سِنِينَ لرعى الأغنام قضاء لا و في الأجلين في صداق ابنة شعيب عليه السلام فِي أَهْلِ مَدْيَنَ و هى على ثمان مراحل من مصر- و قال وهب لبث موسى عند شعيب ثمان و عشرين سنة- عشر سنين منها مهر ابنته و ثمانى عشرة بعد ذلك حتى ولد له ثُمَّ جِئْتَ الى الوادي المقدس عَلى قَدَرٍ اى على القدر الّذي قدرت بانك تجى ء كذا قال محمد ابن كعب- او على القدر الّذي يوحى فيه الى الأنبياء- يعنى إذا بلغ عمرك أربعين كذا قال عبد الرحمن ابن كبسان- و هو معنى قول اكثر المفسرين اى على المواعد الّذي وعده اللّه و قدره ان يوحى اليه بالرسالة و هو أربعين سنة يا مُوسى (٤٠) كرر اللّه سبحانه ذكره استيناسا له و حبّا- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من احبّ شيئا اكثر ذكره- رواه صاحب مسند الفردوس من حديث عائشة.

٤١

وَ اصْطَنَعْتُكَ اى ربيتك و أحسنت تربيتك لِنَفْسِي (٤١) قرا الكوفيون و ابن عامر بسكون الياء فيسقط وصلا في اللفظ لالتقاء الساكنين و الباقون يفتحون الياء- يعنى ربيتك و اخترت لنفسى حتى لا تشتغل ظاهرا و باطنا بغيري-

قلت و يمكن ان يكون معناه جعلتك لمكارم الأخلاق و صنعتك بحيث صلحت لمناجاتى و اقترابى و أداء رسالتى.

٤٢

اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي اى بمعجزاتى- قال ابن عباس يعنى الآيات التسع الّتي بعث بها وَ لا تَنِيا قال السدى لا تفترا- و قال محمد بن كعب لا تقصرا- قال في القاموس الونى كفتى التعب و الفترة ضد فِي ذِكْرِي (٤٢) قرا ابن عامر و الكوفيون بسكون الياء فيسقط وصلا في اللفظ و الباقون بالفتح- كان هذا الوحى لموسى و قد كان هارون حينئذ بمصر- فامر اللّه موسى ان يأتى هارون- و اوحى الى هارون و هو بمصر ان يتلقى موسى فتلقاه الى مرحلة و أخبره بما اوحى اليه- و قيل سمع هارون بمقبل موسى فاستقبله فاوحى اللّه سبحانه إليهما-.

٤٣

اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) بادعائه الالوهية- امر اللّه موسى اولا وحده بالذهاب ثم امره و أخاه ثانيّا فلا تكرار و قيل الذهاب الاول مطلقا و الثاني مقيد فلا تكرار.

٤٤

فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً قال ابن عبّاس لا تعنفا في قولكما- و قال عكرمة و السدى كنياه فقولا يا أبا العباس و قيل يا أبا الوليد و قال مقاتل يعنى بالقول اللين هل لك الى ان تزكّى و أهديك الى ربّك فتخشى فانه دعوة في صورة عرض و مشورة حذرا من ان يحمله حمية الجاهلية على ان يسطو عليكما- و قيل أمرهما باللطافة في القول لما كان له على موسى حق التربية- و قال السدى القول الذين ان موسى أتاه و وعده على قبول الايمان شبابا لا يهرم و ملكا لا ينزع عنه الا بالموت- و يبقى عليه لذة المطعم و المشرب و المنكح الى حين موته- و إذا مات دخل الجنة فاعجبه ذلك و كان لا يقطع امرا دون هامان و كان غائبا- فلما قدم أخبره بالذي دعاه اليه موسى و قال أردت ان اقبل منه- فقال له هامان كنت ارى ان لك عقلا و رأيا و أنت رب تريد ان تكون مربوبا و أنت تعبد تريد ان تعبد فقلّبه عن رايه لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ ان تحقق عنده صدقكما أَوْ يَخْشى (٤٤) يعنى ان لم يتحقق عنده صدقكما و لم يتذكر فلا اقل من ان يتوهم فيخشى- و الترجي بالنسبة الى علمهما و الّا فاللّه تعالى كان عالما بانه لا يرجع- و الجملة في محل النصب على الحالية من فاعل قولا- يعنى قولا حين التذكر من فرعون او خشيته- او على العلية لقوله قولا يعنى- و قال الحسن بن الفضل هذا ينصرف الى غير فرعون مجازه لعله يتذكر متذكر او يخشى خاش-.

٤٥

قالا اى موسى و هارون يا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا قال ابن عباس ان يعجّل علينا بالقتل و العقوبة قبل إتمام الدعوة و اظهار المعجزات- يقال فرط عليه فلان إذا عجّل بمكروه من فرط إذا تقدم و منه الفارط أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) اى يزداد طغيانا فيقول فيك ماء ينبغى لجرءته و قساوته و يزداد في الاساءة الى عبادك.

٤٦

قالَ اللّه تعالى لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما تعليل لقوله لا تخافا يعنى لا تخافا لاننى معكما بالحفظ و النصر أَسْمَعُ دعاءكما وَ أَرى (٤٦) ما يراد بكما فامنع لست بغافل عنكما فلا تهتما- او اسمع و ارى ما يجرى بينكما و بين فرعون من قول و فعل فافعل في كل حال بكما ما ينبغى من النصر و دفع المكروه- و يجوز ان لا يقدر شي ء على معنى انّنى حافظكما سامعا مبصرا- و الحافظ إذا كان قادرا سميعا بصيرا تم الحفظ-.

٤٧

فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ أرسلنا إليك و الى بنى إسرائيل فَأَرْسِلْ الفاء للسببية مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ الى الشام او اطلقهم عن أعمالك دخل عنهم لعبادة اللّه تعالى وَ لا تُعَذِّبْهُمْ بالتكاليف الصعبة و الأعمال الشاقة الّتي كان فرعون يستعملهم فيها قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ اى حجة مِنْ رَبِّكَ على صدقنا في دعوى الرسالة جملة مقررة لما تضمنه الكلام السابق من دعوى الرسالة و انما وحد الاية و كان معه آيتان لان المراد اثبات بالبرهان لا الاشارة الى وحدة الحجة و تعددها و كذلك قوله، قد جئتكم ببيّنة و قوله فأت باية و نحو ذلك وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) جملة معترضة اى سلامى و سلام الملئكة و خزنة الجنة على المهتدين او السلامة في الدارين لهم من النقمة في الدنيا و العذاب في الاخرة.

٤٨

إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ اى عذاب اللّه في الدنيا و الاخرة عَلى مَنْ كَذَّبَ الرسل وَ تَوَلَّى (٤٨) اعرض عن عن الايمان باللّه و عبادته- قيل الجملة تذييل او تعليل لكونه رسولا-

قلت او بدل من قوله انّا رسولا ربّك- فاتيا و قال له ما امرا به يدل على ذالك سياق الاية- و فائدة الحذف الاختصار و الدلالة على ان المطيع إذا امر بشي ء فعله لا محالة-.

٤٩

قالَ فرعون لهما في جواب ما قال فَمَنْ رَبُّكُما الّذي أرسلكما يا مُوسى (٤٩) انما خاطب اثنين و خص موسى بالنداء لانه اصل و هارون وزيره و تابعه- او لادلاله عليه بالتربية- او لانه عرف ان له رتبة و لاخيه فصاحة.

٥٠

قالَ موسى رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قال الحسن و قتادة اعطى كل شي ء صلاحه و هداه لما يصلحه-

و قال مجاهد اعطى كل شي ء صورته الّتي هو عليها و لم يجعل خلق الإنسان كخلق البهائم و لا خلق إليها ثم كخلق الإنسان ثم هداه الى منافعه من المطعم و المشرب و المنكح- و قال سعيد بن جبير اعطى كل شى خلقه يعنى زوجه من جنسه المرأة للرجل و النافة للبعير و الأتان للحمار و الرمكة للفرس ثمّ هدى اى ألهمه كيف يأتى الذكر الأنثى- و قيل معناه اعطى خلقه كلّ شي ء يحتاجون اليه و يرتفقون به فقدم المفعول الثاني لانه المقصود بيانه- ثم عرفه كيف يرتفق بما اعطى و كيف يصل به الى بقائه و كماله اختيارا او طبعا-

قال البيضاوي هذا جواب في غاية البلاغة فانه اخبار عن الموجودات بأسرها على مراتبها- و بيان لكون الغنى القادر المنعم على الإطلاق هو اللّه تعالى- و ان جميع ما عداه مفتقر اليه في حد ذاته و صفاته و أفعاله- و لهذا بهت الّذي كفر و اقحم عن الدخل عليه و صرف الكلام عنه و.

٥١

قالَ فَما بالُ يعنى ما حال الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) من قوم نوح و عاد و ثمود و غيرهم الذين عبدوا الأصنام و أنكروا البعث فماذا يفعل بهم بعد موتهم.

٥٢

قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي اى أعمالهم محفوظة عند ربّى فِي كِتابٍ مثبت في اللوح المحفوظ لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى (٥٢) جملة مستانفة او صفة لكتاب يعنى الكتاب الّذي لا يضله اللّه و لا ينساه- و الضلال ان تخطئ الشي ء في مكانه فلم تهتد اليه و النسيان ان يذهب منك الشي ء بحيث لا يخطر ببالك- و هما محالان على العالم بالذات- و قيل معنى لا يضلّ ربّى اى لا يغيب عنه شي ء و لا يغيب هو عن شي ء- و لا ينسى ما كان من أمرهم- و المعنى ان اللّه مجازيهم على ما عملوا من خير او شر-.

٥٣

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً الموصول مرفوع صفة لربى او خبر لمحذوف او منصوب على المدح- قرا الكوفيون مهدا هاهنا و في الزخرف و لم يختلفوا في الّذي في سورة النبأ و هو مصدر سمى به- و الباقون مهادا و هو اسم ما يمهد كالفراش او جمع مهد يعنى جعلها كالمهد لكم وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا السلوك النفاذ في الطريق قال اللّه تعالى لتسلكوا منها سبلا فجاجا- و يجي ء لازما و متعديا- و في القاموس سلك المكان سلوكا و سلكه غيره فالاول لازم و المكان ظرف و الثاني متعد و استعمل في الاية متعديا و جعل السبل مفعولا به مجازا و هو ظرف كما أسند الجري الى النهر مجازا في جرى النهر- فمعنى حصل لكم فيها سبلا بين الجبال و الاودية و البراري تسلكونها اى تلك السبل من ارض الى ارض لتبلغوا منافعها و هذا معنى قول ابن عباس سهل لكم فيها طرقا و

قال البغوي السلك إدخال الشي ء في الشي ء و المعنى ادخل في الأرض لاجلكم طرقا تسلكونها و منه قوله تعالى ما سلككم في سقراى ما أدخلكم فيها وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً مطرا فَأَخْرَجْنا بِهِ بذلك الماء قيل تم كلام موسى عليه السلام عند قوله و انزل من السّماء ماء ثم اخبر اللّه عن نفسه تتميما لما وصفه به موسى خطابا لاهل مكة و الظاهر انه من كلام موسى عليه السلام حكاية من اللّه تعالى تقديره انزل من السّماء ماء و قال منّة عليكم أخرجنا به إلخ يعنى لتشكروه- او هو كلام موسى و المعنى اخرج أبناء جنسنا من الآدميين أَزْواجاً يعنى أعناقا سميت بذلك لازدواجها و اقتراب بعضها ببعض مِنْ نَباتٍ بيان و صفة لازواج و كذلك شَتَّى (٥٣) صفة لازواج و يحتمل ان يكون صفة للنبات فانه من حيث انه في الأصل مصدر يستوى فيه الواحد و الجمع- و هى جمع شتيت كمريض و مرضى من شتّ الأمر إذا تفرق- اى متفرقا في الصور و الأغراض و المنافع يصلح بعضها للناس و بعضها للبهائم و لذلك قال.

٥٤

كُلُوا وَ ارْعَوْا رعى جاء لازما و متعديا يقول العرب رعيت القوم فرعت- و المعنى هاهنا اسيموا أَنْعامَكُمْ ترعى الأمر للاباحة و تذكر النعمة- و الجملة حال من ضمير فاخرجنا على ارادة القول اى أخرجنا أصنافا قائلين كلوا و ادعوا يعنى معدنيهما لانتفاعكم بالأكل و العلف أذنين فيه إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من جعل الأرض مهدا و إنزال الماء من السماء و إخراج النبات من الأرض للانتفاع لَآياتٍ دالة على وجود الخالق و وجوبه و احاطة علمه و قدرته و تكوينه و اتصافه بالكمالات و تنزهه عن المناقص لِأُولِي النُّهى (٥٤) اى لذوى العقول جمع نهية سميت بها لكونها ناهية صاحبها عن القبائح و المضرات.

