سُورَةُ النُّورِ مَدَنِيَّةٌ

وَهِيَ أَرْبَعٌ وَ سِتُّونَ آيَةً

مدنيّة و هى اربع و ستون اية

 بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

_________________________________

١

سُورَةٌ اى هذه سورة او فيما أوحينا إليك سورة أَنْزَلْناها صفة لسورة وَ فَرَضْناها يعنى أوحينا ما فيها من الاحكام و ألزمناكم العمل بها و قيل معناه قدّرنا ما فيها من الحدود قرا الجمهور بالتخفيف و ابن كثير و ابو عمر بالتشديد من التفعيل للتكثير لكثرة فرائضها او كثرة المفروض عليهم يعنى ألزمناكم أجمعين و من بعدكم الى قيام الساعة و قيل معناه فصّلنا و بيّنا وَ أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على المراد لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ اى لكى تتعظوا او تتقوا محارم اللّه.

٢

الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي مبتدأ خبره محذوف عند سيبويه تقديره سنذكر حكمهما و قوله فَاجْلِدُوا بيان لحكمه الموعود تقديره إذا ثبت زناهما فاجلدوا و قال المبرد خبره جملة فاجلدوا أورد الفاء في الخبر تتضمن المبتدأ معنى الشرط فان اللام بمعنى الّذي تقديره الّذي زنى و الّتي زنت فيقال في شانهما اجلدوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما منصوب على المفعولية يقال جلده إذا ضرب جلده كما يقال راسه و بطنه إذ ضرب راسه و بطنه ذكر بلفظ الجلد كيلا يبرج و يضرب بحيث يبلغ اللحم و من هاهنا قال الفقهاء مسئلة- يضربه بسوط لا ثمرة له ضربا متوسطا روى ابن ابى شيبة ثنا عيسى بن يونس عن حنظلة السدوسي عن انس بن مالك قال كان يؤمر بالسوط فيقطع ثمرته ثم يدق بين حجرين ثم يضرب به-

قلنا له في زمن من كان هذا قال في زمن عمر بن الخطاب- و روى عبد الرزاق عن يحيى بن ابى كثير ان رجلا اتى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال يا رسول اللّه انى أصبت حدّا فاقمه علىّ فدعا عليه السلام بسوط فأتى بسوط شديد له ثمرة فقال سوط دون هذا فاتى بسوط مكسورلين فقال سوط فوق هذا فاتى بسوط بين سوطين- فقال هذا فامر به فجلد- و روى ابن ابى شيبة عن زيد بن اسلم نحوه و ذكره مالك في المؤطا مِائَةَ جَلْدَةٍ منصوب على المصدرية قدّم الزانية في هذه الاية على الزاني لان الزنى في الأغلب يكون بتعريضها للرجل و عرض نفسها عليه بخلاف السرقة فانها تقع غالبا من الرجال و لذلك قدم السارق على السارقة في قوله تعالى وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما-

(مسئلة) اجمع علماء الامة على ان الزانية و الزاني إذا كانا حرين عاقلين بالغين غير محصنين فحدهما ان يجلد كل واحد منهما مائة جلدة بحكم هذه الاية و لا يزاد على ذلك عند ابى حنيفة رحمه اللّه- و قال الشافعي و احمد يجب عليهما ايضا تغريب عام الى مسافة قصر فما فوقها و لو كان الطريق أمنا ففى تغريب المرأة بلا محرم قولان و في المنهاج انه لا تغرب المرأة وحدها في الأصح بل مع زوج او محرم و لو بأجر و أجرته عليها في قول و في بيت المال في قول فان امتنع بأجرة ففى قول يجبره الامام- و في المنهاج انه لا يجبر في الأصح و قال مالك يجب تغريب الزاني دون الزانية- احتج الشافعي بحديث عبادة بن الصامت ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال خذوا عنى خذوا عنى قد جعل اللّه لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة و تغريب عام و الثيب بالثيب جلد مائة و الرجم- و قد مر الحديث في سورة النساء في تفسير قوله تعالى فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّه لَهُنَّ سَبِيلًا- و حديث زيد بن خالد قال سمعت النبي صلى اللّه عليه و سلم يأمر فيمن زنى و لم يحصن جلد مائة و تعزيب عام- رواه البخاري و في الصحيحين حديث زيد بن خالد و ابى هريرة ان رجلين اختصما الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال أحدهما اقض بيننا بكتاب اللّه و ائذن لى ان أتكلم قال تكلم قال ان ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامراته فاخبرونى ان على ابني الرجم فافتديت بمائة شاة و بجارية لى ثم انى سالت اهل العلم فاخبرونى ان على ابني جلد مائة و تغريب عام و انما الرجم على امرأته- فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اما و الّذي نفسى بيده لاقضين بينكما بكتاب اللّه اما غنمك و جاريتك و فرد عليك و اما ابنك فعليه جلد مائة و تغريب عام و اما أنت يا أنيس فاعد على امراة هذا فان اعترفت فارجمها فاعترفت فرجمها- قال مالك البكر بالبكر جلد مائة و تغريب عام غير شامل للنساء فلا يثبت التعزيب في النساء و هذا ليس بشي ء فان سياق الحديث في النساء حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خذوا عنى قد جعل اللّه لهن سبيلا الحديث- و عدم شمول البكر المرأة ممنوع كيف و قد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم البكر تستأذن- و كلمة من زنى في حديث زيد عام في الذكر و الأنثى لكن الوجه الصحيح لقول مالك ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال لا تسافر المرأة الا مع ذى محرم- رواه الشيخان في الصحيحين و احمد و ابو داود عن ابن عمر و في الصحيحين و عند احمد عن ابن عباس نحوه و روى ابو داود و الحاكم في المستدرك عن ابى هريرة نحوه و لاجل ذلك خص مالك حكم التغريب بالرجال دون النساء- و جعل الشافعي المحرم شرطا للتغريب- و قال الطحاوي ان تغريب النساء لما بطل لاجل نهيهن عن المسافرة بغير محرم انتفى ذلك عن الرجال ايضا- و استدل الطحاوي على عدم التعزيب فى الحد بحديث ابى هريرة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول إذا زنت امة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد و لا يثرب «١» عليها ثم إذا زنت فليجلدها الحد و لا يثرب عليها ثم إذا زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها و لو بحبل من شعر متفق عليه قال ان النبي صلى اللّه عليه و سلم امر ببيع الامة إذا زنت و محال ان يأمر ببيع من لا يقدر مبتاعه على قبضه من بائعه- فثبت بطلان تغريب الامة إذا زنت و إذا بطل تغريب الإماء بطل تغريب الجرائر لقوله تعالى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ و إذا بطل تغريب الحرائر بطل تغريب الأحرار- و هذا القول غير سديد لان نفى التعزيب في النساء مطلقا او في الإماء لاجل التعارض في النصوص لا يقتضى السقوط في حق الرجال مع عدم التعارض هناك- و قال بعض الحنفية لا يجوز العمل بحديث التغريب لانه زيادة على الكتاب و هى في حكم النسخ فلا يجوز بخبر الآحاد- و هذا القول مردود لان الزيادة الّتي هى في حكم النسخ زيادة ركن او شرط او وصف في الماموريه حتى يجعل المجزى غير مجز كزيادة تعين الفاتحة في اركان الصلاة و صفة الايمان في رقبة الكفارة و التتابع في الصيام و الطهارة في الطواف و هى ممنوعة- و اما مطلق الزيادة فغير ممنوعة و الا لبطلت اكثر السنن الا ترى ان عدة الوفاة ثبتت بنص القرآن و الإحداد فيها ثبت بالسنة و ليس الإحداد شرطا في العدة حتى لو تربصت اربعة أشهر و عشر ا و لم تحد عصت بترك الواجب و انقضت عدتها و جاز لها التزوج- و من هذا القبيل القول بان تعين الفاتحة و ضم السورة و غيرهما من واجبات الصلاة على رأى ابى حنيفة حيث قال بوجوبها و لم يقل بركنيتها- و زيادة التغريب في الحد لا تجعل جلد مائة غير مجز فلا محذور فيه- فقال اصحاب الشافعي ان الاية ساكتة عن التغريب و ليس في الاية ما يدفعه لينسخ أحدهما الاخر نسخا مقبولا او مردودا-

(١) اى لا يوبخها؟؟؟ و لا يقرعها بالزنى بعد الضرب- و قيل أراد لا يقنع في أمرها بالتثريب بل يضرب فان زنى الإماء لم يعده العرب مكروها و عيبا فامرهم بحد الإماء كما يحد الحرائر منه رحمه اللّه-.

فقال المحققون من الحنفية ان قوله تعالى فَاجْلِدُوا بيان للحكم الموعود في قوله الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي على قول سيبويه فكان المذكور تمام حكمه و الا كان تجهيلا إذ يفهم منه انه تمام الحكم و ليس تمامه في الواقع فكان مع الشروع في البيان ابعد من ترك البيان لانه يوقع في الجهل المركب و ذك في البسيط- و جزاء للشرط على قول المبرد فيفيدان الواقع هذا فقط فلو ثبت معه شي ء اخر كان مثبتة معارضا لا مثبتا لما سكت عنه و هو الزيادة الممنوعة- و أورد عليه بان الحديث مشهور تلقته الامة بالقبول فيجوز به نسخ الكتاب و أجيب بانه ان كان المراد بالتلقى بالقبول إجماعهم على العمل به فممنوع لظهور الخلاف- و ان كان المراد إجماعهم على صحته بمعنى صحة سنده فكثير من اخبار الآحاد كذلك و لا تخرج بذلك عن كونها احادا-

فان قيل الاية قطعى السند لكنه ظنى الدلالة لكونه عاما خص منه البعض اجماعا فان الحكم بالجلد مائة مختص بالاحرار و الحرائر دون العبيد و الإماء- و بغير المحصن عند اكثر الامة- و ايضا دلالتها على كون الحكم الجلد فقط لا غير ظنية مستنبطة بالرأى حتى لم يدر له كثير من الفقهاء و اهل العربية- و الحديث ظنى السند قطعى الدلالة فتساويا فجاز ان يكون حديث الآحاد ناسخا لحكم الكتاب فلان يجوز به الزيادة على الكتاب اولى-

قلنا على تقدير تسليم المساواة سياق حديث عبادة يدل انه أول حكم ورد في الزانيات و الزواني حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خذوا عنى خذوا عنى قد جعل اللّه لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة و تغريب عام و الثيب بالثيب جلد مائة و الرجم فالاية عند التعارض ناسخ ليس بمنسوخ- و قد قال الشافعي الجلد المذكور في الحديث في حق الثيب منسوخ فلا مانع من كون التغريب في حق البكر منسوخا بهذه الاية- قال ابن همام ليس في الباب من الأحاديث ما يدل على ان الواجب من التغريب واجب بطريق الحد- فان أقصى ما فيه دلالة قوله البكر بالبكر جلد مائة و تغريب عام و هو عطف واجب على واجب و هو لا يقتضى ذلك بل ما في البخاري من قول ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قضى فيمن زنى و لم يحصن بنفي و اقامة الحد ظاهر في ان النفي ليس من الحد لعطفه عليه و كونه مستعملا في جزء مسماه و عطفه على جزء اخر بعيد لا يوجبه دليل و ما ذكر من الألفاظ لا تفيد فجاز كون التغريب لمصلحة- (فائدة) و قد يرجح اصحاب الشافعي حديث التغريب بالمعقول حيث قالوا ان في التغريب حسم باب الزنى لقلة المعارف- و عارضه الحنفية بان فيه فتح باب الفتنة لانفرادها عن العشيرة و عمن تستحيى منهم ان كان بها شهوة قوية و قد تفعله لحامل اخر و هو حاجتها الى معيشتها- و يؤيده ما روى عبد الرزاق و محمد بن الحسن في كتاب الآثار أخبرنا ابو حنيفة عن حماد عن ابراهيم النخعي قال قال عبد اللّه بن مسعود في البكر يزنى بالبكر يجلد ان مائة و ينفيان سنة قال و قال علىّ بن ابى طالب حسبهما من الفتنة ان ينفيا- و روى محمد عن ابى حنيفة عن حمّاد عن ابراهيم قال كفى بالنفي فتنة- و روى عبد الرزاق عن الزهري عن ابن المسيب قال غرّب عمر ربيعة بن امية بن خلف في الشراب الى خيبر فلحق بهرقل فتنصر فقال عمر لا اغرّب بعده مسلما-

(مسئلة) و إذا راى الامام مصلحة في التغريب مع الجلد جاز له النفي عند ابى حنيفة رحمه اللّه ايضا و هو محل التغريب المروي عن النبي صلى اللّه عليه و سلم و ابى بكر و عمر و عثمان روى النسائي و الترمذي و الحاكم و صححه على شرط الشيخين و الدار قطنى من حديث ابن عمران النبي صلى اللّه عليه و سلم ضرب و غرّب و ان أبا بكر ضرب و غرّب و ان عمر ضرب و غرّب- و صححه ابن القطان و رجح الدار قطنى وقفه و روى ابن ابى شيبة بإسناد فيه مجهول ان عثمان جلد امراة في زنى ثم أرسل بها الى خيبر قنفاها- و ليس التغريب مقتصرا على الزنى بل يجوز للامام تغريب كل واء إذا راى مصلحة- روى الطحاوي بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رجلا قتل عبده عمدا فجلده النبي صلى اللّه عليه و سلم مائة و نفاه سنة و محا أراه سهمه من المسلمين و امره ان يعتق رقبة- و روى سعيد بن منصور ان عمر بن الخطاب اتى برجل شرب الخمر في رمضان فضرب مائتى سوط ثم سيره الى الشام- و علق البخاري طرفا عنه و رواه البغوي في الجعديات و زاد و كان إذا غضب على رجل يسيره الى الشام و روى البيهقي عن عمر انه كان ينفى الى البصرة- و روى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع ان عمر نفى الى فدك- و من لههنا أخذ مشائخ السلوك رضى اللّه عنهم و عنا الهم يغرّبون المريد إذا بدا عنه قوة نفس و لجاج لتنكسر نفسه و تلين قلت إذا راى القاضي مسلما يقع في المعاصي بغلبة الشهوة مع الندم و الاستحياء يأمره بالغربة و السفر و اما من لا يستحيى و لا يندم فنفيه عن الأرض حبسه حتى يتوب و اللّه اعلم.

(مسئلة) و إذا كان الزاني و الزانية محصنين يرجمان بإجماع الصحابة و من بعدهم من علماء النصيحة- و أنكره الخوارج لانكارهم اجماع الصحابة و حجية خبر الآحاد و ادعائهم ان الرجم لم يثبت من القرآن و لا من النبي صلى اللّه عليه و سلم الا بخبر الآحاد- و الحق ان الرجم ثابت من النبي صلى اللّه عليه و سلم بأخبار متواترة بالمعنى كفضل على و شجاعته وجود حاتم و ان كانت من الآحاد في تفاصيله صورة و خصوصياته- عن عمر بن الخطاب قال ان اللّه بعث محمدا صلى اللّه عليه و سلم بالحق و انزل عليه الكتاب و كان مما انزل اللّه عليه اية الرجم رجم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و رجمنا بعده- و الرجم في كتاب اللّه حق على من زنى إذا أحصن من الرجال او النساء إذا قامت البينة او كانت الحبل او الاعتراف- متفق عليه و روى البيهقي انه خطب و قال ان اللّه تعالى بعث محمدا صلى اللّه عليه و سلم بالحق و انزل عليه الكتاب فكان مما انزل فيه اية الرجم فقرأناها و و عيناها الشّيخ و الشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالا من اللّه و اللّه عزيز حكيم- و رجم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و رجمنا من بعده الحديث و في آخره و لو لا أخشى ان يقول الناس زاد في كتاب اللّه لا ثبته في حاشية المصحف- و روى ابو داؤد خطبة عمرو فيه انى خشيت ان يطول بالناس زمان فيقول قائل لا نجد الرجم في كتاب اللّه- و في رواية للترمذى بلفظ لو لا انى اكره ان أزيد في كتاب اللّه لكتبته في المصحف فانى خشيت ان يجئ قوم فلا يجدونه في كتاب اللّه فيكفرون به- و كان هذا يعنى خطبة عمر بمحضر من الصحابة و لم ينكر عليه أحد- و في الباب حديث ابى امامة بن سهل عن خالته العجماء بلفظ الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما بما قضيا من اللذة- رواه الحاكم و الطبراني و في صحيح ابن حبان من حديث كان سورة الأحزاب توازى سورة البقرة و كان فيها اية الرجم الشيخ و الشيخة الحديث- و في الصحيحين عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ان لا اله الا اللّه و انى رسول اللّه الا بإحدى ثلاث النفس بالنفس و الثيب الزاني و المارق لدينه التارك للجماعة- متفق عليه و عن ابى امامة بن سهل بن حنيف ان عثمان بن عفان اشرف يوم الدار فقال أنشدكم باللّه أ تعلمون ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لا يحل دم امرئ مسلم الا بإحدى ثلاث زنى بعد إحصان او ارتداد «١» بعد اسلام او قتل نفس بغير حق فقتل به فو اللّه ما زنيت في جاهلية و لا في اسلام و لا ارتددت منذ بايعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و لا قتلت النفس الّتي حرم اللّه فبم تقتلونى- رواه الترمذي و النسائي و ابن ماجة و الدارمي و رواه الشافعي في مسنده و رواه البزار و الحاكم و قال صحيح على شرط الشيخين و البيهقي و ابو داود و أخرجه البخاري عن فعله صلى اللّه عليه و سلم من قول ابى قلابة حيث قال و اللّه ما قتل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أحدا

(١) و في الأصل كفر إلخ- الفقير الدهلوي-.

قط الا في ثلاث خصال رجل قتل فقتل او رجل زنى بعد إحصان او رجل حارب اللّه و رسوله و ارتد عن الإسلام و قد صح انه صلى اللّه عليه و سلم رجم ما عز بن مالك حين اعترف بالزنى- رواه مسلم و البخاري من حديث ابن عباس و رواه الترمذي و ابن ماجة من حديث ابى هريرة و في الصحيحين من حديث ابى هريرة و ابن عباس و جابر و من لم يسم و رواه مسلم من بريدة قال جاء ما عز بن مالك الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال يا رسول اللّه طهرنى الحديث- و رجم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم امراة من غامد من الأزد قالت يا رسول اللّه و اعترفت انها حبلى من الزنى رجمها بعد وضع الحمل و في رواية رجمها حين أكل ولدها الطعام رواه مسلم من حديث بريدة و رجم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم امراة من جهينته حين اعترفت بالزنى- رواه مسلم من حديث عمران بن حصين.

قال علماء الفقه و الحديث و قد جرى عمل الخلفاء الراشدين بالرجم مبلغ حد التواتر و اللّه اعلم-

(مسئلة) و ان كان أحدهما محصنا و الآخر غير محصن يرحم المحصن و يجلد الآخر كما قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في رجل كان عسيفا لاخر فزنى بامراته و قد مر الحديث-

(مسئلة) هل يجلد المحصن قبل الرجم أم لا فقال احمد يجلد اولا بحكم هذه الاية ثم يرجم فالاية عنده غير مخصوص بغير المحصن و لا منسوخ- و هو يقول ليس الجلد المذكور في الاية تمام الحد بل بعضه فيضم بالسنة مع الجلد في غير المحصن التغريب سنة و في المحصن الرجم و كما لا يزاحم الاية حديث التغريب كذلك لا يزاحمه حديث الرجم و ان كان متواترا فوجب العمل بهما و يؤيده ما ذكرنا من حديث عبادة بن الصامت قوله صلى اللّه عليه و سلم البكر بالبكر جلد مائة و تغريب عام و الثيب بالثيب جلد مائة و الرجم- و روى عن سلمة بن المحبق نحوه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خذوا عنى خذوا عنى قد جعل اللّه لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة و نفى سنة و الثيب بالثيب جلد مائة و الرجم- و يؤيده اثر علىّ بن ابى طالب رواه احمد و الحاكم و النسائي عن الشعبي ان عليّا جلد سراحة الهمدانية بالكوفة ثم رجمها ضربها يوم الخميس و رجمها يوم الجمعة و قال اجلدها بكتاب اللّه و ارجمها بسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- و أصله في صحيح البخاري و لم يسم المرأة- و قال ابو حنيفة و مالك و الشافعي هذه الاية مخصوص بغير المحصن او منسوخ في حق المحصن و كذا حديث عبادة بن الصامت و سلمة بن المحبق و الدليل على كونه منسوخا ان النبي صلى اللّه عليه و سلم رجم ما غزا و المرأة الغامدية و الجهينية و نقل تلك القصص بوجوه و طرق كثيرة و لم يرو في شي ء من طرقها انه جلد ثم رجم- و قد مرّ في حديث زيد و خالد في قصة رجلين اختصما الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و كان ابن أحدهما عسيفا على الاخر فزنى بامراته قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على ابنه بالجلد و التغريب و قال يا أنيس اغد الى امراة هذا فان اعترفت فارجمها و لم يقل اجلدها ثم ارجمها و الناسخ اما ان يكون وحيا غير متلو او وحيا منسوخ التلاوة اعنى الشّيخ و الشّيخة إذا زنيا فارجموهما و هذه الاية المنسوخ تلاوتها لا يتصور كونها ناسخا الا على ما قرره المحققون من الحنفية في هذه الاية ان المذكور كل الواجب فقوله تعالى الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا يدل على كون الجلد كل الواجب- و الشّيخ و الشّيخة إذا زنيا الاية تدل على ان الرجم كل الواجب فتعارضا- فكان أحدهما ناسخا للاخر- و لو لم يفهم من الآيتين ان المذكور كل الواجب فلا تعارض و لا نسخ بل يجب حينئذ الجمع بين الرجم و الجلد كما قال احمد و اللّه اعلم- و اما اثر علىّ فيعارضه اثر عمر فهو امر اجتهادي كقول احمد روى الطحاوي بسنده عن ابى واقد الليثي ثم الأشجعي و كان من اصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم انه قال بينما نحن عند عمر بالجاببة أتاه رجل فقال يا امير المؤمنين ان امراتى زنت فهى هذه تعترف بذلك فارسلنى عمر في رهط إليها نسئلها فاخبرتها بالذي قال زوجها فقالت صدق فبلّغنا ذلك عمر فامر برجمها فهذا عمر (بحضرة اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم) لم يجلدها قبل رجمها-

قلت و لعل عليّا رضى اللّه عنه جلد سراحة الهمدانية قبل ثبوت احصانها ثم رجمها بعد ثبوت احصانها- و معنى قوله اجلدها بكتاب اللّه و ارجمها بسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان الجلد في حق غير المحصن ثابت بالقرآن و الرجم في حق المحصن ثابت بسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فمتى ثبت احصانها رجمتها- و قد روى عن النبي صلى اللّه عليه و سلم مثل ذلك روى الطحاوي بسنده عن جابر ان رجلا زنى فامر به النبي صلى اللّه عليه و سلم فجلد ثم اخبر انه كان قد أحصن فامر به فرجم- (فائدة) اعلم ان الإحصان استعمل في القرآن لمعان منها الحرية و منها التزويج قال اللّه تعالى وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أراد به المزوجات و قال فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ أراد بقوله أُحْصِنَّ إذا زوجن و بالمحصنات الحرائر- و منها العفة كما في قوله تعالى وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ و قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ- و المراد بالاحصان الّذي هو شرط للرجم في الزاني و الزانية الدخول بنكاح صحيح فانه ثمرة التزويج يدل على ذلك تعبير النبي صلى اللّه عليه و سلم المحصن بالثيب و غير المحصن بالبكر و ذكر العلماء من شرائط إحصان الرجم الحرية و العقل و البلوغ و ان يكون قد تزوج تزويحا صحيحا و دخل بالزوجة و هذه الشروط الخمسة مجمع عليها للرجم- لكن العقل و البلوغ شرطان لاهلية العقوبة بل لاهلية الخطاب مطلقا فلا وجه لذكرهما في إحصان الرجم- و الحرية شرط لتكامل الحد مطلقا لا للرجم خاصة حتى لا يجلد العبد مائة- بقي الدخول بنكاح صحيح معتبرا-

و زاد ابو حنيفة و مالك و محمد في شرائط إحصان الرجم الإسلام خلافا للشافعى و ابى يوسف و احمد احتجت الحنفية على اشتراط الإسلام بقوله صلى اللّه عليه و سلم من أشرك باللّه فليس بمحصن- رواه إسحاق بن راهويه في مسنده ثنا عبد العزيز بن محمد ثنا عبد عن نافع عن ابن عمر قال إسحاق رفعه ابن عمر مرة فقال عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و وقفه مرة- قال ابن الجوزي لم برفعه غير إسحاق و يقال انه رجع عنه و الصواب انه موقوف- قال ابن همام لا شك ان مثله بعد صحة الطريق محكوم برفعه فان الراوي يفتى على حسب مافع قلت إذا رجع إسحاق عن الرفع و اعترف بخطائه و لم يرفعه غيره فكيف يحكم برفعه- و لو سلمنا كونه مرفوعا فالحديث لا يدل على إحصان الرجم خاصة و قد ذكرنا ان الإحصان استعمل في القرآن لمعان منها العفة فلعل معنى الحديث من أشرك فليس بعفيف فلا يحد قاذفه- فلا يثبت بهذا الحديث اشتراط الإسلام للرجم مع عموم لفظ الثيب بالثيب و شموله للمؤمن و الكافر- و قد روى الشيخان في الصحيحين عن ابن عمران اليهود جاءوا الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فذكروا له ان رجلا منهم و امراة زنيا فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما تجدون في التورية في شأن الرجم قالوا نفضحهم و يجلدون قال عبد اللّه بن سلام كذبتم ان فيها الرحم- فاتوا بالتورية فنشروها فوضع أحدهم يده على اية الرجم فقرا ما قبلها و ما بعدها فقال عبد اللّه بن سلام ارفع يدك فرفع فاذا فيها اية الرجم فقالوا صدق يا محمّد فيها اية الرجم فامر بهما النبي صلى اللّه عليه و سلم فرجما- فهذا الحديث حجة للشافعى و احمد و أجاب عنه صاحب الهداية بانه كان ذلك بحكم التورية ثم نسخ قلت شرائع من قبلنا واجب العمل على اصل ابى حنيفة ما لم يظهر نسخه في شريعتنا لا سيّما إذا عمل به النبي صلى اللّه عليه و سلم فان عمله صلى اللّه عليه و سلم دليل صريح في كون ذلك الحكم باق في شريعتنا لانه محال ان يحكم النبي صلى اللّه عليه و سلم بحكم منسوخ في شريعتنا على خلاف ما انزل اللّه عليه و ليس شي ء من الآيات و الأحاديث دالّا على نسخه فان لفظ الزاني و الزانية و الشيخ و الشيخة و الثيب و البكر يعم المؤمن و الكافر جميعا و حديث من أشرك فليس بمحصن لا يدل على اشتراط الإسلام في الرجم بل هو محمول على إحصان القذف-

(مسئلة) و زاد ابو حنيفة رحمه اللّه في شرائط إحصان الرجم كون كلا الزوجين عند الدخول بنكاح صحيح حرين مسلمين عاقلين بالغين و كذا قال احمد سوى الإسلام حتى لو تزوج الحر المسلم العاقل البالغ امة او ضبية او مجنونة او كتابية و دخل بها لا يصير محصنا بهذا الدخول فلو زنى بعده لا يرجم و كذا لو تزوجت الحرة البالغة العاقلة عبدا او مجنونا او صبيّا و دخل بها لا تصير محصنة فلا ترجم لو زنت بعده- و لو تزوج مسلم ذمية فاسلمت بعد ما دخل بها و لم يدخل بها بعد إسلامها ثم زنت لا ترجم- و كذا لو اعتقت الامة الّتي تحت حر مسلم عاقل بالغ بعد ما دخل بها و لم يدخل بها بعد اعتاقها ثم زنت لا ترجم- احتجت الحنفية بما رواه الدار قطنى و ابن عدىّ عن ابى بكر بن عبد اللّه بن ابى مريم عن على بن ابى طلحة عن كعب بن فالك انه أراد تزوج يهودية او نصرانية فسال النبي صلى اللّه عليه و سلم عن ذلك فنهاه و قال انها لا تحصنك- قال الدار قطنى ابو بكر بن ابى مريم ضعيف جدّا و على بن ابى طلحة لم يدرك كعبا- و قال ابن همام و رواه بقية ابن الوليد عن عتبة بن تميم عن على بن ابى طلحة عن كعب و هو منقطع-

قلت بقية بن الوليد ايضا ضعيف مدلس قال ابن همام الانقطاع عندنا داخل في الإرسال و المرسل- عندنا حجة بعد عدالة الرجال-

قلت و لا شك ان هذا ليس في قوة حديث الصحيحين ان النبي صلى اللّه عليه و سلم رجم اليهودي و اليهودية فلا يجوز العمل به- و هذا الحديث لا يصلح حجة لاحمد لان الإسلام ليس بشرط للاحصان عنده- و قد روى البيهقي من طريق ابى وهب عن يونس عن ابن شهاب انه سمع عبد الملك يسئل عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة عن الامة هل تحصن الحرّ قال نعم قيل عمن قال أدركنا اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقولون ذلك و قال البيهقي بلغني عن محمد بن يحيى انه قال و حدثت عن الأوزاعي مثله و روى البيهقي من طريق عبد الرزاق عن عمر عن الزهري عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة مثله-

(مسئلة) «١» و إذا كان أحد الزانيين محصنا و الاخر غير محصن رجم المحصن و جلد الاخر اجماعا لحديث زيد بن خالد و ابى هريرة في قصة عسيف حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اما ابنك فعليه جلد مائة و تغريب عام و اما أنت يا أنيس فاغد على امراة هذا فان اعترفت فارجمها فاعترفت فرجمها- متفق عليه-

(مسئلة) و ان كان أحدهما محنونا و الاخر عاقلا فقال مالك و الشافعي و احمد يجب الحد على العاقل منهما و قال ابو حنيفة يجب الحد على العاقل دون العاقلة مع المجنون قال ابو حنيفة فعل الزنى انما يتحقق من الرجال و انما المرأة محل و انما سميت زانية مجازا فتعلق الحد في حقها بالتمكين من قبيح الزنى و هو فعل من هو مخاطب بالكف عنه- و قال الجمهور ان العذر من جانبها لا يسقط الحد من جانبه اجماعا فكذا العذر من جانبه و لا نسلم ان الزانية اطلق عليها بالمجاز و لو سلمنا فمعناه المجازى و هو التمكين من الزنى موجب للحد في حقها و القول بان فعل الصبى و المجنون ليس بزنى ممنوع بل هو زنى لغة و شرعا و عدم المأثم لاجل عدم التكليف و اللّه اعلم-

(١) قد مر هذه المسألة فيما سبق- ابو محمّد.

