سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ مَكِّيَّةٌ وَهِيَ مِائَةٌ وَاثْنَتَا عَشَرَةَ آيَةً و هى مائة و اثنا عشرة اية بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ رب يسّر و تمم بالخير. _________________________________ ١ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسا بُهُمْ بالاضافة الى ما مضى من ايام الدنيا و اللام قيل بمعنى من فهو صلة لاقترب- و قيل تأكيد للاضافة و أصله اقترب حساب الناس ثم اقترب الحساب للناس ثم اقترب للناس حسابهم- و لام التعريف للجنس و قيل للعهد و المراد به الكفار بدليل قوله تعالى وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ عن الحساب و عما يفعل بهم لاستغراقهم في دنياهم و شهوات هم مُعْرِضُونَ (١) عن التفكر في الحساب و التأهب له- وصفهم بالاعراض بعد الغفلة احترازا عمن كان غفلته باستغراقه في ذكر للّه تعالى عن غيره- و اللام في الناس ان كان للاستغراق فالضمير المنفصل عائد. الى بعض افراد العام كما في قوله تعالى وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ... وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ يعنى بعولة الرجعيات منهن- و معرضون خبر للضمير و في غفلة حال من المستكن في الخبر او هما خبران للضمير و الجملة حال من الناس او من حسابهم بحذف الرابط- و الحساب عبارة عن اظهار ما فعله العباد و ما استحقوا عليه- و اقترابه عبارة عن اقتراب الساعة-. ٢ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ ينّبههم عن نوم الغفلة و الجهالة من زائدة و ذكر في محل الرفع على الفاعلية لياتيهم مِنْ رَبِّهِمْ صفة لذكر او صلة ليأتيهم مُحْدَثٍ صفة لذكر اى محدث تنزيله ليكور على أسماعهم في التنبيه كى يتعظوا و ذا لا ينافى كونه قديما إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (٢) اى يستهزءون به و يستسخرون منه لتناهى غفلتهم و فرط الاعراض عن التفكر في العواقب- حال من فاعل استمعوه. ٣ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ حال من فاعل يلعبون او من فاعل استمعوه- و المستثنى حال من الضمير المنصوب في ما يأتيهم- او صفة لمصدر محذوف ما يأتيهم من ذكر في حال من الأحوال الا حال استماعهم جامعين بين الاستهزاء به و التلهي و الذهول عن التفكر فيه- و في العواقب من الأمور او ما يأتيهم من ذكر اتيانا الا اتيانا استمعوه بعده جامعين بما ذكر قال أبو بكر الوراق القلب اللاهي المشغول بزينة الدنيا و زهرتها الغافل عن الاخرة و أهوالها- و جملة ما تأتيهم في مقام التعليل لقوله هم في غفلة وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى اى بالغوا في اخفائها او جعلوها بحيث خفى تناجيهم الَّذِينَ ظَلَمُوا فاعل لاسروا و الواو في أسوأ زائدة ليدل من أول الأمر ان فاعله جمع و ليست بضمير- او فاعله ضمير و الموصول بدل منه جئ للايماء بانهم ظالمون فيما أسروا به- او الموصول مبتدأ و الجملة المتقدمة خبره- و أصله و هؤلاء أسروا النجوى فوضع الموصول موضع هؤلاء تسجيلا على فعلهم بانه ظلم- او الموصول خبر لمبتداء محذوف تقديره هم الّذين ظلموا- او منصوب بتقدير اعنى او اذم و جملة اسرّوا النّجوى معطوفة على يلعبون او حال من فاعله بتقدير قد او معطوفة على استمعوه او على ما يأتيهم او معترضة هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ صفة مؤكدة لبشر أبدعوا حجة على تكذيبهم الرسول صلى اللّه عليه و سلم في ادعائه الرسالة بكونه بشرا زعما منهم بان الرسول لا بد ان يكون ملكا كانّهم زعموا ان الرسول لا بد ان يكون من جنس المرسل و زعموا ان الملائكة من جنس الملك القهار و لذلك سهواها بنات اللّه و كل ذلك باطل قطعا- و الحق ان الرسول لا بد ان يكون من جنس من لرسل إليهم حتى يقتبسوا أنواره- و الملك القهار لا يجوز ان يكون له كفوا أحد- ثم أورد و الدفع المعجزات الدالّة على الرسالة بقولهم أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ يعنى ليس هو رسولا لانه بشر و ما يأتي به من الخوارق كالقران و غيره سحر- أ فتأتون السحر الاستفهام للانكار و الفاء للعطف على محذوف و السحر منصوب على المفعولية او العلية و المفعول محذوف تقديره اتصدقونه في دعوى الرسالة فتأتون السحر اى تتبعونه- او فتأتون محمدا لاجل سحره الّذي يأتى به- و لما لم يجدوا دليلا على كون الخوارق سحرا فان القول الباطل لا يمكن إثباته ادعوا بداهته تعنتا فقالوا وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) بالبداهة انه سحر- و الجملة حال من فاعل تأتون و جملة أ فتأتون السحر بدل اشتمال لجملة هل هذا الّا بشو- و جملة هل هذا الا بشر منصوب بدلا من النجوى او مفعولا لقالو- و جملة قالوا بيان لجملة أسروا النجوى او بدل منه او مستانفة في جواب ماذا قالوا- و الغرض من اسرار هذا القول مشاورتهم في ما بينهم- حتى يحصل لهم كلام يهدم امر النبوة و يظهر فساده و لا يبطله السامع في أول الأمر يريدون ان يطفوا نور اللّه بأفواههم و اللّه متمّ نوره و لو كره الكافرون. ٤ قل يا محمد قرا حمزة و الكسائي و حفص قالَ على الاخبار عن الرسول صلى اللّه عليه و سلم و الباقون بصيغة الأمر المستلزم لقوله منه صلى اللّه عليه و سلم رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ حال من القول يعنى يعلم القول كائنا ذلك القول في السماء و الأرض من اى قائل كان- جهرا كان او سرا فلا يخفى عليه ما أسروا وَ هُوَ السَّمِيعُ لاقوالهم الْعَلِيمُ (٤) بأفعالهم و أحوالهم ما ظهر منها و ما بطن. ٥ بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ إضراب من اللّه تعالى في حكاية قولهم في شان الرسول صلى اللّه عليه و سلم انه بشر لا يصلح ان يكون رسولا من اللّه- الى حكاية قولهم في شأن القران انه أضغاث أحلام- يعنى تخاليط أحلام راها في المنام يعنى ليس بوحي من اللّه منزل- و قيل هذا إضراب من الكفار عن مضمون قولهم أ فتأتون السّحر و المعنى قالوا هو سحر بل هو أضغاث أحلام و كلمة قالوا على هذا تأكيد لفظى لقالوا مقدر مفهوم مما سبق بَلِ افْتَراهُ إضراب من الكفار عن كونه أباطيل خيلت اليه في النام و خلطت عليه الى كونه مفتريات اختلعها من تلفاء نفسه لم يرها في المنام ايضا بَلْ هُوَ شاعِرٌ إضراب ثان منهم عن كونه كلام مفترى الى كونه كلاما شعريّا قال البغوي أريد ان المشركين قال بعضهم أضغاث أحلام و بعضهم فرية و بعضهم ان محمدا شاعر و ما جاء به شعر و الفرق بين المفترى و الشعر ان المفترى كلام كاذب أراد المتكلم منه حصول التصديق للسامع بنسبة غير مطابقة للواقع و الشعر كلام مركب من مقدمات تأثر في ذهن السامع من الرغبة او الرهبة او الشوق او السرور او الحزن او التعظيم او التحقير او غير ذلك و الغرض منه ذلك التأثير في النفوس دون حصول تصديق أصلا فكانه من قبيل الإنشاء- و قد يجتمع الاخبار صادقا او كاذبا مع مقدمات شعرية مؤثرة في النفوس و ذلك في المثنويات و الاول في الغزليات- و هذه الأقوال من الكفار دليل ظاهر على فساد أقوالهم و انها قضوهات منهم عنادا من غير جزم فَلْيَأْتِنا محمد صلى اللّه عليه و سلم ان كان صادقا في دعوى الرسالة بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) صفة لاية و صحة التشبيه من حيث ان الإرسال يتضمن الإتيان بالآية و ما موصولة او موصوفة و هى صفة لموصوف محذوف و التقدير فلياتنا باية كائنة كالاية الّتي أرسل بها الأولون من الرسل- و كاية أرسل بها الأولون فاتوبها- كالناقة لصالح و العصا و اليد البيضاء لموسى و الاحياء الموتى و إبراء لاكمه و الأبرص لعيسى- اخرج ابن جرير عن قتادة قال قال اهل مكة للنبى صلى اللّه عليه و سلم ان كان ما تقوله حقّا فحول لنا الصفا ذهبا فاتاه جبرئيل فقال ان شئت كان الّذي سالك قومك و لكنه ان كان ثم لم يومنوا لم ينظروا- و ان شئت استأنيت لقومك قال بل استانى لقومى فانزل اللّه تعالى. ٦ ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ اى قبل مشركى مكة مِنْ قَرْيَةٍ اى من اهل قرية من زائدة و قرية في محل الرفع على الفاعلية أَهْلَكْناها صفة لقرية اى أهلكنا أهمها حين جاءتهم الآيات المقترحة أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ الفاء للعطف على ما امنت و الاستفهام للانكار تعقب ايمان اهل مكة عدم ايمان السابقين مع كون اهل مكة اعنى منهم يعنى لم يومن من كان قبلهم فكيف يومن هؤلاء و هم أشد كفرا منهم- و فيه تنبيه على ان عدم إتيانه بالمقترحات كان لابقائهم- إذ لو اتى بها و لم يؤمنوا استوجبوا عذاب الاستيصال كمن قبلهم-. ٧ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ يا محمد إِلَّا رِجالًا نُوحِي قرأ حفص بالنون على صيغة المتكلم المعلوم على التعظيم و الباقون بالياء التحتانية على الغيبة و البناء للمفعول إِلَيْهِمْ جملة معترضة ردّ لقولهم هل هذا الّا بشر مثلكم فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ يعنى علما اهل الكتاب من حال الأولين من الرسل هل كانوا بشرا أم ملائكة حتى يزول عنكم شبهتكم إِنْ كُنْتُمْ يا اهل مكة لا تَعْلَمُونَ (٧) شرط استغنى عن الجزاء بما مضى و الاحالة الى اهل الكتاب اما للالزام فان المشركين كانوا يشاورونهم في امر النبي صلى اللّه عليه و سلم و يثقون بقولهم- و اما لان اخبار اهل التواتر يوجب العلم و ان كانوا كفارا. ٨ وَ ما جَعَلْناهُمْ اى الأولين من الرسل جَسَداً لم يقل أجسادا لانه اسم جنس او لانه في الأصل مصدر او على حذف المضاف اى ذوى جسد او بتأويل الضمير بكل واحد- و الجسد جسم ذى لون و لذلك لا يطلق على الماء و الهواء- و قيل هو جسم ذو تركيب لان أصله لجمع الشي ء و اشتداده لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ صفة لجسد و جملة ما جعلنا مستأنفة جواب لقولهم مال هذا الرّسول يأكل الطّعام وَ ما كانُوا خالِدِينَ فى الدنيا تأكيد و تقرير لما سبق فان التعيش بالطعام عن لوازم التحليل المؤدى الى الفناء. ٩ ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ اى في الوعد بالنصر على أعدائهم- الجملة معطوفة على جملة محذوفة معطوفة على قوله وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا و ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ و لا يموتون- و لكن طعن فيهم المشركون بمطاعن غير صحيحة و معائب غير ثابتة كما طعن هؤلاء فيك فوعدناهم بالنصر عليهم ثمّ صدقنهم الوعد فَأَنْجَيْناهُمْ يعنى المرسلين من عذاب اللّه و إيذاء الكفار وَ مَنْ نَشاءُ يعنى المؤمنين بهم و من في ابقائه حكمته كمن سيؤمن هو او أحد من ذريته و لذلك حميت العرب من عذاب الاستيصال وَ أَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) متجاوزين الحد في الكفر و المعاصي-. ١٠ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ يا معشر قريش كِتاباً اى القران فِيهِ ذِكْرُكُمْ اى شرفكم ان علمتم به او لانه بلسانكم او المعنى ذكركم ربكم و ذكر ما تحتاجون اليه من امر دينكم- و قال البيضاوي حيتكم و الصيت اى الذكر اى الحسن او موعظتكم او ما تطلبون به حسن الذكر من مكارم الأخلاق و قال مجاهد فيه حديثكم- و في القاموس الذّكر بالكسر الحفظ للشي ء كالتذكار و الشي ء يجرى على اللسان و الصيت و الثناء و الشرف و الصلاة للّه تعالى و الدعا و كتاب فيه تفصيل الدين و وضع الملل- أَ فَلا تَعْقِلُونَ (١٠) عطف على أنزلنا و الفاء للتعقيب و الهمزة للانكار عدم تعقل ما فيه صلاحكم و شرفكم-. ١١ وَ كَمْ قَصَمْنا يعنى كسرنا اى أهلكنا كثيرا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً يعنى اهل قرية كانوا ظالمين على أنفسهم بالكفر و المعاصي وَ أَنْشَأْنا أورثنا بَعْدَها اى بعد هلاك أهلها قَوْماً آخَرِينَ (١١) مكانهم. ١٢ فَلَمَّا أَحَسُّوا يعنى لما أدركوا بحاسة البصر و الضمير الأهل المحذوف المضاف الى قرية بَأْسَنا شدة عذابنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) اى يهربون مسرعين راكضى دواتهما و مشبهين بهم من فرط إسراعهم لمّا ظرف بمعنى المفاجاة في إذا يعنى فاجا مربهم مسرعين حين رويتهم عذابنا هذه الجملة معطوفة على جملة مقدرة و هما بيان لكيفية إهلاكهم تقديره و لما أردنا ان نقصهم أنزلنا عليهم بأسنا فلمّا احسّوا بأسنا اذاهم منها يركضون. ١٣ لا تَرْكُضُوا محمول على تقدير قيل و الجملة مستانفة في جواب ما قيل لهم عند هربهم يعنى قيل لهم استهزاء اما بلسان الحال او المقال- و القائل ملك أومن ثم من المؤمنين لا تركضوا و لا تهربوا وَ ارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ اى ما انعمتم من التنعم و التلذذ و الإتراف ابطار النعمة قال الخليل المترف الموسع عليه عيشه القليل فيه همه وَ مَساكِنِكُمْ الّتي كانت لكم لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) غدا عما جرى عليكم و نزل باموالكم فتجيبون السائل عن علم و مشاهدة او ارجعوا و اجلسوا في مجالسكم و عبيدكم فيقولون لكم بم تأمرون- او يسئلكم الناس في انديتكم المعاون في النوازل و الخطوب- او تسئلون غدا عن أعمالكم او تعذبون فان السؤال من مقدمات العذاب- و قال ابن عباس تسئلون عن قتل نبيكم- قال البغوي نزلت هذه الاية في اهل حضورا و هى قرية باليمن و كان أهلها العرب فبعث اللّه إليهم نبيّا فدعاهم الى اللّه عزّ و جلّ فكذبوه و قتلوه فسلط اللّه عليهم بخت نصر حتى قتلهم و سباهم فلما استمر فيهم القتل ندموا و هربوا و انهزموا فقالت الملئكة لهم استهزاء لا تركضوا و ارجعوا الى مساكنكم و أموالكم لعلّكم تسئلون- قال قتادة لعلكم تسئلون شيئا من دنياكم فتعطون من شئتم و تمتعون من شئتم فانّكم اهل ثروة و نعمة فاتبعهم بخت نصر و اخذتهم السيوف و ناداى مناد من جو السماء يا ثاراث الأنبياء فلما راو ذلك أقروا على أنفسهم بالذنوب حين لم ينفعهم- و جاز ان يكون بعضهم قال لبعض لا تركضوا و ارجعوا الى منازلكم و أموالكم لعلكم تسئلون مالا و خراجا فتعطون مالا تمتعون من القتل فنورى من السماء يا ثاراث الأنبياء و اخذتهم السيوف فاقروا على أنفسهم و. ١٤ قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) جملة مستانفة. ١٥ فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ اى ما زالو يرددون ذلك و انما سماه دعوى لان المولول كانه يدعو الويل و يقول يا ويل تعال فهذا او انك و كل من تلك و دعويهم يحتمل الاسمية و الخبرية لما زال حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً اى مثل زرع الحصيد المحصود و لذلك لم يجمع خامِدِينَ (١٥) ميتين من خمدت النار و هو مع حصيد بمنزلة اسم واحد مفعول ثان لجعلنا كقوله جعلته علوّا حامضا- فان المعنى جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد و الخمود او صفة لحصيد او حال من ضميره. ١٦ وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) يعنى عابثين فاعلين فعلا عبثا باطلا بل خلقناها مشحونة بضروب البدائع تبصرة للناظرين و تذكرة للمعتبرين و تسبيبا لما ينتظم بامور المخلوقين في المعاش و المعاد فينبغى ان يتوصلوا بها الى تحصيل الكمال و لا يغتروا بزخارفها فانها سريعة الزول. ١٧ لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً قال ابن عباس في رواية عطاء اللّهو المراءة و هو قول الحسن و قتادة و ذلك ان الوطي سمى لهوا في اللغة و المرأة محل اللّهو- و في رواية الكلبي عن ابن عباس اللّهو الولد و هو قول السدى فان المرء يلهو بالصغار اللاهين من أولاده- لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا اى من عندنا مما يليق بحضرتنا من المجردات و ما يناسب فاتنا كما هو المعلوم ان الزوج و الولد يكون لكل شي ء من جنسه و لما كان ذاته تعالى بحيث لم يماثله شي ء و لا يجانسه و لا يكافثه أحد- فاستحال ان يكون له زوج او ولد- و تعلق الارادة الّتي لا ينفك المراد منها بالمستحيل مستحيل- فامتنع تعلق الارادة به فامتنع اتخاذ الزوج و الولد- و هذا ردّ لقول النصارى في المسيح و امه إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) شرط مستغنى عن الجزاء بما مضى يعنى ان كنّا فعلين اتخاذ اللّهو لاتخذناه من لدنا لكنا لسنا فاعلين لكونه مستحيلا مناف للالوهية- و قال قتادة و ابن جريج و مقاتل ان لنفى اى ما كنا فاعلين و الجملة كالنتيجة لشرط. ١٨ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عطف على مضمون الكلام السابق يعنى لا نفعل اللّهو و الباطل بل نقذف بالحقّ اى نرمى بالحق بالآيات الدالّة على تنزيه اللّه تعالى من اتخاذ الصاحبة و الوالد و كونه كفوا لاحد رميّا بعيدا عَلَى الْباطِلِ اى الكفر و الكذب و ذلك قولهم اتّخذ اللّه ولدا فَيَدْمَغُهُ اى يدمغه و يفنيه و الدمغ كسر الرأس و الدماغ المؤدى الى زهوق الروح- استعار اللّه سبحانه لاعدام الباطل بالحق و احقاق الحق و ابطال الباطل فان القذف هو الرمي البعيد المستلزم لصلابة الموحى- و الدمغ تصوير لابطال الباطل مبالغة بحيث لا يبقى من الباطل شي ء فَإِذا هُوَ اى الباطل زاهِقٌ اى هالك ذاهب لا اثر له- فى القاموس زهق الباطل اى اضمحل و الشي ء بطل و هلك فهو زاهق- و قيل الزهوق ذهاب الروح ذكره لترشيح المجاز و لكم يا معشل لكفار الْوَيْلُ الهلاك مِمَّا تَصِفُونَ اللّه بما يليق به و ما مصدرية او موضولة او موصوفة و الجملة معطوفة على فاذا هو زاهق او حال او معترضة. ١٩ وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خلقا و ملكا فلا يصلح شي ء منها ان يكون له أهلا او ولدا او كفوا وَ مَنْ عِنْدَهُ قربا و عنديته بلا كيف و هم الملئكة و الأنبياء و من في معناهم معطوف على من في السّموت و الأرض و افراده للتعظيم و لانه أعم منه من وجه فان بعض الملائكة كحملة العرش و غيرهم و حقائق الأنبياء و الملائكة و دائرة الظلال متعال عن التبوء في السماء و الأرض او مبتداء خبره لا يَسْتَكْبِرُونَ اى لا يتعظّمون ع َنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) اى لا يعيون يقال حسر و استحسر إذا تعب واعيا و الاستحسار ابلغ من الحسور و فيه اشارة الى ان عبادتهم لاجل ثقلها و دوامها كانت حقيقة بان يستحر منها و هم لا يستحسرون بل يتلذّذون به و يديمون فيه بحيث يرون تركها هلاكا. ٢٠ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ اى ينزّهونه و يعظمونه دائما قال كعب الأحبار التسبيح لهم كالنفس لبنى آدم لا يَفْتُرُونَ (٢٠) اى لا يضعفون و لا يسئمون حال من الضمير المرفوع في يسبحون و هو استيناف- او حال من ضمير لا يستكبرون و لا يستحسرون- و جملة لا يستكبرون مع ما عطف عليه حال من عنده على تقدير كونه معطوفا على من في السّموات و المراد بالعبادة الّتي لا تنقطع من المقربين دوام الحضور و الذكر الخفي الّذي لا يمكن انقطاعه من المقربين بشرا كان او ملكا كما لا يمكن انقطاع التنفس بالهواء للحيوان البرى و بالماء للحيوان البحري- و ايضا إذا حصل دوام الحضور فكلما يفعل المرء من فعل يفعله اللّه تعالى يأكل و يشرب و ينام ليتقوى على طاعة اللّه و ينكح أداء لسنة رسوله و تكاثرا لامته و امتثالا لامره تناكحوا فانى مباهى بكم الأمم- و لا يصدر عنه معصية- فان المعصية مبنى صدورها غالبا على الغفلة و ان صدر عنه معصية بتقدير اللّه يندم و يتوب بحيث يبدّل اللّه سيّئاتهم حسنات- و من أجل ذلك قالوا نوم العالم عبادة- و من كان هذا شأنه يصدق عليهم انهم لا يستحسرون يسبّحون اللّيل و النّهار لا يفترون. ٢١ أَمِ اتَّخَذُوا بل ء اتّخذوا آلِهَةً أم منقطعته بمعنى بل و الهمزة فمعنى بل للاضراب عن مضمون الكلام السابق فان مضمون قوله تعالى ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ و قوله أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ و قوله تعالى بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ انهم طعنوا في النبوة فالمعنى انهم طعنوا في النبوة و القران بل اتخذوا الهة و معنى الاستفهام الإنكار و التوبيخ مِنَ الْأَرْضِ صفة للالهة او متعلقة بالفعل على معنى التبعيض او الابتداء يعنى اتخذوا و صنعوا من جواهر الأرض من حجر او ذهب او فضة او غير ذلك و فائدتها التحقير دون التخصيص و هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) صفة لالهة اى يحبون الأموات و فيه تحميل الكفار و تهكم بهم فانه لا يستحق العبادة الا من يقدر على الاحياء و الاماتة و الانعام بأبلغ وجوه النعمة و هم لمّا أشركوا الأصنام في الالوهية فكانّهم ادعوا لها الاحياء و نحوه و ذلك ظاهر البطلان- و للمبالغة في ال؟؟؟ كم زيد الضمير الموهم لاختصاص الإنشاء بهم. ٢٢ لَوْ كانَ فِيهِما اى في السماء و الأرض آلِهَةٌ كما زعم المشركون إِلَّا اللّه الّا هاهنا بمعنى غير صفة لالهة و ليست للاستثناء لتعذر الاستثناء المتصل و المنفصل لعدم القطع في شمول المستثنى منه المستثنى و عدم شموله فهى محمولة على غير و أعرب ما بعده إعرابه كما يحمل لفظة غير على الّا فيستعمل للاستثناء لَفَسَدَتا لبطلتا و لم يوجدا فانها ان توافقت الالهة في المراد تطاردت عليها القدرة- و ان تخالفت فيه تعاوقت عنه و هذه الجملة تعليل للتوبيخ المفهوم من أم المنقطعة فَسُبْحانَ اللّه يعنى اسبح للّه سبحانا رَبِّ الْعَرْشِ المحيط بجميع الأجسام الّذي هو محل التدابير و منشاء المقادير و بمنزلة الدماغ للانسان في العالم الكبير- و انتزهه عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) من اتخاذ الشريك و الصاحبة و الولد. ٢٣ لا يُسْئَلُ اللّه تعالى عَمَّا يَفْعَلُ لعظمته و قوة سلطانه و تفرده بالالوهية و السلطنة الذاتية- و لانّه كلّما يفعل من فعل فهو تصرف في ملكه و المالك يتصرف في ملكه كيف يشاء لا اعتراض عليه عقلا و لا نقلا وَ هُمْ يعنى من في السموات و الأرض يُسْئَلُونَ (٢٣) عمّا يفعلون لكون أفعالهم تصرفا في ملك اللّه سبحانه فلا يجوز الا باذنه و اباحته فيسئلون عن ذلك و جملة هم يسئلون حال او معطوفة على ما سبق و جملة لا يسئل مع ما عطف عليه تعليل المضمون الكلام السابق فان من كان مسئولا لا يصلح ان يكون شريكا لمن لا يكون مسئولا. ٢٤ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً كرر الإنكار و التوبيخ استعظاما لكفرهم و استفظاعا و تبكيتا و إظهارا لجهلهم- او ضما لانكار ما يكون لهم سندا من النقل الى ما يكون لهم دليلا من العقل- و المعنى أوجد و الهة ينشرون الموتى فاتخذوهم الهة لما راو فيها من خصائص الالوهية- او وجدوا في الكتب الالهية السماوية الأمر باشراكهم فاتخذوها الهة متابعة للامر- و يعضد ذلك التأويل انه رتب على الاول ما يدل على فساده عقلا و على الثاني ما يدل على فساده نقلا قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ على الإشراك اما من العقل او من النقل فانه لا يصح القول بما لا دليل عليه- كيف و تطابقت الحجج على بطلانه عقلا كما مر و نقلا فان هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ قرأ حفص بفتح الياء و الباقون بإسكانها يعنى هذا القران و التورية و الإنجيل الموجود بين ايديكم ذكر أمتي اى عظتهم الى يوم القيامة وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي اى عظة الأمم الماضية- روى عطاء عن ابن عباس ذكر من معى القران و ذكر من قبلى التورية و الإنجيل- يعنى راجعوا الى الكتب السماوية من القران و التوراة و الإنجيل و غيرها هل تجدون فيها ان اللّه تعالى اتخذ شريكا او ولدا او امر لعبادة غيره- و التوحيد لم يتوقف عليه صحة بعثة الرسل و إنزال الكتب فصح الاستدلال فيه بالنقل فان قيل مشركوا مكة لم يكونوا مسلمين لكتب السماوية لا سيما للقران- فكيف يصح عليهم الاحتجاج بها- قلنا لما كان صحة الكتب السماوية لا سيما القران باعجازه واضحا بينا و انكارهم انما كان عنادا لم يعتد بانكارهم و جعها كالمسلّمة لكونها مسلّمة عند الانصاف و اللّه اعلم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ و لا يميزون بينه و بين الباطل مع سطوع برهانه إضراب من الاتعاظ المفهوم من اضافة الذكر الى من معى فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) من الحق اى التوحيد و اتباع الرسول لاجل ذلك. ٢٥ وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي قرأ حفص و حمزة و الكسائي بالنون و كسر الحاء على التعظيم و ضمير المتكلم و الباقون بالياء التحتانية و فتح الحاء على البناء المفعول إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) اى فاعبدونى وحدي لا تشركوا بى شيئا- و هذا تعميم بعد تخصيص يعنى ليس الأمر بالتوحيد منحصرا في القران و التورية و الإنجيل الموجودة بين أظهرهم مشار إليها بهذا في قوله هذا ذكر من معى و ذكر من قبلى بل كل رسول أرسلناه كنّا نوحى إليهم التوحيد. ٢٦ وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً عطف على مضمون أم اتّخذوا الهة من الأرض و مضمون أم اتّخذوا من دونه الهة يعنى جعلوا اللّه شركاء و قالوا اتّخذ الرّحمن ولدا- قال البغوي نزلت في خزاعة حيث قالوا الملائكة بنات اللّه سُبْحانَهُ تنزيه له تعالى عن ذلك بَلْ عِبادٌ يعنى بل هم اى الملائكة عباد مخلوقون ليسوا باولاد مُكْرَمُونَ (٢٦) مقربون. ٢٧ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ اى لا يقولون شيئا الا باذنه- و أصله لا يسبق قولهم قوله و اذنه فنسب السبق إليهم و اليه و جعل القول محله و أداته تنبيها على استهجان اسبق المعترض به للقائلين على اللّه مالا يرضاه- و أنيب اللام عن الاضافة اقتصارا و تجافيا عن تكرير الضمير وَ هُمْ بِأَمْرِهِ اى بما يأمرهم به يَعْمَلُونَ (٢٧) يتمثلون و لا يعصونه أصلا. ٢٨ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ اى لا يخفى عليه شي ء مما عملوا و ما هم عاملين- و هو كالعلة لما قبله و التمهيد لما بعده فانهم لاحاطة علمه تعالى بأحوالهم يضبطون أنفسهم و يراقبون أحوالهم وَ لا يَشْفَعُونَ مهابة منه إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى ان يشفع له قال ابن عباس الا لمن قال لا اله الا اللّه- و قال مجاهد الا لمن رضى اللّه عنه وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) الخشية خوف مع التعظيم و لذلك خص به العلماء- و الإشفاق خوف مع اعتناء فان عدى بمن كما في هذه الاية فمعنى الخوف فيه اظهر و ان عدى بعلى فبا بالعكس- فالمعنى و هم من خوفه لاجل عظمته و مهابته خائفون لا يأمنون مكره. ٢٩ وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ اى من الخلائق او من الملائكة على سبيل الفرض إِنِّي قرأ نافع و ابو عمر بفتح الياء و الباقون بإسكانها إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ الشخص نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ و الغرض من الاية نفى الربوبية و نفى ادعاء ذلك من الملائكة- و تهديد المشركين بتهديد مدعى الالوهية فهذه الاية كقوله تعالى نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً للّه وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً - و قال قتادة عنى بذلك إبليس حيث دعا الى عبادة نفسه و امر بطاعة نفسه و قد كان من الملائكة اما حقيقة او حكما لاجل الحاقه بهم و اما غيره من الملائكة فلم يقل به أحد كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩). ٣٠ أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا قرأ ابن كثير الم ير بغير واو العطف و الباقون بالواو يعنى الم يعلموا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا لم يقل كانت لان المراد جماعة السموات و جماعة الأرض رَتْقاً قال ابن عباس و الضحاك و عطاء و قتادة كائتا شيئا واحدا ملتزقين فَفَتَقْناهُما فصلناهما بالهواء و الرتق في للغة السد و الضم و الفتق الشق و الفتح قال كعب خلق اللّه السموات و الأرض بعضها على بعض ثم خلق ريحا فوسطها فتحها بها و قال مجاهد و السدى كانت السموات مرتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سموات و كذلك الأرض كانت مرتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع ارضين و قال عكرمة و عطية كانت السماء رتقا لا تمطروا لأرض رتقا لا تنبت ففتق السماء بالمطر و الأرض بالبنات و المراد حينئذ بالسماوات السماء الدنيا و جمعها باعتبار الآفاق او السموات بأسرها على ان لها مدخلا في الأمطار و هذا القول اظهر فان الكفرة «١» و كل من له عقل ينظر و يعلم ان المطر ينزل من السماء بعد مالم يمطر و النبات يخرج من الأرض بعد ما لم يخرج و هو امر حادث لا بد له من محدث واجب الوجود فالرتق و الفتق بهذا المعنى ظاهر و اما كونها في بدو الخلق ملتزقة و فتقت بالرياح فغير ظاهر على الكفار لكنهم متمكنون من تحصيل العلم بها بالاستفسار من العلماء و مطالعة الكتب السماوية و تناسب تاويل عكرمه و عطية قوله تعالى وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ عطف على فتقناهما يعنى فتقنا السماء و أنزلنا منها ماء و فتقنا الأرض و أخرجنا منها نباتا و جعلنا من الماء الّذي أنزلناه من السماء كل شي ء حى و هو معطوف على كانتا و ذلك محمول على السموات و الأرض و على هذا يقال الرابط محذوف تقديره و جعلنا من الماء كل شي ء حى كائن بينهما او الجملة عطف على مضمون ما سبق لان الاستفهام لانكار نفى الرؤية و هو يستلزم ثبوت الروية و ذلك يستلزم و حصول الرتق و الفتق فالتقدير حصل منها فتق السموات و الأرض بعد رتقهما و جعلنا من الماء كل شي ء حى و الجعل ان كان بمعنى الخلق و هو الجعل البسيط فالطرف متعلق به و ان كان بمعنى التصيير و هو الجعل المركب فالظرف مستقر مفعول ثان فان قيل خلق النبات الّذي له نوع من الحيوة من الماء و تصييره كائنا من الماء ظاهر فانه بمنزلة النطف للحيوان و كذا بعض الحيوانات كالحشرات فان؟؟؟ ضقها من الرطوبات و اما اكثر الحيوانات (١) الكفره جمع كافر هاهنا بمعنى الحارث- المصحح. فخلقها من النطفة فما معنى قول و جعلنا من الماء كل شي ء قلنا لما كان الماء أعظم مواد بقاء الحيوان و أفرط احتياجه و انتفاعه بعينه فكانه خلق منه فضح ان يقال على سبيل التجويز خلقنا من الماء كل شي ء حى و صيرناه منه كما قيل خلق الإنسان من عجل و خلق أيد من الكرم و جاز ان يقدر المضاف و يقال المعنى و جعلنا من الماء بقاء كل شي ء حى و قال ابو العاليه و اكثر المفسرين معنى الآية كل شي ء حى فهو مخلوق من الماء اخرج احمد عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كل شي ء خلق من الماء قلت يعنى من النطفة نظيره قوله تعالى و اللّه خلق كل دابة من ماء فالمراد بالشي ء على هذا التأويل الحيوان و بالكل الأكثر كما في قوله تعالى كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته و جاز ان يراد بالماء مطلق الرطوبة الشاملة لنطفة الحيوان و ما يتولد منه النباتات و الحشرات و اللّه اعلم أَ فَلا يُؤْمِنُونَ الاستفهام للانكار و الفاء للتعقيب يعنى بعد روية هذه الادلة القاطعة على وجود الصانع الواجب وجوده المتصف بصفات الكمال المتوحد في الذات و الصفات لا يؤمنون به. ٣١ وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ جبالا رَواسِيَ ثوابت من رسا إذا ثبت أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ اى كراهة ان تميد بهم او لان لا تميد بهم فحذف ما حذف للامن من الالتباس وَ جَعَلْنا فِيها اى في الأرض او في الرواسي فِجاجاً الفج الطريق الواسع بين الجبلين كذا في القاموس سُبُلًا جمع سبيل و هو الطريق و ما وضح منه كذا في القاموس قدم فجاجا و هو وصف للسبيل لان فيه معنى الوسعة ليصير حالا من سبلا فيدل على انه حين خلقها كان كذلك او ليبدل منها سبلا فيدل ضمنا على انه خلقها و وسعها للسابلة مع ما فيه من التأكيد لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ الى مقاصدهم و مصالحهم. ٣٢ وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً عن السقوط لقدرته من غير عمد او عن الفساد و الانحلال الى الوقت المعلوم بمشيته او عن استراق السمع بالشهب وَ هُمْ عَنْ آياتِها اى عن أحوالها و ما خلق فيها من الشمس و القمر و الكواكب الدالة على وجود الصانع و وحدته و كمال قدرته و تناهى حكمته مُعْرِضُونَ غير متفكرين فيه. ٣٣ وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ بيان لبعض تلك الآيات كُلٌّ اى كل واحد فِي فَلَكٍ و هو مدار النجوم الّذي يضمها كذا في القاموس و هو في كلام العرب كل شي ء مستدير و جمعه أفلاك و منه فلك المغزل قال الحسن الفلك طاحوته كهيئة فلك المغزل يريد ان الّذي تجرى فيه النجوم مستدير كاستدارة الطاحونة و قال بعضهم الفلك السماء الّذي فيه ركز الكواكب و كل كوكب يجرى في السماء الّذي قدر فيه و هو قول قتادة و قال الكلبي الفلك استدارة السماء و قال الآخرون الفلك موج مكفوف دون السماء تجرى فيه الشمس و القمر و النجوم قلت و الصحيح ان المراد بالفلك السماء و التنوين للدلالة على ان كل واحد منها في فلك واحد من الافلاك و هو السماء الدنيا و ان كان مدار الكواكب على أفلاك شتى فالمراد بالفلك الجنس كقولهم كساهم الأمير حلة و اللّه اعلم يَسْبَحُونَ اى يجرون و يسيرون بسرعة كالسابح في الماء و الضمير راجع الى الشمس و القمر و انما جمع باعتبار المطالع و جعل و او العقلاء لان السباحة فعلهم و اللّه اعلم اخرج ابن المنذر عن ابى جرع قال لما نعى للنبى صلى اللّه عليه و سلم نفسه قال يا رب من لامتى فنزلت. ٣٤ وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ اى الخلود و دوام البقاء في الدنيا أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ قال البغوي نزلت هذه الآية حين قالت الكفار نتربص بمحمد ريب المنون و الفاء لتعلق الشرط بما قبله و الهمزة للانكار بعد ما تقرر ذلك و الجملة معطوفة على مضمون ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد يعنى ثبت انك لست بخالد فان مت افهم الخالدون. ٣٥ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ اى ذائقة مرارة مفارقتها جسدها هذه الجملة مقررة لقوله تعالى و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد وَ نَبْلُوكُمْ نعاملكم معاملة المحشر بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ و بالشدة و الرخاء و الصحة و السقم و الغنى و الفقر و كل ما يحبون و ما يكرهون فِتْنَةً اى ابتلاء فهو مصدر من غير لفظه يعنى نبلوكم ابتلاء حتّى يظهر منكم بعد ما تحبونه الشكر او الكفر ان و بعد ما تكرهونه الصبر او الجوع و الشكوى وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ فيجازيكم على حسب ما يوجد منكم الصبر و الشكر او ضدهما و فيه ايماء بان المقصود من هذه النشأة انما هو الابتلاء و التعريض للثواب او العقاب تقريرا لما سبق اخرج ابن ابى حاتم عن السدى قال مر النبي صلى اللّه عليه و سلم على ابى جهل و ابى سفيان و هما يتحدثان فلما راه ابو جهل ضحك و قال لابى سفيان هذا نبى من بنى عبد مناف فغضب ابو سفيان و قال ما تنكرون ان يكون من بنى عبد مناف نبى فسمع النبي صلى اللّه عليه و سلم فرجع الى ابى جهل فوقع به و خوفه و قال ماراك منتهيا حتى يصيبك ما أصاب عمك فنزلت. ٣٦ وَ إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً سخريا اى مهزوا به أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ بيان لقوله ان يتخذونك إلا هزوا تقديره يقولون ا هذا الّذي يذكر الهتكم اى بسوء و انما أطلقه لدلالة الحال فان ذكر العدو لا يكون الا بسوء و ذكر الحبيب لا يكون الا بخير يقال فلان يذكر فلانا يعنى يعيبها و فلان يذكر اللّه اى يعظمه و يجله وَ هُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ با لتوحيد و التعظيم او بإرشاده الخلق ببعث الرسل و انزل الكتب رحمة عليهم- او بالقران هُمْ كافِرُونَ منكرون يقولون لارحمن الا رحمن اليمامة يعنى مسيلمة الكذاب فهم أحق بان يهزوبهم و تكريرا لضمير للتاكيد او التحصيص او لحيلولة بينه و بين الخبر. ٣٧ خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ يعنى خلق الإنسان مجبولا على الاستعجال كانه خلق منه لفرط استعجاله و قلة تا؟؟؟ نيه يقول العرب للّذي يكثر منه الشي ء خلق منه يقال خلقت من تعب و خلقت من غضب و خلق فلان من الكرم جعل ما طبع هو بمنزلة المطبوع هو منه مبالغة في لزومه له قال سعيد بن جبير و السدى لما دخل الروح في راس آدم و عينه نظر الى ثمار الجنة فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل ان يبلغ الروح في رجليه عجلان الى ثمار الجنة فوقع فقيل خلق الإنسان من عجل و المراد بالإنسان آدم عليه السلام و أورث أولاد العجلة من عجلته مبادرته الى الكفر و استعجال الوعيد قلت و يمكن ان يقال على ما قالت الصوفية ان العالم بأسرها ظلال لاسماء اللّه تعالى و صفاته و مباد لتعينات الخلائق و اللّه سبحانه متصف بالصفات المتضادة فكما ان الصبور من الأسماء الحسنى كذلك سريع الحساب منها فالاستعجال الّذي هو من صفات اللّه تعالى له دخل في مبدأ تعين نوع الإنسان و من هاهنا قال قوم معناه ان بنيته و خلقته من العجلة فان قيل إذا كان الاستعجال من صفات اللّه تعالى كان محمود او سياق هذه الآية تدل على كونه مذموما و ايضا إذا كان الإنسان مجبولا على الاستعجال فالنهى عنه لا يجوز لان الطبيعيات لا يكون مقدورة الترك قلنا نفس الاستعجال غير مذموم و انما المذموم الافراط فيه او وضعه في غير موضعه الا ترى ان اللّه تعالى يمدح الأنبياء بانهم يسارعون في الخيرات فالممنوع هو الافراط و وضعه في غير موضعه و ذلك مقدور تركه و قال قوم معناه خلق الإنسان يعنى آدم من تعجيل في خلق اللّه إياه لان خلقه كان بعد كل شي ء في اخر النهار يوم الجمعه فاسرع في خلقه قبل مغيب الشمس قال مجاهد فلما احى الروح راسه قال يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس و قيل معناه خلق آدم بسرعة و تعجيل لا على ترتيب خلق سائر الآدمين من النطفة و العلقة و المضغة و غيرها و قال قوم من عجل اى من طين قال الشاعر و النبغ في الصخرة الصماء منبتة و النخل تنبت من الماء و العجل قال في القاموس العجل محولة الطين او الحماة و هذه جملة معترضة تمهيد للتشنيع على قولهم و يقولون متى هذا الوعد سَأُرِيكُمْ آياتِي و نعماتى في الدنيا لوقعة بدور في الآخرة عذاب النار فَلا تَسْتَعْجِلُونِ بالإتيان بها قبل وقتها المقدر لها الفاء للسببية معطوف على قوله ساريكم آياتي و هى معترضة ثانية رد الاستبعاد المشركين وعيد العذاب و استعجالهم استهزاء حيث كانوا يقولون أمطر علينا حجارة من السماء قيل نزلت في النضر بن الحارث حين استعجل العذاب. ٣٨ وَ يَقُولُونَ اى الكفار مَتى هذَا الْوَعْدُ اى وقت وعد العذاب او القيامة الاستفهام للاستنبط المبنى على الاستعجال و الجملة عطف على الشرطية السابقة اعنى و إذ أراك الذين كفروا ان يتخذونك الا هزوا او عطف على يقولون المقدر في قوله ا هذا الّذي يذكر الهتكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بالوعيد بالعذاب او بإتيان القيامة خطاب للنبى صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه شرط مستغن عن الجزاء بما مضى يعنى فبينوا وقت إتيانها فقال اللّه تعالى. ٣٩ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَ لا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ جواب لو محذوف و حين قيل مفعول به ليعلم و المعنى لو يعلمون الوقت الّذي يحيط بهم النار من كل جانب بحيث لا يستطيعون دفعها عن أنفسهم بانفسهم و لا يجدون أحدا ينصرهم يدفعها عنهم لما أقاموا على كفرهم و قيل مفعول يعلم متروك و حين ظرف بفعل مقدر و التقدير لو كان لهم علم لما استعجلوا يعلمون بطلان ما هم عليه حين لا يكفون فهما جملتان- قلت