٥٥

مِنْها اى من الأرض خَلَقْناكُمْ يعنى خلقنا من تراب الأرض أباكم آدم و مواد أبدانكم فان النطفة يتولد من الاغذية و هى يخلق من الأرض- و

قال البغوي قال عطاء الخراسانى ان الملك ينطلق فياخذ من تراب المكان الّذي يدفن فيه فيذره على النطفة فيخلق من التراب و من النطفة- و دليل قول عطاء ما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما من مولود الا و فى سرقه من تربة الّتي يولد منها- فاذا ردّ الى أرذل عمره ردّ الى تربة الّتي خلق منها يدفن فيها- و انى و أبا بكر و عمر خلقنا من تربة واحدة و فيها تدفن- رواه الخطيب عن ابن مسعود و قال غريب و أورده ابن الجوزي في الموضوعات- قال الشيخ المحدث ميرزا محمد الحارثي البدخشي رحمه اللّه ان لهذا الحديث شواهد عن ابن عمرو ابن عباس و ابى سعيد و ابى هريرة يتقوى بعضها ببعض فهو حديث حسن و ما ذكر العيني في شرح الصحيح البخاري في كتاب الجنائز عن محمد بن سيرين انه قال لو حلفت حلفت صادقا غير شاك و لا مستثنى ان اللّه تعالى ما خلق نبيه صلى اللّه عليه و سلم و لا أبا بكر و لا عمر الا من طينة واحدة- و ما اخرج ابن عساكر عن عبد اللّه ابن جعفر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال يا عبد اللّه هنيئا لك مريّا- خلقت من طينتى و أبوك يطير مع الملئكة في السماء- و ما روى الديلمي في مسند الفردوس و ابن البحار عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه قال طينة المعتق طينته لعله قال ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لبعض من اعتقه- و من هذه الأحاديث و تأويل عطاء في الاية يظهر انه يكون بعض الناس مخلوق من طينة نبى من الأنبياء و يسمى ذلك في اصطلاح الصوفية أصالة الطينة- بل من طينة محمد صلى اللّه عليه و سلم و هى أصالة الكبرى في في الاصطلاح-

قلت فاللّه سبحانه يوم خلق السموات و الأرض قدر بعض اجزاء الأرض معدة لخلق بعض افراد الإنسان و بعضها لبعض آخر- فما أعدت منها لخلق نبى من الأنبياء عليهم السلام لعل التجليات الذاتية المختصة بذلك النبي و البركان الالهية الاصلية ما زالت نازلة فائضة على تلك الجزء من اجزاء الأرض حتى استعدت لان ينخمر منها بدنه الشريف- ثم ما أعدت منها لخلق نبى من الأنبياء جاز ان يبقى منها شي ء فتكون مادة لغيره فيتشرف بها ذلك الغير كما ورد به الخبر في النخلة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أكرموا عمتكم النخلة فانها خلقت من فضلة طينة أبيكم آدم. و ليس من الشجر شجرة أكرم على اللّه من شجرة ولدت تحتها مريم بنت عمران فاطعموا نساءكم و الولد الرطب فان لم يكن رطب فتمر- رواه ابو يعلى الموصلي في مسنده و البخاري في تاريخه و ابن ابى حاتم و العقيلي و ابن عدى و ابن السنى و ابو نعيم في الطب و ابن مردوية عن على عليه السلام

و اخرج ابن عساكر عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خلقت النخلة و الرمانة و العنب من فضلة طينة آدم و قد ادعى الاصالة الكبرى الشيخ احمد مجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه بمكشوفه في المكتوب التاسع و التسعين من المجلد الثالث- و اعترض بذلك الدعوى عليه رضى اللّه عنه بعض الناس اما جهلا او عنادا فويل لمن عاند اولياء اللّه و لم يذهب على حسن الظن في شانهم و اللّه اعلم وَ فِيها نُعِيدُكُمْ بتفكيك الاجزاء بعد الموت وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ يوم القيامة بالبعث بتأليف اجزائكم المتفتتة المختلطة بالتراب على الصورة السابقة ورد الأرواح إليها تارَةً اى حينا او مرة كذا في القاموس أُخْرى (٥٥).

٥٦

وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ اى بصرناه آياتِنا او عرفناه صحتها كُلَّها تأكيد لشمول الأنواع او لشمول الافراد على ان الاضافة للعهد يعنى آياتنا التسع الّتي أعطيناها موسى. و ان موسى عليه السلام أراه تلك الآيات وعد عليه ما اوتى غيره من المعجزات فَكَذَّبَ فرعون موسى من فرط عناده و قال انه ساحر وَ أَبى (٥٦) عن الايمان و الطاعة.

٥٧

قالَ اى فرعون بدل اشتمال من قوله كذّب و ابى او تأكيد و تقرير له أَ جِئْتَنا استفهام تقرير لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا اى ارض مصر يعنى تريد ان تغلب على ديارنا فيكون فيها الملك لك بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧)

٥٨

فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ اى مثل سحرك يعاوضه فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لذلك اى وعدا لقوله لا نُخْلِفُهُ قرأ ابو جعفر بالجزم على انه جواب للام نَحْنُ وَ لا أَنْتَ فان الأخلاف يكون في الوعد دون الزمان و المكان- و المضاف محذوف تقديره مكان موعد اى وعد مَكاناً بدل من المكان المحذوف- و جاز ان لا يقدر المضاف و يكون مكانا منصوبا بالمصدر او يفعل دل عليه المصدر سُوىً (٥٨) قرا ابن عامر و عاصم و حمزة و يعقوب بضم السين و الباقون بكسرها و هما لغتان مثل عدى و عدى و لهوى و معناه منتصفا يستوى منه المسافة إلينا و إليكم كذا قال قتادة و مجاهد و روى عن ابن عباس- و قال الكلبي يعنى سوى هذا المكان- وقف أبو بكر و- حمزة و الكسائي بالامالة و ورش و ابو عمرو على أصلهما بين بين و الباقون بالفتح على أصولهم.

٥٩

قالَ موسى مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ فيه الضمير اى مكان موعدكم مكان يوم الزينة او موعدكم موعد يوم الزينة- او هو جواب من حيث المعنى فان يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس فيه في ذلك اليوم- قال مجاهد و قتادة و مقاتل و السدى كان عيد لهم يتزينون فيه و يجتمعون كل سنة و قيل هو يوم النيروز و قال ابن عباس و سعيد بن جبير يوم عاشوراء عنى ذلك اليوم- ليظهر الحق و يزهق الباطل على رؤس الاشهاد و لشيع ذلك في الأقطار وَ أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ اى يجمعون ضُحًى (٥٩) فى وقت الضحوة نهارا جهارا ليكون ابعد من الريبة- عطف على اليوم او على الزينة-.

٦٠

فَتَوَلَّى اى أدبر فِرْعَوْنُ عن موسى فَجَمَعَ كَيْدَهُ اى ذو كيده و حيلته يعنى السحرة و آلاتهم ليغلب على موسى ثُمَّ أَتى (٦٠) بالموعدة.

٦١

قالَ لَهُمْ مُوسى اى لفرعون و من معه من السحرة و

قال البغوي الضمير للسحرة الذين جمعهم فرعون و كانوا اثنى و سبعون ساحرا مع كل واحد حبل و عصى- و قال كعب كانوا اربع مائة- و قيل كانوا اثنا عشر الفا و قيل اكثر من ذلك وَيْلَكُمْ مفعول به اى ألزمكم اللّه الويل اى الهلاك- او مصدر لفعله المحذوف اى هلكتم هلاكا- او منادى بحذف حرف النداء- اى ويلكم فهى جملة دعائية او ندائية مقدمة للنهى لاظهار تقبيح الحال بارتكاب المنهي قبل الشروع في المقال لا تَفْتَرُوا عَلَى اللّه كَذِباً مفعول مطلق بقوله لا تفتروا لانه بمعنى لا تكذبوا على اللّه كذبا باشراك أحد معه فَيُسْحِتَكُمْ قرأ حفص و حمزة و الكسائي بضم الياء و كسر الحاء من الافعال و الباقون بفتح الياء و الحاء من المجرد- معناهما واحد و الاسحات لغة بخد و تميم و السحت لغة الحجاز- قال مقاتل و الكلبي معناه فيهلككم- و قال قتادة فيستأصلكم بِعَذابٍ عظيم من عنده وَ قَدْ خابَ اى خسر خسرانا و لم ينل ما طلب مَنِ افْتَرى (٦١) و كان كذلك حيث افترى فرعون و كذب على اللّه و احتال ليبقى ملكه و ألوهيته الباطلة فلم ينفعه.

٦٢

فَتَنازَعُوا يعنى السحرة او فرعون و قومه أَمْرَهُمْ اى في أمرهم يعنى في امر مجادلة موسى و معارضته هل ينبغى أم لا بَيْنَهُمْ قال محمد بن إسحاق لمّا قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على اللّه كذبا قال بعضهم لبعض ما هذا بقول ساحر وَ أَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) و هو اسم او مصدر ناجيته اى ساورته- أصله ان تخلوا به في نجوة من الأرض و هى المرتفعة المنفصلة بارتفاعها و قيل أصله النجاة بمعنى الخلاص- فهى المشاورة و المعاونة بما فيه خلاصه- يعنى أسروا تنازعهم فيما بينهم- و قال الكلبي أسروا ان غلبنا موسى اتبعناه-.

٦٣

قالُوا بعد ما تنازعوا و تناجوا بينهم يعنى استقر أمر مشاورتهم على هذا القول و كان هذا قول فرعون إِنْ هذانِ لَساحِرانِ الى آخره كما مر فيما قبل حيث قال أ جئتنا لتخرجنا من ارضنا بسحرك يموسى- و استقر قولهم جميعا بعد المشاورة على هذا القول طوعا او كرها- كما ذكر اللّه سبحانه منازعة فرعون و قومه في سورة المؤمن حيث قال و قال رجل مؤمن من ال فرعون يكتم إيمانه أ تقتلون رجلا الى قوله فمن يّنصرنا من بأس اللّه ان جاءنا قال فرعون ما أريكم الّا ما ارى و ما أهديكم الّا سبيل الرّشاد- قرا ابن كثير و حفض بتخفيف النون في ان على انها هى المخفقة من المثقلة و اللام هى الفارقة- او هى نافية و اللام بمعنى الا يعنى ما هذان الا ساحران- و يشدد و ابن كثير النون من هذآنّ-

و قرا الباقون ان مشددة فقرأ و ابو عمرو هذين على الأصل- و الباقون هذان بالألف و اختلفوا في توجيهه- فروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة انه خطأ من الكاتب و هذا القول خطاء خارق للاجماع و قيل هذا بلغة ابو الحارث بن كعب و خثعم و كنانة فانهم يجعلون المثنى في الرفع و النصب و الجر بالألف يجعلونها علامة التثنية و أعربوا المثنى تقديرا و يقولون أتاني الزيدان و رايت الزيدان و مررت بالزيدان- و كذلك يجعلون كل ياء ساكنة انفتح ما قبلها في التثنية يقولون كسرت يداه و ركبت علاه موضع يديه و عليه- و كذا في الأسماء الستة المضافة الى غير ياء المتكلم قال الشاعر ان أباها و أبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها.

و قيل اسمها ضمير الشان المحذوف و هذان الساحران خبران تقديره انه هذان لساحران و قيل ان بمعنى نعم و ما بعدها مبتداء و خبر- روى ان أعرابيا سال ابن الزبير فحرمه فقال لعن اللّه ناقة حملتنى إليك فقال ابن الزبير ان و صاحبها اى نعم

قال البيضاوي و فيها ان اللام لا تدخل على خبر للمبتداء و قيل أصله ان هذان لهما ساحران- او ان يعنى نعم هذان لهما ساحران فحذف ضمير الشان و ضميرهما- و فيه ان المؤكد باللام لا يليق به الحذف يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ مصر بالاستيلاء عليه بِسِحْرِهِما وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) تأنيث للامثل بمعنى الأفضل قال ابن عباس يعنى بسراة قومكم و اشرافهم- يقال هولاء طريقة قومهم اى اشرافهم حدث الشعبي عن على قال يصرفا وجوه الناس إليهما- و قال قتادة طريقتهم المثلى يومئذ بنوا إسرائيل كانوا اكثر القوم عددا و أموالا- فقال عدو اللّه يريدان ان يذهبا بهم لانفسهم كانه قال فرعون هذا القول لمّا قال له موسى أرسل معى بنى إسرائيل- و قيل أراد بطريقتكم المثلى بسنتكم و دينكم الّذي أنتم عليه فمعنى هذا القول قوله انّى أخاف ان يبدّل دينكم- و جملة يريد ان اما خبر بعد خبر لهذان و اما حال من ضمير ساحران- و اما مستأنفة.

٦٤

فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ قرأ ابو عمرو بوصل الالف و فتح الميم من المجرد- يعنى لا تدعوا شيئا من كيدكم الّا جئتم به و جمعتموه و هذا القراءة يطابق قول فجمع كيده و الباقون بقطع الالف و كسر الميم فقد قيل معناه الجمع ايضا يقول العرب أجمعت الشي ء و جمعته بمعنى واحد- و الصحيح ان معناه العزم اى اعزموا عليه و اجعلوا مجمعا عليه و لا تختلفوا فيختل أمركم ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا الصف مصدر بمعنى جعل الأشياء على خط مستوكا لناس و الأشجار- و هو هاهنا بمعنى الفاعل يعنى ايتوا مصطفّين مجتمعين لانه اهيب في صدور الرائين كذا قال مقاتل و الكلبي- نظيره ما قال اللّه تعالى انّ اللّه يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفّا كانّهم بنيان مرصوص- و صفّا على هذا حال من فاعل ايتوا- و قال ابن عبيدة الصف المجمع و يسمى المصلى صفّا فالمعنى ثم أتوا المكان الموعود وَ قَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) اى فاز بالمطلوب من غلب و هو اعتراض-.

٦٥

قالُوا اى السحرة بعد ما آتوا الموعد مراعاة للادب- او استعظاما لكيدهم و وثوقهم بالغلبة في كلا التقديرين يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ عصاك اولا وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) ان مع ما بعدها في الموضعين منصوب بفعل مضمر- او مرفوع على انه خبر مبتدا محذوف تقديره اختراعا القاءك اولا و اما كوننا أول من القى. او الأمر الّذي حان حينه اما القاؤك اولا و اما كوننا أول الملقين.

٦٦

قالَ موسى بَلْ أَلْقُوا أنتم او لا مقابلة للادب الأدب و عدم مبالاة بسحرهم و اسعانا الى ما او هموا من الميل الى اللّه بذكر الاول صريحا في شقهم. و تغير النظم الى وجد ابلغ. و لان يبزروا ما معهم او يستنفذوا أقصى وسعهم. ثم يظهر سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ أصله عصور قلبت الواو ان يائين و كسرت العين و الصاد و في الكلام حذف تقديره فالقوا حبالهم و عصيّهم فاذا حبالهم إلخ و إذا ظرف زمان للمفاجأة منصوب بفعل المفاجاة مضاف الى جملة اسمية و حبالهم مع ما عطف عليه مبتداء و ما بعده خبره. و العائد اما ضمير يخيل او ضميرانها. و الجملة ابتدائية و المعنى فالقوا ففاجأ موسى وقتا حبالهم و عصيهم فيها يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ قرأ ابن ذكوان ليخيل بالتاء على ان الضمير المرفوع راجع الى الحبال و العصى و قوله أَنَّها تَسْعى (٦٦) بدل اشتمال من الضمير المرفوع المستكن فيه

و قرا الباقون يخيل بالياء و على هذا انها تسعى مفعول قائم مقام الفاعل ليخيل- و في القصة انهم لمّا القنو الحبال و العصى أخذوا أعين الناس. فرأى موسى و القوم بسحرهم كانّ الأرض امتلان حيات تسعى. و كانت أخذت ميلا من كل جانب.

