سُورَةُ ”الْمُؤْمِنُونَ“ مَكِّيَّةٌ وَهِيَ مِائَةٌ وَثَمَانِيَ عَشَرَةَ آيَةً بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ربّ يسّر و تمّم بالخير اخرج الحاكم و صححه على شرط الشيخين عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان إذا صلى رفع بصره الى السماء فنزلت. _________________________________ ١ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) ٢ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) فطأطا راسه و اخرج ابن مردوية بلفظ كان يلتفت في السماء فنزلت- و ذكره البغوي انه قال ابو هريرة كان اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يرفعون أبصارهم الى السماء في الصّلوة فلمّا نزل الّذين هم في صلاتهم خشعون رموا بأبصارهم الى مواضع السجود- و اخرج ابن ابى حاتم عن ابن سيرين مرسلا كان الصحابة يرفعون أبصارهم الى السماء في الصّلوة فنزلت قرا ورش بإلقاء حركة همزة أفلح على دال قد و حذف الهمزة- و كلمة قد تثبت ما كان متوقعا- كما ان لمّا ينفيه- و تدل على ثباته إذا دخل على الماضي و لذلك تقرّبه من الحال- و لمّا كان المؤمنون متوقعين الفلاح بفضل اللّه صدّرت بها بشارة لهم- و الفلاح قال في القاموس هو الفوز (يعنى بالمقصود) و النجاة ريعتى من المرهوب) و البقاء في الخير- و هو دنيوى و اخروى و المراد هاهنا الفلاح الأخروي الكامل- و كماله ان لا يعذب أصلا لا في القبر و لا بالمناقشة في الحساب و شدائد يوم القيامة و لا بدخول النار و لا بصعوبة المرور على الصراط- و يفوز الى أعلى المقاصد في الجنان و مراتب القرب و الرؤية و الرضوان من الملك الديان و اما الفلاح في الجملة فغير مختص بالمتصفين بهذه الصفات المذكورة في تلك الآيات- بل هو لكل من قال لا اله الا اللّه قال اللّه تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ و الايمان و التوحيد نفسه رأس الخيرات- و من هاهنا قال ابن عباس قد سعد المصدقون بالتوحيد و بقوا في الجنة- و روى عن ابن عباس مرفوعا خلق اللّه جنة عدن و دلّى فيها ثمارها و شق ف يها أنهارها ثم نظر إليها فقال تكلمى فقالت قد أفلح المؤمنون فقال و عزتى و جلالى لا يجاورنى فيك بخيل- رواه الطبراني قلت لعل المراد بالبخيل هاهنا هو الكافر فانه يتجل عن أداء حق اللّه تعالى في التوحيد و اخرج ايضا الطبراني بسند اخر جيد عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لما خلق اللّه جنة عدن خلق فيها مالا عين رات و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر ثم قال تكلمى فقالت قد أفلح المؤمنون- و اخرج البزار و الطبراني و البيهقي نحوه عن ابى سعيد الخدري مرفوعا و البيهقي عن مجاهد و عن كعب نحوه و الحاكم عن انس نحوه و اخرج ابن ابى الدنيا في صفة الجنة عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خلق اللّه تبارك و تعالى جنة عدن من درة بيضاء و لبنة من ياقوتة حمراء و لبنة من زبرحد خضراء و ملاطها المسك و حشيشها الزعفران و حصاها اللؤلؤ و ترابها العنبر- ثم قال لها انطقى قالت قد أفلح المؤمنون- قال و عزتى لا يجاورنى فيك بخيل- قلت و يمكن ان يقال ان المراد بالفلاح دحول الجنة مطلقا و لو بعد التعذيب و ذلك لجميع المؤمنين كما تدل عليه الأحاديث المذكورة- و التقييد في القران بالصفات المذكورة ليس للاحتراز بل لنمدح- فان شأن المؤمن يقتضى الاتصاف بتلك الصفات و على تقدير كون المراد بالفلاح الفلاح الكامل و كون التقييد بالصفات للاحتراز لا يدل تلك الآيات الا على الوعد بالفلاح الكامل للمؤمنين الكاملين المتصفين بتلك الصفات و لا ندل على نفى الفلاح عن غيرهم من المؤمنين- لانا لا نقول بمفهوم الصفة كما قرر فى الأصول ان التقييد بالشرط او الصفة يجعل ما لا يوجد فيه الشرط او الصفة في حكم المسكوت عنه و هو المراد بالاحتراز لا انه يجعله في حكم المنطوق بنفي الحكم و قد انعقد الإجماع على ان اهل الكبائر من المؤمنين و ان ماتوا بغير توبة مالهم الى الجنة و هم في مشيئة اللّه تعالى ان شاء عذبهم ثم يدخلهم الجنة و ان شأغفر لهم بلا تعذيب- و الخاشعون قال ابن عباس هم المخبتون أذلاء و قال الحسن خائفون و قال مقاتل متواضعون و قال مجاهد هو غض البصر و خفض الصوت و عن على كرم اللّه وجهه هو ان لا يلتفت يمينا و لا شمالا و قال سعيد بن جبير لا يعرف من على يمينه و لا من على شماله و لا يلتفت من الخشوع للّه تعالى و قال عمرو بن دينار هو السكون و حسن الهيئة و قال جماعة هو ان لا ترفع بصرك عن موضع سجودك و قال عطاء هو ان لا تعبث بشي ء من جسدك في الصلاة- و قيل الخشوع في الصلاة هو جمع الهمة لها و الاعراض عما سواه و التدبر فيما يجرى على لسانه من القراءة و الذكر- و ان لا يجاوز مصلاه و لا يلتفت و لا يغيب و لا يميل و لا يفرقع أصابعه و لا يقلّب الحصى و لا يفعل شيئا مما يكره في الصّلوة و عن ابى الدرداء هو اخلاص المقال و إعظام المقام و اليقين التام و جمع الاهتمام و في القاموس الخشوع هو الخضوع اى التواضع او هو قريب من الخضوع او هو في البدن و الخشوع في الصوت و البصر و السكون و التذلّل- و في النهاية الخشوع في الصوت و البصر كالخضوع في البدن- عن ابى ذر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال لا يزال اللّه عزّ و جلّ مقبلا على العبد ما كان في صلاته ما لم يلتفت فاذا التفت اعرض عنه رواه احمد و ابو داود و النسائي و الدارمي و عن عائشة قالت سالت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن الالتفات في الصلاة قال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلوة العبد- متفق عليه و عن انس بن مالك قال قال النبي صلى اللّه عليه و سلم ما بال أقوام يرفعون أبصارهم الى السماء في صلاتهم- فاشتد قوله في ذلك حتى قال لينتهين عن ذلك او ليتخطفن أبصارهم- رواه البغوي و روى مسلم و النسائي عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة الى السماء او ليختطفن أبصارهم و عن جابر بن سمرة بلفظ لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم الى السماء في الصلاة او لا يرجع إليهم أبصارهم- رواه احمد و مسلم و ابو داود و ابن ماجة و عن ابى هريرة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم راى رجلا يعبث بلحيته في الصّلوة فقال لو خشع «١» قلب هذا لخشعت «٢» جوارحه- رواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول بسند ضعيف و عن ابى الأحوص عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال إذا قام أحدكم الى الصلاة فلا يمسح الحصى فان الرحمة تواجهه رواه البغوي و رواه احمد و ابن عدى و النسائي و ابن ماجة و ابن حبان عن ابى ذر (فصل) و عن انس ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال له يا انس اجعل بصرك حيث تسجد- رواه البيهقي في سننه الكبير و عنه قال قال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يا بنى إياك و الالتفات في الصّلوة فان الالتفات في الصّلوة هلكة فان كان لا بد ففى التطوع لا في الفريضة. (١) عن ابى بكر الصديق رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نعوذ باللّه من خشوع النفاق- قالوا يا رسول اللّه و ما خشوع النفاق قال خشوع البدن و نفاق القلب- و عن مجاهد عن عبد اللّه بن الزبير انه كان يقوم في الصّلوة كانه عود و كان أبو بكر يفعل ذلك ١٢ منه رح. (٢) عن اسماء بنت ابى بكر عن أم رومان والدة عائشة قالت رانى أبو بكر الصديق أ تميل في صلاتى فزجرنى زجرة كدت انصرف من صلاتى قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول إذا قام أحدكم في الصلاة فليسكن أطرافه لا يتميل تميل اليهود فان سكون الأطراف في الصّلوة من تمام الصّلوة- ١٢ ازالة الخفا منه رح-. ٣ وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ قال عطاء عن ابن عباس عن الشرك و قال الحسن عن المعاصي قلت و الاولى أن يقال عما لا يفيدهم في الاخرة كلاما كان او غيره و لا يحمد عليه من قول او فعل مُعْرِضُونَ (٣) فضلا عن ارتكابهم ما يضرهم من الشرك و المعاصي- و قيل هو معارضة الكفار بالشتم و السبّ قال اللّه تعالى وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً- اى إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه- قال البيضاوي هو ابلغ من الذين لا يلهون بوجوه جعل الجملة اسمية و بناء الحكم على الضمير و التعبير عنه بالاسم و تقديم الصلة عليه و اقامة الاعراض مقام الترك ليدل على بعدهم عنه رأسا مباشرة و تسبيبا و ميلا و حضورا فان أصله ان يكون في عرض غير عرضه و كذلك قوله. ٤ وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) الزكوة يطلق على القدر الواجب الّذي يخرجه المزكى من النصاب و على فعل المزكى و المراد هاهنا هو الفعل لان الفاعل انما يفعل الفعل دون العين و جاز ان يراد العين بتقدير المضاف يعنى لاداء الزكوة فاعلون- و في لفظ فاعلون دلالة على المداومة و دخول اللام لتقدم المفعول و ضعف اسم الفاعل عن العمل يقال هذا ضارب لزيد و لا يقال ضرب لزيد- و قيل الزكوة هاهنا هو العمل الصّالح اى و الذين هم للعمل الصالح فاعلون. ٥ وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) الفرج اسم لجميع سوءة الرجل و المرأة و حفظ الفرج التعفف عن الحرام. ٦ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ صلة لحافظون من قولك احفظ علىّ عنان فرسى يعنى لا تطلقه- و استقام المعنى لتضمن الحفظ معنى نفى البذل او صلة لمقدور هو لا يبذلونها لدلالة قوله غير ملومين عليه- و جاز ان يكون المستثنى المفرغ منصوبا على الحال و التقدير حافظون لفروجهم في جميع الأحوال الا قادرين على أزواجهم اى زوجاتهم أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ اى سرياتهم يعنى ناكحين او مالكين قال البيضاوي انما قال ما اجراء للمماليك مجرى غير ذوى العقول إذ الملك اصل شائع فيه قلت بل المراد منه الإماء فان النساء لقلة عقلهن ملحقات بغير ذوى العقول و لذلك يستعمل ضمائر التأنيث لغير ذوى العقول- فايراد كلمة ما للدلالة على ان المراد به الإماء دون العبيد من المماليك فلا يجوز للنساء الاستمتاع بفروح عبيدهم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فى إتيانها و الضمير المنصوب لحافظون و لمن دل عليه الاستثناء اى فان بذلوها على أزواجهم او امائهم فانّهم غير ملومين. ٧ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ المستثنى اى طلب سوى الأزواج و الإماء المملوكة لبذل الفرج فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) اى الكاملون في الظلم و العدوان المتجاوزون عن الجلال الى الحرام و هذه الاية ناسخة لمتعة النساء- عن ابن عباس قال انما كانت المتعة في اوّل الإسلام كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج بقدر ما يرى انه مقيم فتحفظ له متاعه و تصلح له شيئه حتى إذا نزلت الّا على أزواجهم او ما ملكت ايمانهم قال ابن عباس فكل فرج سواهما فهو حرام- رواه الترمذي و لا شك ان النساء اللاتي يتمتع بهن لسن من الأزواج للاجماع على عدم التوارث بينهم حتى لا تقول الروافض ايضا بالتوارث- و قد قال اللّه تعالى وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ و قد ذكرنا مسئلة متعة النساء في تفسير سورة النساء في تفسير قوله تعالى فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً- و ايضا في هذه الآية دليل على ان الاستمناء باليد حرام- و هو قول العلماء قال ابن جريج سالت عطاء عنه فقال مكروه سمعت ان قوما يحشرون و أيديهم حبالى و أظن انهم هؤلاء- و عن سعيد بن جبير قال عذب اللّه امة كانوا يعبثون بمذاكيرهم. ٨ وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ قرا ابن كثير هاهنا و في المعارج لامنتهم على التوحيد و الباقون بالجمع وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) اى لما يؤتمنون عليه و يعاهدون من جهة الحق كالصلوة و الصوم و غيرهما من العبادات الّتي أوجبها اللّه تعالى- او من جهة الخلق كالودائع و البضائع و ما واعد الناس و عاقدهم فعلى العبد الوفاء بجميعها عن ابى هريرة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ان اوّل ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته فان صلحت فقد أفلح و أنجح و ان فسدت فقد خاب و قد خسر فان انتقص من فريضته شي ء قال الرب تبارك و تعالى انظروا هل لعبدى من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على ذلك- و في رواية ثم الزكوة مثل ذلك ثم يؤخذ الأعمال على حسب ذلك- رواه ابو داود و رواه احمد عن رجل. ٩ وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ قرا حمزة و الكسائي صلاتهم على التوحيد و الباقون على الجمع يُحافِظُونَ (٩) اى يواظبون عليها و يؤدونها في أوقاتها- و لفظ الحفظ لما في الصّلوة من التجدد و التكرار- و ليس تكريرا لما وصفهم به اولا لان الخشوع في الصّلوة غير المحافظة عليها- و في تصدير ذكر الصّلوة و الختم بامرها تعظيم لشأنها و وحدت الصّلوة في الأمر باخشوع لافادة انه لا بد من الخشوع في جنس الصّلوة ايّة صلوة كانت و جمعت في المحافظة عند اكثر القراء آخرا ليفاد المحافظة على أنواعها من الفرائض و الواجبات و السنن و النوافل. ١٠ أُولئِكَ اى الجامعون لهذه الصفات هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الاحقاء بان يسموا وارثا دون غيرهم جملة معترضة