فصل- مسئلة الزنى في الشرع و اللغة و طى الرجل المرأة فى القبل من غير الملك و اما الوطي في الدبر رجلا كان المفعول به او امراة فليس بزنى لغة و لا شرعا و قد ذكرنا اختلاف العلماء في حد اللواطة في سورة النساء في تفسير قوله تعالى وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فمن وطى زوجته الحائض او الصائمة او المحرمة او أمته قبل الاستبراء او الامة المشتركة بينه و بين غيره او الامة المشركة او المنكوحة لغيره او الامة المحرّمة برضاع لا يكون زنى و لا يوجب الحدّ لوجود الملك لكنه يأثم- و شبه الملك ملحق بالملك شرعا يسقط به الحد عند الائمة الاربعة و جمهور العلماء- خلافا للظاهرية لقوله صلى اللّه عليه و سلم ادرءوا الحدود بالشبهات و هو في مسند ابى حنيفة عن مقسم عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ادرءوا الحدود بالشبهات- و روى الترمذي و الحاكم و البيهقي من طريق الزهري عن عروة عن عائشة بلفظ ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فاذا كان له مخرج فخلوا سبيله فان الامام ان يخطئى في العفو خير من ان يخطئى في العقوبة- و في اسناده يزيد بن زياد الدمشقي و هو ضعيف و قد قال فيه البخاري منكر الحديث و قال النسائي متروك و رواه وكيع عنه موقوفا و هو أصح قاله الترمذي قال و قد روى عن غير واحد من الصحابة انهم قالوا ذلك و قال البيهقي في السنن رواية وكيع اقرب للصواب. قال و رواه رشدين عن عقيل عن الزهري و رشدين ضعيف ايضا و روينا عن على مرفوعا ادرءوا الحدود بالشبهات و لا ينبغى ...

للامام ان يعطل الحدود و فيه المختار بن نافع و هو منكر الحديث قاله البخاري و أصح ما فيه حديث سفيان الثوري عن عاصم عن ابى وائل عن عبد اللّه بن مسعود قال ادرءوا الحدود بالشبهات ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم رواه ابن ابى شيبة و روى عن عقبة بن عامر و معاذ ايضا موقوفا رواه ابن ابى شيبة و روى منقطعا و موقوفا على عمر و رواه ابن حزم في كتاب الإيصال من حديث عمر موقوفا عليه بإسناد صحيح و أسند ابن ابى شيبة من طريق ابراهيم النخعي عن عمر لان أخطئ الحدود بالشبهات أحب الىّ من ان أقيمها بالشبهات- و قالت الظاهرية ان الحد بعد ثبوته لا يجوز ان يدرأ بشبهة إذ ليس في درء الحد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم شي ء بل عن بعض الصحابة من طرق لا خير فيها و اعلّوا حديث ابن مسعود الموقوف بالإرسال و ما رواه عبد الرزاق عنه و هو غير رواية ابن ابى شيبة فانها معلولة بإسحاق بن ابى فروة- قال ابن همام الحديث تلقته الامة بالقبول و في تتبع المروي عن النبي صلى اللّه عليه و سلم و الصحابة ما يوجب القطع في المسألة الا ترى ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال لما عز لعلك قبلت لعلك لمست لعلك غمزت ليلقنه الرجوع بعد الإقرار و انما فائدته انه إذا قال نعم ترك و كذا قال للسارق الّذي جيئ به لا إخاله سرق و للغامدية مثل ذلك و كذا قال علىّ لسراحة لعله وقع عليك و أنت نائمة لعله استكرهك لعل مولاك زوجك و أنت تكتمينيه و تتبع مثله عن كل واحد يوجب طولا في الكلام- فالحاصل من هذا كله كون الحد يحتال في درئه بلا شك فمعنى الحديث و الآثار مقطوع به و اللّه اعلم-

(مسئلة) الشبهة اما شبهة اشتباه اى شبهة في حق من اشتبه عليه دون من لم يشتبه عليه- و ذلك فيما لم يكن هناك دليل حل أصلا لكن الفاعل ظن غير الدليل دليلا كجارية أبيه و امه و زوجته و المعتدة بعد ثلاث تطليقات او طلاق على مال و أم ولد أعتقها مولاها و هى في العدة و جارية المولى في حق العبد و الجارية المرهونة- حيث لا دليل هناك تدل على الحل لكن الفاعل لو ظن حلها لاجل اتصال الاملاك لاجل الولاد و الزوجية باعتبار عدم قبول الشهادة لهم او لاجل بقاء حقوق النكاح من وجوب النفقة و منع الغير من النكاح في العدة و الملك يدا في الرهن لا يحد و لو علم الحرمة يحد لعدم الحل بدليل أصلا- و اما شبهة للملك و ذلك حيث وجد دليل يوجب الحل في ذاته كجارية ابنه نظرا الى قوله صلى اللّه عليه و سلم أنت و مالك لابيك- رواه ابن ماجة من حديث جابر فى جواب من قال يا رسول اللّه ان لى مالا و ولدا و ابى يريد ان يحتاج مالى- قال ابن القطان و المنذرى سنده صحيح و رواه الطبراني في الأصغر و البيهقي في الدلائل في قصة و المعتدة بالكنايات لاختلاف الصحابة في كونها رواجع و الجارية المبيعة و الممهورة في حق البائع و الزوج لكونها في ضمانه و كذا كل جهة أباحها عالم كنكاح بلا شهود- ففى هذه الصور لا يحد و ان كان الواطى يعتقد الحرمة و كذا من زفت اليه غير امرأته في أول و هلة و قالت النساء انها زوجتك لاحد عليه اجماعا و عليه المهر قضى بذلك علىّ رضى اللّه عنه و بالعدة لانه اعتمد دليلا و هو الاخبار في موضع الاشتباه إذ الإنسان لا يتميز بين امرأته و غيرها في أول وهلة- بخلاف من وجد على فراشه امراة فوطيها فانه يجب عليه الحد عند ابى حنيفة خلافا لمالك و الشافعي و احمد فعندهم لا يحد قياسا على المزفوفة بجامع ظن الحل- لنا انه لا اشتباه بعد طول الصحبة فلم يكن الظن مستندا الى دليل- و كذا إذا كان أعمى لانه يمكنه التمييز بالسؤال و غيره الا إذا دعاها فاجابته اجنبية قالت انا زوجتك فواقعها لان الاخبار دليل و جاز تشابه النغمة خصوصا لو لم يطل الصحبة و اللّه اعلم

(مسئلة) و من الشبهة عند ابى حنيفة و زفر و سفيان الثوري شبهة عقد فمن نكح امراة لا يحل نكاحها لا يجب عليه حد الزنى عند ابى حنيفة لكن يجب عليه العقوبة البليغة الشديدة-

قلت و الاولى ان يقال فيه القتل حدّا اتباعا بالحديث- و عند مالك و الشافعي و احمد و ابى يوسف و محمد يجب عليه حد الزنى ان كان عالما بذلك لانه وطى في فرج مجمع على تحريمه من غير ملك و لا شبهة ملك و الواطى اهل للحد عالم بالتحريم فيجب الحد كما لو لم يوجد العقد إذ العقد ليس لشبهة لانه لم يصارف محله لانه في نفسه خيانة يوجب عقوبة انضمت الى زنى فلم يكن شبهة كما لو أكرهها و عاقبها و زنى بها- و لو سلمنا ان العقد شبهة و الوطي بالشبهة لم يكن زنى فهو اغلظ من الزنى فاحرى ان يجب فيه ما يجب في الزنى- و لابى حنيفة انه عقد صادف محلا لمطلق النكاح لكونها أنثى من بنى آدم و ان لم يكن محلا لهذا النكاح المخصوص حتى صار باطلا فاورث شبهة فان الشبهة ما يشابه الثابت و لا شك ان مشابه الثابت ليس بثابت فالشبهة لا يقتضى ثبوت الحل بوجه من الوجوه و إذا ثبت فيه شبهة الملك لم يكن زنى و كونه اغلظ من الزنى لا يقتضى كونه موجبا للحد- لان امر الحدود توقيفى الا ترى انه من قذف محصنا بالزنى وجب عليه حدّ القذف ثمانون سوطا و من قذفه بالكفر لا يجب عليه حدّ القذف مع ان الكفر اغلظ من الزنى و قد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الغيبة أشد من الزنى رواه البيهقي في شعب الايمان عن ابى سعيد و جابر و المراد بما لا يحل نكاحها ما لا يحل نكاحها على التأييد باتفاق العلماء كالمحرمات بنسب او رضاع او صهرية- و اما ان كان النكاح مختلفا فيه كالنكاح بلا ولى و بلا شهود فهو مسقط للحد اتفاقا لتمكن الشبهة عند الجميع و ان كان النكاح متفقا على تحريمه لكن حرمتها غير موبدة كما إذا تزوج امة على حرة او تزوج مجوسية او امة بلا اذن سيدها او تزوج العبد بلا اذن سيده او تزوج منكوحة الغير او معتدته او المطلقة ثلاثا او خامسة او اخت زوجته او في عدتها فعند ابى حنيفة لا يحدّ و عند صاحبيه في رواية عنهما يحدّ و في اخرى لا يحدّ و يؤيد قول ابى حنيفة ما رواه الطحاوي ان رجلا تزوج امراة في عدتها فرفع الى عمر فضربها دون الحد و جعل لها الصداق و فرق بينهما و قال لا يجتمعان ابدا قال و قال على ان تابا و أصلحا جعلهما مع الخطاب- و في مسئلة المحارم روى عن جابر انه يضرب عنقه و كذا نقل عن احمد و إسحاق و اهل الظاهر و قصر ابن حزم قتله على ما إذا كانت المرأة امراة أبيه قصرا للحد على مورده و في رواية اخرى لاحمد يضرب عنقه و يؤخذ ماله لبيت المال لحديث البراء بن عازب قال لقيت خالى و معه رأية فقلت له اين تريد- قال بعثني رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الى رجل نكح امراة أبيه ان اضرب عنقه و أخذ ماله «١» رواه ابو داود و الترمذي و قال حديث حسن و رواه الطحاوي بطرق و لم يذكر فيه أخذ المال و في بعض طرقه أخذ المال ايضا و روى ابن ماجة عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من وقع على ذات محرم منه فاقتلوه- و عن معاوية بن قرة عن أبيه ان النبي صلى اللّه عليه و سلم بعث جده معاوية الى رجل عرس بامراة أبيه ان يضرب عنقه و يخمس ماله- قالت الحنفية هذه الأحاديث لا حجة فيها لمن قال بوجوب الحد من الجلد و الرجم لعدم ذكر الجلد و الرجم في الحديث و ايضا ليس في الحديث ذكر الدخول بالمرأة المحرمة بل ذكر النكاح بالمحرمة و نفس النكاح ليس بموجب للحد اجماعا- فوجب ان يقال ان النبي صلى اللّه عليه و سلم انما امر بالقتل و أخذ المال اما سياسة و اما لان المتزوج بامراة أبيه فعل ما فعل مستحلا كما كانوا يفعلون في الجاهلية فصار بذلك مرتدا و لعله صار محاربا و لذلك امر بقتله و أخذ ماله و تخميسه-

(مسئلة) و من شبهة العقد ما إذا استأجر امراة ليزنى بها ففعل لاحد عليه عند ابى حنيفة رحمه اللّه و يعزر و قال ابو يوسف و محمد و مالك و الشافعي و احمد يحدّ لان عقد الاجارة لا يستباح به البضع كما لو استأجرها للطبخ و نحوه من الأعمال ثم زنى بها يحد اتفاقا له ان المستوفى بالزنى المنفعة و هى المعقود عليه في الاجارة لكنه في حكم العين بالنظر «٢» الى الحقيقة بكونه محلّا لعقد الاجارة فاورث شبهة- بخلاف الاستيجار للطبخ لان العقد لم يضف الى المستوفى بالوطى و العقد المضاف الى محل يورث شبهة فيه لا في محل اخر و اللّه اعلم-

(مسئلة) اتفق العلماء على ان الزنى يثبت بشهادة اربعة من الرجال و لا يثبت بشهادة ما دونها- و لا بشهادة النساء لقوله تعالى فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ- و قوله تعالى لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ-

(١) كذا في سنن ابى داود و ليس في الأصل لفظة ماله- الفقير الدهلوي-.

(٢) و في الأصل فبالنظر- الفقير الدهلوي-.

(مسئلة) لو شهد اربعة متفرقين يثبت الزنى و يحد عند الشافعي لوجود النصاب- و عند الثلاثة هم قذفوه «١» لعدم النصاب في أول الوهلة فيرد شهادتهم ثم لا تصير شهادتهم مقبولة بعد كونها مردودة و لو جاءوا متفرقين فاجتمعوا و شهدوا معا قبلت شهادتهم عند احمد و عند مالك و ابى حنيفة يشترط مجئى الشهود الاربعة مجتمعين و اداؤهم الشهادة معا-

(مسئلة) هل يشترط العدد في الإقرار فقال ابو حنيفة و احمد و اكثر العلماء انه لا يثبت الزنى بالإقرار الا إذا أقر العاقل البالغ على نفسه بذلك اربع مرات و اختلفوا في اشتراط كونها في اربعة مجالس فقال ابو حنيفة لا بد من اربعة مجالس لان المجلس جامع للمتفرقات و باب الزنى باب الاحتياط- و قال احمد و ابو ليلى يكتفى ان يقر أربعا في مجلس واحد لحديث رواه الشيخان في الصحيحين عن ابى هريرة قال اتى النبي صلى اللّه عليه و سلم رجل و هو في المسجد فناداه يا رسول اللّه انى زنيت فاعرض عنه النبي صلى اللّه عليه و سلم فتنحى لشق وجهه الّذي اعرض قبله فقال انى زنيت فاعرض عنه النبي صلى اللّه عليه و سلم فلما شهد اربع شهادات دعاه النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال ابك جنون قال لا فقال أحصنت قال نعم يا رسول اللّه فقال اذهبوا به فارجموه الحديث و احتج ابو حنيفه بما رواه مسلم عن بريدة ان ماعرا اتى النبي صلى اللّه عليه و سلم فرده ثم أتاه الثانية من الغد فرده ثم أرسل الى قومه هل تعلمون بعقله بأسا فقالوا ما نعلمه الا و في العقل من صالحينا فاتاه الثالثة فارسل إليهم ايضا فسألهم فاخبروه انه لا بأس به و لا بعقله فلمّا كان الرابعة حفر له حفيرة فرجم-

و اخرج احمد و إسحاق بن راهويه و ابن ابى شيبة في المصنف عن ابى بكر قال اتى ما عز بن مالك النبي صلى اللّه عليه و سلم فاعترف و انا

(١) و في الأصل هم قذفه إلخ و لا يستقيم و لعل الصحيح هو قذفه و الغلط من الناسخ و اللّه تعالى اعلم- الفقير الدهلوي- [.....].

عنده مرّة فرده ثم جاء فاعترف عنده الثانية فرده- ثم جاء فاعترف عنده الثالثة فرده- فقلت له ان اعترفت الرابعة رجمك قال فاعترف الرابعة فجلسه ثم سال عنه فقال لا نعلم الا خيرا فرجم- هذا الحديث ايضا صريح في تعدد المجي ء و هو يستلزم غيبته كل مرة و من هاهنا قالت الحنفية إذا تغيب ثم عاد فهو مجلس اخر- و روى ابن حبان في صحيحه من حديث ابى هريرة قال جاء ماعز بن مالك الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال انّ الأبعد زنى «١» فقال له ويلك و لا يدريك ما الزنى فامر به قطرد

و اخرج ثم أتاه الثانية فقال مثل ذلك فامر به فطرد

و اخرج ثم أتاه الثالثة فقال مثل ذلك فامر به فطرد

و اخرج ثم أتاه الرابعة فقال مثل ذلك فقال ادخلت و أخرجت فقال نعم فامر به ان يرجم- فهذه و غيرها مما يطول ذكره ظاهر في تعدد المجالس فوجب ان يحمل الحديث الاول عليها و ان قوله فتنحى تلقاء وجهه معدود مع قوله الاول إقرارا واحدا لانه في مجلس واحد و قوله حين بين ذلك اربع مرات اى في اربعة مجالس لانه لا ينافى ذلك و قال مالك و الشافعي و ابو ثور و الحسن و حماد بن ابى سليمان انه يثبت الزنى بإقراره مرة لقوله صلى اللّه عليه و سلم في حديث زيد بن خالد و ابى هريرة في قصة العسيف اغد يا أنيس الى امراة هذا فان اعترفت فارجمها فغدا عليها فاعترفت فرجمها قالوا و ليس في قصة الامرأة الغامدية الا ذكر الإقرار مرة-

قلنا قوله ان اعترفت فارجمها معناه ان اعترفت اعترافا مقبولا في حد الزنى- و انما اقتصر النبي صلى اللّه عليه و سلم على قوله ان اعترفت لعلمه بان الصحابة كانوا يعلمون لقصة ما عز و غيره ان الإقرار المعتبر في الزنى انما هو اربع اقرارات في اربعة مجالس- و قولهم ليس في قصة الغامدية الا ذكر الإقرار فممنوع بل

(١) و في مجمع البحار ص ١٠٣ ان الأبعد قد زنى اى المتباعد عن الخير و العصمة بعد بالكسر فهو باعد اى هلك و البعد الهلاك و الأبعد الخائن ايضا انتهى و الحاصل ان سيدنا ما عزا رضى اللّه عنه عنى بقوله ان الأبعد زنى نفسه اى انا الّذي تباعد عن الخير و العصمة إلخ- الفقير الدهلوي.

قد روى ابو داود و النسائي انه كان اصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم تتحدث ان الغامدية و ما عز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما و انما رجمهما بعد الرابعة- فهذا نص في إقرارها أربعا غاية ما في الباب انه لم ينقل تفاصيلها و اللّه اعلم- و قد روى البزار في مسنده عن زكريا بن سليم ثنا شيخ من قريش عن عبد الرحمن بن ابى بكرة عن أبيه فذكره و فيه انها أقرت اربع مرات و هو يردها ثم قال لها اذهبي حتى تلدى غير ان فيه مجهولا ينجبر جهالته بما يشهد له من حديث ابى داود و النسائي.

(مسئلة) يستحب للامام ان يلقنه الرجوع عن الإقرار كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لما عز لعلك قبّلت او لمست-

(مسئلة) لو أقر أربعا بالزنى ثم رجع قبل ان يحد او في اثنائه يقبل رجوعه و سقط عنه الحد عند الائمة الثلاثة و عن مالك فيه روايتان- لنا ان الرجوع خبر يحتمل الصدق كالاقرار و ليس أحد يكذبه فيه فيتحقق الشبهة في الإقرار و الحدود تندرئ بالشبهات- بخلاف ما فيه حق العبد و هو القصاص و حد القذف لوجود من يكذّبه- و يؤيده قصة ماعز روى ابو داود عن يزيد بن نعيم قصته فذكر انه لما رجم فوجد مس الحجارة فجزع فخرج يشتد فلقيه عبد اللّه بن أنيس و قد عجز أصحابه فنزع له بوظيف بعير فرماه به فقتله- ثم اتى النبي صلى اللّه عليه و سلم فذكر ذلك له فقال هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب اللّه عنه- و روى الترمذي و ابن ماجة في حديث ابى هريرة نحوه- (فصل- مسئلة) إذا زنى المريض و حدّه الرجم رجم لان الاتلاف مستحق فلا يمتنع بسبب المرض- و ان كان حدّه الجلد لا يجلد حتى يبرا كيلا يفيض الى الهلاك- و ان كان مرضا لا يرجى البرء منه كالسل او كان خديجا اى ضعيف الخلقة فعند ابى حنيفة و الشافعي يضرب بعتكال فيه مائة شمراخ فيضرب به دفعة و لا بد من وصول كل شهر أخ الى بدنه كما روى البغوي في شرح السنة و ابن ماجة نحوه عن ابى امامة بن سهل بن حنيف عن سعيد بن سعد بن عبادة قال كان بين امائنا رجل مخدج ضعيف فلم يرع الا و هو على امة من إماء الدار يحنث بها فرفع شأنه سعد بن عبادة الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال اجلدوه مائة سوط- قال يا نبى اللّه هو أضعف من ذلك لو ضربنا مائة سوط لمات قال فخذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه واحدة و خلوا سبيله- و رواه ابو داود عن ابى امامة بن سهل عن رجل من الأنصار و رواه النسائي عن ابى امامة بن سهل عن أبيه و رواه الطبراني عن ابى امامة بن سهل .............. عن ابى سعيد الخدري قال الحافظ ان كان الطرق كلها محفوظة فيكون ابو امامة قد حمله عن جماعة من الصحابة و رواه البيهقي عن ابى امامة مرسلا-

(مسئلة) ان زنت الحامل لا تحدّ حتى تضع حملها كيلا يؤدى الى هلاك الجنين و هو نفس محترمة- و ان كان حدّها الجلد لا تجلد حتى تطهر من النفاس عن علىّ رضى اللّه عنه قال يا ايها الناس اقيموا على ارقائكم الحد من أحصن منهم و من لم يحصن فان امة لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم زنت فامرنى ان اجلدها فاذا هى حديث عهد بنفاس ... فخشيت ان انا جلدتها ان اقتلها فذكرت ذلك للنبى صلى اللّه عليه و سلم فقال أحسنت رواه مسلم و في رواية ابى داود قال دعها حتى ينقطع دمها ثم أقم عليها الحد و اقيموا الحدود على ما ملكت ايمانكم و ان كان حد النفساء الرجم رجمت لانفصال الولد عنها و استحقاقها الهلاك و عن ابى حنيفة انه يؤخر حتى يستغنى عنها ولدها إذا لم يكن أحد يقوم يتريبته لصيانة الولد من الضياع- روى مسلم عن بريدة في قصة الغامدية ان النبي صلى اللّه عليه و سلم أخرجها حتى تضع فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت فقال قد وضعت الغامدية قال إذا لا ترجمها و تدع ولدها صغيرا ليس له من ترضعه فقام رجل من الأنصار فقال الىّ رضاعها يا نبى اللّه قال فرجمها و في رواية انه قال لها اذهبي حتى تلدى فلما ولدت قال اذهبي فارضعيه حتى تفطيه فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز فقالت هذا يا نبى اللّه قد فطمته و أكل الطعام فدفع الصبى الى رجل من المسلمين فحفر لها الى صدرها و امر الناس فرجموها