٦٧

فَأَوْجَسَ اى احسن و أضمر فِي نَفْسِهِ خِيفَةً التنكير للتقليل اى خوفا قليلا مُوسى (٦٧) الوجس في الأصل الصوت الخفي و في القاموس الوجس الفزع يقع في القلب او السمع من صوت او غيره- يعنى خاف موسى حينئذ خوفا مضمرا- قيل خاف من طبع البشرية ظنّا منه انها تقصده و قال مقاتل خاف على القوم ان يلتبس عليهم الأمر فيشكوا في امره فلا يتبعوه- و الجملة معطوفة على فاذا حبالهم.

٦٨

قُلْنا حينئذ لموسى لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨)

الغالب- الجملة في موضع العلة للنهى عن الخوف و تقرير لغلبته مؤكدا بالاستيناف و حرف التحقيق و ضمير الفصل و تعريف الخبر و لفظ العلو الدالة على الغلبة الظاهرة و صيغة اسم التفضيل.

٦٩

وَ أَلْقِ عطف على لا تخف ما فِي يَمِينِكَ أبهمه و لم يقل عصاك اما تحقيرا للجبال و العصيّ يعنى لا تبال بكثرة الحبال و العصىّ و الق العويدة الّتي في يدك- او تعظيما للعصىّ اى لا تبال بكثرة هذه الاجرام و عظمها فان ما في يمينك أعظم منها اثرا فالقه تَلْقَفْ قرأ حفص بإسكان اللام مخففا من لقفته بمعنى تلقفته و الباقون بفتح اللام مشددا- أصله تتلقف من التفعل حذفت احدى القائين و تاء المضارعة تحتمل التأنيث بناء على ان الضمير ترجع الى عصا و تحتمل الخطاب على اسناد الفعل الى المسبب

و قرا ابن ذكوان بالرفع على الحال او الاستيناف و الباقون بالجزم على انه جواب للامر يعنى تبتلع بقدرة اللّه تعالى ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا ما موصولة يعنى ان الّذي زوّروا و افتعلوا- او مصدرية يعنى ان صتيعهم كَيْدُ ساحِرٍ بوزن فاعل اى جبلة ساحر كذا قرا الجمهور.

و قرا حمرة و الكسائي سحر بكسر السين بلا الف بمعنى المصدر يعنى حيلة سحر و الاضافة بيانية او التقدير كبد ذى سحر بحذف المضاف او بتسمية الساحر سحرا على المبالغة- و انما وجد الساحر لان المراد به الجنس وَ لا يُفْلِحُ جنس السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) قال ابن عباس لا يسعد حيث كان من الأرض و اين اقبل و قيل معناه حيث احتال- اخرج ابن ابى حاتم و الترمذي عن جندب بن عبد اللّه البجلي- قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا وجدتم الساحر فاقتلوه ثم قرا و لا يفلح السّاحر حيث اتى- قال لا يومن حيث وجد جملة انّما صنعوا في محل التعليل للتّلقف-.

٧٠

فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً هاهنا حذف اختصار تقديره فالقى موسى عصاه فصارت ثعبانا فتلقف ما صنعت السحرة فعرفت السحرة انه ليس بسحر انما هو اية من آيات اللّه فالقى السحرة اى ألقاهم ذلك المعرفة على وجوههم سجد اللّه تعالى توبة عما صنعوا او تعظيما لما راؤ من آيات اللّه يعنى سجدوا مسرعين كانهم القوا قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى (٧٠) الواو لمطلق الجمع يعنى امنّا بربهما و ليس في الاية دليل على انهم قدموا ذكر هرون على موسى الإلزام التعارض بين هذه الاية و بين اية الأعراف و الشعراء فان هناك امنّا بربّ العلمين ربّ موسى و هرون- و تقديم هارون هاهنا لرعاية رؤس الاى جملة قالوا مع ما في حيزها بدل اشتمال من قوله القى السّحرة سجّدا او تأكيد له.

٧١

قالَ فرعون للسحرة آمَنْتُمْ لَهُ قرأ حفص على الخبر و الباقون على الاستفهام للانكار-

و اللام في أمنتم له اى لموسى لتضمين الفعل معنى الاتباع فيه قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ فى الايمان له إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ اى عظيمكم في السحر و أعلمكم به و لاجل ذلك غلب عليكم لا لنبوته- او انه لاستاذكم الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ و أنتم تواطئتم على ما فعلتم- و الجملة معترضة فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ اى يد اليمنى و الرجل اليسرى و من ابتدائية متعلقة بلا قطّعنّ كان القطع ابتداء في مخالفة العضو العضو- او ظرف مستقر صفة لمصدر محذوف اى قطعا مبتداء من عضو مخالف للاخر اختلافهما يدا او رجلا يمنة و يسرة- او حال من ايديكم و أرجلكم يعنى مبتدئا قطعها من مخالف للاخر وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ اى عليها أورد كلمة في في محل على تشبيها لتمكن المصلوب على الصليب تمكن المظروف في الظرف و خص النخل لطولها حتى يرى من بعيد وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً انا على ايمانكم بربّ موسى او ربّ موسى على ترك الايمان به وَ أَبْقى (٧١) اى أدوم عذابا.

٧٢

قالُوا يعنى السحرة لَنْ نُؤْثِرَكَ اى لن نختارك يا فرعون عَلى ما جاءَنا به موسى و يجوز ان يكون الضمير فيه لما مِنَ الْبَيِّناتِ اى المعجزات الواضحات يعنى اليد و العصا و قيل معناه من الدلالات و كان من دلالاتهم انهم قالوا لو كان هذا سحرا فاين حبالنا و عصيّنا- و قيل من البيّنات اى من التبيين و العلم.

قال البغوي حكى عن القاسم عن ابى بردة انه قال انهم لما القوا سجدا ما رفعوا رؤسهم حتى رأوا الجنة و النار و راو ثواب أهلها و رأوا منازلهم في الجنة فعند ذلك قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البيّنات وَ الَّذِي فَطَرَنا عطف على ما جاءنا اى لن نؤثرك على الّذى فطرنا- او قسم فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ ما أنت قاضيه اى صانعه فالمفعول مع الصلة مفعول به لاقض بمعنى اصنع او المعنى احكم ما أنت حاكمه فالموصول مفعول مطلق اى احكم حكما أنت حاكمه- و لا يجوز حينئذ ان يكون مفعولا به لان القضاء بمعنى الحكم يتعدى بالباء و لا يجوز حذف الباء هناك إِنَّما تَقْضِي اى انما تصنع ما تهواه او تحكم ما تراه هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) منصوب على انه ظرف زمان بحذف المضاف يعنى انما تضع او تحكم زمان هذه الحيوة الدنيا و يزول أمرك و سلطانك عن قريب قيل ان فرعون صنع بهم ما أوعدهم و كان هو أول من سن ذلك أخرجه ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم عن ابن عباس- و قيل انه لم يقدر على ذلك لما قال اللّه تعالى أنتما و من اتّبعكما الغالبون-.

٧٣

إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا من الكفر و المعاصي جملة مقررة لجملة لن نؤثرك وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ عطف على خطينا مِنَ السِّحْرِ بيان لما منصوب على انه حال من الضمير المجرور

فان قيل كيف قالوا هذا و قد جاءوا مختارين يحلفون لعزة فرعون ان لهم الغلبة

قال البغوي روى عن الحسن ان كان يكره قوما على تعلّم السحر كيلا يذهب أصله- فقد كان أكرههم في الابتداء و قال مقاتل كانت السحرة اثنين و سبعين اثنان من القبط و سبعون من بنى إسرائيل و كان فرعون اكره الذين هم من بنى إسرائيل فذالك قولهم و ما أكرهتنا عليه من السّحر- و قال عبد العزيز ابن ابّان قالت السحرة لفرعون أرنا موسى إذا نام فاراهم موسى نائما و عصاه تحرسه فقالوا ان هذا ليس بسحر ان الساحر إذا نام بطل سحره فابى عليهم ان يعارضوه فذلك قولهم و ما أكرهتنا عليه من السّحر وَ اللّه خَيْرٌ منك و من جميع ما خلق ثوابا لمن جاءه مومنا قد عمل الصالحات وَ أَبْقى (٧٣) اى أدوم منك و من جميع ما خلق عقابا لمن يأته مجرما بالكفر و المعاصي كذا قال محمد بن إسحاق و محمد بن كعب فهذا جواب لقوله و لتعلمنّ ايّنا أشدّ عذابا و أبقى

٧٤

انّه اى الشأن. مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً مات على كفره و عصيانه فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها فيستريح من العذاب وَ لا يَحْيى (٧٤) حيوة مهناة.

٧٥

وَ مَنْ يَأْتِهِ قرأ قالون بخلاف عنه و ابو جعفر و يعقوب باختلاس كسرة الهمزة في الوصل- و ابو شعيب بإسكانها و الباقون باشباعها يعنى من مات مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فى الدنيا حال من الضمير مومنا فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جمع العليا مونث أعلى اى المنازل الرفيعة.

٧٦

جَنَّاتُ عَدْنٍ اقامة بدل من الدرجات او عطف بيان تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها حال من الضمير المجرور في لهم و العامل فيها معنى الاشارة او الاستقرار وَ ذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦) اى تطهر من أدناس الكفر و المعاصي قال الكلبي اعطى زكوة نفسه و قال لا اله الا اللّه- روى احمد و الترمذي و ابن ماجة و ابن حبان بسند صحيح عن ابى سعيد الخدري و الطبراني عن جابر بن سمرة و ابن عساكر عن ابن عمرو عن ابى هريرة كلهم قالوا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اهل درجات العلى ليراهم من هو أسفل منهم كما ترون الكوكب الطالع فى أفق السماء و ان أبا بكر منهم و العمر. و روى احمد و الشيخان في الصحيحين عن ابى سعيد و الترمذي عن ابى هريرة مرفوعا بلفظ ان اهل الجنة ليتراؤن اهل الغرف من فوقهم كما ترون كوكب الدري الغائر في الأفق من المشرق و المغرب لتفاضل ما بينهم قالوا يا رسول اللّه تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بلى و الّذي نفسى بيده رجال أمنوا باللّه و صدقوا الرسل- و الآيات الثلاث يحتمل ان يكون من كلام السحرة في مقام التعليل لقولهم و اللّه خير و أبقى- و ان يكون ابتداء الكلام من اللّه تعالى تصديقا لقولهم-.

٧٧

وَ لَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى (٧٦) حين أراد اللّه إهلاك فرعون وقوعه و إنجاء بنى إسرائيل منه أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي اى سربهم ليلا من ارض مصر- هذه الجملة معطوفة على قوله و لقد مننّا عليك مرّة اخرى- و فيه التفات من الخطاب الى الغيبة فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً اى فاجعل لهم من قولهم ضرب له من ماله سهما او فاتخذ من ضرب البن إذا علمه قلت و يمكن تقدير الكلام فاضرب بعصاك البحر يكن طريقا فِي الْبَحْرِ يَبَساً صفة لطريق مصدر وصف به لا تَخافُ دَرَكاً قرأ الجمهور بالرفع و الجملة في محل النصب على انه حال من فاعل اضرب او صفة ثانية لطريق اى أمنا من درك العدو او طريقا مامونا من الدرك-

و قرا حمزة لا تخف بالجزم على النهى او على انه جواب للامر وَ لا تَخْشى (٧٧) الغرق استيناف و عطف على لا تخاف و الالف فيه على قراءة حمزة للاطلاق كقوله تَظُنُّونَ بِاللّه الظُّنُونَا او حال من فاعل لا تخف- ففعل موسى ما امر به و ضرب البحر بعصاه فانفلق فكان كلّ فرق كالطّود العظيم و ايبس اللّه الأرض فمروا فيها.

٧٨

فَأَتْبَعَهُمْ معطوف على محذوف يعنى فاسرى موسى بقومه فاتبعهم فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ الباء بمعنى مع و المعنى فاتبعهم فرعون نفسه مع جنوده حين اخبر ان موسى خرج ليلا مع بنى إسرائيل- و قيل صيغة الافعال بمعنى الافتعال و الباء للتعدية و قيل الباء زائدة و المعنى فاتبعهم جنوده- و هذا التأويل لا يدل على خروج فرعون بنفسه و كان قد خرج فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ اى من ماء اليم اى البحر و كلمة من للبيان او للتبعيض اى بعض ماء اليم لاكله حال من قوله ما غَشِيَهُمْ (٧٨) و فيه مبالغة و المعنى غطقهم مالا يعرف كنهه الا اللّه- و الضمير المنصوب في الموضعين لفرعون و جنوده و قيل الضمير الاول لفرعون و جنوده و الثاني لموسى و قومه يعنى غشى فرعون و جنوده فغرقوا ما غشى موسى و قومه فنجوا.

٧٩

وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ فى الدين وَ ما هَدى (٧٩) و هو تهكم به و تكذيب لقوله و ما أهديكم الّا سبيل الرّشاد- او أضلهم في البحر و ما نجا-.

٨٠

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اما خطاب للذين كانوا في عهد النبي صلى اللّه عليه و سلم بما فعل بآبائهم لكن السورة مكية و لم يكن بمكة المخاطبة مع بنى إسرائيل بل مع القريش- و اما خطاب لمن أنجاهم من البحر بعد إهلاك فرعون بتقدير

قلنا استينافا في جواب من قال فماذا فعل بهم بعد الانجاء- يعنى

قلنا يا بنى إسرائيل قَدْ أَنْجَيْناكُمْ و على التقدير الاول المضاف محذوف تقديره قد أنجينا اباءكم مِنْ عَدُوِّكُمْ فرعون باغراقه وَ واعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ منصوب على الظرفية الْأَيْمَنَ صفة لجانب الطور بأدنى ملابسة لكونه على يمين موسى إذ لا يمين للجبل واعد اللّه سبحانه موسى بالمناجات و إنزال التورية عليه و ان يختار سبعين رجلا يحضرون معه و انما نسب المواعدة إليهم للملابسة وَ نَزَّلْنا عَلَيْكُمُ فى التيه الْمَنَّ وَ السَّلْوى (٨٠)

٨١

كُلُوا حال من فاعل نزّلنا بتقدير القول اى قائلين كلوا او مستأنفة.