للمدح. ١١ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ صفة للوارثين بيان لما يرثونه و التقييد للوراثة بعد إطلاقها تفخيما لها و تأكيدا يعنى يرثون منازل الكفار الّتي أعدت لهم ان أمنوا- عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما منكم من أحد إلا له منزلان منزل في الجنة و منزل في النار فاذا مات فدخل النار ورث اهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ- رواه ابن ماجة و سعيد بن منصور و ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابن مردوية و البيهقي في البعث و اخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير و الحاكم و صححه عن ابى هريرة بلفظ يرثون مساكنهم و مساكن إخوانهم الّتي أعدت لهم لو أطاعوا اللّه- و اخرج ابن ماجة عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من فرمن ميراث وارثه قطع اللّه ميراثه من الجنة- و قال بعضهم معنى الوراثة هو انه يؤل أمرهم الى الجنة و ينالونها كما يؤل امر الوارث الى الميراث- و الفردوس أعلى الجنة و قد مر ذكره مشروحا في سورة الكهف هُمْ فِيها الضمير راجع الى فردوس و تأنيث الضمير لكونه اسما للجنة خالِدُونَ (١١) لا يموتون فيها و لا يخرجون منها جملة مستأنفة روى احمد و الترمذي و النسائي و الحاكم عن عمر بن الخطاب قال كان النبي صلى اللّه عليه و سلم إذا انزل عليه الوحى سمع عند وجهه دوى كدوى النحل فانزل عليه يوما فمكثنا ساعة فسرى عنه فاستقبل القبلة و رفع يديه و قال اللّهم زدنا و لا تنقصنا و أكرمنا و لاتهنّا و أعطنا و لا تحرمنا و اثرنا و لا تؤثر علينا و ارضنا و ارض عنا ثم قال انزل على عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرا قد أفلح المؤمنون حتى ختم عشر آيات- قال النسائي منكر و صححه الحاكم و هذه الآية جامعة لابواب الخير كلها فان اللّه تعالى وصف المؤمنين بالخشوع في الصّلوة و المواظبة على الزكوة و الاعراض عن اللغو و التجنب عن المحرمات و سائر ما يوجب المروة اجتنابه- فظهر انهم بلغوا الغاية على الطاعات البدنية و المالية و التطهر و التنزه للتجليات الذاتية و الصفاتية و اللّه اعلم-. ١٢ وَ لَقَدْ خَلَقْنَا جنس «١» الْإِنْسانَ او آدم عليه السلام و لهذا جواب قسم محذوف و الجملة معطوفة على قوله قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ فانه كان في ذكر الايمان و اصناف العبادات و الطاعات و هذه الجملة لبيان استحقاقه تعالى العبادة و الطاعة و سبب وجوبها- فكانه قال و قد حق لهم ان يعبدونا و يوحدونا لانّا و اللّه لقد خلقناهم مِنْ سُلالَةٍ اى خلاصة سلت من بين الكدر و من للابتداء مِنْ طِينٍ (١٢) من للبيان اى سلالة هو طين صفة لسلالة- اى سلالة كائنة من طين سلت من وجه الأرض- و كان آدم من طين سلت من الأرض و سائر الناس من النطف الّتي هى من الاغذية الّتي هى من الأرض- و جاز ان يكون ظرفا لغوا متعلقا بمعنى سلالة لانها بمعنى مسلولة (١) الاولى و لقد خلقنا الإنسان اى جنسه إلخ لان ما اختاره المفسر العلام رحمه اللّه تعالى يلزم عليه جر لفظة الإنسان و هو منصوب فتامل- الفقير الدهلوي-. فيكون من ابتدائية و قال الكلبي المراد بالطين آدم عليه السلام و المعنى خلقنا جنس الإنسان من نطفة سلت من طين هو آدم - اخرج عبد الرزاق و ابن جرير و عبد بن حميد و ابن ابى حاتم عن قتادة ان المراد بالطين آدم عليه السلام و اخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله تعالى مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ قال من منى بنى آدم قال البغوي و روى عن ابن عباس انه قال السلالة صفوة الماء و قال عكرمة هو الماء سل من الظهر و العرب تسمى النطفة سلالة. ١٣ ثُمَّ جَعَلْناهُ اى السلالة و تذكير الضمير على تأويل المسلول نُطْفَةً و جاز ان يكون الضمير راجعا الى الإنسان و نطفة منصوبا بنزع الخافض فان كان المراد بالإنسان آدم فمضاف الضمير محذوف أقيم المضاف اليه مقامه و المعنى ثم خلقنا ذلك الجنس من نطفة او خلقنا بنيه من نطفة كائنة فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) اى مقر حريز و هو الرحم و المكين في الأصل صفة للمستقر وصف به المحل مبالغة كما عبر عنه بالقرار و هو مصدر. ١٤ ثُمَّ خَلَقْنَا اى صيرنا النُّطْفَةَ البيضاء عَلَقَةً حمراء فَخَلَقْنَا صيرنا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً قطعة لحم قدر ما يمضغ فَخَلَقْنَا صيرنا الْمُضْغَةَ عِظاماً بان صلبناها فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً مما بقي من المضغة او مما أنبتنا عليها مما يصل إليها- و لحما منصوب بنزع الخافض اى كسونا العظام بلحم او هو مفعول ثان لكسونا لتضمنه معنى أعطينا يقال كسوت زيدا حلة اى أعطيته إياها قرا الجمهور عظاما و العظام في الموضعين بلفظ الجمع لاختلافها في الهيئة و الصلابة- و قرا أبو بكر و ابن عامر عظما و العظم على التوحيد اكتفاء باسم الجنس عن الجمع ثُمَّ أَنْشَأْناهُ الضمير عائد الى السلالة او الى الإنسان سواء كان المراد به الجنس او آدم عليه السلام و لا حاجة هاهنا الى تقدير المضاف خَلْقاً آخَرَ مصدر لا نشأنا من غير لفظه يعنى خلقناه خلقا اخر او مفعول ثان له بتضمينه معنى صيرنا- و جاز ان يكون بدل اشتمال للضمير المنصوب و المعنى انشأناه اى السلالة او الإنسان خلقا اخر اى انشأنا خلقا اخر- قال ابن عباس و مجاهد و الشعبي و عكرمة و الضحاك و ابو العالية هو نفخ الروح فيه- قلت لعل المراد بالروح في قولهم هو الروح السفلى المسمى بالروح الح يواني و بالنفس الّتي هى مركب للروح العلوي الّذي هو من عالم الأرواح و مقره فوق العرش في النظر الكشفى و ليس هو بمكاني- و النفس هى البخار المنبعث من العناصر المصور على هيئة الجسم و هو جسم لطيف سار في الجسم الكثيف و على هذا يصح إرجاع ضمير انشأناه الى السلالة- بخلاف ما إذا كان المراد به الروح العلوي فانه غير ماخوذ من السلالة- و ايضا كلمة ثم تدل على ذلك فان خلق الأرواح العلوية قبل خلق الأبدان فان الأبدان لم تكن موجودة حين أخذ اللّه الميثاق من الأرواح- و اما نفخ الروح فهو صفة من صفاته تعالى قال اللّه تعالى وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي- و ان كان تاخره من تكسية العظام صادق باعتبار تأخر تعلق الصفة القديمة- اللّهم الا ان يقال المراد بالانشاء نفخ الروح لا خلق الروح و اللّه اعلم عن ابن مسعود قال حدثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو الصادق المصدوق ان خلق أحدكم يجمع في بطن امه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث اللّه اليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله و اجله و رزقه و شقى او سعيد ثم ينفخ فيه الروح- فو الّذي لا اله غيره ان أحدكم ليعمل بعمل اهل الجنة حتى ما يكون بينه و بينها الاذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل النار- و ان أحدكم ليعمل بعمل اهل النار حتى ما يكون بينه و بينها الاذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل الجنة- متفق عليه فان قيل ورد في الحديث تحويلات خلق الإنسان بكلمة ثم و هى تدل على التراخي و في كتاب اللّه بكلمة الفاء و هى للتعقيب فما وجه التطبيق بينهما- قلت ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما بين كل تحويل أربعين يوما و ذلك زمان طويل يقتضى العطف بكلمة ثم لكن اللّه سبحانه أورد كلمة الفاء للدلالة على ان تلك المدة الطويلة و هى أربعون يوما قصيرة جدّا نظرا الى ما يقتضى تفاوت كل طور منها الى طور اخر- و اما إيراد كلمة ثم في بعض المواضع و كلمة الفاء في بعضها فلتفاوت الاستحالات- الا ترى ان استحالة السلالة الى النطفة في غاية البعد- و استحالة النطفة الّتي استقرت في صلب الرجل و ترائب المرأة زمانا طويلا- ثم وصلت في رحم المرأة و امتزجت هناك و بقيت في الرحم نطفة أربعين يوما- ثم تحولت الى العلقة ايضا لطول زمانه و تراخيه يقتضى العطف بكلمة ثم بخلاف التحويلات الاخر من العلقة الى المضغة و من المضغة الى العظام و الى تكسية العظام لحما فكل ذلك ليس بتلك المثابة من البعد- و لاجل ذلك أوردها بلفظة الفاء و أورد كلمة ثم في قوله ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ للتراخى في الرتبة و كمال التفاوت بين الخلقتين و اللّه اعلم (مسئلة) هذه الاية تدل على انه من غصب بيضة فافرخت عنده ثم مات الفرخ- او أخذ من الحرم بيضة فاخرجها الى الحل ثم افرخت لزمه ضمان البيضة دون الفرخ لانه خلق اخر و فيه الروح السفلى و هو الروح الحيواني و اللّه اعلم- و قال قتادة معنى قوله ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ نبات الأسنان و الشعر و روى ابن جريج عن مجاهد انه استواء الشباب و عن الحسن قال ذكر او أنثى- و روى العوفى عن ابن عباس ان ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال الى الارتضاع الى القعود الى القيام الى المشي الى الفطام الى أن يأكل و يشرب الى ان يبلغ الحلم و ينقلب في البلاد الى ما بعدها- قلت و يمكن ان يكون المراد بقوله تعالى ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ الولادة الثانية الّتي يكون للفقراء بالفناء و الانخلاع من الصفات البهيمية و السبعية و البشرية الى الصفات الملكية و الارتقاء منها الى الصفات الرحمانية و البقاء بذات اللّه تعالى او بصفاته القدسية و هذا التأويل أليق بالعطف بكلمة ثم فَتَبارَكَ اللّه اى تعالى و تعظّم من ان يتخذ له شريكا او بتهاون في امتثال أوامره او الانتهاء عن مناهيه- و الفاء للسببيّة فان اتصافه تعالى بما ذكر من الخلق دليل على كمال قدرته و حكمته يقتضى الحكم بكبريائه و عظمته و علو منزلته و استحالة شريكه أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٢) بدل من اللّه او خبر مبتدا محذوف و ليس بصفة لانه نكرة و ان أضيف لان المضاف اليه عوض من من التفضيليّة و التميز هاهنا محذوف تقديره احسن الخالقين خلقا فترك ذكر المميز لدلالة الخالقين عليه و احتجت المعتزلة بهذه الاية على ان العباد خالقون لافعالهم الاختياريّة حتى يتحقق التفضيل- و قد دلت البراهين العقليّة و الادلة الشرعيّة على أن الافعال الاختياريّة للعباد مخلوقة للّه تعالى حيث قال اللّه تعالى خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ- و لان الممكن الّذي لا يقتضى ذاته وجوده لا يتصور ان يقتضى ذاته وجود غيره و عليه انعقد اجماع الصحابة و من بعدهم من علماء النصيحة- فالجواب عن استدلال المعتزلة انا لا ننكر ان للعباد في أفعالهم الاختياريّة نوعا من الارادة و الاختيار و ذلك الارادة و الاختيار مناط التكليف و منشأ الثواب و العقاب و موجب لاسناد الافعال إليهم و نسمّيه بالكسب- لكن ذلك الارادة و الاختيار غير كافية لايجاد معدوم أصلا جوهرا كان او عرضا و انما الإيجاد بقدرة اللّه الكاملة و إرادته و اختياره- و تعلق قدرته و إرادته و اختياره بمخلوق نسمّيه خلقا و ذلك كاف لايجاد كل معدوم- غير ان اللّه سبحانه اقتضت حكمته (و ان خفيت علينا) ان يجعل لكسب العبد ايضا مدخلا في بعض أفعالهم- فنزاعنا مع المعتزلة في المعنى فانهم يقولون ان قدرة العبد و إرادته كاف لايجاد المعدوم و نحن لا نقول به و لا نزاع لنا في جواز اطلاق لفظ الخلق على كسب العبد فانه نزاع لفظى- و كلمة احسن الخالقين انما تدل على صحة اطلاق لفظ الخلق لغة على معنى الكسب و الخلق المصطلحين و من هاهنا قال مجاهد معناه يصنعون و يصنع اللّه و اللّه خير الصانعين- يقال رجل خالق اى صانع و قال اللّه تعالى وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً و قال اللّه تعالى حكاية عن عيسى أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ- و قيل معنى الخالقين هاهنا المصورين او المقدرين و الخلق في اللغة التقدير و قبل هذا على سبيل الفرض و فرض المحال ليس بمحال يعنى لو فرضنا تعدد الخالقين- ركما هو رأى المعتزلة مجوس هذه الامة فاللّه تعالى أحسنهم اخرج ابن ابى حاتم عن عمر قال وافقت ربى في اربع نزلت وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ الآيات فلمّا نزلت قلت فَتَبارَكَ اللّه أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فنزلت فَتَبارَكَ اللّه أَحْسَنُ الْخالِقِينَ الحديث- و هذه القصة تدل على ان ما دون الاية ليس بمعجز يقدر عليه البشر حيث نطق به عمر رضى اللّه عنه- و قيل ان عبد اللّه بن سعد بن ابى سرح كان يكتب للنبى صلى اللّه عليه و سلم فنطق بذلك قبل إملائه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اكتب هكذا نزلت فقال عبد اللّه ان كان محمد نبيّا يوحى اليه فانا نبى يوحى الىّ فارتد و لحق بمكة- فلما فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مكة أهدر دمه فيمن أهدر من الدماء فجاء الى عثمان بن عفان فاستأمن له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فصمت طويلا ثم قال نعم فلما انصرف عثمان قال النبي صلى اللّه عليه و سلم ما صمتّ الا لتقتلوه فقال رجل هلّا او مأت إلينا يا رسول اللّه فقال ما كان لنبى ان يكون له خائنة الأعين ثم اسلم ذلك اليوم و حسن إسلامه قلت ذكر في سبيل الرشاد ارتداده و اهدار النبي صلى اللّه عليه و سلم دمه و شفاعة عثمان و غير ذلك لكن لم يذكر ان سبب ارتداده كان نطقه بهذه الاية قبل إملائه و لا يتصور ان يكون هذا سببا لارتداده لان