و جاز ان يكون مفعول يعلم مقدر او يكون حين ظرفا لفعل مقدر و التقدير لو يعلم الذين كفروا ما ينزل بهم حين لا يكفون عن وجوههم النار يعنى حين يحيط بهم النار لما استعجلوا العذاب و لما قالوا متى هذا الوعد. ٤٠ بَلْ تَأْتِيهِمْ الضمير للنار او للوعد او الحين و التأنيث باعتبار ان الوعد بمعنى العدة و الحين بمعنى الساعة و الجملة إضراب عما تضمنه متى هذا الوعد من الاستبعاد او عما تضمنه لو يعلم الذين كفروا يعنى لا يعلمون وقت مجى الساعة او العدة او النار الّتي يحيط بهم في جميع الجوانب بَغْتَةً اى فجأة منصوب على المصدرية او على الحال فَتَبْهَتُهُمْ تلك العدة او النار او الساعة يعنى تغلبهم او تحيرهم فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ اى يمهلون فيه تذكير بامهالهم في الدنيا و تقديم المسند اليه فى قوله تعالى و لا هم ينصرون و لا هم ينظرون على المسند و هو فعل لدلالة الحصر بالكفار اشعارا بان عصاة المؤمنين ينصرهم الشفعاء من الأنبياء و الملئكة و الصلحاء و هم ينظرون و يغفرون. ٤١ وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ عطف على قوله و إذ أراك الذين كفروا ان يتخذونك إلا هزوا و اللام لكونه جواب قسم محذوف و فيه تسلية للنبى صلى اللّه عليه و سلم و وعيد لمن يستهزأ به فَحاقَ اى نزل بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ اى جزاء استهزائهم. ٤٢ قُلْ يا محمد للمستهزئين بك مَنْ يَكْلَؤُكُمْ اى يحفظكم بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ قال ابن عباس ان من عذاب اللّه ان أراد بكم او ان نزل بكم يعنى لاكالئ من عذابه الا رحمته العامة في الدنيا و ان اندفاعه بامهاله بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ إضراب عن الأمر بالسؤال فان معناه ذكّرهم الرحمن و حذرهم عن عذابه فقال بل هم معرضون عن ذكره يعنى عن القران و مواعظ اللّه فلا ينفعهم التذكير او المعنى انهم لا يخطرون الرحمن ببالهم فضلا ان يخافوا بأسه حتى إذ كلئوا منه عرفوا الكالى و صلحوا للسوال عنه. ٤٣ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ يعنى بل الهم الهة تَمْنَعُهُمْ من عذابنا صفة لالهة مِنْ دُونِنا صفة ثانية لالهة او حال عنه يعنى كائنة من دوننا إضراب ثان عن الأمر بالسؤال فان السؤال عن المعرض بعيد و عن المعتقد لنقيضه ابعد و الاستفهام لانكار معتقدهم يعنى ليس الأمر كما اعتقدوه ان الهتهم تمنعهم من العذاب لا يَسْتَطِيعُونَ يعنى ما اعتقدوه الهة لا تستطيع شي ء منها نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ أصلا ان يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه جملة مستانفة في مقام التعليل للانكار وَ لا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ عطف على لا يستطيعون يعنى و لا يصحبهم منا نصركما يصحب لمن يشفع عصاة المؤمنين من النبيين و الملئكة و الصالحين و قال ابن عباس معناه و لا هم منا يمنعون فالمعنى ان العذاب يشتمل الالهة ايضا نظيره قوله تعالى انكم و ما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم و قال عطية عنه معناه تجارون يقول العرب انا لك جار و صاحب من فلان و قال مجاهد معناه ينصرون و قال قتادة لا يصحبون من اللّه يعنى بالاذن في الشفاعة و النصر فهذا يؤل الى الاول و الثالث و الرابع الى الثاني. ٤٤ بَلْ مَتَّعْنا يعنى أعطينا النعمة و أمهلنا هؤُلاءِ الكفار في الدنيا وَ آباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ اى امتد بهم الزمان إضراب عما توهموا من نصر الالهة إياهم ببيان ما هو الداعي الى حفظهم و هو الاستدراج و التمتيع بما قدر لهم من الأعمار او عن الدلالة على بطلان ما توهموه ببيان ما أوهمهم ذلك و هو انه تعالى امهلهم استدراجا فاغتروا و حسبوا ان لا يزالوا كذلك و انه بسبب ما هم عليه و لذلك عقبه بما يدل على انه امل كاذب قال أَ فَلا يَرَوْنَ الهمرة للانكار و الغاء للعطف على محذوف تقديره الا ينظرون فلا يرون بالأبصار او التقدير الا يتفكرون فلا يعلمون أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ اى يأتي أمرنا ارض الكفار ان ينقص نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها اى نسلط المسلمين على أطرافها بيان لقوله ناتى الأرض و تصوير لما يجريه اللّه على أيدي المسلمين فتح ديار المشركين أرضا فارضا أَ فَهُمُ الْغالِبُونَ رسول اللّه و المؤمنين الهمزة للانكار و الفاء للعطف على ناتى الأرض يعنى ليس الأمر انهم يغلبون رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و المؤمنين. ٤٥ قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ اى أخوفكم بِالْوَحْيِ اى بما يوحى الى من القران هذه الجملة تقرير النهى عن استعجال لحوق العذاب و نفى استبعاده و المعنى ان اتدارى بالعذاب ليس من تلقاع نفسى انما هو بأخبار اللّه العليم القدير الّذي لا يحتمل التخلف في اخباره فلا وجه لاستبعادكم و استعجالكم وَ لا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ قرأ ابن عامر لا تسمع بالتاء الفوقانية المضمومة و كسر الميم من الافعال خطابا للنبى صلى اللّه عليه و سلم و نصب الصم و الباقون بالياء المفتوحة و فتح الميم من المجرور رفع الصم على الفاعلية و الجملة حال من فاعل قل او من المحذوف يعنى قل للكافرين المستهزئين المستعجلين للعذاب فا اللام للعهد سماهم الصم و وضعه موضع ضميرهم و لم يقل و لا يسمعون الدعاء اولا يسمعهم فلتصريخ على تصامهم و عدم انتفاعهم بما يسمعون إِذا ما يُنْذَرُونَ ظرف ليسمع او للدعاء و التقييد به لان الكلام في الانذار او للمبالغة في تصامهم و تجاسرهم. ٤٦ وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ جواب قسم محذوف نَفْحَةٌ قال ابن عباس طرف و قيل قليل و قال ابن جريح نصيب من قولهم نفح فلان لفلان من ماله اى أعطاه حظا منه و قيل ضربة من قولهم نفحت الدابة برجلها و اصل النفح هبوب رائحة الطيب و فيه مبالغات ذكر المس و ما في النفحة من معنى القلة و البناء الدال على المرة مِنْ عَذابِ رَبِّكَ الّذي ينذرون به و يستعجلونه لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا يا هلاكنا احضر فهذا او انك إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ على أنفسنا بالاشراك باللّه و عدم التحرز عن عذابه يعنى لدعوا على أنفسهم بالوكيل و اعترفوا عليها بالظلم و ندموا حين لا ينفعهم الندم. ٤٧ وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ اى ذوات القسط او وصفت به للمبالغة و أفرد القسط لانه مصدر لِيَوْمِ الْقِيامَةِ اى لجزاء يوم القيامة او لاجل أهلها او فيه كقولك جئت لخمس خلون من الشهر قيل وضع الميزان تمثيل لارصاد الحساب السوي و الجزاء على حسب الأعمال و هذا التأويل غير مقبول عند اهل السنة لعله من كلام اهل الهواء و الصحيح ان الميزان على حقيقته اخرج ابن المبارك في الزهد و الآجري في الشريعة عن سلمان موقوفا و ابو الشيخ ابن حبان في تفسيره من طريق الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس قال الميزان له لسان و كفتان و اخرج ابن مردوية في تفسيره عن عائشة قالت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول خلق اللّه عزّ و جلّ كفتى الميزان مثل السماء و الأرض الحديث و اخرج بيهقى في البعث عن ابن عمر عن عمر ابن الخطاب في حديث سوال جبريل عن الايمان قال يا محمد ما الايمان قال ان تومن باللّه و ملئكته و رسله و تومن بالجنة و النار و الميزان و تومن بالبعث بعد الموت بالقدر خيره و شره قال فاذا فعلت فانا مومن قال نعم قال صدقت و اخرج الحاكم في المستدرك و صححه على شرط مسلم عن سلمان عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال يوضع الميزان يوم القيمة فلو وزن فيه السموات و الأرض لوسعت الحديث و اخرج الترمذي و حسنه و البيهقي عن انس قال سألت النبي صلى اللّه عليه و سلم ان يشفع لى يوم القيمة قال انا فاعل قلت يا رسول اللّه فاين أطلبك قال اطلبنى أول ما تطلبنى على الصراط قلت فان لم القك على الصراط قال فاطلبنى عند الميزان قلت فان لم القك عند الميزان قال فاطلبنى عند الحوض فانى لا أخطى هذه المواطن الثلاثة و اخرج الحاكم و البيهقي و الا جرى عن عائشة قالت قلت يا رسول اللّه هل تذكرون أهليكم يوم القيمة قال في ثلث مواطن فلا يذكر أحد أحدا حيث يوضع الميزان حتى يعلم يثقل ميزانه او يخف و حيث تطار الكتب حتى يعلم اين يقع كتابه في يمينه او في شماله او من وراء ظهره و حيث يوضع الصراط حتى يعلم ان ينجوا اولا و قد ورد في الميزان أحاديث كثيرة ذكرنا بعضها في السورة القارعة في تفسير قوله تعالى فمن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية الاية و ذكر البغوي انه روى ان داود عليه السلام سأل ربه ان يريه الميزان فاراه كل كفة ما بين المشرق و المغرب فغشى عليه ثم أفاق فقال يا الهى من الّذي يقدر ان يملا كفة حسناته فقال يا داود انّى إذا رضيت عن عبدى ملأتها بتمرة و أورد لفظ الجمع فقال و تضع الموازين قال النسفي في بحر الكلام اما لان يكون لكل انسان ميزان علمحدة او لان الجمع يذكر و يراد به الواحد تفخيما و تعظيما كما في قوله تعالى فنادته الملئكة و هو جبرئيل و قال اللّه تعالى يا ايها الرسل كلوا من الطيبات و المراد به محمد صلى اللّه عليه و سلم و جاز ان يعتبر كل جزء منه ميزانا و يطلق الجمع على المجموع كالسراويل يعتبر جمع سروالة فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً يسيرا من حقه او من الظلم اى لا ينقص من حسناته بلا سبب و لا يزاد على سيئاته وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ مصدر ميمى اى زنة حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ قرأ نافع مثقال بالرفع على ان كان تامة و هو فاعلها و الباقون بالنصب على انها ناقصة و اسمها ضمير راجع الى العمل المفهوم من الموازين يعنى ان كان العمل مثقال حبة من خردل أَتَيْنا بِها اى أحضرناها في الميزان قوله ان كان مثقال حبة من خردل شرط و المعطوف محذوف و اتينا بها جزاء و التقدير و ان كان العمل مثقال حبة من خردل يعنى أصغر صغيرا و كبيرا اتيناها اى أحضرناها في الميزان و جاز ان يكون ان متصله يعنى فلا تظلم نفس شيئا من حقه و ان كان حقه مثقال حبة من خردل و على هذا قوله ايتنا بها جملة مستانفة بيان لنفى الظلم و الضمير عائد الى المثقال و تأنيثه لاجل إضافته الى حبة يعنى اتينا مثقال الحبة من حقه اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس قال يحاسب الناس يوم القيمة فمن كانت حسناته اكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة و من سيئاته اكثر من حسناته بواحدة دخل النار قال و ان الميزان يخفف بمثقال حبة و يرجح و من استوت حسناته و سيئاته كان من اصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط وَ كَفى بِنا الباء زائدة و ضمير المتكلم فاعل لكفى و جاز ذلك لاجل الفصل حاسِبِينَ منصوب على التميز او الحال قال السدى محصين و الحسب معناه القدر و قال ابن عباس عالمين حافظين لان من حسب شيئا علمه و حفظه و كفى باللّه حسيبا إذ لا مزيد على علمه و عدله. ٤٨ وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَ هارُونَ الْفُرْقانَ اى الكتاب الفارق بين الحق و الباطل يعنى التوراة وَ ضِياءً يستضاء به في ظلمات الحيرة و الجهل و التنكير للتعظيم وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٢) اى يتّعظ به المتقون او ذكر ما يحتاجون اليه من الشرائع يعنى كتابا جامعا بين هذه الصفات و قال ابن زيد الفرقان النصر على الأعداء قال اللّه تعالى يوم الفرقان ليوم بدر و قيل الفرقان فلق البحر و على هذا الضياء و الذكر يراد بهما التوراة او الذكر الوحى الغير المتلو النازل على موسى عليه السلام وعظ به بنى إسرائيل. ٤٩ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ صفة للمتقين او مدح لهم منصوب او مرفوع بِالْغَيْبِ حال من الفاعل او المفعول وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ خائفون و في تصدير الضمير و الحكم عليه مبالغة و تعويض و الجملة عطف على الصلة او حال. ٥٠ وَ هذا اى القران مبتدأ خبره ذِكْرٌ مُبارَكٌ صفة لذكر و التنكير فيها للتعظيم اى ذكر عظيم كثير خيره أَنْزَلْناهُ على محمد صلى اللّه عليه و سلم صقة ثانية لذكر أَ فَأَنْتُمْ يا اهل مكة لَهُ مُنْكِرُونَ استفهام انكار و توبيخ على انكارهم بعد ثبوت كونه كثير الخير منزلا من اللّه. ٥١ وَ لَقَدْ آتَيْنا جواب قسم محذوف إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ اى صلاحه يعنى التوحيد و الاجتناب عن عبادة الأوثان و إضافته ليدل على ان له شانا عظيما في الرشد مِنْ قَبْلُ يعنى قبل موسى و هارون و محمد صلى اللّه عليه و سلم يعنى ما أوحينا الى محمد صلى اللّه عليه و سلم ليس امرا مبدعا بل جرى به السنة الالهية لاصلاح الخلق و قيل معناه من قبل البلوغ حين خرج من السرب و هو صغير حين قال انى وجهت يعنى أعطيناه النبوة صغيرا كما قال ليحيى اتيناه الحكم صبيا او المعنى قبل استنبائه وَ كُنَّا بِهِ اى بإبراهيم عالِمِينَ انه اهل للّهداية و و النبوة حيث كان مبدأ تعينه صفة العلم و الهداية من صفات اللّه تعالى. ٥٢ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ الظرف متعلق بايتنا او برشده او بمحذوف اى اذكر من اوقات رشده وقت قوله ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ تحقير لشانها و توبيخ على اجلالها فان التمثال صورة لا روح فيها فلا يضر و لا ينفع و اللام للاختصاص دون التعدية فان العكوف يتعدى بعلى يعنى أنتم فاعلون العكوف لها او يأول بعلى يعنى أنتم عليها اى على عبادتها تعلمون او تضمن العكوف معنى العبادة يعنى أنتم لها عابدون. ٥٣ قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ جواب عما لزم الاستفهام من السؤال عن المقتضى لعبادتها يعنى حملنا على عبادتها تقليدنا بآبائنا. ٥٤ قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فى خطأ بيّن حيث تعبدون حجارة لا تضر و لا تنفع و تقليد من هو في خطأ بيّن خطأ بيّن. ٥٥ قالُوا استبعاد التضليل ابائهم و ظنا انه يقول ذلك ملاعبة أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ اى بعلم مستند على دليل قطعى فتجدّد بهذا القول أَمْ أَنْتَ فى هذا القول مِنَ اللَّاعِبِينَ استفهام لانكار الإنكار عليهم و استبعاد ان يكون ما هم عليه ضلالا. ٥٦ قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ صلى خلقهن على غير مثال سبق وصف رب السموات و الأرض بهذا دفعا لقول الجهلة في اطلاق الرب على السلطان و قول نمرود انا احيى و أميت و هذا ضراب عن كونه لاعبا باقامة البرهان بان السموات و الأرض تشهدان لهما خالق لامكانهما و كونهما محلا للحوادث و الخالق للممكنات لا بد ان يكون واجبا وجوده متصغا بصفات الكمال واحدا غير متمانع و هو يستحق العبادة لا غير وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ المذكور من التوحيد مِنَ الشَّاهِدِينَ المعترفين المحققين المبرهنين باللسان و الجنان كما ان السموات و الأرض و سائر الممكنات شاهد عليه بلسان الحال. ٥٧ وَ تَاللّه لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ و الكيد المكر و الحيلة و المراد هاهنا لافعلن بها سوء او لاجتهدن في كسرها بنوع من الاحتيال قال البيضاوي و التاء في القسم بدل من الواو المبدلة من الباء و فيها تعجب و لفظ الكيد و ما في التاء من التعجب لصعوبة الأمر و توقفه على نوع من الحيل لكونه على رغم نمرود و خلق كثير مع قوة سلطنته عطف على قوله قال بتأويل هذا القول يعنى قال هذا القول و هذا القول بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا عنها مُدْبِرِينَ لها منطلقين الى عبيدكم قال البغوي قال مجاهد و قتادة انما قال ابراهيم هذا سرا من قومه و لم يسمع ذلك الا رجل واحد فافشاه عليه و قال انا سمعنا فتى يذكرهم يقال له ابراهيم قال السدى كان لهم في سنة مجمع وعيد و كانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم عادوا الى منازلهم فلما كان ذلك العيد قال لابراهيم أبوه يا ابراهيم لو خرجت معنا الى عيدنا أعجبك ديننا فخرج معهم ابراهيم فلما كان ببعض الطريق القى نفسه و قال انى سقيم يقول اشتكى رجلى فلما مضوا نادى في آخرهم و قد بقي ضعفاء الناس تاللّه لاكيدن أصنامكم فسمعوها منه ثم رجع ابراهيم الى بيت الالهة و هن في بهو «١» عظيم مستقبل باب البهو صنم عظيم الى جنبه أصغر منه و الأصنام بعضها الى جنب بعض كل صنم يليه أصغر منه الى باب البهو و إذا هو قد جعلوا طعاما فوضعوا بين أيدي الالهة قالوا إذا رجعنا و قد بركت الالهة في طعامنا أكلنا فلما نظر إليهم ابراهيم و الى ما بين أيديهم من الطعام قال لهم على طريق الاستهزاء الا تأكلون فلما لم يجبه أحد قال مالكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين يعنى مال على الأصنام بضربهم ضربا باليمين لكونها أقوى من اليسار او بسبب اليمين الّذي قال تاللّه لاكيدن أصنامكم. (١) البهو البيت المقدم امام البيوت و الواسع من الأرض و من كل شي ء و الباهى من البيوت الخالي و المعطل- قاموس. ٥٨ فَجَعَلَهُمْ يعنى الأصنام جُذاذاً قرأ الجمهور بضم الجيم فعال بمعنى المفعول كالحطام من الجذ بمعنى القطع و قيل جمع لا واحد له من لفظه و قرا الكسائي بكسر الجيم و هو لغة بمعنى المفعول او جمع جذيذ كخفاف و خفيف يعنى كسر ابراهيم كلهن إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ يعنى الا الصنم الأكبر حيث لم يكسرها و علق الفأس في عنقه ذكر اللّه سبحانه ضمير جمع المذكر على زعمهم الهة لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ يعنى الى ابراهيم يرجعون اليه لتفرده و اشهاره بعداوة الآلهة فيحاجهم بكونها عجزة عن مقاومة رجل على ابطال الوهيتهم او الى الكبير يرجعون اليه فيسئلونه عن كاسرهن إذ من شان المعبود العلم و الاجابة فيكبتهم بذلك او الى اللّه يرجعون عند ثبوت عجز الالهة. ٥٩ قالُوا حين رجعوا من العيد مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا من استفهامية و جاز ان يكون موصولة مع صلتها مبتدأ خبره إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ بجرأته على الالهة او بافراطه على حطمها او على نفسه بتعريضه للاهلاك و هذه جملة مستانفة على تقدير كون ما قبلها استفهامية. ٦٠ قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ بالعيب و السوء صفة لغتى تصححه ان يتعلق به السمع و هو ابلغ في نسبة الذكر اليه كان الذكر صار حقيقة له عليه السلام و جاز ان يكون ثانى مفعولى سمعنا بتضمنه معنى علمنا بحاسة السمع يُقالُ لَهُ صفة ثانية لفتى إِبْراهِيمُ اى هو ابراهيم و يجوز رفعه بالفعل لان المراد به الاسم فبلغ ذلك الخبر نمرود الجبار و اشراف قومه. ٦١ قالُوا يعنى نمرود و اشراف قومه فَأْتُوا بِهِ يعنى ان فعل هو ذلك بآلهتنا فاتوا به عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ حال اى كائنا بمرأ منهم بحيث يتمكن صورته في أعينهم تمكن الراكب على المركب و قيل المراد بأعين الناس رؤسائهم و على متعلق بفاتوا على طريقة أتيت على القاضي لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ بفعله و قوله حتى لانعذبه بلا بيّنة كذا قال الحسن و قتادة و السدى و قال محمد بن اسحق اى لكى يشهدوا اى يحضروا عقابه و ما يصنع به فلما أتوا به. ٦٢ قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ ٦٣ قالَ ابراهيم بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا أسند الفعل الى كبير الأصنام مجازا لما كان غيظه لما رأى من زيادة تعظيمهم إياه تسبب لمباشرته إياه او تقريرا لنفسه مع الاستهزاء و