سُورَةُ الْحَجِّ مَدَنِيَّةٌ

وَهِيَ ثَمَانٍ وَسَبْعُونَ آيَةً

ثمان و سبعون اية بعضها مدنيّه و أكثرها مكيّة

 بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

_________________________________

١

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ اى عقابه بان تطيعوه إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ اى تحريكها الأشياء على الاسناد المجازى او تحركها فيها فاضيف إليها اضافة معنوية بتقدير في او اضافة المصدر الى الظرف على اجرائه مجرى المفعول به شَيْ ءٌ عَظِيمٌ اى هائل ان مع صلتها في مقام التعليل علل أمرهم بالتقوى بفظاعة الساعة ليتصوروها بعقولهم و يعلموا انه لا يومنهم منها سوى التدرع بلباس التقوى اختلفوا في هذه الزلزلة فقال علقمة و الشعبي هذا من اشراط الساعة تكون قبل قيام الساعة قال جلال الدين المحلى قبل طلوع الشمس من مغربها و اختار هذا القول ابن العربي و القرطبي بقرينة قوله تعالى.

٢

يَوْمَ تَرَوْنَها اى الساعة او الزلزلة ظرف لقوله تَذْهَلُ بسببها كُلُّ مُرْضِعَةٍ اى امرأة ألقمت الرضيع ثديها يقال امرأة مرضع بلا هاء إذا أريد بها الصفة مثل حائض و حامل يعنى من شانها ان ترضع و إذا أريد به الفعل حالا يقال مرضعة عَمَّا أَرْضَعَتْ ما موصولة او مصدرية يعنى تدهش من هول تلك الزلزلة فتذهل عمن ترضعها و تنزع ثديها من فيه او تذهل عن ارضاعها هذه الجملة خبر ثان لان و الرابط ضمير ترونها او تعليل بعظم شانها وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها اى تسقط جنينها من هول تلك الزلزلة عطف على تذهل قال الحسن تذهل المرضعة عن ولدها يعنى فطام و تضع الحامل ما في بطنها من غير تمام وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى قال الحسن ترى الناس سكارى من الخوف وَ ما هُمْ بِسُكارى من الشراب قرا حمزة و الكسائي سكرى و ما هم بسكرى

قال البغوي هما لغتان لجمع السكران

قال البيضاوي

و قرا سكرى كعطشى اجراء للسكر مجرى العلل أفرد الضمير في ترى الناس بعد جمعه في ترونها لان الساعة يراها الجميع و اثر السكر انما يراه كل واحد على غيره وَ لكِنَّ عَذابَ اللّه شَدِيدٌ فارهقهم هوله بحيث طير عقولهم و اذهب تميزهم استدراك لدفع توهم خفة الأمر الناشي عن نفى السكر قالوا هذه الآية تدل على ان هذه الزلزلة تكون في الدنيا لان بعد البعث لا يكون حبل و لارضاع و يرد عليه ان قوله تعالى يا ايها الناس اتقوا اما خطاب للناس عامة و اما للموجودين عند نز ول الآية خاصة و على كلا التقديرين كون زلزلة الساعة الّتي هى من شرائطها شديدة هائلة لا يصلح تعليلا للامر بالتقوى في حق المخاطبين لان شدتها و هولها لا تلحق الا بالموجودين عندها لا بجميع الناس و لا بالموجودين في زمن النبي صلى اللّه عليه و سلم و قال ابن عباس رضى اللّه عنه زلزلة الساعة قيامها و ذلك بعد نفخة البعث و قيام الناس من قبورهم و اختاره الحليمي و غيره قالوا خرج هذه الآية مخرج المجاز و التمثيل لشدة الهول و الفزع لا على الحقيقة نظيره قوله تعالى يوما يجعل الولدان شيبا و لا شيب فيه انما هو مجاز لشدة الهول و استدلوا على ذلك بما أخرجه احمد و الترمذي و صححه عن عمران بن حصين قال كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فنزلت يا ايها الناس اتقوا ربكم ان زلزلة الساعة شي ء عظيم الى قوله عذاب اللّه شديد قال أ تدرون اىّ يوم ذلك قالوا اللّه و رسوله اعلم قال يوم يقول اللّه لآدم ابعث بعث النار الحديث و

قال البغوي روى عن عمران بن حصين و ابى سعيد الخدري و غيرهما ان هاتين الآيتين نزلتا في غزوة بنى المصطلق ليلا فنادى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقرأ عليهم فلم ير اكثر باكيا من تلك الليلة فلما أصبحوا لم يحطوا السرج عن الدواب و لم يضربوا الخيام و لم يطبخوا قدرا و الناس من بين باك او جالس حزين متفكر فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أ تدرون يوم ذلك قالوا اللّه و رسوله اعلم قال ذلك يوم يقول اللّه عزّ و جلّ لآدم قم فابعث بعث النار من ولدك فيقول آدم من كل كم كم فيقول اللّه عزّ و جلّ من كل الف تسعمائة و تسعة و تسعين الى النار و واحد الى الجنة فكبر ذلك على المسلمين و بكوا و قالوا فمن ينجو كما يا رسول اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بشروا و سدّدوا و قاربوا فان معكم خليقتين ما كانتا في قوم إلا كثرتاه يأجوج و ماجوج ثم قال انى لارجو ان تكونوا ثلث اهل الجنة فكبروا و حمدوا اللّه ثم قال لارجو ان تكونوا نصف اهل الجنة فكبروا و حمدوا اللّه ثم قال انى لارجو ان تكونوا ثلثى اهل الجنة و ان اهل الجنة مائة و عشرين صفا ثمانون منها أمتي و ما المسلمون في الكفار الا كالشامة في جنب البعير و كالرقمة في ذراع الدابة بل كالشرة السوداء في الثور الأبيض و كالشعرة البيضاء في الثور الأسود ثم قال تدخل من أمتي سبعون الفا الجنة بغير حساب فقال عمر سبعون الفا قال نعم و مع كل واحد سبعون الفا فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول اللّه ان يجعلنى اللّه منهم فقال صلى اللّه عليه و سلم أنت منهم فقام رجل من الأنصار فقال ادع اللّه ان يجعلنى منهم فقال صلى اللّه عليه و سلم سبقك بها عكاشة و أجاب اصحاب القول الاول ان هذا الحديث لا يدل على ان الزلزلة تكون حين الأمر ببعث النار بل يكون ذلك اليوم و الأمر متاخر عنها فكانه صلى اللّه عليه و سلم لما اخبر عن الزلزلة الّتي كانت متقدمة عن النفخة الاولى ذكر ما يكون في ذلك اليوم من الأهوال العظام و هو قوله لآدم البث بعث النار فيكون ذلك في أثناء ذلك اليوم و لا يقتضى ان يكون ذلك متصلا بالنفخة الاولى قلت و هذا الجواب ضعيف لان حديث ابى سعيد الّذي أخرجه الشيخان في الصحيحين عنه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم ورد بلفظ يقول اللّه يا آدم فيقول لبيك و سعديك و الخير في يديك قال اخرج بعث النار قال و ما بعث النار قال من كل الف تسعمائة و تسعة و تسعون فعنده يشيب الصغير و تضع كل ذات حمل حملها و ترى الناس سكارى و ما هم بسكارى و لكن عذاب اللّه شديد قالوا يا رسول اللّه و أينا ذلك الواحد قال ابشروا فان منكم رجلا و من يأجوج و مأجوج الف ثم قال و الّذي نفسى بيده أرجو ان تكونوا ربع اهل الجنة فكبرنا فقال أرجو ان تكونوا ثلث اهل الجنة فكبرنا فقال أرجو ان تكونوا نصف اهل الجنة فكبرنا قال ما أنتم في الناس الا كالشعرة السوداء في جلد ثور ابيض او كشعرة بيضاء في جلد ثور اسود فان هذا الحديث صريح في اقتران مشيب الصغير و وضع ذات حمل حملها بالأمر ببعث النار بل تقدم البعث على الزلزلة.

٣

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللّه اى في ذات اللّه و صفاته و أحكامه بِغَيْرِ عِلْمٍ نزلت في النضر بن الحارث كان كثير الجدال و كان يقول الملئكة بنات اللّه و القرآن أساطير الأولين و كان ينكر البعث و احياء من صار ترابا كذا اخرج ابن ابى خاتم عن ابى مالك وَ يَتَّبِعُ فى المجادلة او في عامة أحواله كُلَّ شَيْطانٍ اعترضه من الجن و الانس مَرِيدٍ المرد النجرد العرى و منه الأمرد لتجرده عن الشعر و المريد و المارد بمعنى العاري من الخير المستقر في الشر و في القاموس مرد كنصر و كرم مرود او مرادة فهو مارد و مريد و متمرد أقدم أو عتا او هو ان يبلغ الغاية الّتي تخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنف و مرده قطعه و مرّق عرضه و على الشي ء مرن و استمر.

٤

كُتِبَ اى قضى عَلَيْهِ اى على الشيطان أَنَّهُ اى الشان مَنْ تَوَلَّاهُ اى تبعه فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ان المفتوحة مع جملتها خبر لمبتدأ محذوف و الجملة بعد الفاء جزاء لمن ان كانت شرطية و جوابه ان كانت موصولة و المعنى ان من تبع الشيطان فالامر ان الشيطان يضل تابعه عن سواء السبيل فلم ب؟؟؟ بل عليه وَ يَهْدِيهِ اى يريه طريق النار او يوصله إِلى عَذابِ السَّعِيرِ بالحمل الى ما يوصله و قيل ضمير انه راجع الى الشيطان و من موصولة او موصوفة مع صلتها او صيغتها خبر لان و الضمير المنصوب في تولاه راجع الى التابع و ألفا في فانه يضله للعطف على انه من تولاه و المعنى قضى على الشيطان انه نفس تولى تابعه او الّذي تولى تابعه اى أحبه او استولى عليه فقضى ان الشيطان يضله كذا قال الزجاج و جملة و من الناس من يجادل في اللّه حال من فاعل اتقوا تقديره يا ايها الناس اتقوا و منكم من يجادل و لم يتق ففيه التفات من الخطاب الى الغيبة او معترضة.

٥

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي فى شك مِنَ الْبَعْثِ اى من إمكانه و كونه مقدورا لنا فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ يعنى خلقنا جنسكم و هو شامل لمن يولد و من يسقط لكونه مستعدا لان يصير إنسانا يعنى فانظروا في بدأ خلقكم فانه يزيل ريبكم فانا خلقناكم مِنْ تُرابٍ بخلق أبيكم آدم منه او المعنى خلقناكم من الاغذية الّتي تنبت من التراب الّتي يتولد منها المنى ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ اى منى مشتق من النطف بمعنى الصب ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ قطعة من الدم جامدة ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ قطعة من اللحم و هى في الأصل قدر ما يمضغ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ قال ابن عباس اى تامة الخلق و غير تامة الخلق

و قال مجاهد مصورة و غير مصورة و قيل المخلقة الولد يأتي به المرأة لوقته غير مخلقة السقط فالمراد بغير المخلقة على هذه الأقوال السقط و قيل المخلقة المسواة الّتي لا نقص فيها و لا عيب و غير المخلقة ما فيه نقص و عيب كانّ اللّه عزّ و جلّ يخلق المضغ متفاوتة منها ما هو كامل الخلق أملس من العيوب و منها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوة تفاوة الناس في خلقتهم و صورهم و طولهم و قصرهم و كما لهم و نقصانهم فعلى هذا ليس المراد بغير المخلقة السقط فحينئذ لا حاجة الى ما

قلنا ان السقط من جنس الإنسان من حيث الاستعداد لكن الصحيح هو الاول و المراد بغير المخلقة السقط

قال البغوي روى علقمة عن ابن مسعود قال ان النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه فقال اى رب مخلقة او غير مخلقة فان قال غير مخلقة قذفها الرحم دما و لم يكن نسمة و ان قال مخلقة قال الملك اذكر أم أنثى أشقى أم سعيد ما الاجل ما العمل ما الرزق فيقال له اذهب الى أم الكتاب فانك تجد فيها كل ذلك فيذهب فيجدها في أم الكتاب فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفته لِنُبَيِّنَ لَكُمْ تتعلق بخلقناكم مقيدا بما ذكر يعنى لنبين و نظهر لكم بهذا التدريج كمال قدرتنا و حكمتنا حتى تستدلوا به على البعث بان ما قبل التغير و الفساد و التكون مرة في بدو الخلق يقبلها ثانيا عند الاعادة و من قدر على تغييره و تصويره اولا قدر على ذلك ثانيا و حذف المفعول ايماء الى ان أفعاله هذه يتبين بها من قدرته و حكمته مالا يحيط به الذكر و قيل معناه لنبين لكم ما تأتونه و ما تذرونه و ما تحتاجون اليه في العبادة يعنى خلقناكم لاجل التكليف وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ حال بتقدير و نحن نقرأ و عطف على انا خلقناكم نعنى نثبت و نسكن في الأرحام فلا تمجه و لا تسقطه ما نَشاءُ اى مدة نشاء ان نقر فيه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى اى معلوم عند اللّه تعالى و هو وقت الخروج من الرحم مولود ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ من بطون أمّهاتكم طِفْلًا اى أطفالا صغارا حال من الضمير المنصوب في نخرجكم أجريت عليه بتأويل كل واحد او الدلالة على الجنس او لانه في الأصل مصدر ثُمَّ لِتَبْلُغُوا متعلق بمحذوف تقديره ثم نربيكم لتبلغوا أَشُدَّكُمْ جمع شدة كالغم جمع نعمة يعنى ليبلغوا كل شدة و كمال قدر لكم في القوة و العقل و غير ذلك قالوا و بلوغ الأشد ما بين ثلثين الى أربعين سنة وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى عند بلوغ الأشد او قبله جملة معترضة او حال او معطوفة على ما سبق وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ بالهرم و الخرف لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً متعلق بيرد و اللام للعاقبة يعنى حتى يعود الى الهيئة الاولى الّتي كانت في أوان الطفولية من سخافة العقل و قلة الفهم فينسى ما علمه و ينكر ما عرفه قال عكرمة من قرا القران لم يصير بهذه الحالة و الآية استدلال ثان على إمكان البعث بما يعترى الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة و الأحوال المتضادة فان من قدر على ذلك قدر على نظائره وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً اى ميتة يابسة من همدت النار إذا صارت رمادا فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ تحركت بالنبات وَ رَبَتْ اى زادت و انتفخت قرا ابو جعفر ربأت بالهمزة و كذلك في حم السجدة اى علت و ارتفعت قال المبرد أراد اهتز و ربا نباتها فحذف المضاف لان الاهتزاز في النبات اظهر وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ من زائدة اى أنبتت كل صنف بَهِيجٍ اى حسن في القاموس البهيجة السرور بهج ككرم فهو بهج و هو مبهاج و كخجل فرح فهو بهيج و بهج و كمنع افرح و سرّكا بهج و الابتهاج السرور و جملة ترى الأرض عطف على انا خلقناكم أورد جملة فعلية ليدل على حدوث هذه الصفة مرة بعد اخرى فهذه دليل ثالث كررها اللّه تعالى في كتابه لظهوره و كونه مشاهدا.

٦

ذلِكَ اشارة الى ما ذكر من خلق الإنسان في أطوار مختلفة و تحويله على احوال متضادة و من احياء الأرض بعد موتها و هو مبتدأ خبره بِأَنَّ اللّه هُوَ الْحَقُّ اى بسبب ان اللّه هو الثابت المتحقق في نفسه الواجب وجوده الّذي به يتحقق الأشياء لو لاه لاستحال خروج الممكن من مخدع العدم وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى منه النطفة و الأرض الموات وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ لان قدرته لذاته و نسبة ذاته الى الكل سواء فلما دلت المشاهدة على قدرته على احياء بعض الأموات لزم اقتداره على كلها و إن كان عظما رميما.

٧

وَ أَنَّ السَّاعَةَ يعنى ساعة القراض الدنيا آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها فان التغير من مقدمات الانصرام وَ أَنَّ اللّه يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ بمقتضى وعده الّذي لا يحتمل الخلف الجمل الثلث الاول منها لبيان العلة الفاعلية لخلق الإنسان في أطوار مختلفة و تحويله على احوال متضادة و احياء الأرض بعد موتها و الجملتين الأخيرتين لبيان العلة الغائية اى ما هو بمنزلة العلة الغائية فان خلق الإنسان و نحوه لمعرفة اللّه سبحانه و حسن عبادته و الا لكان إيجاده عبثا و خلق سائر الكائنات لتكون برهانا لمعرفة الديان و يترتب على وجوب المعرفة وجوب العبادة و عليه يترتب الجزاء إذ لو لا البعث و الجزاء لزم التسوية بين المسلمين و المنكرين المجرمين فيختل امر العدل قال اللّه تعالى ا فنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون أ فلا تذكرون.

٨

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللّه بِغَيْرِ عِلْمٍ ضرورى وَ لا هُدىً اى استدلال يهدى الى المعرفة وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ مظهر للحق منزل من اللّه تعالى على أحد من الناس فان اسباب العلم للانسان انما هو أحد هذه الأمور الثلاثة

٩

ثانِيَ عِطْفِهِ العطف الجانب و العطفان الجانبان يمينا و شمالا و هو الموضع الّذي يعطف الإنسان اى يلوى و يميله عند الاعراض قال مجاهد اى لاوى عنقه حاصل المعنى معرضا عما يدعى اليه من الحق تكبرا او تبخترا كذا قال ابن عطية و ابن زيد و ابن جريح.

لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّه متعلق بيجادل قرا ابن كثير و ابو عمر بفتح الياء من المجرد و الباقون بضم الياء من الافعال يعنى يجادل حتى يضل غيره لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ و هو القتل و الاسر فقتل نضر بن الحارث و عقبه بن ابى معيط يوم بدر صبر او قتل معهما سبعون و اسر سبعون و قال جلال الدين المحلى نزلت الآية في ابى جهل فقتل يوم بدر وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ اى المحرق و هو النار.

١٠

ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ التفات من الغيبة الى الخطاب او التقدير و يقال لهم يوم القيمة إذا عذبوا ذلك العذاب بسبب ما فعلته من الكفر و المعاصي وَ أَنَّ اللّه لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أورد صيغة المبالغة نظرا الى كثرة العبيد و الجملة معطوفة على ما قدمت يداك و نفى الظلم كناية عن العدل كما ان عدم الحب في قوله تعالى لا يحب اللّه الجهر بالقول كناية عن البغض و العدل سبب لمجازاة الكفر و المعاصي بالتعذيب اخرج البخاري و ابن ابى حاتم و ابن مردوية عن ابن عباس قال كان الرجل يقدم المدينة فيسلم فان ولدت امرأته غلاما و نتجت خيله قال هذا دين صالح و ان لم تلد امرأته و لم تنتج خيله قال هذا دين سوء فانزل اللّه تعالى.

١١

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّه عَلى حَرْفٍ قال المفسرون معناه على شك من حرف الشي ء و هو طرفه فالشاك و المنافق كانه على طرف من الفريقين المؤمنين و الكافرين قد يميل الى هؤلاء و قد يميل الى هؤلاء او هو كالذى على طرف الجيش فان احسّ الظفر قرّ و الا فرّ

و اخرج ابن ابى حاتم و كذا

قال البغوي انها نزلت في يوم من الاعراب كانوا يقدمون المدينة و المهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصح بها جسمه و نتجت بها فرسه مهر أحسنا و ولدت أمرته غلاما و كثر ماله قال هذا دين حسن و قد أصبت فيه خيرا و اطمأن اليه و هو المعنى قوله تعالى فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ اى بتعبد اللّه و الإسلام و ان صابه مرض و ولدت امرأته جارية و أجهضت رهاكه و قل ماله قال ما أصبت منذ دخلت في هذا الدين الا شرا فينقلب عن دينه و هو المعنى لقوله تعالى وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ بلاء و شدة انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ اى ارتد عن دينه و رجع على عقبه الى الوجه الّذي كان عليه من الكفر

و اخرج ابن مردوية من طريق عطية عن ابى سعيد قال اسلم رجل من اليهود فذهب بصره و ماله و ولده فتشام بالإسلام فاتى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال أقلني فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم ان الإسلام لا يقال «١» فقال لم أصب من دينى هذا خيرا ذهب بصرى و مالى و مات ولدي فنزلت الاية فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يا يهودى ان الإسلام يسبك الرجال كما يسبك النار خبث الحديد و الذهب و الفضة خَسِرَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةَ يعنى هذا الّذي ارتد من الدين لاجل بلاء في الدنيا خسر الدنيا لفوات ماله و ولده و ما كان يؤمل و لذهاب عصمته و خسر الاخرة بالخلود في النار و حبط عمله ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ لا خسران مثله.

(١) من الا قالة اى لا ينبغى الإسلام ان يرجع عنه- مصحح سيد عفى عنه.

١٢

يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللّه ما لا يَضُرُّهُ ان لم يعبده وَ ما لا يَنْفَعُهُ ان عبده ذلِكَ الدعاء هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ عن الحق مستعار من ضل في التيه إذا ابعد عن الطريق المستقيم.

١٣

يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ اللام زائدة و المعنى يدعوا من ضره اى ضر عبادته هكذا قرا ابن مسعود رضى اللّه عنه أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ الموهوم الّذي يتوقعه الكافر بعبادته و هو الشفاعة و التوسل بها الى اللّه تعالى و هذا على عادة العرب فانهم يقولون لما لا يكون موجودا أصلا هذا شي ء بعيد و نظيره قوله تعالى ذلك رجع بعيد اى لارجع أصلا و لما كان النفع من الصنم بعيدا بمعنى انه لا نفع فيه أصلا قيل ضره اقرب من نفعه لانه كائن لا محالة قيل يدعوا من تتمة الكلام السابق تكرير لقوله يدعوا في قوله يدعوا من دون اللّه ما لا يضره و ما لا ينفعه تأكيد لفظى له و ما بعده كلام مستأنف و اللام في لمن ضره جواب لقسم محذوف و الموصول مع صلته مبتدأ خبره لَبِئْسَ الْمَوْلى اى الناصر و قيل المعبود وَ لَبِئْسَ الْعَشِيرُ اى الصاحب و المخالط يعنى الوثن و العرب يسمى الزوج عشيرا لأجل المخالطة و الجملتان الزامتان مستانفتان على قراءة ابن مسعود و ما في معناه و قيل اللام متعلقه ليدعوا من حيث انه بمعنى يزعم و الزعم قول مع اعتقاد او يقال يدعو داخلة على الجملة الواقعة مقولا اجراء له محرى القول و على هذين التقديرين اللام جواب قسم محذوف و من مع صلته مبتدأ خبره لبئس المولى و لبئس العشير و المعنى يقول الكافر ذلك يوم القيمة حين يرى استضرار به و قيل تقدير الكلام يدعوا لمن ضره اقرب من نفعه يدعوا فحذف يدعوا الأخير احتزاء بالأول و المفعول ليدعوا الاول محذوف و الموصول منصوب بيدعو الثاني و اللام في لمن ضره جواب قسم محذوف و قيل اللام بمعنى ان.

١٤

إِنَّ اللّه يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللّه يَفْعَلُ ما يُرِيدُ يعنى انه تعالى يريد اثابة المؤمن الصالح و عقاب المشرك و لا دافع لمراده و لا مانع لقضائه.

١٥

مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّه اى محمدا صلى اللّه عليه و سلم الظن بمعنى الوهم يقتضى مفعولا واحدا و هو ان مع جملتها و إن كان الظن بمعناه فالجملة قائمة مقام المفعولين فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ هذا كلام فيه اختصار تقديره ان اللّه ناصر رسوله في الدنيا و الاخرة فمن كان يظن خلاف ذلك و يتوقعه لاجل غيظه الرسول صلى اللّه عليه و سلم فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ اى بحبل إِلَى السَّماءِ اى سماء بيته يعنى ليشدد حبلا في سقف بيته ثُمَّ لْيَقْطَعْ اى ليختنق من قطع إذا اختنق فان المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه يعنى يستعض في ازالة غيظه و ليفعل كل ما يفعل الممتلى غيظا حتى يموت و هذا امر للتعجيز يقال للحاسد ان لم ترض بهذا فاختنق و مت غيظا و قال ابن زيد المراد بالسماء السماء الدنيا و المعنى من كان يظن ان لن ينصر اللّه نبيه و يكيده في امره ليقطعه من أصله حتى يبلغ عنان السماء فيجتهد في دفع نصر اللّه إياه او ليمدد بحبل الى السماء الدنيا و ليذهب السماء و ليقطع الوحى الّذي يأتيه من السماء

قال البغوي روى ان هذه الآية نزلت في اسد و غطفان دعاهم النبي صلى اللّه عليه الى الإسلام و كان بينهم و بين اليهود حلف فقالوا لا يمكننا ان نسلم لانا نخاف ان لا ينصر اللّه محمدا و لا يظهر امره فينقطع الحلف بيننا و بين اليهود فلا يميروننا و لا يؤووننا فنزلت هذه الآية

و قال مجاهد النصر بمعنى الرزق يقول العرب من نصرنى نصره اللّه يعنى من اعطا في أعطاه اللّه و قال ابو عبيدة يقول العرب ارض منصورة اى ممطورة مرزوقة بالمطر و الضمير المنصوب في ينصره راجع الى الموصول و الآية نزلت في من أساء الظن باللّه و خاف ان لا يرزقه و المعنى من كان ليظن ان لن يرزقه اللّه فليمدد بحبل الى سماء بيته ثم ليختنق و يمت غيظا على عدم ترزيقه او ليمدد حبلا الى السماء الدنيا ثم ليقطع به المسافة حتى يبلغ عنانا و ليأت من هناك رزقه قرا ورش و ابو عمرو ابن عامر ثم ليقطع بكسر لام الأمر و الباقون بجزمها فَلْيَنْظُرْ فليتصور في نفسه بعد ارادة مد السبب و قطع المسافة او الاختناق هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ يعنى هل يدفع فعله ذلك غيظه او الّذي يغيظه من نصر اللّه سماه كيدا لانه منتهى سعيه و الاستفهام للانكار و جملة من كان يظن الى آخرها تأكيد لقوله ان اللّه يفعل ما يريد يعنى كما ان غيظ الحاسد لا يدفع ما أراد اللّه تعالى من نصر رسوله و المؤمنين في الدنيا و الاخرة لا يدفع أحد شيئا مما أراد اللّه تعالى.

١٦

وَ كَذلِكَ اى انزالا مثل ذلك الانزال اى مثل انزالنا الآيات الدالة على إمكان البعث و التوحيد و صدق الرسول و الوعد بنصره أَنْزَلْناهُ اى القران كله حال كونه آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على صدق الرسول صلى اللّه عليه و سلم و ما جاء به فلا منافاة بين هذه الاية و بين قوله تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب و اخر متشابهات لاختفاء المراد منها مع ظهور اعجازها وَ أَنَّ اللّه يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ الجملة في محل الجر بلام التعليل معطوفة على محذوف متعلق بقوله أنزلناه يعنى أنزلناه لمصالح و لان يهدى به او يثبت على الهدى من يريد اللّه هدايته او ثباته على الهداية و جاز ان يكون في محل النصب عطفا على الضمير المنصوب في أنزلناه يعنى و أنزلنا ان اللّه يهدى من يريد.

١٧

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئِينَ وَ النَّصارى وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يعنى عبدة الأوثان إِنَّ اللّه يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بالحكومة بينهم و اظهار المحق منهم من المبطل او بالجزاء فيجازى كلّا ما يليق به و يدخل فريقا في الجنة و فريقا في السعير ادخلت كلمة ان على كل واحد من طرفى الجملة لمزيد التأكيد ثم أكده بقوله إِنَّ اللّه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ عالم به بمراقب لاحواله فلا يجوز ان يجعل المسلمين كالمجرمين و لا بمنزلة المحقق من المبطل مع كمال علمه بظواهر احوال كل و بواطنها ا لم تر يعنى الم تعلم.

١٨

أَنَّ اللّه يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ من الملئكة وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ من الانس و الجن يعنى المؤمنين منهم و كلمة من و ان كان يعم المؤمن و الكافر لكن خص منه الكافر بكلام مستقل و هو قوله تعالى و كثير حق عليهم العذاب فبقى المؤمنون مراد او انما فسرت هكذا لان كلمة من لذوى العقول و لما عطف عليه قوله وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ فان حقيقة العطف للمغائرة و حمل البيضاوي كلمة من على العموم و قال من يجوز ان تعم اولى العقل و غيرهم او على التغلب و قال اكثر المحققين ان من لا يعبر به عن غير الناطقين الا إذا جمع بينهم و بين غيرهم فعلى تقدير ارادة العموم قوله و الشمس إلخ من قبيل عطف الخاص على العام أفردها بالذكر لشهرتها و استبعاد ذلك منها و المراد بالسجود عند المحدثين و العلماء المتقدمين الطاعة الاختيارية فان الجمادات و ان كانت أمواتا عندنا لكن لها حيوة ما و هى مطيعة طاعة اختيارية للّه تعالى قال اللّه تعالى قالتا اتينا طائعين و قال في وصف الحجارة و ان منها لما يهبط من خشية اللّه و قال و ان من شي ء الا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان الجبل ينادى الجبل يا فلان هل مرّ بك أحد يذكر اللّه رواه الطبراني من حديث ابن مسعود

قال البغوي هذا مذهب حسن موافق لقول اهل السنة وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مبتدأ وَ كَثِيرٌ نكرير للاول تأكيدا و مبالغة في الكثرة و خبره حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ لعدم انخراطهم في الساجدين فهذا لجملة مخصصة بكلمة من مخرجة للكافرين من ان يرادوا بها و قيل كلمة من في قوله تعالى من في الأرض بمعنى ما للعموم و المراد بالسجود كون الممكنات كلها متسخرة لقدرته غير آبية عن تدبيره دالة بذواتها على عظمة تدبرها و قوله و كثير من الناس مبتدأ خبره محذوف دل عليه خبر قسيمه يعنى حق لهم الثواب او فاعل لفعل محذوف تقديره و يسجد له سجود طاعة اى بوضع الجبهة على الأرض كثير من الناس و على التقديرين قوله كثير من الناس جملة مستانفة و قوله كثير حق عليهم العذاب مستانفة اخرى و من قال بجواز عموم المشترك يعنى استعمال لفظ واحد مشترك في المعنيين في كل واحد من مفهوميه معا و اسناده باعتبار أحد المعنيين الى امر و باعتبار المعنى الآخر الى امر آخر قالوا قوله و كثير من الناس مفرد معطوف على ما سبق و المعنى يسجد له سجود التسخر جميع الكائنات و سجودا الطاعة كثير من الناس و كثير حق عليهم العذاب لاجل ابائهم عن سجود الطاعة جملة مستانفة و جاز ان يكون مفردا معطوفا على الساجدين بالمعنى الأعم موصوفا بقوله حق عليهم العذاب وَ مَنْ يُهِنِ اللّه مبتدأ فيه معنى الشرط و خبره المتضمن بمعنى الجزاء قوله فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ يعنى من يهينه اللّه بالشقاوة لا يكرمه أحد بالسعادة هذه الحملة معطوفة على الاسمية السابقة او حال إِنَّ اللّه يَفْعَلُ ما يَشاءُ من الإكرام و الاهانة و السعادة و الشقاوة مختصان بمشية اللّه تعالى.

١٩

هذانِ خَصْمانِ فوجان متخاصمان يعنى المؤمنون خصم و الكافرون من الأنواع الخمسة خصم و هو يطلق على الواحد و الجماعة اخْتَصَمُوا أورد صيغة الجمع حملا على المعنى فِي رَبِّهِمْ اى في دينه او في ذاته و صفاته و امره روى الشيخان في الصحيحين عن ابى ذر قال نزلت قوله تعالى هذان خصمان اختصموا في ربهم في حمزة و عبيدة و على بن ابى طالب رضى اللّه عنهم و عتبة و شيبة و الوليد بن عتبه

و اخرج البخاري و الحاكم عن على قال فينا نزلت هذه الآية و في مبارزتنا يوم بدر

و اخرج الحاكم عنه بوجه آخر قال نزلت في الذين بارزوا يوم بدر على و حمزة و عبيدة و شيبة بن ربيعة و عتبة بن ربيعة و الوليد بن عتبة و روى البغوي عن قيس بن عباد عن على بن ابى طالب قال انا أول من يحثوا بين يدى الرحمة للخصومة يوم القيمة قال قيس و فيهم نزلت هذه الاية و قال قيس هم الذين بارزوا يوم بدر حمزة و على و عبيدة و شيبه بن ربيعه و عتبه بن ربيعه و الوليد بن عتبه قال محمد بن إسحاق خرج يعنى يوم بدر عتبه بن ربيعه بين أخيه شيبه بن ربيعه و ابنه الوليد بن عتبة حتى إذا وصلوا الى الصف دعوا الى المبارزة فخرج إليهم فتية من الأنصار ثلثة عوف و معاذ و معوذ ابنا الحارث و أمهما عفراء و عبد اللّه بن رواحه فقالوا من أنتم فقالوا رهط من الأنصار حين انتسبوا اكفاء كرام ثم نادى مناديهم يا محمد اخرج إلينا اكفائنا من قومنا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قويا عبيدة بن الحارث يا حمزة بن عبد المطلب و يا على بن ابى طالب فلما دنوا قالوا من أنتم فذكروا قالوا نعم اكفاء كرام فبارز عبيدة و كان أسن القوم عتبة و بارز حمزة شيبة و بارز علىّ الوليد بن عتبة فاما حمزة فلم يمهل ان قتل شيبة و علىّ الوليد و اختلف عبيدة و عتبة بينهما ضربتان كلاهما اثبت صاحبه فكرّ حمزة و علىّ بأسيافهما على عتبة «١» فدفعا عليه و احتملا عبيدة الى أصحابه و قد قطعت رجله و مخها يسيل فلما أتوا بعبيدة الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال الست شهيدا قال بلى فقال عبيدة لو كان ابو طالب حيا لعلم انا أحق بما قال منه حيث يقول شعر كذبتم و بيت اللّه يبزى «٢» محمدا و لما نطاعن دونه و نناصل «٣» و نسلمه حتى نصرع حوله نذهل عن أبنائنا و الحلائل

و اخرج ابن جرير من طريق العوفى عن ابن عباس و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن ابى حاتم عن قتادة ان الآية نزلت في المسلمين و اهل الكتاب فقال اهل الكتاب نحن اولى باللّه منكم و اقدم منكم كتابا و نبينا قبل نبيكم و قال المؤمنون نحن أحق باللّه آمنا بنبينا محمد صلى اللّه عليه و سلم و نبيكم و بما انزل اللّه من كتاب و أنتم تعرفون نبينا و كتابنا و كفرتم به حسدا فهذا خصومتهم في ربهم

و قال مجاهد و عطاء بن رباح الكلبي هم المؤمنون و الكافرون من اىّ ملة كانوا و قال بعضهم جعل الأديان ستة في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا الآية

(١) دفغا عليه اى اسرعا قتله ١٢.

(٢) على صيغة المجهول أراد لا يبزى حذف لا في جواب القسم و هى مراده اى لا يقهر و لا يغلب و البز بالزاء المعجمة الغلبة و القهر ١٢.

(٣) التناصل الترامي بالسهام ١٢. [.....].