مِنْ طَيِّباتِ اى لذائذ او حلالات و من للبيان او للتبعيض ما رَزَقْناكُمْ قرأ حمزة و الكسائي انجيتكم و وعدتكم- و ما رزقتكم بالتاء المتوحد- و الباقون بالنون و الالف على التعظيم- و لم يختلفوا في نزّلنا لانه مكتوب بالألف وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ اى فيما رزقناكم بالإخلال بشكره و التعدي لما أحل اللّه لكم فيه كالسرف و البطر و المنع عن المستحق فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي قرأ الكسائي و الأعمش فيحلّ بضم الحاء و من يحلل بضم اللام من باب نصر ينصر من الحلول بمعنى النزول و الباقون بكسرهما من باب ضرب يضرب من حل الّذين إذا وجب أداؤه فَقَدْ هَوى (٨١) اى هلك و تردى في النار.

٨٢

وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ من الشرك وَ آمَنَ باللّه و بما جاء به رسله من عنده وَ عَمِلَ صالِحاً يعنى اتى بما امر اللّه به ثُمَّ اهْتَدى (٨٢) قال عطاء عن ابن عباس يعنى علم ان ذلك بتوفيق من اللّه تعالى و قال قتادة و سفيان الثوري يعنى لزم الإسلام حتى مات عليه و قال الشعبي و مقاتل و الكلبي يعنى علم ان لك ثوابا- و قال زيد بن اسلم تعلم العلم ليهتدى كيف يعمل و قال الضحاك استقام اى على الهدى المذكور- و قال سعيد بن جبير اقام على السنة و الجماعة قلت و عندى ان معناه ثم اهتدى الى الوصول الى اللّه بلا كيف و عروج مدارج القرب-.

٨٣

وَ ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) خطاب لموسى معطوف على الخطاب لبنى إسرائيل قد أنجيناكم إلخ و يا موسى أعجلك-

قال البغوي اى ما حملك على العجلة عن قومك و ذالك ان موسى اختار من قومه سبعين رجلا حتى يذهبوا معه الى الطور ليأخذ و التوراة فساء بهم ثم عجل موسى من بينهم شوقا الى ربه و خلف السبعين و أمرهم ان يتبعوه الى الجبل- فقال اللّه تعالى و ما أعجلك عن قومك يموسى-

قلت و هذا سوال تقرير كما يسئل المحبوب من المحب حين يراه في غاية المحبة و الشوق كى يذكر شوقه- لكن فيه مظنة انكار بما فيه من ترك موافقة الرفقة- فاجاب موسى عن الامرين و قدم جواب الإنكار لكونه أهم.

٨٤

قالَ موسى هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي يعنى ما قدمتهم الا بخطى يسيرة لا يعتد بها عادة و ليس بينى و بينهم الا مسافة قريبة يتقدم بها الرفقة بعضهم بعضا وَ عَجِلْتُ معطوف على قوله هم أولاء او حال بتقدير قد إِلَيْكَ اى الى مقام كرامتك و المكان الّذي وعدتني لتجليّاتك علىّ و كلامك منى رَبِّ اى يا ربى لِتَرْضى (٨٣) قيل يعنى لان المسارعة الى امتثال أمرك و الوفاء بعهدك أوجب لازدياد مرضاتك-

قلت بل معنى لترضى- اى لغاية محبتك و اشتعال الشوق الى لقائك و استماع كلامك كما هو مقتضى اقتراب وقت لقاء المحبوب و ذلك الشوق و المحبة يقتضى مرضاتك «١».

(١) وعده و ص چون شود نزديك آتش عشق تيز گردد.

٨٥

قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ و المراد بالفتن اما الابتلاء او الإضلال- يعنى ابتليناهم بإظهار العجل هل يعبدونه أم لا- او أضللناهم بعبادة العجل-

فان قيل فانّا قد فتنّا مرتب على قوله عجلت إليك و التقدير إذا عجلت الىّ فانّا قد فتنّا قومك و هذا الكلام يقتضى كون العجلة سببا للفتنة إذا الفاء للسببية فما وجه هذه السببية-

قلت لعل وجه ذلك ان الأنبياء عليهم السلام أرسلوا لهداية الخلق بوجهين ظاهرا بدعوتهم الى الإسلام و تعليمهم الاحكام- و باطنا بجذبهم الى اللّه عما سواه و فاضة نور الايمان و المعرفة في قلوبهم حتى ينشرح صدورهم للايمان و يروؤا لحق حقا و الباطل باطلا و لا يتم ذلك الا عند كمال توجهم الى الخلق بشر أشرهم و لما كان عجلة موسى عليه السلام الى اللّه تعالى مبنيا على غلبة المحبة و الشوق و سكر ذلك انقطع عند ذلك توجه باطنه عن الامة فحينئذ وقع امة في الفتنة و الضلال- و من هاهنا قال بعض الصوفية الولاية أفضل من النبوة و فسر بعضهم هذا القول بان ولاية النبي أفضل من نبوّته قالوا مقتضى لولاية الاستغراق و التوجه الى اللّه سبحانه و مقتضى النبوة التوجه الى الخلق و التحقيق ما حقق المجد و للالف الثاني رضى اللّه عنه ان النبوة هى الأفضل من الولاية مطلقا إذ الولاية عبارة عن التجليات الصفاتية و النبوة عن التجليات الذاتية فاين لهذا من ذلك و قال المجرد رضى اللّه عنه ان لكل واحد من النبوة و الولاية عروجا و نزولا- و الصوفي في مرتبة العروج في كلا النسبتين متوجه الى اللّه لتحصيل الكمال- و في مراتبه النزول في كليهما متوجه الى الخلق للتكميل غير انه في نسبة الولاية لما كان عروجه الى الصفات دون الذات فله عند نزوله التفات ما الى المبدأ فائض البركات غير متوجه الى الخلق بالكلية و في نسبة النبوه له عند نزوله توجه بالكلية الى الخلق و في بادى النظر يرى نفسه معرضا عن اللّه فيكون ذلك عليه شاقا و رياضة و عسرا لكنه في الحقيقة ليس بمعرض عنه تعالى بل مقبل عليه ايضا و اتسع صدره للتوجهين جميعا.

بل التوجه الى الخلق لمّا كان بإذن اللّه و على حسب امره و مرضاته فهو ايضا في المعنى توجه الى اللّه سبحانه و من ثمّ سمّى هذا السير سيرا من اللّه باللّه فانى في الوصال عبيد نفسى و في الهجر ان مولى للموالى- و قد ذكرنا هذه المسألة في سورة الم نشرح في تفسير قوله تعالى فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً و اللّه اعلم- و جاز ان يكون الكلام في الاية انه قال اللّه تعالى بعد ما أنجز وعده و أعطاه التوراة ارجع الى قومه فانّا قد فتنّا قومك مِنْ بَعْدِكَ اى بعد انطلاقك الى الجبل عند خوهم عنك وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) نسب اللّه سبحانه الفتنة و الإضلال الى نفسه لخلقه الضلالة فيهم و الإضلال في السامري و الى السامري لكسبه الإضلال و الدعاء الى عبادة العجل-

قال البغوي كانوا ستمائة الف فافتتوا بالعجل غير اثنى عشر الف- و السامرىّ قال في القاموس كان علجا من كرمان او عظيما من بنى إسرائيل منسوب الى موضع لهم و

قال البيضاوي منسوب الى قبيلة من بنى إسرائيل يقال لهم السامرة و اسمه موسى بن طفر و كان منافقا.

٨٦

فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ بعد ما استوفى الأربعين و أخذ التورية غَضْبانَ عليهم أَسِفاً ٥ حزينا شديد الحزن بما فعلوا قالَ موسى لقومه حين راهم عبدوا العجل يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً منصوب على المصدرية او على المفعولية على ان الوعد بمعنى الموعود حَسَناً بان يعطيكم التورية فيها هدى و نور أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ الاستفهام للانكار و الفاء للعطف على محذوف تقديره أتأثرهم بمصاحبتى إياكم فامنتم باللّه وحده و وعدتموني ان تكونوا بعدي على ذلك فطال عليكم العهد اى زمان مقارقتى إياكم أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ بكسر الحاء من باب ضرب يضرب بإجماع القراء اى يجب عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ بعبادة ما دونكم و ما هو مثل في الغباوة اى أردتم ان تفعلوا فعلا يوجب الغضب عليكم فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) اى وعدكم ايّاى بالثبات على الايمان و القيام على ما أمرتكم به-.

٨٧

قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بالثبات على الايمان بِمَلْكِنا قرأ نافع و ابو جعفر و عاصم بفتح الميم و حمزة و الكسائي بضمها و الباقون بكسرها و كلها لغات في مصدر ملكت الشي ء كذا في القاموس يعنى ما أخلفنا متلبسا بملكنا اى قدرتنا و اختيارنا على أمرنا- يعنى المرء إذا وقع في البلية و الفتنة من اللّه لم يملك نفسه وَ لكِنَّا حُمِّلْنا قرأ نافع و ابن كثير و حفص بضم الحاء و كسر الميم مشددا على البناء للمفعول من التجيل اى كلّفنا حملها- و ابو عمرو حمزة و الكسائي و يعقوب و أبو بكر بفتح الحاء و تخفيف الميم من الحمل أَوْزاراً اى أثقالا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ صفة للاوزار كان ذلك من حلية قوم فرعون استعادها بنو إسرائيل حين أرادوا الخروج من مصر باسم العرس كذا اخرج عبد بن حميد و ابن ابى حاتم عن ابن عباس

قال البغوي سماها او ذارا لانهم أخذوها على وجه العادية فلم يردّوها- و قيل ان اللّه تعالى لما أغرق فرعون نيذ البحر حليهم فاخذوها و كانت غنيمة و لم تكن الغنيمة حلالا في ذلك الزمان فسماها او زارا لذلك فَقَذَفْناها اى طرحناها في الحفيرة

قال البغوي قيل ان السامري قال لهم احفروا حفيرة فالقوها فيها حتى يرجع موسى- و قال السدىّ قال لهم هارون ان تلك الغنيمة لا يحل فاحفروا حفيرة و ألقوها فيها حتى يرجع موسى فيرى رأيه- ففضوا فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) ما كان معه فيها- و قال سعيد بن جبير عن ابن عباس أوقد هارون نارا و قال اقذفوا ما معكم فيها فالقوا فيها- ثم القى السامرىّ ما كان من تربة حافر فرس جبرئيل. قال قتادة كان قد قبضه من ذلك التراب في عمامته.

٨٨

فَأَخْرَجَ اى السّامرى لَهُمْ اى لبنى إسرائيل عِجْلًا جَسَداً بدل من عجلا يعنى اخرج من تلك الحلي عجلا لَهُ خُوارٌ صفة لعجلا يعنى صوت بقر فَقالُوا اى السامري و من اقتربه أول ما راوه هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) اى ترك موسى هاهنا و ذهب يطلبه عند الطور او فنسى السامرىّ اى ترك ما كان عليه من الايمان و كفر باللّه.

٨٩

أَ فَلا يَرَوْنَ استفهام انكار و الجملة معطوفة على محذوف تقديره الا ينظرون فلا يرون اى لا يعلمون او التقدير أقروا بالوهيّتها فلا يعلمون هذه الحمقاء أَلَّا يَرْجِعُ ان محففة من الثقيلة و اسمه ضمير الشأن محذوف يعنى انّه لا يرجع ذلك العجل إِلَيْهِمْ قَوْلًا اى لا يكلمهم كلاما و لا يرد عليهم جوابا فهو دون حالا منهم فكيف اتخذوا الها وَ لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً (٨٩) اى لا يقدر على اضرارهم و لا انفاعهم و لا منع من الضر او النفع- فكيف استحق لعبادتهم-

قال البغوي قيل ان هارون مرّ على السامرىّ هو يصوغ العجل فقال له ما لهذا قال اصنع ما ينفع و لا يضر فادع لى. فقال هارون اللّهم أعطه ما سألك على ما في نفسه. فالقى التراب في فم العجل فقال كن عجلا تخور فكان كذلك بدعوة هارون. و الحقيقة ان ذلك فتنة ابتلى اللّه بها بنى إسرائيل-.

٩٠

وَ لَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ اللام في جواب قسم محذوف و الجملة معطوفة على قوله و لقد أوحينا الى موسى ان اسر بعبادي يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ اى ابتليتم بالعجل هل تستقيمون على التوحيد او تضلون وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ الّذي وجودكم و توابعه اثر لرحمته و لا يصلح هذا العجل للرحمة فَاتَّبِعُونِي فى الثبات و الاستقامة على عبادة الرحمن وحده وَ أَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) فى ترك عبادة العجل الفاء للسببية فان ما قبلها سبب لما بعدها.

٩١

قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ اى لن نزال على العجل و عبادته عاكِفِينَ مقيمين حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) فاعتزلهم هارون في اثنى عشر الفا الذين لم يعبدوا العجل- فلما رجع موسى و سمع الصياح و الجلبة و كانوا يرقصون حول العجل. قال السبعون الذين معه هذا صوت الفتنة- فلما راى هارون أخذ رأسه بيمينه و لحيته بشماله و.

٩٢

قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) بعبادة العجل.

٩٣

أَلَّا تَتَّبِعَنِ قيل وضع منع موضع دعا مجازا لوجود التعلق بين الصارف عن الشي ء و الداعي الى تركه- و قال الجمهور لا مزيده و المعنى ما منعك من ان تتبعنى اى تتبع امرى و وصيتي في القيام على دعوة الخلق الى التوحيد و منعهم عن الشرك باللسان و السنان- و قيل معناه ما منعك من ان تأتي عقبى و تخبرني بما فعلوا- فيكون مفارقتك إياهم زجرا لهم عما فعلوا- اثبت ابن كثير الياء ساكنة في لا تتّبعنى في الحالين و نافع و ابو عمر و اثبتاها وصلا فقط و الباقون يحذفونها في الحالين أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) الاستفهام للانكار و الجملة معطوفة على محذوف تقديره أ رضيت بما فعلوا و أقمت فيهم فعصيت اى خالفت امرى.

٩٤

لَ يَا بْنَ أُمَ خص ذكر الام استعطافا و ترقيقا و قيل لانه كان أخاه من الام و الجمهور على انهما كان عن اب و أم تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي قرا نافع و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها- اى بشعور رأسى و كان يجره اليه من شدة غيظه و فرط و ابو جعفر- ابو محمد غضبه اللّه نِّي خَشِيتُ علة المنهي يعنى لو أنكرت عليهم بالقتال لصاروا أحزابا يتقاتلون نْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) اى لم تحفظ وصيتي الّتي قلت لك اخلفني في قومى و أصلح- فانه يدل على الرفق إذا الإصلاح ينافى اراقة الدعاء ثم اقبل موسى على السامرىّ و.