(مسئلة) قوله تعالى فاجلدوا خطاب للائمة فلا يجوز عند ابى حنيفة اقامة الحدود للمولى الا ان يأذن له الامام و قال مالك و الشافعي و احمد يقيم المولى بلا اذن الامام و في رواية عن مالك انه يقيم المولى الا في الامة المزوجة و استثنى الشافعي من المولى ذميّا و مكاتبا و امراة- و هل يجرى ذلك على العموم حتى لو كان قتلا بسبب الردة او قطع الطريق او قطعا للسرقة ففيه خلاف عند الشافعي قال النووي الأصح المنصوص انه يعم لاطلاق الخبر- و في التهذيب الأصح ان القتل و القطع الى الامام- لهم ما في الصحيحين من حديث ابى هريرة قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن الامة إذا زنت و لم تحصن قال ان زنت فاجلدوها ثم ان زنت فاجلدوها ثم ان زنت فاجلدوها ثم ان زنت فبيعوها و لو بضفير- و قال النبي صلى اللّه عليه و سلم اقيموا الحدود على ما ملكت ايمانكم- رواه النسائي و البيهقي من حديث علىّ و أصله في مسلم موقوفا على علىّ و غفل الحاكم فاستدرله- و روى الشافعي ان فاطمة رضى اللّه عنها جلدت امة لها زنت- و روى ابن وهب عن ابن جريج عن عمرو بن دينار ان فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كانت تجلد وليتها خمسين إذا زنت- و روى الشافعي عن مالك عن نافع ان عبد العبد اللّه بن عمر سرق فارسل به عبد اللّه الى سعيد بن العاص و هو امير المدينة ليقطع يده فابى سعيد ان يقطع يده و قال لا يقطع يد العبد إذا سرق فقال له ابن عمر في اىّ كتاب وجدت هذا فامر به ابن عمر فقطعت يده و رواه عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن أيوب عن نافع ان ابن عمر قطع يد غلام له سرق و جلد عبد اللّه زنى من غير ان يدفعهما الى الوالي- و رواه ابن ماجة و فيه قصة لعائشة و رواه سعيد بن منصور عن هشيم عن ابن ابى ليلى عن نافع نحوه و روى مالك في الموطإ و الشافعي عنه قال خرجت عائشة الى مكة و معها غلام لبنى عبد اللّه بن ابى بكر الصديق فذكر قصة فيها انه سرق و اعترف فامرت به عائشة فقطعت يده و روى مالك في الموطإ ان حفصة قتلت امة لها سحرت و رواه عبد الرزاق و زاد فانكر ذلك عثمان بن عفان فقال ابن عمر ما تنكر على أم المؤمنين امراة سحرت فاعترفت- و لابى حنيفة ما رواه اصحاب السنن في كتبهم عن ابن مسعود و ابن عباس و ابن الزبير موقوفا و مرفوعا اربع الى الولاة الحدود و الصدقات و الجمعات و الفي ء- وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ اى رحمة قرا ابن كثير رافة بفتح الهمزة و لم يختلفوا في سورة الحديد انها ساكنة لمجاورة و رحمة فِي دِينِ اللّه اى في طاعته يعنى لا تعطلوا الحدود بان لا تقيموها رحمة على الناس كذا قال مجاهد و عكرمة و عطاء و سعيد بن جبير و النخعي و الشعبي روى الشيخان في الصحيحين- عن عائشة ان قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية الّتي سرقت فقالوا من يكلم فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالوا و من يجترئى عليه الا اسامة بن زيد حب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فكلمه اسامة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أتشفع في حد من حدود اللّه ثم قام فاختطب ثم قال انما أهلك الذين قبلكم انهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه و إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد و ايم اللّه لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها- و قال جماعة معناها لا تأخذكم بهما رأفة فتخففوا الضرب و لكن اوجعوهما ضربا و هذا قول سعيد بن المسيب و الحسن قال ابو حنيفة يجتهد في حد الزنى ثم في حد الشرب و يخفف في حد القذف لان سببه محتمل لاحتمال كونه صادقا بخلاف حد الشرب فان سببه متيقن و جناية الزنى أعظم منه- و قال قتادة يخفف في حد الشرب و الفرية و يجتهد فى الزنى- و قال الزهري يجتهد في حد الزنى و القذف لثبوتهما بكتاب اللّه و يخفف في حد الشرب لثبوتها بالسنة-

قال البغوي روى ان عبد اللّه بن عمر جلد جارية له زنت فقال للجلاد اضرب ظهرها و رجليها فقال له ابنه لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّه فقال يا بنى ان اللّه لم يأمرنى بقتلها و قد ضربت و أوجعت إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّه وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ شرط مستغن عن الجزاء بما مضى يعنى ان كنتم تؤمنون باللّه فسادعوا الى امتثال امره و اجتهدوا في اقامة حدوده فان الايمان يقتضى ذلك وَ لْيَشْهَدْ اى ليحضر عَذابَهُما اى حدهما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) زيادة في التنكيل فان التفضيح قد ينكل اكثر ما ينكل التعذيب و الطائفة فرقة يمكن ان يكون حافة حول من الطوف و أقلها قيل اربعة للجوانب الأربع- و قيل ثلاثة لانها ادنى فهو جمع طائف- و قيل جاز إطلاقها على واحد او اثنين قال اللّه تعالى وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا- قال في القاموس الطائفة من الشي ء القطعة منه او الواحد فصاعدا او الى الالف او أقلها رجلان او رجل فيكون بمعنى النفس-

قلت فيصح ان يكون جمعا يكنى به عن الواحد و يصح ان يجعل كزاوية او علامة- قال النخعي و مجاهد اقله رجل فما فوقه و هو المروي عن ابن عباس و به قال احمد و قال عطاء و عكرمة و إسحاق رجلان فصاعدا و قال الزهري و قتادة ثلثة فصاعدا و قال مالك و ابن زيد اربعة بعدد الشهداء في الزنى و قال الحسن البصري عشرة فصاعدا-

قلت و هذا القول اولى بالصواب إذ المقصود بالآية التشهير.

٣

الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ اخرج ابو داود و الترمذي و النسائي و الحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كان رجل يقال له مرثد يحمل الأسارى من مكة حتى يأتى بهم المدينة و كانت امراة بمكة صديقة له يقال لها عناق فاستأذن النبي صلى اللّه عليه و سلم ان ينكحها فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت هذه الاية- فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يا مرثد الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فلا تنكحها-

و اخرج النسائي عن عبد اللّه بن عمرو قال كانت امراة يقال لها أم مهزول و كانت تسافح فاراد رجل من اصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم ان يتزوجها فنزلت-

و اخرج سعيد بن منصور عن مجاهد قال لمّا حرم اللّه الزنى فكان زوانى عندهن جمال فقال الناس لننطلقنّ فلنتزوجهنّ فنزلت- و

قال البغوي قال قوم قدم المهاجرون المدينة و منهم فقراء لا مال لهم و لا عشائر و في المدينة نساء بغايا يكرين انفسهن و هن يومئذ اخصب اهل المدينة فرغب ناس من فقراء المهاجرين في نكاحهن لينفقن عليهم فاستأذنوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فنزلت هذه الاية وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ان يتزوجوا تلك البغايا لانهن كن مشركات- و هذا قول عطاء بن ابى «١» رباح و مجاهد و قتادة و الزهري و الشعبي و في رواية العوفى عن ابن عباس قلت اخرج ابن ابى شيبة في مصنفه من مراسيل سعيد بن جبير- و

قال البغوي قال عكرمة نزلت في نساء بمكة و المدينة منهن تسع لهن رأيات كرأيات البيطا يعرفن بها منهن أم مهزول جارية السائب بن ابى السائب المخزومي و كان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية يتخذها مأكلة فاراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة فاستأذن رجل من المسلمين نبى اللّه صلى اللّه عليه و سلم في نكاح أم مهزول اشترطت له ان تنفق عليه فانزل اللّه تعالى هذه الاية- و لهذه الاية و الأحاديث المذكورة احتج احمد على انه لا يجوز نكاح الزاني و لا الزانية حتى يتوبا فاذا تأبا فلا يسميان زانيين- و عند الائمة الثلاثة نكاح الزاني و الزانية صحيح ففى لفسير هذه الاية قال بعضهم معناه الاخبار كما هو ظاهر الصيغة- و المعنى ان الزاني لاجل فسقه لا يرغب غالبا في نكاح الصالحات و الزانية

(١) و في الأصل عطاء بن رباح إلخ ابو محمد عفا عنه.

لا يرغب فيها الصلحاء فان المشاكلة علة الالفة و التضام و المخالفة سبب للنفرة و الافتراق- و كان حق المقابلة ان يقال و الزانية لا تنكح الا من زان او مشرك لكن المراد بيان احوال الرجال في الرغبة فيهن لما ذكرنا انها نزلت في استيئذان الرجال من المؤمنين- و على هذا التأويل المراد بالتحريم في قوله تعالى وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣) التنزيه عند اكثر العلماء عبّر عنه بالتحريم مبالغة يعنى ان المؤمنين لا يفعلون ذلك و يتنزهون عنه تحاميا عن التشبه بالفساق و سوء المقابلة و المعاشرة و الطعن في النسب و غير ذلك من المفاسد و قال مالك يكره كراهة تحريم- و

قال البغوي قال قوم المراد بالنكاح الجماع و معنى الاية الزاني لا يزنى الا بزانية او مشركة و الزانية لا تزنى الا بزان او مشرك و هو قول سعيد بن جبير و الضحاك بن مزاحم و رواية الوالبي عن ابن عباس و قال زيد بن هارون يعنى الزاني ان كان مستحلا فهو مشرك و ان جامعها و هو محرم فهو زان و على هذا ايضا مبنى الكلام على الاخبار- و قال جماعة النفي هاهنا بمعنى النهى و قد قرئ به و الحرمة على ظاهرها لكن التحريم كان خاصّا في حق أولئك الرجال من المهاجرين الذين أرادوا نكاح الزانيات دون سائر الناس- و هذا القول بعيد جدّا لان الممنوع في الاية ابتداء الزاني عن نكاح الصالحات غير الزانيات و كان حق الكلام حينئذ المؤمن لا ينكح الا مؤمنة صالحة و ايضا عموم قوله تعالى وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ينافى تخصيص الحكم برجال مخصوصين- و كان ابن مسعود يحرم نكاح الزانية و يقول إذا تزوج الزاني بالزانية فهما زانيان ابدا- و قال الحسن الزاني المجلود لا ينكح الا زانية مجلودة و الزانية المجلودة لا ينكحها الا زان مجلود- و روى ابو داود بسنده عن عمرو بن شعيب عن ابى سعيد المقبري عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا ينكح الزاني المجلود الا مثله مبنى هذين القولين ان التحريم عام و الاية غير منسوخة و قال سعيد بن المسيب و جماعة ان حكم الاية منسوخ و كان نكاح الزانية حراما بهذه الاية فنسخها قوله تعالى وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ فدخلت الزانية في أيامي المسلمين- و يدل على جواز نكاح الزانية ما روى البغوي عن جابر ان رجلا اتى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال يا رسول اللّه ان امراتى لا تدفع يد لامس قال طلقها قال اتى أحبها و هى جميلة قال استمتع بها و في رواية فامسكها إذا- كذا روى الطبراني و البيهقي عن عبيد اللّه بن عمر عن عبد الكريم بن مالك عن ابى الزبير عن جابر و قال ابن ابى جابر سالت ابى عن هذا الحديث فقال حدثنا محمد بن كثير عن معتمر عن عبد الكريم حدثنى ابو الزبير عن مولى لبنى هاشم فقال جاء رجل فذكره و رواه الثوري فسمى الرجل هشاما مولى لبنى هشام و رواه ابو داود و النسائي من طريق عبد اللّه بن عبيد اللّه بن عمير عن ابن عباس و قال النسائي رفعه أحد الرواة الى ابن عباس واحدهم لم يرفعه قال و هذا الحديث اى الموصول ليس بثابت و المرسل اولى بالصواب و رواه الشافعي مرسلا و رواه النسائي و ابو داود من رواية عكرمة عن ابن عباس نحوه قال الحافظ اسناده أصح و اطلق النووي عليه الصحة و أورد ابن الجوزي الحديث في الموضوعات مع انه أورده بإسناد صحيح و ذكر عن احمد بن حنبل انه لا يثبت في الباب شي ء و ليس له اصل- فائدة قال الحافظ اختلف العلماء في معنى قوله لا تدفع يد لامس فقيل معناه لا تمنع ممن يطلب منها الفاحشة و بهذا قال ابو عبيدة و النسائي و ابن الاعرابى و الخطابي و الفريابي و النووي و هو مقتضى استدلال البغوي و الرافعي و غيرهما في هذه المسألة- و قيل معناه التبذير يعنى لا تمنع أحدا طلب منها شيئا من مال زوجها و بهذا قال احمد و الأصمعي و محمد بن نصر و على هذا التأويل لا استدلال بالحديث في هذه المسألة-

قال البغوي و روى ان عمر بن الخطاب ضرب رجلا و امراة في زنى و حرص ان يجمع بينهما فابى الغلام-

و اخرج الطبراني و الدار قطنى من حديث عائشة قالت سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن رجل زنى بامراة و أراد ان يتزوجها فقال الحرام لا يحرم الحلال- و في مصنفى عبد الرزاق و ابن ابى شيبة سئل ابن عباس عن الرجل يصيب من المرأة حراما ثم يبدوله ان يتزوج بها قال اوله سفاح و آخره نكاح.

٤

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ اى يقذفون بصريح الزنى بنحو زنيت او يا زانى اجمع على هذا التقييد علماء التفسير و الفقه بقرينة اشتراط الاربعة في الشهادة فمن قذف بغير الزنى من المعاصي لا يجب عليه حد القذف اجماعا و لكن يعزره الحاكم على ما يرى و كذا لورمى بالزنى تعريضا كما إذا قال لست انا بزان فانه لا يحد و به قال ابو حنيفة و الشافعي و احمد و سفيان و ابن سيرين و الحسن بن صالح و قال مالك و هو رواية عن احمد انه يحد بالتعريض لما روى الزهري عن سالم عن ابن عمران عمر كان يضرب الحد بالتعريض- و عن علىّ انه جمد رجلا بالتعريض و لانه إذا عرف مراده كان كالتصريح-

قلنا التعريض ليس كالتصريح و لذا جاز خطبة النساء في العدة تعريضا و لا يجوز تصريحا قال اللّه تعالى وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ المحصنات او المحصنين بدلالة هذا النص للقطع بالفاء الفارق و هو صفة الأنوثة و استقلال دفع عارما نسب اليه بالتأثير بحيث لا يتوقف فهمه على اهلية الاجتهاد و عليه انعقد اجماع الامة- و تخصيص المحصنات بالذكر لخصوص الواقعة او لان قذف النساء اغلب و اشنع- و المراد بالاحصان هاهنا بإجماع العلماء ان يكون حرّا عاقلا بالغا مسلما عفيفا غير متهم بالزنى و هذا محمل قوله صلى اللّه عليه و سلم من أشرك باللّه فليس بمحصن عند الجمهور كما ذكرنا فيما سبق- فمن زنى في عمره مرة ثم تاب و حسن حاله و امتد عمره فقذفه قاذف بالزنى لا يحد لكون القاذف صادقا فيما رمى به لكنه يعزر لان التائب من الذنب كمن لا ذنب له و كذا لا يحد قاذف رقيق او صبى او مجنون و حكى عن داود ان قاذف الرقيق يحد ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ بعد انكار المقذوف فلو أقر المقذوف على نفسه بالزنى او اقام القاذف اربعة من الشهود على الزنى سقط الحد عن القاذف- و لو شهد اربعة على الزنى متفرقين غير مجتمعين لا يجب حد الزنى على المقذوف عند ابى حنيفة كما ذكرنا فيما سبق لكن يسقط حد القذف عن القاذف لوجود النصاب و الاجتماع انما شرط احتياطا لدرء حد الزنى لا لايجاب حد القذف و كذا لو أقر المقذوف مرة لا يجب عليه الحد و لا على قاذفه- و المراد بالشهداء في هذه الاية الذين كانوا أهلا للشهادة فلو شهد اربعة على رجل بالزنى و هم عميان او محدودون في قذف او أحدهم عبد او محدود في قذف فانهم يحدون و لا يحد المشهود عليه لانهم ليسوا من اهل أداء الشهادة فوجودهم كعدمهم و العبد ليس باهل للتحمل و الأداء لعدم الولاية فلم يثبت شبهة الزنى لان الزنى يثبت بالأداء- و لو شهدوا و هم فساق لم يحدوا و لا يحد المقذوف لانهم من اهل الأداء و التحمل لكن في ادائهم نوع قصور لاجل الفسق فيثبت بشهادتهم شبهة الزنى فلا يحدّوا حدّ القذف و لا المقذوف حد الزنى و عند الشافعي يحدّ الفسقة حد القذف لانهم كالعبيد ليسوا من اهل الشهادة و من هذه الاية يثبت انه لو نقص عدد الشهود عن الاربعة حدوا لانهم قذفوه لانه لا حسبة عند نقصان العدد و خروج الشهادة عن القذف انما هو باعتبار الحسبة- روى الحاكم في المستدرك و البيهقي و ابو نعيم في المعرفة و ابو موسى في الدلائل من طرق انه شهد عند عمر على المغيرة بن شعبة بالزنى أبو بكرة و نافع و شبل بن معبد (و لم يصرح به زياد و كان رابعهم فجلد عمر الثلاثة و كان بمحضر من الصحابة و لم ينكر عليه أحد- و علق البخاري طرفا منه و رواه عبد الرزاق عن الثوري عن سليمان التيمي عن ابى النهدي نحوه و فيه لما نكل زياد قال عمر هذا رجل لا يشهد الا بحق ثم جلدهم الحدّ

فَاجْلِدُوهُمْ بعد مطالبة المقذوف اجماعا لان فيه حق العبد و ان كان مغلوبا ثَمانِينَ جَلْدَةً ان كان القذفة أحرارا و اما ان كانوا ارقاء جلد كل واحد منهم أربعين سوطا بإجماع الفقهاء و سند الإجماع القياس على حد الزنى الثابت تنصيفه بقوله تعالى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ- روى البيهقي بسنده عن عبد اللّه بن عامر بن ربيعة انه قال أدركت أبا بكر و عمر و عثمان و من بعدهم من الخلفاء فلم أرهم يضربون المملوك إذا قذف الا أربعين سوطا و روى مالك بهذا في الموطإ الا انه ليس فيه ذكر ابى بكر- و قال الأوزاعي حدّ العبد مثل حدّ الحرّ وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً عطف على الأمر بالجلد جزاء لما تضمن المبتدا معنى الشرط فهو من تتمة الحد عندنا لانهما اخرجا بلفظ الطلب مفوضين الى الائمة بخلاف قوله تعالى وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) فانه كلام مستانف جملة اسمية أخرجت بطريق الاخبار لا مناسبة لها بالطلب بل هى دفع توهم استبعاد صيرورة القذف سببا لوجوب الحدّ الّذي يندرئ بالشبهات فان القذف خبر يحتمل الصدق و الكذب و ربما يحتمل ان يكون حسبة- وجه الدفع بيان انهم فاسقون عاصون بهتك ستر العفة من غير فائدة حين عجزوا عن اقامة اربعة شهداء فلهذا استحقوا العقوبة- و قال الشافعي رحمه اللّه جملة لا تقبلوا كلام مستأنف غير داخل في الحدّ لانه لا يناسب الحد لان الحدّ فعل يلزم الامام إقامته لا حرمة فعل و قوله تعالى وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ في مقام التعليل لرد الشهادة-

قلنا بل هو مناسب للحدّ فان الحدّ للزجر و الزجر في رد الشهادة ابدا اكثر من الضرب و يدل على ذلك قوله ابدا فان الفسق لا يصلح سببا لرد الشهادة ابدا بل لرد الشهادة مادام فاسقا- لا يقال قوله لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً المراد منه ما دام هو مصر على القذف فاذا تاب قبل شهادته كما يقال لا تقبل شهادة الكافر ابدا و يراد به مادام كافرا- لانا نقول عدم قبول الشهادة للكافر ما دام كافرا يفهم من قوله لا تقبل شهادة الكافر و لا حاجة فيه الى قوله ابدا الا ترى ان اضافة الحكم الى المشتق يدل على علية المأخذ و علية الكفر لعدم قبول الشهادة يقتضى دوامه ما دام الكفر- فقوله ابدا في هذا المثال لغو لا يحتمل ان يكون كلام اللّه تعالى نظيرا له.

٥

إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ اى من بعد القذف وَ أَصْلَحُوا أحوالهم و أعمالهم بالتدارك فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) قال ابو حنيفة رحمه اللّه هذا الاستثناء راجع الى الجملة الاخيرة و محله النصب لما تقرر في الأصول من مذهبه ان الاستثناء إذا تعقب جملا معطوفة بعضها على بعض يرجع الى الاخيرة مالم يكن هناك قرينة صارفة عنها الى الكل لكونها قريبة من الاستثناء متصلة به و لان الجملة الاخيرة هاهنا منقطعة عما سبقها من الجمل نظرا الى حكمه لاختلاف نسقها و ان اتصلت بما سبق باعتبار ضمير او اسم اشارة- و لان الجملة الاخيرة بسبب انقطاعها عما سبق حائل بين المستثنى و بين ما سبق من الجملتين الأوليين فلا يستحقق الاتصال الّذي هو شرط الاستثناء- و لان الاستثناء يعود الى ما قبله لضرورة عدم استقلاله و قد اندفعت الضرورة بالعود الى جملة واحدة و قد عاد الى الاخيرة بالاتفاق فلا ضرورة في العود الى ما قبلها و لانه لما ورد الاستثناء في الكلام لزم توقف صدر الكلام عليه ضرورة انه لا بد له من مغير و الضرورة تندفع بتوقف جملة واحدة فلا يتجاوز الى الأكثر- لا يقال ان الواو للعطف و التشريك فيفيد اشتراك الجمل في الاستثناء لانا نقول العطف لا يفيد شركة الجملة التامة في الحكم مع ان وضع العاطف للتشريك في الاعراب و الحكم فلان لا يفيد التشريك ف ي الاستثناء و هو يغير الكلام و ليس بحكم له اولى و لان التوبة تصلح منهيا للفسق و لا تصلح منهيّا للحدود فان الحدود لا تندفع بالتوبة و اللّه اعلم و قال الشعبي ان الاستثناء يرجع الى الكل و محله النصب فيسقط عنده حدّ القذف بالتوبة- و جمهور العلماء على انه لا يسقط بالتوبة- و قال مالك و الشافعي الاستثناء راجع الى الجملتين الأخريين دون الاولى و محله الجر- و مبنى لهذين القولين ما ذكر في الأصول من مذهب الشافعي و غيره ان الاستثناء عند عدم القرينة يرجع الى الجمل المتعاطفة كلها- غير ان الشافعي يقول ان جملة لا تقبلوا منقطع عما سبق غير داخلة في الحد فلا يرجع الاستثناء الى الجملة الاولى لاجل الانقطاع و يرجع الى الأخريين- و

قال البيضاوي ما حاصله ان الاستثناء راجع الى الكل و لا يلزم منه سقوط الحد بالتوبة كما قيل لان من تمام التوبة الاستسلام للحد او الاستحلال من المقذوف-

قلت التوبة هو الندم و الاستغفار فلو فرض سقوط الحد به لا يجب عليه الاستسلام فبناء على هذا قال الشافعي ان القاذف نزد شهادته بنفس القذف و ان لم يطالب المقذوف حدّه لاجل فسقه- و إذا تاب و ندم على ما قال و حسنت حاله قبلت شهادته سواء تاب بعد اقامة الحدّ عليه او قبله و بعد التوبة يقبل شهادته و يزول عنه اسم الفسق-

قال البغوي يروى ذلك عن عمرو ابن عباس و هو قول سعيد بن جبير و مجاهد و عطاء و طاؤس و سعيد بن المسيب و سليمان بن يسار و الشعبي و عكرمة و عمر بن عبد العزيز و الزهري

قال البغوي قال الشافعي و هو يعنى القاذف قبل ان يحد شر منه حين يحد لان الحدود كفارات فكيف ترد شهادته في احسن حاليه و تقبل في شر حاليه-

قلنا نحن ايضا نقول ان القاذف ترد شهادته بنفس القذف لاجل فسقه فان لم يطالب المقذوف الحدّ لا يحدّ و لا يقبل شهادته مالم يتب- روى عن عمر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم الّا الّذين تابوا و أصلحوا قال توبتهم إكذابهم أنفسهم فان كذبوا أنفسهم قبلت شهادتهم و لهذا الحديث ان صح كان حجة للشافعى الكن قلت أحاديث الآحاد لا تصلح معارضا لنص الكتاب اى لا تقبلوا لهم شهادة ابدا فان تاب قبلت شهادته لزوال فسقه و ان طالب المقذوف يحد فيجلد ثمانين سوطا و لا يقبل شهادته ابدا سواء تاب ا و لم يتب لان رد الشهادة حينئذ لحق العبد و حق العبد لا يسقط بالتوبة فلا يلزمنا ما قال الشافعي انه ترد شهادته في احسن حاليه و تقبل في شر حاليه- فائدة لا خلاف في ان حد القذف اجتمع فيه الحقان حق اللّه تعالى و حق العبد فانه شرع لدفع العار عن المقذوف و هو الّذي ينتفع به على الخصوص فمن هذا الوجه هو حق العبد ثم انه شرع زاجرا و لذا سمى حدا و المقصود من شرع الزواجر اخلاء العالم عن الفساد و هذا اية حق اللّه تعالى فمن أجل كونه حقّا للعبد يشترط فيه مطالبة المقذوف و لا يبطل الشهادة بالتقادم و يجب على المستأمن- و يقيمه القاضي بعلمه إذا علمه في ايام قضائه لا إذا علم قبل ولايته حتى يشهد به عنده- و يقدم استيفاؤه على حد الزنى و السرقة إذا اجتمعا و لا يصح الرجوع عنه بعد الإقرار به- و من أجل كونه حقا للّه تعالى لا يجوز للمقذوف استيفاؤها بنفسه بل الاستيفاء للامام و يندرئ بالشبهات و لا ينقلب مالا عند سقوطه و لا يستخلف عليه القاذف و ينتصف بالرق كسائر العقوبات الواجبة حقا للّه تعالى- بخلاف حق العبد فانه يتقدر بقدر التالف و لا يختلف باختلاف المتلف و لهذه الفروع كلها متفقة عليها- و اختلفوا في تغليب أحد الحقين على الاخر فمال الشافعي الى تغليب حق العبد باعتبار حاجته و غنى اللّه تعالى- و مال ابو حنيفة الى تغليب حق اللّه تعالى لان ما للعبد يتولاه مولاه فيصير حق العبد مرعيّا به و لا كذلك عكسه إذ لا ولاية للعبد في استيفاء حقوق اللّه تعالى إلا بنيابته- و يتفرع على هذا الاختلاف فروع اخر مختلف فيها- منها الإرث فعند الشافعي حدّ القذف يورث و عند ابى حنيفة لا يورث إذ الإرث لا يجرى في حقوق اللّه و يجرى في حقوق العباد بشرط كونه مالا او ما يتصل بالمال كالكفالة او ما ينقلب الى المال كالقصاص و الحد ليس شيئا منها فيبطل بموت المقذوف- إذ لم يثبت بدليل شرعى استخلاف الشرع وارثا جعل له حق المطالبة الّتي جعل شرطا لظهور حقه- فمن قذف أحدا فمات المقذوف قبل اقامة الحد او بعد ما أقيم بعضه بطل الباقي عندنا خلافا للشافعى- و منها العفو فلو عفا المقذوف بعد ثبوت الحد لا يسقط عندنا و عند الشافعي و هو رواية عن ابى يوسف يسقط- لكن لو قال المقذوف لم يقذفنى و كذب شهودى فحينئذ يسقط اتفاقا لما ظهر ان القذف لم يوجد فلم يجب الحد لا انه وجب فسقط بخلاف القصاص فانه يسقط بالعفو بعد وجوبه لان الغالب فيه حق العبد- و منها انه لا يجوز الاعتياض عن حد القذف عند ابى حنيفة و به قال مالك و عند الشافعي و احمد يجوز- و منها انه يجرى فيه التداخل عند ابى حنيفة رحمه اللّه و به قال مالك حتى لو قذف شخصا واحدا امرأة او قذف جماعة كان فيه حدّا واحدا إذا لم يتخلل الحد بين القذفين- و لو ادعى بعضهم فحد ففى أثناء الحد ادعى اخر كمل ذلك الحد و عند الشافعي لا يجرى فيه التداخل-

قلت لمّا ثبت ان حد القذف اجتمع فيه حق اللّه و حق العبد كما يشهد به المسائل المتفقة عليها و ثبت ايضا ان الحدود تندرئى بالشبهات- فالاولى ان يقال انه إذا اقتضى أحد الحقين وجوب الحد و الآخر سقوطه فلا بد ان يفتى بالسقوط فانه ان يخطئى في العفو خير من ان يخطئى في العقوبة- فلا يقال بجريان الإرث فيه كما قال ابو حنيفة و يقال بسقوطه بعفو المقذوف لسقوط المطالبة الّتي هى شرط لاستيفائه كما قال الشافعي و يجرى فيه التداخل كما قال ابو حنيفة- و لو صالحا على الاعتياض يعنى بسقوط الحد فحصول الرضاء من المقذوف و لا يجب المال على القاذف لاحتمال كونه حقا للّه تعالى و اللّه اعلم- روى البخاري في الصحيح عن ابن عباس ان هلال بن امية قذف امرأته ....