فجعل خمسة للنار و واحد للجنة فقوله هذان خصمان ينصرف إليهم فالمومنون خصم و سائر الخمسة خصم لان الكفر ملة واحدة و مبنى هذين القولين عموم اللفظ و سياق القصة و لا شك ان العبرة لعموم اللفظ دون خصوص السبب و قال عكرمه هما الجنة و النار اختصما روى الشيخان في الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تحاجت الجنة و النار فقالت النار او ثرت بالمتكبرين و المتبخترين و قالت الجنة فما لى لا يدخلنى الا ضعفاء الناس و سقطهم و عرّتهم «١» قال اللّه تعالى للجنة انما أنت رحمتى ارحم بك من أشاء من عبادى و قال للنار انما أنت عذابى أعذب بك من أشاء و لكل واحد منكما ملؤها فاما النار فلا تمتلى حتى يضع اللّه رجله تقول قط قط قط فهنالك تمتلى و يزوى «٢» بعضها الى بعض فلا يظلم اللّه من خلقه أحدا و اما الجنة فان اللّه تعالى ينشأ لها خلقا فَالَّذِينَ كَفَرُوا فصل لخصومتهم و هو المعنى لقوله تعالى ان اللّه يفصل بينهم يوم القيمة قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ اى قدرت لهم على مقادير حيثيتهم قال سعيد بن جبير ثياب من نحاس مذاب و ليس من الآنية شي ء إذا حمى أشد حرا منه و تسمى باسم الثياب لانها تحيط بأبدانهم كاحاطة الثياب و قال بعضهم يلبس اهل النار مقطعات من النار روى احمد بسند حسن عن جويرية قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من لبس الحرير في الدنيا البسه اللّه يوم القيمة ثوبا من نار

و اخرج و البزار و ابن ابى حاتم و البيهقي بسند صحيح عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه و يسجها من بعده و ذريته من بعده و هو ينادى يا ثبوراه و هم ينادون يا ثبورهم حتى يقفوا على النار فيقال لهم لا تدعوا ثبورا واحدا و ادعوا ثبورا كثيرا

و اخرج ابو نعيم عن وهب بن منبه قال كسى اهل النار و العرى كان خيرا لهم و اعطوا الحيوة و الموت كان خيرا لهم

و اخرج عن ابى مالك الأشعري ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال النائحة إذا لم تيت قبل موتها تقام يوم القيمة و عليها سربال من قطران و درع من جرب رواه ابن ماجه بلفظ ان النائحة إذا ماتت و لم تتب قطع لها ثيابا من قطران و درعا من لهب النار يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ حال من الضمير في لهم او خبر ثان و الحميم الماء الحار الّذي انتهى حرارته.

(١) عرّة جمع عرير و هو الفقير تتعرض للسوال من غير طلب و منه المعتر ١٢.

(٢) اى تجتمع و تنصرف ١٢.

٢٠

يُصْهَرُ بِهِ اى يذاب بذلك الحميم المنصب من فوقهم رؤسهم ما فِي بُطُونِهِمْ من الشحوم و الاحشاء وَ الْجُلُودُ و يصهربه الجلود يعنى يؤثّر حرارته في بواطنهم كما يوثر في ظواهرهم و الجملة حال من الحميم او من ضميرهم اخرج الترمذي و حسنه عن ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ان الحميم ليصب على روسهم فينفذ الحميم حتى تخلص الى جوفه فيسيل ما في جوفه ثم يهراق من بين قدميه و هو الصهر ثم يعادكما كان.

٢١

وَ لَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ جمع مقمعة و حقيقتها ما يقمع به اى يكف بعنف قال الليث المقمعة شبه الجرز و هو بالفارسية گرز بالكاف الفارسي

قال البغوي هو من قولهم قمعت راسه إذا ضربته ضربا عنيفا و الجملة حال من الضمير المجرور في بطونهم اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس في هذه الآية انه قال يضربون بها اى بالمقامع فيقع كل عضو على حياله فيدعون بالثبور

و اخرج احمد و ابو يعلى و ابن ابى حاتم و الحاكم و صححه و البيهقي عن ابى سعيد الخدري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انه قال لو ان مقمعا من حديد وضع على الأرض فاجتمع الثقلان ما اقلوه من الأرض و لو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتعثت ثم عادكما كان.

٢٢

كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها اى من النار من غم و كرب يلحقهم بانفاسهم بسبب النار بدل اشتمال من الضمير المجرور باعادة الجار أُعِيدُوا فِيها تقديره كلما أرادوا ان يخرجوا منها فخرجوا منها عيدوا فيها لان الاعادة لا يكون الا بعد الخروج و الجملة الشرطية اعنى كلما أرادوا الى آخرها صفة لمقامع و الرابط محذوف اى أعيدوا بها فيها

و اخرج ابن ابى حاتم عن الفضيل بن عياض في الآية انه قال و اللّه ما طمعوا في الخروج لان الأرجل مقيدة موبقة و لكن يرفعهم لهها و تردهم مقامعها قلت لعل المراد بقوله أرادوا ان يخرجوا منها انهم يزعمون حين يرفعهم لهبها ان يقعوا خارج النار و لا يكون كذلك بل يردهم مقامعها

و اخرج البيهقي عن ابى صالح قال إذا القى الرجل في النار لم يكن له منتهى حتى يبلغ قعرها ثم تحيش به جهنم فترفعه الى أعلى جهلم و ما على عظامه مضغة لحم فتضرب الملئكة بالمقامع فيهوى بهم الى قعرها فلا يزال كذلك و ذكر البغوي ان في التفسير ان جهنم لتحيش بهم فتلقيهم الى أعلاها فيريدون الخروج منها فيضربهم الزبانية بمقامع الحديد منهون و فيها سبعون خريفا وَ ذُوقُوا هذه الجملة معطوفة على أعيدوا بتقدير و قبل لهم ذوقوا عَذابَ الْحَرِيقِ اى النار المحرقة البالغة في الإحراق فعيل بمعنى الفاعل كالاليم بمعنى المولم و الوجيع بمعنى الوجع قال الزجاج هؤلاء يعنى الذين مر ذكرهم في تلك الآيات أحد الخصمين و قال في الآخر.

٢٣

إِنَّ اللّه يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ غير الأسلوب فيه و أسند الإدخال الى اللّه تعالى و أكده بان احماد الحال المؤمنين و تعظيما لشانهم يُحَلَّوْنَ من حليت المرأة إذا ألبست الحلي حال من الموصول فِيها اى في الجنة مِنْ أَساوِرَ جمع اسورة و هو جمع سوار صفة لمفعول محذوف يعنى يحلون حليا كائنا من أساور مِنْ ذَهَبٍ بيان له وَ لُؤْلُؤاً معطوف على أساور على قرأة نافع و عاصم بالنصب هاهنا و في سورة فاطر حملا على محل أساور او بإضمار الناصب يعنى و يؤتون لؤلؤا و الباقون بالجر حملا على لفظة أساور او عطفا على ذهب قال القرطبي قال المفسرون ليس أحد من اهل الجنة الا و في يده ثلث اسورة سوار من ذهب و سوار من فضة و سوار من لؤلؤ قلت و الالف المكتوب في الرسم بعد الواو يؤيد النصب و قال ابو عمرو اثبتوا الالف كما اثبتوا في قالوا و كانوا و قال الكسائي الف صورة الهمزة و ترك أبو بكر و ابو عمرو إذا خفف الهمزة الاولى من لؤلؤ و اللؤلؤ في جميع القرآن و حمزة إذا وقف سهل الهمزتين على أصله و هشام يسهل الثانية في غير النصب على أصله و الباقون يحققونهما اخرج الترمذي و الحاكم و صححه و البيهقي عن ابى سعيد الخدري ان النبي صلى اللّه عليه و سلم تلا قوله تعالى جنت عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب و لؤلؤا و لباسهم فيها حرير فقال عليهم التيجان ان ادنى لؤلؤ منها ليضى ء ما بين المشرق و المغرب

و اخرج الطبراني الأوسط و البيهقي بسند حسن عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو ان ادنى اهل الجنة حليه عدلت حليته بحلية اهل الدنيا جميعا لكان ما يحليه اللّه تعالى به في الآخرة أفضل من حلية اهل الدنيا جميعا

و اخرج ابو شيخ في العظمة عن كعب الأحبار قال ان اللّه تعالى ملكا يصوغ حلى اهل الجنة من يوم حلقه الى ان تقوم الساعة و لو ان حليا اخرج من حلى اهل الجنة لذهب بضوء الشمس

و اخرج الشيخان في الصحيحين عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الضوء

و اخرج في الزهد من طريق عمران بن خالد عمن أدرك اصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم انهم قالوا من ترك لبس الذهب و هو يقدر عليه البسه اللّه إياه في حظيره القدس و من ترك الخمر و هو يقدر عليه سقاه اللّه إياه من حظير القدس

و اخرج النسائي و الحاكم عن عقبة بن عامر رضى اللّه عنه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان يمنع اهل الحلية و الحرير و يقول ان كنتم تحبون حلية الجنة و حريرها فلا تلبسوها في الدنيا و عن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ حال من فاعل يحلون او عطف عليه و غيّر اسلوب الكلام للدلالة على ان الحرير لباسهم المعتاد او للمحافظة على رؤس الآي اخرج البزار و ابو يعلى و الطبراني من حديث جابر بسند صحيح عن ابى الخير مرثد بن عبد اللّه قال في الجنة شجرة تنبت السندس يكون ثياب اهل الجنة و روى النسائي و الطيالسي و البزار و البيهقي بسند جيد عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تنشق عنها يعنى ثياب اهل الجنة ثمر الجنة مرتين

و اخرج ابن المبارك عن ابى هريرة قال ان دار المؤمن درة مجوفة فيها أربعين بيتا في وسطها شجرة تنبت الجلل فيذهب فياخذ بإصبعه سبعين حلة منظم باللؤلؤ و الزبرجد و المرجان- فصل

و اخرج الشيخان عن حذيفة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول لا تلبسوا الحرير و لا الديباج و لا تشربوا في آنية الذهب و الفضة و لا تأكلوا في صحافها فانها لهم في الدنيا و لكم في الآخرة

و اخرج الشيخان عن عمر رضى اللّه عنه قال قال النبي صلى اللّه عليه و سلم من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة

و اخرج مثله من حديث انس و الزبير

و اخرج النسائي و الحاكم عن ابى هريرة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة و من شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة و من شرب في آنية الذهب و الفضة لم يشرب بها في الآخرة

و اخرج الطيالسي بسند صحيح و النسائي و ابن حبان و الحاكم عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة و ان دخل الجنة لم يلبسه

و اخرج ابن ابى حاتم و ابن ابى الدنيا عن ابى امامة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ما منكم من أحد الا انطلق به الى طوبى فيفتح له أكمامها فياخذ من اى ذلك شاء ان شاء ابيض و ان شاء احمر و ان شاء اخضر و ان شاء اصفر و ان شاء اسود مثل شقاق النعمان و ارق و احسن

و اخرج ايضا عن كعب قال لو ان ثوبا من ثياب الجنة لبس في الدنيا لصعق من ينظر اليه و ما حملته أبصارهم

و اخرج الصابوني في المائتن عن عكرمة قال ان الرجل من اهل الجنة ليلبس الحلة فتكون من ساعته سبعون لونا

و اخرج مسلم عن ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال من يدخل الجنة فنعم فيها لا يباس و لابتلى ثيابه و لا يفنى شبابه.

٢٤

وَ هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ حال بتقدير قد من الموصول المفعول ليدخل يعنى و الحال انهم قد هدوا في الدنيا الى الطيب من القول يعنى شهادة ان لا اله الا اللّه و اللّه اكبر و الحمد للّه كذا قال ابن عباس و قال السدى يعنى هدوا الى القرآن و قيل الماضي هاهنا بمعنى المستقبل يعنى و يهدون في الجنة الى الطيب من القول و هو قولهم الحمد للّه الّذي صدقنا وعده وَ هُدُوا اى قد هدوا في الدنيا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ اى الى دين اللّه و هو الإسلام و الحميد هو اللّه المستحق للحمد لذاته او المعنى و يهدون الى صراط الجنة الّتي هى الحميد.

٢٥

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّه اى يمنعون الناس من ان يدخلوا في دين الإسلام لا يريد بالمضارع حالا و لا استقبالا و انما يريد استمرار الصدّ كقولهم فلان يعطى و يمنع و لذلك حسن عطفه على الماضي و قيل هو حال من فاعل كفروا و خبر ان محذوف دل عليه اخر الآية ان نذقه من عذاب اليم وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ عطف على سبيل اللّه او على اسم اللّه و المراد بالمسجد الحرام المسجد خاصة عند الشافعي و عند ابى حنيفة رحمه اللّه الحرم كله كما في قوله تعالى سبحان الّذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام على ما قيل ان الاسراء من بيت أم هانى اطلق المسجد على الحرم كله لان الغرض الأصلي من عمران مكة اقام الصلاة قال اللّه تعالى حكاية لقول ابراهيم عليه السلام رب انى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى ذرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة و قد فسر الشافعي رحمه اللّه المسجد الحرام في قوله تعالى انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا بالحرم حيث قال يمنع الكفار مطلقا عن دخول الحرم بهذه الآية و قد ذكرنا الكلام عليه في سورة التوبة و يؤيد ارادة الحرم قوله تعالى الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ قرأ ابن كثير بإثبات الياء في الحالين و ورش و أبو بكر في الوصل فقط

و قرا حفص سواء بالنصب على انه مفعول ثان لجعلنا و للناس ظرف لغو او حال من الضمير المستكن في للناس و للناس مفعول ثان و العاكف مرفوع به

و قرا الباقون سواء بالرفع على ان العاكف مبتدأ و سواء خبره مقدم عليه او سواء مبتدأ من قبيل الصفة و العاكف فاعل له و الجملة مفعول ثان لجعلناه و للناس حال من الهاء او ظرف لغو و جاز ان يكون للناس مفعولا ثانيا و الجملة بيان لما سبق يعنى جعلناه للناس بحيث مستوفيه المقيم و البادي اى المسافر المنسوب الى البدو و قال في القاموس البدو و البادية و البداوة و البداة خلاف الحضر يعنى ليس أحدا حق بالمنزل فيه من غيره فمن سبق الى مكان منه لا يجوز لغيره ان يزعجه كذا قال ابن عباس و سعيد بن جبير و قتادة و ابن زيد قالوهما سواء في البيوت و المنازل و قال عبد الرحمن بن سابط كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من اهل مكة بأحق بمنزله منهم و كان عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه ينهى الناس ان يغلقوا أبوابهم في الموسم كذا

قال البغوي قلت روى اثر عمر عبد الرحمن بن عبد بن حميد عن نافع عن ابن عمر عنه و عن عمر بن الخطاب ان رجلا قال له عند المروة يا امير المؤمنين اقطع مكانا لى فاعقب «١» و اعرض عنه و قال هو حرم اللّه سواء العاكف فيه و الباد (ازالة الخفا) و قال عبد الرزاق عن معمر عن منصور عن مجاهد ان عمر قال يا اهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث شاء و قال عبد الرزاق عن ابن جريح كان عطا ينهى عن الكراء في الحرم و أخبرني ان عمر نهى ان يبوب دور مكة

(١) هكذا في الأصل و لعله تصحيف و الصواب فاعقب و اعرض- ١٢ مصحح سيّد حسن عفى عنه.

لان الحاج في عرصاتها فكان أول من بوب داره سهيل بن عمرو و اعتذر لذلك لعمر

فان قيل صح عن عمر انه اشترى دارا بمكة للسجن باربعة آلاف درهم رواه البيهقي و كذا روى البيهقي عن ابن الزبير انه اشترى حجرة سورة و عن حكيم بن خرام انه باع دار الندوة و عن عمر انه اشترى الدور من أهلها حتى وسع المسجد و كذلك عن عثمان قال و كان الصحابة في رباط متوافرين و لم ينقل انكار ذلك قلت يحمل تلك الآثار على بيع بنائها فان البناء ملك للبانى لا محالة و انما المنهي بيع الأرض و من هاهنا قال ابو حنيفة و احمد في أصح الروايتين عنه لا يجوز بيع رباع مكة و لا اجارة دورها فان ارض الحرم عتيق غير مملوك لاحد قال اللّه تعالى ثم محلها الى البيت العتيق و لا شك ان المراد بالبيت العتيق ارض الحرم كله لاختصاص ارض الحرم بذبح الهدايا و القول بان المعنى ثم محلها الى مكان يقرب منه البيت العتيق تكلف و تقديره بلا ضرورة و كذا قال مالك لكن مبنى قوله ان مكة فتحت عنوة و كل بلدة فتحت عنوة فهى وقف لا يجوز بيع اراضيها و قال الشافعي بيع دود مكة و إجارتها جائزة و هى مملوكة لاهلها و به قال الحسن و طاؤس و عمرو بن دينار و جماعة و المراد بالمسجد الحرام في الآية نفسه و معنى الآية جعلناه للناس قبلة لصلواتهم و منسكا متعبدا بحيث مستوفيه العاكف و البادي في تعظيم الكعبة و فضل الصلاة في المسجد الحرام و الطواف بالبيت

قلنا سياق الآية يقتضى اختصاص تسوية العاكف و البادي بالمسجد الحرام مع ان المساجد كلها بهذه المثابة العاكف و البادي في جميع المساجد سواء يجب على كل أحد تعظيم كل مسجد و كل مسجد يستوى فيه ثواب الصلاة و الطاعة لجميع الناس لا يختلف باختلاف الحضر و السفر

قال البغوي قال مجاهد و جماعة مثل ما قال الشافعي قلت بل المروي عن مجاهد مثل قول ابى حنيفة رح روى الطحاوي من طريق ابراهيم بن مهاجر عن مجاهد انه قال مكة مباح لا يحل بيع رباعها و لا اجارة بيوتها و

روى عبد الرزاق من طريق ابراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عمر لا يحل بيع بيوت مكة و لا إجارتها و من الحجة لقولنا هذا ما رواه محمد في كتاب الآثار أخبرنا ابو حنيفة عن عبد اللّه بن ابى زياد عن ابى نجيح عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ان اللّه حرم مكة فحرام بيع رباعها و أكل ثمنها و كذا روى ابن الجوزي في التحقيق بسنده عن ابى حنيفة بذلك السند مرفوعا بلفظ مكة حرام و حرام رباعها حرام أحر بيوتها

فان قيل قال الدار قطنى و هم فيه ابو حنيفة رح و الصحيح انه موقوف دعوى الوهم على ابى حنيفة رح شهادة على النفي فلا يقبل و هو ثقة و الرفع من الثقة مقبولة و روى محمد بذلك السند مرفوعا من أكل من أجور بيوت مكة شيئا فانما يأكل نارا و رواه الدار قطنى بسنده عن اسمعيل بن ابراهيم بن مهاجر عن أبيه عن عبد اللّه بن باباه عن عبد بن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مكة مباح لا يباع رباعها و لا يوجر بيوتها قلت اسمعيل بن ابراهيم ضعفه يحيى و النسائي و أبوه ابراهيم بن مهاجر ب ن جابر البجلي ضعفه البخاري و قال ابو حاتم منكر الحديث و قال ابن المديني و النسائي ليس بالقوى لكن قال سفيان و احمد و يحيى بن معين و ابن مهدى لا بأس به و قال أبو بكر البيهقي الصحيح ان هذا الحديث موقوف و روى ابن الجوزي بسنده عن سعيد بن منصور قال حدثنا ابو معاوية عن الأعمش عن مجاهد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان مكة حرام حرمها اللّه عزّ و جلّ لا يحل بيع رباعها و لا اجر بيوتها و هذا مرسل و المرسل عندنا حجة احتج الخصم بقوله تعالى الذين اخرجوا من ديارهم و قوله صلى اللّه عليه و سلم من دخل دار ابى سفيان فهو آمن قاله يوم فتح مكة وجه الاحتجاج ان الاضافة تدل على الملك قالوا و لو كانت الدور غير مملوكة لهم لما كانوا مظلومين في الإخراج عنها و الجواب ان الاضافة للسكنى او للبناء يقال مسجد النبي صلى اللّه عليه و سلم و مسجد بنى فلان و كون الإخراج ظلما لا يدل على انهم اخرجوا عن ديار مملوكة لهم لتحقق الظلم بإخراجهم عن المسجد الحرام الّذي جعل اللّه للناس كلهم فيه سواء و من اظلم ممن منع مساجد اللّه ان يذكر فيها اسمه و سعى في خرابها و أقوى حججهم في الباب حديث اسامة بن زيد قال قلت يا رسول اللّه اين تنزل غذا في حجته فقال هل ترك عقيل منزلا قال نحن نازلون غدا إنشاء اللّه نجيف بنى كنانه ثم قال لا يرث الكافر المسلم و لا المسلم الكافر متفق عليه و روى ابن الجوزي هذا الحديث قال اسامة يا رسول اللّه أ تنزل دارك بمكة قال و هل ترك عقيل من رباع او دور قال الزهري و كان عقيل ورث أبا طالب هو و طالب و لم يرثه جعفر و لا علىّ شيئا كانا مسلمين و كان عقيل و طالب كافرين يعنى حتى مات ابو طالب قال الحافظ و في رواية محمد بن ابى حفصه قال في آخره و يقال ان الدار الّتي أشار إليها النبي صلى اللّه عليه و سلم كانت دار هاشم بن عبد مناف ثم صارت لعبد المطلب ابنه فقسمها بين ولده حين عمّر ثم صار للنبى صلى اللّه عليه و سلم حق أبيه عبد اللّه و فيها ولد النبي صلى اللّه عليه و سلم و ان النبي صلى اللّه عليه و سلم لما هاجر استولى عقيل و طالب على الدار كلها باعتبار ما ورثاه من أبيهما لكونهما كانا لم يسلما و باعتبار ترك النبي صلى اللّه عليه و سلم حقه منها بالهجرة و قتل طالب ببدر فباع عقيل الدار كلها و روى الفاكهاني ان عقيلا لم يبع الدار و قال ان الدار لم يزل بيد أولاد عقيل الى ان باعوا لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بمأته الف دينار و الجواب ان بيع عقيل الدار كافر الا يكون حجة على جواز البيع و تاويل الحديث عندى ان الدار لعلها كانت مشغولة بحوائج عقيل ان لم يبع و بحوائج المشترى ان باع فالنبى صلى اللّه عليه و سلم لم يجدها خالية يسكن فيها و لذا قال و هل ترك لنا عقيل منزلا اى منزلا خاليا فحينئذ قول الراوي كان عقيل ورث أبا طالب و شبهه مبنى على زعمه و قوله صلى اللّه عليه و سلم لا يرث الكافر المؤمن و لا المؤمن الكافر لعله واقعة حال آخر فضم الراوي الحديثين زعما منه ان قوله صلى اللّه عليه و سلم لا يرث الكافر المؤمن و لا المؤمن الكافر هو الباعث على قوله صلى اللّه عليه و سلم و هل ترك لنا عقيل منزلا فحينئذ قوله صلى اللّه عليه و سلم لا يرث الكافر المؤمن و لا المؤمن الكافر كلام مستانف فلا حجة في الحديث على كون رباع مكة مملوكة و لو سلمنا ان الحديث تدل على كون رباع مكة جائز البيع فنقول ان ما ذكرنا من الأحاديث الّتي تدل على حرمة بيعها نص في الحرمة يدل بالعبارة و هذا الحديث يدل على اباحة البيع بالاشارة فدلالة ما روينا اولى أقوى ثم لو سلمنا التعارض فعند التعارض يجب تقديم المحرم على المبيح و لذلك قال ابو حنيفة بالكراهة تحريما على أصله و لو كان حصة عبد اللّه للنبى صلى اللّه عليه و سلم فلا يتصور ان يصل تلك الحصة الى عقيل الا بالاستيلاء كما هو مذهب ابى حنيفة ان الكافر يملك مال المسلم بالاستيلاء و لم يقل به الشافعي و لو ملك بالاستيلاء فلا معنى لقول رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في هذا الحديث لا يرث الكافر المؤمن و لا المؤمن الكافر و لو كانت كلها لابى طالب فلا يتصور كونها للنبى صلى اللّه عليه و سلم و لو فرضنا كون ابى طالب مسلما لانه صلى اللّه عليه و سلم لم يكن من ورثة ابى طالب فعلى كل من التقادير يجب صرف قوله صلى اللّه عليه و سلم هل ترك لنا عقيل منزلا عن ظاهره فما ذكرت من التأويل اولى و كيف لا يكون التأويل ما ذكرت فانا لو سلمنا ان عليا و جعفر الم يرثا أبا طالب و انما ورثه عقيل فالنبى صلى اللّه عليه و سلم كان له ان ينزل في على و جعفر عارية كما كان له ان ينزل في ملك عقيل عارية وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ اى في المسجد الحرام سواء كان المراد منه المسجد او الحرم كله على القولين بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ و قيل الحاد في محل النصب على المفعولية و الباء زائدة كما قوله تعالى تنبت بالدهن و قول الأعمش ضمنت برزق عيالنا ارماحنا و بظلم ظرف لغو متعلق بيرد او ظرف مستقر صفة لالحاد او حال من فاعل يرد و قيل مفعول يرد محذوف يتناول كل متناول تقديره من يرد قولا او فعلا فعلى هذا قوله بإلحاد بظلم حالان مترادفان او الثاني بدل من الاول باعادة الجار او صلة له اى يلحد بسبب الظلم اى بان ارتكب منهيا و لو شتم الخادم نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ جواب لمن روى البخاري في الصحيح عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ابغض الناس الى اللّه ثلثة ملحد في الحرم و مبتغ في الإسلام سنة الجاهلية و مطلب دم امرأ بغير حق ليهريق دمه و روى الترمذي و الحاكم و صححه و البيهقي في المدخل و رزين في كتابه عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ستة لعنتهم لعنهم اللّه و كل نبى مجاب الزائد في كتاب و المكذب بقدر اللّه و المتسلط بالجبروت فيعز بذلك من أذل اللّه و يذل بذلك من أعز اللّه و المستحل لحرم اللّه و المستحل من عترتى ما حرم اللّه و التارك لسنتى و روى الحاكم عن على مرفوعا نحوه و هذان الحديثان يشعر ان بان المراد بالمسجد الحرام الحرم فان استحلال الحرم و الإلحاد فيه حرام مسجدا كان او غيره و الإلحاد في اللغة الميل و العدول عن قصد السبيل و المراد هاهنا على قول مجاهد و قتادة هو الشرك و عبادة غير اللّه و قال قوم هو كل شي ء كان منهيا عنه من قول او فعل حتى شتم الخادم و قال عطاء هو دخول الحرم غير محرم او ارتكاب شي ء من محظورات الحرم من قتل صيد او قطع شجر و قال ابن عباس هو ان تقتل فيه من لا يقتلك او تظلم فيه من لا يظلمك و هذا معنى قول الضحاك و عن مجاهد تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات و قال حبيب بن ابى ثابت احتكار الطعام بمكة و قال عبد اللّه بن مسعود في قوله من يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب اليم قالوا ان رجلا همّ بخطيئة لم يكتب عليه ما لم يعملها و لو ان رجلاهمّ بقتل رجل بمكة و هو بعدن او ببلد اخر اذاقه اللّه من عذاب اليم قال السدى الا ان يتوب و روى عن عبد اللّه بن عمر و انه كان له فسطاطان أحدهما في الحل و الآخر في الحرم فاذا أراد ان يعاتب اهله عاتبهم في الآخر فسئل عن ذلك فقال كنا نحدث ان من الإلحاد فيه ان يقول الرجل كلا و اللّه و بلى و اللّه.

٢٦

وَ اذكر إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ اى عينا و جعلنا له مَكانَ الْبَيْتِ مبوأ اى منزلا كذا قال الزجاج و قيل اللام زائدة و مكان ظرف و المعنى و إذ أنزلناه فيه قال في القاموس بواه منزلا و فيه أنزله و المبأة المنزل و انما ذكر مكان البيت لان الكعبة رفعت الى السماء من الطوفان ثم لما امر اللّه تعالى ابراهيم عليه السلام ببناء البيت لم يدر اين يبنى فبعث اللّه ريحه خجوجا «١» فنكست له ما حول البيت عن الأساس كذا

قال البغوي

و اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم و البيهقي في الدلائل عن السدى بعث اللّه ريحا يقال لها ريح الخجوج لها جناحان و رأس في صورة حية فنكست لها ما حول الكعبة عن أساس البيت الاول و

قال البغوي قال الكلبي بعث اللّه سبحانه بقدر البيت فقامت بحيال البيت و فيها راس يتكلم يا ابراهيم ابن على قدرى فبنى عليه أَنْ لا تُشْرِكْ ان مصدرية متعلق بفعل محذوف اى عهدنا الى ابراهيم ان لا تشرك او المعنى فعلنا ذلك لان لا تشرك او مفسرة لبوأنا لاجل تضمنه معنى تعبد إذ التبوية لاجل التعبد و التعبد تشتمل الأمر و النهى فهو بمعنى القول بِي اى بعبادتي شَيْئاً وَ طَهِّرْ من الأوثان و الاقذار بَيْتِيَ قرأ نافع و حفص و هشام بفتح الياء و الباقون بإسكانها أضاف البيت الى نفسه تشريفا و لكونه مهبطا لتجليات مخصوصة به قال المجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه ان الكعبة بيت اللّه مع كونها متجسدا مرئيا لها شبه بما لا كيف له لان جدرانها و تراب ارضه الى الثرى ليست قبلة الا ترى انه لوازيل عن ذلك المكان جدرانها و ترابها و نقلت الى مكان آخر فالقبلة ذلك المكان لا المكان الّذي نقلت اليه جدرانها و ترابها و لو بنى ذلك المكان بجدر ان اخر و نقل الى ذلك و نقل الى ذلك المكان تراب آخر فهو كذلك قبلة فعلم ان القبلة امر لا كيف لها و ينهبط هناك تجليات غير متكيفة يدركها من يدركها لِلطَّائِفِينَ اى الذين يطوفون حوله وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ جمع راكع و ساجد ذكرهما بغير العاطف فان المراد به المصلين و لان الركوع بلا سجود لم يعرف في الشرع عبادة و عبر عن الصلاة بأركانها للدلالة على ان كل واحد منها مستقل باقتضاء الطهارة و قالت الروافض ان الطهارة في الصلاة انما يشترط في السجود لموضع الجبهة لا غير.

(١) خجوجا اى شديدة الروح و غير استواء ١٢.

٢٧

وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ اى أعلمهم و ناد فيهم بِالْحَجِّ الظاهر انه عطف على طهر ذكر البغوي

و اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس نحوه ان ابراهيم عليه السلام حين امر به قال و ما يبلغ صوتى قال اللّه تعالى عليك الاذان و علينا الإبلاغ فقام ابراهيم على المقام فارتفع المقام حتى صاركا طول الجبال فادخل إصبعيه في اذنيه و اقبل بوجهه يمينا و شمالا و شرقا و قال يا ايها الناس ان ربكم قد بنى بيتا كتب عليكم الحج الى البيت فاجيبوا ربكم فاجابه كل من يحج من اصل الإماء و أرحام الأمهات لبيك اللّهم لبيك قال ابن عباس فاول من اجابه اهل اليمن فهم اكثر الناس حجا و روى ان ابراهيم صعد أبا قبيس و نادى و قال ابن عباس عنى بالناس في هذه الآية اهل القبلة

قال البغوي و زعم الحسن ان قوله تعالى و اذن في الناس بالحج كلام مستانف و المخاطب النبي صلى اللّه عليه و سلم امر ان يفعل ذلك في حجة الوداع عن ابى هريرة قال خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يا ايها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا رواه مسلم و روى احمد و النسائي و الدارمي عن ابن عباس نحوه يَأْتُوكَ يعنى يأتون حاجين لندائك بالحج- مجزوم في جواب الأمر و المعنى ان توذن يأتوك رِجالًا اى مشاة على أرجلهم جمع راجل كقائم و قيام و نائم و نيام و هذا اخبار عن الواقع و ليس فيه إيجاب الحج على من لم يجد الراحلة فليس فيه حجة لداؤد و لا لممالك و قد ذكرنا خلافهما في اشتراط الزاد و الراحلة في مسئلة كون الحج فريضة و ما يشترط للفرضية في سورة آل عمران في تفسير قوله تعالى و للّه على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا مسئلة الأفضل عند ابى حنيفة رحمه اللّه لمن يقدر على المشي ان بحج ماشيا لان اللّه سبحانه قدم ذكر الإتيان راجلا على الإتيان راكبا و لان المشقة في المشي أشد و الخضوع و التواضع فيه اكثر لانه صلى اللّه عليه و سلم أوجب على من نذر الحج ماشيا و الهدى بفواته فعلم ان المشي في الحج طاعة و أدناها الندب و قال بعض العلماء الحج راكبا أفضل لان بالمشي في الحج يختل كثير من العبادات و لا رهبانية في الدين وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ اى و ركبانا على كل ضامر اى بعير مهزول أتعبه بعد السفر فصار مهزولا اخرج ابن جرير عن مجاهد قال كانوا لا يركبون فانزل اللّه تعالى يأتوك رجالا و على كل ضامر فامرهم بالزاد و رخص لهم في الركوب و المتجر يَأْتِينَ صفة لضامر محمولة على معناه حيث أضيف اليه لفظ كل او صفة لكل و التأنيث حينئذ ايضا بالنظر الى المعنى يغنى يأتوك على كل ضامر يأتين الى مكة مركوبا لان يحج مِنْ كُلِّ فَجٍّ اى طريق عَمِيقٍ اى بعيد.