٩٥

قالَ فَما خَطْبُكَ

قال البيضاوي مصدر من خطب الشي ء يخطبه إذا طلبه يعنى ما طلبك اى مطلوبك بهذا الفعل يعنى غرضك الّذي حملك عليه و في النهاية ما خطبك اى ما شأنك و حالك و الخطب الأمر الّذي يقع فيه المخاطبة و الشأن و الحال- و في القاموس الخطب الشان و الأمر عظم او صغر يا سامِرِيُّ (٩٥)

٩٦

قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ قرأ حمزة و الكسائي بالتاء على الخطاب و الباقون بالياء على الغيبة. فَقَبَضْتُ قَبْضَةً و هو المرة من القبض اطلق على المقبوض اى من تراب قبضت مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ اى من اثر فرس جبرئيل عليه السلام فَنَبَذْتُها اى ألقيتها في فم العجل- قال بعضهم انما خاد لكون التراب ماخوذا من حافر فرس جبرئيل و انما عرفه لان امه لمّا ولدته (فى السنة الّتي كان فرعون يقتل فيها البنين من بنى إسرائيل) وضعته في الكهف حذرا عليه فبعث اللّه جبرئيل ليربيه لما قضى على يديه من الفتنة- فكان جبرئيل يغدوه حتى استقل وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي اى زيّنت و حسّنت لى نَفْسِي (٩٦) ان افعله ففعلته.

٩٧

قالَ له موسى فَاذْهَبْ اى ان فعلت ذلك فاذهب من عندى فَإِنَّ لَكَ الفاء للسببية يعنى اذهب لان لك فِي الْحَياةِ الدنيا مادمت حيّا عقوبة من اللّه على ما فعلت أَنْ تَقُولَ لكل من رايته لا مِساسَ علم للمسة كفجار يعنى لا تمسنى و لا تقربنى. قلت لعل ذلك لاجل وحشة القى اللّه تعالى في قلبه فكان لا يستانس من أحد و قيل كان إذا مس أحدا او مسه أحد حمّا جميعا و لذلك كان يقول ذلك- فكان في البرية طريدا وحيدا كالوحشى النافر حتى مات- و

قال البغوي امر موسى بنى إسرائيل ان لا يخالطوه و لا يقربوه فقال ابن عباس لامساس لك و لولدك وَ إِنَّ لَكَ يا سامرىّ مَوْعِداً من اللّه بعذاب الاخرة لَنْ تُخْلَفَهُ قرأ ابن كثير و ابو عمرو و يعقوب بكسر اللام على البناء للفاعل اى لن تغيب و لا مذهب لك عنه بل توافيه يوم القيامة و جاز ان يكون من أخلفت الموعد إذ وجدته خلفا.

و قرا الآخرون بفتح اللام اى لن يخلفك اللّه إياه وَ انْظُرْ إِلى إِلهِكَ اى ما زعمته الها بالباطل الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً اى ظلمت و دمت عليه مقيما فحذفت اللام الاولى تخفيفا لَنُحَرِّقَنَّهُ بالنار او بالمبرد على انه مبالغة في حرق إذا برد بالمبرد

و قرا ابو جعفر بالتخفيف من من الإحراق ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ اى لنذرينه رمادا او مبرودا فِي الْيَمِّ اى البحر نَسْفاً (٩٧) فلا بصادف منه شي ء ففعل موسى ذلك لاظهار غباوة المفتتنين به لمن له ادنى نظر.

٩٨

إِنَّما إِلهُكُمُ المستحق لعبادتكم اللّه الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا أحد يماثله او يدانيه في كمال العلم و القدرة وَسِعَ كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً (٩٨) تميز عن النسبة يعنى وسع علمه كل شى لا العجل الّذي يصاغ و يحرق و ان كان حيّا في نفسه كان مثلا في الغباوة.

٩٩

كَذلِكَ صفة لمصدر محذوف لقوله نَقُصُّ عَلَيْكَ يعنى نقض عليك اقتصاصا مثل اقتصاصنا قصة موسى مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ اى من اخبار الأمور السابقة و الأمم الماضية تبصرة لك و زيادة في علمك و تكثيرا لمعجزاتك و تنبيها للمستبصرين من أمتك وَ قَدْ آتَيْناكَ حال من فاعل نقص مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) اى قرانا مشتملا على هذه الأقاصيص و الاخبار حقيقا بالتفكر و الاعتبار و التنكير فيه للتعظيم و قيل معناه قد أعطيناك من لدنا ذكرا جميلا و صيتا عظيما بين الناس- او المعنى جعلنا ذكرك مقرونا بذكرى في الاذان و الاقامة و التشهد و غير ذلك.

١٠٠

مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ صفة لذكرا او مستانفة يعنى من اعرض عن القران فلم يومن به و لم يعمل بما فيه او عن ذكرك و قيل عن اللّه فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) اى حملا ثقيلا من الذنوب و قد مر في سورة مريم في تفسير قوله تعالى يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً ما اخرج ابن ابى حاتم عن عمرو بن قيس الملائى و فيه ان الكافر استقبله عمله القبيح في أقبح صورة و أنتن ريح فيقول ا فلا تعرفنى قال لا الا ان اللّه قبح صورتك و أنتن ريحك فيقول كذلك كنت في الدنيا انا عملك السي ء طال ما ركبتنى و انا أركبك اليوم و تلا و هم يحملون أوزارهم على ظهورهم- او المعنى يحمل عقوبة ثقيلة سماها وزرا تشبيها في ثقلها على المعاقب و صعوبة احتمالها بالحمل الّذي يقدح الحامل و ينقض ظهره.

١٠١

خالِدِينَ فِيهِ اى جزاء الوزر او في حمله حال من فاعل يحمل- و الجمع فيه و التوحيد في يحمل نظرا الى معنى من و لفظها وَ ساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا (١٠١) تميز عن ضمير مبهم في ساء و المخصوص بالضم محذوف اى ساء حملا وزرهم و اللام في لهم للبيان- و جاز ان يكون معنى الاية انه يحمل على عاتقه ما أخذ من عرض الدنيا بغير حق قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يأخذ أحدكم شيئا بغير حقه الا لقى اللّه يحمله يوم القيامة فلا اعرفن أحدا منكم لقى اللّه يحمل بعيرا له رغاء و بقرة له خوار و شاة يتّعر- رواه الشيخان في الصحيحين في حديث عن ابى حميد الساعدي في أخذ العامل شيئا من الصدقات و عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من ظلم قدر شبر من ارض طوقه يوم القيمة من سبع ارضين-

و اخرج الطبراني عن الحكم بن الحارث السلمى قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من أخذ من طريق المسلمين شبرا جاء به يحمله من سبع ارضين.

و اخرج احمد و الطبراني عن يعلى بن مرة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول أيما رجل ظلم شبرا من الأرض كلف اللّه ان يحفره حتى يبلغ اخر سبع ارضين ثم يطوقه يوم القيامة حتى يقضى بين الناس-

و اخرج الطبراني عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من ظلم شبرا من الأرض جاء يوم القيامة مطوّتا من سبع ارضين- و كذا اخرج احمد و الطبراني عن ابى مالك الأشعري

و اخرج احمد و الشيخان عن ابى هريرة قال قام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فعظم الغلول و امره ثم قال ألا لا الفين أحدكم يجى ء يوم القيامة على رقبته بعيرته رغاء فيقول يا رسول اللّه أعنّي أقول لا املك لك من اللّه شيئا قد أبلغتك- فذكر الحديث نحوه و فيه على رقبته فرس لها حمجة على رقبته شاة لها شفاء على رقبته

و اخرج ابو يعلى و البزار عن عمر ابن الخطاب نحوه- و كذا ورد في سعاة الصدقة إذ اغلوّا منها حديث سعد بن عبارة و هلب عند احمد و حديث ابن عمرو عائشة عند البزار و ابن عباس و عبادة بن الصامت و ابن مسعود عند الطبراني

و اخرج الطبراني و ابو نعيم في الحلية بسند ضعيف عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من بنى بناء فوق ما يكفيه كلف ان يحمله على عاتقه

و اخرج ابو داود و ابن ماجة و الطبراني بسند جيد عن انس ان النبي صلى اللّه عليه و سلم مرّ بقبة لرجل من الأنصار فقال كل بناء اكثر من هذا (و أشار بيده على راسه) فهو و بال على صاحبه يوم القيامة فبلغ صاحب القبة فهدمها-

و اخرج الطبراني نحوه من حديث واسلة بن الأسقع قال المندرى و له شواهد

و اخرج الطبراني في الأوسط عن ابن مسعود ان النبي صلى اللّه عليه و سلم مر على بئر يسقى عليها فقال ان صاحب هذا البئر يحملها يوم القيمة ان لم يؤد حقها-.

١٠٢

يَوْمَ يُنْفَخُ قرأ ابو عمرو بالنون المفتوحة و ضم الفاء على صيغة المتكلم المعروف- و الباقون بالياء المضمومة و فتح الفاء على صيغة الغائب المجهول فِي الصُّورِ عن ابن عمران اعرابيّا سال النبي صلى اللّه عليه و سلم عن الصور فقال قرن ينفخ فيه رواه ابو داود و الترمذي و حسنه النسائي و ابن حبان و الحاكم و صححه و البيهقي و ابن المبارك و كذا اخرج مسدد عن ابن مسعود وَ نَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) حال من المجرمين اى زرق العيون و الزرقة هى الخضرة في سواد العين وصفهم بذلك لانه أسوأ ألوان العين و أبغضها الى العرب- لان الروم كانوا اعداء أعدائهم و هم كانوا زرق العيون فيحشر الكافر زرق العيون سود الوجوه و قيل المراد بقوله زرقا عميا لان حدقة الأعمى تزرق- و هذا التأويل يوافق قوله تعالى وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى - و قيل المراد عطاشا.

١٠٣

يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ حال من المجرمين او مستانفة يتكلمون بينهم خفية لما ملا صدورهم من الرعب و الهول إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً (١٠٣) مفعول ليتخافتون يعنى يتكلمون سرّا ما لبثتم في الدنيا زمانا الا عشر ليال يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا لزوالها او لاستطالتهم مدة الاخرة او لتاسّفهم عليها لما عاينوا الشدائد و علموا انهم استحقوها على اضاعتها في قضاء الأوطار و اتباع الشهوات- و قيل ما لبثتم في القبور الا عشرا- و قيل بين النفختين و هو أربعون سنة لان العذاب يرفع عنهم بين النفختين و جاز ان تكون جملة ان لبثتم بتقدير يقولون عطف بيان او بدلا من يتخافتون او خالا من فاعله.

١٠٤

نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ فيه جملة معترضة يعنى ليس الأمر كما قالوا إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً اى أوفاهم عقلا و اعدلهم قولا او عملا إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً (١٠٤) رحج اللّه تعالى قول هذا القائل لكون مدة عمر الدنيا بالنسبة الى طول الاخرة او لوجوه اخر اقل من نسبة عشر ليال الى عمر الدنيا و اللّه اعلم-

قال البغوي قال ابن عباس سأل رجل من ثقيف رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال كيف تكون الجبال يوم القيمة فانزل اللّه.

١٠٥

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ

و اخرج ابن المنذر عن ابن جريح قال قلت قريش كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيمة فانزل اللّه تعالى فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) و قيل لم يسئل و التقدير و ان سالوك فقل و لذلك جئ بالفاء بخلاف سائر الاجوبة حيث قال يسئلونك عن المحيض قل هو أذى- يسئلونك عن الخمر و الميسر قل فيهما اثم كبير- يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال للّه و غير ذلك و السّف القلع اى يقلعها من أصلها و يفتتها و يجعلها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح.

١٠٦

فَيَذَرُها اى يذر مقارها او الأرض و اضمارها من غير ذكرها لدلالة الجبال عليها قاعاً فى القاموس اى أرضا سهلا مطمئنة قد انفرجت عنها الجبال و الآكام صَفْصَفاً (١٠٦) فى القاموس اى مستويا يعنى كان اجزاؤها على صف واحد.

١٠٧

لا تَرى فِيها عِوَجاً اى اعوجاجا وَ لا أَمْتاً (١٠٧) اى لانتوا ان تأملت فيها بالمقياس الهندي ثلاثتها احوال مرتبة فالاولان باعتبار الاحساس و الثالث باعتبار المقياس- قيل لا ترى استيناف مبين للحالين قال مجاهد اى لا ترى انخفاضا و لا ارتفاعا قال الحسن العوج ما انخفض من الأرض و الامت ما نشر من الروابي.

١٠٨

يَوْمَئِذٍ اى يوم إذا نسفت على اضافة اليوم الى وقت النسف ظرف لقوله يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ جملة مستأنفة او بدل ثان من يوم القيمة اى يتبعون صوت الداعي الّذي يدعوهم الى المحشر و هو اسرافيل عليه السلام يدعو الناس قائما على صخرة بيت المقدس فيقول يا ايها العظام النخرة و الجلود المتمزّقة و الاشعار المنقطعة ان اللّه يأمرك ان تجمعى لفصل الخطاب كذا اخرج ابن عساكر عن زيد بن جابر الشافعي لا عِوَجَ لَهُ اى لا يعوج له مدعوّ و لا يعدل عنه اى لاعوج لدعائه و هو من المقلوب اى لا يعوج له مدعو و لا يعدل عنه يمينا و شمالا اى لا يقدرون على العدول عنه بل يتبعونه سراعا وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ اى خضعت يعنى تخضع لمهابة الرّحمن حال من فاعل يتبعون بتقدير قد او عطف على يتبعون يعني و تخشع الأصوات للرحمن فَلا تَسْمَعُ الفاء للسببية و الخطاب لمخاطب غير معين إِلَّا هَمْساً (١٠٨) اى صوتا خفيّا كصوت اخفاف الإبل في المشى

قال البغوي قال مجاهد هو تخافت الكلام و خفض الصوت و روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال تحريك الشفاه من غير منطق-

و اخرج ابن ابى حاتم من طريق ابى طلحة عن ابن عباس قاعا مستويّا صفصفا لا نبات فيه عوجا واديا امتا رابية و خشعت الأصوات سكنت همسا الصوت الخفي

و اخرج من وجه اخر عنه قال أرضا مبلساء لا ترى فيها ابنية مرتفعة و لا انخفاضا

و اخرج من وجه اخر عنه قال همسا صوت و طى الاقدام يعنى صوت أقدام الناس إذا نقلوا الى المحشر.