عند النبي صلى اللّه عليه و سلم بشريك بن سمحا فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم البينة أو حد في ظهرك فقال يا رسول اللّه إذا وجد أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة فجعل النبي صلى اللّه عليه و سلم يقول البينة و الأحد في ظهرك فقال هلال و الّذي بعثك بالحق انى لصادق فلينزلن اللّه ما يبرئى ظهرى من الحد فنزل جبرئيل و انزل اللّه عليه.

٦

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الاية فقرأ حتى بلغ إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فجاء هلال فشهد يعنى لا عن و النبي صلى اللّه عليه و سلم يقول ان اللّه يعلم ان أحدكما كاذب فهل منكما تائب ثم قامت فشهدت يعنى لاعنت فلمّا كانت عند الخامسة وقفوها و قالوا انها موجبة قال ابن عباس فتلكات «١» و نكصت حتى ظننا انها ترجع ثم قالت لا افضح قومى سائر اليوم فمضت- و قال النبي صلى اللّه عليه و سلم ابصروها فان جاءت به اكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سمحا فجاءت به كذلك فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم لو لا ما مضى من كتاب اللّه لكان لى و لها شأن- و في الصحيحين عن سهل بن سعد الساعدي قال ان عويمر العجلاني قال يا رسول اللّه ارايت رجلا وجد مع امرأته رجلا أ يقتله فيقتلونه أم كيف يفعل قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قد انزل فيك و في صاحبتك فاذهب فأت بها قال سهل فتلاعنا في المسجد و انا مع الناس عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فلما فرغا قال عويمر كذبت عليها يا رسول اللّه ان أمسكتها فطلقها ثلاثا- ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انظروا فان جاءت به اسحم «٢» أدعج العينين عظيم الأليتين خدلج الساقين فلا احسب عويمرا إلا قد صدق عليها و ان جاءت به احمر كانه و حرة فلا احسب عويمرا إلا قد كذب عليها فجاءت به على النعت الّذي نعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من تصديق عويمر فكان بعد ينسب الى امه

(١) فتلكأت اى توقفت و تبطأت ان يقولها و نكصت النكوص هو الرجوع الى وراء و سابغ الأليتين اى تامهما و عظيمهما من سبوغ النعمة و الثوب و خدلج الساقين اى عظيمهما من مجمع البحار- الفقير الدهلوي.

(٢) اسحم الأسحم الأسود و قوله أدعج العينين الدعجة السواد في العين و غيرها يريد ان سواد عينيه كان شديدا مجمع البخار- الفقير الدهلوي.

و اخرج احمد عن عكرمة عن ابن عباس انه لما نزلت وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً قال سعد بن عبادة و هو سيد الأنصار هكذا نزلت يا رسول اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يا معشر الأنصار الا تسمعون ما يقول سيدكم قالوا يا رسول اللّه لا تلمه فانه رجل غيور و اللّه ما تزوج امراة قط الا بكرا و لا طلق امراة له فاجتر ارجل منّا ان يتزوجها من شدة غيرته قال سعد يا رسول اللّه بابى أنت و أمي و اللّه انى لا عرف انها حق و انها من اللّه و لكنى تعجبت انى لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لى ان أهيجه و لا أحركه حتى اتى باربعة شهداء فو اللّه لا اتى بهم حتى يقضى حاجته- قال فما لبثوا الا يسيرا حتى جاء هلال بن امية رو هو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم فجاء من ارضه عشاء فوجد عند اهله رجلا فرأى بعينيه و سمع بأذنيه فلم يهيجه حتى أصبح فغدا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال يا رسول اللّه انى جئت أهلي عشاء فوجدت عندها رجلا فرايت بعيني و سمعت بأذني فكره رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما جاء به و اشتد عليه و اجتمعت الأنصار فقالوا قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة الان يضرب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هلال بن امية و يبطل شهادته في الناس فقال هلال و اللّه انى لارجو ان يجعل اللّه لى منهما مخرجا فو اللّه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يريد ان يأمر بضربه انزل اللّه عليه الوحى فامسكوا عنه حتى فرغ من الوحى فنزلت وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الآية-

و اخرج ابو يعلى مثله عن انس و ذكر البغوي هذا الحديث و قال في آخره ابشر يا هلال فان اللّه قد جعل لك فرجا قال قد كنت أرجو ذلك من اللّه- فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أرسلوا إليها فجاءت فلما اجتمعا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قيل لها فكذّبت فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه يعلم ان أحدكما كاذب فهل منكما تائب فقال هلال يا رسول اللّه بابى أنت و أمي قد صدقت و ما قلت الا حقا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا عنوا بينهما فقيل لهلال اشهد فشهد أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللّه إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ فقال له عند الخامسة يا هلال اتق اللّه فان عذاب الدنيا أهون من عذاب الاخرة و ان عذاب اللّه أشد من عذاب الناس و ان لهذه الخامسة هى الموجبة الّتي توجب عليك العذاب فقال هلال و اللّه لا يعذبنى اللّه عليها كما لا يجلدنى عليها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فشهد الخامسة أَنَّ لَعْنَتَ اللّه عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ- ثم قال للمرءة اشهدي فشهدت أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللّه إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ فقال لها عند الخامسة (و وقفها) اتقى اللّه فان الخامسة موجبة و ان عذاب اللّه أشد من عذاب الناس فتنكات ساعة و همت بالاعتراف ثم قالت و اللّه لا افضح قومى فشهدت الخامسة أَنَّ غَضَبَ اللّه عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ففرق رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بينهما و قضى ان الولد لها و لا يدعى لاب و لا يرمى ولدها- ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان جاءت به كذا و كذا فهو لزوجها و ان جاءت به كذا و كذا فهو للذى قيل منه فجاءت به غلاما كانه أجمل أورق على الشبه المكروه- و كان بعد أميرا بمصر لا يدرى من أبوه-

قال البغوي انه قال ابن عباس في سائر الروايات و مقاتل انه لما نزلت وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الاية قرأها النبي صلى اللّه عليه و سلم على المنبر فقام عاصم بن عدى الأنصاري فقال جعلنى اللّه فداك ان راى رجل منا مع امرأته رجلا فاخبر بما راى جلد ثمانين سوطا و سماه المسلمون فاسقا و لا يقبل شهادته ابدا فكيف لنا بالشهداء و نحن إذا التمسنا الشهداء كان الرجل فرغ من حاجته و مرّ- و كان لعاصم هذا ابن عم يقال له عويمر و له امراة يقال لها خولة بنت قيس بن محصن فاتى عويمر عاصما و قال لقد رايت شريك بن السمحا على بطن امراتى خولة- فاسترجع عاصم و اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في الجمعة الاخرى- فقال يا رسول اللّه ما ابتليت بالسؤال الّذي سالت فى الجمعة الماضية في اهل بيتي و كان عويمر و خولة و شريك كلهم بنى عم لعاصم فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بهم جميعا- و قال لعويمر اتق اللّه في زوجتك و ابنة عمك فلا تقذفها بالبهتان فقال يا رسول اللّه اقسم باللّه اننى رايت شريكا على بطنها و انى ما قربتها منذ اربعة أشهر و انها حبلى من غيرى- فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم للمرءة اتقى اللّه و لا تخبريني الا بما صنعت فقالت يا رسول اللّه ان عويمرا رجل غيور و انه رانى و شريكا نستطيل السهر و نتحدث فحملته الغيرة على ما قال فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لشريك ما تقول فقال ما تقوله المرأة- فانزل اللّه عزّ و جلّ وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الاية فامر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتى نودى الصلاة جامعة فصلى العصر ثم قال لعويمر قم فقام فقال اشهد باللّه ان خولة زانية و انى لمن الصادقين ثم قال في الثانية اشهد باللّه انى رايت شريكا على بطنها و انى لمن الصادقين ثم قال في الثالثة اشهد انها حبلى من غيرى و انى لمن الصادقين ثم قال في الرابعة اشهد باللّه ما قربتها منذ اربعة أشهر و انى لمن الصادقين ثم قال في الخامسة لعنة اللّه على عويمر (يعنى نفسه) ان كان من الكاذبين فيما قال- ثم امره بالقعود و قال لخولة قومى فقامت فقالت اشهد باللّه ما انا بزانية و ان عويمر المن الكاذبين ثم قالت في الثانية اشهد باللّه ما راى شريكا على بطني و انه لمن الكاذبين ثم قالت في الثالثة اشهد باللّه انا حبلى منه و انه لمن الكاذبين ثم قالت في الرابعة انه ما رانى قط على فاحشة و انه لمن الكاذبين ثم قالت في الخامسة غضب اللّه على خولة (تعنى نفسها) ان كان من الصادقين- ففرق رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بينهما و قال لو لا هذه الايمان لكان في أمرها رأى ثم قال تحينوا بها الولادة فان جاءت باصيهب «١» ابيلج يضرب الى السواد فهو لشريك بن السمحا و ان جاءت باورق جعدا جماليا «٢» فهو لغير الّذي رميت به- قال ابن عباس

(١) اصيهب هو من يعلو لونه صهبة و هى كالشقرة- مجمع البحار- الفقير الدهلوي-.

(٢) و في مجمع البحار حمّاليا هو بالتشديد الضخم الأعضاء التام الأوصال كانه الحمل- الفقير الدهلوي.

فجاءت بأشبه خلق لشريك- قال الحافظ ابن حجر اختلف الائمة في هذا الموضع فمنهم من رجح انها نزلت في شأن عويمر و منهم من رجح انها في شأن هلال و احتج «١» القرطبي الى تجويز نزول الاية مرتين و منهم من جمع بينهما بان أول من وقع ذلك هلال و صادف مجئى عويمر ايضا فنزلت في شأنهما معا و الى هذا اجنح النووي و سبقه الخطيب- و قال الحافظ ابن حجر يحتمل ان النزول سبق بسبب هلال فلما جاء عويمر و لم يكن له علم بما وقع لهلال علمه النبي صلى اللّه عليه و سلم بالحكم و لهذا قال في قصة هلال فنزل جبرئيل- و في قصة عويمر قد انزل اللّه فيك اى فيمن وقع له مثل ما وقع لك و بهذا أجاب ابن الصباغ في الشامل-

(مسئلة) و بناء على عموم قوله تعالى الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ قال مالك و الشافعي و احمد كل زوج صح طلاقه صح لعانه سواء كانا حرين او عبدين عدلين او فاسقين او أحدهما حرّا عدلا و الاخر عبدا او فاسقا- و كذا سواء كانا مسلمين او كافرين او أحدهما خلافا لمالك فان عنده انكحة الكفار فاسدة لا يصح طلاقه فلا يصح لعانه- و قال ابو حنيفة لا يجوز اللعان مالم يكن الزوج أهلا للشهادة- يعنى حرا عاقلا بالغا مسلما و تكون الزوجة ممن يحد قاذفها يعنى حرة عاقلة بالغة مسلمة غير متهمة بالزنى- فلا يجرى اللعان عنده إذا كان الزوج عبدا او كافرا او محدودا في قذف بل يحد حد القذف ان كانت المرأة ممن يحد قاذفها و الا يعزّر ان رأى الامام- لكن ان كان الزوج أعمى او فاسقا يجوز لعانه لان الفاسق يجوز للقاضى قبول شهادته و ان لم يجب قبوله- و الأعمى انما لا تقبل شهادته لعدم تميزه بين المشهود له و المشهود عليه و هاهنا هو يميز بين نفسه و بين امرأته فكان أهلا لهذه الشهادة دون غيرها و روى ابن المبارك عن ابى حنيفة ان الأعم ى لايلا عن- و كذا لا يجرى اللعان عند ابى حنيفة

(١) و احتج إلخ لعله من غلط الناسخ و الصحيح و جنح إلخ- الفقير الدهلوي-.

إذا كانت الزوجة امة او كافرة او صبية او مجنونة او تزوجت بنكاح فاسد و دخل بها فيه او كان لها ولد ليس له اب معروف او زنت في عمرها و لو مرة ثم تابت او وطئت وطيا حراما بشبهة و لو مرة فحينئذ لاحد و لا لعان بل تعزران رأى الامام- و وجه قول ابى حنيفة في اشتراط كون المرأة ممن يحد قاذفها ان اللعان انما شرع لدفع حد القذف من الزوج كما يدل عليه الأحاديث في سبب نزول الاية حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ابشر يا هلال فان اللّه قد جعل لك فرجا فهو بدل عن حدّ القذف في حق الزوج- و لذلك قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اتق اللّه فان عذاب الدنيا يعنى الحد أهون من عذاب الاخرة فاذا لم يتصور المبدل منه لا يتصور البدل و في اشتراط كون الرجل من اهل الشهادة قوله تعالى وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ حيث جعل الأزواج أنفسهم شهداء لان الاستثناء من النفي اثبات و لو جعل الشهداء مجازا من الحالفين كما قالوا كان المعنى و لم يكن لّهم حالفون الا أنفسهم و هو غير مستقيم لانه يفيد انه إذا لم يكن للذين يرمون أزواجهم من يحلف لهم يحلفون هم لانفسهم و هذا فرع تصور الحلف لغيره و هو لا وجود له أصلا فلو كان اليمين معنى حقيقيا للفظ الشهادة كان هذا صارفا عنه الى مجازه فكيف و هو معنى مجازى لها و لو لم يكن هذا كان إمكان العمل بالحقيقة موجبا لعدم الحمل على اليمين فكيف و هذا صارف عن المجاز و يدل على اشتراط اهلية الشهادة في الرجل و كون المرأة ممن يحد قاذفها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رواها بن ماجة و الدار قطنى بوجوه الاول ما رواه الدار قطنى بسنده عن عثمان بن عبد الرحمان الزهري عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اربعة ليس بينهم لعان ليس بين الحر و الامة لعان و ليس بين العبد و الحرة لعان و ليس بين المسلم و اليهودية لعان و ليس بين المسلم و النصرانية لعان- قال يحيى و البخاري و ابو حاتم الرازي و ابو داود عثمان بن عبد الرحمان الزهري ليس بشي ء و قال يحيى مرة كان يكذب و قال ابن حبان كان يروى عن الثقات الموضوعات لا يجوز الاحتجاج به و قال النسائي و الدار قطنى متروك الحديث- و الثاني ما رواه الدار قطنى و ابن ماجة بسندهما عن عثمان بن عطاء الخراسانى عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اربع من النساء لا ملاعنة بينهن النصرانية تحت المسلم و اليهودية تحت المسلم و المملوكة تحت الحر و الحرة تحت المملوك و عثمان بن عطاء ضعفه يحيى و الدار قطنى و قال ابو حاتم الرازي و ابن حبان لا يجوز الاحتجاج به و قال على بن الجنيد متروك قال الدار قطنى و قد تابعه يزيد بن زريع عن عطاء و هو ضعيف ايضا- و قد روى الدار قطنى من طريق اخر عن عماد بن مطر قال حدثنا حماد بن عمر عن زيد بن رفيع عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعث عتاب بن أسيد ثم ذكر نحوه قال ابو حاتم الرازي عماد بن مطر كان يكذب و قال ابن عدى أحاديثه بواطيل و هو متروك الحديث و قال احمد حماد بن عمرو كان يكذب و يضع الحديث و قال الساجي اجمعوا على انه متروك الحديث و قد ضعف النسائي و الدار قطنى زيد بن رفيع- قال ابن الجوزي و قد روى هذا الحديث الأوزاعي و ابن جريج و هما امامان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قوله و لم يرفعه الى النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ابن همام و أنت علمت ان الضعيف إذا تعدد طرقه كان حجة و هذا كذلك و قد اعتضد برواية الإمامين إياه موقوفا على جد عمود بن شعيب- و قال الشافعي قاله تعالى فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللّه إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) يدل على انها ايمان و ليس بشهادات لان كلمة باللّه محكم في اليمين و كلمة الشهادة يحتمل اليمين الا ترى انه لو قال اشهد ينوى اليمين كان يمينا فحملنا المحتمل على المحكم و حمل الشهادة على الحقيقة متعذر لان المعلوم في الشرع عدم قبول شهادة الإنسان لنفسه بخلاف يمينه و كذا المعهود شرعا عدم تكرر الشهادة في موضع بخلاف اليمين فانه معهود في القسامة- و لان الشهادة محلها الإثبات و اليمين للنفى فلا يتصور تعلق حقيقتها بامر واحد فوجب العمل بحقيقة أحدهما و مجاز الاخر فليكن المجاز لفظ الشهادة لما

قلنا من الوجهين المذكورين- و إذا كان الشهادة بمعنى اليمين لم يكن اهلية الشهادة شرطا للعان-

قلنا كما ان الشهادة لنفسه و تكرار أداء الشهادة غير معهود في الشرع كذلك الحلف لغيره و الحلف لايجاب الحكم ايضا غير معهود في الشرع بل اليمين لدفع الحكم فكما ان جاز لمن له ولاية الإيجاد و الاعدام و الحكم كيف ما اراده شرعية هذين الامرين في محل بعينه ابتداء جاز له شرعية ذلك ابتداء و الشهادة لنفسه قد ورد في محكم التنزيل حيث قال اللّه تعالى شَهِدَ اللّه أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حين سمع المؤذن يقول اشهد ان لا اله الا اللّه اشهد ان محمدا رسول اللّه و انا اشهد و انا اشهد فشهادته بالرسالة شهادة لنفسه- و تكرار الشهادة في هذا المحل انما شرع بدلا عما عجز عنه من اقامة شهود الزنى و هم اربعة و عدم قبول الشهادة لنفسه عند التهمة- و لهذا يثبت عند عدمها أعظم ثبوت كما ذكرنا من شهادة اللّه و شهادة رسوله فلا يبعد ان يشرع الشهادة لنفسه في موضع بواسطة تأكيدها باليمين و الزام اللعنة و الغضب ان كان كاذبا و اللّه اعلم جملة و لم يكن لّهم شهداء اما عطف على الصلة او حال من فاعل يرمون- و الّا أنفسهم بدل من الشهداء او صفة ان كان الا بمعنى غير و الموصول مع الصلة مبتدأ خبره ما بعده- قرا حفص و حمزة و الكسائي اربع شهدت بالرفع على انه خبر شهادة أحدهم

و قرا الباقون على المصدر لبيان عدد المصدر- و التقدير فالواجب شهادة أحدهم او فعليهم شهادة أحدهم اربع شهدت- و قيل شهادة أحدهم مبتدأ خبره محذوف تقديره فشهادة أحدهم اربع شهدت تدفع عنه حد القذف و باللّه متعلق بشهدت لكونها اقرب و قيل بشهادة لتقدمها- و قوله إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ أصله على انّه من الصّادقين فيما رماها من الزنى او نفى الولد او منهما فحذفت الجار و كسرت انّ و علق اللام عنه باللام تأكيدا- و قيل هو جواب قسم محذوف و الجملية القسمية بيان للشهادة.

٧

وَ الْخامِسَةُ اتفق القراء على رفعه فهو على قراءة حفص و حمزة و الكسائي عطف على اربع شهادات- و على قراءة الباقين عطف على قوله فشهادة أحدهم يعنى فالواجب شهادة أحدهم اربع شهادات و الواجب الشهادة الخامسة و جاز ان يكون الخامسة مبتدأ و ما بعده خبره و الجملة الاسمية حال أَنَّ لَعْنَتَ اللّه عَلَيْهِ قرا نافع و يعقوب ان مخففة من الثقيلة و اسمه ضمير الشأن و رفع اللعنة على الابتداء و الباقون انّ مشددة و نصب اللعنة على انها اسم انّ و انّ مع ما في حيزه بتقدير حرف الجر متعلق بالشهادة يعنى و الشهادة الخامسة بانّ لعنة اللّه عليه إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) شرط مستغن عن الجزاء بما مضى

(مسئلة) إذا قذف الرجل امرأته بالزنى او بنفي الولد و هما من اهل اللعان على ما ذكرنا من الخلاف و طالبته بموجب القذف وجب عليه اللعان فان امتنع منه حبسه الحاكم عند ابى حنيفة رحمه اللّه حتى يلاعن او يكذّب نفسه فيحدّ حدّ القذف و عند مالك و الشافعي و احمد إذا امتنع من اللعان يحدّ حدّ القذف و لا يحبس لان موجب القذف الحد و اللعان حجة صدقه و القاذف إذا قعد عن اقامة الحجة حد و لا يحبس- الا ان الشافعي يقول إذا نكل فسق و قال مالك لا يفسق- وجد قول ابى حنيفة ان النكول دليل على الإقرار لكن فيه شبهة و الحد لا يثبت مع الشبهة- فيحبس حتى يلاعن او يكذب نفسه لانه حق مستحق عليه و هو قادر على ايفائه فيجلس به حتى يأتى بما هو عليه- و إذا لاعن الزوج وجب على المرأة اللعان عند ابى حنيفة فان امتنعت حبسها الحاكم حتى تلا عن او تصدقه لانه حق مستحق عليها و هى قادرة على ايفائه فتحبس فيه و عند الشافعي إذا لاعن الزوج وقعت الفرقة بينه و بين زوجته و حرمت عليه على التأييد و انتفى عنه النسب لقوله صلى اللّه عليه و سلم المتلاعنان لا يجتمعان ابدا-

قلنا انما يصدق التلاعن الا بعد لعان المرأة ايضا- فلا يقع الفرقة و لا يجوز التفريق الا بعد تلا عنهما- و يجب على المرأة بلعان الرجل حد الزنى عند مالك و الشافعي و احمد و يسقط عنها حد الزنى عندهم إذا لاعنت لقوله تعالى.

٨

وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ يعنى حد الزنى كما في قوله تعالى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ و لقوله صلى اللّه عليه و سلم لامراة هلال بن امية اتقى اللّه فان الخامسة موجبة و ان عذاب اللّه أشد من عذاب الناس أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ منصوب بالإجماع على المصدرية ... شَهاداتٍ بِاللّه إِنَّهُ اى الزوج لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) فيما رمانى به من الزنى او من نفى الولد او منهما.

٩

وَ الْخامِسَةَ قرا الجمهور بالرفع على الابتداء و ما بعده خبره او على العطف على ان تشهد

و قرا حفص بالنصب عطفا على اربع شهادات أَنَّ قرأ نافع و يعقوب مخففة على انها مصدرية و الباقون مشددة غَضَبَ اللّه عَلَيْها قرأ نافع و يعقوب «١» بكسر الضاد على انه فعل ماض من باب علم يعلم و اللّه مرفوع على انه فاعل للفعل و الباقون بفتح الضاد بالنصب على انه اسم ان و اللّه بالجر على انه مضاف اليه إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) فيما رمانى به من الزنى او نفى الولد او منهما قال الشافعي لا يتعلق بلعانها الا حكم واحد و هو سقوط حد الزنى- و لو اقام الزوج بينة على زناها لا يسقط عنها الحد باللعان فان امتنعت من اللعان حدت عندهم- خلافا لابى حنيفة رحمه اللّه فانه يقول بل تحبس دائما ما لم تلاعن او تصدقه فان صدقته ارتفع سبب وجوب لعانها فلا لعان و لاحد لان التصديق ليس بإقرار قصدا بالذات فلا يعتبر في وجوب الحد بل في درئه فيندفع به اللعان و لا يجب به الحد و لو كان إقرارا ... فالاقرار مرة لا يوجب حد الزنى عند ابى حنيفة رحمه اللّه كما مرّ فيما سبق و لم يتعين ان المراد بالعذاب في قوله تعالى وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ الحدّ لجواز ان يكون المراد به الحبس و الحدود تندرئى بالشبهات

(١) و الصحيح قرا يعقوب غضب بفتح الضاد و رفع الباء و جرهاء الجلالة- ابو محمد عفا اللّه عنه-.