٢٨

لِيَشْهَدُوا متعلق بأذّن او بيأتوك اى ليحضروا مَنافِعَ لَهُمْ دينية او دنيوية و تنكيرها لان المراد بها نوع من المنافع مخصوص بهذه العبادة قال محمد بن على بن الحسين بن على الباقر عليهم السّلام و سعيد بن المسيب المراد بها العفو و المغفرة و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من حج للّه فلم يرفث و لم يفسق رجع كيوم ولدته امه متفق عليه و قال سعيد بن جبير المراد بها التجارة و هى رواية عن زيد عن ابن عباس حيث قال الأسواق

و قال مجاهد التجارة و ما يرضى اللّه به من امر الدنيا و الآخرة وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللّه كنى بالذكر عن الذبح و النحر لاشتراطه في حل الذبائح و تنبيها على انه المقصود مما يتقرب به الى اللّه فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ يعنى عشر ذى الحجة و هو قول اكثر المفسرين قيل لها معلومات للحرص على علمها بحسابها من أجل كون وقت الحج في آخرها و روى عن على رضى اللّه عنه انها يوم النحر و ثلثة ايام بعده و في رواية عطاء عن ابن عباس انها يوم عرفة و النحر و ايام التشريق و قال مقاتل المعلومات التشريق عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ يعنى الهدايا و الضحايا واجبة كانت او مستحبة لاطلاق النص علق الفعل بالمرزوق بينه بالبهيمة تحريضا على التقرب و تنبيها على مقتضى الذكر احتج الشافعي بهذه الآية على انه لا يجوز ذبح شي ء من الهدايا غير دم الإحصار الا يوم النحر و ثلثة ايام بعده

قلنا هذا القيد خرجت مخرج العادة و نحن لا نقول بالمفهوم و في تفسير الآية اختلاف كما ذكرنا و الحجة لنا على عدم اشتراط يوم النحر و ايام التشريق في هدى التطوع و النذر و الكفارة ما صح انه صلى اللّه عليه و سلم ساق عام الحديبية سبعين بدنة يريد العمرة و كان ذلك في ذى القعدة و لم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يريد المقام بمكة الى يوم النحر و هذا صريح في جواز نحر هدى التطوع في ذى القعدة و إذا ثبت كون النحر فيما عدا يوم النحر طاعة و كل طاعة مقصورة يكون واجبا بالنذر فثبت جواز نحر الهدى المنذور ايضا في غير ايام النحر و كذا دم جزاء الصيد و الكفارات لا يختص عندنا بيوم النحر لان الكفارة لا يكون الا عبادة فاذا ثبت كونه عبادة جاز جعله كفارة و قد قال اللّه تعالى في جزاء الصيد هديا بالع الكعبة من غير تقييد بيوم النحر و لا يجوز قيد في كتاب اللّه إذ هو في معنى النسخ لكن دم القران و التمتع مختصان بيوم النحر و كذا دم الإحصار عند ابى حنيفة خلافا لابى يوسف و محمد و قد مرت المسألتين في سورة البقر في تفسير قوله تعالى و أتموا الحج و العمرة للّه فان أحصرتم فما استيسر من الهدى الى قوله فمن تمتع بالعمرة الى الحج فما استيسر من الهدى فَكُلُوا مِنْها امر استحباب و ليس للوجوب اجماعا و قال الشافعي امر بالاباحة و انما قال اللّه تعالى ذلك لان اهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم مسئلة اتفق العلماء على ان الهدى إذا كان تطوعا لا يجوز للمهدى ان يأكل منه لحديث طويل لجابر بن عبد اللّه في قصة الوداع و فيه و قدم على ببدن من اليمن و ساق رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مائة بدنة فنحر منها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثلثا و ستين بدنة بيده ثم اعطى عليا فنحر ما غبروا شر له في هديه ثم امر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فاكلا من لحمها و شربا من مرقها رواه مسلم و هذا الحديث دليل على استحباب الاكل من الهدى إذ لو لم يكن الاكل من هديه مستحبا لما امر ان يجعل من كل بدنة بضعة بل يكفيه لحم من واحدة- مسئلة و اتفقوا على عدم جواز الاكل من جزاء الصيد و لعله لاجل ان جزاء الصيد بدل من الصيد قال اللّه تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم و قد ذكرنا بيان المماثلة من حيث الصورة او من حيث القيمة في تفسير سورة المائدة و لما كان الصيد عليه حراما كان بدله حراما مثله قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قاتل اللّه اليهود ان اللّه لما حرم عليهم الشحوم أجمعوه ثم باعوه و أكلوا عنه متفق عليه من حديث جابر و كذا لا يجوز الاكل من الدم المنذور عند الجمهور خلافا لمالك ح و كذا لا يجوز عند الجمهور الاكل من الدماء الواجبة بالجنايات و الواجب بإفساد الحج و في رواية عن احمد و اليه ذهب اسحق انه لا يأكل من جزاء الصيد و النذر و يأكل مما سوى ذلك كذا ذكر البخاري عن ابن عمر معلقا و الحجة لتحريم الاكل من دماء النذر و كفارات الجنايات القياس على حرمة الاكل من جزاء الصيد و هى مجمع عليها و الجامع انها دماء كفارات فلا بد من تسليمها بجميع اجزائها الى مستحقها لكن قياس المنذور على جزاء الصيد غير صحيح الا ان يقال ان لنذر يقتضى تسليم المنذور بجميع اجزائه- مسئلة و اتفقوا على جواز الاكل من الأضاحي اما على قول ابى حنيفة فلانه دم نسك و قد صح قوله صلى اللّه عليه و سلم في الضحى يأكلوا و أطعموا و ادخروا متفق عليه من حديث سلمه ابن الأكوع و اما عند الشافعي و غيره فلانه دم تطوع مسنون و قد ذكرنا الإجماع على جواز الاكل من دماء التطوع- مسئلة و اختلفوا في دم التمتع و القران فقال ابو حنيفة و مالك و احمد يجوز الاكل منه لانه دم نسك و قد ذكرنا حديث جابر انه صلى اللّه عليه و سلم امر من كل بدنة ببضعه فجعلت في قدر فطبخت فاكلا من لحمها و شربا من مرقها و استدل ابن الجوزي لما روى عبد الرحمن بن ابى حاتم في سننه من حديث على قال أمرني رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بهدى التمتع ان أتصدق بلحومها سوى ما ناكل و هذا صريح في الدلالة و قال الشافعي لا يجوز الاكل من دم التمتع و القران و من شي ء من دماء الواجبة سواء أوجبه على نفسه بالنذر او وجب بسبب غير ذلك محتجا بحديث ناحية الخزاعي و كان صاحب بدن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في غزوة الحديبية و حديث ابن عباس و حديث دويب بن حلمه و قد ذكرنا الأحاديث الثلاثة و الجواب عنها في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى فمن تمتع بالعمرة الى الحج فما استيسر من الهدى قلت و الظاهر ان الاية في جواز الاكل من الهدايا واجبة كانت الهدايا كالتمتع و القران او نافلة كما أشرنا اليه نظرا الى اطلاق اللفظ و خص منها المنذور بالإجماع او يقال الكلام في الحج و المنذور ليس من باب الحج في شي ء و اما جزاء الصيد و دماء الكفارات فانها و ان كانت من باب الحج لكن الظاهر من حال المسلم الاجتناب من المحرمات فهى غير مرادة بهذه الآية إذ المأمور به الحج المبرور و اللّه اعلم- وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ اى الّذي اشتد بوسه و البوس شدة الفقر الْفَقِيرَ بدل من الاول او عطف بيان له.

٢٩

ثُمَّ لْيَقْضُوا قرأ ورش و ابو عمرو ابن عامر و قنبل بكسر الام و الباقون بإسكانها تَفَثَهُمْ اى يزيلوا و سخهم بحلق الراس و قص الشارب و الأظفار و نتف الإبط و الاستحداد عند الاحلال الاول و ذلك قبل طواف الزيارة و يحل على المحرم بعد الحلق كل شي ء الا النساء و تحل النساء بعد الطواف كذا قال المفسرون و القضاء في الأصل بمعنى الفعل و الأداء يقال قضى دينه و قال اللّه تعالى و إذا فضيتم مناسككم و قضيهن سبع سموت و يستلزمه الفراغ منه كما أيد يقوله تعالى أيما الأجلين قضيت و في ازالة الوسخ الفراغ منه و

قال البغوي قال ابن عمرو ابن عباس قضاء التفث مناسك الحج كلها يعنى أداء مناسك الحج

و قال مجاهد هو يعنى التفث مناسك الحج و أخذ الشارب و نتف الإبط و حلق العانة و قلم الأظفار و قيل التفث رمى الجمار فالمعنى فعل هذه الأمور و أداها قال الزجاج لا نعرف التفث و معناه الا من القرآن يعنى هذا اللفظ غير مستعمل في كلام العرب غالبا و لفظه ثم يوجب تأخير الحلق و الطواف من الذبح فهو حجة لابى حنيفة رحمه اللّه حيث قال الترتيب بين الرمي و نحر القارن و الحلق واجب و به قال سعيد بن جبير و قتادة و الحسن و النخعي فمن ترك الترتيب عمدا او خطأ يجب عليه الدم لحديث ابن عباس من قدّم شيئا من نسله او اخّره فليهرق رما رواه ابن ابى شيبة موقوفا و الموقوف له حكم المرفوع لان القضاء بمثل غير معقول لا يدرك بالرأى

فان قيل في سنده ابراهيم بن مهاجر قال ابو حاتم منكر الحديث و قال ابن المديني و النسائي ليس بالقوى و قال ابن عدى يكتب حديثه في الضعفاء

قلنا انه صدوق من كبار التابعين اخرج له مسلم متابعه و قال سفيان و احمد و ابن مهدى لا بأس به ثم الحديث ليس منحصرا عليه بن أخرجه الطحاوي من غير طريقه ايضا قال ثنا وهيب عن أيوب عن سعيد بن جبير عنه مثله و قال احمد الترتيب واجب يجب عليه الدم بتركه عمدا لكن يسقط وجوب الترتيب بالجهل و النسيان كذا روى الأثرم عنه و كذا يشعر كلام البخاري و هو المختار عندى للفتوى و قال الشافعي و كثير من السلف الترتيب سنة و ليس بواجب و قال مالك تقديم الحلق على الرمي و الذبح لا يجوز و للشافعى قول مثله احتج الشافعي بحديث ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قيل له في الذبح و الرمي و الحلق و التقديم و التأخير فقال لا حرج متفق عليه و في رواية للبخارى قال كان النبي صلى اللّه عليه و سلم يسأل يوم النحر بمنى فيقول لا حرج فسأله رجل فقال حلقت قبل ان اذبح قال اذبح و لا حرج قال ميت بعد ما أمسيت فقال لا حرج و في رواية للبخارى اتى رجل الى النبي صلى اللّه عليه و سلم قال زرت قبل ان ارمى قال لا حرج قال ذبحت قبل ان ارمى قال لا حرج و روى الطبراني بلفظ ان رجلا قال يا رسول اللّه طفت بالبيت قبل ان ارمى قال ارم و لا حرج و قد ثبت بحديث على رضى اللّه عنه التصريح بالسؤال بالطواف قبل الذبح ايضا رواه احمد وجه الاحتجاج للشافعى انه لو كان الترتيب واجبا لامرهم النبي صلى اللّه عليه و سلم باعادة ما قدم من المناسك لكون الوقت وقت أداء المناسك يوم النحر أو أمرهم النبي صلى اللّه عليه و سلم باراقة الدم و لو أمرهم بشي ء من ذلك لنقل إلينا لاشتراك خلق كثير في الواقعة و حرص كل منهم على حفظ مناسك و تبليغها فلما لم ينقل علم انه لم يأمر و لما لم يأمر علم انه لم يجب لانه رفت الحاجة و ترك تبليغ الواجب مع الحاجة محال فظهر انه ليس بواجب و ما ليس بواجب لا بأس ترله عمدا قال ابو حنيفة رح من رواة هذه القصة ابن عباس رضى اللّه عنه و قد قال ابن عباس من قدّم شيئا من نسكه أو أخّره فليهرق لذلك دما و قول الراوي على خلاف روايته جرح في الحديث لدلالته على ان الراوي اطلع على الناسخ لكن هذا القول لا ينتهض دفعا لقول الشافعي إذ عنده قول الراوي على خلاف روايته ليس بجرح في الحديث بل على اصل ابى حنيفة ايضا لا ينتهض دفعا لان قول الراوي على خلاف روايته انما يكون جرحا إذا كان الموقوف في قوة المرفوع حتى يكون ننزلة الناسخ و الأمر ليس كذلك قلت لكن الجمع بين الأحاديث متى أمكن اولى من ترك العمل على بعضها فنحمل اثر ابن عباس و هو في حكم المرفوع و قد بلغ بالاعتصام درجة الحسن على ترك الترتيب عمدا و ما احتج به الشافعي على الجهل و النسيان فقلنا الترتيب واجب لكن يسقط بالجهل و النسيان كالترتيب في الفوائت من الصلوات واجب عند ابى حنيفة و يسقط بالنسيان و الإمساك في الصوم واجب و يسقط بالنسيان و تكبيرات التشريق واجبة تسقط بالنسيان. مسئلة الحلق من واجبات الإحرام ليس بركن عند ابى حنيفة رحمه اللّه و قال الشافعي رحمه اللّه و بعض العلماء انه ركن من اركان الحج و في رواية ضعيفة عن الشافعي و هى رواية عن ابى يوسف و عن احمد و به قال بعض المالكية انه ليس بنسك بل امر مباح و حجتنا و حجة الشافعي هذه الآية فانه امر بقضاء التفث و المراد به الحلق و الأمر للوجوب فكان ركنا عنده

قلنا ثبوته و ان كان بالآية القطعية لكن دلالة الآية عليه انما هى بتأويل ظنى لاختلاف في تفسير الآية فلا يوجب القطع و ايضا قال الشافعي الحلق تحلل من الإحرام و الإحرام ركن للحج فكذا التحلل عنه كالسلام في الصلاة فانه ركن عند الشافعي

قلنا كون الإحرام شرطا و ركنا للحج لا يستلزم كون التحلل عنه كذلك و كون السلام ركنا ممنوع عندنا و ايضا هذا قياس مع الفارق لان النبي صلى اللّه عليه و سلم جعل السّلام انتهاء لتحريمة الصلاة حيث قال تحليلها التسليم فلو لم يوجد التسليم و يتأتى على التحريمة ما ينافيها بطلت التحريمة و قد كانت التحريمة شرطا للصلوة و ركنا لها على اختلاف الأقوال فبطلت الصلاة ببطلان التحريمة و اما إحرام الحج فلا يبطل .......

بالمحظورات كما يبطل إحرام الصلاة الا ترى ان الجماع قبل الوقوف بعرفة يوجب الفساد حتى يجب عليه القضاء و لا يوجب البطلان حتى يجب المضي في الفاسد- مسئله أول وقت الحلق الرمي من طلوع الفجر الثاني يوم النحر و عند الأكثر بعد نصف الليل من ليلة النحر لنا حديث عروة بن مضرس فيه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من شهد معنا هذا الصلاة صلوة الفجر بمزدلفة و قد كان وقف بعرفة قبل ذلك ليلا او نهارا فقدتم حجه و قضى تفثه رواه اصحاب السنن الأربع و الحاكم و قال صحيح على شرط كافة اهل الحديث و لم يحرجاه على أصلهما لان عروة بن مضرس لم يرو عنه الا الشعبي و قد وجدنا عروة ابن الزبير قد حدث عنه و اختلفوا في اخر وقته فقال الشافعي و ابو يوسف و محمد و اكثر العلماء لا آخر لوقته و اختلفوا ايضا في ان الحرم هل هو شرط للحلق فقال ابو يوسف و زفر و اكثر العلماء ليس بشرط و قال ابو حنيفة للحلق اعتبار ان أحدهما انه محل للاحرام و ثانيهما انه نسك من مناسك الحج فباعتبار انه محلل لا آخر لوقته و لا يختص ايضا بمكان و باعتبار انه نسك يختص بيوم النحر و بالحرم لانه كونه عبادة لا يدرك بالرأى فيراعى خصوصياته الواردة من الشارع و هو الزمان و المكان و اما كونه محللا فامر يدرك بالرأى لان المحلل انما يكون ما يكون جناية في غير او انه و هو كذلك فان وجد الحلق بعد وقته او في غير الحرم يكون محللا من إحرامه و لا يكون عبادة فيلزم الدم لترك نسك واجب و احتج ابو يوسف بان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال اذبح و لا حرج لمن قال حلقت قبل ان اذبح و انه صلى اللّه عليه و سلم حلق عام الحديبية بالحديبية و هى من الحل

قلنا قوله صلى اللّه عليه و سلم اذبح و لا حرج لمن قال حلقت قبل ان اذبح لبيان سقوط الترتيب لعلة الجهل و النسيان لا لتعميم الزمان لان يوم النحر كان موجودا عند السؤال لانه كان بعد الظهر يوم النحر و حلق النبي صلى اللّه عليه و سلم بالحديبية لم يكن عند ابى حنيفة نسكا بل ليعرف استحكام الانصراف حيث لا يجب الحلق على المحصر عند ابى حنيفة و الجواب عندى ان المحصر معذور لا يقاس عليه غيره الا ترى ان الحلق قبل دخول وقته جائز للمحصر لا لغيره اجماعا فكذا الحلق في غير مكانه و الحجة لنا في اشتراط الحرم للحلق قوله تعالى ثم محلها الى البيت العتيق و سيجئى تفسيره و قوله ليدخلن المسجد الحرام إنشاء اللّه آمنين محلقين روسكم و مقصرين حيث جعل الحلق و التقصير من خواص دخول المسجد و التوارث فان النبي صلى اللّه عليه و سلم و من بعده توارثوا على الحلق في الحج بمنى و العمرة عند مروة و هما من الحرم- مسئلة و اختلفوا في القدر الواجب من الحلق و التقصير فقال مالك و احمد لا يتحلل ما لم يحلق او يقصر كل الراس و قال ابو حنيفة حلق ربع الراس او تقصيره يكفيه و قال الشافعي يكفيه ازالة شعرة او ثلث شعرات قال الشافعي هذه الآية لايجاب قضاء التفث و ليس الواجب منه الاستقصاء اجماعا حيث يجوز التقصير و في التقصير قضاء بعض التفث و لا شك ان قضاء بعض التفث يحصل بازالة شعرة او ثلث شعرات و قال ابو حنيفة لا يقال في العرب في من أزال شعرة او ثلثا انه حلق راسه او قضى تفثه فلا بد من قدر معتدبه شرعا و قد اقام ربع الراس في الوضوء مقام الكل حيث أوجب مسح ربع الراس و أوجب في سائر الأعضاء غسلها بتمامها كما ذكرنا تحقيقه في سورة المائدة في اية الوضوء فقلنا هاهنا بحلق ربع الراس و قال مالك و احمد لا نسلم ما قال ابو حنيفة من اقامة ربع الراس مقام الكل فان الفريضة في الوضوء عندهم مسح كل الرأس و لم يرو عن النبي صلى اللّه عليه و سلم و لا عن أحد من الصحابة انه اقتصر على حلق بعض الراس او تقصيره مسئلة الحلق أفضل من التقصير اجماعا لحديث ابن عمران رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال اللّهم ارحم المحلقين قالوا و المقصرين يا رسول قال اللّهم ارحم المحلقين قالوا و المقصرين يا رسول اللّه قال اللّهم ارحم المحلقين قالوا و المقصرين يا رسول اللّه قال و المقصرين و في رواية قال في الرابعة و المقصرين و حديث ابى هريرة نحوه و الحديثان في الصحيحين وَ لْيُوفُوا قرأ ابن ذكوان بكسر اللام و الباقون بإسكانها

و قرا أبو بكر عن عاصم ليوفوا بتشديد الفاء من التفعيل و الباقون بالتخفيف من الافعال

نُذُورَهُمْ قيل أراد به الخروج عما وجب عليه نذر ا و لم ينذر فان العرب يقول لمن خرج عن الواجب عليه و في بنذره و الجمهور على ان المراد بالنذر ما أوجب انسان على نفسه مما ليس بواجب عليه و هو على نوعين منجز كان يقول للّه على ان أصلي ركعتين و معلق بشرط ثم المعلق بالشرط ان كان الشرط مرضيا كان قال ان شفى اللّه مريضى او قدم غائبى فعلّى ان أصوم يسمى نذر ترد و ان كان الشرط مكروها كانّ قال ان كلمت زيدا فعلى ان أحج يسمى نذر لجاج و إذ علمت ان النذر إيجاب ما ليس بواجب عليه فايجاب ما هو واجب من اللّه تعالى اخبار محض كمن قال للّه على ان أصوم رمضان او أصلي الظهر فلا يترتب عليه شي ء أصلا و لا يتغير وصف الواجب و قدره بتغير العبد فلو قال للّه على ان أؤدّي زكوة كل مائتى درهم عشرة لا يلزمه الا خمسة كمن قال للّه على ان أصلي الظهر ست ركعات و كذا لو قال للّه على ان أصلي كل فريضة بوضوء جديد او بجماعة لان اللّه سبحانه اجزى الصلاة بغير هذه القيود فلو

قلنا بعدم الاجزاء لعزم نسخ حكم من احكام اللّه تعالى و لو

قلنا بإجزاء الصلاة بدونها فلا فائدة في القول بايجاب هذه الأمور إذ لا يمكن قضائها بمثلها لعدم استقلالها و قضائها بمثل غير معقول يتوقف على ثبوتها من الشرع و لم يثبت و هذا معنى قولهم يشترط للوجوب بالنذر كونه طاعة مقصورة مستقلة بنفسها و هذا بخلاف من نذر ان يحج ماشيا فان قضأ المشي باراقة الدم عرف من الشرع لكن ما ذكرنا يشكل فيمن نذر ان يؤدى زكوة كل مائتى درهم عشرة حيث يمكن إيجاب خمسة زائدة على الخمسة الّتي وجبت بايجاب اللّه تعالى من غير لزوم نسخ حكم من الاحكام و اللّه اعلم ثم اعلم ان ما ليس بواجب فهو على ثلثة اقسام اما طاعة و اما معصية و اما امر مباح ليس فيه معنى الطاعة و لا العصيان فالقسم الاول اى النذر بالطاعة يجب الوفاء به اجماعا و هو المأمور به بهذه الآية فقيل هو ليس بفرض على اصل ابى حنيفة نثبوته بهذه الآية و هى عامة خص منها البعض فصارت ظنية الدلالة و قيل هو فرض على أصله لما انعقد عليه الإجماع فصار قطعيا في مقدار ما انعقد عليه الإجماع ثم النذر بالطاعة ان كان منجزا لا يجوز العدول عنه الى لكفارة اجماعا الا ان يكون بمالا يطيقه حيث قيل فيه كفارة يمين و ان كان مطقا بشرط فوجد الشرط فكذا عند ابى حنيفة و مالك و اكثر العلماء لان المعلق بالشرط كالمنجر عنده فصار كانه قال عند وجود الشرط للّه على كذا و روى عن ابى حنيفة انه رجع عنه قبل موته بسبعة ايام فقال إذا كان معلقا بالشرط فهو مخير بين فعله بعينه و بين كفارة يمين و هو قول محمد فاذا قال ان فعلت كذا فعلى حجة او صوم سنة ان شاء و في بنذره و ان شاء كفر فانكان فقيرا صار مخيرا بين صوم سنة و صوم ثلثلة ايام و الاول ظاهر المذهب و التخيير عن ابى حنيفة في النوادر وجه الظاهر هذه الآية و الأحاديث الواردة و وجه رواية النوادر ما في صحيح مسلم من حديث عقبة بن عامر عنه صلى اللّه عليه و سلم قال كفارة النذر كفارة اليمين و هو يقتضى ان يسقط النذر بالكفارة مطلقا فيتعارض النصوص فيحمل مقتضى الإيفاء بعينه على المنجز و مقتضى سقوطه بالكفارة على المعلق و وجه الفرق ان المعلق منتف في الحال فالنذر فيه معدوم فيصير كاليمين في ان سبب الإيجاب و هو الجنث منتف حال التكلم فيلحق به بخلاف النذر المنجز لانه نذر ثابت في وقته فيعمل فيه حديث الإيفاء و المختار عند صاحب الهداية و المحققين من العلماء الحنفية ان المراد بالمعلق الّذي يتخير فيه الناذر نذر اللجاج فانه لا يريد وجود الشرط فلا يريد وجوب النذر بل جعله مانعا من فعل الشرط فان الإنسان لا يريد إيجاب العبادات دائما و انكانت مجلبة للثواب مخافة ان يثقل عليه فيتعرض للعقاب و لهذا صح عنه صلى اللّه عليه و سلم انه نهى عن النذر و قال انه لا يأت بخير لا سيما إذا كان المنذور عبادة شاقة كالحج و صوم سنة و اما نذر التردد فلا يجزيه الا فعل عين المنذور به لانه إذا أراد وجود الشرط أراد وجود النذر فكان المعلق في معنى المنجز فيندرج في حكمه و هو وجوب الإيفاء و عدم جواز العدول عنه الى الكفارة فصار محمل ما يقتضى الإيفاء المنجز و نذر التردد و محمل ما يقتضى اجزاء الكفار نذر اللجاج و مذهب احمد فيه هكذا التفصيل الّذي اختاره صاحب الهداية و هو اظهر اقوال الشافعي كذا في المنهاج و في رواية عنها نذر اللجاج يوجب الكفارة لا غير و في قول للشافعى فيه إيفاء لا غير مسئلة يشترط للوجوب بالنذر عند ابى حنيفة ان يكون من جنسه واجب بايجاب اللّه تعالى و في المنهاج للشافعى ان الصحيح عند الشافعي انعقاد بكل طاعة و ان لم يكن من جنسه واجب بايجاب اللّه كعيادة المريض و تشييع الجنازة و السّلام قلت و يرد على قول ابى حنيفة ان الاعتكاف يجب بالنذر اجماعا و ليس من جنسه واجب بايجاب اللّه و كون الصوم شرطا للاعتكاف ممنوع و لو سلمنا فكون بعض شرائطه من جنس ما وجب بايجاب اللّه سببا للزومه بالنذر يقتضى لزوم كل قربة مقصودة و غير مقصورة بالنذر إذ كل قربة مشروطة بالإسلام و الإخلاص و هما فريضتان واجبتان بايجاب اللّه تعالى و لو كان وجوب الاعتكاف بالنذر تبعا لوجوب الصوم بالنذر فمع كونه قلب الموضوع لزم ان لا يجب الاعتكاف لو نذر ان يعتكف في رمضان و اللّه اعلم- مسئلة و إذا فات الوقاء بنذر الطاعة يجب عليه القضاء عند الجمهور و هل يجب عليه كفارة يمين ايضا اولا فقال سفيان الثوري يجب عليه القضاء و الكفارة جميعا و قال ابو حنيفة ان لم ينو اليمين و تكلم بصيغة النذر سواء نوى النذر اولا يجب عليه القضاء دون الكفارة و ان نوى اليمين مع نفى النذر يجب عليه الكفارة دون القضاء و ان نوى يمينا و لم يخطر بباله النذر أصلا او نوى نذر او يمينا يجب عليه القضاء و الكفارة جميعا و قال ابو يوسف انه يمين في الاول حتى يجب عليه الكفارة فقط دون القضاء حيث نوى المجاز و نذر في الثاني فيجب عليه القضاء فقط دون الكفارة لترجح الحقيقة على المجاز عند ارادتهما و امتناع الجمع بين الحقيقة و المجاز وجه قول سفيان انه نذر بصيغة لا يحتاج الى النية و لا ينتفى بالنفي لكونه إنشاء كالنكاح و الطلاق و الرجعة و الاعتاق قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثلث جدهن جد و هزلهن جد النكاح و الطلاق و الرجعة أخرجه احمد و ابو داود و الترمذي و ابن ماجه من حديث ابى هريرة و في مصنف عبد الرزاق من حديث ابى ذر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من طلق و هو لاعب فطلاقه جائز و من أعتق و هو لاعب فعتقه جائز وردى ابن عدى في الكامل من حديث ابى هريرة مرفوعا قال ثلث ليس منهن لعب من تكلم بشي ء منهن لاعبا فقد وجب عليه الطلاق و العتاق و النكاح اخرج عبد الرزاق عن عمر و على موقوفا انهما قالا ثلث لا لعب فيهن النكاح و الطلاق و العتاق و في رواية عنهما اربع و زاد و النذر و يمين بموجبه لان إيجاب ما ليس بواجب يستلزم تحريم ما ليس بحرام يمين حيث قال اللّه تعالى يا ايها النبي لم تحرم ما أحل اللّه لك الى قوله و قد فرض اللّه لكم تحلة ايمانكم فلا يحتاج كونه يمينا ايضا الى النية و لا ينتفى بالنفي كشراء القريب عتق بموجبه لا يحتاج الى النية و لا ينتفى بالنفي و وجه قول ابى حنيفة ان تحريم ما ليس بحرام ليس بيمين على الإطلاق الا ترى ان الطلاق و العتاق و البيع و نحو ذلك يستلزم تحريم ما ليس بحرام و هى الزوجة و الامة و ليس شي ء منها يمينا بل إذا كان التحريم قصد يا منويا باليمين كتحريم مارية او العسل و لا يكون التزاما فحينئذ يكون يمينا و قوله تعالى يا ايها النبي لم تحرم ما أحل اللّه لك انما هو في التحريم القصدى دون الالتزامي فما لم ينو يمينا يكون نذرا نواه ا و لم ينوه حملا على الحقيقة و إذا نوى اليمين و نفى النذر يكون يمينا فقط حملا على المجاز و إذا لم ينف النذر سواه نواه ا و لم ينوه و نوى اليمين يكون نذر الصيغته يمينا بموجبه و اللّه اعلم

(فصل) و اما القسم الثاني و هو النذر بالمعصية فهو على نوعين منها ما لا ينفك شي ء من افراد جنسه عنها كالنذر بالشرب و الزنا و نحو ذلك فقال ابو حنيفة إذا قصد به اليمين ينعقد للكفارة و الا يلغو ضرورة انه لا فائدة في انعقاده و ليس هو مراد بهذه الآية و مامورا بالإيفاء اجماعا فان اللّه لا يأمر بالفحشاء و به قال مالك و الشافعي و قال احمد ينعقد النذر لاجل الكفارة سواء نوى به اليمين اولا قال ابن همام و عليه مشى اكثر مشايخ الحنفية و به قال الطحاوي انه لو أضاف النذر الى سائر المعاصي كقوله للّه على ان اقتل فلانا كان يمينا و لزمته الكفارة بالحنث قلت و ذلك لانه لما تعذر حمل اللفظ على معناه الحقيقي وجب حمله على المعنى المجازى و هو مقتضى قوله صلى اللّه عليه و سلم لانذر في معصية و كفارته كفارة اليمين و محمل الحديث عند ابى حنيفة إذا نوى به اليمين و منها ما كان من جنسه طاعة خالصة عن العصيان كالنذر بصوم يوم العيد و الصلاة عند طلوع الشمس و هذا القسم من النذر ينعقد عند ابى حنيفة رحمه اللّه و عليه ان يفطر و يقضى و لا كفارة عليه و ان صام أجزأه و ان نوى يمينا مع نفى النذر فعليه كفارة يمين و الا فعليه القضاء و الكفارة جميعا كما ذكرنا في النذر بالطاعة و قال احمد عليه ان يفطر و يقضى و يكفر و ان صام لا يجزيه و عنه ان صام أجزأه و قال مالك و الشافعي لا ينعقد هذا النذر كالنذر بالنوع الاول من المعصية المحضة إذ لا فرق بين معصية و معصية و ما نهى اللّه عنه لا يجب بايجاب العبد وجه الفرق لابى حنيفة انه نذر الصوم و هو مشروع بأصله و انما النهى فيه لغيره و هو ترك اجابة دعوة اللّه فينعقد نذره و يجب عليه ان يفطر احترازا عن المعصية المجاورة و يقضى لاسقاط ما وجب عليه فان صام في يوم العيد يخرج عن العهدة لانه اداه كما التزمه و هذا الخلاف مبنى على خلافية اصولية و هى ان النهى عن الافعال الشرعيه توجب القبح لغيره و مشروعيته عند ابى حنيفة رحمه اللّه و عند الشافعي رح توجب القبح لعينه و عدم مشروعية و قال احمد انما ينعقد من حيث كونه طاعة لا من حيث كونه معصيته فيجب به الصوم كاملا و لا يتأدى ان صام يوم العيد و كثير اما يجب الفعل ليظهر اثره في القضاء مع حرمة الأداء نظيره صوم رمضان في حق الحائض يجب ليظهر اثره في القضاء مع ادائه في الوقت حرام و لا يتأدى عنها الفريضة ان أدت فصل و اما القسم الثالث و هو النذر بامر مباح فيلغو و لا ينعقد عند ابى حنيفة رح الا ان ينوى به اليمين فيكفر ان لم يأت به و قال الشافعي لا يجب عليه إتيانه و لكنه ينعقد يمينا نواى و لم ينو فان حنث لزمه كفارة يمين على المرجح كذا في المنهاج و الوجه ما ذكرنا انه إذا تعذر الحمل على الحقيقة و هو الإيجاب لعدم صلوته لكونه طاعة يحمل على المجاز لتعينه و هو تحريم المباح قلت و هذا الدليل لا ينتهض حجة الا عند من قال تحريم المباح يمين و اللّه اعلم و لنذكر هاهنا من الأحاديث الشاهدة لما ذكرنا من الأقوال حتى يظهر الراجح منها من المرجوع عن عائشة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال من نذر ان يطيع اللّه فليطعه و من نذر ان يعصيه فلا يعصه رواه البخاري و عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قوله صلى اللّه عليه و سلم انما النذر ما ابتغى به وجه اللّه رواه احمد في قصة الرجل الّذي نذر ان يقوم في الشمس و رواه البيهقي في قصة اخرى و روى نحوه ابو داود و هذه الأحاديث بعمومها تدل على ان النذر بالطاعة ينعقد سواء كان من جنسها واجب بايجاب اللّه اولا و عن عمران بن حصين قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا وفاء لنذر في معصية و لا فيما نذر لا يملك العبد رواه مسلم و روى ابو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا لا نذر لابن آدم فيما لا يملك و لاجل هذا الحديث قال ابن همام مسئلة لو قال أحد ان فعلت كذا فالف درهم من مالى صدقة ففعله و هو لا يملك إلا مائة مثلا الصحيح من مذهب ابى حنيفة انه لا يلزمه التصدق الا بما ملك لان فيما لم يملك لم يكن النذر مضافا الى الملك و لا الى سبب الملك-

(مسئلة) و لو قال مالى صدقة في المساكين و لا مال له لا يلزمه شي ء.