١٠٩

يَوْمَئِذٍ اى يوم إذا كان كذلك لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ جملة مستانفة اى لا تنفع شفاعة أحد أحدا إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ الاستثناء من الشفاعة اى الا شفاعة من اذن له الرّحمن او من أعم المفاعيل اى الا من اذن الرحمن في ان يشفع له فان الشفاعة تنفعه له فمن على الاول مرفوع على البدلية و على الثاني منصوب على انه المفعول له وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا (١٠٩) و رضى لمكانه عند اللّه قوله في الشفاعة او رضى له قول الشافع في شأنه او قوله لاجله و في شأنه- قال ابن عباس يعنى قال لا اله الا اللّه-

قلت هذا تفسير لمن تنفع شفاعة الشافعين له.

١١٠

يَعْلَمُ اى الرحمن ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ اى ما بين أيدي الشافعين و مشفوعين لهم وَ ما خَلْفَهُمْ يعنى ما تقدم من أحوالهم في الدنيا و في القبور و ما يستقبلونه في الاخرة و الجملة حال من الرحمن وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) تميز من النسبة اى لا يحيط علمهم بمعلوماته تعالى و قيل بذاته و قيل الضمير لاحد الموصولين او لمجموعهما فانهم لم يعلموا جميع علومه تعالى-.

١١١

وَ عَنَتِ اى ذلت و خضعت خضوع العناة- و هم الأسارى في يد الملك القهار عنى يعنى عناء نصب و تعناه تحشمها

قال البغوي و منه العاني للاسير الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الّذي لا يموت و يصلح له فان كلمّا كان حياته جائز الزوال فهو ميت في حد ذاته الْقَيُّومِ القائم على كل نفس بما كسبت و القائم بتدبير الخلق- و المراد بالوجوه أصحابها و ظاهرها العموم و يجوز ان يراد بها وجوه المجرمين فيكون اللام بدل الاضافة و يؤيد قوله تعالى وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) اى شركا قال ابن عباس خسر من أشرك باللّه- و الجملة معترضة او مستأنفة لبيان ما لاجله عنت وجوههم. و يحتمل ان يكون حالا من الوجوه- و قال طلق بن حبيب المراد بالعناء السجود للحى القيوم-

قلت و على هذا معنى الاية سجدت الوجوه للحى القيوم و قد خاب من الشرك و لم يسجد له- و جملة عنت الوجوه معطوفة على خشعت او حال من فاعله بتقدير قد.

١١٢

وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ شرط و كلمة من للتبعيض اى بعض الصالحات يعنى الفرائض منها و جاز ان يكون من للابتداء و التقدير و من يعمل عملا كائنا من النيات الصالحات وَ هُوَ مُؤْمِنٌ حال من الضمير المرفوع في يعمل يعنى ان الايمان شرط لصحة الطاعات و قبول الخيرات فَلا يَخافُ جزاء للشرط قرا ابن كثير فلا يخف بالجزم و الظاهر انه مجذوم على انه جزاء للشرط- و

قال البيضاوي و غيره مجزوم على النهى-

و قرا الجمهور فلا يخاف بالرفع اما بناء على انه تعليل لجزاء محذوف و الفاء للسببية تقديره من يعمل من الصّلحت و هو مؤمن يفلح لانه لا يخاف- و اما خبر لمبتدأ محذوف و الجملة الاسمية جزاء للشرط تقديره فهو لا يخاف ظُلْماً اى لا يخاف ان يراد على سيأته وَ لا هَضْماً (١١٢) ان ينقض من ثواب حسناته كذا قال ابن عباس و قال الحسن لا ينقص من ثواب حسناته و لا تحمل عليه ذنب مسئ- و قال الضحاك لا يوخذ بذنب من لم يعمله او لا يبطل حسنة عملها- و اصل الهضم النقص و الكسر و منه هضم الطعام- و الجملة الشرطية معطوفة على عنت الوجوه-.

١١٣

وَ كَذلِكَ عطف على قوله و كذلك نقصّ عليك صفة لمصدر محذوف منصوب بقوله أَنْزَلْناهُ الضمير المنصوب راجع الى القران يعنى كما قصصنا عليك أبناء السلف من الأمم الماضية أنزلنا عليك القران انزالا مثل ذلك الانزال في كونه ممّن خلق الأرض و السّموات العلى و في كونه متضمنا للوعد و الوعيد حال كونه قُرْآناً عَرَبِيًّا مقروّا بلسان العرب كله على و تيرة واحدة و اسلوب بديع معجز وَ صَرَّفْنا اى كررنا فِيهِ مِنَ آيات الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ اى لكى يجتنبوا للشرك و المعاصي فيصيرا التقوى ملكة لهم أَوْ يُحْدِثُ ذلك القرآن لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) عظة و اعتبارا ما حين يسمعونه فيمنعم عن المعاصي و لو في الجملة- و لهذه النكتة أسند التقوى إليهم لكون التقوى ملكة لهم و الأحداث الى القران- و نسبة الأحداث الى القران مجاز من قبيل الاسناد الى السبب و المعنى يحدث اللّه لهم بسبب القرآن ذكرا- و قيل كلمة او بمعنى الواو.

١١٤

فَتَعالَى اللّه فيه التفات من التكلم الى الغيبة و الفاء للسببية يعنى جل اللّه و علا من ان تماثل كلامه كلام غيره كما لا يماثل هو في ذاته و في شي ء من صفاته أحدا من خلقه فهو متعال عما يقول فيه المشركون-

قلت بل هو متعال ايضا عما يصفه الواصفون الكاملون- اللّهم لا احصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك على ما أردت الْمَلِكُ النافذ امره و نهيه القديم سلطانه العظيم العميم قهرمانه الْحَقُّ الثابت وجوده و صفاته و ملكوته باقتضاء ذاته لا يحتمل الفساد و الزوال وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ اى بقراءته مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ قرأ يعقوب تقضى بالنون المفتوحة و كسر الضاد و فتح الياء على صيغة التعظيم و البناء للفاعل و وحيه بالنصب على المفعولية. و الباقون بضم الياء و فتح الضاد على صيغة الغائب المبنى للمفعول و وحيه بالرفع مسندا اليه. نهى عن الاستعجال بقراءة القران قبل ان يفرغ جبرئيل من الإبلاغ- مثل قوله تعالى لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ -

و قال مجاهد و قتادة معناه لا تقرئه أصحابك و لا تمله عليهم حتى يتبين لك معانيه- فهى نهى عن تبلغ ما أجمل قبل ان يأتى بيانه وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤) يعنى الى ما علمتنى سل زيادة العلم بدل الاستعجال- فان ما اوحى إليك تناله لا محالة-.

١١٥

وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ و اللام جواب قسم مقدر يعنى و اللّه لقد أمرنا آدم و وصينا اليه ان لا يأكل من الشجرة- يقال عهد اليه اى أوصاه كذا في القاموس مِنْ قَبْلُ اى من قبل هذا فَنَسِيَ العهد او المعنى فترك ما امر به من الاحتراز عن الشجرة وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) اى جدّا على حفظ ما امر به او صبرا عما نهى عنه و العزم في اللغة عقد القلب على إمضاء الأمر- و منه فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه- و لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ- و إِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ- و في القاموس عزم عليه و يعرّم أراد فعله و قطع عليه أو جدّ في الأمر- و في النهاية العزم الجدّ و الصّبر-

قلت عقد القلب على إمضاء الأمر يستلزم الجدّ في إتيانه و الصبر على مشاقه- و قيل معنى الاية لم نجد له عزما اى قصدا على كل الشجرة بل أكل ناسيا «١»- يعنى لم يكن له عقد قلب على إمضاء المعصية- و لم نجد ان كان من افعال القلوب بمعنى العلم فله عزما مفعولاه- و ان كان من الوجود ضد العدم فعزما مفعول و له حال فيه- او ظرف لغو متعلق بلم نجد- و جملة لقد عهدنا

(١) قال ابن زيد نسى عداوة إبليس و ما عهد اللّه اليه من ذلك بقوله انّ هذا عدوّ لك و لزوجك- قال القاضي في الشفاء ان اللّه اخبر بعذره بقوله و لقد عهدنا الى آدم من قبل فنسى و لم نجد له عزما- منه رح.

قال صاحب الكشاف و البيضاوي و غيرهما انها معطوفة على قوله تعالى وَ صَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ- يعنى نقض العهد بعد تصريف الوعيد لهؤلاء ليس امرا مبدعا منهم بل أساس بناء آدم على العصيان و عرقهم راسخ فيه النسيان حيث عهدنا الى آدم من قبل فنسى- روى الترمذي عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لما خلق اللّه آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته الى يوم القيمة- و جعل بين عينى كل انسان منهم و بيضا من نور ثم عرضهم على آدم فقال اى رب من هؤلاء قال ذريتك فراى رجلا منهم فاعجبه- و بيض ما بين عينيه قال اى رب من هذا قال داود فقال اى ربّ كم جعلت عمره قال ستين سنة قال رب زده من عمرى أربعين سنة- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فلما انقضى عمر آدم الا أربعين جاءه ملك الموت فقال آدم ا و لم يبق من عمرى أربعين سنة قال ا و لم تعطها ابنك داود فجحد آدم فجحدت ذريته و نسى آدم فاكل من الشجرة فنسيت ذريته و خطا فخطات ذريته- و قال بعض المحققين هذا ليس بسديد لان قوله تعالى صرّفنا يتعلق به كذلك و هو معطوف على قوله و كذلك نقصّ عليك- و ذلك اشارة الى حديث موسى- و قصة آدم عليه السلام في النسيان و مخالفة الأمر ليس مشابها بحديث موسى عليه السلام بل هو معطوف على قوله تعالى و هل اتيك حديث موسى لانه بمعنى قد أتاك و قصة آدم من القصص الماضية و اللّه اعلم-.

١١٦

وَ اذكر إِذْ

قُلْنا اى اذكر حاله في ذلك الوقت ليتبين لك انه نسى- و هذه الجملة معطوفة على قوله تعالى لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ- لكنه يشكل بان هذه الجملة بتقدير اذكر انشائية و جملة لقد عهدنا خبرية فلا يصلح العطف الّا ان يقال هذا مقدر بنقول يعنى و نقول اذكر إذ

قلنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ سبق القول فيه أَبى (١١٦) ان يسجد جملة مؤكدة لما سبق من الكلام- و جاز ان تكون هذه الجملة تعليلا للاستثناء و حينئذ لا يجوز ان يقدر له مفعول و الا لزم تعليل الشي ء بنفسه بل يجرى الإباء مجرى الفعل اللازم و يكون معناه اظهر الإباء عن المطاوعة.

١١٧

فَقُلْنا لادم و هذه الجملة معطوفة على جملة مقدرة يعنى فادخلنا آدم الجنة فقلنا له يا آدَمُ إِنَّ هذا يعنى إبليس عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ نهى في اللفظ لابليس و في المعنى نهى لهما ان يتبعاه اى لاتتبعاه فيتسبب إبليس لاخراجكما من الجنة حيث يخرجكما اللّه تعالى منها بسبب اتباعه و عصيان ربكم- و الفاء للسببية إذ العداوة سبب لعدم للاتباع المنهي عنه معنى فَتَشْقى (١١٧) منصوب بعدا الفاء في جواب النهى اى فتتعب و تنصب و يكون عيشك في كدّ يمينك و عرق جبينك يعنى الحرث و الذرع و الحصد و الطحن و الخبز

قال البغوي روى عن سعيد ابن جبير انه اهبط الى آدم ثور احمر فكان يحرث عليه و يمسح العرق عرجبينه فذلك شقاؤه و افراد الضمير بعد اشراكها في الخروج محافظة للرؤس الاى و اكتفاء باستلزام شقائه شقاءها من حيث انه قيم عليها او لان المراد بالشقاء التعب في طلب المعاش و ذلك وظيفة الرجال و يؤيد قوله تعالى.

١١٨

إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها اى في الجنة وَ لا تَعْرى (١١٨).

١١٩

وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا اى لا تعطش فِيها وَ لا تَضْحى (١١٩) اى لا تبرز للشمس فيوذيك- قال عكرمة لا يصيبك و الشمس و أذاها لانه ليس في الجنة شمس و أهلها في ظل ممدود- فانه بيان و تذكر لما له في الجنة من اسباب الكفاية و اقطاب الكفاف الّتي هى الشبع و الري و الكسوة و الكنّ مستغنيا عن اكتسابها و السعى في تحصيل اعراضها قرا نافع و ابو عمرو انك بكسر الهمزة عطفا على ان لك و الباقون بفتح الهمزة عطفا على ان لا تجوع- و العاطف و ان ناب عن انّ لكنه ناب من حيث انه حرف عامل لا من حيث انه حرف تحقيق فلا يمتنع دخوله على انّ كما امتنع دخول انّ عليه- او يقال لا يجوز دخول انّ على انّ من غير فصل و اما مع الفصل كما في هذه الاية فيجوز يقال انّ في علمى انك قائم و انما عظامك علىّ واجب-.

١٢٠

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ فانهى اليه وسوسته قالَ يا آدَمُ بيان للوسوسة هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ اى الشجرة الّتي من أكل منها خلد و لم يمت أصلا- أضافها الى الخلد و هو الخلود لكونه سببه يزعمه وَ مُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) اى لا يزول و لا يضعف.