ارتداده كان بالمدينة و هذه السورة مكية و اللّه اعلم. ١٥ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ اى بعد ما ذكرنا من أمركم لَمَيِّتُونَ (١٥) عند انقضاء اجالكم اى لصائرون الى الموت لا محالة و لذلك ذكر صيغة النعت الّذي هو للثبوت دون اسم الفاعل و هذه الجملة مع ما عطف عليه معطوف على و لقد خلقنا الإنسان الى اخر الآيات و فيه التفات من الغيبة الى الخطاب و انما أكد الجملة بانّ و اللام لكون الناس مصرين على ارتكاب المعاصي و ذلك دليل على انكارهم الموت و البعث فنزلوا منزلة المنكرين لهما- قال البغوي ان الميّت بالتشديد و المائت الّذي لم يمت بعد و سيموت- و الميت بالتخفيف من مات و لذلك لم يجز التخفيف هاهنا كقوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ و في القاموس مات يموت و يمات و يميت فهو ميت بالتخفيف و ميّت بالتشديد و المائت الّذي لم يمت بعد. ١٦ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) من القبور للمحاسبة و المجازاة. ١٧ وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ جواب قسم محذوف معطوف على قوله و لقد خلقنا الإنسان سَبْعَ طَرائِقَ اى سبع سموات لانها طورق بعضها فوق بعض مطارقة النعل- و كل ما فوقه مثله فهو طريقه او لانها طراق الملائكة او الكواكب فيها مسيرها وَ ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ عن جنس المخلوق غافِلِينَ (١٧) اى مهملين أمرها بل نحفظها عن الزوال و الاختلال و ندبر أمرها حتى يبلغ منتهى ما قدرنا لها من الكمال على ما اقتضته الحكمة و تعلقت به المشية فتمسك السماء ان تقع على الأرض- و هذه الجملة اما حال من فاعل خلقنا او معطوف على قوله لقد خلقنا و هو واقع في مقام التعليل- يعنى خلقنا فوقكم سبع طرائق لنفتح عليكم الأرزاق و البركات منها و تطلع عليكم الشمس و القمر و الكواكب لانا ما كنا عنكم و عما يصلح شأنكم غافلين. ١٨ وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مطرا عطف على خلقنا بِقَدَرٍ اى بمقدار ما علمنا صلاحهم فَأَسْكَنَّاهُ عطف على ما سبق اى جعلناه ثابتا مستقرا فِي الْأَرْضِ فقيل المراد به ما يبقى في الحياض و الغدر ان ينتفع به الناس عند انقطاع المطر- و قيل المراد به ما تتشربه الأرض و يدخل في مساماتها فيخرج منها في الأرض ينابيع- فماء الأرض على هذا كله من السماء وَ إِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ عطف على فاسكناه يعنى على إزالته بالإفساد او التصعيد او التعميق بحيث يتعذر عليكم استنباطه- و في تنكير ذهاب ايماء الى كثرة طرقه و مبالغة في الإيعاد لَقادِرُونَ (١٨) كما كنا قادرين على انزاله يعنى لو فعلنا ذلك لهلكتم عطشانا و هلكت مواشيكم و يخرب اراضيكم- قال البغوي و في الخبر ان اللّه تعالى انزل أربعة انهار من الجنة سيحان و جيحان و دجلة و الفرات و قال روى الامام الحسن بن سفيان عن عثمان بن سعيد بالاجازة عن سعيد بن سابق الإسكندراني عن سلمة بن على عن مقاتل بن حبان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه تعالى انزل من الجنة خمسة انهار سيحون و جيحون و دجلة و الفرات و النيل أنزلها اللّه عزّ و جلّ من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحى جبرئيل عليه السلام استودعها الجبال و أجراها في الأرض و جعل منافع للناس فذلك قوله تعالى وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ- و إذا كان عند يأجوج و مأجوج أرسل اللّه جبرئيل فرفع من الأرض القران و العلم كله و الحجر الأسود من ركن البيت و مقام ابراهيم و تابوت موسى بما فيه و هذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك الى السماء فذلك قوله وَ إِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ- فاذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدين و الدنيا- قلت و لعل جميع انهار الدنيا من عيون الجنة و انما ذكر الخمسة في الحديث على سبيل التمثيل و اللّه اعلم-. ١٩ فَأَنْشَأْنا عطف على أنزلنا لَكُمْ بِهِ اى بالماء جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ لَكُمْ فِيها اى في جنات فَواكِهُ كَثِيرَةٌ تتفكهون بها سوى النّخيل و الأعناب وَ مِنْها اى من الجنات يعنى من ثمارها و زروعها تَأْكُلُونَ (١٩) تغذيا او ترزقون و تحصلون معايشكم من قولهم فلان يأكل من حرفته- و يجوز ان يكون الضمير ان للنخيل و الأعناب اى لكم في ثمراتها انواع من الفواكه الرطب و العنب و التمر و الزبيب و العصير و الدبس و غير ذلك و خص النخيل و الأعناب بالذكر لانهما اكثر فواكه العرب- و جملة منها تأكلون حال من فاعل الظرف اعنى لكم فيها فواكه او معطوف عليه و لجنات او نخيل. ٢٠ وَ شَجَرَةً عطف على جنات تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ و هى الزيتون قرا اهل الحجاز و ابو عمرو سيناء بكسر السين- و ابن عامر و يعقوب و الكوفيون بفتحها- اختلفوا في معناه و في سينين قال مجاهد معناه البركة اى من جبل مبارك و قال قتادة و الضحاك و عكرمة معناه الحسن اى جبل حسن قال الضحاك هو بالنبطية و قال عكرمة بالحبشية- و قال الكلبي معناه ذو شجر قيل هو بالسريانية الملتف بالأشجار و قال مقاتل كل جبل فيه أشجار مثمرة فهو سيناء و سينين بلغة النبط- و قال مجاهد سيناء اسم حجارة بعينها أضيف إليها الجبل لوجودها عنده- و قال عكرمة هو اسم المكان الّذي به هذا الجبل- و قيل المركب منهما اسم لجبل بين مصر و أيلة نودى منه موسى كامرا القيس كذا قال ابن زيد- و منع صرفه للتعريف و العجمة او التأنيث على تأويل البقعة و العجمة لا للالف لانه فيعال كديماس من السناء بمعنى الرفعة او بالقصر بمعنى النور او ملحق بفعلال إذ لا فعلاء بألف التأنيث هذا على قراءة اهل الحجاز- و اما على قراءة الكوفيين فهو فيعال ككيسان او فعلاء كصحراء فالالف للتأنيث لا فعلال إذ ليس في كلامهم. تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ قرا ابن كثير و ابو عمرو و يعقوب بضم التاء و كسر الباء من الافعال يعنى زيتونها متلبّسا بالدهن قال الزجاج الباء للحال اى و معها الدهن و قيل الباء على هذا زائدة اى تنبت الدهن- و قيل أنبت بمعنى نبت و المعنى على حسب قراءة الباقين بفتح التاء و ضم الباء من المجرد اى تنبت متلبّسا بالدهن مستصحبا له- و يجوز ان يكون للتعدية فيكون معناه تنبت الدّهن وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) معطوف على الدهن جار على إعرابه عطف أحد وصفي الشي ء على الاخر اى تنبت بالشي ء الجامع بين كونه دهنا يدهن به و يسرج منه و كونه أدما يصبغ به الخبز اى يغمس فيه للايتدام- قال البغوي الصبغ و الصباغ الادام الّذي يغمس فيه الخبز فينصبغ و الادام كل ما يؤكل مع الخبز سواء ينصبغ به الخبز اولا قال مقاتل جعل اللّه في هذا الشجر أدما و دهنا فالادم الزيتون و الدهن الزيت و قال خض الطور بالزيتون لان أول الزيتون نبت بها و يقال ان الزيتون أول شجرة نبت في الدنيا بعد الطوفان ٢١ وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً اية بحالها و تستدلون بها على كمال القدرة و الحكمة لصانعها عطف على فانشأنا لكم- و لمّا كان الناس غافلون عن الاعتبار نزلوا منزلة اهل الإنكار و أكد الجملة. نُسْقِيكُمْ قرا نافع و ابن عامر و أبو بكر و يعقوب بفتح النون على صيغة المتكلم من المجرد و الباقون بضم النون على صيغة المتكلم من الافعال كما ذكرنا في سورة النحل- و ابو جعفر هاهنا بالتاء و فتحها على صيغة المؤنث الغائب من المجرد و الضمير حينئذ راجع الى الانعام مِمَّا فِي بُطُونِها من الألبان أو من العلف فان اللبن يستلون منه فمن للتبعيض او للابتداء وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ في ظهورها و اشعارها و أصوافها و أوبارها وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) فتنتفعون بأعيانها. ٢٢ عَلَيْها اى على الانعام فان منها ما يحمل عليه كالابل و البقر و قيل المراد الإبل لانها هى المحمول عليها عند العرب و المناسب للفلك فانها سفائن البر قال ذو الرمة سفينة برّ تحت خدى زمامها- و الضمير فيه كالضمير في وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ... عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢) فى البر و البحر و جملة نسقيكم الى آخرها بيان للعبرة فان ما اخرج اللّه تعالى مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ آية للاعتبار على كمال قدرته- و انقياد الانعام للحلب و جزّ الصوف و الشعر و الحمل و الذبح و غير ذلك مع كمال قوتها و ضعف الإنسان اية اخرى. ٢٣ وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ عطف على قوله و لقد خلقنا الإنسان ذكر في صدر السورة حال المؤمنين المطيعين ثم عقبه بالآيات المقتضية للإيمان و الطاعة ثم عقبه بذكر الكافرين الطاغين و ما ال اليه أمرهم فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّه أطيعوه و وحدوه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ استيناف لتعليل الأمر بالعبادة قرا الكسائي غيره بالجر حملا على لفظة اله و الباقون بالرفع حملا على محله أَ فَلا تَتَّقُونَ (٢٣) عطف على محذوف يعنى ا تشركون به فلا تتّقون ان يزيل ما بكم من نعمائه و يعذبكم باشراككم إياه غيره في العبادة و كفرانكم آلاءه. ٢٤ فَقالَ الْمَلَأُ الاشراف الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ فيما بينهم ما هذا يعنى نوحا عليه السلام إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يأكل و يشرب و ينام فكيف يكون رسولا من اللّه- و هذا القصر قصر قلب فان من يدعى الرسالة كا نه منكر لكونه بشرا و مدع لكونه ملكا على زعمهم الفاسد فقالوا على قلب دعواه ليس هذا ملكا و ليس هذا شيئا الّا بشرا- و مبنى هذا القصر على انهم أنكروا ان يكون البشر للّه رسولا مع ما ادعوا ان يكون الحجر له تعالى شريكا قاتَلَهُمُ اللّه أَنَّى يُؤْفَكُونَ ... يُرِيدُ بادعائه الرسالة أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ اى يطلب ان يكون له الفضل عليكم و يسودكم جملة يريد صفة بعد صفة لبشر او مستأنفة كانه قيل ما يريد بادعائه الرسالة وَ لَوْ شاءَ اللّه ان لا يعبد غيره او ان يرسل رسولا- لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً رسلا ما سَمِعْنا بِهذا الّذي يدعيه نوح من التوحيد و المسألة و البعث بعد الموت فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) و ذلك اما لفرط عنادهم او لكونهم في فترة متطاولة- جملة ما سمعنا حال من فاعل يريد و الجملة الشرطية معترضة بين الحال و عامله. ٢٥ إِنْ اى ما هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ اى جنون حيت يدعي الرسالة من اللّه لنفسه استيناف او تأكيد لنفى الرسالة فان المجنون لا يكون رسولا فَتَرَبَّصُوا بِهِ فاحتملوه و انتظروا حَتَّى حِينٍ (٢٥) لعله يفيق من الجنون او يموت و الفاء في فتربصوا للسببيّة فان كونه مجنونا يوجب التربص و ترك العجلة في الانتقام و لما اوحى الى نوح من اللّه تعالى انه لن يؤمن من قومك الا و قد آمن. ٢٦ قالَ نوح رَبِّ انْصُرْنِي باهلاكهم او بإنجاز ما اوعدتهم من العذاب بِما كَذَّبُونِ (٢٦) بدل تكذيبهم ايّاى او بسببه جملة مستأنفة. ٢٧ فَأَوْحَيْنا عطف على مقدر تقديره فاستجبنا دعاءه فاوحينا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا اى بحفظنا ان لا يخطئ فيه او يفسد عليك أحد ان مفسرة لاوحينا فانه بمعنى القول وَ وَحْيِنا اى أمرنا و تعليمنا كيف تصنع فَإِذا جاءَ أَمْرُنا بالركوب او نزول العذاب عطف على اصنع وَ فارَ التَّنُّورُ اى فار الماء من التنور للخباز اركب أنت و من معك فلما نبع الماء منه و كان ذلك علامة لنوح أخبرته امرأته فركب و محله في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلى باب كندة- و قيل في ذروة من الشام فَاسْلُكْ فِيها اى ادخل فيها جاء سلك لازما و متعدّيا يقال سلكت في كذا اى دخلت و قال اللّه تعالى ما سلككم في سقر مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ قرأ الجمهور باضافة كل الى زوجين فاثنين حينئذ منصوب على المفعولية يعنى ادخل فيها اثنين من كل صنفين من الحيوانات يعنى الذكر و الأنثى و قرا حفص كلّ بالتنوين عوض المضاف اليه يعنى ادخل فيها زوجين كانتا من كل نوع فاثنين على هذا تأكيد للزوجين- و في القصة ان اللّه تعالى حشر لنوح السباع و الطيور و غير ذلك فجعل نوح يضرب بيديه في كل نوع فيقع يده اليمنى على الذكر و اليسرى على الأنثى فيحملها في السفينة وَ أَهْلَكَ يعنى اهل بيتك او من أمن معك إِلَّا مَنْ سَبَقَ في الأزل عَلَيْهِ الْقَوْلُ بالإهلاك لكفره مِنْهُمْ اى حال كون من سبق عليه القول بالإهلاك من أهلك و هى امرأته و ولده كنعان- و انما حئ بعلى لان السابق ضار و انما يجئ باللام إذا كان نافعا كما في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ... وَ لا تُخاطِبْنِي عطف على اصنع او على فاسلك يعنى لا تخاطبني بالدعاء بالانجاء فِي حق الَّذِينَ ظَلَمُوا على أنفسهم بالكفر إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) لا محالة لظلمهم بالاشراك جملة معللة لقوله لا تخاطبني. ٢٨ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ اعتدلت أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ و نجوت من مصاحبة الجار السوء فَقُلِ الْحَمْدُ للّه الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) ٢٩ وَ قُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي في السفينة بعد الركوب او في الأرض بعد الخروج من السفينة مُنْزَلًا قرأ أبو بكر عن عاصم بفتح الميم و كسر الزاء على معنى موضع النزول و الباقون بضم الميم و فتح الزاء بمعنى الانزال مُبارَكاً يتسبّب لمزيد الخير في الدارين فالبركة في السفينة النجاة من مصاحبة اعداء اللّه و الفراغ للاشتغال بعبادته- و البركة في الأرض بعد الخروج كثرة النسل و الرزق و الاشتغال بعبادة اللّه تعالى- الجملة الشرطية معطوفة على فاسلك وَ أَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) حال من فاعل أنزلني و فيه ثناء مطابق لدعائه- امر نوحا وحده بالدعاء و علق الدعاء بان يستوى هو و من معه إظهارا لفضله و اشعارا بان في دعائه كفاية عن دعائهم. ٣٠ إِنَّ فِي ذلِكَ الّذي فعلنا بنوح و قومه لَآياتٍ تدل على كمال قدرة اللّه تعالى و رأفته بالمسلمين و غضبه على الظالمين يعتبر بها أولوا الابصار وَ إِنْ مخففة من الثقيلة تقديره و انّا كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠) اللام فارقة يعنى كنا لمصيبين قوم نوح ببلاء عظيم او ممتحنين عبادنا و قيل ان نافية و اللام بمعنى الا يعنى و ماكنا بإرسال نوح و وعظه و تذكيره الا مبتلين قومه و مختبرين إياهم لننظر ما هم عاملون قبل نزول العذاب بهم. ٣١ ثُمَّ أَنْشَأْنا عطف على كلام محذوف تقديره فاغرقناهم ثم انشأنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) المراد بهم عاد او ثمود قال البغوي و الاول اظهر. ٣٢ فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ يعنى أوحينا بين أظهرهم رَسُولًا مِنْهُمْ يعرفونه بانصدق و العدالة و هو هود او صالح عليهما السلام أَنِ اعْبُدُوا اللّه ان مفسرة لارسلنا لكونه بمعنى القول يعنى قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا اللّه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ (٣٢) مر تفسيره. ٣٣ وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا لعله ذكر بالواو لان كلامهم لم يتصل بكلام الرسول بخلاف كلام قوم نوح و حيث استأنف اللّه به ذكر مقال قوم هود في الأعراف و هود بغير واو بالاستيناف كانّه جواب سوال مقدر كانّه، قيل فما قال قومه في جوابه و ذكر هاهنا بالواو عطفا لما قالوه على ما قال الرسول على معنى انه اجتمع في الحصول هذا الحق مع هذا الباطل و ليس متصلا بكلام النبي جوابا له- و ذكر في قصة نوح بالفاء لانه جواب لقوله واقع عقيبه وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ اى بلقاء ما فيها من الثواب و العقاب او بمصيرهم الى الحيوة الاخرة وَ أَتْرَفْناهُمْ اى انعمناهم بكثرة الأموال و الأولاد فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا الّذي يدعى النبوة إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الصفات و الأحوال يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) ما موصولة و العائد الى الثانية منصوب محذوف او مجرور حذف مع الجار لدلالة ما قبله عليه. ٣٤ وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ اللام في جواب قسم محذوف اى و اللّه لئن أطعتم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) حيث اذللتم أنفسكم بالانقياد لمثلكم أبوا اتباع مثلهم و عبدوا أعجز منهم ما أحمقهم و ما اجهلهم. ٣٥ أَ يَعِدُكُمْ الاستفهام للانكار او التقرير اى قد يعدكم أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ قرأ نافع و حمزة و الكسائي و حفص بكسر الميم من مات يمات- و الباقون بضم الميم من مات يموت وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً مجردة عن اللحوم و الاعصاب أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) من القبور احياء انكم تكرير للاول أكد به لطول الفصل بينه و بين خبره تقدير الكلام أ يعدكم انّكم إذا متم و كنتم ترابا و عظاما مخرجون كذلك قرا ابن مسعود رضى اللّه عنه و جاز ان يكون انّكم مخرجون مبتدا خبره الظرف المقدم- او فاعل للفعل المقدر و جوابا للشرط و الجملة خبر الاول اى انكم إخراجكم واقع إذا متم او انكم إذا متم وقع إخراجكم و يجوز ان يكون خبر الاول محذوفا لدلالة خبر الثاني عليه- و جملة أ يعدكم تقرير للطعن السابق في النبوة او تعليل لقوله لئن أطعتم بشرا انكم لخاسرون. ٣٦ هَيْهاتَ اسم فعل و فاعله ضمير مستكن فيه اى بعد وقوع هذا الوعد عن العقل و التصور- او بعد التصديق و الايمان به هَيْهاتَ تأكيد للاول لِما تُوعَدُونَ (٣٦) خبر مبتدا محذوف اى هذا الاستبعاد لما توعدون كانهم لما صوتوا بكلمة الاستبعاد قبل لهم فما له هذا الاستبعاد قالوا لما توعدون- و جاز ان يكون اللام زائدة للبيان و الموصول فاعل لهيهات كما في هيت لك- و قيل هيهات مصدر بمعنى البعد و هو مبتدا خبره لما توعدون- قرا الجمهور بفتح التاء على انه مبنى عليه و قرا ابو جعفر بكسر التاء من غير تنوين و قرئ بالكسر منونا و قرا نصر بن عاصم بضم التاء و قرئ بالفتح منونا للتنكير و بالضم منونا على انه جمع هيهة و غير منون تشبيها بقبل و بعد- و قرئ بالسكون على لفظ الوقف و بابدال التاء هاء و وقف عليها اكثر القراء بالتاء و جملة هيهات لما توعدون معترضة. ٣٧ إِنْ هِيَ اى الحيوة جنسها شي ء إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا الّتي نحن فيها و دنت منا أقيم الضمير مقام الحيوة الاولى لدلالة الثانية عليها حذرا عن التكرير و شعارا بان تعيينها مغن عن التصريح بها- فان نافية دخلت على هى الّتي في معنى الحيوة الدالة على الجنس مثل لا الّتي لنفى الجنس نَمُوتُ وَ نَحْيا يعنى يموت بعضنا و يحيى بعضنا قال البغوي فيه تقديم و تأخير اى نحيى و نموت لانهم كانوا ينكرون البعث بعد الموت و هذا القول مبنى على كون ضمير المتكلم مع الغير لجميع الناس- قلت و على تقدير كون الضمير لجميع الناس ايضا لا حاجة الى القول بالتقديم و التأخير إذ الواو لمطلق الجمع دون الترتيب فالمعنى يثبت لجميع الناس في الدنيا موت و حيوة و لا حيوة غير لهذه الحيوة وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) بعد الموت حال او عطف. ٣٨ إِنْ هُوَ يعنى ما الّذي يدعى الرسالة إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللّه فيما يدعيه من الرسالة او فيما يعدها من البعث كَذِباً وَ ما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) اى مصدقين و هذه الجملة تأكيد لقولهم ما هذا الّا بشر. ٣٩ قالَ الرسول رَبِّ انْصُرْنِي عليهم و انتقم لى منهم بِما كَذَّبُونِ (٣٩) اى بسبب تكذيبهم إياي. ٤٠ قالَ اللّه عَمَّا قَلِيلٍ ما زائدة لتأكيد معنى القلة او نكرة موصوفة بمعنى شي ء و المراد به الزمان يعنى عن زمان قليل لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) على تكذيبهم إذا عاينوا العذاب. ٤١ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ قيل أراد بالصيحة الهلاك و في القاموس الصيحة و الصياح الصوت بأقصى الطاقة و صيح بهم نزعوا و فيهم هلكوا و الصيحة العذاب فان كان القصة لعاد فالمراد بالصيحة هاهنا العذاب و ان كان لثمود فالمراد بها الصوت و قد ذكرنا قصتهم في سورة الأعراف انه أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة و صوت كل شي ء في الأرض فتصدعت قلوبهم بِالْحَقِّ اى بالوجه الثابت الّذي لا دافع له او بالعدل كقولك فلان يقضى بالحق او بالوعد الصدق فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً اى هلكى شبههم في دمارهم بغثاء الليل و هو حميله- يقول العرب لمن هلك سال به الوادي فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) يحتمل الاخبار و الدعاء و بعدا مصدر لبعد بمعنى هلك و هو من المصادر الّتي وجب إضمار فعلها في الاستعمال و سدها مسد الافعال- و القوم الظالمون فاعل للمصدر الّذي سد مسد الفعل و اللام زائدة او هى لتقوية عمل المصدر كما في قوله أعجبني جلوس لزيد و قيام لعمرو و وضع الظاهر موضع الضمير للتعليل. ٤٢ ثُمَّ أَنْشَأْنا عطف على فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً ... مِنْ بَعْدِهِمْ اى بعد عاد قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) قوم صالح و لوط و شعيب و غيرهم. ٤٣ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ من زائدة للاستغراق و امة في محل الرفع على الفاعلية أَجَلَها اى الوقت الّذي لهلاكها يعنى لا يهلك امة قبل الوقت الّذي قدر هلاكها فيه وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) و لا يتاخر امة عن وقت هلاكها اى لا يبقى بعد الاجل- ذكّر الضمير بعد تأنيثه للمعنى و هذه جملة معترضة. ٤٤ ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا أصله و ترى من الوتر ضد الشفع قلبت الواو بالتاء كما في التراث و التقوى منصوب على الحال من مفعول أرسلنا- قرا ابو جعفر و ابن كثير و ابو عمرو بالتنوين وصلا و بالألف عوض التنوين وقفا و لذا لا يميله ابو عمرو لان الفه عنده كانف زيدا في النصب فهو مصدر بمعنى التواتر و المواترة و هو تتابع الأشياء وترا وترا يعنى فرادى من غير اجتماع- قال في القاموس التواتر التتابع او مع فترات و واتر مواترة و وتارا تابع إذ لا يكون المواترة بين الأشياء الا إذا وقعت بينها فترة يعنى اعتبر بعض الناس في التواتر ان يكون بينها فترة- و منه حديث أبي هريرة لا بأس بقضاء رمضان تترى اى متفرقا غير متتابع كذا في النهاية- قال الأصمعي يقال واترت الخبر اى اتبعت بعضها بعضا و بين الخبرين مهلة- قلت و لذلك اشترط في الخبر المتواتر ان يروى من جهات شتى و رجال غير مجتمعين بحيث لا يحتمل تواطئهم على الكذب- و قرا اكثر القراء بالألف المقصورة للتأنيث على وزن سكرى من غير تنوين بعدم انصرافه للزوم التأنيث ذكر صيغة التأنيث لان الرسل جماعة و قوله ثُمَّ أَرْسَلْنا معطوف على قوله ثُمَّ أَنْشَأْنا- و فيه مقابلة الجمع بالجمع بارادة انقسام الآحاد على الآحاد فاستقام التراخي كانّه قال ثمّ انشأنا قرنا ثمّ أرسلنا فيه رسولا ثم انشأنا قرنا اخر ثم أرسلنا رسولا اخر و هكذا- إذ لا يستقيم ان يقال أرسلنا قرونا كثيرة و بعد جميع القرون أرسلنا رسلا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها أضاف الرسول مع الإرسال الى المرسل و مع المجي ء الى المرسل إليهم لان الإرسال الّذي هو مبدء الأمر منه و المجي ء الّذي هو منتهاه إليهم كَذَّبُوهُ أسند التكذيب إليهم لاجل صدوره من أكثرهم فان للاكثر حكم الكل جملة مستانفة فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً في الهلاك كما اتبعنا بعضهم بعضا في الإنشاء و بعث الرسل إليهم عطف على كذبوه وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يعنى لم يبق منهم اثر الا حكايات يسمر بها و يعتبر بها المعتبرون جمع احدوثة و هو ما يتحدثه الناس تلهيا و تعجبا- قال الأخفش انما هذا اى استعمال كلمة احدوثة و أحاديث في الشر و اما في الخير فلا يقال جعلتهم أحاديث و احدوثة و انما يقال صار فلان حديثا- و قيل هو اسم جمع للحديث يقال أحاديث النبي صلى اللّه عليه و سلم فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤) بالرسل و لا بصدقونهم. ٤٥ ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى عطف على ثمّ أرسلنا رسلنا وَ أَخاهُ هارُونَ ٥ بدل من أخاه بِآياتِنا التسع وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) حجة واضحة ملزمة للخصم و يجوز ان يراد به العصا و افرادها بالذكر لانها أول المعجزات و تعلقت بها معجزات شتى كانقلابه حيّة و تلقفها ما افكته السحرة و انفلاق البحر و انفجار العيون من الحجر و حراستها و مصيرها شمعة و شجرة مثمرة و رشاء و دلوا- و يجوز ان يراد به المعجزات و بالآيات الحجج و ان يراد بهما المعجزات فانها آيات للنبوة و حجة للنبى على ما يدعيه. ٤٦ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا عن الايمان و متابعة الرسول وَ كانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) اى كانوا يرتفعون على الناس تكبرا و يقهرونهم ظلما. ٤٧ فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ الاستفهام للانكار اى لا نعترف و لا نصدق بالفضل و النبوة لِبَشَرَيْنِ فانه يطلق على الواحد كقوله تعالى فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا كما يطلق على الجمع كقوله تعالى فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً مثلنا لم يثن المثل لانه في حكم المصدر فان مثل و غير يوصف به الواحد و الاثنان و الجماعة من المذكر و المؤنث وَ قَوْمُهُما يعنى بنى إسرائيل لَنا عابِدُونَ (٤٧) مطيعون متذلّلون و العرب تسمى كل من أطاع و تذلّل لاحد انه عابد له و الجملة حال لفاعل نومن او لبشرين أولهما. ٤٨ فَكَذَّبُوهُما عطف على أرسلنا فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) بالغرق. ٤٩ وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التورية لَعَلَّهُمْ الضمير عائد الى قومها و لا يجوز عود الضمير الى فرعون و قومه لان التوراة نزلت بعد إغراقهم اى لكى «١» يَهْتَدُونَ (٤٩) الى المعارف و الاحكام. (١) غير سديد لان يهتدون مرفوع و كى جازمة فلا يناسب فافهم- الفقير الدهلوي. [.....]