(مسئلة) و لو قال للّه على ان اهدى هذه الشاة الى بيت اللّه و أشار الى شاة مملوكة لغيره لا يلزمه شي ء و عن عقبة بن عامر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال كفارة النذر كفارة اليمين رواه مسلم و رواه الطبراني بلفظ النذر يمين و كفارته كفارة يمين و هذا الحديث لعمومه يدل عليه مسئلة من نذر نذرا فلم يف به اما لكونه معصيته ممنوعة شرعا او لكونه ممنوعا طبعا بان كان النذر مما لا يطيقه كصوم الابد او كان مما يطيقه لكن فات وقته و لا يمكن التدارك او لكونه مباح الترك و لعدم تسمية المنذور به بان قيل للّه على نذر يجب عليه كفارة اليمين سواء نوى اليمين اولا و حمل ابو حنيفة هذا الحديث على ما نوى اليمين و عن ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال من نذر نذر الم يسمه فكفارته كفارة يمين و من نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين و من نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين و من نذر نذرا اطاقه فليف به رواه ابو داود و ابن ماجه و وقفه بعضهم على ابن عباس و هذا الحديث كالبيان لما سبق من الحديث و هذا الحديث يدل عليه-

(مسئلة) من نذر نذر طاعة و هو مطلق به لا يجوز له العدول عنه الى الكفارة و لا يجزء عنه الكفارة و عن عمران بن حصين قوله صلى اللّه عليه و سلم لا نذر في معصيته و كفارته كفارة يمين رواه النسائي و الحاكم و البيهقي و هذا الحديث باطلاقه حجة لاحمد في انعقاد نذر المعصية و وجوب الكفارة و مداره على محمد بن الزبير الحنظلي عن أبيه عن عمران بن حصين و محمد ليس بالقوى و قد اختلف عليه فيه رواه ابن المبارك عن عبد الرزاق عن أبيه قال الحافظ و له طريق اخر اسناده صحيح الا انه معلول و رواه احمد و اصحاب السنن و البيهقي من رواية الزهري عن ابى سلمه عن ابى هريرة و هو منقطع لم يسمع الزهري من ابى سلمه و قد رواه ابو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه عن حديث سليمان بن بلال عن موسى بن عقبة و محمد بن عتيق عن الزهري عن سليمان بن أرقم عن يحيى بن كثير عن ابى سلمة عن عائشة قال النسائي سليمان بن أرقم متروك و قد خالفه غير واحد من اصحاب يحيى بن كثير فرووا عن يحيى بن كثير عن محمد بن الزبير الحنظلي عن أبيه عن عمران فرجع الى الرواية الاولى قال الحافظ و قد رواه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن كثير عن رجل من بنى حنيفة و ابى سلمة كلاهما عن النبي صلى اللّه عليه و سلم مرسلا و الحنفي هو محمد بن الزبير قاله الحاكم و قال ان قوله من بنى حنيفة تصحيف انما هو من بنى حنظلة و له طريق آخر عن عائشة مرفوعا رواه الدار قطنى و ابو داود و الترمذي و النسائي من رواية غالب بن عبد اللّه الجوزي عن عطأ عن عائشة مرفوعا من جعل عليه نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين و غالب متروك الحديث و للحديث طريق اخر رواه ابو داود عن كريب عن ابن عباس و اسناده حسن فيه طلح بن يحيى و هو مختلف فيه قال النووي حديث لا نذر في معصية و كفارته كفارة يمين ضعيف باتفاق المحدثين و قال الحافظ قد صححه الطحاوي و ابو على بن السكن فاين الاتفاق قلت و قد كتب السيوطي في الجامع الصغير على هذا الحديث علامة الصحة و احتج ابو حنيفة بقوله بعدم وجوب الكفارة في النذر بالمعصية بحديث عمران بن حصين قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول النذر نذر ان فمن كان نذر في طاعة فذلك للّه و فيه الوفاء و من كان نذر في معصية فذلك للشيطان و لا وفاء فيه وجه الاحتجاج ان وجوب الكفارة يعتمد على وجوب الوفاء فانه ليكفر الإثم فاذا لم يجب الوفاء لم يجب الكفارة و هذا احتجاج في مقابلة النص بالمعقول و منقوض بانه من حلف باللّه على إتيان المعصية وجب عليه الحنث و الكفارة ليكفر هتك حرمة اسم اللّه تعالى هذه في هذا المقام فكذا هاهنا و عن ثابت بن الضحاك قال نذر رجل على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان ينحر ابلا ببواته فاتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاخبره فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية تعبده قالوا لا قال فهل كان فيها عيد من أعيادهم قالوا لا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أوف بنذرك فانه لا وفاء لنذر في معصية اللّه و لا فيما لا يملك ابن آدم رواه ابو داود بسند صحيح و عن عمر بن شعيب عن أبيه عن حده ان امرأة قالت يا رسول اللّه انى نذرت ان اضرب على راسك الدف قال او في بنذرك رواه ابو داود و زاد ارين قالت يا رسول اللّه و نذرت ان اذبح بمكان كذا و كذا مكان يذبح فيه اهل الجاهلية قال هل كان بذلك المكان وثن من أوثان الجاهلية يعبد قالت لا قال هل كان فيه عيد من أعيادهم قالت لا قال او في بنذرك قلت الأمر بالإيفاء هاهنا ليس للوجوب اجماعا جمعا بين هذه الأحاديث و قوله صلى اللّه عليه و سلم انما النذر ما ابتغى به وجه اللّه و نظرا الى ان ما ليس بطاعة لا يصلح للوجوب و لا لكونه تحية بوجه اللّه تعالى فالامر هاهنا للاباحة و إذا كان ترك المعصية فيما كان النذر بالمعصية موجبا للتكفير نظرا الى المعنى فههنا اولى مسئلة من نذر بطاعة مقيدة بقيود و أوصاف فان كانت تلك القيود و الأوصاف مرغوبة عند اللّه موجبة للمزية و كثرة الثواب يجب الإيفاء مع تلك القيود و الأوصاف و انكانت عما لا مزية له عند اللّه لا يلزمه الشرط و هل يجب الكفارة عند فقد تلك القيود و الصفات فالخلاف فيه كالخلاف في ترك كل منذور مباح فمن نذر ان يصلى في السوق او في يوم السبت او نذر ان يصوم و لا يقعد و لا يتكلم و لا يستظل او نذر ان يتصدق بهذا الدرهم على هذا الفقير في هذا البلد وجب عليه الصوم و الصلاة و جاز له ان يصلى في اى مكان اى وقت شاء و بصوم مع التكلم و القعود و الاستظلال و يتصدق بدرهم اىّ درهم شاء على اى فقير في اى بلد لحديث ابن عباس قال بينا النبي صلى اللّه عليه و سلم يخطب إذا هو برجل قائم فسئل عنه فقالوا ابو إسرائيل نذر ان يقوم فلا يقعد و لا يستظل و لا يتكلم و يصوم فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم مروه فليتكلم و ليستظل و ليقعد و ليتم صومه رواه البخاري و ليس فيه الأمر بالكفارة و من نذر ان يصوم ثلثة ايام متتابعات او نذر ان يصلى قائما يجب عليه ان يفى بنذره فان صام متفرقا او صلى قاعد الا يجزيه و يجب عليه الاعادة لان صلوة القاعد نصف صلوة القائم كذا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رواه احمد و النسائي و ابن ماجه بسند صحيح عن انس و ابن ماجه عن عبد اللّه بن عمرو و الطبراني عن ابن عمرو عن عبد اللّه بن السائب و عن المطلب بن ابى وديعة و احمد و ابو داود عن عمران بن حصين نحوه و مسلم و ابو داود و النسائي عن ابن عمر و نحوه و التتابع في الصيام مرغوب و لذا وجب في الكفارات مسئلة و لو نذر بالصلوة مطلقا يجب الصلاة قائما لان الأصل هو القيام و لو نذر بالصلوة قاعدا اجزأته قاعدا و قائما مسئلة و لو نذر بالصلوة على جنبه او مستلقيا يجب عليه الصلاة قاعدا او قائما لان الرقود في الصلاة لم يعرف في حالة الاختيار بخلاف القعود غير ان المريض الّذي لا يقدر على القعود لو نذر ان يصلى راقدا أجزأه ان يصلّى راقدا فان صح قبل أدائه لا يجزيه الا قائما مسئلة من نذر ان يصلى في المسجد الحرام حاز له ان يصلى في اى مكان شاء عند ابى حنيفة و محمد رحمهما اللّه و قال زفر و به قال ابو يوسف في إملائه انه من نذر ان يصلى في مسجد بيت المقدس فصلى في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم او في المسجد الحرام اجزأته و من نذر ان يصلى في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فان صلى في المسجد الحرام اجزأته و ان صلى في غيره لم يجزه و من نذر ان يصلى في المسجد الحرام لم يجزه ان صلى في غيره احتج ابو حنيفة بحديث جابر بن عبد اللّه ان رجلا قال يوم الفتح يا رسول اللّه انى نذرت للّه عزّ و جلّ ان فتح اللّه عليك ان أصلي في بيت المقدس ركعتين فقال صل هاهنا ثم أعاد عليه فقال صل هاهنا ثم أعاد عليه فقال شانك إذا رواه ابو داود و الدارمي و الطحاوي قال ابو يوسف و زفر نحن نقول بهذا الحديث انه من نذر ان يصلى ببيت المقدس جاز له ان يصلى بالمسجد الحرام و قد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوم الفتح بالمسجد الحرام و اما من نذر ان يصلى في المسجد الحرام فصلى في غير ذلك كيف يجوز و قد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صلوة الرجل في بيته بصلوة و صلوته في مسجد القبائل بخمس و عشرين صلوة و صلوته في المسجد الّذي يجمع فيه بخمس مأته صلوة و صلوته في المسجد الأقصى بألف صلوة و صلوته في مسجدى بخمسين الف صلوة و صلوته في المسجد الحرام مأته الف صلوة رواه ابن ماجه من حديث انس و في الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صلوة في مسجدى خير من الف صلوة فيما سواه الا المسجد الحرام و روى الطحاوي عنه و عن سعد بن ابى وقاص و عن عائشة و عن ميمونة و عن ابى سعيد الخدري كلهم عن النبي صلى اللّه عليه و سلم مثل حديث الصحيحين عن ابى هريرة و روى الطحاوي عن عطاء ابن الزبير قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صلوة في مسجدى هذا أفضل من الف صلوة فيما سواه من المساجد الا المسجد الحرام و صلوة في ذلك أفضل من مأته الف صلوة في هذا و عن عمر بن الخطاب موقوفا و عن جابر بن عبد اللّه مرفوعا مثله فاجاب ابو حنيفة ان هذه الأحاديث مختصة بالمكتوبات فان فضل المكتوبات في المساجد على الترتيب المذكور حق و ليس ذلك في النوافل حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أفضل صلوة المرء في بيته الا الصلاة المكتوبة رواه الشيخان في الصحيحين من حديث زيد بن ثابت و روى ابو داود و الترمذي عن زيد بن ثابت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صلوة المرأ في بيته أفضل عن صلوته في مسجدى هذا الا المكتوبة و ذكر الطحاوي حديث عبد اللّه بن سعد مرفوعا لان أصلي في بيتي أحب الى من ان أصلي في المسجد مسئلة من قال إذا قدم غابئى او شفى مريضى فللّه على صوم شهر يجب عليه صيام شهر بعد وجود الشرط فلو صام عنه قبل وجود الشرط لم يجز و يجب عليه الاعادة خلافا للشافعى رح لان الشرط عندنا مانع من انعقاد السبب و الأداء قبل وجود السبب لا يجوز و عنده مانع من الحكم دون السبب فيجوز الأداء كما يجوز الزكوة بعد النصاب قبل الحول مسئلة لو أضاف الوجوب الى الوقت جاز تقديمه على ذلك الوقت عند ابى حنيفة و ابى يوسف رحمهما اللّه خلافا لمحمد هو يقول الاضافة الى الوقت كالتعليق بالشرط و هما يقولان ليس كذلك بل هو إيجاب منجز مقيدا بقيد و القيود ملغاة كمن قال للّه على ان أصلي في السوق جاز أينما صلى فكذا من قال للّه على ان أصوم رجب او أحج في السنة الثالثة من هذه السنة جاز له ان يصوم و يحج قبله او بعده و قال زفر ان كان الوقت الّذي أضاف اليه فاضلا شرعا فصام قبل ذلك الوقت في وقت اقل منه فضيلة لم يجزه بل يجب عليه الاعادة حتى يدرك فضيلة الوقت و ان لم يكن كذلك أجزأه و هذا عندى اظهر فمن نذر بصوم يوم عرفة او يوم عاشوراء او تسع من ذى الحجة الى عرفة او شهر المحرم لا يجزيه ان صام قبل ذلك و كذا من نذر ان يصلى في جوف الليل لا يجزيه ان صلى في النهار قبله و لا بعده لان الحياة الى الليلة المقبلة غالب عادة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صيام يوم عرفة احتسب على اللّه ان يكفر السنة الّتي قبله و السنة الّتي بعده و صيام عاشورا انى احتسب على اللّه ان يكفر السنة الّتي قبله رواه مسلم و ابن حبان و الترمذي و ابن ماجه من حديث ابى قتادة و روى ابن ماجه من حديث ابى سعيد الخدري عن قتادة بن نعمان نحوه و في الباب حديث زيد بن أرقم و سهل بن سعد و ابن عمر رواه الطبراني و حديث عائشة رواه احمد و قال الحافظ و فيه عن انس و غيره و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما من ايام العمل الصالح فيها أحب الى اللّه من هذه الأيام يعنى ايام التشريق من ذى الحجة قالوا يا رسول اللّه و لا الجهاد في سبيل اللّه قال و لا الجهاد في سبيل اللّه الا رجل خرج بنفسه و ماله فلم يرجع من ذلك بشي ء رواه ابو داود من حديث ابن عباس و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما من ايام أحب الى اللّه ان يتعبد له فيها من ايام العشر و ان صيام يوم منها ليعدل سنة و ليلة منها بليلة القدر رواه ابن ماجه من حديث ابى هريرة و هذا الحديث ضعيف و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر اللّه المحرم و أفضل الصلاة بعد الفريضة صلوة الليل رواه مسلم و اصحاب السنن الأربعة عن ابى هريرة و الروياني في مسنده و الطبراني عن جندب- مسئلة من نذر ان يحج ماشيا ذكر في المبسوط من مذهب ابى حنيفة انه مخير بين الركوب و المشي يعنى لا يجب عليه المشي و به قال قوم و هذا القول مبنى على ما سبق انه من نذر بطاعة و شرط فيه ما ليس بطاعة لا يلزمه الشرط و في القدورى و اكثر المتون انه يمشى و لا يركب حتى يطوف طواف الزيارة و اختلفوا في محل ابتداء المشي فقيل من الميقات لان شروع الحج من هناك و الأصح انه من بيته لانه المراد عرفا الا ان ينوى خلاف ذلك فعليه مانوى قال صاحب الهداية هذا يعنى ما ذكر في القدورى اشارة الى وجوب المشي بالنذر قال الطحاوي و به قال ابو حنيفة و ابو يوسف و محمد و الحجة لاهل المقالة الاولى اما على من يقول الحج راكبا أفضل من الحج ماشيا فظاهر ان المنذور لا بد ان يكون عبادة و في المشقى الاولى و اما على قول ابى حنيفة فالمشى مع القدرة و إن كان أفضل لكن من شرط المنذور عنده ان يكون من جنسه واجب بايجاب اللّه تعالى من الواجبات المقصودة و ليس المشي كذلك و لهم من السنة حديث انس بن مالك ان النبي صلى اللّه عليه و سلم رأى شيخا يهادى بين ابنيه قال ما بال هذا قالوا نذر ان يمشى قال ان اللّه غنى عن تعذيب هذا نفسه و امره ان يركب متفق عليه و في رواية لمسلم عن ابى هريرة قال اركب ايها الشيخ فان اللّه غنى عنك و عن نذرك و حديث عقبة بن عامر الجهني قال نذرت أختي ان تمشى الى بيت اللّه فامرتنى ان استفتى بها النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال لتمش و لتركب متفق عليه و الحجة لاهل المقالة الثانية ان المشي عبادة مقصورة واجبة في طواف الزيارة عند ابى حنيفة رح كما سنذكر فيجب بالنذر و الجواب عن استدلالهم بالسنة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم انما امر بالركوب إذا رأى انه لا يطيق المشي كما هو صريح في حديث انس انه رأى شيخا يهادى بين ابنيه و كذا في قصة اخت عقبة مذكور في رواية ابى داود انها لا تطيق فثبت بهذين الحديثين انه جاز له الركوب إذا لم يطق المشي و ذالا يدل على عدم الوجوب بل على جواز الركوب بعذر مسئلة فان ركب بعذر او بغير عذر لا يجب عليه إعادة الحج ماشيا اجماعا و كان مقتضى القياس على اصل ابى حنيفة ان لا يخرج عن عهدة منذر إذا ركب كما لو نذر بصيام ايام متتابعات و بالصلوة قائما لكنا تركنا القياس لثبوت الرخصة في الركوب بالنص

فان قيل الأحاديث المذكورة انما توجب الرخصه لمن لا يطيق على المشي و المطيق على المشي ليس في معناه فلا بد ان لا يخرج المطيق على المشي من العهدة إذا ركب بغير عذر

قلنا جوابه بوجهين أحدهما ان احكام الشرع عامة غالبا و الغالب في الحج ان لا يطيق على المشي و لذلك قالت العلماء ان الزاد و الراحلة في الحج من القدرة الممكنة دون الميسرة فقلنا بالرخصة يؤيد ما

قلنا حديث عمران بن حصين قال ما خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خطبة الا أمرنا بالصدقة و نهانا عن المثلة و قال ان من المثلة ان ينذر الرجل ان يحج ماشيا فمن نذر ان يحج ماشيا فليهد هديا و ليركب رواه الحاكم في المستدرك و قال صحيح الاسناد و لم يخرجاه ثانيهما ان ترك الواجب بعذر او بغير عذر شانهما في اقتضاء القضاء واحد فان كان عبادة مستقلة يقضى ما ترك و ان كان جزاء او شرطا او وصفا للعبادة لا يتصور قضاؤه بمثل معقول لعدم استقلاله و يتصور قضاؤه بمثل غير معقول كسجدة السهو قضاء لواجبات الصلاة لكن القضاء بمثل غير معقول لا يدرك بالرأى بل يتوقف على الشرع فان ظهر له من الشرع مثل غير معقول تقضى بتلك المثل و لا يعاد العبادة و الإيعاد تلك العبادة و لما لم يدرك للتتابع في الصيام و القيام فى الصلاة مثل غير معقول حكمنا باعادة الصوم و الصلاة و إذا عرف للمشى مثل غير معقول و هو الهدى لم يحكم باعادة الحج بل بالهدى و الفرق بين المعذور و غير المعذور لا يظهر الا في الإثم و نظير ترك الوقوف بمزدلفة بلا عذر لا يجوز و بعذر يجوز و على كلا التقديرين يجب عليه الهدى و اللّه اعلم- مسئلة من نذر ان يحج ماشيا فحج و ترك المشي بعذر او بلا عذر يجب عليه بدنة و قال ابو حنيفة و صاحبيه لزم دم و أدناه شاة و إذا أراد بقوله للّه على ان أحج ماشيا اليمين لزمه كفارة اليمين ايضا كذا ذكر الطحاوي و قول ابى حنيفة و صاحبيه و قيل لا يجب عليه الا كفارة يمين و الحجة لوجوب الهدى بالركوب حديث عقبة بن عامر ان أخته نذرت ان يمشى الى البيت فامرها النبي صلى اللّه عليه و سلم ان تركب و تهدى هديا رواه ابو داؤد و سنده حجة و بهذا يظهر ان ما في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر فيه اختصار على ذكر بعض المروي و الزيادة من الثقة مقبولة و هذا الحديث حجة لابى حنيفة في إيجاب مطلق الهدى و لو بشاة و لنا على تخصيص الهدى بالبدنة ما رواه ابو داؤد من حديث ابن عباس بلفظ ان اخت عقبة بن عامر نذرت ان تحج ماشية و انها لا تطيق ذلك فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم و ان اللّه لغنى عن مشى أختك فلتركب و لتهد بدنة و ما رواه الطحاوي من حديث عقبة بن عامر قال نذرت أختي ان تمشى الى الكعبة فقال ان اللّه لغنى عن مشيها مروها فلتركب و لتهد بدنة قلت و هذا حديث حسن لانه من رواية ابن ابى داؤد ثنا عيسى بن ابراهيم ثنا عبد العزيز بن مسلم ثنا مطر الوراق عن عكرمة عنه

فان قيل عبد العزيز بن مسلم استجهل و مطرح الوراق قال ابن سعد فيه ضعف في الحديث

قلنا قال الذهبي عبد العزيز معروف فلا يضر جهل من استجهل و مطر الوراق من رجال مسلم قال الذهبي ثقة و قال احمد و ابن معين ضعيف في عطاء خاصة و هذا من رواية عكرمة قال ابن همام عمل ابو حنيفة بإطلاق الهدى من غير تعين بدنة لقوة رواتها

قلنا قوة رواة الإطلاق ممنوع و لو سلمنا فالترجيح بالقوة انما يطلب عند التعارض و لا تعارض هاهنا بل مطلق و مقيد في حكم واحد في قضية واحدة فيحمل المطلق على المقيد البتة و ما اخترت مروى عن على و غيره من الصحابة رضى اللّه عنهم و الموقوف في الباب له حكم الرفع روى الشافعي إيراد عليه عن سعد بن ابى عروبة عن قتادة عن الحسن عن على في الرجل يحلف على المشي قال يمشى و ان عجز ركب و اهدى بدنة و روى عبد الرزاق بسند صحيح عن على فيمن نذر ان يمشى الى البيت قال يمشى فان أعيى ركب و اهدى جزورا

و اخرج نحوه عن ابن عمرو ابن عباس و قتادة و الحسن مسئلة من قال على المشي الى بيت اللّه او الكعبة و لم يذكر حجا و لا عمرة فعليه ان يحج او يعتمر ماشيا استحسانا و في القياس لا شي ء عليه وجه الاستحسان تعورف النسك بهذا اللفظ و لو قال على المشي الى الحرم لا شى عليه عند ابى حنيفة لعدم العرف في التزام النسك به و عند صاحبيه يلزمه النسك احتياطا و اتفقوا على انه لو قال الى الصفا او المروة او عرفة او مزدلفة او منى او مقام ابراهيم لا يجب شي ء و كذا لو قال مكان المشي غيره كقوله الذهاب الى بيت اللّه او الخروج او السفر لا يجب شي ء و المدار على تعارف إيجاب النسك بلفظ دون لفظ و لو نوى بقوله على المشي الى بيت اللّه المشي الى مسجد المدينة او مسجد بيت المقدس او مسجد اخر لم يلزمه شي ء لصحة اطلاق بيت اللّه على كل مسجد مسئلة من نذر بطاعة لزمه ذلك الطاعة و ما يتوقف عليه ذلك فمن نذر ان يصلى ركعتين بلا وضوء او بلا قرأة او نذر ان يصلى ركعة واحدة او ثلث ركعات لزمه الركعتان بالوضوء و القراءة و في ثلث و اربع ركعات و قال محمد لا يصح النذر لو نذر الركعتين بلا وضوء لان الصلاة بلا وضوء ليست بطاعة بخلاف الصلاة بغير قرأة فانها قد تكون طاعة كصلوة الأمي و في غير ذلك قوله كقولنا و قال زفر يلزمه الركعتان ان نذر ثلثا و لا يلزمه شي ء فيما سوى ذلك لان الصلاة بلا وضوء او بلا قراءة او ركعة منفردة او مع شفع يقدمها ليست بقربة فلا يجوز به النذر

قلنا الالتزام بالشي ء يستلزم استلزام ما لا صحة له الا به و اللّه اعلم مسئلة من نذر ان يحج ماشيا فحج راكبا بعذر او بلا عذر و اهدى بدنة هل يجب عليه الكفارة أم لا قال ابو حنيفة لا يجب عليه الكفارة الا إذا نوى به اليمين و الخلاف في هذه المسألة مثل الخلاف في فوات اصل المنذور و قد مر من قبل مسئلة من نذر ان يعتكف قال ابو حنيفة و مالك يجب عليه ان يصوم و يعتكف و قال الشافعي و احمد لا يجب عليه الصوم و مبنى الخلاف على اختلافهم في انه بل يشترط الصوم للاعتكاف أم لا فقال الشافعي و احمد لا يشترط و يصح الاعتكاف بغير صوم و بالليل و اقله ساعة و قال مالك يشترط و هو رواية عن احمد و رواية الحسن عن ابى حنيفة و في الأصل مذهب ابى حنيفة ان الصوم شرط لصحة الواجب من الاعتكاف دون التطوع منه و به قال محمد و الحجة على اشتراط الصوم للاعتكاف ما رواه الدار قطنى و البيهقي عن سويد بن عبد العزيز عن سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و لا اعتكاف الا بصوم قال الدار قطنى تفرد به سويد عن سفيان و قال احمد سويد متروك الحديث و قال البخاري في حديثه نظر و قال يحيى ليس بشي ء و سفيان قال يحيى لم يكن بالقوى و قال ابن حبان يروى عن الزهري المقلوبات قلت قال الذهبي صدوق مشهور و قال بعضهم ليس به بأس الا في الزهري- اخرج له مسلم و ذكر ابن همام قال في الكمال قال ابن حجر سألت عنه هشيما فاثنى عليه خيرا- فالحديث لم يصح لاجل سويد و سفيان إذ هو من رواية الزهري و هو في الزهري ضعيف و ما رواه ابو داود عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت السنة على المعتكف ان لا يعود مريضا و لا يشهد جنازة و لا يمس امراة و لا يباشرها و لا يخرج لحاجة الّا لما لا بد منها و لا اعتكاف الا بصوم و لا اعتكاف الا في مسجد جامع-

فان قيل قال ابو داؤد غير عبد الرحمن ابن اسحق لا يقول فيه السنة فالحديث موقوف فقال الدار قطنى عبد الرحمن ضعيف- و أجيب بان الرفع زيادة و عبد الرحمن ثقة الا انه قدرى كذا قال ابو داود و وثقه ابن معين و قال احمد صالح الحديث

و اخرج له مسلم-

قلت هذا الحديث لا يصلح للاحتجاج لان كلمة لا اعتكاف الظاهر انه ليس تحت قوله السنة على المعتكف ان لا يعود لتغير نسق الكلام و او سلمنا فكون الصوم سنة في الاعتكاف لانزاع فيه- انما الخلاف في كونه شرطا و هذا امر لا بد له من دليل و روى هذا الحديث ابن الجوزي في التحقيق من طريق الدار قطنى عن الزهري عن سعيد بن المسيب و عروة عن عائشة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان يعتكف العشر الا و اخر من رمضان و ان السنة للمعتكف ان لا يخرج الا لحاجة الإنسان و لا يتبع الجنازة و لا يعود مريضا و لا يمس امراة و لا يباشرها و لا اعتكاف الا في مسجد جماعة و يأمر من اعتكف ان يصوم و اعترض عليه ابن الجزري بان فيه ابراهيم بن محسر قال ابن عدى له أحاديث مناكير و قال الدار قطنى يقال ان قوله ان السنة للمعتكف إلخ ليس من قول رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بل هو من كلام الزهري و من أدرجه في الحديث فقدوهم و من الحجة في الباب ما رواه ابو داود عن عبد الرحمن بن بديل عن عمرو بن دينار ان عمر جعل عليه ان يعتكف في الجاهلية ليلة او يوما عند الكعبة فسال النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال اعتكف و صم- و في لفظ للنسائى امره ان يعتكف و يصوم- قال الدار قطنى تفرد به ابن بديل و هو ضعيف و رواه نافع عن ابن عمر و لم يذكر فيه الصوم و هو أصح و قال سمعت أبا بكر النيسابورى يقول هذا حديث منكر لان الثقات من اصحاب عمرو بن دينار لم يذكروه منهم ابن جريح و ابن عليينة و حماد بن سلمة و غيرهم و ما قال ابن همام ان ابن بديل ثقة قال فيه ابن معين صالح و ذكره ابن حبان في الثقات-

قلت لم يذكر الذهبي في ترثيقه شيئا بل قال فيه امّه ضعيف ثم لو ثبت الأمر بالصوم تحمله على ان عمر كان قد نذر بالاعتكاف و الصوم جميعا و سال عنهما فبسقط ذكر الصوم من الراوي في رواية السؤال كما سقط ذكر الصوم عن الجواب في اكثر الطرق و أصحها- و ما رواه الدار قطنى بسنده عن سعيد بن بشير عن عبد اللّه «١» بن عمر عن نافع عن ابن عمر ان عمر نذر ان يعتكف في الشرك و يصوم فسال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعد إسلامه فقال أوف بنذرك- قال قيل قال عبد الحق تفرد به سعيد بن بشير قال ابن الجوزي قال يحيى و ابن نمير ليس بشي ء

قلنا قال الحافظ هو مختلف فيه و قال الذهبي سعيد بن بشير صاحب قتادة و ثقة شعبة و قال البخاري يتكلم في حفظه و قيل كان قدريّا قلت و لا شك ان سعيد بن بشير ليس أضعف من ابن بديل- و احتج الشافعي و احمد بحديث ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ليس على المعتكف صيام الا ان يجعله على نفسه- رواه الحاكم و صححه و لم يطعن فيه ابن الجوزي و احتج البخاري بحديث ابن عمر ان عمر سال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال كنت نذرت في الجاهلية ان اعتكف ليلة في المسجد الحرام قال فاوف بنذرك- متفق عليه وجه الاستدلال ان الليل ليس وقتا للصوم و اعترض عليه بين في رواية شعبة عن عبيد اللّه عند مسلم يوما بدل ليلة- فجمع ابن حبان و غيره بين الروايتين بانه ندر اعتكاف يوم و ليلة فمن اطلق يوما أراد بليلتها و من اطلق ليلة أراد بيومها- و أجيب بان رواية من روى يوما شاذ او نقول لما نذر اعتكاف يوم و لم يأمره النبي صلى اللّه عليه و سلم بالصوم دل على ان الصوم ليس بشرط- و من الحجة في الباب حديث عبد اللّه بن أنيس قال قلت يا رسول اللّه ان لى بادية أكون فيها و انا أصلي فيها بحمد اللّه فمرنى بليلة أنزلها الى هذا المسجد فقال انزل ليلة ثلاث و عشرين فقيل لابنه كيف كان أبوك يصنع قال كان يدخل المسجد أصلي العصر فلا يخرج منه لحاجة حتى يصلى الصبح فاذا صلى الصبح وجد دابته على باب المسجد فجلس عليها و لحق بباديته- رواه ابو داود و هذا صريح في جواز الاعتكاف ليلا- لا يقال لا نسميه اعتكافا لانا نقول لا مشاحة لنا في الاصطلاح بعد ما ثبت- ان اللبث في المسجد بنية التقرب طاعة و الطاعة تجب بالنذر مسئلة من نذر ان يعتكف رمضان لزمه و لا يلغو اشتراط رمضان لما ثبت ان الطاعة في رمضان اكثر ثوابا من الطاعة في غيره قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من تقرب فيه اى

(١) كذا في الأصل و في شرح معانى الدار للطحاوى عبد اللّه بن عمر إلخ ١٢- الفقير الدهلوي-.

فى رمضان خصلة من الخير كان كمن ادى فريضة فيما سواه و من ادى فريضة فيه كان كمن ادى سبعين فريضة فيما سواه- رواه البيهقي في شعب الايمان في حديث طويل عن سلمان الفارسي «١» فان أطلقه فعليه ان يعتكف في اى رمضان شاء و ان علية لزمه فيه- كذا قال ابن همام لكن هذا لا يوافق ما مر ان كل شرط لا مزية فيه من حيت الطاعة لا يلزمه و لا مزية لرمضان على رمضان اخر فاولى ان يقال ان عيّن أول رمضان أدركه لزمه ذلك لان الاستعجال في الطاعة طاعة قال اللّه تعالى يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ هُمْ لَها سابِقُونَ- و ان عين رمضان اخر فادى في أول رمضان أدركه ينبغى ان يجزيه بل الظاهر انه يلزمه الأداء في أول رمضان أدركه لان الحيوة الى رمضان ثان غير غالب الوقوع عادة

(مسئلة) فان صام رمضان عينه للاعتكاف و لم يعتكف لزمه قضاؤه بصوم مقصود للنذر عند ابى حنيفة و محمد و هو احدى الروايتين عن ابى يوسف و عن ابى يوسف انه لا يقضى أصلا و هو قول زفر لان الاعتكاف في رمضان أفضل من الاعتكاف في غيره فلا يتادى بالاعتكاف في غيره كمن نذر ان يصلى قائما او يصوم متتابعا فصلى قاعدا او صام متفرقا لا يجزيه فتعذر للقضاء فسقط

قلنا كان عليه ان يعتكف في رمضان فلما فات ذلك بقي عليه مطلق الاعتكاف لامكان التدارك و سقط عنه فضل الوقت لعدم إمكان التدارك- و الحيوة الى رمضان اخر غير متيقن بل غير مظنون لطول الزمان- فصار المسألة كمن فاته صلوة الوقت او صوم رمضان وجب بنيه قضاء اصل الصلاة و الصوم لامكان التدارك و سقط عنه فضل الوقت لعدم إمكان التدارك- بخلاف من صلّى قاعدا و كان قد نذر الصلاة قائما حيث يحكم بالاعادة لامكان التدارك-

فان قيل لما فات الاعتكاف في رمضان كان ينبغى ان يحكم بوجوب قضائه في رمضان اخر و إذا لم يحكم بذلك لاحتمال للموت قبل ذلك و حكمتم بوجوب القضاء بعد رمضان بصوم مقصود فاذا اعتكف قضاء بعد رمضان بصوم مقصود ثم أدرك رمضان «٢» اخر ينبغى ان يحكم بوجوب الاعادة- كمن وجب عليه الحج و لم يحج و عجز عن الحج فاحج عنه غير ثم قدر على الحج بنفسه بطل حينئذ احجاج الغير و لزمه ان يحج بنفسه-

قلنا قال ابو حنيفة ان اشتراط الصوم للاعتكاف ثبت بالنص كما ذكرنا فكان القياس ان لا يتادى الاعتكاف المنذور في رمضان أصلا لانه إذا وجب الاعتكاف بالنذر وجب الصوم مقصودا ايضا شرطا له و الصوم المنذور مقصودا لا يتادى في رمضان لكون الوقت مشغولا بحق اللّه تعالى فلا يتأدى

(١) و في الأصل سلمان القاري و هو تصحيف- الفقير الدهلوي-.

(٢) و في الأصل رمضانا آخر.

الاعتكاف ايضا- لكنا جوزنا الاعتكاف في رمضان ضرورة ادراك فضل الوقت- فاذا فات عنه فضل الوقت عاد الحكم الى الأصل و وجب الصوم للاعتكاف مقصودا- ثم إذا أدرك رمضان من قابل لا يسقط ما وجب مقصودا فلا يتادى ذلك الاعتكاف في رمضان اخر أصلا للزوم الصوم المقصود و اللّه اعلم و لاجل ذلك لا يجوز عند ابى حنيفة و صاحبيه ان يقضى اعتكاف رمضان في رمضان اخر لكن لو لم يصم في رمضان و لم يعتكف جاز ان يعتكف في صيام القضاء و كان مقتضى القياس على ما ذكرنا ان لا يتادى بعد رمضان الا بصوم مقصود لفوات فضل الوقت و اللّه اعلم و ما ذكرنا من قول ابى حنيفة مبنى على اشتراط الصوم للاعتكاف عنده فمن لم يقل باشتراط الصوم جاز عنده ان يقضى بعد رمضان بلا صوم- او في رمضان اخر ان أدرك او في صيام القضاء او الكفارة او غير ذلك ثم إذا قضى بعد رمضان بلا صوم او بصوم ثم أدرك رمضان اخر لا تجب عليه الا عادة كمن فاته صلوة وقتية و هو واجد للماء فقضاه بعد الوقت بالتيمم ثم وجد الماء او صلى عاريا ثم وجد الثوب

(مسئلة) من نذر بطاعة في حالة الكفر ثم اسلم قال مالك و احمد يجب عليه الوفاء لما مر من ان عمر بن الخطاب نذر في الجاهلية بالاعتكاف فسال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال أوف بنذرك- و قال ابو حنيفة و الشافعي لا يجب عليه الوفاء لان الكافر ليس أهلا للطاعة و طاعته معصية لعدم الإخلاص و النذر بالمعصية لا يجب الوفاء به- و إذا علمنا من ضرورات الدين ان الكافر ليس أهلا للعبادة نحمل حديث عمر طى ان إيفاء النذر و ان لم يكن واجبا عليه لكنه لمّا رغب في الاعتكاف بعد الإسلام امره النبي صلى اللّه عليه و سلم بذلك ابتداء لا قضاء لما كان واجبا عليه

(مسئلة) من نذر بطاعة ثم ارتد (و العياذ باللّه منه) ثم اسلم لا يلزمه موجب النذر عند ابى حنيفة رحمه اللّه لان نفس النذر بالقربة قربة فيبطل بالردة كسائر القرب فلا يترتب عليه موجبه

(مسئلة) من نذر صوم الابد فضعف عن الصوم لاشتغاله بالمعيشة له ان يفطر و يعلم لكل يوم نصف صاع من بر كذا في الفتاوى الكبرى و كذا قال ابن همام و قال فان لم يقدر على الإطعام لعسرته يستغفر اللّه و يستقيله- و الفتوى على انه من نذر بصوم الابد ان شاء صام و ان شاء كفر كذا في فتاوى الحجة- و كذا الخلاف فيمن نذر اى نذر يشق عليه و لم يطق- و الحجة على اجزاء الكفارة قوله صلى اللّه عليه و سلم من نذر نذر الا يطيقه فكفارته كفارة يمين و قد مر فيما سبق من حديث ابن عباس-

(مسئلة) من نذر عشر حجج او مائة حجة اختلف فيه هل يلزمه كلها فيلزمه الإيصاء بها او يلزمه قدر ما عاش ففى الخلاصة نص على لزوم الكل و ذكر غيره عن ابى يوسف و محمد الثاني و اختاره السرخسي- و لو قال عشر حجج في هذه السنة لزمه عشر في عشر سنين على رواية اختارها السرخسي و لزمه الكل في الحال على رواية الخلاصة- فان أحج عنه عشرة رجال أجزأه ان مات قبل ادراك السنين و ان بقي حيّا فكلّما أدرك وقت الحج من كل سنة يجب عليه ان يحج بنفسه و يبطل حينئذ احجاج غيره عنه لانه قدر بنفسه فظهر عدم صحة احجاجهم فان لم يطق ان يحج كل سنة فالخلاف في اجزاء الكفارة ما سبق و اللّه اعلم

(مسئلة) من قال انا أحج لا حج عليه لانه وعد و ليس بنذر لكن يندب الوفاء بالوعد مسئلة ان قال ان ما فانى اللّه من مرضى فعلى ان أحج لزمه حج غير حجة الإسلام فاذا حج و لم ينو شيئا وقع عن حجة الإسلام ثم إذا حج في السنة الثانية و لا نية له فقيل هى تطوع و لا بد للمنذور من تعيين النية- مسئلة من قال على حجة ان شاء فلان لزمه ان شاء فلان و لا يقتصر مشيته على مجلس بلوغه الخبر- بخلاف تعليق الطلاق بمشيته لان الطلاق يقبل التمليك و التمليك يستدعى جوابا في المجلس و هذا شرط محض

(مسئلة) من نذر ان يتصدق بجميع ماله لزمه التصدق بجميع ما يجب فيه الزكوة استحسانا لان إيجاب العبد معتبر بايجاب اللّه تعالى- فيصرف إيجابه الى إيجاب ما أوجب الشرع فيه الصدقة من المال- و لان الظاهر التزام الصدقة من فاضل ماله و هو مال الزكوة بخلاف الوصية فانها تقع في حالة الاستغناء- و من نذر ان يتصدق بملكه لزمه ان يتصدق بالجميع عند ابى حنيفة و صاحبيه كذا في الهداية- و قال احمد و زفر و الشافعي يجب التصدق بالجميع في الصورتين- و قال مالك يلزمه في الصورتين ان يتصدق بثلث ما يملكه لحديث ابى لبابه انه قال النبي صلى اللّه عليه و سلم ان من توبتى ان اهجر دار قومى الّتي أصبت فيها الذنب و ان انخلع من مالى كله صدقة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يجزى عنك الثلث- رواه رزين-