١٢١

فَأَكَلا يعنى آدم و حواء منها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما اى أخذ يلزقان على سوء آلتهما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ للتستر و هو ورق التين وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ بأكل الشجرة فَغَوى (١٢١) يعنى ضل عن المطلوب و أخطأ طريق الحق و خاب حيث طلب الخلد بأكل الشجرة الّتي هى سبب لضده او عن المأمور به او عن الرشد حيث اغتر بقول العدوّ- و قال ابن الاعرابى اى فسد عليه عيت فار من العزّ الى الذّل و من الراحة الى التعب- قال ابن قتيبة يجوز ان يقال عصى آدم و لا يجوز ان يقال آدم عاص لانه يقال عاص لمن اعتاد فعل العصيان الا ترى انه من خاط ثوبه يقال خاط فلان و لا يقال فلان خياط حتى و يعاد ذلك و يعتاده روى مسلم عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم احتج آدم موسى عند ربهما فحج آدم موسى- قال موسى أنت آدم الّذي خلقك اللّه بيده و نفخ فيك من روحه و اسجد لك ملئكته و أسكنك في جنته ثم أهبطت الناس بخطيئتك الى الأرض- قال آدم أنت موسى الّذي اصطفاك اللّه سبحانه برسالته و بكلامه و اعطاك الألواح فيها تبيان كل شي ء و قربك نجيّا فيكم وجدت اللّه كتب التوراة قبل ان اخلق- قال موسى بأربعين عامّا قال آدم هل وجدت فيها و عصى آدم ربّه فغوى قال نعم قال أ فتلومني على ان عملت عملا كتبه اللّه علىّ ان أعمله قبل ان يخلقنى بأربعين سنة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فحج آدم موسى و رواه البغوي بلفظ قال موسى يا آدم أنت أبونا فاخرجتنا من الجنة- فقال آدم يا موسى اصطفاك اللّه بكلامه و خط لك التوراة بيده تلومنى على امر قدّره اللّه علىّ قبل ان خلقنى بأربعين سنة فحج آدم موسى فحج آدم موسى فحج آدم موسى

فان قيل إن كان المراد بقوله نسى انه نسى العهد و فعل ما فعل فكيف ورد في حقه عصى فان الإنسان رفع عنه النسيان-

قلنا اما ان يكون رفع النسيان مختصا بهذه الامة كما يدل عليه قوله صلى اللّه عليه و سلم رفع عن أمتي الخطأ.

و النسيان و ما استكرهوا عليه- رواه الطبراني عن ثوان و عن ابن عمر حيث لم يقل رفع مطلقا كما قال في المجنون و شبهه رفع القلم عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ و عن النائم حتى يستقيظ و عن الصبى حتى يحتلم- كما ذكرنا في سورة البقر في تفسير قوله تعالى رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ان الاية تدل على المؤاخذة على الخطاء و النسيان لم تكن ممتنعا عقلا فان الذنوب كالسموم فكما ان تناول السموم عمدا كان او خطأ يفضى الى الهلاك كذلك الذنوب يفضى الى العقاب لو لم يغفرها اللّه و ان كان بغير عزم- و قال الكلبي كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا مما أمروا به او أخطئوا عجلت عليهم العقوبة فحرم عليهم من مطعوم او مشروب على حسب ذلك الذنب-

قلت فلذلك حرم على آدم عليه السلام مطاعم الجنة و مشاربها- و اما ان ان يقال ان حسنات الأبرار سيئات المقربين فالخطاء و النسيان إن كان مرفوعا عن الإنسان لا يواخذ بهما في الاخرة بالنار لكن الخواص من الناس لعلو درجتهم مؤاخذون بهما و بما هو ترك الاولى و الأفضل لا بالنار في الاخرة بل بالغين على القلوب في الدنيا و الهجران من المعاملات قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انه ليغان على قلبى و انى لاستغفر اللّه في اليوم مائدة مرة- رواه مسلم و احمد و ابو داود و النسائي من حديث الأعز المزلّى- قال صاحب المدارك الأنبياء ماخوذون بالنسيان الّذي لو تكلفوا حفظوا (فائده) و من هاهنا قال بعض العلماء يجوز صدور الصغيرة من الأنبياء قبل النبوة-.

١٢٢

ثُمَّ «١» اجْتَباهُ رَبُّهُ اى اصطفاه و قربه بالحمل على التوبة و اصل الكلمة للجمع يقال جبى الخراج جباية و الاجتباء افتعال منه فمعناه الاقتراب و يلزمه الاصطفاء فَتابَ عَلَيْهِ اى رجع عليه بالرحمة و العفو وَ هَدى (١٢٢) اى هداه الى التوبة حق قال ربّنا ظلمنا أنفسنا الاية- و الى مراتب القرب.

(١) كلمة ثم تدل على ان الاجتباء بالنبوة كان بعد ذلك مصدور المعصية بالنسيان كان قبل النبي لا ١٢ منه ع.

١٢٣

قالَ اللّه جملة مستأنفة اهْبِطا مِنْها اى من الجنة خطاب لادم و حوا و لما كان هبوطهما مستلزم لهبوط ذريتهما «٢» فهو خطاب لذريتهما تبعا و لذلك أكد بقوله جَمِيعاً و أورد ضمير الجمع في قوله بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ اى لبعضكم عَدُوٌّ عداوة دنيوية و دينية فَإِمَّا ما زائدة للتأكيد أدغمت فيه «٣» نون ان الشرطية يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً اى كتاب و رسول فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى (١٢٣)

قال البغوي روى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال من قرا القران و اتبع ما فيه هداه اللّه في الدنيا من الضلالة و وقاه يوم القيمة سوء الحساب- و ذلك بان اللّه يقول فمن اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى و قال الشعبي عن ابن عباس أجار اللّه تابع القران من ان يضل في الدنيا و يشقى في الاخرة

و قرا هذه الاية.

(٢) و في الأصل ذريته- ١٢ ابو محمد.

(٣) و في الأصل في نون ان الشرطية ١٢- ابو محمد.

١٢٤

وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي يعنى عن الهدى الذاكر لى و الداعي الى عبادتى- فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً اى ضيقا مصدر وصف به للمبالغة و لذلك يستوى فيه المذكر و المؤنث-

قال البغوي عن ابن مسعود و ابى هريرة و ابى سعيد الخدري انهم قالوا هو عذاب القبر-

و اخرج البن ربسند جيد عن ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم فانّه له معيشة ضنكا قال عذاب القبر- قال ابو سعيد يضغط حتى يختلف أضلاعه- و في بعض المسانيد مرفوعا يلتأم عليه القبر حتى يختلف أضلاعه فلا يزال يعذب حتى يبعث- و هو في سنن الترمذي من حديث ابى هريرة و قال الحسن هو الزقوم و الزريع و الغسلين في النار- و قال عكرمة هو الحرام و قال الضحاك الكسب الخبيث- و عن ابن عباس قال الشقاء-

قلت و انما اطلق الضنك على الحرام و الكسب الخبيث و الشقاء لكونها مفضية الى ضيق المقام في القبر او النار قال اللّه تعالى في اهل النار إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ- و روى عن ابن عباس انه قال كل مال اعطى العبد قل او كثر فلم يتق فيه فلا خير فيه و هو الضنك في المعيشة و ان قوما اعرضوا عن الحق و كانوا اولى سعة من الدنيا مكثّرين فكانت معيشتهم ضنكا و ذلك انهم يرون اللّه ليس بمخلف عليهم معائشهم من سوء ظنهم باللّه عزّ و جلّ- و قال سعيد بن جبير معناه نسلبه القناعة حتى لا يشبع- و حاصل هذين القولين ان من اعرض عن ذكر اللّه كان مجامعا همه و مطامح نظره الى اعراض الدنيا متهالكا على ازديادها خائفا على انتقاصها- بخلاف المؤمن الطالب للاخرة فانه قانع على ما أعطاه اللّه شاكر عليه متوكل على اللّه فتكون حياته في الدنيا طيبة-

قلت و على هذا التأويل ليس المراد بمن اعرض عن ذكر اللّه الكافر المعرض عن الايمان بل المعرض عن الإكثار ذكر اللّه فان عامة المؤمنين منهمكون في طلب الدنيا خائفون على انتقاصها فمن اعرض عن إكثار ذكر اللّه و جعل همته في اعراض الدنيا اظلم عليه وقته و تشويش عليه رزقه-

فان قيل ان كان تعب الرجل في دار الدنيا معيشة ضنكا- فذلك غير مختص بالكفار و الفساق بل موجود في الأنبياء و الصلحاء أشد البلاء- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالامثل يبتلى الرجل على حسب دينه- فان كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه و ان كان في دينه رقة ابتلى على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض و ما عليه خطيئة- رواه احمد و البخاري في الصحيح و الترمذي و ابن ماجة عن سعد و الطبراني عن اخت حذيفة نحوه و البخاري في التاريخ عن ازواج النبي صلى اللّه عليه و سلم بسند حسن بلفظ أشد الناس بلاء في الدنيا نبىّ او صفى-

قلت الجواب عندى بوجهين أحدهما انه ليس المراد بالآية ان ضيق المعيشة مختص بالكفار بل هذه الاية نظيرة لقوله تعالى نمتّعه «١» قليلا ثمّ نضطرّه الى عذاب النّار فالمعنى انه من اعرض عن ذكرى نعطيه في الدنيا معيشة قليلة فان متاع الدنيا قليل كله نعطيه أياما معدودة في نوع من الضيق ثم نحشره يوم القيامة أعمى- ثانيهما ان معيشة الدنيا لا يخلو لاحد من المؤمن و الكافر عن تعب و بلاء- قال اللّه يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ اى الى لقائه غير ان ذلك التعب للمؤمن موجب لمحو الخطيات او رفع الدرجات كما يدل عليه الحديث المذكور فهو و ان كان ضيق صورة لكنه فرج معنى و سبب لانشراح صدره باطنا بخلاف الكافر فان ضيقه و تعبه أنموذج لعذابه المعد له في الاخرة- ثم إذا صح للعبد المؤمن حب مع اللّه سبحانه فكل ما أصابه و وصله من اللّه تعالى يلتزبه و يفرح فان ضرب الحبيب زبيب- روى الحديث المذكور ابن ماجة و عبد الرزاق و الحاكم عن ابى سعيد الخدري رضى اللّه عنه بلفظ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أشد البلاء الأنبياء ثم الصالحون لقد كان أحدهم يبتلى الفقر حتى ما يجد الا العباءة يحويها و يلبسها و يبتلى بالقمل حتى يقتله- و لاحدهم أشد فرحا بالبلاء من أحدكم بالعطاء و اللّه اعلم وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قال ابن عباس أعمى البصر

و قال مجاهد أعمى عن الحجة- و يويد قول ابن عباس قوله تعالى.

(١) و في القران فامتّعه، قليلا ثمّ اضطرّه الى عذاب النّار- البقرة- نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ الى عذاب غليظ- لقمان- ابو محمد.

١٢٥

قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي قرأ نافع بفتح الياء و الباقون بإسكانها أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ في الدّنيا بَصِيراً (١٢٥) فانه لم يكن له في الدنيا حجة قال اللّه تعالى وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللّه إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ- و قال مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى - اخرج ابن ابى حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس ان رجلا ساله فقال ارايت قوله تعالى وَ نَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً و اخرى عميا- قال ان يوم القيامة يكونون في حال زرقا و في حال عميا.

١٢٦

قالَ كَذلِكَ متعلق بفعل محذوف اى فعلت أنت كذلك اشارة الى مبهم يفسر قوله أَتَتْكَ آياتُنا الدالة على الوحدانية او آياتنا المنزلة على الأنبياء فَنَسِيتَها فاعرضت عنها و تركتها غير منظور إليها كما يترك الأعمى وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) يعنى اليوم تترك في النار تركا مثل تركك إياها- و قيل التقدير الأمر كذلك و جملة اتتك في مقام التعليل.

١٢٧

وَ كَذلِكَ نَجْزِي اى نجزى جزاء مثل ذلك الجزاء مَنْ أَسْرَفَ يعنى أضاع عمره بالانهماك في الشهوات و الاعراض عن الآيات وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ بل كذبها و خالفها وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ في نار جهنم أَشَدُّ وَ أَبْقى (١٢٧) من ضنك العيش و العمى و هذه الجملة معطوفة على قوله تعالى وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً إلخ.

١٢٨

أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ الضمير المرفوع راجع الى الهدى و المراد منه الكتاب او الرسول- او الى اللّه تعالى الم ذكور في قوله تعالى وَ كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ و على هذا في الكلام التفات من التكلم الى الغيبة- و يؤيد هذا التأويل قرأة ا فلم نهدلهم بالنون على صيغة المتكلم- و المعنى ا و لم يهد لهم اللّه او القرآن او الرسول يعنى لكفار مكة- الاستفهام للانكار يعنى هداهم الى صراط مستقيم فاستحبوا العمى على الهدى و الفاء للتعقيب معطوف على محذوف تقديره الم يبين لهم فلم يهد لهم انكار لعدم الهداية بعد البيان لفظا و في المعنى انكار لعدم اهتدائهم بعد الهداية و قيل ا فلم يهد لهم معطوف على مضمون الكلام السابق فانه تعالى ذكر حال المؤمنين بقوله فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى و حال الكفار بقوله وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً فقال بين اللّه لهم فيما تلونا حال الفريقين الم يتبين لهم فلم يهد لهم- و قيل لم يهد مسند الى ما دل قوله تعالى كَمْ أَهْلَكْنا كم خبرية اى أهلكنا كثيرا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ اى أهلكنا القرون السابقة او مسند الى الجملة بمضمونها يعنى ا لم يهد لهم إهلاكنا القرون يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ حال من القرون يعنى أهلكناهم ماشّين في مساكنهم- او حال من الضمير المجرور في لهم على تقدير اسناد الفعل الى مضمون جملة كم أهلكنا يعنى أ فلم يهد لكفار مكة حال كونهم ماشين في مساكن القرون الماضية إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) اى لذوى العقول الناهية عن التغافل و التعامي-.

١٢٩

وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ و هى العدة بتأخير عذاب كفار هذه الامة الى يوم القيمة- و عدم استيصالهم في الدنيا لكون النبي صلى اللّه عليه و سلم رحمة للعالمين- و جملة سبقت صفة لكلمة و خبر المبتدا محذوف يعنى لو لا كلمة سبقت حاصلة لَكانَ إهلاكنا هؤلاء الكفار بمثل ما نزل بالقرون الخالية نم من عاد و ثمود و أشباههم لِزاماً اى ملازما لهؤلاء الكفار غير منفك عنهم- مصدر من باب المفاعلة وصف به مبالغة او على انه بمعنى الفاعل او اسم فمعز الدولة سمى به اللازم لفرط لزومهم وَ أَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) عطف على كلمة اى و لو لا أجل مسمى لمدة بقائهم في الدنيا او لقيام القيامة او لعذابهم ففى الكلام تقديم و تأخير تقديره و لو لا كلمة سبقت من ربّك و أجل مسمّى لكان لزاما- و جاز ان يكون أجل مسمّى عطف على الضمير المستكن في كان و لا بأس به بوجود الفصل- و التقدير على هذا و لو لا كلمة سبقت من ربّك بتأخير العذاب لكان العذاب العاجل و العذاب المؤجل بأجل مسمّى كلاهما لازمين لهم- و الجملة الشرطية اعنى لو لا كلمة الى آخره معطوفة على جملة محذوفة مفهومة من قوله و كم أهلكنا- تقديره كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم و هؤلاء الكفار مثلهم في استحقاق نزول العذاب- و لو لا كلمة لكان لزاما و أجل مسمّى-.