(مسئلة) و لو صدقت المرأة الزوج في نفى الولد فلاحد و لا لعان عند أبي حنيفة رحمه اللّه و هو ولدهما لان النسب انما ينقطع حكما للعان و لم يوجد و هو حق الولد فلا يصدقان في ابطاله و اللّه اعلم قلت و العجب من الشافعي و من معه ان اللعان عندهم يمين و لذا لا يشترطون في الرجل اهلية الشهادة و يجوزون اللعان من العبد و الكافر و المحدود في القذف و اليمين هو لا يصلح لايجاب المال فكيف يوجب لعان الرجل عند امتناع المرأة عنه عليها الرجم و هو اغلظ الحدود- و العجب من ابى حنيفة رحمه اللّه انه قال اللعان شهادات و لذا اشترط في الرجل اهلية الشهادة و قال تكرار الشهادة في هذا المحل انما شرع بدلا عما عجز عنه من اقامة شهود الزنى و هم اربعة و قد جعل الشارع شهادات الأربع مقام شهادة اربعة من الرجال بواسطة تأكد باليمين و الزام اللعنة- و انه قال ان اللعان قائم مقام حد القذف في حقه و مقام حد الزنى في حقها فلم لم يقل بايجاب حد الزنى عليها بشهاداته الأربع و قد قال اللّه تعالى وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ و الدرء لفظ خاص صريح في معنى السقوط و السقوط يقتضى الوجوب عند عدم موجبه و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عذاب اللّه أشد من عذاب الناس يعنى الحد و لا معنى لكون اللعان في حقها قائما مقام حد الزنى الا انه إذا لاعنت سقط عنها الحدّ و ان امتنعت من اللعان وجب عليها الحدّ- لا يقال ان شهاداته وحده و ان كانت قائمة مقام شهادة اربعة من الرجال لكن لا يحصل به القطع بتحقق الزنى- و في قيام شهادته مقام شهاداتهم شبهة فيندرئ بها حد القذف و لا يثبت بها حد الزنى لانها يندرئ بالشبهات لانا نقول لا شبهة في قيام شهاداته مقام شهاداتهم لثبوتها بالكتاب و السنة و الإجماع و القطع بتحقق الزنى كما لا يحصل بشهاداته الأربع كذلك لا يحصل بشهادة اربعة من الرجال لجواز تواطئهم على الكذب و الخبر لا يوجب القطع ما لم يبلغ درجة التواتر او يكون المخبر معصوما- و الحكم بعد شهادة رجلين او اربعة امر تعبدى ليس مبناه على القطع بل على غلبة الظن- و غلبة الظن هاهنا فوق غلبة الظن في شهادة اربعة من الرجال بواسطة تأكد شهاداته باليمين و التزام اللعنة مع كونه عدلا جائز الشهادة و بامتناع المرأة من اللعان- الا ترى ان توافق الاربعة على الكذب اقرب عند العقل من امتناع المرأة عن اللعان على تقدير كذب الزوج مع اعتقادها بسقوط الرجم عنها و دفع العذاب باللعان- و المراد بالشبهة الّتي تندرئ به الحدّ شبهة سوى هذه الشبهة الّتي لم يعتبرها الشرع من احتمال كذب الشهود الاربعة و كذب الزوج مع لعانه و امتناعها من اللعان- فالراجح عندى في اشتراط اهلية الشهادة في الزوج و كون المرأة ممن يحد قاذفها قول ابى حنيفة رحمه اللّه- و في وجوب حد الزنى بعد امتناع المرأة من اللعان قول الشافعي و من معه و اللّه اعلم

(مسئلة) قد مر فيما سبق ان بلعان الرجل وحده يقع الفرقة بين الزوجين عند الشافعي و هذا امر لا دليل عليه- و قال زفروبه قال مالك و هو رواية عن احمد انه يقع الفرقة بتلا عنهما من غير قضاء القاضي و عند ابى حنيفة و صاحبيه و احمد لا تقع بعد تلاعنهما حتى يفرق الحاكم بينهما و يحب على الحاكم تفريقهما- و الفرقة تطليقة بائنة عند ابى حنيفة و محمد و عند ابى يوسف و زفر و مالك و الشافعي و احمد فرقه فسخ وجه قولهم جميعا ان بالتلاعن يثبت الحرمة المؤبدة كحرمة الرضاع- كما في الصحيحين عن ابن عمر انه صلى اللّه عليه و سلم قال للمتلاعنين حسابكما على اللّه أحد كما كاذب لا سبيل لك عليها- قال يا رسول اللّه مالى قال لا مال لك ان كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها و ان كنت كذبت عليها فذلك ابعدوا بعد لك منها- و ما رواه ابو داود في حديث سهل بن سعد مضت السنة في المتلاعنين ان يفرق بينهما ثم لا يجتمعان ابدا و كذا روى الدار قطنى عن على و ابن مسعود- قال الحافظ ابن حجر و في الباب عن على و عمر و ابن مسعود في مصنف عبد الرزاق و ابن ابى شيبة و روى ابو داود في حديث ابن عباس في اخر قصة هلال بن امية انه صلى اللّه عليه و سلم فرق بينهما و قضى بان لا ترمى و لا ولدها - و في الصحيحين عن ابن عمران رجلا لا عن امرأته على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ففرق عليه السلام بينهما و الحق الولد بامه- و اصرح دليل على قول الجمهور ان الفرقة ليست فرقة طلاق ما أخرجه ابو داود في سننه عن ابن عباس في قصة هلال بن امية انه قال قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان ليس لها عليه قوت و لا سكنى من أجل انهما يفترقان بغير طلاق و لا متوفى عنها قالوا إذا ثبت بعد التلاعن الحرمة المؤبدة فلا حاجة الى تفريق القاضي و ايضا الحرمة المؤبدة تنافى النكاح كحرمة الرضاع فتنفسخ- و قال ابو حنيفة ان ثبوت الحرمة لا يقتضى فسخ النكاح الا ترى انه بالظهار يثبت الحرمة و لا ينفسخ النكاح غير انه إذا ثبت الحرمة عجز الزوج عن الإمساك بالمعروف فيلزمه التسريح بالإحسان فاذا امتنع منه ناب القاضي منا به دفعا للظلم دل عليه ما رواه الشيخان في حديث سهل بن سعد انه قال عويمر بعد ما تلاعنا كذبت عليها يا رسول اللّه ان أمسكتها فطلقها ثلاثا و لم ينكر عليه النبي صلى اللّه عليه و سلم في التطليق- و روى الدار قطنى بسنده من حديث ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه قال المتلاعنان إذا افترقا لا يجتمعان ابدا- و قد طعن الشيخ أبو بكر الرازي في ثبوته عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لكن قال صاحب التنقيح اسناده جيد و مفهوم شرطه يستلزم انهما لا يفترقان بمجرد اللعان و هو حجة على الشافعي على مقتضى رأيه و ما قال ابن عباس قضى رسول اللّه ص لى اللّه عليه و سلم ان ليس لها قوت و لا سكنى من أجل انهما يفترقان بغير طلاق فهذا زعم من ابن عباس و انما المرفوع القضاء بعدم النفقة و السكنى-

قلت الحرمة بعد التلاعن ثبتت بالإجماع اما عند الشافعي و زفر و من معهما فظاهر و امّا عند ابى حنيفة فلانه لو لا الحرمة فلا وجه لتفريق النبي صلى اللّه عليه و سلم و لا موجب لقول ابى حنيفة ثم يفرق القاضي و هذه الحرمة ليست كحرمة الظهار نكونها منتهية بالكفارة بل هى حرمة مؤبدة كحرمة الرضاع و لا شك ان الحرمة المؤبدة تنافى النكاح بخلاف المؤقتة فينفسخ و لا يحتاج الى قضاء القاضي يدل عليه ما قال ابن همام انه يلزم على قول ابى يوسف انه لا يتوقف على تفريق القاضي لان الحرمة ثابتة قبله اتفاقا- و قوله امتنع عن الإمساك بالمعروف فينوب القاضي منابه في التسريح- يقتضى ان يأمر القاضي الزوج بعد اللعان ان يطلقها فان امتنع من التطليق بفرق القاضي بينهما و لم يقل به أحد و لم يرو عن النبي صلى اللّه عليه و سلم امره بالتطليق و قول ابن عباس في حكم الرفع لكونه عالما بكيفية قضاء رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و اما قول عويمر فمحمول على عدم علمه بوقوع الفرقة باللعان و مفهوم الشرط و ان كان حجة عند الشافعي لكن يترك العمل به للقطع على ثبوت الحرمة المؤبدة- او يقال معنى قوله المتلاعنان إذا افترقا لا يجتمعان ابدا إذا افترقا من التلاعن اى فرغا كما قال ابو حنيفة في تأويل قوله صلى اللّه عليه و سلم المتبايعان بالخيار مالم يتفرقا حيث قال المراد بالتفرق تفرق الأقوال مسئلة إذا أكذب الزوج نفسه بعد التلاعن هل يجوز له ان يتزوجها قال الشافعي و مالك و احمد إذا أكذب نفسه يقبل ذلك فيما عليه لا فيماله فيلزمه حد القذف و يلحقه الولد و لا يرتفع التحريم المؤبد فلا يجوز له التزوج- و قال ابو حنيفة و هو رواية عن احمد انه جلد و جاز له ان يتزوجها لانه لمّا حد لم يبق أهلا للعان فارتفع حكمه المنوط به و كذلك ان قذف غيرها فحدّ به و كذا إذا زنت فحدت لانتفاء اهلية اللعان من جهتها-

قلنا زوال اهلية اللعان لا يقتضى نفى اللعان من أصله الا ترى انه من قذف غيره فحدّ حدّ القذف ثم زنى المقذوف و حدّ حدّ الزنى لا يقبل شهادة القاذف بعد ذلك مع زوال اهلية المقذوف لان يحد قاذفه- قالت الحنفية معنى قوله صلى اللّه عليه و سلم المتلاعنان لا يجتمعان ابدا لا يجتمعان ماداما متلاعنين كما هو مفهوم العرفية

قلنا معنى العرفية لا يتصور الا إذا كان العنوان وصفا قارّا و التلاعن وصف غير قار فلا يمكن الحكم بشرط الوصف بل المراد الذان صدر منهما اللعان في وقت من الأوقات لا يجتمعان بعد ذلك ابدا- و القول بان معنى الحديث لا يجتمعان ماداماهما على تكاذبهما مصادرة على المطلوب و اللّه اعلم

(مسئلة) و لو كان القذف بنفي الولد نفى القاضي نسبه عنه و الحقه بامه و يتضمنه القضاء بالتفريق عند من يشترط له القضاء و يقول في اللعان اشهد باللّه انى لمن الصادقين فيما رميتك به من نفى الولد و كذا في جانب المرأة و لو قذفها بالزنى و نفى الولد ذكر في اللعان أمرين ثم ينفى القاضي نسب الولد و يلحقه بامه لحديث ابن عمران النبي صلى اللّه عليه و سلم لاعن بين الرجل و امرأته فانتفى من ولدها ففرق بينهما و الحق الولد بالمرأة متفق عليه

(مسئلة) و إذا قال الزوج ليس حملك منى فلا لعان عند ابى حنيفة و زفر و احمد لعدم تيقن الحمل عند نفيه فلم يصر قاذفا و قال مالك و الشافعي يلاعن لنفى الحمل و قال ابو يوسف و محمد إذا جاءت بالولد لاقل من ستة أشهر وجب اللعان- و مقتضى هذا القول انه يؤخر الأمر الى ان تلد فان ولدت لاقل من ستة أشهر وجب اللعان و الا فلا و قد ورد في بعض طرق قصة هلال ما يدل على ان اللعان كان بعد الولادة روى الشيخان في الصحيحين عن ابن عباس في قصة هلال فقال عليه السلام اللّهم بين و وضعت شبيها بالذي ذكر زوجها انه وجد عند اهله فلا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- وجه قول مالك و الشافعي ان النبي صلى اللّه عليه و سلم فرق بين هلال و زوجته و قضى ان لا يدعى ولدها لاب و لا ترمى و لا يرمى ولدها و من رماها او رمى ولدها فعليه الحد قال عكرمة و كان ولدها بعد ذلك أميرا على مصر و ما يدعى لاب- و هذا لفظ ابى داود و في اكثر الطرق ان امراة هلال كانت حاملا حين لاعنت و روى النسائي عن ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لاعن بين العجلاني و امرأته و كانت حبلى-

و اخرج عبد الرزاق هكذا ايضا و قال زوجها ما قربتها منذ عفار النخل و عفار النخل انها لا تسقى بعد الآبار شهرين فقال عليه السلام اللّهم بيّن فجاءت بولد على الوجه المكروه و بهذا يظهر جواز اللعان بنفي الحمل و أجيب بان اللعان انما ثبت لان هلالا رماها بالزنى لا بنفي الحمل و ما ورد في رواية وكيع عند احمد انه لاعن هلال بالحمل فقد أنكره احمد و قال انما وكيع اخطأ فقال لاعن بالحمل و انما لاعن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لما جاء فشهد بالزنى و لم يلاعن بالحمل قلت و الظاهر انه رماها بكلا الامرين كما يدل عليه ما ذكر البغوي عن ابن عباس و قتادة- و لو كان رماها بالزنى فحسب لم ينف رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عنه الولد مع احتمال كون العلوق بوطي اخر من هلال غير و طى الزاني فبحديث هلال لا يثبت جواز اللعان بنفي الحمل فقط- و كذا قول ابن عباس لاعن بين العجلاني و امرأته و كانت حبلى لا يدل على ان الرمي كان بنفي الحمل فقط- بل ما روى ابن سعد في الطبقات في ترجمة عويمر عن عبد اللّه بن جعفر قال شهدت عويمر بن الحارث العجلاني و قد رمى امرأته بشريك بن سمحا و أنكر حملها فلا عن بينهما رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هى حامل فرايتهما يتلاعنان قائمين عند المنبر ثم ولدت فالحق الولد بالمرأة و جاءت به أشبه الناس بشريك بن سمحا- و كان عويمر قد لامه قومه و قالوا امراة لا نعلم عليها الا خيرا فلما جاءت بشبه بشريك عذر الناس- و عاش المولود سنتين ثم مات و عاشت امه بعده يسيرا و صار شريك بعد ذلك عند الناس بحال سوء يدل على انه رمى امرأته بالزنى و أنكر حملها مع ذلك- و وجه قول ابى يوسف و محمد انه إذا نفى الحمل و جاءت بالولد لاقل من ستة أشهر ظهر وجود الحمل عند الرمي فتحقق القذف عنده فيلاعن عليه- قال ابو حنيفة إذا لم يكن قذفا في الحال صار كالمعلق بالشرط كانه قال ان كنت حاملا فليس حملك منى و القذف لا يصح تعليقه بالشرط-

(مسئلة) و لو قال زنيت و حملك من الزنى تلاعنا اجماعا لوجود القذف حيث ذكر الزنى صريحا و لا ينفى القاضي الحمل عند ابى حنيفة رحمه اللّه- و قال الشافعي ينفيه لان النبي صلى اللّه عليه و سلم نفى الولد عن هلال و قد قذفها حاملا قال ابو حنيفة الاحكام لا يترتب عليه الا بعد الولادة فتمكن الاحتمال قبله و الحديث محمول على ان النبي صلى اللّه عليه و سلم عرف وجود الحمل بطريق الوحى-

قلت و هذا القول بعيد جدّا لان النبي صلى اللّه عليه و سلم انما كان يحكم على ظاهر الأمر حتى يقتدى به و لم يكن يحكم بالحكم الحاصل بالوحى و الا لم يقل أحد كما كاذب و يحكم بكذب واحد معين بالوحى.

(مسئلة) إذا نفى الرجل ولد امرأته عقيب الولادة فعند الشافعي ان نفى حين سمع الولادة فورا صح نفيه و لاعن به و ان سكت ثم نفى لاعن و ثبت النسب و قال ابو حنيفة صح نفيه حالة التهنئة و لم يعين لها مدة في ظاهر الرواية و ذكر ابو الليث عن ابى حنيفة تقديرها بثلاثة ايام و روى الحسن عنه سبعة ايام و قال ابو يوسف و محمد صح نفيه في مدة النفاس و كان القياس ان لا يجوز النفي الا فورا لان السكوت دليل الرضا الا انا استحسّنا جواز تأخيره مدة يقع فيها التأمل لئلا يقع في نفى ولده عن نفسه او استلحاق ولد غيره بنفسه و كلاهما حرام- عن ابى هريرة انه سمع النبي صلى اللّه عليه و سلم يقول لما نزلت اية الملاعنة ايّما امراة ادخلت على قوم من ليس منهم فليست من اللّه في شي ء و لن يدخلها اللّه جنته و ايّما رجل جحد ولده و هو ينظر اليه احتجب اللّه منه يوم القيامة و فضحه على رءوس الأولين و الآخرين- رواه ابو داؤد و النسائي و الشافعي و ابن حبان و الحاكم و صححه الدار قطنى و في الصحيحين عن سعد بن ابى وقاص و ابى بكرة قالا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من ادعى أبا في الإسلام غير أبيه و هو يعلم انه غير أبيه فالجنة عليه حرام

(مسئلة) لو كان الزوج غائبا يعتبر المدة الّتي ذكرناها على الأصلين بعد قدومه فعندهما قدر مدة النفاس و عنده قدر مدة قبول التهنية

(مسئلة) جاز للزوج قذف زوجته علم زناها او ظنه ظنّا مؤكدا كشياع زناها بزيد مع قرينة بان راهما في خلوة لو أتت بولد علم انه ليس منه بان- لم يطأها- او ولدت لدون ستة أشهر من وقت وطيها او فوق سنتين- و لو ولدت لما بينهما و لم تستبرئى بحيضة حرم النفي- و لو ولدت لفوق ستة أشهر من الاستبراء حل النفي-

(مسئلة) و لو وطى و عزل او علم زناها و احتمل كون الولد منه و من الزنى حرم النفي و اللّه اعلم.

١٠

وَ لَوْ لا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ يا امة محمّد وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللّه تَوَّابٌ يعود بالرحمة على من يرجع من المعاصي بالندم و الاستغفار حكيم (١٠) فيما فرض عليكم من الحدود و في غيرها جواب لو لا محذوف لتعظيمه اى لفضحكم و عاجلكم بالعقوبة و اللّه اعلم اخرج الشيخان و غيرهما عن الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير و سعيد بن المسيب و علقمة بن وقاص و عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعود عن عائشة زوج النبي صلى اللّه عليه و سلم حين قال لها اهل الافك ما قالوا فبرّاها اللّه مما قالوا و كلّ حدثنى طائفة من الحديث و بعض حديثهم يصدق بعضا و ان كان بعضهم اوعى له من بعض- الّذي حدثنى عروة ان عائشة زوج النبي صلى اللّه عليه و سلم قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا أراد سفرا اقرع بين نسائه فايّتهن خرج سهمها خرج بها فاقرع بيننا في غزوة «١» غزاها فخرج سهمى فخرجت و ذلك بعد ما نزل الحجاب فكنت احمل في هودجى و انزل فيه- فسرنا حتى إذا فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من غزوته تلك و قفل دنونا من المدينة قافلين اذن ليلة بالرحيل فقمت فمشيت حتى جاوزت الجيش- فلمّا قضيت شأنى أقبلت الى رحلى فلمست صدرى فاذا عقد من جزع اظفار «٢» قد انقطع فرجعت فالتمست عقدى فجسنى ابتغاؤه

(١) هى غزوة بنى المصطلق في السنة السادسة- الفقير الدهلوي-.

(٢) الأظفار جنس من الطيب لا واحد له من لفظه و قيل واحده ظفر و قيل هو من العطر اسود و القطعة منه شبهة بالظفر و جزع اظفار هكذا روى و أريد به العطر المذكور كان يؤخذ و يثقب و يجعل في العقد و القلادة- و الصحيح في الروايات انه من جزع ظفار بوزن قطام و هى اسم مدينة لحمير باليمن- و الجزع ظفار الخرز اليماني- نهاية- حاصل انكه جزع ظفار ظفار الطيبة يعنى و جزع اظفار عقيق يمانى- ١٢ منه رحمه اللّه-.

و اقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لى فحملوا هودجى فرحلوه على بعيري الّذي اركب عليه و هم يحسبون انى فيه- و كان النساء إذ ذك خفافا لم يهبلن و لم يغشهن اللحم انما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رحلوه و رفعوه و كنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل و ساروا- و وجدت عقدى بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم و ليس بها داع و لا مجيب فتيمت منزلى الّذي كنت فيه فظننت ان القوم سيفقدونى فيرجعون الىّ- فبينما انا جالسة في منزلى غلبتنى عينى فنمت- و كان صفوان بن المعطل السلمى ثم الذكوانى قد عرس وراء الجيش فادلج فاصبح عند منزلى فراى سواد انسان نائم فعرفنى حين راتى و كان رانى قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفنى فخمرت وجهى بجلبابي- و اللّه ما كلمنى كلمة و لا سمعت منه كلمة غير استرجاعه و قد أناخ راحلته فوطى على يدها فقمت إليها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى اتينا الجيش بعد ما نزلوا موعرين «١» فى نحر الظهيرة فهلك من هلك في شأنى و كان الّذي تولّى كبر الافك عبد اللّه بن أبيّ بن سلول فقدمت المدينة فاشتكيت حين قدمنا شهرا و الناس يفيضون في قول اهل الافك و لا أشعر بشي ء من ذلك- و هو يريبنى في وجعي ان لا اعرف من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اللطف الّذي كنت ارى منه حين اشتكى انما يدخل علّى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فيسلم ثم يقول كيف يتكم ثم ينصرف فذلك يريبنى و لا أشعر بالسرّ حتى خرجت حين نقهت فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع و كان متبرزنا و كنا لا نخرج الا ليلا و ذلك قبل ان يتخذ الكنف قريبا من بيوتنا و أمرنا امر العرب الاول في البرية قبل الغائط فكنا نتاذّى بالكنف ان نتخذها عند بيوتنا- قالت فانطلقت انا و أم مسطح (و هى ابنة ابى دهم بن عبد مناف

(١) و في الصحيح للبخارى رحمه اللّه موغرين بالغين المعجمة لا بالعين المهملة قال في مجمع البحار موغرين من و غرت الهاجرة و أوغر الرجل دخل في ذلك الوقت و وغر صدره إذا اغتاظ او حمى و اوغره غيره قال و روى موعرين بعين مهملة على ضعف انتهى الفقير الدهلوي-.

و أمها بنت صخر بن عامر خالة ابى بكر الصديق و ابنها مسطح بن اثاثة) فاقبلت انا و أم مسطح قبل بيتي قد فرغنا من شأننا- فعثرت أم مسطح في من طها قبل المناصع فقالت تعس «١» مسطح فقلت لها بئس ما قلت ا تسبين رجلا شهد بدرا قالت ابى بنتاه الم تسمعى ما قال قلت ما ذا قال فاخبرتنى بقول اهل الافك فازددت مرضا الى مرضى- فلما رجعت الى بيتي و دخل علّى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فسلم ثم قال كيف تيكم قلت أ تأذن لى ان اتى ابوىّ- و انا أريد ان أتيقن الخبر من قبلهما فاذن لى فجئت أبوي و قلت لامّى يا أماه ماذا يتحدث الناس- فقالت يا بنية هونى عليك فو اللّه لقل ما كانت امراة قط وضيئة عند رجل يحبها و لها ضرائر الا أكثرن عليها قلت سبحان اللّه و قد تحدث الناس بهذا فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لايرقألى دمع و لا اكتحل بنوم ثم أصبحت ابكى- و دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم علىّ بن ابى طالب و اسامة بن زيد حسين استلبث الوحى يستشيرهما في فراق اهله- فامّا اسامة فاشار عليه بالذي يعلم من براءة اهله و في رواية و بالذي يعلم بهم في نفسه من الود فقال اسامة يا رسول اللّه «٢» أهلك و لا نعلم الا خيرا- و اما علىّ فقال لم يضيق اللّه عليك و النساء سواها كثيرة و ان تسئل الجارية تصدقك- فدعا بريرة فقال اى بريرة هل رأيت من شي ء يربيك من عائشة قالت له بريرة و الّذي بعثك بالحق ما رايت عليها امرا قط أغمصه عليها اكثر من انها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتى الداجن فتاكله قالت فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على المنبر فاستعذر «٣» من عبد اللّه بن أبيّ فقال يا معشر المسلمين من يعذرنى «٤» من رجل قد بلغني أذاه في اهل بيتي فو اللّه ما علمت على أهلي الا خيرا و لقد ذكروا رجلا ما علمت عليه الا خيرا و ما يدخل على أهلي الا معى قالت فقام سعد بن معاذ رضى اللّه عنه (أخو بنى عبد الأشهل) يا رسول اللّه انا عذرك «٥»

(١) فى مجمع البحار تعس مسطح اى عثروا نكب لوجهه هو بفتح عين و كسرها انتهى الفقير الدهلوي-.

(٢) أهلك بالنصب اى امسك أهلك او بالرفع اى هم أهلك- الفقير الدهلوي-.

(٣) فاستعذر. [.....].

(٤) من يعذرنى من رجل.

(٥) انا أعذرك- يعنى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من بقوم يعذرى ان كافاته على سوء صنيعه فلا يلومنى فقال سعد انا- نهاية منه رحمه اللّه تعالى-.

فان كان من الأوس اضرب عنقه و ان كان من إخواننا من الخزرج امرتنا ففعلنا أمرك- قالت و قام رجل من الخزرج و كانت أم حسان بنت عمه من فخذه و هو سعد بن عبادة و هو سيد الخزرج- قالت و كان قبل ذلك رجلا صالحا و لكن احتملته الحمية فقال لسعد كذبت لعمر «١» اللّه لا تقتله و لا تقدر على قتله و لو كان من أهلك ما احسب ان تقتله- فقام أسيد بن حضير و هو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر اللّه لنقتلنه فانك منافق تجادل عن المنافقين- فثار الحيان الأوس و الخزرج حتى هموا ان يقتتلوا و رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قائم على المنبر- قالت فلم يزل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يخفضهم حتى سكتوا و سكت- قالت فبكيت يومى ذلك لا يرقألى دمع ثم بكيت تلك الليلة لا يرقألى دمع و لا اكتحل بنوم و أبواي يظنان ان البكاء فالق كبدى- فبينماهما جالسان عندى و انا ابكى استأذنت علىّ امراة من الأنصار فاذنت لها فجل ست تبكى معى- ثم دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فسلم ثم جلس قالت و لم يجلس عندى منذ قيل لى ما قيل قبلها و قد لبث شهرا لا يوحى اليه في شأنى شي ء- قالت فتشهد ثم قال اما بعد يا عائشة فانه قد بلغني عنك كذا و كذا فان كنت بريّة فسيبرئك اللّه و ان كنت ألممت بذنب فاستغفرى اللّه ثم توبى اليه فان العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب اللّه عليه- فلما قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مقالته قلص دمعى حتى ما أحس منه قطرة فقلت لالى أجب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فيما قال فقال و اللّه ما أدرى ما أقول فقلت لامى أجيبي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالت و اللّه ما أدرى ما أقول فقلت (و انا جارية حديثة السن لا اقرأ كثيرا من القرآن) و اللّه لقد عرفت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم و صدقتم به و لئن قلت لكم انى بريّة و اللّه يعلم انى برية لا تصدقونى و لان اعترفت لكم بامر و اللّه يعلم انى منه بريّة لتصدقونى و اللّه لا أجد لى و لكم مثلا الا كما قال ابو يوسف فصبر جميل و اللّه المستعان على ما تصفون

(١) لعمر اللّه قال القسطلاني هو بفتح العين اى و بقاء اللّه انتهى الفقير الدهلوي.