التبكيت على اسلوب تعريضى كما قال لك من لا يحسن الخط فيما كتبته بخط أنيق ا أنت كتبت فقلت بل أنت كتبت او حكاية لما يلزم من اعتقادهم و جوازه كان كبيرهم غاظ ان يعبد معه غيره و قال القتيبي انه في المعنى متعلق بقوله فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ جعل النطق شرطا للفعل يعنى ان قدروا على النطق قدروا على الفعل فاراهم عجزهم عن النطق و في ضمنه انا فعلته ذلك و روى عن الكسائي انه كان يقف عند قوله بل فعله يعنى فعله ابراهيم المذكور في كلام السائل فالفعل مسند الى الضمير و قيل معناه فعله من فعله و فيه حذف الفاعل و هو غير جائز قلت ما روى عن الكسائي يابى عنه كلمة بل فان اضرابه عن اسناد الفعل الى نفسه يشعر نفيه عنه و إلا لزم ما فعلته بل فعلته و ايضا يمنع الوقف على قوله بل فعله حديث ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لم يكذب ابراهيم الا ثلث كذبات ثنتين في ذات اللّه قوله انى سقيم و قوله بل فعله كبيرهم هذا و قال بينا هو ذات يوم و سارة إذ اتى على جبار من الجبابرة فقيل له ان هاهنا رجلا معه امرأة من احسن الناس فارسل اليه فسأله عنها من هذه قال أختي فاتى سارة فقال لها هذا الجبار ان يعلم انك امرأتى يغلبنى عليك فان سألك فاخبريه انك أختي فانك أختي في الإسلام ليس على وجه الأرض مومن غيرى و غيرك فارسل إليها فاتى بها و قام ابراهيم يصلى فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فاخذ و يروى فغطّ حتى ركض برجله فقال ادعى اللّه لى و لا اضرك فدعت اللّه فاطلق ثم تناولها الثانية فاخذ مثلها او أشد فقال ادعى اللّه لى و لا اضرك فدعت اللّه فاطلق فدعا بعض حجبته فقال انك لم تأتني بانسان انما أتيتني بشيطان فاخدمها هاجرة فاتته و هو قائم يصلى فاوفى بيده مريم «١» قالت رد اللّه كيد الكافر في نحره و اخدم هاجرة قال ابو هريرة تلك امكم يا بنى ماء السماء متفق عليه و انما سماها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كذبات مجاز التسمية للمعاريض كذبا لما شابهت صورتها صورته كما قال اللّه تعالى و جزاء سيئة سيئة مثلها الا ترى ان قول ابراهيم فانك أختي في الإسلام صريخ في ان قول ابراهيم كان من المعاريض لابارادة الكذب حاشاه على ذلك و انما أضاف ابراهيم السؤال الى سائرهم مع انه كان عرض بالكبير نفسه لاشتراك سائرهم في الحضور. (١) اى ما أمركم و شانكم و هى كلمة يمانية ١٢. ٦٤ فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ يعنى رجعوا الى عقولهم و تفكروا و فهموا ان ما يقول ابراهيم من نفى الوهية هؤلاء حق و ما نحن عليه باطل فَقالُوا فى أنفسهم او بعضهم لبعض إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (١١) بعبادتكم من لا يتكلم و لا يضر و لا ينفع او أنتم الظالمون بسوال هذا الرجل او بقولكم إياه انه لمن الظالمين. ٦٥ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ يعنى ردوا الى الكفر و انقلبوا الى المجادلة بعد ما استقاموا بالمراجعة الى العقول شبه عودهم الى الباطل بصيرورة أسفل الشي ء أعلاه و الا على الأسفل لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فكيف تأمر بسوالهم و التقدير و قالوا و اللّه لقد علمت ما هؤلاء ينطقون. ٦٦ قالَ ابراهيم لما تم الحجة عليهم أَ فَتَعْبُدُونَ عطف على محذوف تقديره أ تعترفون بان هؤلاء لا ينطقون و لا تنفعكم شيئا و لا يضرون و انكم أنتم الظالمون في عبادتها أ فتعبدون بعد ذلك مِنْ دُونِ اللّه ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً من النفع ان عبدتموها وَ لا يَضُرُّكُمْ ان تركتم عبادتها انكار لعبادتها و توبيخ بعد ما اعترفوا بانها جمادات لا تنفع فلا تضر فانه ينافى الألوهية. ٦٧ أُفٍّ قرأ ابن كثير و ابن عامر بفتح الفاء من غير تنوين و الباقون بكسر الفاء نافع و حفص منهم بالتنوين و الباقون بغير تنوين كما مر في الاسراء مجله الرفع فانه مبتدأ نكرة على طريقه ويل له و ما بعده خبره او اسم فعل بمعنى أتضجر لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه اى غيره تضجر و استعذار لكم على اصرار الباطل مع وضوح بطلانه و لهؤلاء على معبوديتهم مع عدم الاستحقاق و أف صوت المتضجر المستكره و قيل معناه الاحتقار و الاستقذار و في الحديث القى رسول اللّه طرفه ثوبه على أنفه و قال أف أف مستقذرا لما شمّ الرائحة الكريهة و قيل معناه الاحتقار قال البيضاوي و معناه قبحا ولتنا و اللام لبيان المتافف له أَ فَلا تَعْقِلُونَ استفهام توبيخ و عطف على محذوف تقديره انتظرون فلا تعقلون ان هذه الأصنام لا تستحق العبادة و لا تضلح لها و انما يستحقها اللّه تعالى فلما لزمتهم الحجة و عجزوا عن الجواب أخذوا في المضارّة و. ٦٨ قالُوا حَرِّقُوهُ بالنار وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ نصرها شرط مستغن عن الجزاء بما مضى قال هذا رجل من الأكراد قيل اسمه هنون فخسف اللّه به الأرض فهو يتجلجل فيها الى يوم القيامة و قيل قاله نمرود فلما اجمع نمرود و قومه على إحراق ابراهيم عليه السلام حبسوه في بيت و بنوا بنيانا كالحظيرة «١» و قيل بنوا أتونا «٢» بقرية يقال لها كوثى ثم جمعوا له أصلاب الحطب من اصناف الخشب مدة حتى كان الرجل يمرض فيقول لئن عافانى اللّه لا جمع حطبا لابراهيم و كانت المرأة تطلب في بعض ما تطلب لان أصابته لتحطبن في نار ابراهيم و كان الرجل بوصي بشراء الحطب و القائه فيه و كانت المرأة تغزل و تشترى الحطب بغزلها فتلقيه فيه احتسانا قال ابن اسحق كانوا يجمعون الحطب شهرا فلما جمعوا ما أرادوا و اشعلوا في كل ناحية من الحطب فاشتعلت النار و اشتدت حتى ان كان الطائر لتمربها فتحرق من شدة وهجها فاوقدوا عليها سبعة ايام روى انهم لم يعلموا كيف يلقونه فيها فجاء إبليس فعلمهم علم المنجنيق فعلموا ثم عمدوا الى ابراهيم فرفعوه الى راس البنيان و قيدوه ثم وضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فصاحت السموات و الأرض و من فيها من الملئكة و جميع الخلق (١) الحظيرة جرين التمر و المحيط بالشي ء خشبا او قصبا ١٢. (٢) الأتون كتنّور و قد يخفف أخدود الخباز و الحصاص ١٢ قاموس. الا الثقلين صيحة واحدة اى ربنا ابراهيم خليلك يلقى في النار و ليس في الأرض أحد يعبدك غيره فاذن لها في نصرته فقال اللّه عزّ و جلّ انه خليلى ليس لى خليل غيره و انا اله ليس له اله غيرى فان استعان بشي ء منكم او دعاه فلينصره فقد أذنت له في ذلك و ان لم يدع غيرى فانا اعلم به و انا وليه فخلوا بينى و بينه فلما أرادوا القائه في النار أتاه خازن المياه فقال ان أردت أخمدت النار و أتاه خازن الرياح فقال ان شئت طيرت النار في الهواء فقال ابراهيم لا حاجة لى إليكم حسبى اللّه و نعم الوكيل و روى عن ابى بن كعب ان ابراهيم قال حين او ثقوه ليلقوه في النار لا اله الا أنت سبحانك لك الحمد و لك الملك لا شريك لك ثم رموا به في المنجنيق إليها و استقبله جبرئيل فقال يا ابراهيم أ لك حاجة قال اما إليك فلا قال جبرئيل قال ربك فقال ابراهيم حسبى من سوالى علمه بحالي قال كعب الأحبار جعل كل شي ء يطفى عنه النار الا الوزغ فانه كان ينفخ في النار و روى البغوي عن سعيد بن المسيب عن أم شريك ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم امر بقتل الوزغ و قال كان ينفخ على ابراهيم و أورد الشيخان في الصحيحين و الطبراني عن ابن عباس مرفوعا اقتلوا الوزغ و لو في جوف الكعبة و عن سعد بن ابى وقاص ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم امر بقتل الوزغ و سماه فويسقا رواه مسلم و عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال من قتل وزغا في أول حربة كتب له مأته حسنة و في الثانية دون ذلك و في الثالثة دون ذلك رواه مسلم. ٦٩ قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ اى ذات برد و سلام اى ابردى بردا غير ضار قال ابن عباس لو لم يقل سلاما لمات ابراهيم من بردها قال البيضاوي و فيه مبالغات جعل النار المسخرة بقدرته مامورة مطيعة و اقامة كونى ذات برد مقام ابردى ثم حذف المضاف و اقامة المضاف اليه مقامه و قيل نصب سلاما بفعله اى و سلمنا سلاما عليه قال البغوي و من المعروف في الآثار انه لم يبق يومئذ نار في الأرض الا طفئت فلم ينتفع في ذلك اليوم بنار في العالم و لو لم يقل على ابراهيم بقيت ذات برد ابدا قلت و الظاهر ان النار كانت بحالها محرقة لكنه تعالى جعلها غير موذية لابراهيم خاصة كما يدل عليه قوله تعالى على ابراهيم قال السدى أخذت الملئكة بضبعي ابراهيم فاقعدوه على الأرض فاذا عين ماء عذب و ورد احمر ذى حسن قال كعب ما أحرقت النار ابراهيم الا وثاقه قالوا و كان ابراهيم في ذلك الموضع سبعة ايام و قال المنهال بن عمر و قال ابراهيم ما كنت أياما قط أنعم منى من الأيام الّتي كنت في النار و قال ابن يسار فبعث اللّه عزّ و جلّ ملك الظل في صورة ابراهيم فقعد فيها في جنب ابراهيم يونسه و قال و بعث اللّه عزّ و جلّ جبرئيل بقميص من حرير الجنة و طنفسة فالبسه و أقعده على الطنفسة و قعد معه يحدثه و قال جبرئيل يا ابراهيم ان ربك يقول اما علمت ان النار لا يضر أحبابي ثم نظر نمرود و اشرف على ابراهيم من صرح «١» له فرأه جالسا في رو ضة و الملك قاعد الى جنبه و ما حوله نار يحرق الحطب فناداه يا ابراهيم كبير إلهك الّذي بلغت قدرته ان حال بينك و بين ما ارى يا ابراهيم هل تستطيع ان تخرج منها قال نعم قال هل تخشى ان أقمت فيها ان تضرك قال لا قال فقم فاخرج منها فقام ابراهيم يمشى فيها حتى خرج منها فلما خرج اليه قال له يا ابراهيم من الرجل الّذي رأيته معك في مثل صورتك قاعدا الى جنبك قال ذلك ملك الظل أرسله ربى الى ليونسنى فيها فقال نمرود يا ابراهيم انى مقرب الى إلهك قربانا لما رأيت من قدرته و عزته فيما يصنع بك حين أبيت الا عبادته و توحيده انى ذابح له اربعة آلاف بقرة قال له ابراهيم إذا لا يقبل اللّه منك ما كنت على دينك حتى تفارقه على دينى فقال لا أستطيع ترك ملكى و لكن سوف اذبحها له فذبحها له نمرود ثم كف عن ابراهيم و منعه اللّه عزّ و جلّ منه قال شعيب الجبائي القى ابراهيم في النار و هو ابن ست عشرة سنة. (١) الصوح عام من القصر و كل بناء مرتفع- قاموس. ٧٠ وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (ج) قيل معناه انهم خسروا السعر و النفقة و لم يحصل لهم مرادهم و قيل ان اللّه أرسل على نمرود البعوض فاكلت لحومه و شربت دمائه و دخلت واحدة في دماغه فاهلكته قال محمد بن اسحق استجاب لابراهيم رجال من قومه حين رأوا ما صنع اللّه به من جعل النار عليه بردا و سلاما مع خوف من نمرود و ملأهم و أمن له لوط و كان ابن أخيه و هو لوط بن هاران بن تارخ و كان ابراهيم بن تارخ و كان التارخ ابن ثالث يقال له نأخور و امنت به ايضا سارة و هى بنت عمه و هى سارة بنت هاران الأكبر عم ابراهيم فخرج من كوثى من ارض العراق هاجرا الى ربه و معه لوط و سارة كما قال اللّه تعالى فامن له لوط و قال انى مهاجر الى ربى فخرج يلتمس الفرار بدينه و الايمان على عبادة ربه حتى نزل حران فمكث بها ما شاء اللّه ثم خرج منها مهاجرا حتى قدم مصر ثم خرج من مصر الى الشام فنزل السبع من ارض فلسطين و هو بريد الشام و نزل لوط بالمؤتفكة و هو من السبع على مسيرة يوم و ليلة او اقرب فبعثه اللّه نبيا فذلك قوله تعالى. ٧١ وَ نَجَّيْناهُ يعنى ابراهيم وَ لُوطاً من نمرود و قومه كانوا بأرض عراق إِلَى الْأَرْضِ متعلق بنجينا بتضمنه معنى سيرناه الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ بالخصب و كثرة الأشجار و الأنهار و الثمار و من بركاتها العامة بعث اكثر الأنبياء فيها قال ابى بن كعب سماها مباركة لانه من ماء عذب و ينبع أصله من تحت الصخرة الّتي ببيت المقدس روى البغوي عن قتادة ان عمر ابن الخطاب قال لكعب الا تتحول الى المدينة فيها مهاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قبره فقال كعب انى وجدت في كتاب اللّه المنزل يا امير المؤمنين ان الشام كنز اللّه من ارضه و بها كنزه من عباده و عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول انها ستكون هجرة بعد هجرة فخيار الناس الى مهاجر ابراهيم و في رواية فخيار اهل الأرض الزمهم مهاجر ابراهيم و يبقى في الأرض شرارها تلفظهم ارضوهم تقزرهم نفس اللّه تحشرهم النار مع القردة و الخنازير تبيت معهم إذا باتو و تقيل معهم إذا قالوا رواه ابو داود و عن زيد بن ثابت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم طوبى للشام قلنا لاى ذلك قال لان ملئكة الرحمة باسط أجنحتها عليها رواه احمد و الترمذي و عن عبد اللّه بن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سيخرج نار من نحو حضر موت او من حضر موت تحشر الناس قلنا يا رسول اللّه فما تأمرنا قال عليكم بالشام رواه الترمذي و عن ابى جوالة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سيصير ان تكونوا جنودا مجندة جند بالشام و جند باليمن و جند بالعراق فقال ابن جوالة خرلى يا رسول اللّه ان أدركت ذلك قال عليك بالشام فانها خيرة اللّه من ارضه تجتبى إليها خيرته من عباده فامّا ان أبيتم فعليكم بيمنكم و اسقوا من غذاكم فان اللّه توكل لى بالشام و اهله رواه احمد و ابو داؤد و عن شريح بن عبيد قال ذكر اهل الشام عند على رضى اللّه عنه و قبل العنهم يا امير المؤمنين قال لا انى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الابدال يكونون بالشام و هم أربعون رجلا فلمات مات رجل أبدل اللّه مكانه رجلا يسقى بهم الغيث و ينتصر بهم على الأعداء و يصرف عن اهل الشام بهم العذاب رواه احمد و عن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رايت عمودا من نور خرج من تحت راسى ساطعا حتى استقر بالشام رواه البيهقي في الدلائل. ٧٢ وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً ط قيل هى مصدر كالعافية من غير لفظ الفعل السابق اى وهبنا له هبة و قال مجاهد و عطاء معنى النافلة العطية فهى حال منهما إذ هما جميعا من عطاء اللّه و قال الحسن و الضحاك معناه فضلا يعنى وهبنا له إياهما تفضلا فهو منصوب على العلية و روى ابن عباس و ابى بن كعب و ابن زيد و قتادة النافلة هو يعقوب لان اللّه تعالى أعطاه اسحق بدعائه حيث قال رب هب لى من الصالحين و زاده يعقوب ولد الولد و النافلة الزائدة فهو حال من يعقوب و لا بأس به للقرينة وَ كُلًّا اى كل واحد من الاربعة اى ابراهيم و لوطا و اسحق و يعقوب جَعَلْنا صالِحِينَ اى صافية قلوبهم عن الاشتغال بغير اللّه زاكية أنفسهم عن الرذائل بتحلية باوصاف الكمال طاهرة أبدانهم عن التلوث بالمعصية مشغولة بالطاعات فان الصلاح ضد الفساد سواء كان في القلب او القالب او النفس. ٧٣ وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يفتدى بهم في الخير يَهْدُونَ الناس الى ديننا بِأَمْرِنا بذلك حيث أرسلناهم لتكميل الخلائق وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ اى ما هو حسن الذات و بتحسين الشرع وَ إِقامَ الصَّلاةِ حذف تاء الاقامة المعوضة من أحد الألفين لقيام المضاف اليه مقامها وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ ج عطف اقام الصلاة و إيتاء الزكوة على فعل الخيرات عطف الخاص على العام لزياوة الاهتمام و اصل الكلام أوحينا إليهم ان يفعلوا الخيرات و يقيموا الصلاة اقامة و يوتوا الزكوة إيتاء بذكر المصادر المؤكدة ثم حذف الافعال و أضيف المصادر الى المفاعيل وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ موحدين مخلصين في العبادة. ٧٤ وَ لُوطاً منصوب بفعل مضمر يفسره آتَيْناهُ و قيل هو منصوب با ذكر و جملة اتيناه بدل اشتمال يعنى اذكر ايتائنا إياه حُكْماً حكمة او نبوة او فصلا بين الخصوم وَ عِلْماً باللّه و ما ينبغى للانبياء وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ قرية سدوم الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ اى كان أهلها يأتون الذكران في ادبارهم و يرمون بالبنادق و يلعبون بالطيور و غير ذلك وصفها بصفة أهلها و أسند إليها على حذف المضاف و إقامتها مقامها يدل عليه قوله إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ خارجين عن طاعة اللّه هذه الجملة في مقام التعليل لقوله كانت تعمل الخبائث. ٧٥ وَ أَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا اى في اهل رحمتنا او في جنتنا قلت و يمكن ان يقال ان صفات اللّه تعالى يرى في عالم المثال بنظر الكشف على هيئته الدائرة و الصوفي يرى داخلا فيها فانيا حقيقته باقيا بها فهذه الظرفية كناية عنه إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ الذين سبقت لهم منا الحسنى. ٧٦ وَ نُوحاً عطف على لوطا يعنى ايتنا لوطا و نوحا حكما و علما و على هذا إِذْ نادى منصوب باذكر اى اذكر وقت ندائه و هى جملة معترضة او التقدير اذكر لوطا و نوحا و على هذا الظرف بدل اشتمال منه يعنى اذكر وقت نداء نوح اى دعائه على قومه بالهلاك مِنْ قَبْلُ ظرف لنادى اى نادى قبل المذكورين فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعائه فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ الذين كانوا في السفينة مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (ج) اى الغم الشديد قال ابن عباس من الغرق و تكذيب قومه و كان نوح أطول الأنبياء عمر او أشدهم بلاء روى الضحاك عن ابن عباس ان قوم نوح كانوا يضربون نوحا حتى يسقط فيلقونه في لبد و يلقونه في بيت يزعمون انه قد مات فيخرج في اليوم الثاني فيدعوهم الى اللّه سبحانه و حكى محمد بن اسحق عن عبيد بن عمير الليثي انه بلغه انهم كانوا يبطشون نوحا فيختفونه حتى يغشى عليه فاذا أفاق قال رب اغفر لقومى فانهم لا يعلمون. ٧٧ وَ نَصَرْناهُ فانتصر و نجى مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على رسالته إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ قال البيضاوي لاجتماع الامرين تكذيب الحق و الانهماك في الشر و لعلهما لم يجتمعا في قوم الا و اهلكهم. ٧٨ وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ هذا نحو قوله وَ نُوحاً إِذْ نادى في التركيب فِي الْحَرْثِ قال ابن مسعود و ابن عباس و اكثر المفسرين كان الحرث كرما قد بدت عناقيدها و قال قتادة زرعا إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ظرف ليحكمان اى دعته ليلا بلا راع كذا في القاموس و في النهاية نغشت السائمة إذا رعت ليلا بلا راع و هلمت ارعت إذا رعت نهارا إذ اصل معناه الانتشار قال اللّه تعالى كالعهن المنفوش وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ يعنى الحاكمين داود و سليمان و المتحاكمين و قال الفراء أراد بالجمع اثنين سليمان و داؤد إذ قد يطلق الجمع على الاثنين كما في قوله تعالى فان كان له اخوة فلامه السدس و المراد الأخوين بالإجماع شاهِدِينَ (لاق) عالمين. ٧٩ فَفَهَّمْناها الضمير للحكومة او الفتوى سُلَيْمانَ اى ألهمنا ما كان مرضيا لنافى الحكومة حذف هاهنا جهلا و هو فحكم سليمان كما فهمنا و نقض داود حكم نفسه و امضى حكمه روى البخاري عن ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال خفف على داود القرآن و كان يأمر بدوا به فيسرج فيقرأ القرآن قبل ان يسرج روابه و لا يأكل الا من عمل يديه قلت المراد بالقرآن الزبور قال البغوي قاله ابن عباس و قتادة و من هاهنا يظهر ان الحاكم إذا كان مجتهد او تبدل رأيه قبل إمضاء حكمه جاز له نقض حكمه كما فعل داؤد قال البغوي قال ابن عباس و قتادة و الزهري ان رجلين دخلا على داؤد عليه السلام أحدهما صاحب الزرع و الآخر صاحب غنم فقال صاحب الزرع ان هذا انفلتت غنم ليلا فوقعت في حولى فافسدته فلم تبق منه شيئا فاعطاه داؤد رقاب الغنم بالحرث فخرجا فمرا على سليمان فقال كيف قضى بينكما فاخبراه فقال سليمان لو وليت أمرهما لقضيت بغير هذا