قلنا هذا الحديث لا دلالة له على انه كان نذر يتصدق جميع ماله بل أراد الصدقة فاشار اليه النبي صلى اللّه عليه و سلم ان يتصدق بالثلث كيلا يفوت حقوق الناس الّتي عليه الا ترى ان النبي صلى اللّه عليه و سلم لم يذكر الثلث في حديث كعب بن مالك رواه الشيخان في الصحيحين انه قال قلت يا رسول اللّه ان من توبتى ان انخلع من مالى صدقة الى اللّه و الى رسوله- فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم امسك بعض مالك فهو خير لك قال قلت فانى امسك سهمى الّذي بخيبر مسئلة لو قال مالى صدقة في المساكين لا يدخل ماله ديون على الناس مسئلة من نذر ان يتصدق بجميع ما هو ملكه في الحال و ما يملكه في الاستقبال يمسك نفقة نفسه و زوجته و من وجب عليه نفقته كما ان من نذر بصوم الابد لا يجب عليه الفدية بدلا من صوم رمضان لانه مشغول بحق الغير- فمن شق عليه ذلك كفّر على ما ذكرنا فيمن شق عليه المنذور

(مسئلة) من قال للّه علىّ ان اذبح شاة او بقرة او بعيرا او قال ان شفى مريضى فعلىّ ان اذبح يجب عليه ذلك حالا في التنجيز و عند وجود الشرط في التعليق و جاز له ان يذبح حيث شاء و يتصدق بلحمه على الفقراء و في نوادر ابن سماعة لا شي ء عليه ان قال للّه علىّ ان اذبح و لم يقل صدقة-

قلنا انه التزم بمال من جنسه واجب الا ان يقصد نفس الذبح- و لو قال للّه علىّ هدى يجب عليه ما يجزى في الاضحية من الضأن و المعز او الإبل او البقر الا ان ينوى بعيرا او بقرة فليزمه ذلك و ان لا يذبح الا في الحرم- فان كان في ايام النحر فالسنة ان يذبح بمنى و الا ففى مكة- و جاز له ان يذبح حيث شاء من ارض الحرم- و لو قال علىّ ان اهدى جزورا تعيّن الإبل و الحرم- و لو قال علىّ جزورا و لم يذكر الهدى جاز في غير الحرم-

و لو قال بدنة و لم يذكر الهدى فعن ابى يوسف انه يتعين الحرم لان اسم البدن لا يذكر في مشهور الاستعمال الا في معنى المهداة و لو صرح بالهدى يتعين بالحرم فكذا البدنة- و عند ابى حنيفة في البدنة لا يشترط الحرم الا ان يزيد فيقول بدنة من شعائر اللّه- فاذا ذبح الهدى في الحرم يتصدق بلحمه على مساكين الحرم و ان تصدق على غيرهم جاز ايضا و هل يجوز التصدق بالقيمة في الحرم في نذر الهدى- ففى رواية ابى سليمان يجوز ان يهدى قيمتها اعتبار بالزكاة- و في رواية ابى حفص لا يجوز لان في اسم الهدى زيادة على مجرد اسم الشاة و هو الذبح فالقرية فيه يتعلق بالذبح- ثم التصدق بعد ذلك تبع بخلاف الزكوة فان القربة فيه التصدق بالشاة و هو ثابت في القيمة-

(مسئلة) من نذر شاة و اهدى مكانها جزورا فقد احسن- و ليس هذا من القيمة لثبوت الاراقة في البدل الأعلى كالاصل- و لو قال اللّه علىّ ان اهدى شاتين فاهدى شاة تساوى اربع شياه في القيمة لم يجزه الا من شاة واحدة مسئلة لو قال للّه علىّ ان اهدى هذه الشاة لزمته فان سرقت او ماتت لا يلزم غيرها- و كذا لو قال للّه علىّ ان أتصدق بهذه الدراهم فهلكت قبل ان يتصدق بها لم يلزمه شي ء غيرها و لو لم تهلك و تصدق بمثلها جاز- و لو نذر ان يتصدق بخبز كذا فتصدق بقيمته جاز مسئلة و لو قال للّه علىّ ان اهدى ثوبا فاعطاه لحجبة البيت جاز ان كانوا فقراء و الا فلا- و لو جعل الثوب لباسا للبيت لم يجزه

(مسئلة) قوله هذه الشاة هدى الى البيت او الى مكة او الى الكعبة فوجب و الى الحرم او الى المسجد الحرام غير موجب عنده و موجب عندهما و الى الصفا غير موجب اتفاقا-

فان قيل مجرد ذكر الهدى موجب فزيادة ذكر الحرم او الصفاء لا يرفع الوجوب بعد الثبوت

قلنا إذا ذكر الهدى مطلقا يعتبر هناك ذكر البيت او مكة مقدرا فيوجب و إذا نص على المسجد او الحرم تعذر الإضمار فلا يوجب مسئلة لو قال ثوبى هذا ستر للبيت او اضرب به حطيم البيت يلزمه استحسانا لانه يراد بهذا اللفظ هدية عرفا مسئلة من قال ان اشتريت هذه الشاة (و أشار الى شاة مملوكة لغيره) فعلىّ ان اهدى الى الكعبة قال الشافعي لا يلزمه الوفاء لان التعليق عنده يمنع الحكم دون السبب عن الانعقاد- فعند انعقاد السبب الشاة مملوكة لغيره فيلغو النذر بها لقوله صلى اللّه عليه و سلم لا نذر فيما لا يملكه ابن آدم- و عند ابى حنيفة يلزم لان التعليق عنده يمنغ السبب عن الانعقاد و انما ينعقد بعد وجود الشرط يعنى بعد الشراء فلا يلغوا

(مسئلة) من قال للّه علىّ ان اذبح نفسى او ولدي او عبدى يلزمه شاة استحسانا عند ابى حنيفة رحمه اللّه و لو كان له أولاد لزمه زمان مكان كل واحد شاة و عند محمد يلزمه الشاة في الولد دون العبد و النفس و عند ابى يوسف لا يلزمه شي ء في واحد منها و هو القياس لانه نذر بالمعصية- وجه الاستحسان ان اللّه سبحانه أوجب شاة بدلا من اسمعيل عليه السلام حين وجب على ابراهيم ذبحه- و لمّا كان قتل النفس او الولد حقيقة مهجورا شرعا لكونه معصية جعلنا إيجابه على نفسه مجازا عن إيجاب بدله عليه- كذا روى عن محمد بن المنتشر انه قال ان رجلا نذر ان ينحر نفسه ان نجاه اللّه من عدوه فسأل ابن عباس فقال سل مسروقا فساله فقال له لا تنحر نفسك فانّك ان كنت مومنا قتلت نفسا مومنة و ان كنت كافرا تعجلت الى النار فاشتر كيشا فاذبحه للمساكين فان اسحق خير منك فدى بكبش- فاخبر ابن عباس فقال هكذا كنت أردت ان أفتيك رواه ابن رزين مسئلة من قال كل منفعة تصل الى من مالك فعلىّ ان أتصدق بها لزمه ان يتصدق بكل ما ملكه- لا بما اباحه له كطعام اذن ان يأكله مسئلة لو قال ان فعلت كذا فكل ما أكلت فعلىّ ان أتصدق فعليه عند وجود الشرط بكل لقمة درهم لان كل لقمة أكلة و لو قال كلما شربت فانما يلزمه بكل نفس لا بكل مصة

(مسئلة) من قال للّه علىّ ان أصوم اليوم الّذي يقدم فيه زيد شكر اللّه و أراد به اليمين فقدم فلان في يوم رمضان- كان عليه كفارة يمين و لا قضاء عليه لانه لم يوجد شرط البر و هو الصوم بنية الشكر- و لو قدم قبل ان ينوى الصوم فنوى به الشكر لا عن رمضان برّ بالنية و أجزأه عن رمضان و لا قضاء عليه- و ان لم يرد به اليمين لا شى عليه لان رمضان مشغول بحق اللّه تعالى فلا يجب فيه صوم النذر مسئلة إذا نذر المريض صوم شهر و مات قبل الصحة لا شي ء عليه مسئلة من نذر صوم هذا اليوم او يوم كذا من شهر او سنة لزمه ما تكرر في الشهر و السنة مسئلة و لو نذر صوم يوم الاثنين و الخميس فصام ذلك مرة كفاه الا ان ينوى الابد مسئلة النذر إذا جرى على لسانه بغير قصد لزمه الوفاء لانه إنشاء قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثلاث جدهن جد و هزلهن جد و قد مرّ مسئلة من قال اللّه علىّ صوم هذه السنة قيل لزمه ان يصوم اثنى عشر شهرا من وقت النذر- و في فتاوى قاضى خان و الخلاصة ان السنة مبداها المحرم و آخرها ذو الحجة فاذا أشار الى السنة الّتي هو فيها لزمه صوم ما بقي من السنة الى اخر ذى الحجة و يلغو في حق ما مضى كما يلغو قوله للّه علىّ ان أصوم أمس- و كذا من قال للّه علىّ صوم هذا الشهر لزمه صوم ما بقي من الشهر الّذي هو فيه مسئلة من قال للّه علىّ صوم أمس اليوم او اليوم أمس لزمه صوم اليوم و لا يلزمه قضاء أمس مسئلة من نذر صوم السنة يجب عليه ان يفطر الأيام المنهية- و كذا المرأة تفطر ايام حيضها و تقضى «١»- و قال زفر لاقضاء عليه و عليها- فان صامها «٢» اثم و سقط عنه القضاء مسئلة من قالت للّه علىّ ان أصوم ايام حيضتى لا يصح النذر و لا يجب عليها القضاء لانها اضافت الى وقت غير صالح للصوم كمن قال علىّ ان أصوم ليلة كذا وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩)

قال البغوي قال ابن عباس و الزبير و مجاهد و قتادة سمى عتيقا لان اللّه تعالى اعتقه من أيدي الجبابرة الى تخريبه فلم يظهر عليه جبار قط- اخرج الترمذي و حسّنه عن ابن الزبير قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انما سمى البيت العتيق لانه لم يظهر عليه جبار لكن يردّ هذا القول حديث ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة- متفق عليه- و حديث ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال كانى به اسود ا فحج يقلعها حجرا حجرا- رواه البخاري و حديث عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اتركوا الحبشة ما تركوكم فانه لا يستخرج كنز الكعبة الا ذو السويقتين من الحبشة رواه ابو داود و الحاكم و صححه- فان هذه الأحاديث تدل على تسلط جبار عليه في المستقبل- و ذلك ينافى كونه عتيقا بهذا المعنى- و قيل سمى عتيقا لان اللّه اعتقه من الغرق فانه رفع ايام الطوفان- و قال ابن زيد و الحسن سمى عتيقا لانه قديم و هو اوّل بيت وضع للنّاس يقال دينار عتيق اى قديم و قيل العتيق بمعنى الكريم يقال عتاق الخيل لكرامها- و عتق الرقيق خروجه من ذلّ العبودية الى كرم الحرية- و المختار عندى قول سفيان بن عيينة انه سمى عتيقا لانه غير مملوك لبشر و لم يملك قط بل لم يملك ما حوله من الحرم سواء العاكف فيه و الباد- اعلم ان الطواف بالبيت عبادة معقولة مقصودة كالصلوة- منها ما هو فريضة ركن للحج و العمرة و منها ما هو واجب كطواف القدوم و الصدر على ما نذكر فيه من الاختلاف

(١) و كذا يقضيان الأيام المنهية إذا أفطرا ١٢ الفقير الدهلوي.

(٢) الاولى فان صاماها لذا. الفقير الدهلوي.

و ما سوى ذلك تطوع غير موقت بوقت- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يا بنى عبد مناف من ولى منكم في امور الناس شيئا فلا يمنعن أحدا طاف بالبيت و صلى أيّة ساعة شاء من ليل او نهار رواه الشافعي و احمد و اصحاب السنن و ابن خزيمة و ابن حبان و الدار قطنى و الحاكم من حديث ابى الزبير عن عبد اللّه بن باباه عن جبير بن مطعم و صححه الترمذي و رواه الدار قطنى من وجهين آخرين عن نافع بن جبير عن أبيه و من طريقين آخرين عن جابر و هو معلول و رواه الدار قطنى ايضا عن ابن عباس و رواه ابو ن عيم في تاريخ أصبهان و الخطيب في التلخيص من طريق عامر بن عبيدة عن ابى الزبير عن على بن عبد اللّه بن عباس عن أبيه و هو معلول و رواه ابن عدى من طريق سعيد بن راشد عن عطاء عن ابى هريرة

(مسئلة) و طواف التطوع يكون واجبا بالنذر كالصلوة- و المراد بهذه الاية طواف الزيارة في الحج اجماعا و هو ركن من اركان الحج اجماعا- و ليس «١» شي ء من الاطوفة ركنا من الحج سوى طواف الزيارة مسئلة و اما طواف القدوم فهو سنة عند ابى حنيفة و الشافعي و احمد- و عند مالك واجب و به قال ابو الثور من الشافعية يجب الدم بتركه و لا يفوت بفواته الحج اجماعا- عن عروة بن الزبير قال قد حج النبي صلى اللّه عليه و سلم فاخبرتنى عائشة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم أول شي ء بدأبه حين قدم مكة انه توضأ ثم طاف بالبيت ثم لم يكن عمرة ثم حج أبو بكر فكان أول شي ء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم عمر ثم عثمان مثل ذلك- متفق عليه و عن ابن عمر قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا طاق في الحج و العمرة أول ما يقدم اسبعى ثلاثة أطوف و مشى اربعة ثم سجد سجدتين ثم يطوف بين الصفا و المروة متفق عليه- احتج مالك بحديث عروة بن الزبير على ان النبي صلى اللّه عليه و سلم كان مفردا بالحج لقوله ثم لم يكن عمرة و على وجوب طواف القدوم- بالحديثين المذكورين لانه صلى اللّه عليه و سلم أول ما قدم طاف طواف القدوم- و قد صح عنه صلى اللّه عليه و سلم انه قال خذوا عنى مناسككم فصار واجبا- و بأن السعى بين الصفا و المروة جائز بعد طواف القدوم اجماعا مع ان السعى بين الصفا و المروة واجب اجماعا- و تقدم الطواف على السعى شرط الجواز السعى اجماعا و الواجب لا يتبع التطوع- و لهذا لا يجوز لملكى ان يسعى بين الصفا و المروة الا بعد طواف الزيارة- إذ ليس عليه طواف القدوم و لا يجوز له السعى بعد طواف ناف فان قلت قد دل كثير من الأحاديث الصحيحة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم كان قارنا لحديث

(١) فى الأصل ل؟؟؟ إلخ الفقير الدهلوي.

انس قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يلبى بالحج و العمرة يقول لبيك عمرة و حجّا متفق عليه و حديث عمران بن حصين انه صلى اللّه عليه و سلم جمع بين حجته و عمرته- و حديث ابن عمر قال تمتع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في حجة الوداع بالعمرة الى الحج و هدى فساق معه الهدى الحديث- متفق عليه و بهذا الحديث و نحوه قال احمد بن حنبل انه صلى اللّه عليه و سلم كان متمتعا-

قلنا المراد بالتمتع في هذا الحديث هو القران- فان التمتع بالعمرة الى الحج يشتمل لغة من اتى بهما جميعا في عام واحد في أشهر الحج سواء اتى بهما بإحرام واحد او بإحرامين كما أريد بقوله تعالى فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ- و اطلاق التمتع على ما يقابل القران اصطلاح جديد للفقهاء- و ما ذكرنا من الحديثين و غيرهما صريحة في انه صلى اللّه عليه و سلم اهل بهما جميعا- ثم اختلف الناس انه صلى اللّه عليه و سلم حين دخل المكة هل طاف طوافا واحدا- أم طاف طوافين أحدهما للقدوم و ثانيهما للعمرة- فالجمهور على انه صلى اللّه عليه و سلم انه أطاف حين قدومه طوافا واحدا و قال ابو حنيفة طاف طوافين احتج الجمهور بما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال قدم النبي صلى اللّه عليه و سلم مكة و طاف و سعى بين الصفا و المروة و لم يقرب الكعبة لطوافه بها حتى رجع من عرفة و حديث ابن عمر انه أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير فقيل ان الناس كائن بينهم و انا لخاف ان يصدون- فقال لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ اذن اصنع كما صنع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انى أشهدكم انى قد أوجبت عمرة- ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء فقال ما شأن الحج و العمرة الا واحدا أشهدكم انى أوجبت حجا مع عمرتى و اهدى هديا اشتراه بقديد- فلم ينحر و لم يحل من شي ء يحرم منه و لم يحلق و لم يقصر حتى كان يوم النحر فنحر و حلق و راى انه قد قضى الحج و العمرة بطوافه الاول قال ابن عمرو كذلك فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم متفق عليه و في رواية قال الراوي في اخر الحديث كان يقول ابن عمر من جمع بين الحج و العمرة كفاه طواف واحد لم يحل حتى يحل منهما جميعا- و في رواية لمسام حتى إذا جاء البيت فطاف سبعا و سعى بين الصفا و المروة سبعا لم يزد عليه و راى انه مجزى عنه-

و احتجت الحنفية بحديث علىّ انه جمع بين الحج و العمرة فطاف لهما طوافين و سعى لهما سعيين و قال هكذا رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فعل- رواه الدار قطنى و النسائي بطرق و رواه محمد في كتاب الآثار عن ابى حنيفة بسنده عن على موقوفا انه قال إذا أهللت بالحج و العمرة فطف لهما طوافين و اسبع لهما سعيين بين الصفا و المروة- و روى الطحاوي بسنده عن على و ابن مسعود قال القارن يطوف طوافين و يسعى سعيين قال الحافظ ما روى عن علىّ و ابن مسعود طرقه ضعيفة مرفوعا- لكن روى الطحاوي و غيره موقوفا عن علىّ و ابن مسعود بأسانيد لا بأس بها إذا اجتمعت-

قلت هذا الحديث لو ثبت لا يدل على انه صلى اللّه عليه و سلم طاف حين قدومه بمكة قبل رواحه الى منى طوافين طوافا للعمرة و طوافا للقدوم بل معنى هذا الحديث انه صلى اللّه عليه و سلم طاف لعمرته و سعى لها و ذلك قبل رواحه الى منى و طاف للحج يوم النحر و سعى له- و كذا معنى حديث عمران بن حصين ان النبي صلى اللّه عليه و سلم طاف طوافين و سعى سعين رواه الدار قطنى و لم يرو عنه صلى اللّه عليه و سلم في شي ء من الأحاديث الصحيحة و لا الضعيفة انه طاف للقدوم بعد طواف حمرته الا ما في مسند ابى حنيفة عن الضبي بن معبد قال أقبلت من الجزيرة حاجّا قارنا فمررت بسليمان بن ربيعة و زيد بن صوحان فسمعانى أقول لبيك بحجة و عمرة معا فقال أحدهما هذا اضلّ من بعيره و قال الاخر هذا أضل من كذا و كذا- فمضيت حتى قضيت نسكى و مررت بامير المؤمنين عمر فساقه الى ان قال فيه- قال يعنى عمر له فصنعت ماذا قال مضيت فطفت طوافا لعمرتى و سعيت لعمرتى ثم عدت ففعلت مثل ذلك لحجى ثم بقيت حراما ما أقمنا اصنع كما يصنع الحاج حتى قضيت اخر نسكى- قال هديت لسنة نبيك صلى اللّه عليه و سلم- و مسند الامام ابى حنيفة بين جامعه و بين الامام رجال لا يعرف حالهم فاحاديث المسند لا يصلح ان يعارض ما في صحيح البخاري من حديث ابن عباس انه لم يقرب بطوافه بها حتى رجع من عرفة و اللّه اعلم و لما ثبت ان النبي صلى اللّه عليه و سلم كان قارنا و لم يطف حين قدومه سوى طواف العمرة- ظهر ان طواف القدوم ليس ركنا من اركان الحج و لا واجبا مستقلّا برأسه بل هو سنة مثل ركعتى تحية المسجد يتادى في ضمن واجب او سنة اخر- الا ترى انه من اتى المسجد و صلى فريضة او سنة موكدة حين دخول المسجد اجزأته عن تحية المسجد فالنبى صلى اللّه عليه و سلم لما قدم مكة و طاف للعمرة اجزأته عن طواف القدوم-

(مسئلة) و اما طواف الصدر فهو ايضا ليس بركن اجماعا بل هو واجب عند ابى حنيفة و احمد و هى رواية عن الشافعي لكن عند ابى حنيفة رحمه اللّه هو من واجبات الحج- فمن طاف للوداع ثم اتفق له المقام بمكة ثم خرج بعد زمان لا يجب عليه الا عادة- و قال محمد هو واجب برأسه على من يريد ان يخرج من مكة مسافرا ففى الصورة المذكورة يجب عليه إعادة الطواف عنده و سنة عند مالك و هو أحد قولى الشافعي و يسقط بعذر الحيض و الإحصار اجماعا- لنا حديث ابن عباس قال كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال النبي صلى اللّه عليه لا ينفر أحد حتى يكون اخر عهده بالبيت رواه احمد و رواه الدار قطنى بلفظ كان الناس ينفرون من منى الى وجوههم فامرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان يكون اخر عهدهم بالبيت و رخص الحائض و رواه مسلم بلفظ لا ينفر أحدكم حتى يكون اخر عهده بالبيت- و في المتفق عليه بلفظ امر الناس ان يكون اخر عهدهم بالبيت الا انه خفف عن الحائض و حديث ابن عمر قال من حج البيت فليكن اخر عهده بالبيت الطواف الا الحيض رخص لهنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- رواه الترمذي و قال هذا حديث حسن صحيح و حديث عبد اللّه بن أوس قال سمعت النبي صلى اللّه عليه و سلم يقول من حج هذا البيت او اعتمر فليكن اخر عهده بالبيت- رواه الترمذي احتج ابو حنيفة بهذا الحديث انه من واجبات الحج لقوله صلى اللّه عليه و سلم من حج البيت إلخ حيث جعل الطواف من واجبات الحج-

قلت فعلى هذا يلزم ان يكون من واجبات العمرة ايضا و لم يقل به أحد- و لاحمد عموم قوله صلى اللّه عليه و سلم لا ينفر أحد حتى يكون اخر عهده بالبيت و لا يلزم على اصل ابى حنيفة حمل المطلق على المقيد لكون التقييد داخلا على السبب كما في قوله صلى اللّه عليه و سلم أدوا عن كل حر و عبد و قوله عليه السلام أدوا عن كل حر وعيد من المسلمين- بل يقال النفور مطلقا سبب للطواف و النفور عن الحج ايضا سبب و لا منافاة بينهما و اللّه اعلم فصل و للطواف بالبيت شرائط و اركان و واجبات و سنن و آداب اما الشرائط فمنها النية فانها شرط لكل عبادة مقصودة بالنصوص و الإجماع لكن يكفى لطواف الزيارة نية مطلق الطواف و لا يشترط تعين نية الفرض-

فان قيل طواف الزيارة ركن من اركان الحج كالوقوف بعرفة و ليست النية شرطا للوقوف حتى من وقف بعرفة نائما او مغى عليه او وقف على جبال و لم يعرف اىّ منها العرفة يجزيه- قال عروة بن مضرس جئت يا رسول اللّه من جبل طي ء أكللت مطيتى و أتعبت نفسى و اللّه ما تركت من جبل الا وقفت عليه فهل لى من حج فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من أدرك معنا لهذه الصلاة يعنى صلوة الصبح بجمع و اتى عرفات قبل ذلك ليلا او نهارا فقد تم حجه و قضى تفثه- رواه ابو داود و غيره فما وجه الفرق بين الطواف و الوقوف- ثم ان كانت شرطا فما وجه قولكم يكفيه نية مطلق الطواف و لا يشترط نية تعين الفرض مع ان تعين النية شرط لكل فريضة وقتها ظرف لها و ليس بمعيار كالصلوة-

قلنا تحقيق المقام ان النية بجميع المناسك قد اقترن بالإحرام في ضمن نية الحج- فما لم يعترض نية أخرى منافية لنية النسك يعتبر ذلك النية السابقة موجودة عند كل ركن و لا يشترط تجديدها كما في افعال الصلاة- الا انه ما كان من المناسك عبادة مستقلة كالطواف و ركعتى الطواف و يشترط تجديد مطلق النية عند شروعه لان الصلاة و الطواف لكل منهما جهتان عبادة في نفسه و جزء عبادة- فمن حيث انه عبادة في نفسه لا بد فيه من اقتران النية باول جزء من اجزائه- و من حيث انه جزء عبادة يكفيه النية السابقة المقترنة للاحرام- فعملنا بالشبهين و

قلنا لا بد فيه مطلق النية عند الشروع لانه عبادة و لا يشترط تعيين النية لانه جزء من عبادة- و ما ليس بعبادة الا من حيث كونه جزء للحج كالوقوف بعرفة و السعى بين الصفا و المروة فقلنا انه لا يشترط اقتران النية به بل يكفيه اقتران النية بالإحرام

(مسئلة) من طاف حاملا غيره فان كان الحامل حلالا و المحمول محرما و نوى طواف المحمول و نوى المحمول طوافه او كان على العكس و نوى الحامل طواف نفسه أجزأه اجماعا- و ان كان محرمين فان قصد للمحمول ففط فله و ان طاف لنفسه فلنفسه و ان طاف لهما فللحامل فقط عند الشافعي و عند ابى حنيفة ان طاف لنفسه أولهما و نوى المحمول طواف نفسه يتادى طوافهما لوجود النية منهما و لا منافاة بينهما

(مسئلة) و منها الطهارة عن الحدث الأكبر و الأصغر- و منها طهارة البدن و الثوب و المكان عن الأحداث- و منها ستر العورة عند الجمهور لما مر من حديث عائشة قالت أول شي ء بدا به حين قدم النبي صلى اللّه عليه و سلم انه توضاء ثم طاف مع قوله صلى اللّه عليه و سلم خذوا عنى مناسككم و في الصحيحين عن عائشة قالت قدمت مكة و انا حائض- الى قوله صلى اللّه عليه و سلم افعلي كما يفعل الحاج غير ان لا تطوفى بالبيت حتى تطهرى و في رواية لمسلم حتى تغتسلى و عن عائشة قالت حاضت صفية ليلة النفر و فيه قال النبي صلى اللّه عليه و سلم أطافت يوم النحر قيل نعم قال فانفرى- متفق عليه و في الصحيحين عن ابى هريرة ان أبا بكر الصديق بعثه في الحجة الّتي امّره عليها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذّن في الناس ان لا يحج بعد العام مشرك و لا يطوف بالبيت عريان- و لقوله تعالى طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ الاية فانه امر بتطهير المكان عبارة و بتطهير الثوب و البدن دلالة بالطريق الاولى و كذا بالتطهير عن الأحداث بالطريق الاولى إذا الاخباث أخف من الأحداث شرعا حيث يجوز الصلاة مع النجاسة عند الضرورة بخلاف الحدث- قال ابن عباس قال اللّه تعالى لنبيه طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ فالطواف قيل قبل الصلاة و قد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الطواف بمنزلة الصلاة الا ان اللّه قد احلّ فيه النطق فمن نطق فلا ينطق الا بخير- رواه الحاكم في المستدرك و صححه و الطبراني و البيهقي و روى ابو نعيم في الحلية المرفوع فقط و روى الترمذي و الحاكم و الدار قطنى و ابن خزيمة و ابن حبان و البيهقي و صححه ابن السكن قوله صلى اللّه عليه و سلم الطواف بالبيت صلوة الا ان اللّه أباح فيه الكلام- و عند ابى حنيفة رحمه اللّه الطهارة عن الاخباث سنة و ستر العورة و الطهارة عن الأحداث واجب يا ثم بتركه و يجب بدنة ان طاف الفرض جنبا او عريانا و دم مطلقا- ان طاف للفرض محدثا او غيره جنبا او عريانا- و صدقة بنصف صاع من بر على مسكين ان طاف غير الفرض محدثا- و ليس شي ء من ذلك شرطا عنده لان ثابت بالكتاب مطلق الطواف و الزيادة على الكتاب في حكم النسخ عنده و لا يجوز نسخ الكتاب بأحاديث الآحاد فقال بالوجوب عملا بالأحاديث و لم يقل بالاشتراط لئلا يلزم نسخ الكتاب

(مسئلة) و من شرائط طواف الزيارة الوقت لا يتادى قبله و يقضى بعده اجماعا فان اخّر عن الوقت بتقصيره يجب عليه الدم عند ابى حنيفة رحمه اللّه خلافا للجمهور- و ان اخّر بعذر كالاحصار و الحيض و نحوهما لا يجب الدم- و وقته من طلوع الفجر يوم النصر عند ابى حنيفة رحمه اللّه و عند الائمة الثلاثة بعد نصف الليل من ليلة النحر لحديث عائشة قالت أرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فافاضت- رواه الدار قطنى و الحديث ضعيف لان في سنده ضحاك بن عثمان ليّنه القطان و معارض بحديث ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قدّم ضعفة اهله و قال لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس- رواه الترمذي و قال هذا الحديث صحيح و أخرجه ابو داود و النسائي و الطحاوي و ابن حبان من طريق الحسن الغربي و هو حديث حسن و أخرجه الترمذي و الطحاوي و له طرق اخر عند ابى داود و النسائي و الطحاوي و ابن حبان يقوى بعضها بعضا و ايضا الافاضة معطوفة في حديث عائشة على الرمي بكلمة ثم و الفاء فلا يدل تقدم الافاضة على طلوع الفجر- و اخر وقته عند ابى حنيفة الى غروب الشمس من ثانى ايام التشريق و قيل وقته يوم النحر خاصة- و قد ذكرنا في سورة البراءة في تفسير قوله تعالى وَ أَذانٌ مِنَ اللّه وَ رَسُولِهِ «١» إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ان عند الجمهور هو يوم النحر رواه ابو داود و الحاكم و صححه من حديث ابن عمر مرفوعا و هو المروي عن على - و روى بن جريج عن مجاهد يوم الحج الأكبر ايام منى كلها و كان الثوري يقول يوم الحج الأكبر ايام منى كلها مثل يوم صفين و يوم الجمل و يوم بعاث يراد به الحين من الزمان-

(مسئلة) و من شرائط الطواف الترتيب عند مالك و الشافعي و احمد و به قال محمد و هو ان يبتدى الطواف من الحجر الأسود يقوم مستقبلا بحيث يكون جميع الحجر عن يمينه فيطوف جاعلا للبيت عن يساره فلو طاف جاعلا للبيت عن يمينه لا يجوز و لو بدأ بغير الحجر لم يحتسب فاذا انتهى اليه ابتدأ منه- و قال ابو حنيفة الترتيب ليس بشرط

(١) و في الأصل و أذان من اللّه الى الناس إلخ- الفقير الدهلوي.