. ٥٠ وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً بولادتها ايّاه من غير مسيس فالاية امر واحد و هو الولادة مضاف إليهما او تقديره و جعلنا ابن مريم اية بان تكلم في المهد و ظهر منه معجزات اخر و امه اية بان ولدت من غير مسيس فحذفت الاولى لدلالة الثانية عليها وَ آوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ اى مكان مرتفع من الأرض قال عبد اللّه بن سلام هى دمشق و هو قول سعيد بن المسيب و مقاتل و قال الضحاك غوطة «٢» دمشق و قال ابو هريرة هى الرملة و قال عطاء عن ابن عباس هى بيت المقدس و هو قول قتادة و كعب و قال كعب هى اقرب الأرض الى السماء بثمانية عشر ميلا و قال ابن زيد هى مصر و السدى هى ارض فلسطين ذاتِ قَرارٍ اى مستوية منبسطة يستقر عليها ساكنوها و قيل ذات تمار و زروع يستقر فيها الناس لاجلها وَ مَعِينٍ (٥٠) اى ماء ظاهر جار فعيل من معن الماء إذا جرى و أصله الابعاد في الشي ء او من الماعون و هو المنفعة لان الماء نفاع او مفعول من عانه إذا أدركه بعينه لانه لظهوره يدرك بالعيون. (٢) الغوط عمق الأرض و لم يقول نهاية منه الغوطة بالضم بلد قريب من دمشق مجمع البحار و فيه الغوطة اسم بساتين و مياه حول دمشق و هو غوطها- الفقير الدهلوي-. ٥١ يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ اى الحلالات دون المحرمات فالامر للتكليف لانه في معنى النهى عن تناول المحرمات او المستلذات من المباحات فالامر للترفية و للرد على الرهبانية في رفض الطيبات و قيل هى الحلال الصافي القوام فالحلال ما لا يعصى اللّه فيه و ضده الحرام- و الصافي ما لا ينسى اللّه فيه و ضده ما يلهيه و بوقعه في انهماك الشهوات و القوام ما يمسك النفس و يحفظ العقل و القوى و ضده القدر الزائد على الشبع وَ اعْمَلُوا صالِحاً اى عملا يراد به وجه اللّه على وفق ما امر به خالصا له تعالى من غير شرك جلى و لا خفى و ضده الفاسد و هو ما يكرهه اللّه تعالى من قول افعل و تقدير الكلام و قلنا لهم يا ايها الرسل كلوا الى آخره فهو حكاية عما خوطب به الأنبياء كل نبى في زمانه لا على انهم خوطبوا به دفعة- و قال الحسن و مجاهد و قتادة و السّدى و الكلبي و جماعة خوطب به محمّد صلى اللّه عليه و سلم وحده على مذهب العرب في مخاطبة الواحد بلفظ الجمع- قلت و مبنى ذلك على التعظيم و فيه اشارة الى فضله او لقيامه مقام جماعة فانه أرسل الى الناس كافة- و جاز ان يكون المراد به النبي صلى اللّه عليه و سلم و علماء أمته فانهم برازخ بين الرسول و أمته كما ان الرسول برزخ بينهم و بين اللّه تعالى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم العلماء ورثة الأنبياء و قيل خوطب به عيسى عليه السلام عند ايوائه و امه الى الربوة فذكر لهما ما خوطب به الأنبياء كل نبى في زمانه ليقتد يا بالرسل في تناول ما رزقا و يقتضيه سياق القصة إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) فاجازيكم على حسب أعمالكم فالجملة في مقام التعليل. ٥٢ وَ إِنَّ هذِهِ اى أكل الطيبات و العمل بالصالحات قرا الكوفيون بكسر الهمزة على انه جملة في محل النصب حال من فاعل كلوا او هى معطوفة على جملة سابقة فيكون في مقولة قلنا على تقديره- و الباقون بفتحها «١» عطفا على ما تعملون او بتقدير اللام يعنى و لانّ هذه امّتكم او منصوب بتقدير اعلموا ان هذه أُمَّتُكُمْ اى ملتكم و شريعتكم الّتي أنتم بأجمعكم عليها أُمَّةً اى ملة واحِدَةً و هى الإسلام متحدا في العقائد و اصول الشرائع و العمل في الفروع على حسب ما امر اللّه به في كل زمان و على الناسخ بعد ترك المنسوخ- و قوله امّة واحدة حال مؤكدة لقوله امّتكم على طريقة زيد أبوك عطوفا و العامل فيه معنى الاشارة وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) الفاء للسببية يعنى اتقونى لاجل انى ربكم. (١) و قرا ابن عامر بفتح الهمزة و تخفيف النون على انها مخففة من الثقيلة- ابو محمّد عفا اللّه عنه. ٥٣ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ يعنى تقطع و تفرق الذين أرسل إليهم بعد الإرسال امر دينهم و جعلوه أديانا مختلفة في اصول الدين- فامن بعضهم بجميع الرسل و بجميع ما أرسل إليهم و هم اهل الحق في كل قرن- و بعضهم أمن ببعض دون بعض كاليهود و النصارى و الصابئين و بعضهم كفروا بأجمعهم كالمجوس و اهل الأوثان فالتفعل بمعنى التفعيل و جاز ان يكون معناه فتفرقوا و تحزبوا في امر دينهم و جعلوه أديانا مختلفة فعلى هذا أمرهم منصوب بنزع الخافض او على التميز من نسبة التفرق إليهم- و الضمير في تفرقوا راجع الى المرسل إليهم المذكورين في القصص المذكورة حيث قال وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ و انشأنا قرونا فارسلنا فيهم رسلنا تترا و غير ذلك- و الجملة معطوفة على أرسلنا زُبُراً اى فرقا و طوائف و قطعا جمع زبور بمعنى الفرقة و منه زبر الحديد- فهو اما منصوب على المصدرية من غير لفظ الفعل نحو أنبته اللّه نباتا او حال من أمرهم او من فاعل تقطعوا او مفعول ثان لتقطعوا لتضمنه معنى الجعل يعنى قطعوا أمرهم و جعلوه زبرا فرقا- و قيل معناه كتبا من زبرت الكتاب إذا كتبته كتابة غليظة و كل كتاب غليظ الكتابة يقال زبور- يعنى جعلوا دينهم كتبا محرفة بعد ما كان كتابا واحدا من اللّه منزلا ... فيكون مفعولا ثانيا لتقطعوا او حال من أمرهم و المعنى فرقوا أمرهم اى دينهم حال كون دينهم كتبا منزلة من السماء متفقة في اصول الدين مصدقا بعضها بعضا فقالوا نؤمن ببعض الكتاب و نكفر ببعض و عن الحسن قطعوا كتاب اللّه قطعا و حرّفوه كُلُّ حِزْبٍ منهم بِما لَدَيْهِمْ من الدين او الهوى فَرِحُونَ (٥٣) معجبون معتقدون انهم على الحق جملة مستأنفة. ٥٤ فَذَرْهُمْ يا محمد فِي غَمْرَتِهِمْ قال ابن عباس في كفرهم و ضلالتهم و قيل في غفلتهم و جهالتهم جهلا مركبا شبّهها بالماء الّذي يغمر القامة اى يسترها حَتَّى حِينٍ (٥٤) اى الى زمان موتهم او الى ان نأمرك بالقتال يعنى لا تحزن على تفرقهم و كفرهم فانا نأخذهم اما بالعذاب من عندنا او بايديكم. ٥٥ أَ يَحْسَبُونَ اى الذين يفرحون بما لديهم من الضلال و لا يتبعون الرسل و يكذبونهم أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ اى ما نعطيهم و نجعلها مددا لهم مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ (٥٥) بيان لما. ٥٦ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ خبر لان و العائد محذوف- و ان مع اسمها و خبرها قائم مقام مفعولى يحسبون و الاستفهام للتوبيخ و الرد على حسبانهم و المعنى أ يزعمون ان الّذي نعطيهم في الدنيا و نمدهم بها من الأموال و الأولاد نسارع به لهم فيما فيه خيرهم و إكرامهم ثوابا لاعمالهم و عقائدهم لاجل مرضاتنا عنهم و هذا الحسبان سبب لفرحهم بما لديهم ليس الأمر كذلك بَلْ لا يَشْعُرُونَ «١» (٥٦) يعنى بل هم كالانعام لا فطنة لهم و لا شعور حتى يتاملوا فيعلموا ان لهذه الأعمال و العقائد غير مستوجبة للثواب و المرضاة و انما ذلك الامداد استدراج لا مسارعة في الخيرات- هذه الاية حجة على المعتزلة في قولهم الأصلح للعباد في الدين على اللّه واجب. (١) عن الحسن ان عمر بن الخطاب اتى بفروة كسرى بن هرمز فوضعت بين يديه و في القوم سراقة بن مالك فاخذ عمر سواريه فرمى بهما الى سراقة- فاخذهما فجعلهما في يديه فبلغتا منكيبة- فقال الحمد للّه سوارى كسرى بن هرمز في يدى سراقة بن مالك ابن جعشم أعرابي من بنى مدلج- ثم قال اللّهم انى قد علمت ان رسولك قد كان حريصا ان يصيب مالا ان ينفقه في سبيلك و على عبادك فزويت عنه ذلك- اللّهم انى أعوذ بك ان يكون هذا مكرا انك لعمر ثم تلا أ يحسبون انما نمدّهم به من مال و بنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ١٢ منه رحمه اللّه. ٥٧ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ اى من خوف عذابه مُشْفِقُونَ (٥٧) حذرون من موجبات العذاب او المعنى انهم بسبب اتصافهم بخشية اللّه تعالى خائفون من عقابه- و جاز ان يكون المراد بالخشية ما به الخشية و المعنى انهم من عذاب ربهم مشفقون- قال الحسن البصري المؤمن جمع إحسانا و خشية و المنافق جمع اساءة و أمنا. ٥٨ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ المنزلة او باياته المنصوبة الدالة على التوحيد يُؤْمِنُونَ (٥٨) يصدقون بمدلولاتها. ٥٩ وَ الَّذِينَ هُمْ ب ٦٨ الْقَوْلَ الاستفهام للانكار و انكار النفي اثبات و الفاء للعطف على محذوف تقديره الم يسمعوا فلم يدبروا القول اى القرآن فان اللام للعهد يعنى القول الّذي جاء به محمّد صلى اللّه عليه و سلم يعنى قد سمعوا القرآن و تدبروا فيه حين أرادوا معارضته فلم يقدروا على إتيان مثل اقصر سورة منه فظهر عليهم باعجازه و اخباره و قصصه انه ليس من كلام البشر. أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أم منقطعة بمعنى بل و الهمزة الّتي للانكار و المعنى بل لم يجئهم ما لم يأت آباءهم الأولين يعنى بل قد جاءهم ما اتى آباءهم إسماعيل عليه السلام و أعقابه من الرسول و الكتاب و قد كانت القريش يعترفون بنبوة ابراهيم و إسماعيل و فضلهما فمحمّد صلى اللّه عليه و سلم مثلهما و لا استحالة في ذلك. ٦٩ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ محمّدا صلى اللّه عليه و سلم- يعنى قد عرفوه صغيرا و كبيرا و عرفوا نسبه و أمانته و صدقه و حسن أخلاقه و وفاء عهوده و كمال علمه و أدبه من غير تعلم من البشر الى غير ذلك كذا قال ابن عباس فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) الفاء للسببيّة معطوف على لم يعرفوا و ما عطف هو عليه- يعنى لا يجوز الإنكار الا بسبب أحد هذه الوجوه المذكورة و لم يوجد شي ء منها بل قد تحقق أضدادها. ٧٠ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ أم هاهنا ايضا منقطعة و الهمزة الّتي في ضمنها للردع و التوبيخ يعنى بل أ يقولون انه مجنون و هم يعلمون انه أرجحهم عقلا و اتقنهم نظرا لا ينسب الجنون الى مثله الا معاند او مجنون و جاز ان يكون أم في هذه المواضع متصلة معطوفة على ما دخل عليه همزة الاستفهام لنفى المفهوم المردد- و جملة ا فلم يدبروا مستأنفة كانّ السامع لمّا سمع قوله تعالى قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ قال ما سبب هذا النكوص و الاستكبار و الهجر إذا كان شيئا من هذه الأمور المذكورة و هى عدم تدبرهم في القرآن او عدم علمهم بإتيان النبي قبلهم او عدم معرفتهم امانة الرسول و صدقه و غير ذلك او زعمهم كونه مجنونا فقال اللّه في جوابه ليس شي ء من هذه الأمور بَلْ سبب ذلك المكابرة و العناد حيث جاءَهُمْ محمّد صلى اللّه عليه و سلم بِالْحَقِّ اى القول الثابت المتحقق الظاهر صدقه عقلا و نقلا لا يخفى صحته و حسنه على عاقل وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) الجملة حال من مفعول جاءهم يعنى جاءهم الحق و هم له كارهون عنادا و ظلما لحب الرياسة و اتباع الشهوات و تقليد الجهال و التمسك بالعادات لا لحكم الكياسة- و انما قيد الحكم بالأكثر لانه كان منهم من ترك الايمان خوفا من توبيخ قومه او لقلة فطنته او عدم فكرته لا لكراهة الحق-. ٧١ وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ بان كان في الواقع الهة متعددة لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ اى لبطلت و لم يخرج شي ء منها من كتم العدم لما ذكرنا في تفسير قوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللّه لَفَسَدَتا في سورة الحج «١» و قال ابن جريج و مقاتل و السدى و جماعة الحق هو اللّه و قال الفراء و الزجاج المراد بالحق القران- و المعنى لو اتبع اللّه مرادهم و جعل لنفسه شركاء او اتخذ ولدا و انزل القرآن على حسب شهواتهم و نطق القرآن بالشرك و القبائح- لم يكن اللّه الها فان الالوهية لا يحتمل الشركة و اللّه لا يأمر بالفحشاء فان الأمر بالفحشاء رذيلة و الالوهية يقتضى التنزه عن الرذائل و لو لم يكن اللّه الها لبطل وجود الممكنات بأسرها- و قيل معناه لو اتبع الحق أهواءهم و انقلب باطلا لذهب ما قام به العالم فلا يبقى له قوام- او المعنى لو اتبع الحق الّذي جاء به محمد صلى اللّه عليه و سلم من الدين أهواءهم و انقلب شركا لا نزل اللّه عليهم العذاب و أهلك العالم من فرط غضبه بَلْ أَتَيْناهُمْ عطف على قوله بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ إلخ و جملة لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ معترضة بين المعطوف و المعطوف عليه لبيان بطلان اهوائهم بِذِكْرِهِمْ اى بالكتاب الّذي يذكّرهم اللّه او هو ذكرهم اى وعظهم او الذكر الّذي تمنّوه بقولهم لو انّ عندنا ذكرا من الاوّلين لكنّا عباد اللّه المخلصين و قال ابن عباس يعنى بما هو ذكرهم اى بما فيه فخرهم و شرفهم يعنى القرآن نظيره قوله تعالى لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ اى شرفكم و انّه لذكر لك فان القرآن نزل بلغة قريش و جعل اللّه الناس تبعا لقريش و انحصر الامامة فيهم فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) لا يلتفتون اليه و لا يريدون الشرف-. (١) سهو من المفسر العلام رحمه اللّه تعالى لان الاية المذكورة انما هى في سورة الأنبياء- الفقير الدهلوي. ٧٢ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً يعنى اجرا على هدايتهم و الرسالة إليهم عطف على قوله أَمْ بِهِ جِنَّةٌ و فيه التفات من الغيبة الى الخطاب فالاستفهام هاهنا ايضا للانكار يعنى لا تسئلهم اجرا حتى