ثم تحولت فاضطجعت على فراشى- قالت و انا حينئذ اعلم انى بريّة و ان اللّه مبرئنى ببراءتي و لكن ما كنت أظن ان اللّه منزل في شأنى وحيا يتلى و لشأنى في نفسى كان احقر من ان يتكلم اللّه فيّ بامر يتلى و لكن أرجو ان يرى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في النوم رويا يبرئنى اللّه بها- فو اللّه ما رام «١» رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مجلسه و لا خرج من اهل البيت أحد حتى انزل اللّه على نبيه فاخذه ما كان يأخذه من برحاء الوحي حتى انه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في يوم شات من ثقل القول الّذي ينزل عليه- فلمّا سرى عنه سرى عنه و هو يضحك و كان أول كلمة تكلم بها ان قال أبشري يا عائشة اما اللّه فقد براك- فقالت لى أمي قومى اليه فقلت و اللّه لا أقوم اليه و لا احمد الا اللّه و هو الّذي انزل براءتي- و انزل اللّه.

(١) ما رام اى ما فارق مجلسه- قسطلانى- الفقير الدهلوي.

١١

إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عشر آيات و الافك ابلغ ما يكون من الكذب و هو في الأصل الصرف و القلب و ذلك ان عائشة كانت تستحق الثناء و الدعاء لما كانت عليه من الحصانة و الشرف و لما كانت بنتا للصديق زوجا للرسول صلى اللّه عليه و سلم امّا للمؤمنين واجبة الإكرام و الاحترام فمن رماها بسوء قلب الأمر عن وجهه غاية القلب عُصْبَةٌ و هى جماعة من الناس من العشرة الى الأربعين لا واحد لها من لفظها كذا في النهاية مِنْكُمْ يعنى من المؤمنين روى البخاري و غيره عن عائشة كانت تقول اما زينب بنت جحش فعصمها اللّه بدينها لم تقل الا خيرا و اما أختها حمنة فهلكت فيمن هلك- و كان الّذي يتكلم مسطح و حسان بن ثابت و عبد اللّه بن ابى المنافق و هو الّذي كان يستوشيه و يجمعه- و

قال البغوي قال عروة لم يسم من اهل الافك إلا حسان بن ثابت و مسطح بن اثاثة و حمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لى بهم غير انهم عصبة كما قال اللّه تعالى- قال عروة و كانت عائشة تكره ان يسب عندها حسان و تقول انه الّذي قال شعر.

فانّ ابى و أمي و أولادي و عرضى لعرض محمد منكم وفاء «٢»

فان ابى و والدتي و غرضى لعرض محمّد منكم وقاء - الفقير الدهلوي.

(٢) الصحيح من الرواية.

لا تَحْسَبُوهُ خطاب للنبى صلى اللّه عليه و سلم و المؤمنين غير العصبة فان شتم عائشة كان راجعا الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فيسوءه و يسوع جميع المؤمنين فانه كان أبوهم صلى اللّه عليه و سلم يعنى لا تزعموه شَرًّا لَكُمْ حيث يأمركم على ذلك و يظهر كرامتكم على اللّه و ينزل على رسوله في براءتها و تعظيم شأنها و تهويل الوعيد لمن تكلم بالإفك ما يتلى في المحاريب الى يوم القيامة- و جملة لا تَحْسَبُوهُ مستأنفة كانّه في جواب ما شأن هذا الافك- او معترضة للتسلية لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ اى من العصبة الكاذبة مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ اى جزاء إثمه على مقدار خوضه فيه كان بعضهم افترى و أحب ان يشيع و بعضهم تكلم به بعد ما سمع من غيره و بعضهم ضحك و لم يتكلم و بعضهم سكت من غير رد- الموصول و اعل للظرف او مبتدا خبره الظرف المقدم عليه و الجملة صفة لعصبة و خبر ثان لان-

قال البغوي روى ان النبي صلى اللّه عليه و سلم امر بالذين رموا عائشة فجلدوا الحدود جميعا تمانين ثمانين-

قلت فالحد و الفضيحة جزاؤهم في الدنيا و جزاؤهم في الاخرة على ما أراد اللّه تعالى وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ قرا يعقوب بضم الكاف و العامة بكسرها قال الكسائي هما لغتان اى تحمّل معظمه يعنى بدأ به و اذاعه عداوة لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و تعييرا للمؤمنين-

قال البغوي روى الزهري عن عائشة وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) قالت هو عبد اللّه بن ابى ابن سلول و العذاب العظيم هو النار في الاخرة- و روى ابن ابى مليكة عن عروة عن عائشة في حديث الافك قالت ثم ركبت و أخذ صفوان بالزمام فمررنا بملأ من المنافقين و كانت عادتهم ان ينزلوا منتبذين من الناس فقال عبد اللّه بن أبيّ رئيسهم من هذه قالوا عائشة قال و اللّه ما نجت منه و ما نجا منها و قال امراة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقود بها- و قيل المراد بالّذى تولّى كبره عبد اللّه بن أبيّ بن سلول و حسان و مسطح و حمنة و هذا القول ضعيف و لو كان كذلك لقال اللّه تعالى و الّذين تولّوا كبره و ايضا كان مسطح و حسان ممن شهد بدرا و قد غفر اللّه لاهل بدر ما تقدم من ذنبهم و ما تأخر و قد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لاهل بدر اعملوا ما شئتم فان اللّه قد غفر لكم و قد قال اللّه تعالى في حق جميع الصحابة وَ كُلًّا وَعَدَ اللّه الْحُسْنى يعنى الجنة- و هذه الاية لا ينافى العذاب لان دخول الجنة قد يكون بعد التعذيب- و قال قوم هو حسان بن ثابت روى البخاري عن مسروق قال دخلت على عائشة و عندها حسان بن ثابت ينشرها شعرا يشبب بأبيات له شعر حصان «١» رزان ما تزنّ بريبة و تصبح غرثى من لحوم الغوافل فقالت له عائشة لكنك لست كذلك قال مسروق فقلت لها لم تأذني «٢» له ان يدخل عليك و قد قال اللّه وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ- قالت و اىّ عذاب أشد من العمى و قد كان يرد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يعنى كان يهجو المشركين إذا كانوا يهجون رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- و على هذا المراد بالعذاب العظيم عذاب الدنيا و لكن الصواب هو الاول-.

(١) الحصان المرأة العفيفة- الرزان امراة ذات ثبات و وقار و سكون- و الرزانة في الأصل الثقل لا تزن اى لاتتهم و الزنة التهمة- غرثى المرأة الجائعة- يعنى زنيست عفيفه با وقار و سكينه تهمت كرده نميشود بچيزى كه موجب شك باشد و صبح مى كند در حاليكه خاليست شكم او از گوشت زنان غافلات يعنى غيبت هيچكس نميكند- ١٢ منه رحمه اللّه.

(٢) و في الصحيح للبخارى قلت (اى قال مسروق قلت لعائشة) تدعين (بحذف همزة الاستفهام اى اتتركين) فما قاله المفسر رحمه اللّه تعالى لا يستقيم بوجه لان لم الاستفهامية لا تجزم المضارع و على جعل قوله لم تأذني نهيا لا يمكن ان تقام لم الجازمة مقام لا للنهى فالاولى ان يقال ان الصحيح من المفسر رحمه اللّه تعالى لم تأذنين استفهام و الغلط من الناسخ و اللّه تعالى اعلم- الفقير الدهلوي.

١٢

لَوْ لا هلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ اى حديث الافك من المنافقين ايها العصبة المؤمنة ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ اى باهل دينهم من المؤمنين و المؤمنات يعبر من اهل الدين بالأنفس كما في قوله تعالى لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ و قوله تعالى لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ و قوله تعالى لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ و قوله تعالى فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ- لان المؤمنين و اهل كل دين من الأديان كنفس واحدة خَيْراً كان حق الكلام لو لا إذ سمعتموه ظننتم بانفسكم خيرا فعدل من الخطاب

الى الغيبة مبالغة في التوبيخ و اشعارا بان الايمان يقتضى حسن الظن بالمؤمنين و الكف عن الطعن فيهم و ذب الطاعنين عنهم كما يذبون عن أنفسهم- و انما جاز الفصل بين لو لا و فعله بالظرف لانه نازل منزلته من حيث انه لا ينفك عنه و لذلك يتسع فيه ما لا يتسع في غيره- و انما قدم الظرف لان ذكر الظرف أهم فان التخصيص على ان لا يخلوا باوله وَ قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) كما يقول المستيقن المطلع على الحال لان الايمان سبب للمدح و التعظيم- فمن اتى بالسبّ و الطعن فقد افك الأمر و قلّبه و صار عاصيا فاسقا بالافتراء او الغيبة و شهادة الفاسق غير مقبولة-

(مسئلة) من لههنا يظهران حسن الظن بالمؤمنين واجب لا يجوز تركه ما لم يظهر بدليل شرعى خلاف ذلك.

١٣

لَوْ لا هلا جاؤُ عَلَيْهِ اى على ما زعموا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ حتى يجب الحد على المقذوف فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ الاربعة فَأُولئِكَ عِنْدَ اللّه هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) فى ادعائهم الحسبة فان من رمى أحدا بالفاحشة فان اتى بالشهداء (حتى حد المقذوف) يحتمل كون إرادته بالرمي الزجر عن المعاصي و ان لم يأت بالشهداء فلا وجه لقذفه الا اشاعة الفاحشة على المسلم دون اقامة حد شرعى فهو كاذب في دعواه الحسبة- و قيل معنى الاية فَأُولئِكَ عِنْدَ اللّه اى في حكمه و شريعته كاذبون حتى أوجب عليهم حد القذف فعلى هذا الظرف متعلق بمضمون قوله تعالى أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ و المعنى فاذ لم يأتوا باربعة شهداء يقام عليهم الحد لكونهم من الكاذبين حكما-

قال البغوي روى عن عائشة انه لما نزلت هذه الآيات حدّ النبي صلى اللّه عليه و سلم اربعة نفر عبد اللّه بن أبيّ و حسان بن ثابت و مسطح بن اثاثة و حمنة بنت جحش.

١٤

وَ لَوْ لا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ ايها المؤمنون بالنبي صلى اللّه عليه و سلم وَ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا بانواع النعم الّتي من جملتها التوفيق للاسلام و ادراك صحبة النبي صلى اللّه عليه و سلم الّتي هى مانعة من نزول العذاب و الامهال و التوبة وَ لو لا فضله و رحمته في الْآخِرَةِ حتى وعدكم فيها بالعفو و المغفرة و الحسنى الى الجنة لَمَسَّكُمْ ايها العصبة في الدنيا و الاخرة فِيما أَفَضْتُمْ اى لاجل ما خضتم فِيهِ من الافك قيل الافاضة بمعنى الاشاعة يقال خبر مستفيض اى شائع عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) كما مس عادا و ثمود و قوم لوط و المؤتفكات في الدنيا ما أوجب الاستيصال و في الاخرة ما لا انقطاع له و لا عذاب فوقه- لهذه الاية في شأن المؤمنين من اهل الافك و بهذا يظهر ان قوله تعالى وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ محض باهل النفاق منهم و هو عبد اللّه بن أبيّ و من كان معه من المنافقين كزيد بن رفاعة فان لو لا لامتناع الشي ء لوجود غيره- فهذه الاية تدل على امتناع العذاب لوجود الفضل و الرحمة و قوله تعالى و الّذي تولى كبره يدل على ثبوت العذاب لهم.

١٥

إِذْ ظرف لمسكم او أفضتم تَلَقَّوْنَهُ حذفت احدى التاءين من تتلقونه بِأَلْسِنَتِكُمْ اى يأخذه بعضكم من بعض بالسؤال عنه قال الكلبي و ذلك ان الرجل منهم يلقى الرجل فيقول بلغني كذا و كذا يعنى فماذا شأنه فيتلقونه تلقيا-

و قال مجاهد يرويه بعضهم من بعض و قال الزجاج تلقه بعضكم من بعض و قرات عائشة إذ تلقونه بكسر اللام و تخفيف القاف من ولق يلق و لقا بمعنى الكذب وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ اى تقولون كلاما مختصّا بالأفواه لا مصداق لها في الخارج و ليس لكم به علم لان العلم فرع الوجود في الخارج وَ تَحْسَبُونَهُ اى خوضكم في الافك هَيِّناً سهلا لا تبعة له وَ هُوَ عِنْدَ اللّه عَظِيمٌ (١٥) يعنى و الحال انه عند اللّه عظيم في الوزر و استجرار العذاب فان قذف المحصنات من كبائر الذنوب و عامة العذاب بما صدر من الألسن لا سيما ما فيه هتك هرمة الرسول- عن معاذ بن جبل قال قلت يا رسول اللّه أخبرني بعمل يدخلنى الجنة و يباعدنى من النار قال لقد سالت عن عظيم و انه ليسير على من يسر اللّه عليه تعبد اللّه و لا تشرك به شيئا و تقيم الصلاة و تؤتى الزكوة و تصوم رمضان و تحج البيت ثم قال الا ادلك على أبواب الخير الصوم جنة و الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار و صلوة الرجل في جوف الليل ثمّ تلا تتجافى جنوبهم عن المضاجع حتى بلغ يعملون ثم قال أ لا أدلك برأس الأمر و عموده و ذروة سنامه قلت بلى يا رسول اللّه قال رأس الأمر الإسلام و عموده الصلاة و ذروة سنامه الجهاد ثم قال الا أخبرك بملاك ذلك كله قلت بلى يا رسول اللّه فاخذ بلسانه و قال كف عليك هذه قلت يا نبىّ اللّه و انّا مواخذون بما نتكلم به قال ثكلتك أمك يا معاذ و هل يكب الناس في النار على وجوههم او على مناخرهم الا حصائد ألسنتهم رواه احمد و الترمذي و ابن ماجة-.

١٦

وَ لَوْ لا هلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ايها المؤمنون هذا الافك و الكلام الباطل من المنافقين قُلْتُمْ ردّا عليهم فصل بين لو لا و فعله بالظرف لانه يتسع فيه ما لا يتسع في غيره و فائدة تقديم الظرف بيان ان الواجب هذا القول على فور الاسماع بالإفك فلما كان ذكر الوقت أهم قدم به ما يَكُونُ لَنا اى ما يصح و لا ينبغى لنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا يجوز ان يكون الاشارة بهذا الى المخصوص و ان يكون الى نوعه- فان تعرض «١» الصديقة بنت الصديق حرم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أشد على النفوس السليمة مع ان قذف أحد من المحصنين محرم شرعا يوجب الفسق و الجلد ورد الشهادة ابدا سُبْحانَكَ اللّهم يعنى تنزه للّه تعالى من ان يكون حرم نبيه فاجرة فان فجورها يرجع بالسوء و السباب الى الزوج- و النبي مبعوث الى الكفار ليدعوهم فيجب ان لا يكون معه ما ينفرهم عنه فجاز ان يكون امراة النبي كافرة كما كانت امراة نوح و امراة لوط عليهما السّلام و لا يجوز ان يكون فاجرة فهذا تقرير لما قبله و تمهيد لقوله هذا بُهْتانٌ اى زور يبهت من يسمع عَظِيمٌ (١٦) لعظمة المبهوت عليه فان حقارة الجنايات و عظمها باعتبار المجنى عليه.

(١) هكذا في الأصل و لعل الأحسن فان التعريض او التعرض بالصديقة إلخ الفقير الدهلوي.

١٧

يَعِظُكُمُ اللّه الوعظ زجر مقترن بتخويف و قال الخليل هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب يعنى يذكركم اللّه عقابه و يخوفكم في أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ لمثل هذا القول القبيح و استماعه أَبَداً ما دمتم احياء او المعنى يزجركم و يخوفكم من مثل هذا القول كراهة ان تعودوا لمثله ابدا

و قال مجاهد ينهاكم اللّه ان تعود و المثلة ابدا و جملة يعظكم صفة لبهتان عظيم او معترضة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) شرط مستغن عن الجزاء بما مضى يعنى ان كنتم مؤمنين فاتعظوا و لا تعود و المثلة ابدا فان الايمان يمنع عنه فمن سبّ عائشة و هم الروافض ليسوا مؤمنين.

١٨

وَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمُ الْآياتِ الدالة على الشرائع من الأوامر و النواهي و محاسن الآداب و الأخلاق وَ اللّه عَلِيمٌ بالمحاسن و المقابح فيأمر بالمحاسن و ينهى عن المقابح او عليم بالأحوال كلها بامر عائشة و براءتها و امر القاذفين و كذبهم حَكِيمٌ (١٨) فى تدابيره لا يجوز نسبة السوء الى نبيه و لا يقرره عليها.

١٩

إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ و هى ما قبح جدّا فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا بالحد وَ الْآخِرَةِ بالنار وَ اللّه يَعْلَمُ ما في الضمائر من الحسبة او اشاعة الفاحشة فيعذب من يريد اشاعة الفاحشة وَ أَنْتُمْ ايها الناس لا تَعْلَمُونَ (١٩) ذلك فعليكم اتباع ظاهر الأمر فمن قذف و كان له شهود اربعة فاحسنوا الظن به و اعلموا انه انما اظهر امر الزنى حسبة لاقامة حد من حدود اللّه و اخلاء العالم عن الشر- و من لم يجد الشهود فاعلموا انه يحب اشاعة الفاحشة حيث لا يمكنه اقامة الحد فعذبوه بحدّ القذف و هو في حكم اللّه من الكاذبين حتى أوجب عليه حدّ المفترين و ان كان صادقا في الواقع.

٢٠

وَ لَوْ لا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ايها المؤمنون الخائضون في امر عائشة وَ أَنَّ اللّه رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠) بكم لعذبكم في الدنيا بالاستيصال و في الاخرة بالنار- المؤبدة لكن اللّه غفركم ببركة صحبة نبيه صلى اللّه عليه و سلم مع الايمان حذف جواب لو لا استغناء بذكره مرة و كرر التخويف و الامتنان للدلالة على

عظم الجريمة- قال ابن عباس أراد اللّه سبحانه بقوله إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ الاية عبد اللّه بن ابى و أصحابه من المنافقين لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا الحد و في الاخرة النار المؤبدة و أراد بقوله.

وَ لَوْ لا ف َضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ مسطحا و حسان و حمنة

٢١

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ اى اثاره باشاعة الفاحشة قرا نافع و البزي و ابو عمرو و أبو بكر و حمزة خطوات بسكون الطاء و الباقون بضمها و قرئ بفتح الطاء وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ اى ما أفرط قبحه عقلا و نقلا وَ الْمُنْكَرِ اى ما أنكره الشرع- بيان لعلة النهى عن اتباعه وَ لَوْ لا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ايها المؤمنون من العصبة بتوفيق التوبة الماحية للذنوب و شرع الحدود المكفرة لها ما زَكى ما طهر من معصية الافك مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ ... من زائدة و محله الرفع أَبَداً اخر الدهر وَ لكِنَّ اللّه يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ بحمله على التوبة و قبولها وَ اللّه سَمِيعٌ لمقالهم عَلِيمٌ (٢١) بنياتهم روى الشيخان و غيرهما في حديث الافك قال أبو بكر الصديق (و كان ينفق على مسطح بن اثاثة لقرابته منه و فقره) و اللّه لا أنفق على مسطح شيئا ابدا بعد الّذي قال لعائشة ما قال فانزل اللّه تعالى.

٢٢

وَ لا يَأْتَلِ اى لا يحلف افتعال من الالية بمعنى القسم او المعنى لا يقصر من الألو بمعنى التقصير- و الاولى هاهنا معنى القسم لما ذكرنا ان أبا بكر كان قد اقسم و يؤيده قراءة ابى جعفر و لا يتالّ بتقديم التاء و تأخير الهمزة من التفعيل «١» من الالية أُولُوا الْفَضْلِ في الدين و هو الظاهر كيلا يلزم التكرار بقوله و السّعة و لان النهى انما هو لاهل الفضل في الدين نظرا الى منزلتهم و فضلهم و إلا فترك بذل ماله في مقابلة الإيذاء ليس بمحرم موثم مِنْكُمْ يعنى أبا بكر و أمثاله و فيه دليل على فضل ابى بكر و شرفه او المعنى و لا يترك أولوا الفضل منكم وَ السَّعَةِ يعنى الغنا في الدنيا فان النفقة عن ظهر غنى

(١) بل من التفعل كالتجلى و التمني- الفقير الدهلوي.

أَنْ يُؤْتُوا اى على ان يؤتوا او في ان يؤتوا أُولِي الْقُرْبى وَ الْمَساكِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللّه يعنى مسطحا و أمثاله فهى صفات لموصوف واحد اى ناسا جامعين لهذه الصفات او الموصوفين أقيمت الصفات مقام موصوفيها فيكون ابلغ في تعليل المقصود لان مسطحا كان مسكينا مهاجرا بدريّا ابن خالة ابى بكر وَ لْيَعْفُوا ما فرط منهم وَ لْيَصْفَحُوا بالإغماض عنه أَ لا تُحِبُّونَ يا اولى الفضل و السعة أَنْ يَغْفِرَ اللّه لَكُمْ ما فرطتم في جنب اللّه لاجل عفوكم و صفحكم و إحسانكم الى من أساء إليكم وَ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) مع كثرة آلائه و حقوقه و كمال قدرته على الانتقام فتخلقوا بأخلاقه روى الشيخان و غيرهما في ذلك القصة انه لما نزل هذه الاية قال أبو بكر و اللّه انى أحب ان يغفر اللّه لى و رجع الى مسطح النفقة الّتي كان ينفق عليه قال و اللّه لا انزعها منه ابدا عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليس الواصل المكافي و لكن الواصل الّذي إذا قطعت رحمه وصلها- رواه البخاري قال ابن عباس و الضحاك اقسم ناس من الصحابة منهم أبو بكر ان لا يتصدقوا على رجل تكلم بشي ء من الافك و لا ينفعوهم فانزل اللّه هذه الاية.

٢٣

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ العفيفات الْغافِلاتِ عن الفاحشة اللائي لا تقع الفاحشة في قلوبهن الْمُؤْمِناتِ باللّه و رسوله لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ لما طعنوا فيهن كذبا وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) فى نار جهنم و لهذا حكم كل قاذف قذف محصنة مؤمنة غافلة و قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ الاية حكم كل قاذف محصنة غافلة كانت اولا- فالجلد و عدم قبول الشهادة حكم كل قاذف سواء كان في قذفه صادقا لم يجد الشهود او كان كاذبا و اللعن يختص بمن قذف كاذبا فان المقذوفة غافلة عما افترى عليها فان جريمته أعظم و اكبر لكنه لا يستلزم الكفر إذ اللعن منها ما يستحقه بعض من ارتكب الكبائر دون الكفر كقاتل النفس عمدا- و قال مقاتل هذا الحكم خاص في عبد اللّه بن ابى و مطمح نظره ان اللعن يختص بالكفار اخرج الطبراني عن خصيف قال قلت لسعيد بن جبير أيهما أشد الزنى او القذف قال الزنى قلت ان اللّه يقول إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ قال ذلك لعائشة خاصة- و في اسناده يحيى الحماني ضعيف و كذا ذكر البغوي عن خصيف و روى عن العوام بن حوشب عن شيخ من بنى كاهل عن ابن عباس قال هذه في شأن عائشة و ازواج النبي صلى اللّه عليه و سلم خاصة ليس فيها توبة- و من قذف امراة مؤمنة فقد جعل اللّه له توبة ثم قرا وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ الى قوله إِلَّا الَّذِينَ تابُوا فجعل لهؤلاء توبة و لم يجعل لاولئك توبة- و كذا اخرج الطبراني عن الضحاك بن مزاحم ان الاية في نساء النبي صلى اللّه عليه و سلم خاصة و قال الآخرون نزلت هذه الاية في ازواج النبي صلى اللّه عليه و سلم كان ذلك كذلك حتى نزلت الاية الّتي في أول السورة وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ الى قوله تعالى فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ- فانزل اللّه الجلد و التوبة-

قلت و مبنى هذه الأقوال أمران أحدهما ان سبب نزول الاية كان قصة الافك و ثانيهما ان اللعن لم يرد في شي ء من المعاصي غير الكفر لكن خصوص السبب لا يقتضى تخصيص عموم الاية و العبرة لعموم اللفظ- و اللعن قد ورد على بعض الكبائر كقتل النفس عمدا و عدم ذكر التوبة و المغفرة في هذه الاية لا يقتضى عدم قبول التوبة و عدم المغفرة مطلقا- و قد قال اللّه تعالى إِنَّ اللّه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فلا وجه لتخصيص عموم الاية و اللّه اعلم.

٢٤

يَوْمَ تَشْهَدُ قرا حمزة و الكسائي بالياء التحتانية لتقدم الفعل و الفصل و الباقون بالتاء الفوقانية و الظرف متعلق بما في لهم من معنى الاستقرار لا للعذاب لانه موصوف عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) روى ابن جرير و ابن ابى حاتم عن ابى موسى الأشعري قال يدعى المؤمن للحساب يوم القيامة فيعرض عليه ربّه عمله فيما بينه و بينه فيعترف و يقول اى رب عملت عملت فيغفر اللّه ذنوبه و يستره منها قال فما على الأرض خليقة يرى من تلك الذنوب شيئا و تبدوا حسناته فرووا الناس كلهم يرونها- و يدعى الكافر و المنافق للحساب فيعرض عليه ربّه عمله فيجحده فيقول اى رب و عزتك لقد كتب علىّ هذا الملك ما لم اعمل فيقول الملك اما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا فيقول لا و عزتك فاذا فعل ذلك ختم على فيه قال ابو موسى فانى احسب أول ما ينطق منه فخذه اليمنى ثم تلا اليوم نختم على أفواههم الاية

و اخرج ابو يعلى و الحاكم و صححه عن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه و سلم نحوه

و اخرج احمد بسند جيد و الطبراني عن عقبة بن عامر سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ان أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل الشمال-

و اخرج احمد و النسائي و الحاكم و صححه و البيهقي عن معاوية بن جيدة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال يجيئون يوم القيامة على أفواههم الفدام فاول ما يتكلم من الآدمي فخذه و كفه- و روى مسلم عن ابى هريرة حديثا طويلا في روية اللّه «١» سبحانه و فيه فينطق فخذه و لحمه و عظمه بعمله و ذلك المنافق الّذي يسخط اللّه عليه-

فان قيل قال اللّه سبحانه هاهنا تشهد عليهم ألسنتهم و قال في موضع اخر الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ فما وجه التطبيق

قلنا المراد بقوله نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ انهم لا ينطقون بإرادتهم و ذلك لا ينافى شهادة الالسنة عليهم من غير اختيارهم و اللّه اعلم- قال القرطبي و انما يشهد الأعضاء على من قرا كتابه و لم يعترف بما فيه و جحد و خاصم فيشهد عليه جوارحه بسيئاته-

قلت فهذه الاية تدل على ان ما سبق من الاية في عبد اللّه بن أبيّ كما قال قتادة و اللّه اعلم

(١) و قد راجعت الصحيح لمسلم و لم أحده في باب روية اللّه سبحانه و تعالى و الحديث المذكور في كتاب الزهد في فصل في بيان ان الأعضاء منطقة شاهدة يوم القيامة في المجلد الثاني من الصحيح لمسلم رحمة اللّه تعالى- الفقير الدهلوي.