فعند اكثر الحنفية سنة يكره تركه و الصحيح انه واجب عند ابى حنيفة رحمه اللّه يلزم بتركه دم لمواظبة النبي صلى اللّه عليه و سلم على ذلك و قوله خذوا عنى مناسككم- و لم يقل بالاشتراط لئلا يلزم الزيادة على الكتاب-

(مسئلة) و يشترط ان يطوف في المسجد لا حول المسجد اجماعا للنقل المستفيض المتواتر كذلك قالوا من طاف حول المسجد لا يقال له انه طاف بالبيت بل يقال انه طاف بالمسجد فكان هذا القصر قصرا بدلالة العرف (فصل) و ركن الطواف سبعة أشواط

فان قيل الأمر لا يقتضى التكرار

قلنا كما لا يقتضى التكرار لا ينفيه و قد نقل إلينا بالنقل المستفيض عدد الطواف كعدد الركعات

(مسئلة) من طاف اربعة أشواط و ترك ثلاثة أجزأه عند ابى حنيفة و يلزمه الدم في طواف الزيارة و الصدقة في غيره لان للاكثر حكم الكل و يجبر النقصان بالدم و الصدقة و لا يجز به عند غيره كما لا يجزى من ترك ركعة من الظهر- فان عدد الأشواط كعدد الركعات و اللّه اعلم-

(مسئلة) الحطيم قطعة من البيت يج ب الطواف وراءه لحديث عائشة قالت سالت النبي صلى اللّه عليه و سلم عن الجدر آمن البيت هو قال نعم قلت فما لهم لم يدخلوه في البيت قال ان قومك قصرت لهم النفقة قلت فما شأن بابه مرتفعا قال فعل ذلك قومك يدخلها من شاء و او يمنع من شاءوا- لو لا ان قومك حديث عهدهم بالجاهلية فاخاف ان ينكر قلوبهم ان ادخل الجدر في البيت و ان الصق بابه بالأرض متفق عليه و روى الترمذي و النسائي عنها قالت كنت احبّ ان أصلي في البيت فاخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بيدي فادخلنى الحجر و قال صلّى فيه فانما هو قطعة من البيت الحديث- و روى ابو داؤد نحوه و اختار المحفقون ان بعض الحطيم من البيت و هو ستة ادرع و شي ء لما روى مسلم عن عائشة قوله صلى اللّه عليه و سلم لو لا قومك حديث عهد بالشرك لهدمت الكعبة و ألزقتها بالأرض و جعلت لها بابين بابا شرقيّا و بابا غربيّا و رددتّ فيها ستة اذرع من الحجر- و في رواية لمسلم علمى لاريبك ما تركوا مه فاراها قريبا من سبعة اذرع- و روى البخاري بسنده عن جرير بن حازم قال قال يزيد بن رومان شهدتّ ابن الزبير حين هدمه و بناه و ادخل فيه الحجر و قد رايت أساس ابراهيم حجارة كاسنمة الإبل فاشار الى مكان. قال جرير فخرزت من الحجر ستة اذرع او نحوها- و روى عن مجاهد ان ابن الزبير زاد فيه ستة اذرع مما يلى الحجر- و في رواية سنة اذرع و شبر-

(مسئلة) من طاف داخل الحطيم يجزيه عند ابى حنيفة و يلزمه دم لان كونه من البيت ثبت بحديث الآحاد فلا يجوز به الزيادة على الكتاب- و قال الجمهور لا يجزيه لان الزيادة على الكتاب بخبر الآحاد عندهم جائز-

قلت ليس هذا زيادة على الكتاب لان اللّه تعالى امر بالطواف بالبيت العتيق و اللام للعهد- و المراد البيت الّذي بناه ابراهيم كما يقتضيه سياق الاية من قوله تعالى و إذ بوّأنا لابراهيم مكان البيت- و إذا ثبت بدليل ظنى ان الحطيم قطعة من البيت فمن طاف داخل الحطيم وقع الشك في كونه مجزيا و قد وجب عليه طواف البيت قطعا فلا يخرج من العهدة بالشك- او يقال البيت الّذي بناه ابراهيم مجمل في حق المقدار التحق الحديث به بيانا

(مسئلة) جاز الطواف للزيارة راكبا بعذر اجماعا- و اما بغير عذر فالمشى في الطواف واجب عند ابى حنيفة- فمن طاف راكبا بلا عذر يجب عليه ان يعيد مادام بمكة فان لم يعد يجب عليه الدم- و قال الجمهور المشي سنة و ليس بواجب لحديث ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم طاف بالبيت و هو على بعيره كلما اتى الركن أشار اليه بشي ء في يده و كبر- متفق عليه و حديث جابر طاف النبي صلى اللّه عليه و سلم بالبيت و بالصفا و المروة ليراه الناس و ليشرف و ليسئلوه رواه مسلم و في حديث عائشة طاف النبي صلى اللّه عليه و سلم في حجة الوداع حول الكعبة على بعيره يستلم الركن كراهة ان يضرب عنه الناس قالت الحنفية كان ذلك لاجل المرض لما روى ابو داؤد عن ابن عباس انه صلى اللّه عليه و سلم قدم مكة و هو يشتكى فطاف على دابته كلّما اتى الركن استلم الركن بمحجنه فلمّا فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين- و أجيب بان مجرد الاحتمال لا يكفى و ما رواه ابو داود ضعيف لانه من رواية يزيد بن ابى زياد و هو ليس بالقوى لا يحتج بحديثه و قد أنكره الشافعي و قال لا اعلمه اشتكى في هذه الحبة قلت و لو كان قدوم النبي صلى اللّه عليه و سلم بمكة مشنكيا لكان شكواه مانعا من المشي في طواف القدوم ايضا- و قد صح عنه صلى اللّه عليه و سلم من حديث جابر و غيره انه صلى اللّه عليه و سلم طاف طواف القدوم فرمل ثلاثا و مشى أربعا- و صح عنه صلى اللّه عليه و سلم انه سعى بين الصفا و المروة و كان يدور إزاره من شدة السعى- فثبت انه صلى اللّه عليه و سلم انما طاف للزيارة راكبا لبيان الجواز و تعليم الناس مناسكهم و اما طواف النافلة فيجوز عند الجمهور بلا كراهة و لعله مكروه على اصل ابى حنيفة- لنا انه صلى اللّه عليه و سلم لما فتح ملة و طاف عند قدومه طاف على راحلته كما ذكرنا رواية البخاري في سورة الفتح-

(مسئلة) و الموالاة ليس بشرط في الطواف اجماعا بل هو سنة- روى سعيد بن منصور عن ابن عمر انه طاف بالبيت فاقيمت الصلاة فصلى مع القوم ثم قام فبنى على ما مضى من صوافه- و كذا روى عبد الرزاق عن عبد الرحمان بن ابى بكر و روى سعيد بن منصور عن عطاء انه كان يقول في الرجل يطوف بعض طوافه تم يحضر الجنازة فيخرج فيصلى عليها ثم يرجع فيقضى ما بقي من طوافه- و قال نافع طول القيام في الطواف بدعة و روى عن الحسن انه قال من أقيمت عليه الصلاة و هو في الطواف فقطعه انه يستانفه

(مسئلة) و يكره قطع طواف فريضة و ان أقيمت الصلاة المكتوبة- الا ترى الى حديث أم سلمة انها طافت للصدر و النبي صلى اللّه عليه و سلم يصلى الصبح

(مسئلة) يقطع الطواف النافلة لو أقيمت للفريضة او خاف فوت صلوة الجنازة او نحوها لا لعبادة نافلة و الاولى ان يقطع على الوتر لما ذكرنا من اثر عبد الرحمان بن ابى بكر

(مسئلة) يجب بعد كل أسبوع ركعتان عند ابى حنيفة و هو رواية عن مالك و أحد قولى الشافعي فيلزم بتركه دم- و قد ذكرنا المسألة و ما يتعلق بها فى تفسير قوله تعالى وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى في سورة البقرة- (فصل) و آداب الطواف انه إذا راى البيت كبر و هلل و دعا روى الطبراني ان الدعاء مستجاب عند رؤية الكعبة- ثم استقبل الحجر و كبر و هلل و قبّله لشفتيه ان عط قدر غير مؤذ- روى البخاري عن ابن عمر انه صلى اللّه عليه و سلم كان يستلمه و يقبّله و روى الشافعي مرفوعا وضع شفتيه عليه طويلا- و عند ابن ماجة وضع عليه شفتيه يبكى طويلا- و عند الحاكم قبّله و سجد «١» عليه- و ان عط لم يقدر يمس شيئا و قبله لما موّ انه صلى اللّه عليه و سلم طاف على بعيره يستلم الركن بمحجنه و ان عط عجز استقبله عن سعيد بن المسيب عن عمر انه صلى اللّه عليه و سلم قال له انك رجل قوى لا تزاحم على الحجر فتؤذى الضعيف ان وجدت خلوة فاستلمه و الا فاستقبله و كبر و هلل- رواه احمد-

(مسئلة) و إذا اتى الركن اليماني استلم عند الجمهور و عند ابى حنيفة استلام الركن اليماني مستحب ليس بسنة و في الصحيحين عن ابن عمر رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يستلمهما يعنى الحجر الأسود و الركن اليماني- و روى الدار قطنى مرفوعا كان يقبّل الركن اليماني و يضع عليه خده- و روى ابن ماجة عن ابى هريرة مرفوعا وكّل يعنى بالركن اليماني سبعون ملكا فمن قال اللّهمّ انى أسئلك العفو و العافية في الدنيا و الاخرة ربّنا اتنا في الدّنيا حسنة و في الاخرة حسنة و قنا عذاب النّار قالوا أمين

(مسئلة) و يرمل في الثلاثة الاول من أشواط طواف القدوم مضطبعا «٢» و هو سنة من الحجر الى الحجر صح عنه صلى اللّه عليه و سلم انه رمل من الحجر الى الحجر ثلاثا و مشى أربعا و كلما مرّ بالحجر و الركن فعل كما فعل أول مرة و ختم الطواف باستلام الحجر- كذا صح عنه صلى اللّه عليه و سلم ثم يصلى شفعا عند المقام و يقرا قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ و الإخلاص ثم يرجع فيستلم الحجر و يكبّر و يهلّل- روى مسلم في حديث جابر انه صلى اللّه عليه و سلم جعل المقام بينه و بين البيت و صلى ركعتين قرا فيهما قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ و قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ ثم رجع الى الركن الأسود فاستلمه

(١) عن ابن عباس قال رايت عمر بن الخطاب قبّل الحجر و سجد عليه ثم قال رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فعل هذا- منه رح.

(٢) و الاضطباع ان يدخل جانب ردائه الايمن تحت إبطه الايمن و يلقيه على كتفه اليسرى فتكون كتفه اليمنى مكشوفة- الفقير الدهلوي-.

٣٠

ذلك خبر مبتدا محذوف او مبتدا خبره محذوف- او فاعل لفعل محذوف او منصوب بفعل محذوف يعني الأمر ذلك او ذلك ثابت واجب الامتثال او وجب ذلك او عرفت ذلك او احفظ ذلك- و ذلك اشارة الى ما سبق من الاحكام و هو و أمثاله يطلق المفصل بين كلامين.

وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّه يعنى معاصى اللّه و منهى عنه و تعظيمها ان يشق عليه اقترابها- فان المؤمن يرى خطيئته صدرت منه كمثل حبل على رأسه يخاف ان يقع عليه- و ان المنافق يرى خطيئته كمثل ذباب على انفه فعل بيده هكذا فطارت كذا وقع في الحديث- و قال اللبث حرمات اللّه مالا يحل انتهاكها يعنى أوامر اللّه و نواهيه- و قال الزجاج الحرمة ما وحب القيام به و حرم التفريط فيه و ذهب قوم الى ان معنى حرمات اللّه المناسك- و قال ابن زيد الحرمات هاهنا البلد الحرام و البيت الحرام و الشهر الحرام فَهُوَ يعنى تعظيم الحرمات خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ثوابا و أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ تحريمه حيث قال حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ الاية يعنى فلم تحرمون منها البحيرة و السائبة و الوصيلة و الحامى- و هذه جملة معترضة فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ اى الرجس الّذي هو الأوثان سماه رجسا اى قذرا لان العقول و الطباع السليمة يتنفر عنها كما يتنفر المرء عن القاذورات- فهو غاية المبالغة في النهى عن تعظيمها و التنفير عن عبادتها- و قيل هو بمعنى الرجز و هو العذاب سماه رجسا لانه سبب للتعذيب وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) يعنى الكذب مشتق من الزّور بفتح الزاء بمعنى الانحراف كما ان الافك من الافك بمعنى الصرف- فان الكذب منحرف مصروف عن الواقع- و المراد هاهنا قولهم الملائكة بنات اللّه و الأوثان شفعاؤنا عند اللّه و قولهم في تلبيتهم لبّيك لا شريك لك الا شريكا تملكه و ما ملكه- و اللفظ عام يعم جميع انواع الكذب في الحكايات و المعاملات روى احمد و ابو داود و ابن ماجة و الطبراني و ابن المنذر و غيرهم عن خريم بن فاتك؟؟؟

الأسدي قال صلّى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صلوة الصبح فلما انصرف قام قائدا فقال عدلت شهادة الزور بالاشراك باللّه ثلاث مرات- ثم قرا فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ للّه غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ. قال قتادة كانوا في الشرك يحجون و يمنعون البنات و الأمهات و الأخوات و كانوا ليسمون أنفسهم حنفاء و الحليف عند العرب من كان على دين ابراهيم عليه السلام فنزلت هذه الاية يعنى اجتنبوا الشرك و قول الزور حتى تكونوا على دين ابراهيم.

٣١

حُنَفاءَ للّه اى مخلصين له الدين من الحنف محركة و هو الاستقامة كذا في القاموس و الاستقامة على الحق هو الإخلاص للّه و الاعراض عما سواه غَيْرَ مُشْرِكِينَ به في العبادة و لا في اثبات وجوب الوجود و الالوهية- يعنى من أشرك لا يكون حنيفا و لا على ابراهيم فانه لم يك من المشركين- قوله تعالى فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مع ما عطف عليه معلوف على قوله وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّه فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ متفرع عليه و هو خير لفظا لكنه امر معنى فان معناه عظموا حرمات و اجتنبوا الأوثان لان عبادة الأوثان من أعظم المحرمات و أشدها فعلا- و القول بما كان المشركون يقولونها ندبا أعظمها و أشدها قولا وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّه غيره فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ يعنى ان عبادة اللّه تعالى كمال و رفعة لا رفعة فوقه- فيوفوق كل شي ء كمن هو مستو على السماء فهو فوق كل شي ء في الحس و لا يعد له غيره في الارتفاع- ثم إذا عبد مع اللّه غيره من الممكنات فكانّما سقط من السماء الى الحضيض- إذ لا مذلّة فوق من اذلّ نفسه حتى عبد حمكنا مثله بل دونه من الحجارة و أمثالها فَتَخْطَفُهُ قرا نافع بفتح الخاء و شديد الطاء من التفعيل للمبالغة و الباقون بإسكان الخاء و تخفيف الظاء من المجرد الطَّيْرُ استعارة بالكناية أراد بالطير الاهوية المردية فانها تخطفه اى تسلبه و توزع أفكاره أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ استعارة مثله أراد بالريح الشيطان فانه يهوى و يطرح به فِي مَكانٍ من الضلالة سَحِيقٍ (٢١)

بعيد من الحق يعنى من أشرك استولى عليه النفس او الشيطان و كلمة او لمنع الخلو دون الجمع- و

قال البيضاوي او للتنويع فان من المشركين من لا خلاص له أصلا فكانما اختطفه الطير فلم يبق من جسده شي ء- و منهم من يمكن خلاصه بالتوبة كمن أوقعه الريح في مكان بعيد يمكن ان يأتى من هناك الى مأواه- و الظاهر انه من التشبيهات المركبة و المعنى انه من يشرك باللّه فهو كمن سقط من السماء فانه لا يملك لنفسه حيلة و يهلك لا محالة اما باستلاب الطيران و اما بسقوطه في مكان سحيق- قال الحسن شبه اعمال الكفار بهذا الحال في انها تذهب و تبطل فلا يقدرون على شي ء منها و عن البراء بن عازب في حديث طويل ذكرنا بعضه في سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ قوله صلى اللّه عليه و سلم في ذكر موت العبد الكافران الملائكة يصعدون بروحه حتى ينتهى بها الى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له ثم قرا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ الاية فيقول اللّه اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فيطرح روحه طرحا ثم قرا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّه فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ الاية.

٣٢

ذلِكَ تفسيره مثل ما سبق وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّه قال ابن عباس شعائر اللّه البدن و الهدى و أصلها من الاشعار و هو اعلامها ليعرف انها هدى و تعظيمها استسمانها- و قد صح انه صلى اللّه عليه و سلم اهدى مائة بدنة- و روى ابو داود ان عمر رضى اللّه عنه اهدى نجيبة طلبت منه بثلاث مائة دينار فَإِنَّها اى تعظيمها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) اى من افعال ذوى تقوى القلوب فحذف هذه المضافات- و ذكر القلوب لانها منشأ التقوى و الفجور و الآمرة بهما.

٣٣

لَكُمْ فِيها مَنافِعُ يعنى لكم في تلك الشعائر اى البدن و الهدى منافع يعنى جاز لكم الانتفاع بها بركوبها و الحمل عليها و شرب لبنها غير مضربها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى اى وقت معلوم يعنى الى ان تنحروها كذا قال عطاء بن رباح و به قال مالك و الشافعي و احمد و إسحاق انه جاز ركوب الهدى و الحمل عليها و شرب لبنها غير مضربها. و يؤيده حديث ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم راى رجلا يسوق بدنة فقال اركبها فقال انها بدنة قال اركبها قال انها بدنة قال اركبها و يلك في الثانية او الثالثة متفق عليه و حديث انس نحوه رواه البخاري و حديث ابن عمر رأى رجلا يسوق بدنة فقال اركبها و ما أنت مستنّ سنة أهدى من سنة محمد صلى اللّه عليه و سلم رواه الطحاوي و قال ابو حنيفة لا يجوز ركوبها و لا الحمل عليها و لا شرب لبنها الا لضرورة لانه لمّا جعلها كلها للّه تعالى فلا ينبغى ان يصرف منها شيئا لمنفعة نفسه و هذا المعنى يقتضى المنع مطلقا سواء كان به ضرورة اولا- و يؤيده قوله تعالى وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّه فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ و لا شك ان الركوب و الحمل ينافى التعظيم و الاستسمان لكن لما ثبت بالأحاديث جواز الركوب

قلنا بالجواز في حالة الضرورة حملا للاحاديث المذكورة على تلك الحالة كيلا يلزم ترك العمل بالسنة و يدل على اشتراط الضرورة ما روى الطحاوي بسندين عن حميد الطويل عن انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم راى رجلا يسوق بدنة و قد جهد قال اركبها قال يا رسول اللّه انها بدنة قال اركبها و في رواية قال اركبها و ان كانت- و روى ايضا عن ابن عمر انه كان يقول في الرجل إذا ساق بدنة فاعيى ركبها و ما أنتم بمستن سنة هى اهدى من سنة محمّد صلى اللّه عليه و سلم و روى مسلم عن ابى الزبير قال سمعت جابر بن عبد اللّه يسئل عن ركوب البدن قال سمعت النبي صلى اللّه عليه و سلم يقول اركبها بالمعروف إذا الجأت إليها حتى تجد ظهرا- و المراد بالمنافع في الاية عندنا دفع الضرورة عند الإلجاء

و قال مجاهد و قتادة و الضحاك معنى الاية لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى اى الى ان تسميها و توجبها «١» هديا فاذا فعل ذلك لم يكن شي ء من منافعها ثُمَّ مَحِلُّها اى موضع حلول أجلها يعنى منحرها و قيل معناه وقت نحرها و حلول أجلها و محلها معطوف على منافعها و كلمة ثم يحتمل التراخي في الوقت فان وقت الانتفاع قبل وقت النحر- او التراخي في الرتبة لان المراد بالمنافع النافع الدنيوية و نحرها

(١) الاولى تسموها و توجبوها إلخ الفقير الدهلوي [.....].

للثواب و هو من المنافع الاخروية يعنى لكم فيها منافع دنيوية ثم لكم فيها محلها يعنى نحرها و هو مما ينتفع به في الاخرة إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) حال من محلها و هو فاعل للظرف المستقر بواسطة حرف العطف يعنى لكم محلها كائنا الى البيت العتيق- و جاز ان يكون محلها مبتدأ محذوف الخبر و الظرف حال منه على طريقة ضربى زيدا قائما يعنى محلها كائن منتهيا الى البيت العتيق- و جاز ان يكون محلّها مبتدا و الظرف خبره و الجملة معطوفة على جملة سابقة- و المراد بالبيت العتيق الحرم كله إذ هو في حكم البيت في كونه عتيقا غير مملوك لاحد و هو حريم البيت و يقال في العرف بلغت البلد إذا بلغت فناءه و جاز ان يكون التقدير ثمّ محلّها الحرم من أقصى أطرافه الى البيت العتيق و هذه الاية حجة على جواز النحر في اىّ موضع شاء من الحرم- و قال مالك لا ينحر الحاج الّا بمنى و لا المعتمر الا بمروة لان النبي صلى اللّه عليه و سلم فعل هكذا-

قلنا نحر النبي صلى اللّه عليه و سلم في الحج بمنى لا ينفى جواز النحر في غيره إذا ثبت بالكتاب و السنة و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم منى كلها منحر و كل فجاج مكة طريق و منحر و كل عرفة و كل المزدلفة موقف- رواه ابو داود و ابن ماجة من حديث جابر- و قيل شعائر اللّه اعلام دينه و لا شك ان تعظيمها من افعال اهل التقوى- و على هذا التأويل قوله تعالى لَكُمْ فِيها مَنافِعُ متصل بقوله تعالى وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ و لَكُمْ فِيها اى في الانعام منافع دنيوية تنتفعون بها الى أجل مسمّى و هو الموت ثم محلها منتهية «١» الى البيت الّذي يرفع اليه الأعمال او يكون فيه ثوابها- و قليل شعائر اللّه فرائض الحج و مشاهد مكة لكم فيها منافع دنيوية بالتجارة في الأسواق الى أجل مسمّى الى وقت المراجعة و الخروج من مكة و منافع اخروية بالأجر و الثواب في قضاء المناسك الى أجل مسمى اى الى انقضاء ايام الحج ثم محلها اى محل الناس فيها من إحرامهم منتهى الى البيت العتيق ان يطوفوا فيه طواف الزيادة يوم النحر-.

(١) هكذا في الأصل و لعل الصواب سنة فتامل- الفقير الدهلوي.

٣٤

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ اى جماعة مؤمنة سلفت منكم جَعَلْنا مَنْسَكاً قرأ حمزة و الكسائي بكسر السين هاهنا و في اخر السورة يعنى موضع نسك اى متعبد و الباقون بفتح السين بمعنى الموضع او المصدر اى اراقة الدعاء و ذبح القرايين او قربانا يتقربون به الى اللّه لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللّه دون غيره و يجعلوا نسيلهم لوجهه علّل الجعل به تنبيها على ان المقصود من جعل المناسك تذكّر المعبود و فيه دليل على كون الذكر شرطا للذبح عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ عند نحرها و ذبحها سماها بهيمة لانها لا تتكلم و قيدها بالانعام لان من البهائم ما ليس من الانعام كالخيل و البغال و الحمير و لا يجوز ذبح شي ء منها في القرابين الا الانعام بل الاهلية منها اجماعا- و هذه الجملة معترضة لتحريض امة محمّد صلى اللّه عليه و سلم على التاسّى بمن سبق فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ يعنى سموا على الذبائح اسم اللّه وحده إذ لا اله لكم غيره جملة معللة يعنى جعلنا لكل امة متعبدا ليذكروا اللّه وحده لان اله كلهم واحد و ان كانوا امما شتى فَلَهُ دون غيره أَسْلِمُوا انقادوا و اطبعوا يعنى أخلصوا التقرب او الذكر و لا تشوبوه بالاشراك وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) عطف على قوله وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ان كان خطابا لنبينا صلى اللّه عليه و سلم و الا فعلى وَ إِذْ بَوَّأْنا يعنى اذكر وقت تبويتنا وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ- الخبيت الشي ء الحقير يعنى من خشع و عدّ نفسه حقيرا يقال اخبت إذا خشع و تواضع كذا في القاموس و من هاهنا قال ابن عباس و قتادة معناه المتواضعين و قال الأخفش الخاشعين و قيل الخبت المكان المطمئن من الأرض و من هاهنا قال مجاهد المطمئنين الى اللّه و قال النخعي المخلصين فان الاطمئنان هو الإخلاص- و قال الكلبي هم الرقيقة قلوبهم- و قال عمرو بن أوس هم الذين لا يظلمون و إذا ظلموا لم ينتصروا.

٣٥

الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللّه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ هيبة منه لاشراق أشعة جلاله عليها و عرفان عظمته وَ الصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ من المصائب وَ الْمُقِيمِي الصَّلاةِ فى أوقاتها وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) عطف على صلة اللام الموصول يعنى بشر الذين يقيمون الصّلوة و ينفقون مما رزقنهم.

٣٦

وَ الْبُدْنَ جمع بدنة كخشب و خشبة قال الجزري في النهاية البدنة يقع على الجمل و الناقة و البقرة و هى بالإبل أشبه و سميت بدنة لعظمها و سمنها- و قال في القاموس البدنة محركة من الإبل و البقر و به قال ابو حنيفة رحمه اللّه و قال عطاء و السدى البدن الإبل و البقر و اما الغنم لا يسمى بدنة- و قال الشافعي هو من الإبل خاصة

قال البيضاوي انما سميت بها الإبل لعظم بدنها ماخوذة من بدن بدانة و

قال البغوي سميت بدنة لعظمها و ضخامها يريد الإبل العظام الضخام الأجسام يقال بدن الرجل بدنا و بدانة إذا ضخم- و اما إذا اسنّ و استرخى يقال بدّن تبدينا و احتج القائلون بانها من الإبل خاصة بحديث جابر قال نحرنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عام الحديبية البقر عن سبعة و البدنة عن سبعة- رواه الترمذي و قال هذا حديث صحيح-

قلنا روى مسلم عن جابر بلفظ قدمنا مكة فقال لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من لم يكن معه هدى فليحلل و أمرنا ان نشترك في الإبل و البقر كل سبعة منافى بدنة قوله و البدن مفعول أول منصوب بفعل مضمر يفسره جَعَلْناها لَكُمْ مفعول ثان مِنْ شَعائِرِ اللّه اى كائنا من اعلام دينه الّتي شرعها اللّه- حال من المفعول الاول قيل سميت شعائر لانها تشعر اى يطعن بحديدة في سنامها ليعلم انها هدى لَكُمْ فِيها خَيْرٌ منافع دينية و دنيوية فَاذْكُرُوا اسْمَ اللّه عَلَيْها روى الحاكم في المستدرك عن بن عباس موقوفا انه قال ان كانت بدنة فليقمها ثم ليقل اللّه اكبر اللّه اكبر اللّه اكبر اللّهم منك و لك ثم ليسم اللّه ثم لينحر- و روى ابو داود و ابن ماجة و الحاكم في المستدرك عن جابر مرفوعا انه صلى اللّه عليه و سلم كان يقول إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ على «١» ملة ابراهيم حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ...

إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي للّه رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ وَ أَنَا من المسلمين اللّهم منك و لك بسم اللّه و اللّه اكبر صَوافَّ اى مصفوفة قال في القاموس فواعل بمعنى مفاعل اى قياما على ثلاثة قوائم قد صفت رجليها و احدى يديها و

(١) قوله على ملة ابراهيم ثابت في الحديث الصحيح و لكن ليس من القران الحكيم و قوله الآتي و انا من المسلمين صحيح ثابت في دعائه صلى اللّه عليه و سلم و لكنه في القران المجيد و انا أول المسلمين- و هذا التنبيه لدفع الالتباس فتنبه- الفقير الدهلوي.

يدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك- روى البخاري عن ابن عمر انه اتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها فقال ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلى اللّه عليه و سلم-

و اخرج عبد بن حميد و ابن ابى الدنيا في الأضاحي و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و الحاكم و صححه و البيهقي في سننه عن ابى ظبيان قال سالت ابن عباس عن قوله فَاذْكُرُوا اسْمَ اللّه عَلَيْها صَوافَّ قال إذا أردت ان تنحر البدنة فاقمها على ثلاث قوائم معقولة ثم قل بسم اللّه و اللّه اكبر اللّهم منك و لك- و علق البخاري قول ابن عباس صَوافَّ اى قياما و ذكره سفيان بن عيينة في تفسيره عن عبيد اللّه بن يزيد و أخرجه سعيد بن منصور

و قال مجاهد (الصوافّ) إذا عقلت رجله اليسرى و قامت على ثلاث قوائم

و قرا ابن مسعود صوافن و هو ان يعقل منها يد و ينحر على ثلاث قوائم-

و قرا أبيّ و الحسن و مجاهد صوافى بالياء اى خوالص لوجه اللّه- فَإِذا وَجَبَتْ اى سقطت على الأرض جُنُوبُها اى ماتت فَكُلُوا مِنْها امر اباحة و قد مر مسئلة جواز الاكل من الهدايا فيما سبق- الجملة الشرطية معطوفة على فاذكروا يعنى فاذكروا اسم اللّه عليها فكلوا منها إذا وجبت جنوبها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ قال عكرمة و ابراهيم و قتادة القانع الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى و لا يسئل و المعتر الّذي يسئل- و روى العوفى عن ابن عباس القانع الّذي لا يتعرض و لا يسئل و المعتر الّذي يريك نفسه و يتعرض و لا يسئل- فعلى هذين التأويلين يكون القانع من القناعة يقال قنع قناعة إذا رضى بما قسم له- و قال سعيد بن جبير و الحسن و الكلبي القانع الّذي يسئل و المعتر الّذي يتعرض و لا يسئل فيكون القانع من قنع يقنع قنوعا إذا سأل-

و قرا الحسن و المعترى و هو مثل المعتر يقال عرّه و اعترّه و عراه و اعتراه إذا أتاه يطلب معروفه اما سوالا و اما تعرضا- و قال ابن زيد القانع المسكين و المعتر الّذي ليس بمسكين و لا يكون له ذبيحة يجي ء الى القوم فيتعرض لهم لاجل لحمهم كَذلِكَ اى تسخيرا مثل تسخير وصفناه من نحرها قياما سَخَّرْناها لَكُمْ مع عظمها و قوتها منقادة و تجنسونها؟؟؟ صافة قوائمها ثم تطعنون في لبّاتها لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) إنعامنا عليكم بالتقرب و الإخلاص- اخرج ابن ابى حاتم و ابن جرير و ابن المنذر عن ابن جريج قال كان اهل الجاهلية ينضحون البيت بلحوم الإبل و دمائها فقال اصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم فنحن أحق ان ننضح فانزل اللّه تعالى.

٣٧

لَنْ يَنالَ اللّه الاية-

و اخرج ابن المنذر و ابن مردوية عن ابن عباس قال كان المشركون إذا ذبحوا استقبلوا الكعبة بالدماء فينتضحون بها نحو الكعبة- فاراد المسلمون ان يفعلوا ذلك فانزل اللّه تعالى لَنْ يَنالَ اللّه لُحُومُها وَ لا دِماؤُها قال مقاتل اى لن يرفع اللّه لحومها و لا دماؤها وَ لكِنْ يَنالُهُ قرأ يعقوب لن تنال و تناله بالتاء المثناة من فوق فيهما و الباقون بالياء المثناة من تحت اى و لكن يرفع اللّه التَّقْوى مِنْكُمْ يعنى الأعمال الصالحة المترتبة على التقوى و الإخلاص المراد بها وجه اللّه كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ كرره تذكيرا للنعمة و تعليلا له بقوله لِتُكَبِّرُوا اللّه لتعرفوا عظمته باقتداره على مالا يقدر غيره فتوحدوه بالكبرياء شكرا عَلى ما هَداكُمْ أرشدكم الى معالم دينه و مناسك حجه و الى طريق تسخيرها و كيفية التقرب بها- و ما مصدرية او موصولة و على متعلقة بتكبر و التضمنه معنى الشكر- و قيل المراد التكبير عند الاحلال و الذبح على انعام هداكم اللّه الى تسخيرها وَ بَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧) قال ابن عباس يعنى الموحدين عطف على بشّر المخبتين.

٣٨

إِنَّ اللّه يُدافِعُ «١» عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا قرأ ابن كثير و ابو عمرو يدفع بفتح الياء و الفاء و اسكان الدال و المفعول محذوف- اى يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين و يمنعهم من المؤمنين و الباقون يدافع من المفاعلة اى يبالغ في الدفع مبالغة من يغالب فيه إِنَّ اللّه لا يُحِبُّ اى يبغض كُلَّ خَوَّانٍ في امانة اللّه كَفُورٍ (٣٨) لنعمته قال ابن عباس خانوا اللّه يعنى كفار مكة فجعلوا معه شريكا و كفروا نعمته- و قال الزجاج من تقرب الى الأصنام بذبيحته و ذكر عليه اسم غير اللّه فهو خوّان كفور- و لهذه الجملة في مقام التعليل للدفع اخرج احمد و الترمذي و السدى و الحاكم و صححه عن ابن عباس قال لما اخرج النبي صلى اللّه عليه و سلم من مكة قال أبو بكر اخرجوا نبيهم ليهلكنّ فانزل اللّه تعالى.

(١) و قوله إِنَّ اللّه يُدافِعُ تمهيد للاذن بالقتال- يعنى لمّا كان دفع الكفار با المؤمنين سنة مستمرّة من اللّه تعالى اذن بالقتال و هذا يتضمن الوعد بالنصر حتى يحصل الدفع ١٢ منه رح.

٣٩

أُذِنَ قرأ نافع و عاصم و ابو عمرو على البناء للمفعول و الباقون على البناء للفاعل اى اذن اللّه و رخّص في القتال لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ قرأ نافع و ابن عامر و حفص بفتح التاء على البناء للمفعول يعنى للمؤمنين الذين يقاتلهم المشركون و الباقون بكسر التاء على البناء للفاعل يعنى للمؤمنين الذين اذن لهم في الجهاد و ان يقاتلوا الكفار-

قال البغوي قال المفسرون كان مشركوا مكة يؤذون اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فلا يزالون يجيئون بين مضروب و مشجوج و يشكون ذلك الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فيقول لهم اصبروا فانى لم اومر بالقتال فنزلت هذه الاية بالمدينة-

و اخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و الترمذي و حسنه و النسائي و ابن ماجة و البزار و ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابن حبان و الحاكم و صححه و ابن مردوية و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس انها أول اية نزلت في القتال بعد ما نهى عنه في نيف و سبعين اية- و أخرجه ابن ابى حاتم عن عروة بن الزبير- و أخرجه عبد الرزاق و ابن المنذر عن الزهري و

قال البغوي قال مجاهد نزلت هذه الاية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة الى المدينة فكانوا يمنعون فاذن اللّه لهم في قتال الكفار و الذين يمنعونهم من الهجرة بِأَنَّهُمْ اى أذنوا في القتال بسبب انهم ظُلِمُوا اى اعتدوا عليهم «١» بالإيذاء

(١) و عن محمد بن سيرين قال اشرف عليهم عثمان من القصر و قال ايتوني برجل تالى كتاب اللّه فاتوه بصعصعة بن صوحان- فتكلم بكلام فقال أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللّه عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ- فقال له عثمان كذبت ليس لك و لا لاضحاك و لكنها لى و لاصحابى ١٢ ازالة الخفاء منه رح.

و من هاهنا لا يجوز قتل نساء اهل الحرب بالإجماع الا ان يكون ذوات رأى او مال تعنّ الكفار باموالهنّ على قتال المسلمين- و لا يجوز قتل الشيخ الفاني و لا الرهبان و لا العميان و لا الزمنى خلافا لاحد قولى الشافعي الا ان يكون لهم رأى و تدبير فيجوز قتلهم اتفاقا- و لا يجوز عند ابى حنيفة رحمه اللّه قتل المرتدة بل تحبس ابدا حتى تموت او تتوب و قال مالك و الشافعي و احمد الرجل و المرأة في حكم الردة سواء لنا حديث عبد اللّه بن عمر قال نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن قتل النساء و الصبيان- متفق عليه و حديث رباح بن الربيع قال كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في غزوة فراى الناس مجتمعين على شي ء فبعث رجلا فقال انظروا على ما اجتمع هؤلاء فجاء فقال على امراة قتيل فقال ما كانت هذه تقاتل و على المقدمة خالد بن الوليد فبعث رجلا فقال قل لخالد لا تقتل امراة و لا عسيفا «١»- رواه ابو داود و عن انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال انطلقوا بسم اللّه و باللّه و على ملة رسول اللّه لا تقتلوا شيخا فانيا و لا طفلا صغيرا و لا امراة الحديث- رواه ابو داود و المرأة في تلك الأحاديث مطلقة تحت النفي تعم الكافرة الاصلية و المرتدة و علل في النص عدم قتلها بعدم حرابها- قالت الحنفية الأصل في الاجزية ان تتاخر الى دار الجزاء و هى الدار الاخرة- و اما دار الدنيا فهى دار التكليف و الابتلاء قال اللّه تعالى لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ- فكل ما شرع جزاء في هذه الدار انما هو لمصالح تعود إلينا في هذه الدار كالقصاص و حد الشرب و القذف و الزنى و السرقة فانها شرعت لحفظ النفوس و الاعراض و العقول و الأنساب و الأموال- فالقتل بالردة لا يجب الا لدفع شر حرابه لا جزاء على كفره لان جزاء الكفر أعظم من ذلك عند اللّه فيختص القتل بمن يتاتى منه الحراب و هو الرجل- و لو كان جزاء للكفر لما نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن قتل نساء اهل الحرب و لو كان جزاء للكفر لزم تطهيره بالقتل كما في القصاص و الحدود

(١) العسيف الأجير و قيل هو الشيخ الفاني- و قيل العبد- ١٢ نهاية جزرى منه رح.

احتجوا على وجوب قتل المرتدة بعموم قوله صلى اللّه عليه و سلم من بدل دينه فاقتلوه- رواه البخاري من حديث ابن عباس و في الباب عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده في معجم «١» الكبير للطبرانى و عن عائشة في الأوسط و أجاب الحنفية بانا خصصنا النساء عن عموم كلمة من لما ذكرنا من أحاديث النهى عن قتل النساء بعد ان عمومه مخصص بمن بدل دينه من الكفر الى الإسلام او من اليهودية الى النصرانية قلت لكن حديث ابن عباس رواه الحاكم و صححه بلفظ من بدل دينه من المسلمين فاقتلوه- قال الحافظ هو من طريق حفص بن عمر العدني و هو مختلف فيه و احتجوا ايضا بحديث جابر ان امراة يقال لها أم مروان ارتدت فامر النبي صلى اللّه عليه و سلم ان يعرض عليها الإسلام فان تابت و الا قتلت- رواه الدار قطنى من طريقين و لا في أحدهما فابت ان تسلم فقتلت- قال الحافظ اسنادا هما ضعيفان قال ابن همام الاول مضعف بعمر بن رواحة و الثاني بعبد اللّه بن أذينة قال ابن حبان لا يجوز الاحتجاج به و روى حديث اخر عن عائشة ارتدت امراة يوم أحد فامر النبي صلى اللّه عليه و سلم ان تستتاب و الا قتلت و في سنده محمد بن عبد الملك قالوا فيه يضع الحديث- ثم هذه الأحاديث معارضة بأحاديث اخر مثلها منها ما أخرجه الدار قطنى عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا تقتل المرأة إذا ارتدت- و فيه عبد اللّه بن عليس الجزري قال الدار قطنى كذاب يضع الحديث و عن ابى هريرة اخرج ابن عدى في الكامل ان امراة على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ارتدت فلم يقتلها و ضعفه بحفص بن سليمان

و اخرج الطبراني في معجمه عن معاذ بن جبل ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حين بعثه الى اليمن قال أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فان تاب فاقبل منه و ان لم يتب فاضرب عنقه و أيما امراة ارتدت عن الإسلام فادعها فان تابت فاقبل منها و ان أبت فاستتبها- و روى ابو يوسف عن ابى حنيفة عن عاصم بن ابى النجود عن ابى رزين عن ابن عباس لا تقتل النساء إذا هن ارتددن عن الإسلام و لكن

(١) هكذا في الأصل و لعل الاولى المعجم- الفقير الدهلوي.