و روى انه قال غير هذا ارفق بالفريقين فأخبر بذلك داؤد فدعاه فقال تقضى و يروى انه قال بحق النبوة و الابوة الا أخبرتني بالذي هو ارفق بالفريقين ما هى قال ادفع الغنم الى صاحب الحرث ينتفع بدرها و نسلها و صوفها و منافعها و يبذر صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه فاذا صار الحرث كهيئة يوم أكل دفع الى اهله حرثه و الى صاحب الغنم غنمه فقال داؤد القضاء ما قضيت و حكم بذلك و قيل ان سليمان يوم حكم كان ابن أحد عشر سنة و اخرج ابن ابى شيبة في المصنف و ابن المنذر و ابن مردوية عن ابن عباس نحو ما ذكر البغوي في القصّة قال البيضاوي و الاول يعنى فتوى داؤد نظير قول ابى حنيفة في العبد الجاني و الثاني مثل قول الشافعي بعزم الحيلولة للعبد المغضوب إذ ابق قلت غير ان أبا حنيفة يقول في العبد الجاني ان مالكه بالخيار ان شاء دفع العبد و ان شاء فدى للجناية قال الجصاص انما ضموها لانهم أرسلوها و قيل هذا الحكم نسخ في الإسلام و الحكم في الإسلام عند مالك و الشافعي و احمد ان أتلفته المواشي المنفلتة ليلا فعلى صاحب الماشية ضمانه يعنى قيمة ما أتلفته قلت لعل قيمة الزرع الّتي أفسدتها الغنم في عهد داود بلغت قيمة الزرع حتى امر داود بدفعها و اللّه اعلم و اما ما أفسدته الماشية المنفلتة بالنهار فلا ضمان على ربها لان في عرف الناس ان اصحاب الزرع يحفظونها بالنهار و المواشي تسرح في النهار و ترد بالليل الى المراح و عند ابى حنيفة لا ضمان فيما أتلفته المواشي المنفلتة ليلا كان او نهار القوله صلى اللّه عليه و سلم العجماء جرحها جبار رواه الشيخان في الصحيحين و احمد و اصحاب السنن من حديث ابى هريرة قال صاحب الهداية قال محمد المراد بالعجماء هى المنفلتة و احتج الائمة الثلاثة بحديث حرام بن سعد بن محيصة ان ناقة للبراء بن عازب و خلت حائطا فافسدته فقضى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان على اهل الحوائط حفظها بالنهار و ان ما أفسدته المواشي بالليل فهو ضامن على أهلها رواه مالك في الموطإ و الشافعي عنه و اصحاب السنن الاربعة و الدار قطنى و ابن حبان و الحاكم و البيهقي قال الشافعي أخذنا به لثبوته و اتصاله و معرفة رجاله قال الحافظ بن حجر مداره على الزهري و اختلف عليه فقيل هكذا و هذه رواية المؤطا و كذلك رواه الليث عن الزهري عن ابى محيصة و لم يسم ان ناقة و رواه معن بن عيسى عن مالك فزاد فيه عن جده محيصة و رواه معمول عن الزهري عن حرام عن أبيه و لم يتابع عليه أخرجه ابو داؤد و ابن حبان و رواه الأوزاعي و اسمعيل بن امية و عبد اللّه بن عيسى كلهم عن الزهري عن حرام عن البراء- قلت كذا ذكر ابن الجوزي في تحقيق التعليق من طريق احمد قال الحافظ لم يسمع حرام من البراء قاله عبد الحق تبعا لابن حزم و رواه النسائي من طريق محمد بن ابى حفصة عن الزهري اخبر في ابو اسامة بن سهل ان ناقة البراء و رواه ابن ابى ذئب عن الزهري انه قال بلغني ان ناقة البراء الحديث فالائمة الثلاثة خصصوا حديث العجماء جبار بحديث ناقة البراء و قالوا كونه جبارا مختص بالنهار قلنا العام مثل الخاص في كونه قطعيا فلا يحكم بالتخصيص ما لم يظهر اقترانهما و لا بالنسخ مالم يظهر تأخر أحدهما عن الآخر فبقى التعارض فلا يلزم الضمان بالشك و ايضا عند تعارض الحديثين يجب المصير الى القياس و القياس يقتضى عدم الضمان لان فعلها غير مضاف الى صاحبها لعدم ما يوجب النسبة اليه من الإرسال و السوق و القود و نحو ذلك و من أجل ذلك قلنا فيمن أرسل الدابة في طريق المسلمين فاصابت في فورها انه يضمن لان سيرها مضاف ماوام تسير على سننها و اما ان انعطفت، او يسرة او وقفت ثم سارت انقطع حكم الإرسال- (مسئله) و ان كان مع الدابة صاحبها راكبا او قائدا او سائقا فوطيت الدابة او أصابت بيدها او رجلها او رأسها او كدمت او خبطت او صدمت واقفة او سائرة و الموضع مملوك له رقبة او تصرفا بالاجارة او الاعارة فلا ضمان على صاحبها الا إذا كان راكبا عليها و وطئت الدابة لان صاحبها حينئذ مباشر للاتلاف لان ثقله و ثقل الدابة اتصل بالمتلف فكانما وطياه جميعا و في غير هذه الصورة لم يوجد المباشرة بل التسبيب و المسبب انما يضمن إذا كان متعديا و هو غير متعد في التيسير و لا في الايقاف و ان كان الموضع غير مملوك له لكنه ماذون فيه كالطريق للسير دون الايقاف و الصحراء و سوق الدواب للسير و الايقاف جميعا فحينئذ يضمن الراكب و السائق و القائد فيما ذكرنا من الوجوه لكن لا يضمن بما نفحت برجلها او ذنبها لان المرور؟؟؟ في طريق المسلمين مباح معتد بشرط السلامة لانه يتصرف في حقه من وجه و في حق غيره من وجه لكونه مشتركا في العامة فقلنا بالاباحة مقيدا بما ذكرنا ليعتدل النظر من الجانبين ثم انما يتقيد بشرط السلامة عما يمكن الاحتراز عنه و لا يتقيد بها فيما لا يمكن الاحتراز عنه لما فيه من المنع من التصرف و الاحتراز عن الايطاء و نحوه ممكن فانه ليس من ضرورات التسيير و عن النفحة بالرجل و الذنب ليس بممكن مع السير على الدابة فلا يتقيد بالسلامة عنه فان أوقف في الطريق ضمن النفحة ايضا و قال مالك لا ضمان في شي ء من ذلك إذا لم يكن من جهة راكبها او قائدها او سائقها سبب من همز او ضرب لقوله صلى اللّه عليه و سلم العجماء جبار و قال الشافعي ليضمن ما جنت البهيمة بضمها او يدها او رجلها او ذنبها سواء كانت من راكبها او سائقها سبب ذلك اولا و قال احمد ما جنته بغمها او يدها و صاحبها عليها يجب عليها الضمان و ما تلفته برجلها فلا ضمان عليه لقوله صلى اللّه عليه و سلم الرجل جبار رواه الدار قطنى عن سعيد بن المسيب مرسلا و اللّه اعلم- (فائدة) قال مجاهد كان قول سليمان صلحا و ما فعله داود حكما و الصلح خير و قيل ان داود و سليمان حكما بالوحى و كان حكم سليمان ناسخا لحكم داود و هذا قول من قال لا يجوز للانبياء الحكم بالاجتهاد لانهم مستغنون عن الاجتهاد بالوحى و قال لا يجوز الخطا عن الأنبياء و الا ظهر ان حكمهما كليهما كان بالاجتهاد الا ان داود أخطأ و أصاب سليمان فاثنى اللّه عليه و جاز الخطا في اجتهاد الأنبياء الا انهم لا يقرون عليه قال الحسن لو لا قوله تعالى وَ ك ُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً زلرأيت الحكام قد هلكوا و لكن اللّه تعالى حمد هذا بالاجتهاد و احتج من قال كل مجتهد مصيب بظاهر هذه الاية حيث قال كلا اتينا حكما و علما و لا دليل لهم فيه بل قوله تعالى ففهمناها سليمان دليل على ان الصواب ما فهم سليمان دون داود عليهما السلام و اما حديث عمرو بن العاص انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا حكم الحاكم فاجتهد فاصاب فله أجران و إذا حكم فاخطأ فله اجر واحد رواه الشيخان في الصحيحين و احمد و اصحاب السنن الاربعة عن ابى هريرة و المذكور من غير الترمذي عن عمرو بن العاص فهو حجة لنا لا علينا إذ هو صريح في ان المجتهد يخطى و يصيب و كونه ماجورا حين اخطأ لا يدل على كونه مصيبا لكون الخطاء و الصواب متضاد ان و ليس المراد انه يوجر على الخطاء بل يوجر على اجتهاده في طلب الحق لان اجتهاده عبادة و الخطا عنه موضوع إذ لم ينل جهره و عند الاصابة له أجران اجر الاجتهاد و اجر النيل الى الصواب و اللّه اعلم (حديث) روى الشيخان في الصحيحين عن ابى هريرة انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت صاحبتها انما ذهب بابنك و قالت الأخرى انما ذهب بابنك فتحاكما الى داود عليه السلام و قضى به الكبرى فخرجتا على سليمان فاخبرتاه فقال ايتوني بالسكين أشقه بينهما فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك اللّه هو ابنها فقضى به للصغرى- وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ- معه لامره إذ وجد فترة عنه لينشط له مع متعلق بسخرنا او ليسبحن و الاول أقوى لفظا و الثاني معنا و جملة يسبحن حال من الجبال و استيناف لبيان وجه التسخير وَ الطَّيْرَ عطف على الجبال او مفعول معه قدمت الجبال على الطير لان تسخيرها و تسبيحها اعجب قال وهب كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح و كذلك الطير و قال قتادة تسبحن اى تصلين معه إذا صلى و قال ابن عباس كان يفهم تسبيح الحجر و الشجر و قيل كان داود إذ افتر يسمعه اللّه تسبيح الجبال و الطير لينشط في التسبيح و يشتاق اليه و قال بعض الناس يسبحن من السباحة اى كانت الجبال تسير معه إذا سار وَ كُنَّا فاعِلِينَ ما ذكرنا من التفهيم و إيتاء الحكم و التسخير. ٨٠ وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ و هو في اللغة اسم لكل ما يلبس و يستعمل في الاسلحة كلها و المراد هاهنا الدروع من الحديد قال قتادة أول من صنع الدرع و سردها و حلقها داود عليه السلام و كانت من قبل صفاع و قد مر في الحديث الصحيح ان داود عليه السلام كان لا يأكل الا من عمل يديه لَكُمْ يا معشر قريش في جملة الناس لِتُحْصِنَكُمْ قرأ ابو جعفر و ابن عامر و حفص و يعقوب بالتاء الفوقانية و الضمير للصنعة او للبوس على تاويل الدروع و قرا أبو بكر بالنون على التكلم و التعظيم و الباقون بالياء التحتانية و الضمير لداود او للّه تعالى على سبيل الالتفات من التكلم الى الغيبة اى ليحرزكم مِنْ بَأْسِكُمْ ج اى حرب عدوكم قال السدى يعنى من وقع السلام فيكم لكم صنعة للبوس او متعلق بعلمناه و قوله لتحصنكم بدل اشتمال منه باعادة الجار فَهَلْ أَنْتُمْ يا اهل مكة و جميع الناس شاكِرُونَ لنا على ما يسرنا لكم ما يحصنكم امر بالشكر أخرجه بلفظ الاستفهام مبالغة و تفريعا. ٨١ وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عطف لسليمان على مع داود و الريح على الجبال بعاطف واحد لكونهما مفعولى عامل واحد قال البيضاوي و لعل اللام فيه دون الاول لان الخارق فيه عائد الى سليمان نافع له و في الاوّل امر يظهر في الجبال و الطير مع داود بالاضافة اليه قال بعض المحققين لما كان تسبيح الجبال و الطير مع داود بغير امره أورد هناك كلمة مع و جريان الريح كان بامر سليمان أورد هلاك اللام عاصِفَةً حال من الريح يعنى شديدة الهبوب من حيث أنها تذهب بعسكره مسافة بعيدة في مدة يسيرة كما قال اللّه تعالى غدوها شهر و رواحها شهر و كانت رخاء في نفسها طيبة و قيل كانت رخاء تارة و عاصفة اخرى حسب إرادته تَجْرِي بِأَمْرِهِ حال ثانية او بدل من الاولى او حال من ضميرها إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها قيل الى هاهنا بمعنى من فان منزل سليمان كان بالشام موطن الأنبياء و قيل هى بمعناها و المعنى يروح به الى منزله بعد ما سارمنه بكرة وَ كُنَّا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عالِمِينَ فى الأزل فنفعل ما نفعل على ما يقتضيه الحكمة فكان ما أعطينا سليمان من تسخير الريح و غيره يدعوه الى الخضوع لربه قال وهب بن منبه كان سليمان عليه السلام إذا خرج الى مجلس عكفت عليه الطير فقام له الجن حتى يجلس على سريره و كان امرأ غزاء قلّ ما يقعد عن الغزو لا يسمع في ناحية من الأرض بملك الا أتاه يذله و كان فيما يزعمون إذا أراد الغزو امر بعسكره فضرب بخشب ثم نصب له على الخشب ثم حمل عليه الناس و الدواب و فمعز الدولة الحرب فاذا حمل معه ما يريد امر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشبة فاحتملت حتى إذا استعلت به امر الرخاء يمر به شهرا في روحته و شهرا في غدوته الى حيث أراد و كانت تمر بعسكره الريح الرخاء بالمزرعة فلا تحركه و لا تثير ترابا و لا توذى طائرا قال وهب ذكر لى ان منزلا بناحية دجلة مكتوب فيه كتبته بعض صحابة سليمان اما من الجن و اما من الانس نحن نزلناه و ما بنيناه و مبنيا وجدناه غدونا من إصطخر فقلناه و نحن رائحون منه إنشاء اللّه فبايتون بالشام و قال مقاتل نسجت الشياطين لسليمان بساطا فرسخا في فرسخ ذهبا في إبريسم و كان يوضع له منبر من ذهب في وسط البساط فيقعد عليه و حوله ثلثة آلاف كرسى من ذهب و فضة يقعد الأنبياء على كراسى الذهب و العلماء على كراسى الفضة و حولهم الناس و حول الناس الجن و الشياطين و تظله الطير بأجنحتها حتى لا يقع عليه الشمس و ترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح الى الرواح و من الرواح الى الصباح و عن سعيد بن جبير كان يوضع لسليمان ستمائة الف كرسى يجلس الانس فيما يليه ثم يليهم الجن ثم يظلهم الطير ثم تحملهم الريح قال الحسن لما شغلت الخيل نبى اللّه سليمان عليه السلام حين فاتته صلوة العصر غضب للّه فعقر الخيل فابدله اللّه مكانها خيرا منها و السرع الريح تجرى بامره كيف يشاء فكان يغدو من ايليا فيقيل بإصطخر ثم يروح منها فيكون رواحها ببابل و قال ابن زيد كان له مركب من خشب و كان فيه الف ركن في كل ركن الف بيت يركب معه فيه الانس و الجن تحت كل ركن الف شيطان يرفعون ذلك المركب و إذا ارتفع أتت الريح الرخاء فسارت به و بهم يقيل عند قوم بينه و بينهم شهر و يمسى عند قوم بينه و بينهم شهر و لا يدرى القوم الا و قد أظلهم معه الجيوش و روى ان سليمان عليه السلام سار من اهل العراق غاديا فقال بمرد و صلى العصر بمدينة بلخ تحمله و جنوره الريح و يظلهم الطير ثم سار من مدينة بلخ متخللا بلاد الترك ثم جاء الى ارض الصين يغدو على مسيرة شهر و يروح على مثل ذلك ثم عطف جيشه على مطلع الشمس على ساحل البحر حتى اتى ارض قندهار او خرج منها الى مكران و كرمان ثم جاوزها حتى اتى ارض فارس فنزلها أياما و غدا منها فقال بكسكر ثم راح الى الشام و كان مستقره بمدينة تدمر و كان امر الشياطين قبل شخوصه من الشام الى العراق فبنوا لها بالصفاح «١» و العمد و الرخام الأبيض و الأصفر و في ذلك يقول النابغة الا سليمان إذ قال المليك له قم في البريّة فاجددها عن العند «٢» و حيش «٣» الجن انى قد أذنت لهم ينبون تدمر بالصفاح و العمد (١) الصفاح حجارة عراض رقاق ١٢ قاموس. (٢) العند الناحية و الجانب ١٢ قاموس. [.....]. (٣) حاش يحيش فزع و أفزع ١٢ قاموس. ٨٢ وَ مِنَ الشَّياطِينِ اى سخرنا الشياطين مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ فى البحار و يخرجون الجواهر من نكرة موصوفة او موصولة معطوف على الريح و من الشياطين حال منه مقدم عليه يعنى و سخرنا نفوسا يغوصون له كائنين من الشياطين او مبتدأ و الظرف خبره وَ يَعْمَلُونَ عطف على يغوصون عَمَلًا دُونَ ذلِكَ ج اى دون الغوص ما شاء من محاريب و تماثيل و جفان كالجواب و قدور راسيات و بناء المدن و القصور و اختراع الصنائع الغريبة وَ كُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (لا) حتى لا يخرجوا من امره قال الزجاج يعنى حفظناهم من ان يفسدوا ما عملوا قال البغوي في القصة ان سليمان عليه السلام كان إذ بعث شيطانا مع انسان ليعمل له عملا قال له إذا فرغ من عمله اشغله بعمل اخر لئلا يفسد ما عمل و كان من عادة الشياطين انهم إذا فرغوا من عمل و لم يشتغلوا بعمل اخر خربوا ما عملوا و أفسدوه. ٨٣ وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى اى دعا رَبَّهُ على طريقه و نوحا إذ نجيناه في وجوه الاعراب قال وهب بن منبه كان أيوب عليه السلام رجلا من الروم و هو أيوب بن احرص بن رازخ بن روم بن عيص بن اسحق بن ابراهيم عليهما السّلام و كانت امه من ولد لوط بن هاران و كان اللّه قد اصطفاه و نبّاه و بسط عليه الدنيا و كانت له الثنية من ارض الشام كلها سهلها و جبلها و كان له فيها من اصناف المال كله من الإبل و البقر و الغنم و الخيل و الحمر مالا يكون لرجل أفضل منه في العدة و الكثرة و كان له خمسمائة «١» فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة و ولد و مال و يحمل فمعز الدولة كل فدان أتان ولد كل أتان اثنين و ثلثة و اربعة و خمسة و فوق ذلك و كان اللّه عزّ و جلّ أعطاه أهلا و ولدا من رجال و نساء و كان برا تقيا رحيما بالمساكين يطعم المساكين و يكفل الأرامل و الأيتام و يكرم الضيف و يبلغ أبناء السبيل و كان شاكر الا نعم اللّه موديا لحق اللّه قد امتنع من عدو اللّه إبليس ان يصيب منه ما يصيب من اهل الغنى و العزة و الغفلة و الشاغل عن امر اللّه بما فيه من الدنيا و كان معه ثلثة نفر قد أمنوا به و صدقوه رجل من اهل اليمن يقال له اليقن و رجلان من اهل بلده يقال لاحدهما يلد و للاخر صافر و كانوا كهولا فكان إبليس لا يحجب عن شي ء من السموات و كان يقف فيهن حيث ما أراد حتى رفع اللّه عيسى عليه السلام فحجب عن اربع فلما بعث محمد صلى اللّه عليه و سلم حجب من الثلث الباقيات فسمع إبليس تجاوب الملئكة بالصلوة على أيوب و ذلك حين ذكر اللّه و اثنى عليه فادركه البغي و الحسد و صعد سريعا حتى وقف من السماء موقفا كان يقفه فقال الهى نظرت من امر عبدك أيوب فوجدته عبدا أنعمت عليه فشكرك و عافيته فحمدك و لو ابتلته بنزع ما أعطيته لحال عما هو عليه من شكرك و عبادتك و لخرج من طاعتك قال اللّه انطلق فقد سلّطتك على ماله فانقضى عدو اللّه إبليس حتى وقع الى الأرض ثم جمع عفاريت الجن و مردة الشياطين و قال لهم فماذا عندكم من القوة فانى قد سلطت على مال أيوب و هى المصيبة القادحة الّتي لا يصبر عليها الرجال فقال عفريت من الشياطين أعطيت من القوة ماذا شئت تحولت اعصارا من النار و احترقت كل شي ء اتى عليها (١) فدان كسحاب او كشدّاد الثور او الثور ان يقرن للحرث بينهما و لا يقال للواحد فدان او هو فمعز الدولة الثوريين. قال له إبليس فات الإبل حين وضعت «١» و ثبتت في مراعيها فلم يشعر الناس حتى ثار «٢» من تحت الأرض اعصارا «٣» من نار لا يدنوا من شي ء الا قد احترقت فاحرقها و رعاها حتى اتى على آخرها ثم جاء عدو اللّه إبليس في صورة قيم عليها على قعود الى أيوب فوجده قائما يصلى فقال يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك فاحترقتها و من فيها غيرك فقال أيوب الحمد للّه الّذي هو أعطاها و هو أخذها و قد عاما و طنت مالى نفسى على الغنى قال إبليس فان ربك أرسل عليها نارا من السماء فاحترقت فنزلت الناس مبهوتين يتعجبون منها منهم من يقول ما كان أيوب يعبد شيئا و ما كان الا في غرور و منهم من يقول لو كان اله أيوب يقدر على ان لا يضيع شيئا وليه و منهم من يقول بل هو الّذي فعل ليشمت به عدوه و يفجع صديقه قال أيوب الحمد للّه حين أتاني و حين نزع منى عريانا خرجت من بطن أمي و عريانا أعود في التراب و عريانا احشر الى اللّه عزّ و جلّ ليس لك ان تفرح حين أعارك و تجزع حين قبض عاريته اللّه اولى بك و بما اعطاك و لو علم اللّه فيك ايها العبد خير النقل روحك مع تلك الأرواح و صرت شهيدا و لكنه علم منك شرا فاخرجك فرجع إبليس الى أصحابه خاسيأ ذليلا فقال لهم ماذا عندكم من القوة فانى لم أكلم قلبه قال عفريت عندى من القوة ما إذا شئت صحت صيحة لا يسمعه ذو روح إلا خرجت مهجة «٤» نفسه قال إبليس فات الغنم و رعاها فانطلق حتى توسطها صاح صيحة فحتمت أمواتا من عند آخرها و ما رعاها ثم جاء متمثلا بقهرمان الرعاة الى أيوب و هو يصلى فقال له مثل القول الاول فرد أيوب عليه مثل الرد الاول ثم رجع إبليس الى أصحابه فقال ما عندكم من القوة فانى لم أكلم قلب أيوب فقال عفريت عندى من القوة ما إذا شئت تحولت ريحا عاصفا ينشف كل شرياتى عليه قال فآت القدّادين (١) وضعت الإبل ألزمتها المرعى فهى موضوعة ١٢ قاموس. (٢) الثور الهجان و الوثب و السطوح ١٢ قاموس. (٣) الاعصار الريح تثير السحاب او الّتي فيها نار أو التي يهب من الأرض بنحو السماء ١٢ قاموس. (٤) اى الدم او دم القلب او الروح ١٢. و الحرث فانطلق فلم يشعروا حتى هبت ريح عاصف فنسفت كل شي ء من ذلك حتى كانه لم يكن ثم جاء إبليس متمثلا بقهرمان الحرث الى أيوب و هو قائم يصلى فقال له مثل القول الاول فرد عليه مثل رد الاول كلما انتهى اليه هلاك مال من أمواله حمد اللّه و احسن الثناء عليه و رضى منه بالقضاء و وطن نفسه بالصبر على البلاء حتى لم يبق له مال فلما إبليس انه قد أفنى ماله صعد فقال الهى ان أيوب يرى منك انك ما منحته بولده فانت معطيه المال فهل أنت تسلطنى على ولده فانها المصيبة