لا يؤمنوا بك مخافة الغرامة فخراج ربّك اى اجره و ثوابه الّذي يعطيك في الاخرة- قرا حمزة و الكسائي خراجا فخراج ربّك بالألف في الموضعين و قرا ابن عامر بغير الف فيهما و معناهما واحد و هو الاتاوة اى الجعل و الاجر على العمل قال في القاموس الخرج الاتاوة كالخراج و قرا الباقون أم تسئلهم خرجا بغير الف فخراج ربّك بالألف- قال البيضاوي الخرج بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه الى غيرك و الخراج غالب في الضربية الّتي يأخذها السلطان على الأرض- ففى هذه القراءة في اضافة الخراج الى اللّه اشعار بالكثرة و اللزوم خَيْرٌ لسعته و دوامه ففيه مندوحة لك عن عطائهم هذه الجملة تعليل لنفى السؤال وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) عطف على خراج ربّك خير او حال من ربك. ٧٣ وَ إِنَّكَ يا محمد لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) تشهد العقول السليمة على استقامته و عدم الاعوجاج فيه- بيّن اللّه سبحانه عدم الأسباب الموجبة لانكار دعوة النبي صلى اللّه عليه و سلم سوى كراهة الحق و قلة الفطنة- و ذكر الداعي الى الايمان و هو كون المدعو اليه صراطا مستقيما مرغوبا لجميع العقلاء عامة و كونه شرفا لهم داعيا الى اسلام قريش خاصة فظهر ان انكارهم لم يكن الا لكراهة الحق عندهم عنادا او قلة تفطنهم و مبنى ذلك الشقاوة الازلية المكتوبة عليهم- فانهم كانوا عقلاء كانوا يدركون منافع الدنيا على ما ينبغى فعدم ادراكهم المنافع العاجلة و الاجلة المؤبدة الخالصة عن شوب الكدر لم يكن الا لشقاوتهم وَ اللّه يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ .... ٧٤ وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ المستقيم فان اللام للعهد لَناكِبُونَ (٧٤) اى لمائلون لسوء استعدادهم فانهم خلقوا من ظلال الاسم المضل فلا يمكنهم الاهتداء الى الصراط المستقيم و يكرهون الحق بعد ظهوره. ٧٥ وَ لَوْ رَحِمْناهُمْ وَ كَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ اى من عذاب أخذنا مترفيهم به سواء أريد به السيف يوم بدر كما قال به ابن عباس او الجوع كما قال به الضحاك و قد ذكرنا القولين فيما سبق- لَلَجُّوا اللجاج التمادي في العناد و تعاطى الفعل المزجور عنه فِي طُغْيانِهِمْ اى في استكبارهم عن الحق و افراطهم في الكفر و عداوة الرسول صلى اللّه عليه و سلم يَعْمَهُونَ (٧٥) من الهدى حال من فاعل لجّوا و هذه الجملة الشرطية معطوفة على مضمون لا تجئروا اليوم انّكم منّا لا تنصرون فان معناه قيل لهم لا تجئروا إلخ و مضمونه انا لم نرحمهم و لو رحمناهم لتمادوا في الطغيان و لم يتوبوا فكانّ هذا تعليل لعدم الترحم عليهم- اخرج النسائي و الحاكم عن ابن عباس قال جاء ابو سفيان الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال يا محمد أنشدك اللّه و الرحم قد أكلنا العهن و الدم فانزل اللّه تعالى. ٧٦ وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ يعنى القتل يوم بدر او الجوع فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ يعنى لم يرجعوا الى ربهم بالتوبة بل أقاموا على عتوهم و مضوا على تمردهم- و ما استكانوا اما معناه ما استفعلوا لكون فان المفتقر ينتقل من كون الى كون- و اما معناه افتعلوا السكون و على هذا الالف من إشباع الفتحة وَ ما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) يعنى ليس من عادتهم التضرع و الخشوع و اخرج البيهقي في الدلائل بلفظ ان ابن أثال الحنفي لما اتى النبي صلى اللّه عليه و سلم و هو أسير خلى سبيله- فاسلم فلحق بمكة ثم رجع فحال بين مكة و بين الميرة من اليمامة حتى أكلت قريش العهن فجاء ابو سفيان الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال ا لست تزعم انك بعثت رحمة للعالمين قال بلى قال فقد قتلت الآباء بالسيف و الأبناء بالجوع فنزلت هذه الاية و في هذه الاية استشهاد على ما سيق فانهم لما لم يتضرعوا بالأخذ بالعذاب فلو رحمناهم و كشفنا عنهم العذاب لم يتضرعوا بالطريق الاولى- فان قيل ما ذكرت في تفسير الاية يدل على انه تعالى لم يكشف عنهم العذاب الّذي أخذ به مترفيهم و قد قال البغوي دعا النبي صلى اللّه عليه و سلم على قريش ان يجعل عليهم سنين كسنى يوسف فاصابهم القحط فجاء ابو سفيان الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال أنشدك اللّه و الرحم الست تزعم انك بعثت رحمة للعالمين قال بلى فقال قد قتلت الآباء بالسيف و الأبناء بالجوع فادع اللّه يكشف عنا هذا القحط فدعى فكشف عنهم فانزل اللّه تعالى هذه الاية و هذه القصة تدل على ان اللّه تعالى كشف عنهم عذاب الجوع بدعاء النبي صلى اللّه عليه و سلم فما وجه التوفيق قلت الاية انما دلت على نفى المرحمة و كشف العذاب في الزمان الماضي لعلمه تعالى بلجاجهم عند الكشف ايضا و لا تدل على انه لا يكشف عنهم في المستقبل لامر حادث فاللّه سبحانه كشف عنهم العذاب لامر معترض و هو دعاء النبي صلى اللّه عليه و سلم لكنهم لم يتضرعوا و لجوا في طغيانهم يعمهون و لم يستكينوا- «١». (١) و في الأصل لم يستكانوا- الفقير الدهلوي-. ٧٧ حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ كلمة حتى ابتدائية و المراد بالعذاب هاهنا عذاب الجوع ان كان المراد بالعذاب في قوله حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ القتل و الاسر يوم بدر كما قاله ابن عباس فان الجوع أشد من الاسر و القتل يعنى إذا فتحنا عليهم بابا من عذاب الجوع إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) متحيرون آيسون من كل خير حتى جاءك أعتاهم يستعطفك و ان كان المراد بالعذاب فيما سبق عذاب الجوع كما قاله الضحاك فالمراد بالعذاب هاهنا الموت و عذاب القبر و قيل قيام الساعة و عذاب النار- فقوله فتحنا بمعنى المستقبل أورد صيغة الماضي لتيقن وقوعه كما في قوله إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ- و المعنى انا محنّاهم كل محنة من القتل و الجوع فما استكانوا و لم يتضرعوا حتى إذا عذبوا بنار جهلم إذا هم مبلسون- كقوله تعالى يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ .... ٧٨ وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ لتحسوا بها الآيات المنصوبة وَ الْأَفْئِدَةَ لتتفكروا في الآيات و تستدلوا بها الى غير ذلك من المنافع الدينية و الدنيوية قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (٧٨) ما زائدة للتأكيد منصوب على المصدرية او الظرفية يعنى تشكرون شكرا قليلا او في زمان قليل لان العمدة في شكرها استعمالها فيما خلقت لاجلها و الإذعان لما نحها من غير اشراك و قيل معنى هذه العبارة في العرف لا تشكرون أصلا. ٧٩ وَ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ اى خلقكم و بثكم بالتناسل فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم. ٨٠ وَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ لَهُ اى لامره و قضائه اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ في السواد و البياض و المنافع او اختلاف الليالى الشتائية و الصيفية في الطول و القصر و الأيام كذلك أَ فَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بالنظر و التأمل ان كل ذلك منا و ان قدرتنا تعم الممكنات كلها و من جملتها البعث بعد الموت و قوله تعالى وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ الى هنا جملة معترضة لتعديد النعم و شكايتهم على كفرهم بعد تلك النعم الجسام و قوله. ٨١ بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) عطف على قوله بل آتيناهم بذكرهم يعنى بل قال كفار مكة مثل ما قال الأولون من كفار الأمم السابقة. ٨٢ قالُوا بدل من قالوا المذكور سابقا أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) الاستفهام للانكار أنكروا و استبعدوا ذلك و لم يتاملوا في بدء خلقهم انهم كانوا قبل ذلك ترابا و لم يكونوا قبل ذلك شيئا أصلا فخلقوا من غير سبق مادة-. ٨٣ لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَ آباؤُنا هذا يعنى البعث بعد الموت وعدها قوم ذكروا انهم رسل اللّه مِنْ قَبْلُ ظرف لفعل دل عليه حرف العطف يعنى وعد بهذا آباؤنا من قبل هذا الزمان و لم يقع الى الان مع لطاول الزمان إِنْ هذا الوعد إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) السطر هو الصف من الكتاب و من الشجر المغروس و القوم الوقوف و المراد هاهنا الاول يقال سطر فلان كذا اى كتب سطرا و جمعه اسطر و سطور و اسطار و الأساطير جمع اسطار و المعنى ان هذا ليس منزلا من اللّه بل شي ء كتبه الأولون كذبا- و قال المبرد الأساطير جمع اسطورة نحو ارجوجة و اراجيج و احدوثة و أحاديث و اعجوبة و أعاجيب و اضحوكة و أضاحيك و استعماله فيما يكتب كذبا يتلهى به و لهذا فسروه بالاكاذيب- و قوله لقد وعدنا الى آخره تعليل و تقرير للانكار المذكور. ٨٤ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها جملة مستأنفة كأنّه في جواب قول الرسول ماذا أقول لهم حين أنكروا البعث- و الاستفهام للتقرير اى حمل المخاطب على الإقرار إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) شرط حذف جوابه لدلالة الكلام عليه تقديره ان كنتم من اهل العلم او من العالمين بذلك فاجيبوا- و فيه استهانة بهم و تقرير لفرط جهلهم فان حالهم و مقالهم يشهد على جهلهم بمثل هذا الجلى الواضح الّذي يعرفه الصبيان و المجانين و الزام بما لا يمكن إنكاره لمن له ادنى تميز- و لذلك اخبر عن جوابهم قبل ان يجيبوا فقال. ٨٥ سَيَقُولُونَ للّه لان العقل الصريح و النقل من كل ناطق و اعتراف الناس أجمعين بذلك يضطرهم الى هذا الجواب قُلْ بعد اعترافهم بذلك أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قرا حمزة و علىّ و حفص بالتخفيف بحذف احدى التاءين من تتذكّرون و الباقون بالتشديد و الإدغام- و الاستفهام للانكار و الفاء للعطف على محذوف تقديرة أ تعترفون فلا تتذكرون ان من فطر الأرض و من فيها ابتداء قادر على إيجادها ثانيا فما الوجه لانكاره. ٨٦ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) فانها أعظم من ذلك استيناف اخر لتلقين الإلزام بعد الإلزام ٨٧ سَيَقُولُونَ للّه باللام و الجر اى هم للّه كذا قرا العامة هاهنا و فيما بعده فهو جواب على المعنى كقول القائل في جواب من مولاك لفلان اى انا لفلان فهو مولاى- و قرا اهل البصرة فيهما اللّه اللّه بالرفع على ما يقتضيه السؤال و كذلك في مصحف اهل البصرة و في سائر المصاحف مكتوب بلا الف كالاول. قُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ (٨٧) يعنى أ تعترفون بان خالق السموات و العرش هو اللّه لا غير فلا تتقون عقابه حيث تشركون به بعض مخلوقاته و تنكرون قدرته على بعض مقدوراته. ٨٨ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ الملكوت هو الملك اى العز و السلطان و الواو و التاء فيه للمبالغة فهو غاية ما يتصور من السلطان و لهذا يختص استعماله بملك اللّه تعالى و قيل المراد به خزائنه وَ هُوَ يُجِيرُ اى يحرس و يمنع من السوء و يؤمن من يشاء وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ عطف على ما سبق او حال من فاعله اى لا يؤمن من أخافه اللّه و لا يمنع من السوء من أراد اللّه به سوءا او لا يقدر أحد على ان يضره حتى يجار عليه- و تعديته بعلى لتضمنه معنى النصرة إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) و شرحه قد مر. ٨٩ سَيَقُولُونَ للّه قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) يعنى إذا اعترفتم بذلك فمن اين تحذعون فتصرفون عن الرشد او المعنى إذا اعترفتم فكيف يخيل إليكم الحق باطلا. ٩٠ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ من التوحيد و الوعد بالنشور عطف على قوله بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ إضراب عنه و بينهما معترضات وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) فى انكارهم ذلك عطف على ما سبق او حال من الضمير المنصوب. ٩١ مَا اتَّخَذَ ال لَّهُ مِنْ وَلَدٍ لتقدسه عن المماثلة و و المجانسة بأحد من زائدة لتأكيد النفي و الجملة في مقام التعليل على قوله وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ... وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ يشاركه في الالوهية إِذاً جواب لمن أشرك و جزاء الشرط محذوف يدل عليه قوله ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ تقديره لو كان معه الهة اذن لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ و استبد به و منع غيره من التصرف فيه و امتاز ملكه عن ملك الاخر وَ لَعَلا اى غلب بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ اى على بعضهم إذا وقع بينهم التحارب كما يقع بين ملوك الدنيا لامكان ذلك عند تعدد الالهة فلا يكون المغلوب الها لانه امارة العجز و الحدوث و يظهر منه انه لو لم يغلب أحدهما على الاخر لزم عجزهما و ذلك مناف للالوهية سُبْحانَ اللّه عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) اى عما يصفونه من الولد و الشريك لما سبق من الدليل على فساده. ٩٢ عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ قرا اهل المدينة و الكوفة غير حفص بالرفع على انه خبر مبتدأ محذوف و الباقون بالجر على انه صفة للّه- و هذا دليل اخر على نفى الشريك بناء على اتفاقهم