و لكن يحبسن و يدعين الى الإسلام و يجبرن عليه- و في بلاغات محمد عن ابن عباس نحوه و روى عبد الرزاق اثر عمر انّ امراة تنصرت فامر ان تباع في ارض ذات مؤنة عليها و لاتباع في اهل ديتها فبيعت في دومة الجندل و روى الدار قطنى اثر علىّ المرأة تستتاب و لا تقتل و ضعّف بجلاس

(مسئلة) لو امر الامام بقتل بعض من نساء اهل الحرب مرتدة كانت او غيرها لمصلحة فلا بأس به و قد ذكرنا في تفسير سورة الفتح ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عهد الى امرائه من المسلمين يوم الفتح حين أمرهم ان يدخلوا مكة ان لا تقتلوا أحدا الا من قاتلهم الا نفرا سماهم فامرهم بقتلهم و ان وجدوا تحت أستار الكعبة و ذكرنا هناك أسماءهم منهم نساء منهن قينتان لعبد اللّه بن خطل قرنة و قرينة فقتلت قرينة و أسلمت قرنة و كانتا مرتدتين و منهن سارة مولاة عمر بن هاشم و هند امراة ابى سفيان كانتا كافرتين اصليتين اسلمتا يوم الفتح و اللّه اعلم وَ إِنَّ اللّه عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) و عدلهم بالنصر كما وعد بدفع أذى الكفار عنهم.

٤٠

الَّذِينَ «١» أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ الّتي كانت لهم بمكة الموصول مجرور بدل من الموصول في أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ او منصوب بتقديرا عنى او امدح او مرفوع بتقدير المبتدا اى هم الذين اخرجوا «٢» و على جميع التقادير المال واحد بِغَيْرِ حَقٍّ استحقوا به الجلاء إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللّه ان مع صلته في محل الجر بدل من الحق استثناء منه و اطلاق الحق عليه مبنىّ على زعمهم الباطل- و الفرض منه التنبيه على وضوح ظلمهم و كونهم على الباطل حيث زعموا ما هو بديهىّ البطلان و هو استحقاق الإخراج بالتوحيد حقّا و هذا نظير قوله فلان لا خير فيه الا انه يسئ بمن يحسن اليه يعنى انه يزعم الاساءة

(١) و عن عثمان بن عفان قال فينا نزلت هذه الاية الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ثم مكّنّا في الأرض فاقمنا الصلاة و اتينا الزكوة و أمرنا بالمعروف و نهينا عن المنكر فهى لى و لاصحابى ١٢ ازالة الخفا منه رح.

(٢) الى المدينة يعنى محمدا صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه كذا قال ابن عباس- ازالة الخفاء منه رح.

الى من احسن اليه خيرا فكيف يكون فيه خير فهو بمنزلة الدعوى مع البرهان و نظيره قوله تعالى وَ ما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا و نظيره قول الشاعر و بلدة ليس بها أنيس الا اليعافير و الا العيس

و قيل هذا استثناء منقطع بمعنى لكنهم اخرجوا بسبب قولهم ربّنا اللّه و هذا القول حق فالاخراج به إخراج بغير حق- و جاز ان يكون استثناء من كلام محذوف تقديره ما اخرجوا الشي ء الا بان قالوا ربّنا اللّه و هذا القول حق فالاخراج به إخراج بغير حق فهو في مقام التعليل لما سبق وَ لَوْ لا دَفْعُ اللّه «١» النَّاسَ بَعْضَهُمْ بدل من الناس بِبَعْضٍ اى ببعضهم بتسليط المؤمنين منهم على الكافرين- قرا نافع لو لا دفاع اللّه بكسر الدال و الف بعد الفاء بمعنى المدافعة للمبالغة و الباقون بفتح الدال و اسكان الفاء من غير الف لَهُدِّمَتْ قرأ نافع و ابن كثير بتخفيف الدال و الباقون بتشديدها صَوامِعُ ادغم حمزة و الكسائي و ابو عمرو و ابن ذكوان تاء هدمت في الصاد و لم يدغم غيرهم «٢» قال مجاهد و الضحاك يعنى صوامع الرهبان و قال قتادة صوامع الصابئين وَ بِيَعٌ جمع بيعة و هى كنيسة النصارى وَ صَلَواتٌ و هى كيائس اليهود يسمونها بالعبرانية صلوة وَ مَساجِدُ المسلمين من امة محمّد صلى اللّه عليه و سلم و معنى الاية لو لا دفع اللّه الناس لهدمت في كل شريعة نبي مكان عبادتهم فهدمت في زمن موسى الكنائس و في زمن عيسى البيع و الصوامع و في زمن محمد صلى اللّه عليه و سلم المساجد يُذْكَرُ فِيهَا اى في المساجد او في جميع الاربعة اسْمُ اللّه كَثِيراً صفة لمصدر محذوف اى ذكرا كثيرا وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّه مَنْ يَنْصُرُهُ اى ينصر دينه جواب قسم محذوف و الجملة معترضة للوعد- إِنَّ اللّه لَقَوِيٌّ على نصرهم عَزِيزٌ (٤٠) لا يمكن ممانعته تأكيد للوعد

(١) عن ثابت بن عرفجة الحضري قال حدثنى سبعة و عشرون من اصحاب على و عبد اللّه ان عليّا قال انما نزلت هذه الاية لَوْ لا دَفْعُ اللّه النَّاسَ الاية قال لو لا دفع اللّه باصحاب محمد من التابعين لهدّمت صوامع ١٢ منه رح.

(٢) و في الأصل غيره.

٤١

الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ ان هاهنا بمعنى إذا بدليل ما سبق من الوعد بالدفع و النصر فهو اخبار و وعد بالتمكين فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وصف للذين اخرجوا و هو ثناء قبل بلاء و هو برهان على صحة امر الخلفاء الراشدين إذ لم يحصل المكنة في الأرض لغيرهم من المهاجرين- و اما معاوية رضى اللّه عنه فلم يكن من الذين اخرجوا- و قيل الموصول بدل ممن ينصره و المعنى لينصرن اللّه من يكون هذا صفته و لا شك ان اللّه تعالى نصر الخلفاء الراشدين و أنجز وعده- حتى سلّطهم على صناديد العرب و أكاسرة العجم و قياصرتهم و أورث المسلمين على عهدهم ارض الكفار و ديارهم و أموالهم وَ للّه عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١) فان مرجعها الى حكمه و فيه تأكيد لما وعده.

٤٢

وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ يا محمد يعنى كفار مكة فَقَدْ كَذَّبَتْ تعليل لجزاء محذوف لشرط مذكور تقديره فان كذبوك فلا تحزن لانه ليس بامر مبدع فقد كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ ثَمُودُ (٤٢)

٤٣

وَ قَوْمُ إِبْراهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ (٤٣)

٤٤

وَ أَصْحابُ مَدْيَنَ جملة معترضة لتسلية النبي صلى اللّه عليه و سلم وَ كُذِّبَ مُوسى غيّر فيه النظم و بنى للمفعول لان قومه بنى إسرائيل لم يكذبوه و انما كذبه القبط و لان تكذيبه كان اشنع لكون آياته أعظم و اشيع فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ اى أمهلتهم و أخرت عقوبتهم عطف على كذبت ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بالعذاب عاقبة أمرهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) اثبت الياء ورش في الوصل حيث وقعت و الباقون حذفوها- يعنى كيف كان إنكاري عليهم بتغيير النعمة محنة و الحيوة هلاكا و العمارة خرابا استفهام للتعجيب او التهويل او التقرير اى هو واقع موقعه.

٤٥

فَكَأَيِّنْ فكم مِنْ قَرْيَةٍ كلمة كاين مرفوع بالابتداء او منصوب بإضمار فعل يفسره أَهْلَكْناها قرأ ابو عمرو و يعقوب أهلكتها بتاء مضمومة على صيغة المتكلم المتوحد و الباقون بنون مفتوحة و الف بعدها على التعظيم- يعنى أهلكنا أهلها حذف المضاف و أقيم المضاف اليه مقامه و كذا في قوله وَ هِيَ يعنى و أهلها ظالِمَةٌ اى واضعة للعبادة في غير موضعها كافرة باللّه مؤمنة بالطواغيت فَهِيَ اى حيطانها خاوِيَةٌ اى ساقطة عَلى عُرُوشِها اى سقوفها يعنى تهدمت عمرانها فسقطت السقوف اولا ثم وقعت عليها الجدران فالظرف لغو متعلق بخاوية- او المعنى خاوية اى خالية على عروشها يعنى كائنة على عروشها اى مع بقاء عروشها و سلامتها و على هذا التأويل الظرف المستقر اما منصوب على الحال او مرفوع خبر بعد خبر اى هى خالية و هى معطلة على عروشها بان سقطت و بقيت الحيطان مائلة مشرفة عليها- و الجملة معطوفة على أهلكناها لا على و هى ظالمة فانها حال و الإهلاك ليس خال خوائها- و على تقدير نصب كايّن لا محل لهذه الجملة من الاعراب وَ بِئْرٍ كانت في القرى أهلكنا اهل تلك الآبار فصارت كبئر «١» مُعَطَّلَةٍ متروكة لا تسقى عطف على قرية اى و كم من بئر معطلة وَ كم من قَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أهلكنا أهلها يعنى كم من قرية ساقطة عمر ان بعضها بعد خرابها و مرفوعة مشيدة عمران بعضها أهلكنا أهلها- قال قتادة و الضحاك و مقاتل معنى مشيد رفيع طويل من قولهم شاد بناه إذا رفعه- و قال سعيد بن جبير و عطاء و مجاهد اى مجصص من الشّيد و هو الجص- و جملة فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ بدل من قوله فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ و من ثم عطف بالفاء-

قال البغوي قيل ان البئر المعطلة و القصر المشيد باليمن اما القصر فعلى قلة جبل و البئر في صفحه و لكل واحد منهما قوم في نعمة فكفروا فاهلكهم اللّه و بقي القصر و البئر خاليين و روى ابو روق عن الضحاك انه كان هذه البئر بحضر موت في بلدة يقال لها حاصورا و ذلك ان اربعة آلاف نفر ممن أمن بصالح عليه السلام نجوا من العذاب فاتوا بحضر موت و معهم صالح فلمّا حضروه مات صالح عليه السلام فسمى حضر موت لان صالحا لما حضره مات فبنوا حاصورا و قعدوا على هذه البئر و امّروا عليهم رجلا فاقاموا دهرا و تناسلوا حتى كثروا- ثم ان اخلافهم عبدوا الأصنام و كفروا فارسل اللّه إليهم نبيّا يقال له حنظلة بن صفوان و كان حمالا فيهم فقتلوه في السوق فاهلكهم اللّه و عطلت بئرهم و خربت قصورهم.

(١) و في الأصل فصارت معطلة إلخ و انما زدنا لفظة كبئر لان معطلة مجرورة لا تصلح ان تقع خيرا لصارت و تغيير الاعراب غير جائز فلا بد من تقدير و اللّه اعلم الفقير الدهلوي.

٤٦

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ عطف على محذوف تقديره ا لم يخرجوا من بيوتهم فلم يسيروا في الأرض فَتَكُونَ منصوب بتقدير ان معطوف على مصدر مدلول تضمنا لقوله أَ فَلَمْ يَسِيرُوا- يعنى الم يحصل منهم خروجهم من بيوتهم و سير في الأرض لان تكون لَهُمْ قُلُوبٌ و تكون اما تامة و لهم حال من فاعله- و اما بمعنى تصير و الظرف خبره و بعده اسمه يَعْقِلُونَ بِها صفة لقلوب و المفعول محذوف و المعنى يعقلون بها ما يجب تعقله من التوحيد بما حصل لهم من الاستبصار و الاستدلال أَوْ آذانٌ عطف على قلوب يَسْمَعُونَ بِها الاستفهام للانكار و الإنكار راجع الى كون قلوبهم عاقلة بعد السير و آذانهم سامعة للحق و فيه حثّ على التعقل و الاستماع فَإِنَّها الضمير للقصة او مبهم يفسره الابصار في قوله تعالى لا تَعْمَى الْأَبْصارُ و في تعمى ضمير راجع الى الابصار المقدم رتبة او الظاهر أقيم مقامه- و الفاء للتعليل اى تعليل استعقاب السير كون قلوبهم عاقلة و آذانهم سامعة- يعنى ليست أبصارهم عامية حتى لا يروا مشاهد الآثار الأمم الخالية بعد السير و لمّا كان حال الكفار من عدم الاعتبار بعد ظهور الآيات و مشاهدة الآثار شاهدا على ونهم عميانا و موجبا لانكار السامع لابصارهم أكد هذه الجملة بانّ و ضمير القصة او الضمير المبهم المفسر بما بعده انزالا للسامع منزلة المنكر لنفى العمى- ثم قال استدراكا لدفع توهم نفى العمى عنهم مطلقا و ازاحة لشبهة حارت عقول العقلاء في انهم يرون آيات التوحيد و لا يعتقدون به و يسمعون براهين التحقيق و لا يصغون إليها وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) ذكر الصدور للتأكيد و نفى احتمال التجوّز كما في قوله تعالى طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ و فيه تنبيه على ان العمى الحقيقي ليس المتعارف الّذي يخص البصر- قال قتادة البصر الظاهر بلغة و متعة و بصر القلب هو البصر النافع قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم شر العمى عمى القلب رواه البيهقي فى الدلائل و ابن عساكر عن عقبة بن عامر الجهني و ابو نصر السنجري في الإبانة عن ابى الدرداء و رواه الشافعي عن ابن مسعود موقوفا- و ذكر في الاية عمى القلب و أراد سلب المشاعر كلها عن قلوبهم كانّه قال و لكن تعمى و تصم القلوب الّتي في الصدور-

قال البيضاوي قيل لما نزلت وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى قال ابن أم مكتوم يا رسول اللّه انا في الدنيا أعمى أ فأكون في الاخرة أعمى فنزلت هذه الاية-

قلت و هذا ما اخرج ابن ابى حاتم عن قتادة قوله ذكر لنا انها نزلت في عبد اللّه بن زائدة يعنى ابن أم مكتوم.

٤٧

وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ المتوعد به هذه الاية في مقام الاستشهاد على عمى قلوبهم فان استعجال العذاب دليل على العمى

قال البغوي نزلت في النضر بن الحارث حيث قال إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ... وَ لَنْ يُخْلِفَ اللّه وَعْدَهُ لامتناع الخلف في خبره فيصيبهم ما أوعدهم به البتة و لو بعد حين لكونه صبورا لا يعجل بالعقوبة و انجر اللّه الوعد يوم بدر و الجملة حال او معترضة و كذا قوله وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ حال او معترضة كانّه قال لم تستعجلونه و هو لا يجوز فواته و هذه الاية تدل على انه كما لا يجوز الخلف في وعده لا يجوز التخلف في وعيده ايضا- و ذالا ينافى المغفرة فان آيات الوعيد مخصوصة بالنصوص و الإجماع بمن لا يتداركه المغفرة وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) قرا ابن كثير و حمزة و الكسائي يعدّون بالياء التحتانية هاهنا لقوله و يستعجلونك-

و قرا الباقون بالتاء الفوقانية لانه أعم لانه خطاب للمستعجلين و المؤمنين جميعا- قال ابن عباس في رواية عطاء معنى الاية ان يوما عنده تعالى و الف سنة في الامهال سواء- لانه قادر متى شاء أخذهم لا يفوته شي ء بالتأخير فيستوى في قدرته وقوع ما يستعجلون به من العذاب و تأخيره و قيل معناه ان يوما من ايام العذاب الّذي استعجلوه في الثقل و الاستطالة و الشدة كالف سنة مما تعدون فكيف يستعجلونه- و هذا كما يقال ايام الهموم طوال و ايام السرور قصار- و قيل انه بيان لتناهى صبره يعنى ان اللّه لا يخلف وعده لكنه قد يؤخر العذاب الى يوم هو عند ربك كالف سنة- قال مجاهد و عكرمة يعنى يوما من ايام الاخرة و الدليل علمه ما روى عن ابى سعيد الخدري رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ابشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل اغنياء؟؟؟

الناس بنصف يوم و انّ يوما عند ربك كالف سنة- رواه احمد و الترمذي و حسنه و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمس مائة عام و نصف يوم رواه الترمذي.

٤٨

وَ كَأَيِّنْ اى و كم مِنْ قَرْيَةٍ اى من اهل قرية حذف المضاف و أقيم المضاف اليه مقامه في الاعراب و إرجاع الضمائر و الاحكام مبالغة في التعميم- و أورد هذه الجملة معطوفة بالواو على قوله يَسْتَعْجِلُونَكَ ... وَ لَنْ يُخْلِفَ لانه في مقام الاستشهاد لعدم التخلف و بيان ان المتوعد به واقع لا محالة- و التأخير مبنى على عادة اللّه سبحانه فان كثير من القرى أَمْلَيْتُ اى أمهلت لَها كما امهلتكم وَ هِيَ ظالِمَةٌ مثلكم حال من القرية ثُمَّ أَخَذْتُها بالعذاب وَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) يعنى الى حكمى مرجع الجميع-.

٤٩

قُلْ يا محمّد لكفار مكة يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ يعنى لست بقادر على إتيان العذاب مُبِينٌ (٤٩) أوضح لكم ما أنذركم به و لمّا كان الخطاب مع المشركين المستعجلين بالعذاب و انما كان ذكر المؤمنين و ثوابهم زيادة في غيظهم اقتصر على ذكر الانذار- و يمكن ان يقال ان الانذار مقدم على الابشار و عام للفريقين و الابشار يخص بمن أطاعه بعد ما أطاعه و لذلك اقتصر عليه روى الشيخان في الصحيحين عن ابى موسى الأشعري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انما مثلى و مثل ما بعثني اللّه به كمثل رجل اتى قوما فقال يا قوم انى رايت الجيش بعيني و انّى انا النذير العريان فالنجا النجا فاطاعه طائفة من قومه فادلجوا «١» و انطلقوا على

(١) الدلجة هو سير الليل يقال ادبح بالتخفيف إذا سار من أول الليل و ادّلج بالتشديد إذا سار آخره- ١٢ نهاية منه رح.

مهلهم فنجوا- و كذبت طائفة منهم فاصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فاهلكهم و اجتاحهم «١»- فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به و مثل من عصانى و كذّب ما جئت به من الحق.

(١) احتاجهم اى من الجائحة و هى الآفة الّتي تهلك ١٢ منه رح.

٥٠

فَالَّذِينَ آمَنُوا بما جئت به وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ على حسب ما امرتهم لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لما سلف منهم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان الإسلام يهدم ما كان قبله- رواه مسلم عن عمرو بن العاص وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) اى الجنة.

٥١

وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا بالرد و الابطال مُعاجِزِينَ حال من فاعل سعوا قرا ابن كثير و ابو عمرو معجّزين بالتشديد من التفعيل هاهنا و في سورة سبا اى مثبطين الناس عن الايمان ينسبونهم الى العجز و الباقون بالألف من المفاعلة اى معاندين مشاقين قال قتادة معنى معجزين ظانّين مقدرين انهم يعجزوننا بزعمهم ان لا بعث و لا نشر و لا جنة و لا نار او معنى يعجزو ننا اى يفوتوننا فلا نقدر عليهم- و قيل معنى معاجزين مغالبين يريدون ان يظهروا عجزنا عن ادراكهم-

قلت يمكن ان يكون معناه معاجزين الرسول فانه يمنعهم عن دخول النار و هم يقتحمون فيها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١) روى الشيخان في الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مثلى كمثل رجل استوقد نارا فلمّا أضاءت ما حولها جعل الفراش و هذه الدواب الّتي تقع في النار يقعن فيها و جعل يحجزهن و يغلبنه فيقتحمن فيها فانا أخذ بحجزكم عن النار و أنتم تقتحمون فيها- و اللفظ للبخارى و لمسلم نحوه

قال البغوي قال ابن عباس و محمد بن كعب القرظي و غيرهما من المفسرين انه لما راى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تولّى قومه عنه وشق عليه ما راى من مباعدتهم عما جاء به من اللّه عزّ و جلّ تمنى في نفسه ان يأتيه من اللّه ما يقارب بينه و بين قومه لحرصه على ايمانهم فكان يوما في مجلس لقريش فانزل اللّه سورة النجم فقراها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتّى بلغ قوله أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى - القى الشيطان على لسانه لما كان يحدث به في نفسه و يتمنى تلك الغرانيق العلى و ان شفاعتهن لترتجى- فلمّا سمعت قريش ذلك فرحوا به و مضى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في قراءته فقرأ السورة كلها و سجد في اخر السورة فسجد المسلمون بسجوده و سجد جميع من في المسجد من المشركين فلم يبق في المسجد مؤمن و لا كافر الا سجد الا الوليد بن المغيرة و سعيد بن العاص فانهما أخذا حفنة من البطحاء و رفعاها الى جبهتهما و سجدا عليه لانهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود و تفرقت قريش و قد سرهم ما سمعوا من ذكر الهتهم يقولون قد ذكر محمد الهتنا بأحسن الذكر و قالوا قد عرفنا ان اللّه يحيى و يميت و يخلق و يرزق و لكن الهتنا هذه تشفع لنا عنده فاذا جعل لها محمد نصيبا فنحن معه- فلما امسى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أتاه جبرئيل فقال يا محمد ماذا صنعت لقد تلوت على الناس مالم آتك به عن اللّه عزّ و جلّ فحزن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حزنا شديدا و خاف من اللّه خوفا كثيرا فانزل اللّه تعالى.

٥٢

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ الاية يعزيه و كان به رحيما- و سمع من كان بحبشة من اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و بلغهم سجود قريش و قيل أسلمت قريش و اهل مكة فرجع أكثرهم الى عشائرهم و قالوا هم أحب إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم ان الّذي كانوا تحدثوا به من اسلام اهل مكة كان باطلا فلم يدخل أحد الا بجوار او مستخفيا مِنْ رَسُولٍ من زائدة للتعميم

قال البغوي الرسول هو الّذي يأتيه جبرئيل عيانا وَ لا نَبِيٍّ هو الّذي يكون نبوته إلهاما او مناعا و قيل الرسول من بعثه اللّه بشريعة مجددة يدعو الناس إليها و النبي يعمه و من بعثه لتقرير شرع سابق كانبياء بنى إسرائيل الذين كانوا بين موسى و عيسى فكل رسول نبى و ليس كل نبى رسولا- عن ابى ذر قال قلت يا رسول اللّه اىّ الأنبياء كان اوّل قال آدم قلت يا رسول اللّه و نبى كان قال نعم نبى مكلّم قلت يا رسول اللّه كم المرسلون قال ثلاثمائة و بضعة عشر جمّا غفيرا- و في رواية عن ابى امامة قال أبو ذر قلت يا رسول اللّه كم وفاء عدة الأنبياء قال مائة الف و اربعة و عشرون الفا الرسل من ذلك ثلاثمائة و خمسة عشر جمّا غفيرا رواه احمد و ابن راهويه في مسنديهما و ابن حبان في صحيحه و الحاكم في المستدرك صحّح رواية ابى امامة إِلَّا إِذا تَمَنَّى قال بعض المفسرين معناه إذا أحب شيئا و اشتهاه و حدث به نفسه مالم يؤمر به- استثناء مفزغ من رسول و نبى على الحال تقديره ما أرسلنا من رّسول و لا نبىّ في حال من الأحوال الا مقدرا في شأنه انه إذا تمنى أَلْقَى الشَّيْطانُ اى وسوس اليه و وجد اليه سبيلا و القى في مراده- و ما من نبى الا إذا تمنى ان يؤمن قومه و لم يتمن ذلك نبىّ الا القى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ عليه ما يرضى قومه و

قال البيضاوي إذا زور نفسه ما يهويه القى الشيطان فيما يشتهيه ما يوجب اشتغاله بالدنيا فَيَنْسَخُ اللّه ما يُلْقِي الشَّيْطانُ اى يبطله و يذهبه بعصمته عن الركون و يرشده الى ما يزيحه ثُمَّ يُحْكِمُ اللّه آياتِهِ الداعية الى الاستغراق في امر الاخرة و قال اكثر المفسرين معنى قوله الا إذا تمنى اى قرا كتاب اللّه القى الشيطان في امنيّة اى في قراءته قال الشاعر في عثمان رضى اللّه عنه حين قتل شعر تمنى كتاب اللّه اوّل ليلة و آخرها لاقى حمام المقادر

فان قيل كيف يجوز الغلط في التلاوة على النبي صلى اللّه عليه و سلم و كان معصوما من الغلط في اصل الدين و قال اللّه تعالى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ يعنى إبليس- و من هاهنا

قال البيضاوي هو يعنى ما ذكر في شأن نزول الاية و إلقاء الشيطان في قراءة سورة النجم مردود عند المحققين- لكن قال الشيخ جلال الدين السيوطي هذه القصة رواها البزار و ابن مردوية و الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس-

قلت يعنى عن سعيد بن جبير عنه قلت قال البزار لا يروى متصلا الا بهذا الاسناد تفرد بوصله امية بن خالد و هو ثقة مشهور و قد اخرج ابن ابى حاتم و ابن جرير و ابن المنذر بسند صحيح عن سعيد بن جبير مرسلا قال قرا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بمكة و النجم فلمّا بلغ أ فرأيتم اللّات و العزّى و منوة الثّالثة الاخرى القى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى ان شفاعتهن لترتجى فقال المشركون ما ذكر الهتنا بخير قبل اليوم فسجد و سجدوا فنزلت و ما أرسلنا من قبلك الاية و أخرجه النحاس عن ابن عباس متصلا بسند فيه الواقدي و أخرجه ابن مردوية من طريق الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس و ابن جرير من طريق العوفى عن ابن عباس و أورد ابن إسحاق في السيرة عن محمد بن كعب و موسى بن عقبة في المغازي عن ابن شهاب و ابن جرير عن محمّد بن كعب و محمّد بن قيس و ابن ابى حاتم عن السدىّ كلهم بمعنى واحد و كلها اما ضعيفة او منقطعة سوى طريق سعيد بن جبير الاول الّذي ذكره البزار و ابن مردوية و الطبراني- و قال الحافظ ابن حجر لكن كثرة الطرق تدل على ان للقصة أصلا مع ان لها طريقين صحيحين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين أحدهما ما أخرجه الطبراني من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب الزهري حدثنى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام-

و ثانيهما ما أخرجه ايضا من طريق المقيم بن سليمان و حماد بن سلمة عن داود عن ابى هند عن ابى العالية-

قلنا اختلف العلماء في الجواب عن الاشكال فقال بعضهم ان الرسول لم يقرأه و لا سمع منه أصحابه و لكن الشيطان القى ذلك بين قراءته في اسماع المشركين فظن المشركون ان الرسول صلى اللّه عليه و سلم قرأه- و قال قتادة أغفى النبي صلى اللّه عليه و سلم إغفاء فجرى على لسانه بإلقاء الشيطان على سبيل السهو و النسيان فلم يلبث حتى نبهه اللّه عليه «١»- قيل ان شيطانا يقال له ابيض عمل هذا العمل و كان ذلك قال الخفاجي في سليم الرياض ص ٨٦- ٤٧٠ اى الى صحابى من اصحاب الرسول صلى اللّه تعالى عليه و سلم قالها و قيل المعنى لم يعزها لصاحب لها قد قالها انتهى (الفقير الدهلوي). [.....]

(١) قال القاضي عياض في الشفاء لم يخرجه أحد من العلماء اهل الصحة و لا رواه ثقة سليم متصل و انما اولع به و بمثله المفسرون و المؤرخون المؤلقون بكل غريب المتلفقون من الصحف كل صحيح و سقيم- و صدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال لقد تلى الناس ببعض اهل الأهواء و التفسير و تعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلبة و اضطراب رواياته و انقطاع أسانيده و اختلاف كلماته- فقائل يقول انه في الصلاة و اخر يقول قالها في نادى قومه حين أنزلت عليه سورة النجم و اخر يقول بل حدث نفسه فسهى و اخر يقول قالها و قد أصابته سنة و اخر يقول ان الشيطان قالها على لسانه و ان النبي صلى اللّه عليه و سلم لما عرضها على جبرئيل قال ما هكذا قرأتك و اخر يقول بل أعلمهم الشيطان ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قراها فلما بلغ النبي صلى اللّه عليه و سلم قال و اللّه ما هكذا نزلت الى غير ذلك من اختلاف الرواة و ممن حكيت هذه الحكاية من المفسرين و التابعين لم يسندها أحد منهم و لا رفعها الى صاحب .... و اكثر الطرق عنهم ضعيفة واهية- و المرفوع فيه في حديث سعيد عن ابى بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال فيما احسب الشك في الحديث ان النبي صلى اللّه عليه و سلم كان بمكة- قال أبو بكر البزار هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى اللّه عليه و سلم بإسناد متصل يجوز ذكره الا هذا- و لم يسنده عن سعيد الا امية بن خالد و غيره مرسلة عن سعيد بن جبير- و انما يعرف عن الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس- و قد بين ذلك أبو بكر انه لا يعرف من طريق يجوز ذكرة الا هذا و فيه من الضعف ما فيه عليه مع وقوع الشك فيه و أحاديث الكلبي مما لا يجوز الرواية عنه و لا ذكره لقوة ضعفه و كذبه منه رح.

فتنة و محنة و اللّه يمتحن عباده بما يشاء-

فان قيل كلا التقدير ان سواء قرا الشيطان و حسب الناس ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قرأه او جرى على لسانه في حالة اغفائه يخل بالوثوق بالقرآن-

قلنا قد تكفل اللّه تعالى الوثوق بقوله فَيَنْسَخُ اللّه ما يُلْقِي الشَّيْطانُ اى يبطله و يذهبه و يظهر على الناس انه من إلقاء الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ اللّه آياتِهِ المنزلة اى يثبتها و يحفظها من لحوق الزيادة من الشيطان-

فان قيل هذه الاية حينئذ ايضا يحتمله

قلنا إذا ضمت هذه الاية بالبرهان العقلي المستدعى صحة رسالة الرسل و عصمتهم عن الخطاء و الزلل في اصول الدين يفيد يقينا في قوة البداهة ان هذه الاية و كلما أثبته اللّه و أحكمه من الآيات و الشرائع و الاحكام انما أثبته و أحكمه اللّه لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اللّه لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ- قال اللّه تعالى فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ... وَ اللّه عَلِيمٌ بأحوال الناس و استعداداتهم فيفعل بكل ما يستحقه من الهداية او الإضلال حَكِيمٌ (٥٢) فيما يفعله لا يسع لاحد الاعتراض عليه- او عليم بما اوحى الى نبيه و بقصد الشيطان حكيم لا يدعه حتى يكشفه و يزيله.

٥٣

لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ عليه بتمكين الشيطان منه فِتْنَةً اى محنة و بلاء لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شك و نفاق وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ اى المشركين وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ يعنى اهل النفاق و الشرك وضع الظاهر موضع ضميرهم قضاء عليهم بالظلم لَفِي شِقاقٍ خلاف عن الحق او عن الرسول و المؤمنين بَعِيدٍ (٥٣)

قال البغوي لما نزلت هذه الاية قالت قريش ندم محمد على ما ذكر من منزلة الهتنا عند اللّه فغيّر ذلك و كان الحرفان الذان القى الشيطان في امنيّته صلى اللّه عليه و سلم قد وقع في فم كل مشرك فازدادوا شرّا الى ما كانوا عليه و شدة على من اسلم.

٥٤

وَ لِيَعْلَمَ عطف على ليجعل و اللام متعلق بمقدر يعنى فعلنا تمكين الشيطان على الإلقاء و نسخ ما يلقى الشيطان لامرين لنجعل ما يلقى الشيطان الى آخره و ليعلم- و جاز ان يكون اللام متعلقا بقوله أَلْقَى الشَّيْطانُ و حينئذ يكون اللام في ليجعل و ليعلم للعاقبة كما في قوله تعالى فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً ... الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ باللّه و أحكامه و قال السدى اى التصديق بنسخ اللّه أَنَّهُ اى الّذي أحكمه اللّه من آيات القرآن هو الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ النازل من عنده او انّه اى تمكين الشيطان حق لانه جرت به عادة اللّه في جنس الإنسان من لدن آدم عليه السلام فَيُؤْمِنُوا بِهِ اى بالقرآن و يعتقدوا انه من اللّه او باللّه تعالى و عطف يؤمنوا على يعلم بالفاء دليل على ان مجرد العلم ليس بايمان بل هو امر وهبى مترتب على العلم غالبا بجرى العادة فَتُخْبِتَ اى تخشع لَهُ قُلُوبُهُمْ بالانقياد و الخشية و تطمئن عنده وَ إِنَّ اللّه لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا فيما أشكل عليهم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) اى اعتقاد صحيح و طريق قويم و هو الإسلام.

٥٥

وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ اى شك مِنْهُ اى ناشية من القرآن او الرسول او الذين أمنوا او مما القى الشيطان في امنيّته ما باله ذكرها بخير ثم ارتد عنه حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ اى وقت الموت بَغْتَةً اى اتيانا فجاءة أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) قال عكرمة و الضحاك عذاب يوم لا ليلة له و هو يوم القيامة و قيل المراد بالساعة يوم القيامة و بيوم عقيم يوم بدر إذ لم يكن للكافرين في ذلك اليوم خير و العقيم في اللغة المنع و منه الريح العقيم- و جاز ان يكون المراد بالساعة و بيوم عقيم واحدا و هو يوم القيامة فيكون الثاني وضع الظاهر موضع المضمر للتهويل.

٥٦

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ يوم تزول مريتهم للّه وحده ظرف مستقر يَحْكُمُ اللّه بَيْنَهُمْ بالمجازاة جملة مستأنفة او في محل النصب على الحال و الضمير يعم المؤمنين و الكافرين لتفصيله بقوله فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦)

٥٧

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) إدخال الفاء في خبر الثاني دون الاوّل تنبيه على ان اثابة المؤمنين بالجنات تفضل من اللّه تعالى و عقاب الكافرين مسبب بأعمالهم و لذلك قال لهم عذاب و لم يقل هم في عذاب- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لن ينجى أحدا عمله قالوا و لا أنت يا رسول اللّه قال و لا انا الا ان يتغمدنى اللّه برحمة منه و فضل- رواه الشيخان في الصحيحين و رويا فيهما عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سددوا و قاربوا و ابشروا فانه لا يدخل الجنة أحدا عمله قالوا و لا أنت يا رسول اللّه قال و لا انا الا ان يتغمدنى بمغفرة و رحمة- و لمسلم من حديث جابر نحوه و قد ورد نحوه من حديث ابى سعيد عند احمد و ابن ابى موسى و شريك بن طارق و اسامة بن شريك و السد بن كون عند الطبراني و اما قوله تعالى ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فمحمول على ان للجنة منازل تنال بالأعمال و اما اصل دخولها و الخلود فيها فبفضل اللّه المتعال اخرج هناد في الزهد عن ابن مسعود قال تجوزون الصراط بعفو اللّه و تدخلون الجنة برحمة اللّه و تقسمون المنازل بأعمالكم-

و اخرج ابو نعيم عن عون بن عبد اللّه مثله.

٥٨

وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فارقوا الأوطان و العشائر فِي سَبِيلِ اللّه فى طلب مرضاته ثُمَّ قُتِلُوا فى الجهاد قرا ابن عامر قتّلوا بالتشديد من التفعيل للتكثير و المبالغة و الباقون بالتخفيف أَوْ ماتُوا حتف أنوفهم لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللّه اى و اللّه ليرزقنهم اللّه في الجنة رِزْقاً حَسَناً اى نعيمها الّتي لا تنقطع فلا مثل لها وَ إِنَّ اللّه لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) فانه يرزق بغير حساب.

٥٩

لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ اى الجنة فيها ما تشتهيه الأنفس و تلذ الأعين ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر ببال البشر وَ إِنَّ اللّه لَعَلِيمٌ بأحوالهم و احوال معانديهم حَلِيمٌ (٥٩) لا يعاجل في العقوبة.