الّتي لا يقوم لها قلوب الرجال قال اللّه تعالى و قد سلطتك على ولده فانقضى عدو اللّه حتى جاء بنى أيوب و هم في قصرهم فلم يزل يزلزل بهم من قواعدها ثم جعل يناطح «١» جدره بعضها ببعض و يرميهم بالخشب و الجندل «٢» حتى إذا مثل بهم كل مثلة رفع القصر فقلبه فصاروا منكوسين و انطلق الى أيوب متمثلا بالمعلم الّذي كان يعلمهم الحكمة و هو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه و دماغه فاخبره و قال لو رأيت بنيك كيف عذبوا و قلبوا فكانوا منكسين على رؤسهم يسيل دمائهم و دماغهم و لو رأيت كيف سقطت بطونهم فتناثرت امعاؤهم تقطع قلبك فلم يزل يقول هذا و نحوه حتى رقّ أيوب فبكى و قبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه و قال ليت أمي لم تلدنى فاغتنم إبليس ذلك فصعد سريعا بالذي كان من جزع أيوب مسرورا به ثم لم يلبث أيوب ان فاء و ابصر و استغفر و صعد قرناؤه من الملئكة بتوبته فسبقت توبته الى اللّه عزّ و جلّ و هو اعلم فوقف إبليس ذليلا فقال يا الهى انما هوّن على أيوب المال و الولد انه يرى منك ما متعته بنفسه فانت تعيد المال و الولد فهل أنت تسلّطنى على جسده فقال اللّه تعالى انطلق فقد سلطتك على جسده و لكن ليس سلطان على لسانه و لا على قلبه و كان اللّه عزّ و جلّ اعلم به لم يسلط عليه الا رحمة ليعظم له الثواب (١) نطحه أصابه لقرنه ١٢ قاموس. (٢) الجندل كجعفر ما يقله الرجل من الجمارة ١٢ قاموس. و جعله عبرة للصابرين و ذكرى للعابدين في كل بلاء نزل بهم ليانسوا به في الصبر و رجاء الثواب فانقضى عدو اللّه سريعا فوجد أيوب ساجدا فعجل قبل ان يرفع رأسه فاتاه من قبل وجهه فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جميع جسده فخرج من قرنه الى قدمه ثاليل «١» مثل أكباد الغنم وقعت فيه حكة محك باظفار حتى سقطت كلها ثم حك بالمسوح «٢» الخشنة حتى قطعها ثم حكها بالفخار و الحجارة الخشنة ثم لا يزال يحكها حتى نغل لحمه و تقطع و تغير و أنتن فاخرجه اهل القرية فجعلوه على كناسة و جعلوا له عريشا فرفضه خلق اللّه كلهم غير امرأته رحمة بنت إفرائيم بن يوسف بن يعقوب و قيل هى بنت يوسف كما ذكرنا في سورة يوسف كانت تختلف اليه بما يصلحه و تلزمه فلما راى الثلاثة أصحابه و هم أيقن و يلدد و صافر ما ابتلاه اللّه به اتهموه و رفضوه من غير ان يتركوا دينه فلما طال به البلاء انطلقوا اليه فبكتوه «٣» و لاموه و قالوا له تب الى اللّه من الذنب الّذي عوقبت به و قال الراوي حضر معهم فتى حديث السن قد أمن به و صدقه لهم انكم يكلمهم ايها الكهول و كنتم أحق بالكلام لاسنانكم و لكن قد تركتم من القول احسن من الّذي قلتم و من الرأي أصوب من الّذي رأيتم و من الأمر أجمل من الّذي أتيتم و قد كان لايوب عليكم من الحق و الزمام «٤» من الّذي وصفتم فهل تدرون ايها الكهول حق من انتقصتم و حرمة من انتهكتم و من الرجل الّذي عتبسه و اتهمتم الم تعلموا ان أيوب نبى اللّه و خيرته و صفوته من اهل الأرض يومكم هذا ثم لم تعلموا و لم يطلعكم اللّه على انه سخط شيئا من امره منذ أتاه ما أتاه الى يومكم هذا و لا على انه نزع شيئا من الكرامة الّتي أكرمه بها و لا ان أيوب قال على اللّه غير الحق في طول ما صحبتموه الى يومكم هذا فان كان هو الّذي ازرى «٥» به عندكم و وضعه في أنفسكم فقد علمتم ان اللّه تعالى يبتلى النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و ليس بلاؤه لاولئك بدليل على سخطه عليهم و لا لهو انه لهم (١) الثآليل ١٢. (٢) المسوح جمع مسح هو البلاس ١٢. (٣) بكته مثقلة بما يكره ١٢ قاموس. (٤) الزمام الزمة الحق ١٢ قاموس. (٥) ازرى به اى ادخل به عيبا ١٢. و لكنها كرامة و خيرة لهم و لو كان أيوب ليس من اللّه بهذه المنزلة الا انه أخ آخيتموه على وجه الصحبة لكان لا يحل بالحليم ان يعتزل أخاه عند البلاء و لا يعيّره بالمصيبة و لا يعيبد بما لا يعلم و هو مكروب حزين و لكنه يرحمه و يبكى معه و يستعفر له يحزن بحزنه و يدله على مراشد امره و ليس بحكيم و رشيد من جهل هذا فاللّه ايها الكهول و قد كان في عظمة اللّه و جلاله و ذكر الموت ما يقطع السنتكم و يكسر قلوبكم الم تعلموا ان للّه عبادا أسكتتهم خشيته من غير عي و لا بكم و انهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء «١» الألباء العالمون باللّه و لكنهم إذا ذكروا عظمة اللّه انقطعت ألسنتهم و اقشعرت جلودهم و انكسرت قلوبهم و طاشت عقولهم إعظاما للّه و إجلالا فاذا استقاموا من ذلك استبقوا الى اللّه بالأعمال الزاكية يعدون أنفسهم مع الظالمين و الخاطئين و انهم الأبرار البراء و مع المقصرين المفرطين و انهم لاكياس أقوياء- فقال أيوب اللّه سبحانه يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير و الكبير فمتى تنبت بالقلب يظهرها اللّه على اللسان و ليست تكون الحكمة من قبل السن و الشيبة و لا طول التجربة و إذا جعل اللّه العبد حكيما في الصبا لم يسقط منزلته عند الحكماء و هم يرون من اللّه نور الكرامة ثم اعرض عنهم أيوب و اقبل على ربه مستغيثا به متضرعا اليه فقال ربّ لأىّ شي ء خلقتنى ليتنى كرهتنى لم تخلقنى يا ليتنى قد عرفت الذنب الّذي إذ نبت و العمل الّذي عملت فصرفت وجهك الكريم عنى لو كنت إذا أذنبت ذنبا أمتني فالحقتنى بآبائى فالموت كان أجمل بي الم أكن للغريب دارا و للمسكين قرار او لليتيم وليا و للارملة قيما الهى انا عبدك ان أحسنت فالمن لك و ان اسأت فبيدك عقوبتى جعلتنى للبلاء عرضا و للفتنة نصبا و قد وقع على بلاء لو سلطته على جبل ضعف عن حمله فكيف يحمل ضعفى و ان قضائك هو الّذي أذلني و ان سلطانك هو الّذي أسقمني و أنحل جسمى و لو ان (١) النبلاء اى الأذكياء و النجباء ١٢. [.....]. ربى نزع الهيبة في صدرى و اطلق لسانى حتى أتكلم بملا فمى ثم كان ينبغى للعبد ان يحاج على نفسه لرجوت ان يعافينى عند ذلك مما بي و لكنه اتعانى و تعالى عنى فهو يرانى و لا أراه و يسمعنى و لا أسمعه لا نظر الىّ و رحمنى و لادنى منى و لا أدناني فادلى «١» بعذري و أتكلم ببرأتى و أخاصم عن نفسى فلما قال ذلك أيوب و أصحابه عنده اظله غمام حتى ظن أصحابه انه عذاب ثم نودى يا أيوب ان اللّه يقول ها انا قد دنوت منك و لم ازل منك قريبا قم فادل «٢» بعذرك و تكلم ببرأتك و خاصم عن نفسك و اشدد إزارك و قم مقام جبار يخاصم جبارا ان استطعت فانه لا ينبغى ان يخاصمنى الإجبار مثلى لقذمنتك نفسك يا أيوب امرا تبلغ بمثل قوتك اين أنت منى يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها هل كنت معى تمد بأطرافها هل علمت باى مقدار قدّرتها أم على اى شي ء وضعت أكنافها أ بطاعتك حمل الماء الأرض أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء اين كنت منى يوم رفعت السماء سقفا في الهواء لا تعلق بسبب من فوقها و لا يقلها دعم «٣» من تحتها هل تبلغ من حكمتك ان تجرى نورها او تسير نجومها او تختلف بامرك ليلها و نهارها اين أنت متى يوم نبعت الأنهار و سكرت «٤» البحارا سلطانك حبس امواج البحر على حدودها أم قدرتك فتحت الأرحام حين بلغت مدتها اين أنت منى يوم حبست الماء على التراب و نصبت شوامخ الجبال هل تدرى على اى شي ء أرسيتها أم باى مثقال وزنتها أم هل لك من ذراع يطيق حملها أم هل تدرى من اين الماء الّذي أنزلت من السماء أم هل تدرى من اى شي ء الشي ء السحاب أم هل تدرى اين خزانة الثلج أم اين جبال البرد أم اين خزانة الليل بالنهار و خزانة النهار بالليل و اين خزانة الريح و باى لغة تتكلم الأشجار من جعل (١) ادلى اى احضر ١٢. (٢) اى احضر ١٢. (٣) دعم جمع دعام اى عمد جمع عماد ١٢. (٤) سكرت اى امتلأت و سدّت ١٢. العقول في أجواف الرجال و من شق الاسماع و الابصار و من ذلت الملائكة لملكه و قهر الجبارين لجبروته و قسم الأرزاق بحكمته في كلام كثير من اثار قدرته ذكرها لايوب فقال أيوب صغر شأنى و كل لسانى و عقلى ورائي و ضعفت قوتى عن هذا الأمر الّذي تعرض لى- يا الهى قد علمت ان كل الّذي ذكرت صنع يديك و تدبير حكمتك و أعظم من ذلك و اعجب لو شئت عملت لا يعجزك شى و لا يخفى عليك خافية- إذ لقينى البلاء يا الهى فتكلمت و لم املك و كان البلاء هو الّذي انطقنى فليت الأرض انشقت لى فذهبت فيها و لم أتكلم لشي ء يسخط ربى و ليتني متّ بغمى في أشد بلائي قبل ذلك انما تكلمت حين تكلمت لتعذرنى و سكتّ حين سكسّه لترحمنى- كلمة زلت منى فلن أعود قد وضعت يدى على فمى و عضضت على لسانى و الصقت بالتراب خدى أعوذ بك اليوم منك- أستجيرك من جهد البلاء فاجرنى و استغيث بك من عقابك فاغثنى و استعين بك فاعنى و أتوكل عليك فاكفنى و اعتصم بك فاعصمنى و استغفرك فاغفر لى فلن أعود بشي ء تكرهه منى- قال اللّه تعالى نفذ فيك علمى و سبقت رحمتى غضبى فقد غفرت لك و رددت عليك أهلك و مالك و مثلهم معهم لتكون لمن خلفك اية و تكون عبرة لاهل البلاء و عزا للصابرين- فاركض برجلك هذا مغتسل بارد و شراب فيه شفاؤك- و قرّب عن أصحابك قربانا و استغفر لهم فانهم قد عصونى فيك- فركض برجله فانفجرت له عين فدخل فيها فاغتسل فاذهب اللّه كل ما كان به من البلاء ثم خرج فجلس فاقبلت امرأته تلتمسه في مضجعه فلم تجده فقامت كالوالهة مترددة- ثم قالت يا عبد اللّه هل لك علم بالرجل المبتلى الّذي كان هاهنا- قال نعم و مالى لا أعرفه فتبسم فقال انا هو فعرفته بمضحكه فاعتنقته- قال ابن عباس فو الّذي نفس عبد اللّه بيده ما فارقته من عناقه حتى مر بهما كل مال لهما و ولد فذلك قوله تعالى وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي اى بانى مَسَّنِيَ قرا حمزة بإسكان الياء و الباقون بفتحها الضُّرُّ و هو سوء الحال في النفس او البدن او المال او الجاه و في القاموس الضّرّ بالفتح و يضم ضد النفع او بالفتح مصدر و بالضم اسم قال البيضاوي بالفتح شائع في كل ضرر و بالضم خاص بما في النفس كمرض و هزال- و اختلفوا في وقت ندائه و السبب الّذي قال لاجله أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ و في مدة بلائه- قال البغوي روى ابن شهاب عن انس يرفعه ان أيوب لبث في بلائه ثمانى عشرة سنة- و قال وهب لبث أيوب في البلاء ثلاث سنين لم يزد يوما- و قال كعب كان أيوب في بلائه سبع سنين- و قيل كان في البلاء سبع سنين و سبعة أشهر و سبعة ايام- قال الحسن مكث أيوب مطروحا على كناسة في مزبلة لبنى إسرائيل سبع سنين و أشهرا يختلف فيه الدواب لا يقربه أحد غير رحمة صبرت معه بصدق و تأتيه بطعام و تحمد اللّه معه إذا حمد و أيوب على ذلك من ذكر اللّه تعالى و الصبر على ما ابتلاه- فصرخ إبليس صرخة جمع فيها جنوده من أقطار الأرض فلما اجتمعوا اليه قالوا ما جزعك قال أعياني هذا العبد الّذي لم ادع له مالا و لا ولدا فلم يزد الا صبرا- ثم سلطّت على جسده فتركته قرحة ملقاة على كناسة لا يقربه الا امرأته فاستغث بكم لتعينونى عليه- فقالوا اين مكرك الّذي أهلكت به من مضى- قال بطل ذلك كله في أيوب فاشيروا علىّ- قالوا نشير طيك من اين أتيت آدم حين أخرجته من الجنة قال من قبل امرأته قالوا فشأنك بايوب من قبل امرأته فانه لا يستطيع ان يعصيها و ليس أحد يقربه غيرها- قال أصبتم فانطلق حتى اتى امرأته و هى تصدق فتمثل لها في صورة رجل فقال اين بعلك يا امة اللّه قالت هو ذاك يحك قروحه و يتردد الدواب في جسده فلما سمعها طمع ان يكون كلمة جزع فوسوس إليها و ذكرها ما كانت فيه من النعم و المال و ذكّرها جمال أيوب و شبابه و ما هو فيه من الضر و ان ذلك لا ينقطع عنه ابدا- قال الحسن فصرخت فلما صرخت علم ان قد جزعت فاتاها بسخلة و قال ليذبح هذا الى أيوب و يبرأ- فجاءت تصرخ يا أيوب حتى متى يعذبك ربك اين المال- اين الولد اين الصديق اين لونك الحسن اين جسمك الحسن اذبح هذه السخلة و استرح- قال أيوب أتاك عدو اللّه فنفخ فيك ويلك ارايت ما تبكين عليه من المال و الولد و الصحة من أعطانيه- قالت اللّه قال فكم متعنابه قالت ثمانين سنة قال فهذكم ابتلاني قالت منذ سبع سنين و أشهر قال ويلك ما أنصفت الا صبرت في البلاء ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة- و اللّه لئن شافانى اللّه لا جلدنك مائة جلدة أمرتني ان اذبح لغير اللّه طعامك و شرابك الّذي أتيتني به علىّ حرام و حرام علىّ ان أذوق شيئا مما تأتينى به بعد إذ قلت لى هذا فاعز لى عنى فلا أراك فطردها فذهبت- فلما نظر أيوب و ليس عنده طعام و لا شراب و لا صديق خرّ ساجدا و قال ربّ انّى مسّنى الضّرّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) عطف على الجملة السابقة وصف ربه تعالى بغاية الرحمة بعد ما ذكر نفسه بما يوجبها و اكتفى بذلك عن عرض المطلوب لطفا في السؤال. ٨٤ فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه استجاب اللّه دعاءه و قال له ارفع رأسك فقد استجيب لك فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ قيل له اركض برجلك فركض برجله فنبعت عين ماء فامره ان يغتسل فاغتسل منها فذهب كل داء كان لظاهره و عاد اليه شبابه و جماله احسن ما كان- ثم مشى أربعين خطوة فامره ان يضرب برجله مرة اخرى فضرب برجله فنبعت عين اخرى ماء بارد فامره فشرب منها فذهب كل داء كان بباطنه- فصار كاصح ما يكون من الرجال و أجملهم- و كسى حلة قال فجعل يلتفت فلا يرى شيئا مما كان له من اهل و مال الا قد ضاعفه اللّه- حتى و اللّه ذكر لنا ان الماء الّذي اغتسل منه تطائر على صدره جرادا من ذهب فجعل يضربه بيده- فاوحى اللّه اليه يا أيوب الم أغنك قال بلى و لكنها بركتك فمن يشبع منها و روى البخاري عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بينا أيوب يغتسل عريانا فخر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحثى في ثوبه- فناداه ربه يا أيوب الم أغنيتك عما ترى قال بلى و عزتك و لكن لا غنى بي عن بركتك قال الحسن فخرج أيوب حتى جلس على مكان مشرف- ثم ان امرأته قالت ارايتك ان كان طردنى الى من أكله- ء أدعه يموت جزعا و يضيع فتاكله السباع لارجعنّ اليه فرجعت- فلا كناسة ترى و لا تلك الحالة الّتي كانت و إذا الأمور قد تغيرت فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة و تبكى و ذلك بعين أيوب و هابت صاحب الحلة ان تأتيه فتسئل عنه فدعاها أيوب فقال ما تريدين يا امة اللّه فبكت و قالت أردت ذلك المبتلى الّذي كان منبوذا على الكناسة لا أدرى أضاع أم ما فعل فقال ما كان منك فبكت و قالت بعلى قال قهل تعرفينه إذا رايتيه قالت و هل يخفى على أحد راه- ثم جعلت تنظر اليه و هى تهابه ثم قالت اما انه أشبه خلق بك إذ كان صحيحا قال فانى انا أيوب الّذي أمرتني ان اذبح لابليس و انى أطعت اللّه و عصيت الشيطان و دعوت اللّه سبحانه فرد علىّ ما ترين- و قال وهب لبث أيوب في البلاء سنين فلما غلب أيوب إبليس و لم يستطع منه شيئا اعترض امرأته في هيئة ليست كهيئة بنى آدم في العظم و الجسم و الجمال على مركب ليس في مراكب الناس له عظم و بهاء و كمال- فقال لها اما بنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلى قالت نعم قال فهل تعرفيننى قالت لا- قال انا اله الأرض و انا الّذي؟؟؟ نعت بصاحبك ما صنعت لانه عبد اللّه السماء و تركنى فاغضبنى- و لو سجد لى سجدة واحدة رددت عليه و عليك كل ما كان لكما من مال و ولد فانه عندى ثم أراهم أباهم في بطن الوادي الّذي لقيها فيه قال وهب و قد سمعت انه قال لها لو ان صاحبك أكل طعاما و لم يسم اللّه عليه لعرفى ما به البلاء و اللّه اعلم- و في بعض الكتب ان إبليس قال لها اسجدي لى سجدة حتى اردّ عليك المال و الأولاد و أعافي زوجك فرجعت الى أيوب فاخبرته بما قال لها قال قد أتاك عدو اللّه ليفتنك عن دينك- ثم اقسم ان اللّه عافاه ليضربنّها مائة جلدة- و قال عند ذلك مسّنى الضّر من طمع إبليس في سجود حرمى له دمائه إياها و إياي الى الكفر ثم ان اللّه رحم رحمة امراة أيوب بصبرها مع أيوب على البلاء و خفف عنها- و أراد ان يبرّ يمين أيوب فقال و خذ بيدك ضغثا فاضرب به و لا تحنث- فاخذ أيوب ضغثا يشتمل على مائة عود صغارا فضربها ضربة واحدة و روى ان إبليس اتخذ تابوتا و جعل فيه ادوية و جعل على طريق امرأته يداوى الناس- فمرت به امراة أيوب فقالت ان لى مريضا أ فتداويه- قال نعم- و اللّه لا أريد شيئا الا ان يقول إذ شفيته أنت شفيتنى- فذكرت ذلك لايوب فقال هو إبليس قد خدعك و حلف ان شفاه اللّه يضربها مائة جلدة و قال وهب و غيره كانت امراة أيوب عليه السلام تعمل للناس و تجيئه بقوته فلما طال عليه البلاء و شتمها النّاس فلم يستعملها أحد ثم التمست يوما من الأيام ما تطعمه فما وجدت شيئا فجزّت من راسها قرنا فباعته برغيف فاتته به- فقال لها اين قرنك فاخبرته فحينئذ قال مسنّى الضّرّ و قال قوم انما قال ذلك حين قصده الدود الى قلبه و لسانه فخشى ان يبقى عن الذكر و الفكر- و قال حبيب بن ثابت لم يدع اللّه بالكشف عنه حتى ظهرت له ثلاثة أشياء- أحدها- قدم عليه صديقان حين بلغهما خبره فجاء اليه و لم يبق له عيناه و رأيا امرا فقالا لو كان لك عند اللّه منزلة ما أصابك هذا و الثاني ان امرأته طلبت طعاما فلم تجد ما تطعمه فباعت ذوابتها و حملت اليه طعاما- و الثالث قول إبليس ان أداويه على ان يقول أنت شفيتنى- و قيل ان إبليس وسوس ان امرأتك زنت فقطعت ذوأبتها- فحينئذ عيل صبره فدعى و حلف ليضربنّها مائة جلدة- و قيل معناه مسّنى الضّرّ من شماتة الأعداء حتى روى انه قيل له بعد ما عوفى ما كان أشد عليك في بلائك و قال شماتة الأعداء- و قيل قال ذلك حين وقع دودة من فخذه فردها الى موضعها و قال كلى قد جعلنى اللّه طعامك- فعضته عضة زاد المها على جميع ما قاسى من عض الديدان- فان قيل ان اللّه سماه صابرا و قد اظهر الشكوى و الجزع بقوله أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ- و مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ- قيل ليس ه ذا شكاية انما هو دعاء بدليل قوله تعالى فاستجبنا له- علا ان الجزع انما هو في الشكوى الى الخلق و اما الشكوى الى اللّه فلا يكون جزعا و لا ترك صبر كما قال يعقوب انّما أشكو بثّي و حزنى الى اللّه- و قال سفيان بن عليينة من اظهر الشكوى الى الناس و هو راض بقصام اللّه لا يكون ذلك جزعا- كما روى ان جبرئيل دخل على النبي صلى اللّه عليه و سلم في مرضه فقال كيف تجدك قال أجدني مغموما- أجدني مكروبا- قلت كذا في حديث ابى هريرة عند ابن الجوزي بلفظ قال جبرئيل ان اللّه عزّ و جلّ يقرأك السلام و يقول كيف تجدك الحديث- و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لعائشة حين قالت وا رأساه قال انا و وا رأساه- قلت كذا روى ابن إسحاق و احمد عنها انه صلى اللّه عليه و سلم رجع من البقيع فدخل علىّ و هو يصدع و انا اشتكى رأسى فقلت و ارأساه فقال بل انا و اللّه و ارأساه «١» الحديث وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ اختلفوا في ذلك فقال ابن مسعود و ابن عباس و قتادة و الحسن و اكثر المفسرين رد اللّه عليه اهله و أولاده بأعيانهم أحياهم اللّه له و أعطاه «٢» مثلهم و هو ظاهر القران- و قال الحسن اتى المثل من نسل ماله الّذي رد اليه و اهله يدل عليه ما روى الضحاك عن ابن عباس ان اللّه تعالى رد الى المراءة شبابها فولدت له سته و عشرين ذكرا- قال وهب كان له سبع بنات و ثلثة بنين و قال ابن يسار و كان له سبعة بنين و سبع بنات و روى عن انس رضى اللّه عنه يرفعه انه كان اندر «٣» للقمح و اندر للشعير فبعث اللّه سحابتين فافرغت إحداهما على اندر القمح الذهب و أفرغت الاخرى على اندر الشعير المورق حتى حى فاض و- روى ان اللّه تعالى بعث اليه ملكا و قال ان ربك يقراك السلام بصبرك فاخرج الى اندرك- فخرج اليه فارسل عليه جرادا من ذهب فطارت واحدة فاتبعها وردها الى أندره فقال له الملك و اما يكفيك ما في اندرك- فقال هذه بركة من بركات ربّى و لا أشبع من بركته- و قال قوم اتى اللّه أيوب في الدنيا مثل اهله الذين هلكوا فاما الذين هلكوا فانهم لم يردوا عليه في الدنيا و قال عكرمة قيل لايوب