١٣٠

فَاصْبِرْ يا محمد يعنى إذا علمت انّ عذاب هؤلاء الكفار مؤجل الى أجل مسمى فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ فيك وَ سَبِّحْ يعنى صل متلبسا بِحَمْدِ رَبِّكَ يعنى حامدا على ما وقفك للصلوة و التسبيح و اعانك عليه- كانّ فيه اشارة الى ان العبد ان صدر منه العبادة لا يغتربه بل يشكر اللّه على إتيانه و اعانته كما يشير اليه قوله تعالى إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ بعد قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ يعنى نستعين بك على عبادتك و يمكن ان يستنبط من هذه الاية وجوب قراءة الفاتحة في كل صلوة على ما صرح به النبي صلى اللّه عليه و سلم حيث قال لا صلوة الا بفاتحة الكتاب- و في لفظ لا صلوة لمن لم يقراء بفاتحة الكتاب- رواه الشيخان في الصحيحين و احمد فان الاية اقتضت بإتيان الصلاة متلبسا بالحمد- لكن التلبس مجمل فالتحق قول رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بيانا له و ظهر ان المراد بالتلبس بالحمد قراءة الفاتحة الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعالَمِينَ الى اخر السورة قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يعنى صلوة الصبح وَ قَبْلَ غُرُوبِها يعنى صلوة العصر- و قيل المراد بقبل الغروب بعد نصف النهار يعنى الظهر و العصر جميعا وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ اى من ساعاة جمع انى بالكسر و القصر يعنى المغرب و العشاء- قال ابن عباس يريد أول الليل قلت و يمكن ان يراد به التحجد ايضا فانها كانت واجبة على النبي صلى اللّه عليه و سلم و الظرف متعلق بقوله فَسَبِّحْ و الفاء زائدة او على تقدير اما يعنى و امّا من اناء اللّيل فسبّح على الخصوص لكون الليل وقت خلّو القلب عن الاشغال- و النفس فيها أميل الى الاستراحة فكانت العبادة فيها احسن و أفضل- قال اللّه تعالى إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا ...

وَ أَطْرافَ النَّهارِ عطف على قبل طلوع الشمس و على محل من آناء اللّيل- و لعل هذا تكرير لصلوتى الفجر و العصر لارادة الاختصاص و مزيد التأكيد- لان الفجر وقت نوم و العصر وقت اشتغال بالدنيا- فالاية نظيرة لقوله تعالى حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الوسطى و مجيئه بلفظ الجمع للامن من الالتباس- او المراد باطراف النهار صلوة الظهر فقط لان وقته نهايت النصف الاول من النهار و بداية النصف الاخر- و جمعه باعتبار النصفين- و قيل المراد من اناء اللّيل صلوة العشاء و من أطراف النّهار صلوة الظهر و المغرب- لان الظهر في اخر الطرف الاول من النهار و في أول الطرف الاخر فهو طرفين منه و الطرف الثالث غروب الشمس و عند ذلك يصلى المغرب- او المراد منه التطوع في اجزاء النهار لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) اى لكى ترضى يعنى سبح في هذه الأوقات لان تنال من عند اللّه ما به ترضى-

و قرا الكسائي و أبو بكر بالبناء للمفعول اى لكى يرضيك ربك- و قيل معنى ترضى ان يرضاك اللّه كما قال و كان عند ربّه مرضيّا- و قيل معنى الاية لعلك ترضى بالشفاعة كما قال وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى - روى الشيخان في الصحيحين و احمد و اصحاب السنن الاربعة عن جرير بن عبد اللّه انه قال كنا جلوسا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فراى القمر ليلة البدر فقال انكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رويته فان استطعتم ان لا تغلبوا على صلوة قبل طلوع الشمس و قبل غروبها فافعلوا ثم قرا وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها و اللّه اعلم.

اخرج ابن ابى شيبة و ابن مردوية و البزار و ابو يعلى عن ابى رافع قال نزل عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ضيف فارسلنى الى رجل من اليهود ان أسلفني دقيقا- و في رواية يعنى كذا و كذا من الدقيق او أسلفني الى هلال رجب فقال لا الا برهن فأتيت النبي صلى اللّه عليه و سلم فاخبرته فقال و اللّه لئن باعني او أسلفني لقضيته و انى لامين في السماء أمين في الأرض- اذهب بدرعي الحديد اليه فلم اخرج من عنده حتى نزلت.

١٣١

وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ اى نظر عينك- عطف على فاصبر و لما كان قوله تعالى وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ إلخ دالّا على انتفاء العذاب العاجل عن الكفار و ثبوت العذاب الاجل رتب عليه بالفاء الدالة على السببية جملتين تفيد أحدهما الأمر بالصبر بناء على انتفاء العذاب العاجل- و ثانيتهما النهى عن مد النظر تمنّيّا بناء على تحقق العذاب الاجل إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ استحسانا له و تمنّيا ان يكون لك مثله أَزْواجاً مفعول لقوله متّعناه مِنْهُمْ صفة له يعنى ما متعنا به أصنافا من الكفرة- و جاز ان يكون حالا من الضمير المجرور و المفعول به قوله منهم- و كلمة من للتبعيض يعنى ما متعنابه بعضهم و ناسا منهم حال كون المتمتع به أصنافا من المال زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا (٥) منصوب بفعل محذوف- دل عليه متّعنا- تقديره أعطيناهم زهرة الحيوة الدّنيا- يعنى زينتها و بهجتها- او منصوب بمتّعنا على تضمينه معنى أعطينا او على البدلية من محل به- او على البدلية من أزواجا بتقدير معناف ان كان المراد اصناف الكفرة و بدون التقدير ان كان المراد اصناف المال- قرا يعقوب زهرة بفتح الهاء و هى لغة كالجهرة في الجهرة او جمع زاهر وصف لهم بانّهم زاهر و الدنيا اى ازدهروها اى احتفظوا بها و فرحوا بها لتنعمهم- فى القاموس الازدهار بالشي ء الاحتفاظ به و الفرح به لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ اى لنبلوهم و نختبرهم- او لنتركهم في الكفر و الضلال بان يطغوا في دنياهم- او لنعذبهم في الاخرة بسبب متعلق بمتعنا وَ رِزْقُ رَبِّكَ اى ما رزقك ربك في الدنيا من الهدى و النبوة او الكفاف من الحلال او في الاخرة من الجنة و مراتب القرب خَيْرٌ مما اعطوا في الدنيا وَ أَبْقى (١٣١) منه فانه لا ينقطع ابدا- و الجملة حال من فاعل لا تمدن-

قال البغوي قال أبيّ بن كعب رضى اللّه عنه من لم يتعز بعن اللّه تقطعت نفسه خسرات- و من يتبع بصره في أيدي الناس يظل حزنه و من ظن ان نعمة اللّه في مطعمه و مشربه و ملبسه فقد قل عمله و حضر عذابه.

١٣٢

وَ أْمُرْ أَهْلَكَ اى قومك و اهل دينك عطف على لا تمدّنّ بِالصَّلاةِ امره بان بامر اتباعه بعد ما امره به ليتعاونوا على الاستعانة على خصاصتهم- و لا يهتموا يأمر المعيشة و لا يلتفتو الى ارباب الثروة وَ اصْطَبِرْ اى داوم عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً اى لا نكلفك ان ترزق أحد من خلقنا و لا ان ترزق نفسك و انما نكلفك العمل- هذه الجملة في مقام التعليل للاصطبار على الصلاة نَحْنُ نَرْزُقُكَ و إياهم ففرغ بالك لامر الاخرة هذا تعليل لعدم سوال الرزق وَ الْعاقِبَةُ يراد ما يعقب العمل الصالح من الثواب كما يراد بالعقاب ما يعقب العمل السوء من العذاب لِلتَّقْوى (١٣٢) اى لاهل التقوى قال ابن عباس الذين صدقوك و اتبعوك و اتقونى- اخرج سعيد بن منصور في سننه و الطبراني في الأوسط و ابو نعيم في الحلية و البيهقي في شعب الايمان ان النبي صلى اللّه عليه و سلم كان إذا أصاب اهل ضر أمرهم بالصلوة و تلا هذه الاية-.

١٣٣

وَ قالُوا يعنى المشركين لَوْ لا يَأْتِينا محمد صلى اللّه عليه و سلم بِآيَةٍ دالة على صدقه في ادعاء النبوة مِنْ رَبِّهِ قيل هذه جملة معطوفة على يقولون يعنى و اصبر على ما يقولون و على ما قالوا- و هذا كلام مستأنف أنكروا إتيان الآيات و لم يعتدوا بما جاء به من الآيات الكثيرة تعنتا و عنادا- و طلبوا آيات مقترحة فالزمهم اللّه تعالى بإتيانه بالقران الّذي هو رأس المعجزات و أبقاها- لان حقيقة المعجزة اختصاص مدعى النبوة بنوع من العلم و العمل على وجه خارق للعادة- و لا شك ان العلم اصل العمل و أعلى منه قدرا و أبقى منه اثرا فكذا ما كان من هذا القبيل و نبّهم ايضا على وجه اثنى من وجوه اعجاز المختصة بهذا الباب فقال أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) الاستفهام للانكار و الواو للعطف على محذوف تقديره الم يعرفوا صدقك في ادعاء النبوة و لم تأتهم بيان ما في الصحف الاولى من التوراة و الإنجيل و سائر الكتب السماوية فان اشتمال القران على زبدة ما فيها من العقائد و الاحكام الكلية مع ان الآتي بها امىّ لم يرها و لم يتعلّم ممن علمها اية واضحة على صدته- و فيه اشعار بان القران كما هو برهان على نبوته صلى اللّه عليه و سلم شاهد لصحته ما تقدمه من الكتب من حيث انه معجز و ليست هى كذلك بل هى مفتقرة الى ما يشهد عليها- قرا نافع و ابو عمرو و حفص تأتهم بالتاء لتانيث الفاعل و الباقون بالياء التحنية لتقدّم الفعل و كون التأنيث غير حقيقى- و قيل معناه ا و لم تأتهم بيان ما في الصحف الاولى من أبناء الأمم انهم اقترحوا الآيات فلما أتتهم و لم يومنوا بها كيف عجلنا بهم العذاب و أهلكنا هم فما يومنوا منهم ان أتتهم الآيات المقترحة ان يكون حالهم كحال أولئك-.

١٣٤

وَ لَوْ ثبت أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ يعنى كفار قريش لاجل اشراكهم باللّه بِعَذابٍ متعلق باهلكنا مِنْ قَبْلِهِ يعنى بعذاب نازل من قبل بعثة محمد صلى اللّه عليه و سلم او من قبل البينة و التذكير لانها في معنى البرهان لَقالُوا يوم القيمة رَبَّنا اى يا ربنا لَوْ لا هلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا يدعونا الى التوحيد فَنَتَّبِعَ منصوب بتقدير ان بعد الفاء في جواب لتخضيض فانه بمعنى الاستفهام آياتِكَ المنزلة على الرسول مِنْ قَبْلِ ظرف لنتبع أَنْ نَذِلَّ بالقتل و السبي في الدنيا وَ نَخْزى (١٣٤) بدخول النار يوم القيمة او بان نذلّ يوم القيمة و نخزى في جهنم- مسئلة- هذه الاية تدل على ان الايمان باللّه و التوحيد واجب على العقلاء قبل بعثة الرسل و الكفر حينئذ كان سببا لاستحقاق العذاب و انما بعث الرسل لا تمام الحجة و قطع المعذرة و لمزيد الفضل و به قال ابو حنيفة رحمه اللّه خلافا للشافعى رحمه اللّه-.

١٣٥

قُلْ يا محمد كلام مستانف كُلٌّ اى كل واحد منا و منكم مُتَرَبِّصٌ منتظر لما يؤل اليه أمرنا و أمركم فَتَرَبَّصُوا و ذلك و ان المشركين قالوا نتربص بمحمد حوادث الدهر و إذا مات تخلصنا يعنى انتظروا فَسَتَعْلَمُونَ يوم القيمة مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ اى الطريق الموصل الى الجنة وَ مَنِ اهْتَدى (١٣٥) من الضلالة او اهتدى الى النعيم المقيم- و من في الموضعين للاستفهام و محلها الرفع بالابتداء و يجوز ان تكون الثانية موصولة بخلاف الاولى لعدم العائد فتكون معطوفة على محل الجملة الاستفهامية المعلق عنها الفعل- على ان العلم بمعنى المعرفة- او على اصحب الصراط او على الصراط على ان المراد به النبي صلى اللّه عليه و سلم- حمزة و الكسائي يميلان اواخر هذه السورة من قوله تعالى لتشقى الى آخرها قوله و من اهتدى- و ابو عمر و يمين من ذلك ما فيه راء نحو قوله تعالى الثّراى و من افتراى و لا تعرى شبهه و ما عدا ذلك بين بين و ورش جميع ذلك بين بين و الباقون بإخلاص الفتح روى الحاكم في المستدرك و البيهقي بسند صحيح عن معقل بن يسار و البغوي نحوه عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أعطيت سورة البقرة من الذكر الاول و أعطيت طه و الطواسين و الحواميم من الواح موسى و أعطيت فاتحة الكتاب و خواتيم سورة البقرة من تحت العرش و المفصل نافلة-

و روى الحاكم في المستدرك و الطبراني و ابن ماجة عن امامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اسم اللّه الأعظم الّذي إذا دعى به أجاب في ثلاث سور البقرة و ال عمران و طه-

فتمت تفسير سوره طه بفضل اللّه تعالى و حسن توفيقه ثامن الشهر الربيع الثاني من السنة الثالثة بعد المائتين و الف و يتلوه تفسير سورة الأنبياء ان شاء اللّه تعالى- الحمد للّه رب العالمين و صلى اللّه تعالى على خير خلقه محمّد و اله و أصحابه أجمعين.

﴿ ٠