٦٠

ذلِكَ اى الأمر ذلك او ذلك حق او تحقق ذلك او عرفت ذلك الّذي قصصنا عليك وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ اى جازى الظالم بمثل ما ظلم به عليه اطلق لفظ العقاب الّذي هو الجزاء على ابتداء الظلم للازدواج او للمشاكلة ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ بالمعاودة على الظلم لَيَنْصُرَنَّهُ اللّه لا محالة إِنَّ اللّه لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) للمنتصر حيث اتبع هواه في الانتقام و اعرض عما ندب اللّه اليه بقوله و لمن صبر و غفر ان ذلك لمن عزم الأمور- و فيه تعريض بالحث على المغفرة فانه تعالى مع كمال قدرته و علو شأنه لما كان يعفو و يغفر فغيره بذلك اولى و تنبيه على انه قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو الا القادر على العقوبة-

قال البغوي قال الحسن قوله تعالى وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ معناه قاتل المشركين كما قاتلوه ثم بغى عليه اى ظلم بإخراجه من منزله و قيل نزلت الآية في قوم من المشركين أتوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فكره المسلمون قتالهم و سألوهم ان يكفوا من القتال من أجل الشهر الحرام فابى المشركون و قاتلوهم فذلك بغيهم عليهم و ثبت المسلمون فنصروا عليهم-

قلت فعلى هذا قوله إِنَّ اللّه لَعَفُوٌّ عن المؤمنين غَفُورٌ لهم في قتالهم في الشهر الحرام

و اخرج ابن ابى حاتم عن مقاتل نحوه.

٦١

ذلِكَ النصر بِأَنَّ اللّه قادر على كل شي ء و قد جرى عادته على المداولة بين الأشياء المتعاندة و من ذلك انه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ يعنى يزيد في أحد الملوين ما ينقص من الاخر او يحصل ظلمة الليل مكان ضوء النهار بمغيب الشمس و عكس ذاك بطلوعها وَ أَنَّ اللّه سَمِيعٌ يسمع اقوال المعاقب و المعاقب او سميع دعاء المؤمنين فيجيبهم بَصِيرٌ (٦١) يرى افعالهما فلا يهملهما.

٦٢

ذلِكَ الاتصاف بكمال العلم و القدرة و السمع و البصر بِأَنَّ اللّه هُوَ الْحَقُّ الثابت في نفسه الواجب لذاته وحده لان وجوب وجوده و وحدته يقتضيان ان يكون مبدأ لكل ما يوجد سواه عالم بذاته و بما عداه متصف بجميع صفات الكمال- إذ من ثبت ألوهيته لا يمكن الا ان يكون قادرا عالما سميعا بصيرا وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ قرأ نافع و ابن كثير و ابن عامر و أبو بكر هنا و ف ي لقمان في الموضعين بالتاء الفوقانية خطابا للمشركين و الباقون بالياء التحتانية اى ما يدعونه اى المشركون مِنْ دُونِهِ الها هُوَ الْباطِلُ اى المعدوم الممتنع وجوده في حد ذاته او باطل الالوهية وَ أَنَّ اللّه هُوَ الْعَلِيُّ المتعالي من ان يكون له شريك الْكَبِيرُ (٦٢) العظيم الّذي ليس كمثله شي ء.

٦٣

أَ لَمْ تَرَ اى ا لم تبصر او ا لم تعلم و الاستفهام للانكار يعنى تعلم و تبصر أَنَّ اللّه أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً يعنى أصبحت مخضرة بالنبات أورد لفظ المضارع للماضى لاستحضار صورة ما مضى و للدلالة على بقاء اثر المطر زمانا بعد زمان- و الجملة دليل اخر على كمال علمه و قدرته إِنَّ اللّه لَطِيفٌ يصل علمه او لطفه الى كل ما دقّ و جلّ خَبِيرٌ (٦٣) بالتدابير الظاهرة و الباطنة و بأحوال عباده و ما احتاجوا اليه من الأرزاق.

٦٤

لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ خلقا و ملكا وَ إِنَّ اللّه لَهُوَ الْغَنِيُّ في ذاته عن كل شي ء الْحَمِيدُ (٦٤) المستوجب للحمد بصفاته و أفعاله او المحمود في ذاته و ان لم يوجد حامد غيره.

٦٥

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّه سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ اى جعلها مذلّلة لكم معدة لمنافعكم-

وَ الْفُلْكَ بالنصب عطف على ما او على اسم انّ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ طال منها او استيناف و قيل معناه سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ من الدواب لتركبوها في البر و سخر لكم الفلك لتركبوه في البحر وَ يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ يعنى من ان تقع على الأرض و من هذا يظهر ان الأجسام الفلكية مثل الأجسام الارضية في الميل الى ما تحته و انما أمسكها اللّه تعالى بقدرته- و

قال البيضاوي أمسكها بان خلقها على صور متداعية الى الاستمساك إِلَّا بِإِذْنِهِ استثناء من مضمون قوله يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ يعنى لا تقع على الأرض في حال من الأحوال الا متلبسا باذنه اى بمشيئة

قال البيضاوي و ذلك يوم القيامة-

قلت و لم نعلم وقوع السماء على الأرض يوم القيامة بل الانشقاق و الانفطار و كونه كالمهل و وردة كالدهان و طيّه كطىّ السجل- فالاولى ان يقال الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا و ذلك لا يقتضى وجود المستثنى- فمعنى الاية لا يقع السماء على الأرض بغير اذنه و لا يقتضى ذلك الاذن بالوقوع في وقت من الأوقات و لا لا «١» وقوعها و اللّه اعلم إِنَّ اللّه بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) حيث جعل لهم اسباب الاستدلال و فتح عليهم أبواب المنافع و دفع عنهم انواع المصائب.

(١) و في الأصل و لا وقوعها- الفقير الدهلوي.

٦٦

وَ هُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ بنفخ الأرواح في أجسادكم بعد ان كنتم جمادا عناصر و نطفا و علقا و مضغا و أجسادا لا روح فيها ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء اجالكم بنزع الأرواح من أجسادكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ فى الاخرة باعادة الأجسام و نفخ الأرواح فيها إِنَّ الْإِنْسانَ المشرك لَكَفُورٌ (٦٦) لجحود للنعم بعد ظهورها لا يعرف نعمة الإنشاء المبدئ للوجود و لا الافناء المقرب الى الموعود و لا الاحياء الموصل الى المقصود او المعنى كفور بربّه مع قيام البراهين القاطعة على وجوده و وحدته و صفاته الكاملة.

٦٧

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا لم يذكر هاهنا بالواو للعطف كما ذكر فيما سبق لان هناك وقعت الاية مع ما يناسبها من الاى الواردة في النسائك فعطفت على أخواتها و هذه وقعت مع التباعد عن معناها فلم يعطف مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ قال ابن عباس يعنى شريعة عاملون بها و روى انه قال عيدا

و قال مجاهد و قتادة قربان يذبحون فيه و قيل موضع عبادة و قيل مألفا يألفونه و المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد لعمل خيرا و شر و منه مناسك الحج لتردد الناس الى أماكن الحج- و في القاموس النساء العبادة و أرنا مناسكنا متعبداتنا و نفس النسك و موضع يذبح فيه و النسيكة اى الذبيحة و النسك المكان المألوف و المنسك المقعد فَلا يُنازِعُنَّكَ سائر ارباب الملل فِي الْأَمْرِ اى في امر الدين او النسائك لانهم اما جهال او اهل عناد و لو لم يعاند اهل العلم منهم فلا سبيل لهم الى منازعتك لان امر دينك اظهر من ان يقبل النزاع-

قال البغوي نزلت في بديل بن ورقا و بشر بن سفيان و يزيد بن خنيس قالوا لاصحاب محمّد صلى اللّه عليه و سلم مالكم تأكلون مما تقتلون بايديكم و لا تأكلون مما قتله اللّه- قال الزجاج معنى قوله فَلا يُنازِعُنَّكَ لا تنازعهم أنت كما يقال لا يخاصمنّك فلان اى لا تخاصمه و هذا جائز فيما يكون بين اثنين فلا يجوز لا يضربنك زيد تريد لا تضربه و جاز لا يضاربنك زيد بمعنى لا تضربه و ذلك لان المنازعة و المخاصمة لاتتم الا باثنين فاذا ترك أحدهما ذهبت المخاصمة وَ ادْعُ الناس إِلى رَبِّكَ الى توحيده و عبادته قلت بل الى ذاته و الوصول اليه بلا كيف إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) طريق سوى الى الحق و مدارج القرب.

٦٨

وَ إِنْ جادَلُوكَ بعد ظهور الحق و لزوم الحجة فَقُلِ اللّه أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) من المجادلة الباطلة و غيرها فمجازيكم عليها الجملة الشرطية معطوفة على قوله فلا ينازعنّك- و في هذه الجملة وعيد مع رفق و كان ذلك قبل الأمر بالقتال.

٦٩

اللّه يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ اى يقضى بين المؤمنين منكم و الكافرين فيظهر الحق من الباطل بإثابة المؤمنين و عقاب الكافرين يوم القيامة كما فصل بينهم في الدنيا بالحجج و الآيات فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) من امر الدين الاختلاف ذهاب كل واحد من الخصمين الى خلاف ما ذهب اليه الاخر.

٧٠

أَ لَمْ تَعْلَمْ استفهام تقرير أَنَّ اللّه يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لا يخفى عليه شي ء إِنَّ ذلِكَ كله فِي كِتابٍ يعنى اللوح المحفوظ الّذي كتب اللّه فيه قبل خلق السموات و الأرض ما كان و ما يكون فلا يهمنك أمرهم مع علمنا به و حفظنا له إِنَّ ذلِكَ اى الإحاطة به او إثباته في اللوح او المحكم بينكم عَلَى اللّه يَسِيرٌ (٧٠) لان علمه مقتضى ذاته و نسبة المعلومات كلها الى علمه سواء.

٧١

وَ يَعْبُدُونَ عطف على مضمون ما سبق من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى و كمال قدرته يعنى أ تعلمون تلك الدلائل الواضحة و البراهين القاطعة في التوحيد و الالوهية و هم مع ذلك يعبدون مِنْ دُونِ اللّه ما لَمْ يُنَزِّلْ اللّه بِهِ سُلْطاناً اى حجة تدل على جواز عبادته وَ ما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ حصل لهم من ضرورة العقل او استدلاله او بالنقل الصحيح المفيد للعلم من المخبر الصادق الّذي دل على صدقه برهان او المتواتر المنتهى الى احدى الحواس الخمس وَ ما لِلظَّالِمِينَ اى المشركين الذين ارتكبوا مثل هذا الظلم مِنْ نَصِيرٍ (٧١) يمنعهم من عذاب اللّه.

٧٢

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ الشرط مع الجزاء معطوف على يعبدون آياتُنا من القرآن بَيِّناتٍ واضحات اتيانا من اللّه تعالى او واضحات الدلالة على العقائد الحقة و الاحكام الالهية تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ اى الإنكار يعنى يظهر في وجوههم اثار الإنكار من العبوس و الغيظ وضع المظهر موضع الضمير للدلالة على ان الباعث على الإنكار انما هو شدة كفرهم لا غير ذلك- او المراد بالمنكر ما يقصدونه بالمؤمنين من الشر يَكادُونَ حال من الذين كفروا يَسْطُونَ اى يبطشون او يبسطون إليهم أيديهم بالسوء و أصله من سطا الفرس يسطو إذا قام على رجليه رافعا يديه اما مرحا اى أشرا و اما نزوا على الأنثى- و في القاموس سطا عليه و به سطوا و سطوة صال او قهر بالبطش بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا يعنى بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه قُلْ لهم يا محمد أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ لكم و اكره إليكم مِنْ ذلِكُمُ اى من هذا القرآن او من غيظكم على التالين و من سطوكم عليهم او مما أصابكم من الضجر بسبب ما تلوا عليكم النَّارُ اى هو النار كانّه جواب سائل ما هو و يجوز ان يكون مبتدا خبره وَعَدَهَا اللّه اى وعدها «١» اللّه الَّذِينَ كَفَرُوا بان مصيرهم إليها و على الاول هذه جملة مستأنفة وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) النار.

(١) تكرار محض و لعل منشأة توهم عدم الضمير الراجع الى النار في هذه الاية و لذلك لم يكتبه المفسر العلام رحمه اللّه تعالى في نسخته الّتي بايدينا فقال وعد اللّه اى وعدها اللّه فالبيان عين المبين- الفقير الدهلوي.

٧٣

يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ اى بين لكم حال مستغرب او قصة عجيبة فَاسْتَمِعُوا لَهُ اى للمثل استماع تدبر و تفكر- و قيل معنى الاية جعل لى مثل يعنى جعل الكفار للّه سبحانه مثلا مماثلا في استحقاق العبادة و هى الأصنام فاستمعوا حالها ثم احكموا هل يجوز به التمثيل له تعالى ثم بين ذلك فقال إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ قرآ يعقوب بالياء التحتانية و الضمير راجع الى الكفار و الباقون بالتاء على الخطاب للكفار و الراجع الى الموصول محذوف يعنى انّ الّذين تدعونها ايها الكفار الهة كائنة مِنْ دُونِ اللّه و هى الأصنام لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً اى لا يقدرون على خلق ذباب واحد مع صغره و قلته و خسته- لان لن بما فيها من تأكيد النفي دالّة على منافاة ما بين المنفي و المنفي عنه و الذباب مشتق من الذب لانه يذب و جمعه اذبة للقلة ذبّان للكثرة كغراب و أغربة و غربان وَ لَوِ اجْتَمَعُوا اى الأصنام لَهُ اى لخلق الذباب و هو بجوابه المقدر في موضع الحال جى ء بها للمبالغة اى لا يقدرون على خلقه مجتمعين له متقاونين عليه فكيف إذا كانوا منفردين قالوا و حينئذ للحال- و قيل للعطف على معطوف محذوف تقديره مستو حالهم في عدم القدرة على الخلق لو لم يجتمعوا لخلقه و لو اجتمعوا له اى لا يقدرون عليه في شي ء من الأحوال وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ كانوا يطلون الأصنام بالزعفران و يضعون بين يديها الطعام و كانت الذباب تقع عليه و تسلب منه فقال اللّه سبحانه ان يسلب الذباب شيئا منهم لا يقدرون على استنقاذه و لا يقوون على مقاومته فضلا من ان يخلقوه- جهّل اللّه سبحانه الكفار غاية التجهيل حيث أشركوا باللّه القادر على الممكنات كلها المتفرد بايجاد الموجودات بأسرها أعجز الأشياء الّذي لا يقدر على خلق اقل الاحياء و أذلها و لو اجتمعوا له بل لا يقوى على مقاومة هذا الأقل الأذل- و يعجز عن دفعه عن نفسها و استنقاذ ما يتخطفه منها ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ (٧٣) قال ابن عباس الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب عن الصنم و المطلوب الصنم يطلب الذباب منه السلب و لا شك ان الطالب ضعيف و المطلوب أضعف منه- و قيل على العكس الطالب طالب الاستنقاذ تقديرا و المطلوب الذباب و قال الضحاك الطالب عابد الصنم و المطلوب الصنم.

٧٤

ما قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ اى ما عظّموه حق تعظيمه و ما عرفوه حق معرفته و ما وصفوه حق توصيفه حيث أشركوا به ما لا يمتنع من الذباب و لا ينتصف منه إِنَّ اللّه لَقَوِيٌّ على خلق الممكنات بأسرها عَزِيزٌ (٧٤) لا يغلبه شي ء و الهتهم عجزة عن أقلّها مقهورة من اذلّها.

٧٥

اللّه يَصْطَفِي اى يختار مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا يتوسطون بينه و بين الأنبياء بالوحى و بين الناس بقبض الأرواح و إيصال الأرزاق و غير ذلك-

قال البغوي هم جبرئيل و ميكائيل و اسرافيل و عزرائيل و غيرهم وَ مِنَ النَّاسِ اى و يختار من الناس رسلا يدعون سائرهم الى الحق و يبلّغونهم ما نزل عليهم من اللّه تعالى اوّلهم آدم و آخرهم محمّد صلى اللّه عليهم و سلم-

قال البغوي نزلت حين قال المشركون أنزل عليه الذّكر من بيننا- فاخبر ان الاختيار الى اللّه تعالى يختار من يشاء من خلقه و

قال البيضاوي لمّا قرّر وحدانيته و نفى ان يشاركه غيره في الالوهية و صفاتها بين ان له عبادا مصطفين للرسالة يتوسل بإجابتهم و الاقتداء به الى عبادته سبحانه و هو أعلى المراتب و منتهى الدرجات لمن عداه من الموجودات تقريرا للنبوة و تزييفا لقولهم ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللّه زُلْفى و الملائكة بنات اللّه و نحو ذلك إِنَّ اللّه سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) مدرك للاشياء كلها.

٧٦

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ قال ابن عباس يعنى ما قدموا و ما خلفوا- و قال الحسن ما عملوا و ما هم عاملون بعد- و قيل الضمير راجع الى الرسل اى يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ اى الرسل اى ما قبل خلقهم و ما خلفهم اى ما هو كائن بعد فنائهم وَ إِلَى اللّه تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦) اى اليه مرجع الأمور كلها لانه مالكها بالذات لا يسئل عما يفعل من الاصطفاء و غيره و هم يسئلون.

٧٧

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا اى صلوا عبر عن الصلاة بالركوع و السجود لانهما ركنان لها لا زمان لا تنفك عنهما بخلاف غيرهما من الأركان فان القراءة تسقط عن الأخرس و القيام عمن لا يستطيعه- و اما الركوع و السجود فلا يسقطان ابدا عند ابى حنيفة رحمه اللّه حيث قال من لم يقدر على الإيماء برأسه للركوع و السجود يتاخر عنه الصلاة و لا يتادى بالإيماء بالحاجب او القلب وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ بكل ما يصلح كونه عبادة له تعالى وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ قال ابن عباس هو صلة الرحم و مكارم الأخلاق و الظاهر انه يعم الافعال كلها يعنى اختاروا ما هو خير و أصلح فيما تأتون به و ما تذرونه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) الجملة في محل النصب على الحال اى افعلوا هذه كلها و أنتم راجون الفلاح غير متيقنين له و لا واثقين بأعمالكم- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اوحى الى نبى من أنبياء بنى إسرائيل قل لاهل طاعتى من أمتك لا يتكلوا على أعمالهم فانى لا اناصب عبد الحساب «١» يوم القيامة أشاء ان أعذبه الا عذبته و قل لاهل معصيتى من أمتك لا يلقوا بايديهم فانى اغفر الذنوب العظيمة و لا أبالي رواه ابو نعيم عن على عليه السلام

و اخرج البزار عن انس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم يخرج لابن آدم ثلاثة دواوين ديوان فيه العمل الصالح و ديوان فيه ذنوبه و ديوان فيه النعم من اللّه تعالى يقول اللّه لاصغر نعمه في ديوان النعم خذى منك من العمل الصّالح فتستوعب العمل الصّالح فيقول و عزتك استوعبت و يبقى الذنوب و قد ذهب العمل الصالح كله- فاذا أراد اللّه ان يرحم عبدا قال يا عبدى قد ضاعفت لك حسناتك و تجاوزت عن سيئاتك و وهبت لك نعمتى-

(مسئلة) اختلف اهل العلم في سجود التلاوة عند هذه الاية فقال ابو حنيفة و مالك و سفيان الثوري و غيرهم انه لا سجود هاهنا لان المراد بالسجود هاهنا السجود الصلاتى بدليل كونه مقرونا بالركوع و المعهود في مثله من القرآن ما هو ركن الصلاة بالاستقراء نحو اسجدي و اركعى مع الرّكعين- و قال ابن المبارك و الشافعي و احمد و إسحاق و غيرهم لا بد هاهنا ان يسجد للتلاوة لحديث عقبة بن عامر قال قلت يا رسول اللّه أ فضّلت سورة الحج بان فيها سجدتين قال نعم و من لم يسجدهما فلا يقرأهما- رواه احمد و ابو داود و الترمذي (و اللفظ له) و الدار قطنى و البيهقي و الحاكم و فيه ابن لهيعة و هو ضعيف قال الترمذي اسناده ليس بالقوى و قال ابن الجوزي قال ابن وهب ابن لهيعة صدوق يعنى انما ضعفه لاجل حفظه و قال الحاكم عبد اللّه بن لهيعة أحد الائمة و انما نقم اختلاطه في اخر عمره و قد تفرد به و روى ابو داود في المراسيل عنه صلى اللّه عليه و سلم قال فضلت سورة الحج بسجدتين قال و قد أسند هذا و لا يصح و حديث عمرو بن العاص ان النبي صلى اللّه عليه و سلم اقرأه خمس عشرة اية سجدة في القران منها ثلاث في المفصل و في الحج سجدتان- رواه ابو داود و ابن ماجة و الدار قطنى و الحاكم و حسنه المنذرى و النووي و ضعفه عبد الحق و ابن القطان و فيه عبد اللّه بن منين الكلالى و هو مجهول و الراوي عنه الحارث بن سعيد الثقفي المصري و هو لا يعرف ايضا- و قال ابن ماكولا ليس له غير هذا الحديث و أكّد الحاكم حديث عقبة بن عامر بان الرواية صحت فيه من قول عمر و ابنه و ابن مسعود و ابن عباس و ابى الدرداء و ابى موسى و عمار ثم ساقها موقوفة عليهم و أكده البيهقي بما رواه في المعرفة من طريق خالد بن معدان مرسلا و

قال البغوي و هو قول عمر و على و ابن مسعود و ابن عمر-

قلت الموقوف في الباب له حكم المرفوع و قد ذكرنا مسائل سجود التلاوة في سورة الانشقاق.

(١) و في الأصل عند الحساب-.

٧٨

وَ جاهِدُوا الجهد بالضم الوسع و الطاقة و بالفتح المشقة و قيل المبالغة و الغاية و قيل هما لغتان في الوسع و الطاقة و اما في المشقة و الغاية فالفتح لا غير و الجهاد و المجاهدة مفاعلة منه- و لما كان بناؤه للاشتراك بين اثنين استعمل في المحاربة مع الأعداء فان فيه تحمل المشقة من الجانبين و استفراغ ما في الوسع و الطاقة من قول او فعل و المبالغة فيه الى غاية فِي اللّه اى في سبيله و إعلاء دينه و قضاء أحكامه و قيل معناه للّه حَقَّ جِهادِهِ «١» منصوب على المصدرية و معناه جهادا فيه حقّا خالصا- اى حق ذلك الجهاد حقا و خلص خلوصا لوجهه الكريم- فعكس و أضيف الحق الى الجهاد مبالغة كقولك هو حق عالم و أضيف الجهاد الى الضمير اتساعا- او لانه مختص باللّه من حيث انه مفعول لوجه اللّه- و من اجله قال ابن عباس هو استفراغ الطاقة فيه و ان لا يخافوا في اللّه لومة لائم فهو حق الجهاد- و قال الضحاك و مقاتل اعملوا للّه حق عمله و اعبدوه حق عبادته و قال اكثر المفسرين حق الجهاد ان يكون نيته خالصة للّه عزّ و جلّ و قال السدى ان يطاع فلا يعصى- و قال عبد اللّه بن المبارك هو مجاهدة النفس و الهوى و هو الجهاد الأكبر و هو حق الجهاد

قال البغوي و قد روى ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لما رجع من غزوة تبوك قال رجعنا من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر-

قال البغوي أراد بالجهاد الأصغر الجهاد مع الكفار و

(١) عن عبد الرحمن بن عوف قال قال لى عمر السنا كنا نقرا فيما نقرا و جاهدوا في اللّه حقّ جهاده في اخر الزّمان كما جاهدتم في اوّله-

قلت بلى فمتى هذا يا امير المؤمنين- قال إذا كانت بنو امية الأمراء و بنو المغيرة الوزراء- ١٢ ازالة الخفا- منه رحمه اللّه-.

بالجهاد الأكبر الجهاد مع النفس

و اخرج البيهقي في الزهد عن جابر رضى اللّه عنه قال قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قوم غزاة فقال قد متم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر- قيل و ما الجهاد الأكبر قال مجاهدة العبد لهواه قال البيهقي هذا اسناد فيه ضعف-

قلت ليس المراد بالجهاد في هذه الاية المحاربة مع الكفار خاصة لانه يأبى عنه سياق الآية لان في نسق الاية ارتقاء من الأخص الى الأعم في كل عطف حيث ذكر الصلاة اولا بقوله ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا لكونها أهم العبادات ثم عطف عليه و اعبدوا ربّكم و هو يشتمل العبادات كلها الصّلوة و غيرها ثم قال و افعلوا الخير و هو يشتمل أداء حقوق اللّه تعالى كلها من العبادات و العقوبات و غيرها و محاربة الكفار و أداء حقوق الناس و مكارم الأخلاق و غير ذلك و إتيان السنن و المستحيات كلها- ثم قال وَ جاهِدُوا فِي اللّه حَقَّ جِهادِهِ فلا وجه لحمله على محاربة الكفار خاصة بل المراد منه الإخلاص في الأقوال و الأعمال و الأحوال كلها و يحصل ذلك بالجهاد مع النفس و مخالفة الهوى- فان الإخلاص انما يحصل بصفاء القلب و فناء النفس- و هما بالجهاد مع النفس الامارة بالسوء و مخالفة الهوى مع اقتباس أنوار النبوة و ذلك في اصطلاح القوم يعبّر بالسلوك و الجذب- و ذلك الإخلاص هو المعنى من اقوال أوائل المفسرين المذكورة فان الصوفي إذا صار من المخلصين بعد فناء النفس و صفاء القلب لا يخاف في اللّه لومة لائم و يعبد اللّه حق عبادته بلا رياء و سمعة ينية خالصة للّه عزّ و جلّ و يطيع اللّه و لا يعصيه و لا شك ان ذلك هو الجهاد الأكبر- و اما الجهاد الأصغر يعنى المحاربة مع الكفار فهو صورة الجهاد و لا يعتدبه و لا بشي ء من العبادات ما لم يكن خالصا لوجه اللّه- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انما الأعمال بالنيات و انما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته الى اللّه و رسوله فهجرته الى اللّه و رسوله و من كانت هجرته الى دنيا يصيبها «١» او امراة ينكحها فهجرته الى ما

(١) و في الأصل الى الدنيا ليصبها إلخ الفقير الدهلوي.

هاجر اليه- متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال اللّه تعالى انا اغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معى غيرى فانا منه برى ء هو للذى عمله- رواه مسلم-

(فائدة) قوله صلى اللّه عليه و سلم قد متم خير مقدم من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر يفيد ان الجهاد الأكبر يعنى المجاهدة مع النفس انما يتاتى للمريد بمصاحبة الشيخ الكامل المكمل- فانهم لما قدموا على النبي صلى اللّه عليه و سلم بعد المحاربة مع الكفار اكتسبوا ببركة صحبته و انعكاس أشعة أنواره صفاء في القلب و فناء في النفس- و قوله رجعنا من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر الضمير للمتكلم مع الغير و المراد منه اسناد الرجوع الى من معه من الصحابة فانهم كانوا في حالة الجهاد مشغولين بمحاربة الكفار و ان كانوا مع النبي صلى اللّه عليه و سلم في مصاحبته لكن كان غالب هممهم مدافعة الكفار ثم إذا صاروا في المدينة مقيمين مع النبي صلى اللّه عليه و سلم لم يكن حينئذ همهم الا الاقتباس لانواره- و الاقتفاء بمعالم اثاره و أخذ العلوم الظاهرة و الباطنة من جنابه صلى اللّه عليه و سلم- هُوَ اجْتَباكُمْ اى اختاركم من بين الخلائق لمصاحبة نبيه و حبيبه صلى اللّه عليه و سلم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه اختارني و اختار لى أصحابا و اختار لى منهم اصهارا و أنصارا «١» و عن واثلة بن اسقع قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول انّ اللّه اصطفى كنانة من ولد إسماعيل و اصطفى قريشا من كنانة و اصطفى من قريش بنى هاشم و اصطفاني من بنى هاشم- رواه مسلم و في رواية للترمذى ان اللّه اصطفى من ولد ابراهيم إسماعيل و اصطفى من ولد إسماعيل بنى كنانة وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ اى ضيق و تكليف يشتد القيام به عليكم قيل معناه ان المؤمن لا يبتلى بشي ء من الذنوب الا جعل اللّه له منه

(١) هكذا بياض في الأصل.

مخرجا بعضها بالتوبة و بعضها برد المظالم و القصاص و بعضها بانواع الكفارات فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد سبيلا الى الخلاص من العقاب و كان فيما سبق من الأمم من الذنوب مالا توبة لها- و قيل معناه ليس عليكم من ضيق في اوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان و الفطر و وقت الحج إذا التبس عليكم وسع ذلك عليكم حتى تتيقنوا- و قال مقاتل يعنى الرخص عند الضرورات كقصر الصلاة في السفر و التيمم و الإفطار في السفر و المرض و أكل الميتة عند الضرورة و الصلاة قاعدا او مستلقيا عند العجز و هو قول الكلبي و ذلك معنى قوله صلى اللّه عليه و سلم إذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم- و روى عن ابن عباس انه قال الحرج ما كان على بنى إسرائيل من الاصار الّتي كانت عليهم وضعها اللّه عزّ و جلّ عن هذه الامة-

قلت و يمكن ان يقال معنى قوله تعالى ما جَعَلَ اللّه «١» عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ انه تعالى رفع عنكم كلفة التكاليف الشرعية حتى صارت التكاليف الشرعية ارغب إليكم من المرغوبات الطبعية- و ذلك من لوازم الاجتباء قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم جعلت قرة عينى في الصلاة- رواه احمد و النسائي و الحاكم و صححه و البيهقي عن انس مِلَّةَ أَبِيكُمْ منصوب على الإغراء اى عليكم ملة أبيكم او على الاختصاص اى اعنى بالدّين ملة أبيكم- او على المصدر بفعل دل عليه مضمون ما قبلها بحذف المضاف اى وسع دينكم توسعة ملة أبيكم إِبْراهِيمَ عطف بيان و الظاهر انه خطاب للمؤمنين من قريش إذ السورة مكية ثم الناس تبع لهم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم و كافرهم تبع لكافرهم- متفق عليه من حديث ابى هريرة و في رواية لمسلم عن جابر انه صلى اللّه عليه و سلم قال الناس تبع لقريش في الخير و الشر- و قيل خطاب للعرب و كانوا من نسل ابراهيم و قيل خطاب لجميع المسلمين و ابراهيم كان أبا

(١) هكذا في الأصل و ليس في الاية المفسرة لفظ الجلالة فتامل و الفقير الدهلوي.

لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو كالاب لامته فانه سبب لحياتهم الابدية و وجودهم على الوجه المعتد به في الاخرة و لاجل ذلك قال اللّه تعالى و أزواجه امّهاتهم- و قال النبي صلى اللّه عليه و سلم انما انا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم فاذا اتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة و لا يستدبرها و لا يستطب بيمينه رواه احمد و ابو داود و النسائي و ابن ماجة و ابن حبان عن ابى هريرة و لمّا كان ملة ابراهيم و دينه مرغوبا لاهل مكة مؤمنهم و كافرهم- و كانت الكافرون منهم يزعمون انهم على دين ابراهيم عليه السلام نبّه اللّه سبحانه على ان ملة محمد صلى اللّه عليه و سلم هو ملة ابراهيم لا غير انّ اولى النّاس بإبراهيم للّذين اتّبعوه و هذا النّبىّ و الّذين أمنوا هُوَ يعنى اللّه سبحانه سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ نزول «١» القران في الكتب المتقدمة وَ فِي هذا القرآن سماكم مسلمين و قال ابن زيد هو يعنى ابراهيم سماكم المسلمين من قبل هذا الوقت في أيامه حيث قال رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ يعنى اهل مكة- و تسميتهم مسلمين في القرآن و ان لم يكن من ابراهيم لكن كان بسبب تسميته من قبل- و قيل تقدير الكلام و في هذا القرآن بيان تسميته إياكم مسلمين هذه الجملة بيان لقوله تعالى هُوَ اجْتَباكُمْ فان الهداية الى الإسلام الحقيقي و التسمية بالمسلمين مبنىّ على الاجتباء لِيَكُونَ الرَّسُولُ متعلق بمضمون هو سمّاكم المسلمين اى اعطاكم الإسلام و جعلكم مسلمين ليكون الرّسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ يوم القيامة ان قد بلّغكم قلت و جاز ان يكون متعلقا بقوله ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا مع ما عطف عليه وَ تَكُونُوا أنتم شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ انّ رسلهم قد بلّغتهم اخرج ابن جرير و ابن المنذر عن جابر بن عبد اللّه عن النبي

(١) الاولى ان يقال في التفسير (اى من قبل نزول إلخ) لان فيما اختاره المفسر العلام رحمه اللّه تعالى يلزم جر قبل و هو مبنى على الضم- الفقير الدهلوي.

صلى اللّه عليه و سلم قال انا و أمتي يوم القيامة على كئوم «١» مشرفين على الخلائق ما من الناس أحد الا ودّ انه منا و ما من نبى الا كذّبه قومه و نحن نشهد انه قد بلّغ رسالة ربه-

و اخرج ابن المبارك في الزهد انبأنا رشد بن سعد حدثنى ابن العم عن ابى حبلة بسنده قال أول من يدعى يوم القيامة اسرافيل فيقول اللّه هل بلّغت عهدى فيقول لعم قد بلّغته جبرئيل فيدعى جبرئيل فيقال هل بلّغك اسرافيل عهدى فيقول لعم فيخلى اسرافيل فيقول لجبرئيل ما صنعت في عهدى فيقول يا رب بلّغت الرسل- فيدعى الرسل فيقال للرسل هل بلّغكم جبرئيل عهدى فيقولون نعم فيقال لهم ما صنعتم في عهدى فيقولون بلّغنا الأمم- فيدعى الأمم فيقال لهم هل بلّغكم الرسل فمكذّب و مصدّق فيقول الرسل لنا عليهم شهداء فيقول من- فيقولون امة محمد صلى اللّه عليه و سلم فيدعى امة محمد فيقال لهم أ تشهدون ان الرسل قد بلّغت الأمم فيقولون نعم- فيقول الأمم يا ربنا كيف يشهد علينا من لم يدركنا- فيقول اللّه تعالى كيف تشهدون عليهم و لم تدركوهم فيقولون يا ربنا أرسلت إلينا رسولا و أنزلت علينا كتابا و قصصت علينا فيه ان قد بلّغوا- فذلك قوله وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً- و قد ذكرنا ما رواه البخاري و غيره عن ابى سعيد الخدري في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً.فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ داوموا عليها وَ آتُوا الزَّكاةَ يعنى فتقربوا الى اللّه بانواع الطاعات لما خصّكم بهذا الفضل و الشرف و اعتصموا باللّه يعنى ثقوابه في جميع أموركم و لا تستعينوا في شي ء الا منه و قال الحسن معناه تمسكوا بدين اللّه و روى عن ابن عباس سلوا ربكم يعصمكم

(١) جمع كومة اى المكان المرتفع- ١٢ منه رح.

من كل ما يكره- و قيل معناه ادعوه ليثبتكم على دينه- و قيل الاعتصام باللّه هو التمسك بالكتاب و السنة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب اللّه و سنة رسوله- رواه مالك في الموطإ مرسلا و عن عصيف بن الحارث اليماني قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما أحدث قوم بدعة الا رفع مثلها من السنة فتمسك سنة خير من احداث بدعة- رواه احمد هُوَ مَوْلاكُمْ ناصركم و حافظكم و متولى أموركم هذه الجملة في مقام التعليل للاعتصام

فَنِعْمَ الْمَوْلى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ (٤٨) الفاء للسببية يعنى إذا ثبت ان اللّه موليكم و نصيركم فنعم المولى موليكم و نعم النصير نصيركم إذ لا مثل له في الولاية و النصر بل لا مولى و لا نصير سواه في الحقيقة و اللّه اعلم-

﴿ ٠