ان أهلك لك في الاخرة فان شئت عجلناهم لك في الدنيا و ان شئت كانوا (١) و في معالم التنزيل بلفظ و قال لعائشة حين قالت و ارأساه بل انا وا رأساه ١٢ منه رح. (٢) و في الأصل و أعطاهم ابو محمد. (٣) و في المنجد الأندر الكرس من القمح خاصة- السيد الفقير الدهلوي. لك في الاخرة و اتيناك مثلهم في الدنيا- فقال يكونون لى في الاخرة و اوتى مثلهم في الدنيا- فعلى هذا يكون مغنى الاية و اتيناه اهله في الاخرة و مثلهم في الدنيا و أراد بالأهل الأولاد رَحْمَةً اما مفعول به بفعل محذوف اى وهبنا رحمة اى نعمة مِنْ عِنْدِنا او مفعول مطلق لاتينا من قبيل ضربته سوطا و اتيناه إيتاء برحمة كائنة من عندنا وَ ذِكْرى اى عظة عطف على رحمة لِلْعابِدِينَ (٨٣) اى عظة و تذكرة لغيره من العابدين ليتصبّروا كما صبر فيثابوا «١» كما أثيب- و جاز ان يكون رحمة و ذكرى مفعولا له يعنى اتيناه اهله و مثلهم معهم لرحمتنا و ذكرنا للعابدين فانّا نرحمهم و نذكرهم بالإحسان و لا ننساهم-. (١) و في الأصل فيثيبوا- ابو محمد. ٨٥ وَ إِسْماعِيلَ بن ابراهيم وَ إِدْرِيسَ هو أخنوخ وَ ذَا الْكِفْلِ اعراب هذه الأسماء على قياس نوحا- اختلفوا في ذى الكفل قال عطاء ان نبيا من أنبياء بنى إسرائيل اوحى اللّه اليه انى أريد قبض روحك فاعرض ملك على بنى إسرائيل فمن يكفل لك انه يصلى بالليل لا يفترو يصوم بالنهار لا يفتر و يقضى بين الناس و لا يغضب فادفع ملكك اليه- ففعل ذلك فقام شاب فقال انا اتكفل لك بهذا فتكفل و وفى به فشكر اللّه له و نبّاه فسمى ذا الكفل- و قال مجاهد لما كبر اليسع قال لو انى استخلفت رجلا يعمل على الناس يعمل عليهم في حياتى حتى انظر كيف يعمل فجمع الناس فقال من يتقبل لى بثلاث استخلفه يصوم النهار و يقوم الليل و لا يغضب- فقام رجل تزدريه العين فقال انا فرده ذلك اليوم- و قال مثلها اليوم الاخر فسكت الناس و قام ذلك فقال انا فاستخلفه- فاتاه إبليس في صورة شيخ ضعيف حين أخذ مضجعه للقائلة و كان لا ينام بالليل و النهار الا تلك النومة- فدق الباب فقال من هذا قل شيخ كبير مظلوم فقام ففتح الباب فقال ان بينى و بين قومى خصومة و الهم ظلمونى و فعلوا و فعلوا فجعل يطول حتى ظهر الرواج و ذهبت القائلة فقال إذا رحت فانى أخذ حقك- فانطلق و راح فكان في مجلسه ينظر هل يرى الشيخ فلم يره فقام يبتغيه- فلما كان الغد يقضى بين الناس ينتظره فلا يراه- فلما رجع الى القائلة فاخذ مضجعه أتاه فدق الباب فقال من هذا فقال الشيخ المظلوم ففتح له فقال الم اقل لك إذا قعدت فاتنى قال انهم أحب قوم إذا عرفوا انك قاعد قالوا نحن نعطيك حقك فاذا قمت جحدونى قال فانطلق فادارحت فأتنى ففاتته القائلة فراح فجعل ينظر و لا يراه و شق عليه النعاس فقال لبعض اهله لا تدعوا أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام فانه قد شق علّى النوم- فلما كانت تلك الساعة جاء فلم يأذن له الرجل فلما اعياه نظر فراى كوّة في البيت فتسوّر منها فاذا هو في البيت يدق الباب من داخل- فاستيقظ فقال يا فلان الم أمرك قال اما من قبلى فلم يأت فانظر من اين اتى فقام الى الباب فاذا هو مغلق كما أغلقه و إذا الرجل معه في البيت فقال أ تنام و الخصوم ببابك فعرفه فقال يا عدو اللّه قال نعم اعييتنى و فعلت ما ترى لاغضبتك فعصمك اللّه فسمى ذا الكفل لانه تكفل بامر فوفى به و قيل ان إبليس جاءه و قال ان لى غريما يمطلنى فاحب ان تقوم معى و تستوفى حقى منه فانطلق معه حتى إذا كان في السوق خلاه و ذهب و روى انه اعتذر اليه و قال ان صاحبى هرب منى- و قيل ان ذا الكفل رجل كفل ان يصلى كل ليلة مائة ركعة الى ان يقبضه اللّه فوفى به- و اختلفوا في انه هل كان نبيّا قال بعضهم كان نبيّا كما يدل عليه نسق كتاب اللّه فقيل هو زكريا و قال ابو موسى لم يكن نبيّا و لكن كان عبدا صالحا كُلٌّ اى كل واحد منهم كان مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٨) على المصائب و مشقة الطاعات كابحين اعنة أنفسهم عن الشهوات و المعاصي. ٨٦ وَ أَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا يعنى النبوة و درجات القرب و الجنة عطف على جملة كلّ من الصّابرين- او حال من الضمير في الصابرين بتقدير قد إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦) معصومين عن كدر الفساد بالكلية. ٨٧ وَ ذَا النُّونِ اى صاحب الحوت و هو يونس بن متى عليه السلام إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً و إعرابه على حسب ما ذكرنا في نوحا إذ نادى- اختلفوا في معناه فقال الضحاك مغاضبا لقومه و هو رواية العوفى و غيره عن ابن عباس قال كان يونس و قومه يسكنون فلسطين فغزاهم ملك فسبى منهم تسعة أسباط و نصفا و بقي سبطان و نصف فاوحى اللّه الى شعياء النبي ان سر الى حرقيا الملك و قل له حتى يوجه نبيّا قويّا فانى القى في قلوب أولئك حتى يرسلوا معه بنى إسرائيل فقال له الملك فمن ترى و كان في مملكته خمسة من الأنبياء فقال يونس انه قوى أمين فدعا الملك يونس و امره ان يخرج فقال له يونس هل أمرك اللّه باخراجى قال لا قال هل سمانى لك قال لا قال فههنا غيرى أنبياء أقوياء فالحّوا عليه فخرج من بينهم مغاضبا للنبى و للملك و لقومه فاتى بحر الروم فركبها- و قال عروة بن الزبير و سعيد بن جبير و جماعة ذهب عن قومه مغاضبا لربه إذا كشف عن قومه العذاب بعد ما وعدهم و كره ان يكون بين قوم جرّبوا عليه الخلف فيما وعدهم و استحياء منهم و لم يعلم السبب الّذي به رفع العذاب عنهم- و كان غضب من ظهور خلف وعده و ان يسمى كذّابا لا كراهية لحكم اللّه عزّ و جل- و في بعض الاخبار انه كان من عادة قومه ان يقتلوا من جربوا عليه الكذب فخشى ان يقتلوه لما لم يأتهم العذاب للميعاد فغضب- و المغاضبة هاهنا من المفاعلة الّتي تكون من واحد كالمسافرة و المعاقبة فمعنى قوله مغاضبا اى غضبان و قال الحسن انما غاضب ربّه من أجل انه امره بالمصير الى قوم لينذرهم بأسه و يدعوهم اليه فسال ربه ان ينظره ليتاهب للشخوص إليهم فقيل له ان الأمر اسرع من ذلك حتى سال ربه ان ينظره الى ان يأخذ فعلا يلبسها فلم ينظر و كان في خلقه ضيق فذهب مغاضبا- عن ابن عباس قال اتى جبرئيل عليه السلام يونس عليه السلام فقال انطلق الى اهل نينوى فانذرهم- قال التمس دابة قال الأمر اعجل من ذلك- فعضب فانطلق الى السفينة- و قال وهب ان يونس بن متى كان عبدا صالحا و كان في خلقه ضيق فلما حمل عليه أثقال النبوة تفسح تحتها تفسح الزبع تحت الحمل الثقيل يقذفها بين يديه و خرج هاربا منها- فلذلك أخرجه اللّه من اولى العزم فقال لنبيه صلى اللّه عليه و سلم فاصبركما صبرا و لو لعزم من الرّسل و قال و لا تكن كصاحب الحوت فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ قرأ، يعقوب بضم الياء و فتح الدال على البنا للمفعول و الباقون بفتح «١» الياء و كسر الدال على البناء للفاعل و معنى الاية ظن يونس ان لن نضيق عليه الحبس نظيره قوله تعالى اللّه يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ اى يضيق كذا قال عطاء و كثير من العلماء- ا و لن نقضى عليه بالعقوبة من القدر بمعنى القضاء كذا قال مجاهد و الضحاك و الكلبي و هو رواية العوفى عن ابن عباس يقال قدر اللّه تقديرا و قدر قدرا بمعنى واحد قال اللّه تعالى نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ قرا ابن كثير بتخفيف الدال و الباقون بالتشديد و معناهما واحد- و يؤيد هذا التأويل قراأة عمر بن عبد العزيز و الزهري بالتشديد و قيل معناه ظن ان لن نعمل فيه قدرتنا- و قيل هذا تمثيل الحالة بحال من ظن ان لن نقدر عليه في مراغمة قومه من غير انتظار لامرنا- و قال ابن زيد هو استفهام للانكار (١) و الصحيح و الباقون بنون العظمة المفتوحة و كسر الدال على البناء للفاعل- ابو محمد عفا عنه. و التوبيخ معناه أ فظن ان لن نقدر عليه و قيل كان ذلك خطرة شيطانية سبقت الى و همه فسمى ظنا للمبالغة- قال الحسن بلغني ان يونس لمّا أصاب الذنب انطلق مغاضبا لربه فاستزلّه للشيطان حتى ظن ان لن نقدر عليه- و كان له سلف و عبادة فابى اللّه ان يدعه للشيطان فقذفه في بطن الحوت و مكث فيه أربعين من بين يوم رسله و قال عطاء سبعة ايام و قيل ثلثة ايام- و قيل ان الحوت ذهب به مسيرة ستة آلاف سنة و قيل بلغ به تخوم «١» الأرض السابعة فتاب الى ربه في بطن الحوت و راجع نفسه فَنادى فِي الظُّلُماتِ اى في الظلمة الشديدة المتكاثفة- او ظلمة الليل و ظلمة البحر و ظلمة بطن الحوت- هذه الجملة معطوفة على جمل محذوفة معطوفة بعضها على بعض- تقديره إذ ذّهب مغاضبا فظنّ الّن تّقدر عليه فبلغ البحر فركب في السفينة فاحتبست السفينة فساهم فكان من المدحضين فالقى نفسه في البحر فاتقمه الحوت فنادى في الظلمات أَنْ اى بان لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) على نفسى بالمبادرة الى المهاجرة بلا اذن من اللّه تعالى- قال البغوي روى عن ابى هريرة مرفوعا انه اوحى اللّه الى الحوت ان خذه و لا تخدش له لحما و لا تكسر له عظما فاخذه ثم هوى به الى مسكنه في البحر فلما انتهى به الى أسفل البحر سمع يونس تسبيحا فقال في نفسه ما هذا فاوحى اللّه اليه ان هذا تسبيح دواب البحر فسبح يونس و هو في بطن الحوت فسمع الملائكة تسبيحه فقالوا يا ربنا تسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة- و في رواية صوت معروف في مكان مجهول قال ذاك عبدنا يونس عصانى فحبسته في بطن الحوت- فقالوا العبد الصالح الّذي كان يصعد منه إليك في كل يوم عمل صالح قال نعم فشفعوا له عند ذلك فامر الحوت فقذفه في الساحل كما قال اللّه تعالى فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ. (١) التخرم بالضم الفصل بين الأرضين و المعالم و الحدود ١٢ منه رح. ٨٨ فَاسْتَجَبْنا لَهُ اى أجبنا دعوته وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ اى غم الخطيئة و غم التقام الحوت او غم الظلمات بتلك الكلمات وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨) من الغموم إذا يدعوننا بالإخلاص و يستغيثوا بنا- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم دعوة ذى النون إذ دعا ربه و هو في بطن الحوت لا اله الّا أنت سبحناك انّى كنت من الظّالمين لم يدع بها رجل مسلم في شي ء الا استجاب له- رواه احمد و الترمذي و الحاكم و صححه من حديث سعد بن ابى وقاص و في لفظ الحاكم الا أخبركم بشي ء إذا نزل بأحد منكم كرب او بلاء فدعابه الا فرج اللّه عنه قيل بلى يا رسول اللّه قال دعاها ذى النون لا اله الّا أنت سبحنك انّى كنت من الظّالمين- و رواه ابن جرير بلفظ اسم اللّه الّذي إذا دعي به أجاب و إذا سئل به اعطى لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ و قد ذكرنا في مفتتح سورة ال عمران ان اسم اللّه الأعظم هو التهليل يعنى النفي و الإثبات- و ان لا اله الا هو و لا اله إلا أنت ارفع درجة من لا اله الا اللّه لان الضمائر وضعت للذات البحت- قلت ثم لا اله الا أنت ارفع درجة من لا اله الا هو لدلالة ضمير الخطاب على كمال الحضور و اللّه اعلم- قرا ابن عامر و أبو بكر بتشديد الجيم و تسلين الياء على ان أصله ننجى مضارع باب التفعيل حذفت منه النون الثانية لاجتماع المثلين كما تحذف التاء في تتظاهرون فيقال تظاهرون؟؟؟ هى و ان كانت فاء فحذفها اولى من حذف علامة المضارع الّتي لمعنى- و لا يقدح اختلاف حركتى النونين فان الداعي الى الحذف اجتماع المثلين مع تعذر الإدغام- و امتنع الحذف في تتجافى لخوف اللبس و قيل أصله نجىّ على انه ماض مبنى للمفعول أسند الى الصدر- و قال البيضاوي و هذا الوجه مردود بان الفعل لا يسند الى المصدر إذا كان المفعول مذكورا و الماضي لا يسكن آخره- و أجيب بانه اسناد الفعل الى المصدر مع وجود المفعول شاذّ و الشاذّ لا يمتنع وقوعه في القران لفصاحته- و قد تسكن الياء المفتوحة كما سكنوا في بقي فقالوا بقي و نحوها- و قرا الجمهور بنونين من الافعال و في الخط الرسم بنون واحدة لان النون الثانية ساكنة و الساكن غير ظاهر على اللسان فحذفت في الخط كما حذفوا النون في الّا و أصله ان لا لخفائها- قال البغوي اختلفوا في ان رسالة يونس متى كانت روى سعيد ابن جبير عن ابن عباس ان اللّه تعالى أرسله بعد ان أخرجه من بطن الحوت بدليل ما ورد في سورة الصافات فنبذنه بالعراء و هو سقيم ثم ذكر بعده و أرسلناه الى مائة الف او يزيدون- و قال الآخرون انه أرسل قبل ذلك بدليل قوله تعالى وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ - قلت و الاستدلال بقوله و أرسلناه بعد قوله فنبذنه ضعيف الواو لمطلق الجمع لا دلالة لها على الترتيب-. ٨٩ وَ زَكَرِيَّا إِذْ نادى و إعرابه كاعراب نوحا إذ نادى يعنى حين دعا ربه رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وحيدا بلا ولد يخلفنى بيان للنداء وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) حال من فاعل لا تذرنى ثناء على اللّه تعالى بانه الباقي بعد فناء الخلق و انه خير من يخلف. ٩٠ فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى ولدا وَ أَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ اى جعلناها و لودا بعد ما كانت عقيمة إِنَّهُمْ اى الأنبياء المذكورين كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ يَدْعُونَنا رَغَباً مفعول له او حال اى لاجل الرغبة او ذوى رغبة او راغبين في لقائنا و التقرب إلينا او في الثواب راجين الاجابة او في الطاعة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم جعلت قرة عينى في الصلاة- رواه احمد و النسائي و الحاكم و البيهقي في حديث عن انس وَ رَهَباً اى لاجل الخوف او ذوى خوف او خائفين الهجران او المعصية او العقاب وَ كانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠) اى داعين نوجل قال مجاهد الخشوع هو الحزن اللازم في القلب و ذلك لكمال المعرفة بعظة اللّه و قال قتادة ذللا لامر اللّه و قوله تعالى إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ مدح لهم و تعليل لما سبق اى اتينا لوطا و نوحا و داود و سليمان و غيرهم حكما يعنى نبوة و علما لانهم كانوا يسارعون في الخيرات- او اذكر هؤلاء الكرام لانهم كانوا يسارعون في الخيرات حتى يقتدى بهم الناس فانهم نالوا من اللّه تعالى ما نالوا بهذه الخصال. ٩١ وَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها من الحلال و الحرام يعنى مريم بنت عمران منصوب بتقدير اذكر فَنَفَخْنا يعنى نفخ جبرئيل بامرنا فِيها اى في مريم نفخ في جيب درعما فوصل النفخة في جوفها فاحدث اللّه تعالى بذلك النفخة المسيح عيسى بن مريم مِنْ رُوحِنا اى من الروح الّذي هو بامرنا وحدنا و الاضافة للتشريف او المراد بالروح عيسى و من زائد ة- او من جهة روحنا يعنى جبرئيل عليه السلام وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها اى جعلنا قصتهما او حالهما و لذلك و حد قوله آيَةً اى دلالة على كمال قدرتنا على خلق ولد من غير اب لِلْعالَمِينَ (٩١) ٩٢ إِنَّ هذِهِ اى ملة التوحيد و الايمان بجميع الأنبياء قائلا لا نفرّق بين أحد منهم و السمع و الطاعة للّه و لرسله في كل وقت على حسب امره و نهيه فهو اشارة الى جميع الملل الحقة او للمراد ملة الإسلام أُمَّتُكُمْ اى ملتكم الّتي يجب عليكم ايها الناس كافة ان تكونوا عليها أُمَّةً منصوب على الحال و العامل فيه معنى الاشارة واحِدَةً غير مختلفة فيما بين الأنبياء و لا مشاركة لغيرها في صحة الاتباع قال اللّه تعالى و من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه- و الامة مشتق من امّ يأمّ بمعنى قصد يقصد فاطلق على الجماعة الّتي هى على مقصد واحد و على الدين و السنة كذا في القاموس لكون الدين و السنة مقصودين وَ أَنَا رَبُّكُمْ لا رب لكم غيرى فَاعْبُدُونِ (٩٢) دون غيرى. ٩٣ وَ تَقَطَّعُوا فيه التفات من الخطاب الى الغيبة- و التّفعّل بمعنى التفعيل يعنى قطعوا و فرقوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ اى امر دينهم فصاروا فرقا يلعن بعضهم بعضا و ما كان ينبغى لهم ذلك كُلٌّ اى كل فرقة منهم إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فنجازيهم. ٩٤ فَمَنْ يَعْمَلْ شيئا من الأعمال الصَّالِحاتِ و ان كان مثقال ذرة وَ هُوَ مُؤْمِنٌ باللّه و رسله و ما جاءوا به- قيد بهذا لان الايمان شرط للاثابة على الأعمال فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ اى لا بطلان و المنع عن الثواب بعمله استعير الكفر للمنع عن الثواب كما استعير الشكر لاعطائه و نفى الجنس للمبالغة وَ إِنَّا لَهُ اى لسعيه و عمله كاتِبُونَ (٩٤) مثبتون في صحف الأعمال الّتي تكتبها الملائكة الكرام. ٩٥ وَ حَرامٌ قرأ أبو بكر و حمزة و الكسائي بكسر الحاء و سكون الراء بلا الف بينهما و الباقون بفتح الحاء و الراء و الف بينهما و هما لغتان مثل رحلّ و حلال و المعنى ممتنع غير متصور الوجود عَلى اهل قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها اى حكمنا باهلاكها او وجدناها هالكا يعنى كافرا- خبر مبتداء محذوف تقديره حرام و ممتنع عليهم ذاك اى المذكور في الاية المتقدمة من عدم تضيع الحسنات يعنى نحبط أعمالهم- او حرام اى ممتنع توبتهم او حياتهم- تأنيا في الدنيا او عدم بعثهم للجزاء و على هذا قوله تعالى أَنَّهُمْ إلينا لا يَرْجِعُونَ (٩٥) معناه لانهم لا يرجعون بالتوبة و الإخلاص إلينا او لانهم لا يرجعون الى الدنيا حتى يتداركوا ما فات عنهم من الايمان- و جاز ان يكون ان مع جملتها مبتدأ و حرام خبره يعنى عدم رجوعهم الى موقف الحساب و الجزاء ممتنع و قال ابن عباس معنى الاية و حرام على اهل قرية انهم راجعون الى الدنيا فعلى هذا مبتداء و خبر و لا زائدة- و على التأويلات كلها هذه الاية وعيد الكفار كما ان السابقة وعد للمؤمنين. ٩٦ حَتَّى إِذا فُتِحَتْ قرأ ابن عامر و ابو جعفر و يعقوب بالتشديد على التكثير و الباقون بالتخفيف يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ اسمان لقبيلتين و المضاف محذوف يعنى فتح سدهما عنهما وَ هُمْ يعنى يأجوج و ماجوج مِنْ كُلِّ حَدَبٍ اى نشز و تل يَنْسِلُونَ (٩٦) اى يسرعون من نسلان الذئب و قد ذكرنا حديث النواس بن سمعان في سورة الكهف في تفسير قوله تعالى فاذا جاء وعد ربّى جعله دكّاء و كان وعد ربّى حقّا و فيه و يبعث اللّه يأجوج و مأجوج و هم من كلّ حدب ينسلون- قلت و إنما خص نسلانهم من الأحداب لان مقرهم ما وراء الجبال فيأتون من فوق الجبال و قيل ضميرهم في وهم في كلّ حدب راجع الى الناس أجمعين و قرا مجاهد و هم من كلّ جدث يّفعلون بالجيم و الثاء المثلة من فوق؟؟؟ معنى القبر و الضمير على هذا راجع الى الناس أجمعين نظيره قوله تعالى فاذا هم من الأجداث الى ربّهم ينسلون- و عن حذيفة ابن اسد الغفاري قال اطلع النبي صلى اللّه عليه و سلم و نحن نتذكر فقال ما تذاكرون قالو نذكر الساعة قال الها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات- فذكر الدخان و الدّجال و الدابة و طلّوع الشمس من مغربها و نزول عيسى بن مريم و يأجوج و مأجوج و ثلاث خسوف خسف بالمشرق و خسف بالمغرب و خسف بجزيرة العرب و اخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس الى محشرهم- و في رواية تخرج من قعر عدن تسوق الناس الى المحشر- و في رواية في العاشرة و ريح يلقى الناس في البحر- رواه مسلم و حتى ابتدائية تدلّ على سببية ما قبلها لما بعدها كما في قولهم مرض فلان حتى لا يرجونه- متعلق بحرام او بمحذوف دل عليه الكلام او بلا يرجعون اى يستمر امتناع عدم تضيع حسناتهم- يعنى يستمر حبط أعمالهم او امتناع قبول توبتهم او امتناع رجوعهم الى الدنيا او امتناع عدم بعثهم للجزاء حتى تكون أبصارهم شاخصة او يهلكون بالكفر حتى يكون كذلك- او لا يرجعون الى التوبة او الى الدنيا حتى يكون كذلك مترتبا عليه و ما بعد حتى جملة شرطية إذا فتحت يأجوج و مأجوج شرط و هم من كلّ حدب ينسلون حال من يأجوج و مأجوج- و ان كان الضمير راجعا الى الناس فهو عطف على الشرط و قوله. ٩٧ وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ يعنى يوم القيامة عطف على فتحت- و قال الفراء و جماعة الواو زائدة و الجملة جزاء للشرط كما في قوله تعالى فَلَمَّا أَسْلَما وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَ نادَيْناهُ و المعنى لما أسلما ناديناه- و استدلوا عليه بما روى عن حذيفة قال لو ان رجلا اقتنى فلوا بعد خروج يأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة- ورد هذا القول بان الواو و لا تكون زائدة و جزاء الشرط فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا اى أجفانهم إذا للمفاجاة تسد مسد الفاء الجزائية كقوله اذاهم يقنطون فاذا جاءت معها تظاهرت على وصل الجزاء بالشرط فيتاكد- و الضمير للقصة او مبهم يفسره الابصار- و شاخصة مبتدأ من قبيل الصفة المسندة الى فاعلها و الابصار فاعل لها او مبتداء و شاخصة خبره يقال شخص بصره يعنى فتح عينه و جعل لا يطرف من شدة الهول و التحير- و قيل هى مبتدأ محذوف الخبر تقديره فاذا هى اى الساعة بارزة يعنى من قربها كانها حاضرة- و قوله شاخصة أبصار الّذين كفروا جملة مستانفة يا وَيْلَنا مقدر بيقولون و هى واقع موقع الحال من الموصول و جاز ان تكون فاذا هى شاخصة معطوفة على الشرط و الجزاء يقولون يويلنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا اليوم لم نعلم انه حق هذه الجملة في مقام التعليل لقوله يا ويلنا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) لانفسنا بالإخلال بالنظر او واضعين العبادة في غير موضعها. ٩٨ إِنَّكُمْ ايها المشركون وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه يعنى مالا يعقل من الأصنام و عجل السامري و نحو ذلك تفضيحا للكفار في عبادتها و ما يعقل و يرضى بكونه معبودا من الشياطين مدعى الالوهية بالباطل و من الانس كفرعون و نمرود و اشباههم- و اما ما يعقل و لا يرضى به فغير مراد بدليل العقل و النقل فانه لا تزر وازرة وزر أخرى- هذا على تقدير كون ما عامة لذوى العقول و غيرهم كما هو المختار عند اكثر المحققين و يويده ما روى ان ابن الزبعرى قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هذا شي ء لالهتنا خاصة او لكل من عبد من دون اللّه فقال عليه السلام بل لكل من عبد من دون اللّه- ذكره البيضاوي و أخرجه ابو داود و ابن المنذر و ابن مردوية و الطبراني من وجه اخر عن ابن عباس و اما على تقدير كونها مختصه بما لا يعقل فظاهر ان من لا يرضى من العقلاء بكونه معبودا غير داخل فيه حَصَبُ جَهَنَّمَ اى ما يرمى به إليها و يهيج به من حصبه يحصبه إذا رماه بالحصباء كذا قال الضحاك- و قال مجاهد و قتادة الحصب في لغة اهل اليمن الحطب و قال عكرمة هو الحطب بلغة الحبشة- و قال البغوي قرا على بن ابى طالب رضى اللّه عنه حطب جهنم يعنى وقودها أَنْتُمْ ايها المشركون مع ما عبدتموه لَها وارِدُونَ (٩٨) استيناف أول من حصب جهنّم و اللام معوضة من على للاختصاص و الدلالة على ان ورودهم لاجلها- و في قوله تعالى إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ الى آخره التفات كان الكلام عن المشركين فيما سبق على الغيبة و في هذه الاية على الخطاب. ٩٩ لَوْ كانَ هؤُلاءِ الّتي تعبدونها ايها الكفار آلِهَةً في الواقع ما وَرَدُوها هذه جملة معترضة مقدرة بالقول يعنى يقال لهم بعد دخولهم في النار تفضيحا و توبيخا هذا الكلام وَ كُلٌّ اى كل واحد من العابدين و المعبودين فِيها اى في النار خالِدُونَ (٩٩) لاخلاص لهم عنها ابدا عطف على أنتم لها واردون-. ١٠٠ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ اى انين و تنفس شديد و هو من باب اضافة فعل البعض الى الكل؟؟؟ تغليبا و الجملة الظرفية حال من الضمير المستتر في خالدون وَ هُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) عطف على الجملة الظرفية او حال- اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم و ابن ابى الدنيا و البيهقي عن ابن مسعود قال إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من حديد فيها مسامير من حديد ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت من حديد ثم قذفوا في أسفل الحجيم فما يرى أحدهم انه يعذب غيره ثم قرا ابن مسعود لهم فيها زفير و هم فيها لا يسمعون- و ذكر البغوي نحوه بلفظ جعلوا في توابيت من نار ثم جعلت تلك و التوابيت في توابيت اخرى ثم تلك التوابيت في توابيت عليها مسامير من نار فلا يسمعون شياء و لا يرى أحد منهم ان في النار يعذب غيره- اخرج الحاكم عن ابن عباس قال لما نزلت انّكم و ما تعبدون من دون اللّه حصب جهنّم قال المشركون فالملائكة و عيسى و عزير يعبدون من دون اللّه فنزلت. ١٠١ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى المنزلة الحسنى منزلة القرب او الخصلة الحسنى و هى السعادة او التوفيق للطاعة او البشرى بالجنة قال الجنيد رحمه اللّه سبقت لهم منا العناية فى الهداية فظهرت لهم الولاية في النهاية- اخرج ابن مردوية و الضيافى المختار عن ابن عباس قال جاء عبد اللّه بن الزبعرى الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال يا محمد انك تزعم ان اللّه قد انزل عليك انّكم و ما تعبدون من دون اللّه حصب جهنّم أنتم لها واردون- قال نعم قال قد عبدت الشمس و القمر و الملائكة و عزير فكل هؤلاء في النار مع الهتنا فنزلت انّ الّذين سبقت لهم منّا الحسنى و نزلت و لمّا ضرب ابن مريم مثلا الى قوله خصمون نحوه- و ذكر البغوي ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و صناديد قريش كانوا في الحطيم (و حول الكعبة ثلاثمائة و ستون صنما) فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتى أقحمه ثم تلا عليه انّكم و ما تعبدون من دون اللّه حصب جهنّم- الآيات الثلاث ثم قام فاقبل عبد اللّه بن الزبعرى إليهم فاخبره الوليد بن مغيرة بما قال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال له أنت قلت انّكم و ما تعبدون من دون اللّه حصب جهنّم- قال نعم قال أ ليست اليهود تعبد عزيرا و النصارى تعبد المسيح و بنو امليح يعبدون الملائكة- فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم بل هم يعبدون الشياطين- فانزل اللّه عزّ و جلّ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى و انزل اللّه في ابن الزبعرى ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ- و اخرج الواحد عن ابن عباس نحو ما ذكر البغوي و ذكر في بعض كتب اصول الفقه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لابن الزبعرى ما أجهلك بلغة قومك ا لم تعلم ان ما لغير ذوى العقول و لم يذكر هذا الجواب في كتب الحديث و قال بعض اهل العلم ان كلمة انّ في هذه الاية بمعنى الا اى الّا الّذين سبقت لهم منّا الحسنى- و هذا القول غير مرضى بوجهين أحدهما ان كلمة انّ لم يستعمل بمعنى الا و ثانيهما انه لا بد للاستثناء من الاتصال لا عند من قال بجوازه منفصلا و ما ذكرنا في سبب نزول الاية تدل على الانفصال- فعند اكثر العلماء هذه الاية مخصص لما سبق فانه يجوز عندهم التخصيص بكلام مستقل متراخ- و عند ابى حنيفة رحمه اللّه المتراخى يكون ناسخا لا مخصصا و النسخ غير متصور هاهنا إذ الاخبار لا يحتمل النسخ فهو كلام اجنبى دليل على ارادة التجوز فيما سبق و اللّه اعلم أُولئِكَ عَنْها يعنى عن جهنم مُبْعَدُونَ (٣١) اخرج ابو داود عن على رضى اللّه عنه و كذا اخرج ابن ابى حاتم و الثعلبي و ابن مردويه في تفاسيرهم انه خطب و قرا هذه الآية ثم قال انا منهم و أبو بكر و عمر و عثمان و طلحة و الزبير و سعيد و سعيد و عبد الرحمن بن عوف و ابو عبيدة ابن الجراح ثم أقيمت الصلاة فقام يجر ردائه و يقول. ١٠٢ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها و هو بدل من مبعدون او حال من ضميره سيق للمبالغة في ابعادهم عنها و الحسيس صوت يحس به وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ دائمون و تقديم الظرف للاختصاص و الاهتمام و فيه دليل على ان الصوفية العلية الذين لا ترغب أنفسهم الى ما سوى اللّه تعالى دائمون في الوصل بلا كيف و في الروية فارغون عن غيره تعالى. ١٠٣ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ هذه الجملة مع ما عطف عليه خبر بعد خبر لان في ان الذين سبقت قال البغوي قال ابن عباس الفزع الأكبر النفخة الاخيرة بدليل قوله تعالى و نفخ في الصور ففزع من في السموات و من في الأرض قلت المراد بالنفخة الأخيرة النفخة الّتي هى الاخيرة من امور الدنيا و الا فنفخة الفزع انما هى النفخة الاولى و قيل و هى النفخة الصعق ايضا و الأمر ان متلازمان فانهم يفزعون بالنفخة الاولى فزعا و ماتوا منه و هذا ما صححه القرطبي إذ لم يذكر في اكثر الأحاديث الا نفختان نفخة الصعق و نفخة البعث و اختار ابن عربى ان النفخات ثلث الاولى نفخة الفزع و الثانية نفخة الصعق و الثالثة نفخة البعث و هو المختار عندى اخرج ابن جرير في تفسيره و الطبراني في المطولات و ابو يعلى في مسنده و البيهقي في البعث و ابو موسى المديني في المطولات و على بن معيد في كتاب الطاعة و العصيان و عبد بن حميد و ابو الشيخ في كتاب العظمة عن ابى هريرة حديثا طويلا مرفوعا و فيه فينفخ فيه اى في الصور ثلث نفخات الاولى نفخة الفزع و الثانية النفخة الصعق و الثالثة النفخة القيام الى رب العالمين و سنذكر ما ورد في الحديث من تفصيل الفزع في سورة النمل في تفسير الآية المذكورة و قال الحسن الفزع الأكبر حين يومر بالعبد الى النار و قال ابن جريح حين يذبح الموت و ينادى يا اهل النار خلود و لا موت و قال سعيد بن جبير و الضحاك هى ان تطبق جهنم و ذلك بعد ان يخرج اللّه تعالى منها من يريد ان يخرجه وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ اى تستقبلهم الملئكة عند خروجهم من القبور و على أبواب الجنة مهنين قائلين هذا يَوْمُكُمُ اى يوم ثوابكم الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فى الكتب السماوية على السنة الرسل فالجملة حال من الملئكة بتقدير القول. ١٠٤ يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ قرأ ابو جعفر تطوى بالتاء المثناة الفوقانية على البناء للمفعول و رفع السماء للاسناد اليه و الجمهور بالنون على صيغة المتكلم المعروف و نصب السماء مقدر باذكر او ظرف لقوله تعالى لا يَحْزُنُهُمُ او تَتَلَقَّاهُمُ او حال مقدره كَطَيِّ السِّجِلِّ الطى ضد النشر و السجل الصحيفة مشتق من المساجلة و هى المكاتبة لِلْكُتُبِ قرأ حمزة و الكسائي و حفص هكذا على صيغة الجمع و الباقون للكتاب على الافراد و المعنى طياكطى الطومار لاجل الكتابة او لما يكتب او كتب فيه و يدل عليه القراءة على صيغة الجمع اى للمعانى الكثيرة المكتوبة فيه كذا قال ابن عباس و مجاهد و الأكثرون و قال السدى ان السجل ملك يكتب اعمال العباد و اللام زائدة يعنى كطى السج ل الكتب كقوله ردف لكم اى اردفكم و قيل السجل كاتب كان لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال في القاموس كتب السجل لكتاب العهد و غيره جمعه سجلات و هو ايضا الكاتب و الرجل بالحبشة و اسم كاتب للنبى صلى اللّه عليه و سلم و اسم ملك و السجل بالكسر الكتاب و قيل السجل حجر كان يكتب فيه ثم سمى كلما يكتب فيه سجلا كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ما كافة او مصدرية و كلمة أول مفعول لبدأنا اى نعيد ما خلقناه مبدأ إعادة مثل ابدائنا إياه في كونها إيجادا عن العدم او جمعا من الاجزاء المتبددة و جاز ان يكون أول مفعولا بفعل مضمر يفسره نعيده و المعنى على الوجهين واحد و المقصود بيان صحة الاعادة بالقياس على الإبداء لشمول الإمكان الذاتي المصحح للمقدورية و تناول القدرة الكاملة القديمة لهما على السواء و قيل ما موصولة و بدأنا صلة و العائد محذوف و الكاف متعلق بمحذوف يفسره نعيده و أول خلق ظرف لبدأنا او حال من العائد المحذوف يعنى نعيد مثل الّذي بدأناه في وقت أول الخلق او كائنا أول الخلق لكن يلزم على هذا التأويل ان لا يكون المعاد عين الاول بل مثله و الحق انه عينه و انما التمثيل في كلا الخلقين او في الأحوال و الأوصاف روى الشيخان في الصحيحين و الترمذي عن ابن عباس قال قام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قال يا ايها الناس انكم تحشرون الى اللّه حفاة مشاة عراة غرلا ثم قرا لما بدأنا أول خلق نعيد و أول من يكسلى من الخلائق ابراهيم عليه السلام وَعْداً مقدر بفعله اى وعدنا وعدا تأكيد لنعيده او منصوب بنعيده لانه وعد بالاعادة علينا صفة لوعد اى وعدا كائنا علينا إنجازه كاللازم إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ الاعادة و البعث تأكيد بعد تأكيد و. ١٠٥ لَقَدْ كَتَبْنا جواب قسم محذوف فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ قال سعيد بن جبير و مجاهد الزبور جميع الكتب المنزلة و الذكر أم الكتاب الّذي عنده يعنى من بعد ما كتبنا ذلك في اللوح المحفوظ و قال الشعبي الزبور كتاب داود عليه السلام و الذكر التوراة و قال ابن عباس و الضحاك الزبور التوراة و الذكر الكتب المنزلة بعد التوراة و قيل الزبور كتاب داود عليه السلام و الذكر القران و بعد على هذين التأويلين بمعنى قبل أَنَّ الْأَرْضَ يعنى ارض الجنة يَرِثُها عِبادِيَ قرأ حمزة بإسكان الياء و الباقون بفتحها الصَّالِحُونَ فهذه الآية نظيره لقوله تعالى و العاقبة للمتقين و الفساق انما يدخلون اما بعد العذاب و التطهير و اما بعد المغفرة فحينئذ يلتحقون بالصالحين و قال مجاهد يعنى امة محمد صلى اللّه عليه و سلم دليلا قوله تعالى و قالوا الحمد للّه الّذي صدقنا وعده و أورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء و قيل أراد بالأرض الأرض المقدسة و بعبادي الصالحين الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض و مغاربها و قال ابن عباس أراد بالأرض ارض الكفار يفتحها المسلمون و هذا حكم من اللّه بإظهار الدين و إعزاز المسلمين قلت فالمراد بالأرض جميع الأرض روى احمد عن المقداد انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر و لا وبر إلا دخله اللّه كلمة الإسلام بعز عزيز او ذل ذليل اما يعزهم فيجعلهم من أهلها او يذلهم فيدينون لها قال مقداد قلت فيكون الدين كله للّه. ١٠٦ إِنَّ فِي هذا اى فيما ذكرنا في القران من الاخبار و المواعظ و المواعيد لَبَلاغاً اى لكفاية لاجل دخول الجنة فانها زاد الجنة كبلاغ المسافر او سبب بلوغ الى المطلوب يعنى من اتعظ بها بلغ ما يرجوا من الثواب لِقَوْمٍ عابِدِينَ صفة لبلاغا او متعلق به اى للمؤمنين الذين يعبدون اللّه عزّ و جلّ عبادة مقبولة و قال ابن عباس عالمين و قال كعب الأحبار هم امة محمد صلى اللّه عليه و سلم اهل الصلاة الخمس و شهر رمضان. ١٠٧ وَ ما أَرْسَلْناكَ يا محمّد إِلَّا رَحْمَةً منصوب على العلية او على الحال من كاف الخطاب لِلْعالَمِينَ يعنى لرحمتنا على الانس و الجن أرسلناك ليهتدوا بك او أرسلناك حال كونك رحمة يعنى سببا للرحمة روى الحاكم عن ابى هريرة و ابن سعد و الحكيم عن ابى صالح مرسلا انه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انما انا رحمة مهراة و روى البخاري في التاريخ عن ابى هريرة بلفظ انما بعثت رحمة و لم ابعث عذابا و هذه الجملة معطوفة على قوله تعالى ان في هذا لبلاغا و تأكيد له في المعنى فان القرآن لما كان بلاغا و زادا الى الجنة كان إرسال الرسول الّذي انزل عليه القران رحمة و المعنى ان ما بعثت به سبب لاسعادهم و موجب لصلاح معاشهم و معادهم فمن لم يستعدبه و ابى من ان يصير مرحوما فهو ظالم على نفسه و ذالا ينافى كونه رحمة و قال ابن عباس هو رحمة للكافر في الدنيا بتأخير العذاب عليهم و رفع المسخ و الخسف و الاستيصال قل يا محمد. ١٠٨ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ جعلة مستانفة في جواب ما أقول لهم حين بعثت رحمة و ما في انما يوحى كافة و الحصر المستفاد منه مبنى على المبالغة و الحاصل ان المقصود الأصلي من الوحى التوحيد فكانه هو الموحى الىّ لا غير او المعنى انما يوحى الى في امر عبادة اللّه الا التوحيد و جاز ان يكون ما موصولة في حمل النصب على الاسمية و انما إلهكم في محل الرفع على الخبرية و التوحيد يصح إثباته بالسمع لان الرسالة انما تتوقف على المرسل فلا ذور فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ يعنى اسلموا و أخلصوا العبادة للّه على مقتضى الوحى المصدق بالحجة و استعدوا برحمة اللّه. ١٠٩ فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإسلام بعد تمام الحجة عليهم أبوا عن رحمة اللّه فَقُلْ يا محمد آذَنْتُكُمْ اى أعلمتكم ما أرسلت به إليكم او أعلمتكم بالحرب و ان لا صلح بيننا عَلى سَواءٍ اى حال كونكم مستوين في الاعلام يعنى ما أخفيت من أحد منكم فيه دليل على بطلان مذهب الباطنية و الروافض المعتقدين للتقية القائلين بان الائمة كانوا يعلّمون أصحابهم احكام الشرع على وجه الاحق و يقولون ان للجدر ان أذان او المعنى مستوين انا و أنتم في العلم بما أعلمتكم او بالحرب و المعاداة يعنى لاخداع فتاهبوا للحرب او اذنتكم إيذانا على سواء يعنى على الإعلان دون الكتمان و قيل معناه أعلمتكم انى على سواء اى على عدل و استقامة رأى بالبرهان وَ إِنْ أَدْرِي اى ما أدرى أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ من غلبة المسلمين او الحشر لكنه كائن لا محالة. ١١٠ إِنَّهُ تعالى يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ اى ما تجاهرون به من الطعن في الإسلام وَ يَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ من الحقد للمسلمين فيجازيكم عليه و هذه الجملة معترضة للتوبيخ على النفاق و التحريض على الإخلاص. ١١١ وَ إِنْ أَدْرِي مفعول أدرى محذوف يعنى ما أدرى اىّ سبب لتاخير العذاب عنكم مع ما علم اللّه تعالى جهركم و سركم بالسوء و لما كان في هذه الجملة نفى علمه صلى اللّه عليه و سلم عن سبب تأخير العذاب عن الكفار و ذلك يوهم نفى الظن قد وقع ذلك الوهم بقوله لَعَلَّهُ الضمير راجع الى المحذوف المفهوم مما سبق يعنى لعل ذلك التأخير فِتْنَةٌ لَكُمْ اى استدراج لكم و زيادة في افتتانكم او امتحانكم لينظر هل ترجعون مما أنتم عليه الى الاتعاظ أم لا وَ مَتاعٌ التنوين للتحقير و كذا تنوين حين اى تمتيع قليل من اللّه تعالى إِلى حِينٍ اى زمان يسير سبق في القضاء ابقائكم اليه قال جلال الدين المحلى هذا مقابل للغتة المترجى بلعل و ليس هذا محل للترجى. ١١٢ قل قرا حفص قالَ على صيغة الماضي حكاية عن حال النبي صلى اللّه عليه و سلم على سبيل الالتفات من الخطاب الى الغيبة و قرا الجمهور بصيغة الأمر رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ يعنى اقض بيننا و بين اهل مكة بالعدل المقتضى لتعذيب الكفار و إنجاء المسلمين وَ رَبُّنَا الرَّحْمنُ اى كثير الرحمة على خلقه مبتدأ و خبره الْمُسْتَعانُ صفة للرحمن او خبر بعد خبر اى المطلوب منه المعونة عَلى ما تَصِفُونَ بالكذب و الباطل بان الشوكة تكون لهم و ان رأية الإسلام ترفع أياما ثم تخفض و ان الموعد به لو كان حقا لنزل بهم فاجاب اللّه سبحانه دعاء رسوله و نصر المؤمنين و قصم الكفار يوم بدر او المعنى ما تصفون اللّه تعالى باتخاذ الولد و تصفون محمدا صلى اللّه عليه و سلم بالسحر و القران بكونه شعرا و اللّه اعلم الحمد للّه رب العالمين و صلى اللّه تعالى على خير خلقه محمد صلى اللّه عليه و سلم لم تفسير سورة الأنبياء عليهم السّلام و يتلوه إنشاء اللّه تعالى تفسير سورة الحج يوم الاثنين الخامس و العشرين من شهر الجمادى الثاني من السنة الثالثة من المائة الثالثة بعد الالف من هجرة النبي صلى اللّه عليه و سلم. |
﴿ ٠ ﴾