على انه متفرد به و لهذا رتب عليه بالفاء قوله فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) يعنى عن اشراكهم يعنى انه أعظم من ان يوصف بالولد او الشريك. ٩٣ قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي أصله ان ما ترينّنى فادغمت النون في الميم و حذفت نون الوقاية كراهة اجتماع النونات- و هذا شرط أكدت بما المزيدة و النون فالمعنى ان كان لا بد من ان ترينى ما يُوعَدُونَ (٩٣) اى ما يوعد به الكفار من العذاب في الدنيا و الاخرة. ٩٤ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) قرينا لهم في العذاب جملة معترضة لتلقين الدعاء و تكرير النداء و تصدير كل واحد من الشرط و الجزاء به لزيادة التضرع و الجوار- و في تلقين الدعاء اشارة الى وجوب الخوف و هضم النفس- و الى ان شوم الظلم قد يحيق بمن ورائهم- قال اللّه تعالى وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً .... ٩٥ وَ إِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ من العذاب لَقادِرُونَ (٩٥) لكنا لم نعذبهم عذاب استيصال لانك بين أظهرهم و لعلمنا بان بعضهم او بعض أعقابهم يؤمنون- جملة معترضة ثانية لرد انكارهم الموعود او استعجالهم استهزاء-. ٩٦ ادْفَعْ بِالَّتِي اى بالخصلة الّتي هِيَ أَحْسَنُ الخصال و هى الصفح و الاعراض و الصبر و الإحسان السَّيِّئَةَ مفعول لا دفع يعنى ادفع شرهم بإحسان منك فعلى هذا امر بالصبر على الأذى و الكف عن القتال نسلعتها اية السيف و قيل الحسنة كلمة التوحيد و السيئة كلمة الشرك و قيل السيئة المنكر و الحسنة النهى عنه و هذا ابلغ من ادفع بالحسنة السيئة لما فيه من التنصيص على التفضيل- معترضة اخرى نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) اى بما يصفونك به او بوصفهم إياك على خلاف حالك و اقدر على جزائهم فكل إلينا أمرهم و لا تتصد على الانتقام منهم- و هذه الجملة في مقام التعليل لقوله ادْفَعْ .... ٩٧ وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ اى امتنع و اعتصم بك مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) الهمز شدة الدفع يعنى من دفع الشياطين بالإغواء و الوساوس الى المعاصي. ٩٨ وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) اى يحضرونى في شي ء من أموري في الصلاة و غيرها فانه إذا حضر وسوس- قرا يعقوب يحضرونى بالياء وصلا و وقفا و الباقون بلا ياء في الحالين- و جملة قل ربّ أعوذ بك عطف على قوله قل ربّ امّا ترينّى. ٩٩ حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ حتى ابتدائية متعلق بقوله يصفون او بقوله كذبون قالَ يعنى إذا رأى مقعده من الجنة لو أمن ثم مقعده من النار و يقال له قد أبدل اللّه لك هذا بذلك لاجل كفرك قال رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) قرا يعقوب بالياء وصلا و وقفا و الباقون بلا ياء في الحالين يعنى ارجعنى الى الدنيا- أورد ضمير الجمع للتعظيم و قيل لتكرير الفعل أصله ارجعنى ارجعنى كما قيل في قفار و اطرقا- و قيل هذا خطاب مع الملائكة الذين يقبضون روحه- ابتدأ بخطاب اللّه تعالى لانهم استغاثوا اولا باللّه تعالى ثم رجعوا الى مسئلة الملائكة الرجوع الى الدنيا. ١٠٠ لَعَلِّي قرا الكوفيون و يعقوب بسكون الياء و الباقون بفتحها أَعْمَلُ صالِحاً اى عملا صالحا منصوب على المفعولية او على المصدرية فِيما تَرَكْتُ اى في الايمان الّذي تركته اى لعلى اتى بالايمان و اعمل فيه صالحا- و قيل فيما تركت اى في المال او في الدنيا فعلى هذا فيما تركت ظرف كما هو الظاهر- و قيل ما تركت مفعول به و في زائدة اى اعمل ما تركت حال كونه صالحا من الايمان و غيره او عملا صالحا بلا فساد- اخرج ابن جرير من حديث ابن جريج ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك الى الدنيا فيقول الى دار الهموم و الأحزان بل قدوما الى اللّه- و اما الكافر فيقول ربّ ارجعون و في الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من أحب لقاء اللّه أحب اللّه لقاءه و من كره لقاء اللّه كره اللّه لقاءه فقالت عائشة او بعض أزواجه انا لنكره الموت قال ليس ذلك و لكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان اللّه و كرامته فليس شي ء أحب اليه «١» ممّا امامه فاحب لقاء اللّه و أحب اللّه لقاءه- و اما الكافر إذا حضر بشر بعذاب اللّه و عقوبته فليس شي ء اكره اليه ممّا امامه فكره لقاء اللّه و كره اللّه لقاءه كَلَّا ردع من طلب الرجعة و استبعاد (١) و في الأصل من امامه ١٢. اى لارجعة إليها إِنَّها يعنى قوله ربّ ارجعون الى آخره انث الضمير لمجانسة الخبر كَلِمَةٌ و هو طائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض فهو لا يقع الا على الجملة المركبة المفيدة- و اطلاق الكلمة على اللفظ المفرد انما هو اصطلاح النحاة هُوَ اى الكافر قائِلُها لا محالة لتسلط الحسرة عليه و مخافة العذاب وَ مِنْ وَرائِهِمْ اى امامهم و الضمير للجماعة بَرْزَخٌ قال مجاهد يعنى حجاب بينهم و بين الرجعة- و جملة من ورائهم برزخ معطوف على مضمون كلا يعنى لا يكون ما يطلبون و من ورائهم برزخ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) و قال قتادة البرزخ بقية عمر الدنيا فانه لارجوع الى الحيوة ما لم ينته عمر الدنيا- و قال الضحاك البرزخ ما بين الموت الى البعث و قيل البرزخ القبر و هم فيه الى يوم يبعثون. ١٠١ فَإِذا كان يوم القيامة و نُفِخَ فِي الصُّورِ روى سعيد بن جبير عن ابن عباس ان المراد به النفخة الاولى نفخة الصعق فنفخ «١» فى الصّور فصعق من في السّموت و من في الأرض- فلا انساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون- ثمّ نفخ فيه اخرى فاذا هم قيام ينّظرون و اقبل بعضهم على بعض يّتساءلون- لكن الصحيح انها النفخة الثانية نفخة البعث كذا قال ابن مسعود قال يؤخذ بيد العبد او الامة يوم القيامة فينصب على رءوس الأولين و الآخرين ثم ينادى مناد هذا فلان بن فلان- فمن كان له قبله حق فليأت الى حقه فيفرح المرء ان قد وجب له الحق على والده او ولده او زوجته او أخيه فيأخذ منه- ثم قرا ابن مسعود فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ (١٠١) و كذا روى عطاء عن ابن عباس انها النفخة الثانية فلا انساب بينهم اى لا يتفاخرون بينهم بالأنساب كما كانوا يتفاخرون بها في الدنيا او المعنى لا ينفعهم الأنساب يومئذ لعدم التعاطف و التراحم منهم لفرط الدهشة و استيلاء الحيرة بحيث يفرّ المرء من أخيه و امّه و أبيه و صاحبته و بنيه و ضمير بينهم عائد الى الكفار لذكرهم فيما سبق دون المؤمنين و لقوله تعالى في المؤمنين أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ و قوله صلى اللّه عليه و سلم إذا كان يوم القيامة خرج ولدان المسلمين بايديهم الشراب فيقول الناس لهم اسقونا فيقولون أبوينا أبوينا حتى السقط بباب الجنة يقول لا ادخل الجنة حتى يدخل أبوي- رواه ابن ابى الدنيا عن عبد اللّه بن عمر اللبثى و عن ابى ذرارة بمعناه فان قيل قد ورد في الحديث كل نسب و صهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي و صهرى- رواه ابن عساكر عن ابن عمر بسند صحيح قلت نسب المؤمنين داخل في نسب النبي صلى اللّه عليه و سلم فانه ابو المؤمنين و أزواجه أمهاتهم- و قال البغوي معنى الحديث لا ينفع يوم القيامة سبب و نسب الا نسبه و سببه و هو القران و الايمان- و معنى قوله تعالى لا يَتَساءَلُونَ سوال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا من أنت و من اىّ قبيلة أنت- فان قيل قد قال اللّه تعالى في موضع اخر و اقبل بعضهم على بعض يّتساءلون- قلنا قال ابن عباس ان للقيامة أحوالا و مواطن ففى موطن يشتد عليهم الجوف فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون و في موطن يفيقون افاقة فيتساءلون. (١) هكذا في الأصل و في القرآن الحكيم و نفخ إلخ بالواو لا بالفاء- الفقير الدهلوي. ١٠٢ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ جمع موزون يعنى عقائده و اعماله الموزونة و المراد به الصالحات منها يعنى كثرت و ترجحت حسناته على سيئاته- او هو جمع ميزان و المراد به ترجحت كفة حسناته من الميزان و إيراد صيغة الجمع اما مبنى على ان يكون لكل انسان ميزان على حدة- و اما على ان يعتبر تعدد الميزان بتعدد الوزن و الموصول مع صلته مبتدا خبره فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) الفائزون بالنجات و الدرجات و الجملة معطوفة على محذوف فوضع الميزان فمن ثقلت إلخ- اجمع علماء اهل السنة على ان وضع ميزان و وزن الأعمال حق و أنكره المعتزلة و الروافض و الخوارج و اكثر اهل الأهواء اخرج البيهقي في البعث عن عمر بن الخطاب في حديث سوال جبرئيل عن الايمان قال يا محمّد ما الايمان قال ان تؤمن باللّه و ملائكته و رسله و تؤمن بالجنة و النار و الميزان و تؤمن بالبعث بعد الموت و تؤمن بالقدر خيره و شرّه- قال فاذا فعلت هذا فانا مؤمن قال نعم قال صدقت- و اخرج الحاكم فى المستدرك و صححه على شرط مسلم عن سلمان عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال يوضع الميزان يوم القيامة فلو وضع فيه السموات و الأرض لوسعت- الحديث و اخرج ابن المبارك في الزهد و الآجري في الشريعة عن سلمان موقوفا و ابو الشيخ بن حبان في تفسيره عن ابن عباس قال الميزان له لسان و كفتان- و اخرج ابن جرير في تفسيره و ابن ابى الدنيا عن حذيفة قال صاحب الميزان يوم القيامة جبرئيل عليه السلام و أحاديث الميزان قد تواترت بالمعنى- (فصل) اختلف العلماء في كيفية الوزن قال بعضهم يوزن العبد مع عمله فيكون للمؤمن ثقل بقدر حسناته و لا يكون للكافر وزن- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انه ليأتى الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند اللّه جناح بعوضة ثم قرا فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً- متفق عليه من حديث ابى هريرة فالمراد بمن خفت موازينه هم الكفار لا غير و قيل يوزن صحائف الحسنات و صحائف السيئات- روى الترمذي و ابن ماجة و ابن حبان و الحاكم و صححه و البيهقي عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يجاء برجل من أمتي على رءوس الاشهاد يوم القيامة فينشر له تسعة و تسعون سجلا كل سجل منها مد البصر فيقول أ تنكر من هذا شيئا أ ظلمك كتبتى الحافظون فيقول لا يا رب فيقول بلى ان لك عندنا حسنة و انه لا ظلم عليك اليوم- فيخرج له بطاقة فيها اشهد ان لا اله الا اللّه و اشهد ان محمّدا عبده و رسوله- فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات- فيقول انك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة و البطاقة في كفة فطاشت السجلات و ثقلت البطاقة و لا يثقل مع اسم اللّه شي ء- و اخرج احمد بسند حسن صحيح عن ابن عمر نحوه و قيل يجسد العمل و يوزن قال ابن عباس قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و الّذي نفسى بيده لوجئ بالسماوات و الأرض و ما فيهن و ما بينهن و ما تحتهن و وضعت في كفة الميزان و وضعت شهادة ان لا اله الا اللّه في الكفة الاخرى لرجحت بهن- رواه الطبراني و اخرج ابن عبد الرزاق في فصل العلم بسنده عن ابراهيم النخعي قال يجاء بعمل الرجل فيوضع في كفة ميزانه يوم القيامة فيخف فيجاء بشي ء أمثال الغمام فيوضع في كفة ميزانه يوم القيامة فيثقل فيقال ما تدرى ما هذا فيقول لا فيقال هذا فضل العلم الّذي كنت تعلّم الناس- و اخرج الذهبي في فضل العلم عن عمران بن حصين قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوذن يوم القيامة مداد العلماء و دم الشهداء فيترجح مداد العلماء على دماء الشهداء- قلت و عندى انه يوضع العبد مع حسناته المتجسدة او مع صحائف الحسنات في كفة و مالهما واحد فان ثقل الصحائف بثقل الحسنات و يوضع سيئاته متجسدة او صحائفها الثقيلة بثقل السيئات في كفة اخرى فالكافر لا تزن جناح بعوضة و هو الّذي قال اللّه تعالى فيه وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ اى لا يكون لميزانه ثقل أصلا- و اما المؤمن فلا يخلو ميزانه من ثقل و لو بشهادة ان لا اله الا اللّه و هو المكنى بقوله تعالى فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ غير ان لثقله مراتب فمنهم من اجتنبوا الكبائر و كفر اللّه عنهم سيئاتهم فموازينهم أثقل الموازين طاشت كفة سيئاتهم خاليا فارغا و منهم من خلطوا عملا صالحا و اخر سيّئا و هم الذين قال ابن عباس فيهم انه يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته اكثر من سيئاته بواحد دخل الجنة- و من كانت سيئاته اكثر من حسناته دخل النار يعنى ليصهر و يخلص من الذنوب كما ان الحديد يخلص في النار من الخبث فيصلح لدخول الجنة قال ابن عباس و ان الميزان يخف بمثقال حية و يرجح و من استوت حسناته و سيئاته كان من اصحاب الأعراف يعنى حتى يحكم اللّه تعالى فيهم بدخول الجنة- روى قول ابن عباس هذا ابن ابى حاتم و ليس المذكور في هذا الأثر حال الكفار إذ لا حسنة لهم أصلا و المذكور في القران انما هو حال صالحى المؤمنين و حال الكفار و اما حال عصاة المؤمنين فمسكوت عنه في القران غالبا- و لعل ذلك لان المؤمنين في زمن نزول القران روهم الصحابة رضى اللّه عنهم كانوا عدولا كلهم مجتنبين من الكبائر او التائبين و التائب من الذنب كمن لا ذنب له- فالمراد بقوله تعالى. ١٠٣ وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ خفت اعماله الحسنة او كفة حسناته بحيث لا يكون لها ثقل أصلا- و ذلك هو الكافر لا محالة- اخرج البزار و البيهقي عن انس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال يؤتى ابن آدم يوم القيامة فيوقف بين كفتى الميزان و يؤكل به ملك فان ثقلت موازينه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق سعد فلان لا يشقى بعده ابدا و ان خفت موازينه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق شقى فلان شقاوة لا يسعد بعده ابدا- و المراد بالخفة في هذا الحديث ايضا مالا يكون له ثقل أصلا- قلت لعل عصاة المؤمنين يوزن أعمالهم مرتين فان كان في حسناته بعض خفة يدخل في النار حتى يخلص ثم يوزن ثانيا بعد التطهير فيثقل موازينه و حينئذ ينادى الملك سعد فلان سعادة لا يشقى بعده ابدا و قد ذكرنا بعض تحقيقات المقام في سورة القارعة و الدليل على ان المراد بهذه الاية هم الكفار خاصة دون عصاة المؤمنين قوله تعالى خبرا للموصول فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ غبنوها و ضيعوا زمان استكمالها فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) بدل من الصلة او خبر ثان لاولئك او خبر مبتدا محذوف تقديره و هم في جهنّم خالدون. ١٠٤ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ اى تحرقها كذا في القاموس- و اما المؤمن فلا يحرق وجوههم النار لما اخرج مسلم عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يدخل قوم النار من هذه الامة فتحرقهم الّادارة وجوههم ثم يخرجون منها- و اخرج ابن مردوية و الضياء عن ابى الدرداء قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن قوله تعالى تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ- قال تلفحهم لفحة فتسيل لحومهم على أعقابهم و اخرج الطبراني في الأوسط و ابو نعيم عن ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ان جهنم لما سيق إليها أهلها تلفتهم يعنى فلفحتهم لفحة فما أبقت لحما على عظم الا ألقته على أعقابهم وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) الجملة حال من الضمير المجرور المضاف اليه و الكلوح تقلص الشفتين عن أسنان اخرج الترمذي و صححه عن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه و سلم في قوله تعالى وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ قال تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه و تسترخى شفته السفلى حتى تضرب س رته- و اخرج هناد عن ابى مسعود في قوله تعالى وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ قال مثل الرأس النضيج بدت أسنانهم و تقلصت شفاههم. ١٠٥ أَ لَمْ تَكُنْ تقديره يقال لهم توبيخا و تذكيرا عما استحقوا العذاب لاجله ا لم تكن آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥). ١٠٦ قالُوا في جواب ذلك رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا قرا الجمهور بكسر الشين و سكون القاف و قرا حمزة و الكسائي شقاوتنا بفتح الشين و القاف و الف بعدها و هما لغتان يعنى ملكتنا شقاوتنا حتى صارت أحوالنا مؤدية الى سوء العاقبة وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) عن الحق. ١٠٧ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها اى من النار فَإِنْ عُدْنا الى التكذيب فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) لانفسنا فحينئذ لا تخلصنا من العذاب بعد ذلك-. ١٠٨ قالَ اللّه سبحانه في جوابهم اخْسَؤُا فِيها اى اسكتوا سكوت هو ان فانها ليست مقام السؤال و ابعدوا- فى القاموس خسا الكلب بالنصب كمنع اى طرده خساء و خسوءا و خسا الكلب بالرفع اى بعد كانخسا فهو لازم و متعد وَ لا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) قرا يعقوب بالياء وصلا و وقفا و الباقون بلا ياء- يعنى لا تكلمونى في رفع العذاب فانى لا ارفعه منكم فحينئذ يئسوا عن الفرج- او لا تكلمونى مطلقا- قال الحسن هذا اخر كلام يتكلم به اهل النار ثم لا يتكلمون بعدها الّا الشهيق و الزفير و يكون لهم عواء كعواء الكلب لا يفهمون و لا يفهمون- و قال القرطبي- إذا قيل لهم اخسئوا فيها و لا تكلّمون انقطع رجاؤهم و اقبل بعضهم ينبح في وجه بعض و أطبقت عليهم اخرج هناد و الطبراني و ابن ابى حاتم و الحاكم و صححه و البيهقي و عبد اللّه بن احمد في روائد الزهد عن عبد اللّه بن عمرو قال ان اهل النار ينادون مالكا يا مالك ليقض علينا ربّك فيذرهم أربعين عاما لا يجيبهم ثم يجيبهم انّكم مكثون- ثم ينادون ربهم ربّنا أخرجنا منها فان عدنا فانّا ظلمون فيذرهم مثل الدنيا مرتين لا يجيبهم ثم يجيبهم اخسئوا فيها و لا تكلّمون- قال فيئس القوم فلا يتكلمون بعدها بكلمة و مه هو الا الزفير و الشهيق- و اخرج سعيد بن منصور و البيهقي عن محمد بن كعب انه قال لاهل النار خمس دعوات يجيبهم اللّه في اربع فاذا كانت الخامسة لا يتكلمون بعدها ابدا يقولون ربّنا امتّنا اثنتين و أحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل الى خروج من سبيل فيجيبهم ذلكم بانّه إذا دعى اللّه وحده كفرتم و ان يّشرك به تؤمنوا فالحكم للّه العلىّ الكبير- ثم يقولون ربّنا أبصرنا و سمعنا فارجعنا نعمل صالحا انّا موقنون فيجيبهم فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا انّا نسينكم و ذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون- ثم يقولون ربّنا اخّرنا الى أجل قريب نخب دعوتك و نتّبع الرّسل فيجيبهم او لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ثم يقولون ربّنا أخرجنا نعمل صالحا غير الّذى كنّا نعمل فيجيبهم اللّه تعالى ا و لم نعمّركم ما يتذكّر فيه من تذكّر و جاءكم النّذير فذوقوا فما للظّلمين من نّصير- ثم يقولون ربّنا غلبت علينا شقوتنا و كنّا قوما ضالّين ربّنا أخرجنا منها فان عدنا فانّا ظلمون فيجيبهم اللّه تعالى اخسئوا فيها و لا تكلّمون عادت وجوههم قطعة لحم ليس فيها أفواه و لا مناخر يتردد النفس في أجوافهم- و انها ليسقط عليهم حيات من نار و عقارب من نار فلو ان حية منها نفحت بالمشرق احترق من بالمغرب و لو ان عقربا منها ضربت اهل الدنيا احترقوا من آخرهم- و انها لتسقط عليهم فتكون بين لحومهم و جلودهم- و انه ليسمع لها هناك جلبة كجلبة الوحش في الفيافي. ١٠٩ إِنَّهُ اى الشأن كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يعنى المؤمنين. يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ. ١١٠ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا قرأ اهل المدينة و حمزة و الكسائي بضم السين هاهنا و في سورة صاد و الباقون بكسرها و اتفقوا على الضم في سورة الزخرف قال الكسائي و الفرّاء السخر بكسر السين بمعنى الاستهزاء بالقول و بالضم بمعنى التسخير و الاستعباد بالفعل و لذلك اتفقوا في سورة الزخرف لانه بمعنى التسخير لا يحتمل غيره و قال الخليل هما لغتان مترادفان نحو بحر لجى بضم اللام و كسرها و كوكب درى بضم الدال و كسرها و في القاموس نحو ذلك حيث قال سخروا منه و به هزى كاستسخر و الاسم السخرية و السخرى بالضم و يكسر و سخره كمنعه سخريا بالكسر و الضم كلفه مالا يريد و قهره و كذا في النهاية و غير و على كل تقدير مصدر زيدت فيه ياء النسبة للمبالغة و المراد هاهنا الاستهزاء بقرينة قوله تعالى حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ فان الضحك يترتب على الاستهزاء دون التسخير و حتى ابتدائية كما في مرض فلان حتى لا يرجونه يعنى حتى انسأكم اشتغالكم بالاستهزاء بهم و الضحك ذكرى أسند الانساء الى المؤمنين مجازا قال مقاتل نزلت الآية في عمار و صهيب و سلمان و غيرهم من فقراء الصحابة كان كفار قريش يستهزون بهم. ١١١ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اى المؤمنين الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا اى بسبب صبرهم على اذاكم و استهزاءكم إياهم أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ دونكم قرا حمزة و الكسائي بكسر الهمزة على الاستيناف و الباقون بفتحها على انه ثانى مفعولى جزيتهم. ١١٢ قالَ قرأ البعض قل على انه امر من اللّه تعالى للملك او لبعض رؤساء اهل النار يوم البعث ان يسألوا جماعة اهل النار و قيل هو خطاب لكل واحد من اهل النار قل جواب هذا و قرا الباقون بالألف يعنى قال اللّه تعالى للكفار يوم البعث كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ احياء و أمواتا في القبور عَدَدَ سِنِينَ تميز لكم. ١١٣ قالُوا يعنى الكفرة في الجواب استقصار المدة لبثهم فيها اما لان المعذب يستطيل ايام شدته و يستقصر بامر قبل ذلك و اما لكونها منقضية و المنقضى في حكم المعدول و اما لكون مدة حيوة الدنيا و ايام القبور في غاية الاقتصار بالنسبة الى مدة الحيوة الآخرة لعدم انتهائها و اما لكونها ايام سرورهم و ايام السرور قصار و هذا على تقدير كون السؤال مقتصرا على مدة حيوتهم في الدنيا دون مدة لبثهم في القبور لانها ليست ايام السرور لثبوت عذاب القبر فيها بالقطعيات و الإجماع لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ من الملئكة الذين يحفظون اعمال بنى آدم و يحصونها عليهم فانهم احفظ لمدة لبثنا او من البشر الذين يتمكنون من عد أيامها ان أردت تحقيقها فانا لما نحن فيه من العذاب مشغولون عن تذكرها. ١١٤ قالَ قرأ حمزة و الكسائي بغير الف على صيغة الأمر من اللّه تعالى و الباقون بالألف على صيغة الحكاية يعنى قال اللّه تعالى إِنْ لَبِثْتُمْ يعنى ما لبثتم في الدنيا إِلَّا زمانا او لبثا قَلِيلًا بالنسبة الى ما تستقبلونه من مدة العذاب قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و اللّه ما الدنيا في الآخرة الا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليمّ فلينظر بم يرجع رواه احمد و مسلم و ابن ماجه عن المستورد لَوْ أَنَّكُمْ يعنى لو ثبت انكم كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذلك و كلمة لو للتمنى و التوبيخ يعنى ليتكم تعلمون ان لبثكم في الدنيا قليل فلم تضيعوها في الملاهي و الشهوات و ما نسيتم لقاء يومكم هذا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كن في الدنيا كانك غريب او عابر سبيل رواه البخاري عن ابن عمرو زاد احمد و الترمذي و ابن ماجة وعد نفسك من اهل القبور. ١١٥ أَ فَحَسِبْتُمْ الفاء للعطف على محذوف و الهمزة للانكار و التوبيخ تقديره أ توهمتم فحسبتم اى ظننتم أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ما كافة لعمل ان فدخلت على الجملة الفعلية و هى مع جملتها قائم مقام المفعولين لحسبتم و عبثا اما مفعول مطلق من قبيل ضربته سوطا او مفعول له او حال من الفاعل او المفعول او منصوب بنزع الخافض يعنى لم نخلقكم خلقا عبثا لا لحكمة او للتلهى بكم او عابثين اى غير مريدين من خلقكم حكمة او حال كونكم مبعوثين غير مراد منكم حكمة التكليف بالطاعة و المعرفة و الجزاء او لتلعبوا و تعبثوا بل خلقناكم لتعرفوا و تعبدوا ربكم و تطيعوه وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ قرأ حمزة و الكسائي بفتح التاء و كسر الجيم على انه مبنى للفاعل من المجرد و الباقون بضم التاء و فتح الجيم على انه مبنى للمفعول من الإرجاع و ان مع جملتها عطف على انما خلقناكم و المعنى احسبتم عدم رجوعكم إلينا للجزاء او هو معطوف على عبثا يعنى ما خلقناكم غير راجعين إلينا. ١١٦ فَتَعالَى اللّه الْمَلِكُ الْحَقُّ الّذي يحق له الملك فان من عداه مملوك بالذات مالك بالعرص من وجه و في حال دون حال و الفاء للتعليل و الجملة في مقام التعليل للانكار تعالى اللّه و تنزه من ان يكون فعله عبثا لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ وصفه بالكرم لاختصاصه بتجليات كريمة من أكرم الأكرمين. ١١٧ وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللّه إِلهاً آخَرَ يعنى يعبد غير اللّه لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ صفة اخرى لاله لازمة له فان الباطل لا برهان به جئ بها للتاكيد و بناء الحكم عليه تنبيها على ان التدين بما لا دليل عليه ممنوع فضلا عما دل الدليل على بطلانه او اعتراض بين الشرط و الجزاء لذلك فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ جزاء لمن الشرطية يعنى انه تعالى مجازيه مقدار ما يستحقه إِنَّهُ اى الشان لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ بيان لجزائهم يعنى ليس لهم نجاة من النار و فوز الى الجنة بدأ اللّه السورة بتقرير الفلاح للمؤمنين و ختمها بنفي الفلاح عن الكافرين ثم امر رسوله بان يستغفروا يسترحمه حتى يتاسى به المؤمنون من أمته فيفوزوا على مدارج الفلاح فقال. ١١٨ وَ قُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَ ارْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ جملة أنت خير الراحمين حال من فاعل ارحم و حذف المفعول من اغفروا رحم لتعميم الدعاء بالمغفرة متكفل لسلب جميع المضرات و بالرحمة لجلب جميع المنافع روى البغوي في التفسير عن حنش ان رجلا مصابا مرّبه على ابن مسعود فرقى في اذنيه أ فحسبتم انما خلقناكم عبثا و انكم إلينا لا ترجعون حتى ختم السورة فبرأ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بماذا رقيت في اذنه فاخبره فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و الّذي نفسى بيده لو ان رجلا موقنا قرأها على جبل لزال |
﴿ ٠ ﴾