٢٥

يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللّه دِينَهُمُ الْحَقَّ اى جزاءهم الواجب و قيل حسابهم العدل وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّه هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) اى الثابت الموجود بذاته موجد الأشياء كلها جواهرها و اعراضها قيوم الحقائق بأسرها وجودات ما سواه كانها ظلال لوجوده المتأصل الظاهر ألوهيته لا يشاركه في ذلك غيره و لا يقدر على الثواب و العقاب سواه او ذو الحق البين اى الظاهر عدله او المبين ما كان يعدهم في الدنيا- قال ابن عباس و ذلك ان عبد اللّه بن أبيّ كان يشك في الدين فيعلم يوم القيامة أَنَّ اللّه هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ-

قلت لعل معنى قول ابن عباس رضى اللّه عنهما ان الناس لا سيما الكفار منهم يزعمون للّه وجودا موهوما حتى ليسندون الحوادث الى الدهر او الكواكب او نحو ذلك و يحسبون النفع و الضر من العباد لا يخافون اللّه كما يخافون سلاطين الدنيا- فاذا كان يوم القيامة يبدأ لهم ما لم يكونوا يحتسبون و يعلمون انّ اللّه هو الحقّ المبين-.

٢٦

الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَ الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ قال اكثر المفسرين معناه الخبيثات من الكلمات يعنى كلمات الذم و التحقير و الشتم و نحو ذلك يستحقها الخبيثون من الناس و الخبيثون من الناس يستحقون الذم و نحو ذلك و الطيبات من الكلمات من المدح و الثناء و الدعاء يستحقها الطيبون و الطيبون يستحقون الطيبات فعائشة تستحق الثناء و الصلاة و السلام و الدعاء دون ما قيل فيه من الافك أُولئِكَ يعنى عائشة و أمثالها مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ فيهم اهل الافك من الكلمة الخبيثة و قال الزجاج الخبيثات من الكلمات ككلمة الكفر و الكذب و سبّ الصحابة و اهل البيت و قدف المحصنات و أمثال ذلك للخبيثين من الناس نحو عبد اللّه بن ابى لا يتكلم بها الطيبون و الخبيثون خلقوا و جبلوا لتلك الكلمات الخبيثة و الطيبات من الكلمات كذكر اللّه و تلاوة القرآن و الصلاة و السلام على النبي و اهل بيته و الدعاء بالمغفرة للمؤمنين و المؤمنات ميسر للطيبين من الناس و الطيبون من الناس خلقوا مستعدين للطيبات من الكلمات- أولئك يعنى الطيبين من الناس مبرءون من ارتكاب ما قاله اهل الافك و نحو ذلك فهو ذم للقاذفين و مدح للذين برّاهم اللّه- و قال ابن زيد الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال يعنى غالبا و الخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء- و الطيبات من النساء للطيبين من الرجال و الطيبون من الرجال للطيبات من النساء يعنى في الأغلب ...

فعائشة طيبة و لذلك اختارها اللّه تعالى لازدواج رسوله الطيب الطاهر صلى اللّه عليه و سلم أولئك يعنى عائشة و أمثالها مبرءون مما يقول فيهم اهل الافك و لو لم تكن عائشة طيبة لما صلحت لمصاحبة النبي صلى اللّه عليه و سلم فكانّ هذه الاية بمنزلة البرهان على كذب اهل الافك- عن هند بن ابى هالة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه ابى ان أتزوج او أزوج الا اهل الجنة رواه ابن عساكر لَهُمْ يعنى لعائشة و أمثالها من المؤمنين الطيبين مَغْفِرَةٌ من الذنوب وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦) يعنى الجنة

قال البغوي روى ان عائشة رضى اللّه عنها كانت تفتخر بأشياء أعطيتها و لم تعط امراة غيرها منها ان جبرئيل اتى بصورتها في خرقة من حرير و قال هذه زوجتك-

قلت رواه الترمذي عن عائشة و روى انه اتى بصورتها في راحته و ان النبي صلى اللّه عليه و سلم لم يتزوج بكرا غيرها و قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و رأسه في حجرها و دفن في بيتها و كان ينزل عليه الوحى و هو معها في لحافه و نزلت براءتها من السماء و انها ابنة خليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و صديقة طيبة و وعدت مغفرة و رزقا كريما- و كان مسروق إذا روى عن عائشة قال حدثتنى الصديقة ابنة الصديق حبيبة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المبراة من السماء

قال البيضاوي و لو فتشت وعيدات القران لم تجدا غلظ مما نزل في افك عائشة رضى اللّه عنها في الصحيحين عن عائشة قالت قال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اريتك في المنام ثلاث ليال يجئى بك الملك في سرقة «١» من حرير فقال لى هذه امرأتك فكشفت عن و مهك

(١) فى سرقة من حرير اى قطعة من جيد الحرير و جمعها سرق مجمع البحار- الفقير الدهلوي.

الثوب فاذا أنت هى فقلت ان يكن هذا من عند اللّه يمضيه- و في الصحيحين عنها قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يا عائشة هذا جبرئيل يقرؤك السلام قلت و عليه السلام و رحمة اللّه قالت و هو يرى ما لا ارى- و عنها قالت ان الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة يبتغون بذلك مرضاة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم- و قالت ان نساء رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كن حزبين فحزب فيه عائشة و حفصة و صفية و سودة و الحزب الاخر أم سلمة و سائر نساء رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فكلمه حزب أم سلمة فقلن لها كلمى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يكلم الناس فيقول من أراد ان يهدى الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فليهد اليه حيث كان- فكلمته فقال لا تؤذيني في عائشة فان الوحى لم يأتنى و انا في ثوب امراة الا عائشة قالت أتوب الى اللّه من اذاك يا رسول اللّه- ثم انهن دعون فاطمة رضى اللّه عنها و عنهن فارسلن الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فكلمته فقال يا بنيه الا تحبين ما أحب قالت بلى قال فاحبى هذه متفق عليه و في الصحيحين من حديث ابى موسى و فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام- و عن ابى موسى قال ما أشكل علينا اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حديث قط فسالنا عائشة الا وجدنا عندها منه علما- رواه الترمذي و عن موسى بن طلحة قال ما رايت أحدا افصح من عائشة- رواه الترمذي

قال البيضاوي برّا اللّه اربعة باربعة برّا يوسف بشاهد من اهل زليخا و موسى من قول اليهود فيه بالحجر الّذي ذهب بثوبه و مريم بانطاق ولدها و عائشة بهذه الآيات مع تلك المبالغات و ما ذلك الا لاظهار منصب الرسول صلى اللّه عليه و سلم و إعلاء منزلته قلت و اظهار منزلتها من اللّه و رسوله صلى اللّه عليه و سلم و اللّه اعلم- اخرج الفرياني و ابن جرير عن عدى بن ثابت قال جاءت امراة من الأنصار فقالت يا رسول اللّه انى أكون في بيتي على حال لا أحب ان يرانى عليها أحد و انه لا يزال يدخل علىّ رجل من أهلي و انا على تلك الحال فكيف اصنع فنزلت.

٢٧

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ الّتي تسكنونها و ليست الاضافة للملك فان المؤجر و المعير ايضا لا يدخلان الا بإذن الساكن حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا يعنى حتى تستأذنوا يدل على ما روى انه كان ابن عباس يقرا حتّى تستأذنوا و كذلك كان يقرا أبيّ بن كعب و الانس في اللغة ضد الوحشة و الابصار و الاحساس و العلم-

و اخرج ابن ابى حاتم عن ابى سورة ابن أخي ابى أيوب قال قلت يا رسول اللّه هذا السلام فما الاستيناس قال يتكلم الرجل بتسبيحة و تكبيرة و تحميدة و يتنحنح فيؤذن اهل البيت- قال في القاموس أنسه ضد الوحشة و انس الشي ء أبصره و علمه و احسه و الصوت سمعه- و قال الخليل الاستيناس الاستبصار من قوله آنَسْتُ ناراً اى أبصرت و انما عبر الاستيذان بالاستيناس لان المستأذن متوحش خائف ان لا يؤذن له فاذا اذن استأنس لان المستأذن مستعلم للحال مستكشف انه هل يراد دخوله اولا- او استفعال من الانس يعنى متعرف هل ثمه انسان وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها اى على ساكنيها يعنى ان يقولوا السلام عليكم عن انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال يا بنى إذا دخلت على أهلك فسلم تكون بركة عليك و على اهل بيتك- رواه الترمذي و اختلفوا في انه هل يقدم الاستيذان او السلام فقال قوم يقدم الاستيذان لتقدمها في الاية و لا دليل فيه لان الواو لمطلق الجمع دون الترتيب و في مصحف ابن مسعود حتّى تسلّموا على أهلها و تستأذنوا- و الأكثرون على انه يقدم السلام لحديث كلدة بن حنبل قال دخلت على النبي صلى اللّه عليه و سلم و لم اسلم و لم استأذن فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم ارجع فقل السلام عليكم ء ادخل- رواه ابو داود و الترمذي و عن جابر ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال لا نأذنوا لمن لم يبدا بالسلام-

رواه البيهقي في شعب الايمان

قال البغوي عن ابن عمران رجلا استأذن عليه فقال ء أدخل فقال ابن عمر لا فامر بعضهم الرجل ان يسلّم فسلّم فاذن له- و قال بعضهم ان وقع بصره على انسان قدم السلام و الا قدم الاستيذان ثم سلّم- و قال ابو موسى الأشعري و حذيفة يستأذن على ذوات المحارم- و مثله عن الحسن عن عطاء بن يساران رجلا سال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال استأذن «١» على أمي فقال نعم فقال الرجل انى معها «٢» فى البيت فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم استأذن عليها فقال الرجل انى خادمها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم استأذن عليها أ تحب ان تراها عريانة قال لا قال فاستأذن عليها- رواه مالك مرسلا

(مسئلة) إذا دعى أحد فجاء مع الرسول فلا حاجة الى الاستئذان بحديث ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال إذا دعى أحدكم فجاء مع الرسول فان ذلك له اذن- رواه ابو داود و في رواية له رسول الرجل الى الرجل اذنه ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ من ان تدخلوا بغتة او من تحية الجاهلية عن عمران بن حصين قال كنافى الجاهلية نقول أنعم اللّه بك عينا و أنعم صباحا فلمّا كان الإسلام نهينا عن ذلك- رواه ابو داود لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧).

(١) استاذن بتقدير همزة الاستفهام- الفقير الدهلوي.

(٢) انى معها إلخ كانه يعنى ان الاستيذان انما يكون لاجنبى يدخل أحيانا ١٢ الفقير الدهلوي.

٢٨

فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها اى في البيوت أَحَداً يأذن لكم فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ يعنى حتى يأتى ساكنها و يأذن لكم في الدخول فان المانع من الدخول ليس الاطلاع على العورات فقط بل و على ما يخفيه الناس من الناس- مع ان التصرف في ملك الغير بغير اذنه محظور و استثنى ما إذا عرض فيه حرق او غرق او كان فيه منكر و نحوها وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا و لا تلحوا في الدخول هُوَ أَزْكى لَكُمْ اى الرجوع ازكى لكم من الإلحاح في الدخول و الوقوف على الباب لما فيه من الكراهة و ترك المروة- و في حكم الأمر بالرجوع ان لا يأذن له صاحب البيت بعد الاستيذان ثلاث مرات لحديث ابى سعيد الخدري قال أتانا ابو موسى فقال ان عمر أرسل الىّ ان اتيه فاتيت بابه فسلمت ثلاثا فلم يرد على فرجعت فقال ما منعك ان تأتينا فقلت الى أتيت فسلمت على بابك ثلاثا فلم ترد علىّ فرجعت و قد قال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع فقال عمر أقم عليه البيّنة قال ابو سعيد فقمت معه فذهبت الى عمر فشهدت متفق عليه و عن ابى أيوب الأنصاري مرفوعا التسليم ان يقول السلام عليكم ء أدخل ثلاث مرات فان اذن له دخل و الا رجع- رواه ابن ماجة

قال البغوي و رواه بشر بن سعيد عن ابى سعيد الخدري و فيه قال قال ابو موسى الأشعري قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع- قال الحسن الاول اعلام و الثاني مؤامرة و الثالث استئذان بالرجوع و عن انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم استأذن على سعد بن عبادة فقال السلام عليكم و رحمة اللّه فقال سعد و عليكم السّلام و رحمة اللّه و لم يسمع النبي صلى اللّه عليه و سلم حتى سلم ثلاثا و لم يسمعه فرجع النبي صلى اللّه عليه و سلم فاتبعه سعد فقال يا رسول اللّه بابى أنت و أمي ما سلمت تسليمة الا هى بأذنى و لقد رددت عليك و لم أسمعك أحببت ان استكثر من سلامك و من البركة- ثم دخلوا البيت فقرب له زبيبا فاكل النبي صلى اللّه عليه و سلم- فلمّا فرغ قال أكل طعامكم الأبرار و صلت عليكم الملائكة و أفطر عندكم الصائمون- رواه البغوي في شرح السنة

(مسئلة) إذا حضر أحد على باب أحد فلم يستأذن و قعد على الباب منتظرا حتى يخرج جاز كان ابن عباس يأتى باب الأنصاري لطلب الحديث فيقعد على الباب حتى يخرج و لا يستأذن فيخرج الرجل و يقول يا ابن عم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو أخبرتني فيقول هكذا أمرنا ان نطلب العلم-

قلت و يدل على هذا قوله تعالى وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ

(مسئلة) إذا وقف أحد على باب أحد للاستئذان لا يستقبل الباب من تلقاء وجهه إذا لم يكن هناك ستر و لا ينظر من شق الباب إذا كان مردودا لحديث عبد اللّه بن بسر قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا اتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه و لكن من ركنه الايمن او الأيسر فيقول السّلام عليكم السّلام عليكم و ذلك ان الدور لم يكن يومئذ عليها ستور- رواه ابو داؤد و عن سهل بن سعد الساعدي ان رجلا اطلع على النبي صلى اللّه عليه و سلم من ستر الحجرة و في يد النبي صلى اللّه عليه و سلم مدرى «١» فقال لو اعلم ان هذا ينظرنى لطعنت بالمدرى في عينه و هل جعل الاستيذان إلا من أجل البصر- رواه البغوي و عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لو ان امرا اطلع عليك بغير اذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح رواه احمد و الشيخان في الصحيحين وَ اللّه بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) فيعلم ما تأتونه و ما تذرونه مما خوطبتم به اخرج ابن ابى حاتم عن مقاتل بن حيان قال لما نزلت اية الاستئذان في البيوت قال أبو بكر يا رسول اللّه فكيف بتجار قريش الذين يختلفون بين مكة و المدينة و الشام و لهم بيوت معلومة على الطريق فكيف يستأذنون و يسلمون و ليس فيها سكان فانزل اللّه عزّ و جلّ.

(١) مدرى إلخ في مجمع البحار المدرى و المدراة شي ء يعمل من حديد او خشب على شكل سن من أسنان المشط و أطول منه ١٢ الفقير الدهلوي. [.....].

٢٩

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا اى في ان تدخلوا متعلق بجناح لتضمنه معنى المؤاخذة او بعليكم بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ من غير استئذان فِيها مَتاعٌ اى منفعة لَكُمْ حال من بيوتا

قال البغوي اختلف في هذه البيوت قال قتادة هى الخانات و البيوت و المنازل المبنية للسايلة ليأووا إليها و يأووا إليها أمتعتهم جاز دخولها بغير استئذان فالمنفعة فيها النزول و إيواء المتاع و الاتقاء من الحرّ و البرد- و قال ابن زيد هى بيوت التجار و حوانيتهم الّتي بالأسواق يدخلها الناس للبيع و الشراء و هو المنفعة- و قال ابراهيم النخعي ليس على حوانيت السوق اذن و كان ابن سيرين إذا جاء الى الحانوت الّتي في السوق يقول السّلام عليكم ء أدخل ثم يلج و قال عطاء هى البيوت الخربة و المتاع هى قضاء الحاجة فيها من البول و الغائط- و قيل هى جميع البيوت الّتي لا ساكن لها لان الاستئذان انما شرع لئلا يطلع على عورة أحد فاذا لم يخف ذلك فله الدخول من غير استئذان وَ اللّه يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ (٢٩) وعيد لمن دخل لفساد او اطلاع على عورات الناس.

٣٠

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ عن النظر الى ما لا يحل النظر اليه عن الحسن مرسلا قال بلغني ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لعن اللّه الناظر و المنظور إليها رواه البيهقي في شعب الايمان يغضوا صيغة امر بحذف اللام و من زائدة على قول الأخفش فانه يجوز زيادة من في كلام الموجب عنده و عند سيبويه من للتبعيض لان المؤمنين غير مأمورين بغض الابصار مطلقا بل بالغض عما لا يحل النظر اليه بل المنهي عنه النظرة الثانية الّتي يكون بالارادة دون الاولى الّتي لا تكون بالارادة لحديث بريدة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لعلى يا على لا تتبع النظرة النظرة فان لك الاولى و ليس لك الاخرة- رواه احمد و الترمذي و ابو داود و الدارمي و عن جرير بن عبد اللّه قال سالت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن نظرة الفجاة فامرنى ان اصرف رواه مسلم و عن ابى امامة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ما من مسلم ينظر الى محاسن امراة أول مرة ثم يغض بصره الا أحدث اللّه له عبادة يجد حلاوتها- رواه احمد وَ يَحْفَظُوا اى ليحفظوا فُرُوجَهُمْ الّا على أزواجهم او ما ملكت ايمانهم فانّهم غير ملومين و لمّا كان الاستثناء معلوما بالضرورة عقلا و نقلا حذف من اللفظ- قال ابو العالية كل ما وقع في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنى و الحرام الا في هذا الموضع فانه أراد به الاستتار حتى لا يقع البصر عليه عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم احفظ عورتك الا من زوجتك او ما ملكت يمينك قلت يا رسول اللّه أ فرأيت إذا كان الرجل خاليا قال فاللّه أحق ان يستحيى منه- رواه الترمذي و ابو داود و ابن ماجة و عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إياكم و التعري فان معكم من لا يفارقكم الا عند الغائط و حين يفضى الرجل الى اهله فاستحيوهم و أكرموهم- رواه الترمذي ذلِكَ اى غض البصر و حفظ الفرج أَزْكى لَهُمْ اى انفع لهم او اطهر لما فيه من التباعد عن الزنى إِنَّ اللّه خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) لا يخفى عليه اجالة أبصارهم و استعمال سائر حواسهم و تحريك جوارحهم و ما يقصدون بها فليكونوا على حذر منه اخرج ابن ابى حاتم عن مقاتل قال بلغنا ان جابر بن عبد اللّه حدث ان اسماء بنت مرثد كانت في نخل لها فجعل النساء يدخلن عليها غير متازّرات فيبدو ما في أرجلهن يعنى الخلاخل و تبدو صدورهن و ذوائبهن فقالت اسماء ما أقبح هذا فانزل اللّه في ذلك.

٣١

وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ اى ليغضضن عمّا لا يحل النظر اليه و هذه الاية تدل على انه لا يجوز للمرءة النظر الى الرجل الأجنبي مطلقا و به قال الشافعي- و قال ابو حنيفة جاز لها ان ينظر من الرجل الى ما ينظر الرجل اليه إذا امنت الشهوة- احتج الشافعي بحديث أم سلمة انها كانت عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ميمونة رضى اللّه عنهما إذا قبل ابن أم مكتوم فدخل عليه (و ذلك بعد ما أمرنا بالحجاب) فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم احتجبا منه فقلت يا رسول اللّه ا ليس هو أعمى لا يبصرنا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم افعميا و ان أنتما أ لستما تبصر انه- رواه احمد و ابو داود و الترمذي و احتج ابو حنيفة بحديث ابن عباس قال جاءت امراة من خثعم عام حجة الوداع قالت يا رسول اللّه ان فريضة اللّه على عباده في الحج أدركت ابى شيخا كبيرا لا يستطيع ان يستوى على الراحلة فهل يقضى عنه ان أحج عنه قال نعم قال ابن عباس كان الفضل ينظر إليها و تنظر اليه فجعل النبي صلى اللّه عليه و سلم يصرف وجه الفضل الى الشق الاخر الحديث- رواه البخاري و رواه الترمذي من حديث علىّ نحوه و زاد فقال العباس لوّيت عنق ابن عمك فقال رايت شابّا و شابة فلم أمن عليهما الشيطان صححه الترمذي و استنبط ابن القطان من هذا الحديث جواز النظر عند الامن من الفتنة من حيث انه لم يأمرها بتغطية وجهها و لو لم يفهم العباس ان النظر جائرة ما سال و لو لم يكن ما فهم لما أقرّه عليه و بحديث فاطمة بنت قيس ان زوجها طلقها فبتّ طلاقها فامرها النبي صلى اللّه عليه و سلم ان تعتد في بيت ابن أم مكتوم و هذا يدل على جواز نظر المرأة الى الأعمى و نحوه يعنى عند الامن من الشهوة-

(مسئلة) و لا يجوز للمرءة النظر الى عورة المرأة يعنى تحت السرة الى الركبة و لا للرحل النظر الى عورة الرجل لحديث ابى سعيد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا ينظر الرجل الى عورة الرجل و لا المرأة الى عورة المرأة- و لا يفضى الرجل الى الرجل في ثوب واحد و لا يفضى المرأة الى المرأة في ثوب واحد- رواه مسلم وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ كالحلى و الثياب و الاصباغ فضلا عن مواضعها إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها عند مزاولة الأشياء كالثياب و الخاتم فان في سترها حرجا و قيل المراد بالزينة مواضع الزينة على حذف المضاف او ما يعم المحاسن الخلقية و التزينية- و المستثنى هو الوجه و الكفان و ابى حنيفة و مالك و احمد و الشافعي لما روى الترمذي من طريق عبد اللّه بن مسلم بن هرمز عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال الوجه و الكفان و من طريق عطاء عن عائشة نحوه و في رواية المستثنى الوجه و الكفان و القدمان و المشهور عن الشافعي الوجه فقط لما روى الطبراني من طريق مسلم الأعور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال هى الكحل و تابعه خصيف عن عكرمة عن ابن عباس عند البيهقي فالوجه مستثنى باتفاق العلماء الاربعة و الكفان عند ابى حنيفة و مالك و في رواية للشافعى و احمد- لكن في مختلفات قاضى خان ان ظاهر الكف و باطنه ليسا عورتين الى الرسغ و في ظاهر الرواية ظاهره عورة كذا قال ابن همام- و القدمان عورة الا في رواية عن ابى حنيفة و الحجة على كون القدمين عورة حديث أم سلمة انها سالت النبي صلى اللّه عليه و سلم اتصلي المرأة في درع و خمار و ليس لها إزار فقال لا بأس إذا كان الدرع سابغا يغطى ظهور قدميها رواه ابو داود و الحاكم و أعله عبد الحق بان مالكا و غيره رووه موقوفا و هو الصواب و قال ابن الجوزي في رفعه مقال لانه من رواية عبد الرحمان بن عبد اللّه و قد ضعفه يحيى و قال ابو حاتم الرازي لا يحتج به- و ايضا قوله تعالى وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ يدل على ان الخلخال من الزينة الباطنة فموضعه يعنى القدم عورة-

قال البيضاوي الأظهر ان هذا في الصلاة لا في النظر فان كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج و المحرم النظر الى شي ء منها الا لضرورة كالمعالجة و تحمل الشهادة- و في كتب الحنفية كون وجه الحرة خارجا عن العورة غير مختص بالصلوة قال في الهداية لا يجوز ان ينظر الرجل الى الاجنبية الا وجهها و كفيها لقوله تعالى وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ الا ما ظهر منها و لان في إبداء الكف و الوجه ضرورة لحاجتها الى المعاملة مع الرجال أخذا و إعطاء و غير ذلك- فان كان الرجل لا يأمن من الشهوة لا ينظر الى وجهها الا لحاجة كتحمل الشهادة و أدائها و القضاء- و لا يباح إذا شك في الاشتهاء كما إذا علم او كان اكبر زأيه ذلك قلت و مذهب ابى حنيفة يؤيده ما رواه ابو داؤد مرسلا الجارية «١» إذا حاضت لم يصلح يرى منها الا وجهها و يدها الى المفصل-

قلت إبداء المرأة زينتها الخفية لغير اولى الاربة من الرجال جائز اجماعا ثابت بنص الكتاب لعدم خوف الفتنة فابداء

(١) و في النسخة الّتي بايدينا ان المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها ان يرى منها الا هذا و هذا و أشار (اى النبي صلى اللّه عليه و سلم) الى وجهه و كفيه قال ابو داود هذا مرسل ١٢ الفقير الدهلوي.

زينتها الظاهرة لهم اولى بالجواز و نظر الرجل الى وجه امرأة اجنبية إذا شك في الاشتهاء لا يجوز على ما قال صاحب الهداية ايضا- و قال ابن همام حرم النظر الى وجهها و وجه الأمرد إذا شك في الشهوة و يلزم هذا الحكم الحكم بان لا تبدو المرأة وجهها لرجل اجنبى إذا شك منه الشهوة و الا لكان تعرضا للفساد و زوال احتمال الشهوة من الرجل الأجنبي ذى الاربة للمرءة الاجنبية غير متصور فيلزمنا القول بانه لا يجوز للمرءة الحرة إبداء وجهها لرجل ذى اربة غير الزوج و المحرم فان عامة محاسنها في وجهها فخوف الفتنة في النظر الى وجهها اكثر منه في النظر الى سائر اعضائها و قد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المرأة عورة فاذا خرجت استشرفها الشيطان- رواه الترمذي عن ابن مسعود فان هذا الحديث يدل على انها كلها عورة غير ان الضرورات مستثناة اجماعا- و الضرورة قد تكون بان لا تجد المرأة من يأتى بحوائجها من السوق و نحو ذلك فتخرج متقنعة كاشفة احدى عينيها لتبصر الطريق- فان لم تجد ثوبا سائغا تخرج فيما تجد من الثياب ساترة ما استطاعت و قد تكون إذا احتاجت الى الطّبيب او الشهود او القاضي- فالمراد بالزينة في الاية ان كان نفس الزينة كما فسرناه تبعا لما

قال البيضاوي بالحلى و الثياب و الاصباغ- و يكون حينئذ تحريم إبداء مواضع الزينة بدلالة النص بالطريق الاولى فلا خفاء على هذا في تأويل الاستثناء- حيث يقال معنى إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها الا ثيابها الظاهرة

قال البغوي قال ابن مسعود هى الثياب بدليل قوله تعالى خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ و أراد به الثياب- و ان كان المراد بها مواضع الزينة فمعنى الاستثناء الّا ما ظهر منها عند الضرورات ضرورة الخروج لقضاء الحوائج او ضرورة الاستشهاد او نحو ذلك يعنى من غير قصد الى ابدائها فاستثناء الوجه و الكفين من عورة الحرة ليس الا لاجل الصلاة- و يدل على عدم جواز إبداء المرأة وجهها قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ الاية- قال ابن عباس و ابو عبيدة أمرت نساء المؤمنين ان يغطين رءوسهن و وجوههن بالجلابيب الا عينا واحدا يعلم انهن حرائر- و ما ذكرنا من حديث جاءت امراة من خثعم عام حجة الوداع سائلة مسئلة قضاء الحج عن أبيها محمول على جواز خروجها لضرورة السؤال عن المسألة و ما ذكر من ان الفضل كان ينظر إليها و تنظر اليه فجعل النبي صلى اللّه عليه و سلم يصرف وجه الفضل الى الشق الاخر صريح في المنع عن النظر الى وجه المرأة الاجنبية لعدم الا من عليهما من الشيطان-

(مسئلة) هذه الاية مختص حكمها بالحرائر من النساء اجماعا- و اما الإماء سواء كن قنات او مكاتبات او مدبرات او أمهات أولاد فيجوز لهن ابدأ الرأس و الوجه و الساقين و الساعدين فان عورة الامة عند مالك و الشافعي و احمد كعورة الرجل من السرة الى الركبة و زاد ابو حنيفة بطنها و ظهرها- و قال اصحاب الشافعي كلها عورة الا مواضع التقليب منها و هى الرأس و الساعدات و الساق روى الشيخان في الصحيحين في قصة صفية ان حجبها فهى زوجة و ان لم يحجبها فهى أم ولد- و هذا الحديث يدل على ان الامة تخالف الحرة فيما تبديه و قال انس مرت بعمر بن الخطاب رضى اللّه عنه جارية متقنعة فعلاها بالدرة و قال يا لكاع «١» أ تشتبهين بالحرائر القى القناع- و ايضا قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ايضا بمفهومه يدل على ان حكم الامة غير حكم الحرة قلت و جاز ان يكون حكم هذه الاية شاملة للاماء ايضا و انما جاز لها إبداء الراس و الساعدين و الساق للاستثناء- فان خروجها لخدمة المولى كثير و ثياب مهنتها قصيرة فهذه الأعضاء تظهر منها غالبا بالضرورة و اللّه اعلم

(١) و الرواية الصحيحة يا لكعاء أ تشبهين بالحرائر قال في مجمع البحار و المرأة لكاع كقطام و اكثر مجيئه في النداء و هو اللئيم ١٢ الفقير الدهلوي.

وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ اى يضعن خمرهن من ضرب يده على الخائط اى وضعها عَلى جُيُوبِهِنَّ سترا لشعورهن و صدورهن و أعناقهن و قرطهن-

قال البغوي قالت عائشة رضى اللّه عنها رحم اللّه النساء المهاجرات الاول لمّا انزل اللّه تعالى وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ شققن مروطهن فاختمرن به قرا نافع و عاصم و هشام بضم الجيم و الباقون بكسرها وَ لا يُبْد ِينَ زِينَتَهُنَ الاضافة للعهد يعنى زينتهن المستثناة منها ما ظهر منها كرره لبيان من يحل له الإبداء و من لا يحل له إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ فلهم هم المقصودون بالزينة و لهم ان ينظروا الى جميع أبدانهن حتى فروجهن لكنه يكره النظر الى الفرج لقوله صلى اللّه عليه و سلم إذا اتى أحدكم اهله فليستتر و لا يتجردان تجرد العيرين- رواه الشافعي و الطبراني و البيهقي عن ابن مسعود عن عتبة بن عنبر و النسائي عن عبد اللّه بن سرجس و الطبراني ايضا عن ابى امامة و روى ابن ماجة عن عائشة قالت ما نظرت او ما رايت فرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قط أَوْ آبائِهِنَّ و كذا اباء الآباء و اباء الأمهات و ان علوا بدلالة النص و الإجماع أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ كذلك أَوْ أَبْنائِهِنَّ و أبناء الأبناء و أبناء البنات و ان سفلوا بدلالة النص و الإجماع أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ كذلك أَوْ إِخْوانِهِنَّ سواء كانوا من اب او من أم أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ و بنى أبنائهم و أبناء بناتهم و ان سفلوا أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ او أبناء أبنائهن او أبناء بناتهن و ان سفلوا أباح اللّه تعالى للنساء إبداء محاسنهن لهؤلاء لكثرة مداخلتهم عليهن و احتياجهن الى مداخلتهم و عدم توقع الفتنة من قبلهم الا نادرا لما في الطباع من النفرة عن مماسة القرابة و الغيرة في انتسابهن الى الفاحشة و أباح لهم ان ينظروا منهن ما يبدو عند المحنة و الخدمة و هو الوجه و الرأس و الصدر و الساقان و العضدان و لا يجوز لهم النظر الى ظهورهن و لا الى بطونهن و لا الى ما بين السرة الى الركبة لانها لا تنكشف عادة فلا ضرورة في النظر إليها- و هذا حكم جميع من لا يجوز المناكحة بينه و بينها على التأييد بنسب كان او برضاع او مصاهرة- و انما لم يذكر الأعمام و الأخوال في الاية لانهم في معنى بنى الاخوان و بنى الأخوات بدلالة النص و الإجماع فانه لما جاز للعمة إبداء زينتها لابن أخيها جاز لبنت الأخ إبداء زينتها لعمها بطريق المساوات و لما جاز للخالة إبداء زينتها لابن أختها جاز لبنت الاخت إبداء زينتها لخالها- و يحتمل ان يكون ترك ذكر الأعمام و الأخوال في الاية للاشارة الى ان الأحوط ان يتسترن عنهم حذرا ان يصفوهن لابنائهم-

(مسئلة) لا بأس للرجل ان يمس ما جاز اليه النظر من ذوات محارمه لتحقق الحاجة الى ذلك في المسافرة- و قلة الشهوة للحرم المؤبدة الا إذا كان يخاف عليها او على نفسه الشهوة فحينئذ لا ينظر و لا يمس لقوله صلى اللّه عليه و سلم العينان تزنيان و زناهما النظر و اليدان تزنيان و زناهما البطش- و في رواية العينان و اليدان تزنيان و الرجلان تزنيان و الفرج يزنى- رواه احمد و الطبراني عن ابن مسعود مرفوعا و حرمة الزنى بذوات المحارم اغلظ فيجتنب أَوْ نِسائِهِنَّ يعنى جاز للمرءة ان تنكشف للمرءة مؤمنة كانت او كافرة حرة كانت او امة الا ما بين سرتها و ركبتها و جاز لها النظر إليها بوجود المجانسة و انعدام الشهوة غالبا و عن ابى حنيفة ان نظر المرأة الى المرأة كنظر الرجل الى محارمه- و قيل المراد بنسائهنّ النساء المؤمنات فلا يجوز للمرءة المسلمة ان تنكشف للمرءة الكافرة لانها ليست من نسائنا لكونها اجنبية في الدين و ذلك لانهن لا يتحرجن عن وصفهن للرجال- عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها كانه ينظر إليها- متفق عليه

قال البغوي كتب عمر بن عبد العزيز الى ابى عبيدة بن الجراح ان يمنع نساء اهل الكتاب ان يدخلن الحمام مع المسلمات أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ عن ابن جريج انه قال المراد بنسائهنّ المؤمنات الحرائر منهن و بما ملكت ايمانهنّ الإماء دون العبيد فلا يحل لامراة مسلمة ان تتجرد بين يدى امراة مشركة الا إذا كانت المشركة امة مملوكة لها فعلى هذا التأويل لا يجوز لها الانكشاف بين يدى عبدها- و لا يجوز للعبد ان ينظر الى سيدته الا الى ما يجوز للاجنبى النظر اليه منها و به قال ابو حنيفة رحمه اللّه و به قال بعض اصحاب الشافعي قال الشيخ ابو حامد من الشافعية الصحيح عند أصحابنا ان العبد لا يكون محرما لسيدته- قال النووي هذا هو الصواب بل لا ينبغى ان يجرى فيه خلاف بل يقطع بتحريمه- و القول بانه محرم لها ليس له دليل ظاهر فان الصواب في الاية انها في الإماء قال صاحب الهداية لنا انه فحل غير محرم و لا زوج و الشهوة متحققة لجواز النكاح في الجملة يعنى بعد زوال ملكها و الحاجة قاصرة لانه يعمل خارج البيت و المراد بالنص يعنى بهذه الاية الإماء قال سعيد بن المسيب و الحسن و غيرهما لا تغرنكم سورة النور فانها في الإناث دون الذكور- و هذا التأويل لا يصح الا على تقدير كون المراد بنسائهن المسلمات الحرائر دون عامتهن و الا لزم التكرار و الخلو من الفائدة- فيلزم على مذهب ابى حنيفة عدم جواز الانكشاف للمرءة المسلمة عند الكافرة- و قال مالك ما ملكت ايمانهن يعم العبيد و الإماء فيجوز للسيدة- الانكشاف عند عبده كسائر المحارم و يجوز له النظر إليها ما يجوز من النظر الى محارمه- و الشافعي ايضا نص على ذلك و هو الأصح عند جمهور أصحابه لان الحاجة متحققة لدخوله عليها من غير استيئذان

قال البغوي و روى ذلك عن عائشة و أم سلمة و يؤيده حديث انس ان النبي صلى اللّه عليه و سلم اتى فاطمة بعبد قد وهبه لها و على فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها و إذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها فلمّا راى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما تلقى قال انه ليس عليك بأس انما هو أبوك و غلامك- رواه ابو داؤد لكن يمكن ان يكون العبد صغيرا كما يدل عليه اطلاق لفظ الغلام و يؤيده ايضا حديث أم سلمة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا كانت عند مكاتب أحدا كن وفاء فلتحجب منه- رواه الترمذي و ابو داود و ابن ماجة لكن الاستدلال به بمفهوم المخالفة أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ اى غير اولى الحاجة الى النساء و هم الشيوخ الهرم سماهم بالتابعين لانهم لا يقدرون على الاكتساب فيتبعون القوم ليصيبوا فضل طعامهم- قال الحسن هو الّذي لا ينتشر ذكره و لا يستطيع غشيان النساء و لا يشتهيهن و عن ابن عباس انه العنين و قال سعيد بن جبير المعتوه و قال عكرمة المجبوب و قيل هو المخنث و قال مقاتل هو الشيخ الهرم و العنين و الخصى و المجبوب و الصحيح ان الخصى و المجبوب في النظر الى الاجنبية كالفحل قال في الهداية لان الخصى فحل يجامع يعنى يحتمل المجامعة و كذا المجبوب لانه يسحق و ينزل و كذا المخنث في الردى من الافعال لانه فحل فاسق يؤخذ فيه بمحكم كتاب اللّه يعنى قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم فانه محكم يشتمل المجبوب و الخصى و المخنث و قوله تعالى أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ غير قطعى الشمول لهؤلاء فلا بد فيهم الحكم بغض البصر قال في الكفاية قيد في الهداية المخنث بالردى من الافعال و هو ان يمكّن غيره من نفسه احترازا عن المخنث الّذي في أعضائه لين و في لسانه انكسار باهل الخلقة لا يشتهى النساء- و لا يكون مخنثا في الردى من الافعال فانه قد رخص بعض مشائخنا في ترك مثله في النساء لانه من غير اولى الاربة من الرجال-

قلت و اما الخنثى الأصلي يعنى الّذي له ذكر و فرج فان ظهر له علامات النساء و هو ان يكون له ثدى كثدى المرأة او نزل له لبن في ثديه او حاض او حبل او أمكن الوصول اليه من الفرج فحكمه حكم الأنثى و إلا فله حكم الذكر لا يجوز للنساء الانكشاف عنده و لا يجوز له النظر إليهن- و ان كان مشكلا يوخذ فيه بالأحوط فلا ينكشف هو عند الرجال و لا تنكشف النساء عنده و اللّه اعلم روى الشيخان في الصحيحين عن أم سلمة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم كان عندها و في البيت مخنث فقال لعبد اللّه بن ابى امية (أخي أم سلمة) يا عبد اللّه ان فتح اللّه لكم غدا الطائف فانى أدلكم على ابنة غيلان فانها تقبل بأربع و تدبر بثمان فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم لا يدخلن هؤلاء عليكم- احتج بعض العلماء بهذا الحديث على منع المخنثين من الدخول على النساء و في الاحتجاج به نظر بل يمكن الاحتجاج بهذا الحديث على جواز دخول المخنثين على النساء لان النبي صلى اللّه عليه و سلم أقره في البيت و لم يمنعه من الدخول الا بعد ما وصف ابنة غيلان بانها تقبل بأربع و تدبر بثمان و هذا امر اخر منع النبي صلى اللّه عليه و سلم لاجله عن دخول المرأة على المرأة كما مر في حديث ابن مسعود و اللّه اعلم قرا أبو بكر و ابن عامر و ابو جعفر غير اولى الاربة بالنصب على الحال او على انه بمعنى الّا للاستثناء معناه يبدين زينتهن للتابعين الا ذا الاربة منهم فانهن لا يبدين زينتهن لمن كان منهم ذا اربة

و قرا الباقون بالجر على انه صفة للتابعين- أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ الطفل جنس وضع موضع الجمع اكتفاء بدلالة الوصف يعنى لم يبلغوا او ان القدرة على الوطي من ظهر على فلان إذا قوى و قدر عليه- او المعنى لم يظهروا اى لم يكشفوا عن عورات النساء بالجماع من الظهور بمعنى الغلبة و لذلك عدّى بعلى او من الظهور بمعنى الاطلاع فان الكشف يستلزم الاطلاع و المراد بعدم الظهور و عدم الكشف ايضا عدم صلاحية ذلك فالحاصل انهم لم يبلغوا حد الشهوة

و قال مجاهد معناه لم يعرفوا العورة من غيرها لاجل الصغر و عدم التميز- و الاولى هو الاول فان الطفل ان كان مميزا لكنه لم يبلغ حد الشهوة جاز للنساء الانكشاف عنده الا من السرة الى الركبة- و لا يجوز لها بحضرته كشف ما تحت السرة كما يدل عليه قوله تعالى لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ- و ان كان طفلا غير مميز بالكلية فهو كالجمادات و البهائم لا بأس لو كشفت عنده ما تحت الإزار ايضا- و ان كان مراهقا يشتهى فحكمه حكم الرجال لانه استعد للظهور على عوراتهن- اخرج ابن جرير عن حضرمى ان امراة اتخذت صرتين من فضة و اتخذت جذعا فمرت على قوم و ضربت برجليها فوقع الخلخال على الجذع فصوتت فانزل اللّه تعالى وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ

قال البغوي كانت المرأة إذا مشت ضربت برجلها لتسمع صوت خلخالها فنهيت عن ذلك لانه يورث في الرجال ميلا إليها-

قال البيضاوي و هو ابلغ من النهى عن إبداء الزينة و ادل على المنع من رفع الصوت لها و لذا صرح في النوازل بان نغمة المرأة عورة و بنى عليها ان تعلمها القرآن من المرأة أحب الىّ لان نغمتها عورة و لذا قال عليه السلام التسبيح للرجال و التصفيق للنساء- متفق عليه من حديث سهل بن سعد فلا يحسن ان يسمعها الرجل قال ابن همام و على هذا لو قيل إذا جهرت المرأة بالقراءة في الصلاة فسدت كان متجها- و لذا منعها عليه السلام من التسبيح بالصوت لاعلام الامام بسهوه الى التصفيق و هذه الاية تدل على ان القدم عورة- وَ تُوبُوا إِلَى اللّه جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فانه لا يكاد يخلو أحد منكم في إتيان أوامره و الانتهاء عن مناهيه من التفريط قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كل بنى آدم خطاء و خير الخطائين التوابون- رواه الترمذي و ابن ماجة و الدارمي قيل معناه راجعوا الى طاعة اللّه فيما أمركم و نهاكم من الآداب المذكورة في هذه السورة و قيل معناه توبوا عما كنتم تفعلونه في الجاهلية و ان جب بالإسلام لكن يجب الندم عليه و العزم على الكف عنه كلما تتذكروا قرا ابن عامر ايّه المؤمنون هاهنا و في الزخرف يآيّه السّاحر و في الرحمان ايّه الثّقلان بضم الهاء في الثلاثة وصلا و يقف بلا الف- و الباقون بفتح الحاءات على الأصل و وقف ابو عمرو و الكسائي ايها بالألف و الباقون بغير الف لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١) فان سعادة الدارين بالتوبة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا- و عن ابن عمر انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول يا ايها الناس توبوا الى ربكم فانى أتوب الى ربى كل يوم مائة مرة و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و اللّه انى لاستغفر اللّه و أتوب اليه في اليوم اكثر من سبعين مرة- رواه البخاري و عن الاعرابى قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انه ليغان على قلبى و انى لاستغفر اللّه و أتوب اليه في اليوم مائة مرة- رواه مسلم و عن ابن عمر قال انا كنا نعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في المجلس يقول رب اغفر لى و تب علىّ انك أنت التواب الغفور مائة مرة- رواه الترمذي و ابو داود و ابن ماجة.

٣٢

وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ لمّا نهى اللّه تعالى عما يفضى الى السفاح غالبا امر بالنكاح فانه اغض للبصروا منع من السفاح فقال و انكحوا ايّها الأولياء و السادة الأيامى منكم- و الأيامى جمع ايّم مقلوب ايايم كيتافى أصله يتايم و هو من لا زوج له رجلا كان او امراة وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ و هذا امر استحباب و تخصيص الصالحين بالذكر ليس للاحتراز بل لان إحصان دينهم و الاهتمام بشأنهم أهم و قيل المراد به الصالحون للنكاح و القيام بحقوقه-

(مسئلة) النكاح واجب عند غلبة الشهوة إذا خاف الوقوع في الحرام و في النهاية ان كان له خوف وقوع الزنى بحيث لا يتمكن من التحرز عنه كان فرضا قال ابن همام ليس الخوف مطلقا يستلزم بلوغه الى عدم التمكن فليكن عند ذلك فرضا و الا فواجب ما لم يعارضه خوف الجور فان عارضه خوف الجور كره- و ايضا قال ابن همام انه ينبغى تفصيل خوف الجور كتفصيل خوف الزنى فان بلغ ما افترض فيه النكاح حرم و إلا كره كراهة تحريم- و في البدائع قيد الافتراض في التوقان بملك المهر و النفقة فان من تاقت نفسه بحيث لا يمكنه الصبر عنهن و هو قادر على المهر يعنى على ما لا بد من تعجيله و على النفقة و لم يتزوج يأثم- و اما في حالة الاعتدال فقال داود و أمثاله من اهل الظواهر انه فرض عين على الرجل و المرأة في العمر مرة ان كان قادرا على الوطي و الانفاق لقوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ و أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ و حديث سمرة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم نهى عن التبتل- رواه الترمذي و ابن ماجة و قوله صلى اللّه عليه و سلم لعكاف هل لك من زوجة قال لا قال و لا جارية قال لا قال و أنت موسر بخير قال و انا موسر قال أنت اذن من اخوان الشياطين- و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان سنتنا النكاح شراركم عزابكم و اراذل موتاكم عزابكم أبا لشيطين يحرسون- رواه احمد و قد مرّ هذا الحديث و حديث انس كان النبي صلى اللّه عليه و سلم يأمر بالباءة و ينهى عن التبتل نهيا شديدا و يقول تزوجوا الودود الولود انى مكاثر بكم الأتقياء يوم القيامة- رواه احمد و ابو داود و النسائي و نحوه في سورة النساء في تفسير قوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ- و قال بعض الحنفية واجب على الكفاية و ادلة الوجوب على الكل لا ينفى كونه على الكفاية و المعرف لكونه يسقط بفعل البعض عن الباقين ان سبب شرعيته ابقاء المسلمين و عدم انقطاعهم و ذلك يحصل بفعل البعض و الإجماع على عدم كونه فرضا على الأعيان- و لا عبرة بقول داود و أمثاله و قيل واجب على الكفاية لان قوله فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مسوق لبيان العدد- و هذه الاية خطاب للاولياء موجب لعدم ممانعتهم إذا أراد الأيامى النكاح و أحاديث الآحاد لا توجب الفرضية و قيل سنة مؤكدة و قيل مستحب إذا كان قادرا على الوطي و الانفاق و لا يخاف الجور و الا فهو حرام او مكروه- وجه كونه سنة فعله صلى اللّه عليه و سلم و قوله يا معشر الشباب من استطاع منكم الباه فليتزوج و من لم يستطع فعليه بالصوم فان الصوم له و جاء- متفق عليه من حديث ابن مسعود و ما روى ابن ماجة من حديث عائشة النكاح من سنتى فمن لم يعمل بسنتى فليس منى تزوجوا فانى مكاثر بكم الأمم و من كان ذا طول فلينكح و من لم يجد فعليه بالصوم «١» في اسناده عيسى بن ميمون ضعيف و في الصحيحين من حديث انس لكنى أصوم و أفطروا تزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى- و روى الترمذي

(١) و فيه فان الصوم له و جاء ١٢ الفقير الدهلوي.

عن ابى أيوب اربع من سنن المرسلين الحياء و التعطر و السواك و النكاح- و روى ابن ماجة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال من أراد ان يلقى اللّه طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر ما ذكرنا كله بمذهب علماء الحنفية رحمهم اللّه تعالى و به قال احمد و قال الشافعي النكاح مستحب على كل حال ان كان قادرا على الوطي و الانفاق و لا يخاف الجور لكن تركه لاجل الانقطاع للعبادة أفضل و ان خاف الجوار و لم يكن قادرا على الانفاق او الوطي فعليه حرام او مكروه- و في حالة التوقان و خوف الوقوع في الحرام يتاكد في حقه و يكون أفضل من نوافل الصلاة و الصوم و الجهاد و الحج و به قال مالك- فحاصل كلام الفريقين انه من خاف ان لا يقدر على أداء حقوق النكاح او وقع بالنكاح في امر حرام فالنكاح في حقه مكروه او حرام- و من كان تائقا يخاف على نفسه الزنى ان لم ينكح و هو قادر على أداء حقوق النكاح فالنكاح في حقه واجب على ما قال ابو حنيفة و متأكد على ما قال الشافعي-

قلت لا أشك في ان ضد الحرام يعنى الزنى واجب فلا بد من القول بالوجوب عند خوف الزنى- بقي الكلام في انه من كان في حالة الاعتدال لا يخاف على نفسه الزنى ان لم ينكح و لا يخاف الجور و هو قادر على أداء حقوق النكاح فالنكاح في حقه و ان كان مستحبّا سنة لكن ترك النكاح لاجل التخلّي للعبادة في حقه أفضل أم النكاح أفضل- قال ابو حنيفة النكاح أفضل من التقبل و التخلي للعبادة و قال الشافعي التخلي و التبتل أفضل وجه قول الشافعي ان اللّه سبحانه مدح يحيى بن زكريا عليهما السّلام بعدم إتيان النساء مع القدرة عليه حيث قال سَيِّداً وَ حَصُوراً ايضا و هذا معنى الحصور و قال ابن همام في جوابه ان حال يحيى ذلك كان أفضل في شريعتهم و قد نسخت الرهبانية في شريعتنا و إذا تعارض حال يحيى بحال نبينا صلى اللّه عليه و سلم وجب تقديم حال النبي صلى اللّه عليه و سلم الا ترى ان حال النبي صلى اللّه عليه و سلم الى الوفاة كان النكاح و محال ان يقرر اللّه تعالى أفضل أنبيائه على ترك الأفضل مدة حياته- روى الشيخان في الصحيحين ان نفرا من اصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم سألوا أزواجه عن عمله في السر فقال بعضهم لا أتزوج النساء و قال بعضهم لا أكل اللحم و قال بعضهم لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه و سلم فحمد اللّه و اثنى عليه و قال ما بال أقوام قالوا كذا و لكنى أصلي و أنام و أصوم و أفطروا تزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى و روى البخاري عن ابن عباس انه قال تزوجوا فان خير هذه الامة كان أكثرهم نساء يعنى النبي صلى اللّه عليه و سلم- و قد مر نهيه صلى اللّه عليه و سلم عن التبتل نهيا شديدا- و تحقيق المقام عندى ان من راى من نفسه ان النكاح و اشتغاله بامر الأهل و العيال لا يمنعه عن الإكثار في الذكر و الانقطاع الى اللّه من غيره و تعمير الأوقات بالطاعات فالنكاح في حقه أفضل من تركه و كان هذا شأن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و الصحابة و كثير من الأنبياء و الصالحين من عباد اللّه و كيف لا يكون أفضل فان مجاهدته أشد و اكثر من مجاهدة العزب فان القيام على العبادة مع الموانع اكثر ثوابا منه مع عدم الموانع و من أجل ذلك كان خواص البشر أفضل من خواص الملائكة و عوامهم أفضل من عوامهم و من عط راى من نفسه ضعفا و راى ان النكاح و اشتغاله بامور الأهل و العيال يمنعه من الإكثار في الذكر و الانقطاع الى اللّه و تعمير الأوقات و لا يخاف من نفسه الوقوع في الزنى فترك النكاح في حقه أفضل قال اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّه وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ و قال اللّه تعالى قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّه وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّه بِأَمْرِهِ و قال اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ - و كيف يكون النكاح أفضل من الاشتغال بعبادات اللّه النافلة مع ان النكاح في نفسه امر مباح ليس بعبادة وضعا و استحبابه انما هو بالنظر الى ما يترتب عليه من المصالح و لو كان النكاح في نفسه عبادة لكان الإسلام شرطا لاتيانها كما هو شرط لسائر العبادات و قد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و من كانت هجرته الى دنيا يصيبها او امرأة ينكحها فهجرته الى ما هاجر اليه- متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب و لو كان النكاح في نفسه عبادة لكانت الهجرة لاجل النكاح هجرة للّه تعالى و قد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حبب الىّ من الدنيا النساء و الطيب و جعل قرة عينى في الصلاة- رواه النسائي و كذا روى الطبراني و اسناده حسن و هو صريح في ان النكاح من الأمور الدنيوية المباحة كالطيب و تسميته سنة في قوله صلى اللّه عليه و سلم اربع من سنن المرسلين النكاح و التعطر الحديث بمعنى كونه سنة زائدة من السنن العادية لا انه من سنن الهدى فان سنة الهدى ما واظب عليه النبي صلى اللّه عليه و سلم على سبيل العبادة لا يقال ان قوله صلى اللّه عليه و سلم من رغب عن سنتى فليس منى- يدل على كونه من سنن الهدى لانا نقول لا يدل هذا على ذك لان الرغبة عما فعله النبي صلى اللّه عليه و سلم و استحسنه قبيح يوجب الإنكار و العتاب لكن تركه لا يوجب العتاب كما يوجب ترك سنة الهدى-

فان قيل ورد في الحديث حبب الىّ من الدنيا ثلاثة الطيب و النساء و جعلت قرة عينى في الصلاة- فهذا اللفظ يدل على كون الصلاة ايضا من الأمور الدنيوية-

قلنا قال الحافظ ابن حجر لم نجد لفظة ثلاث في شي ء من الطرق المسندة و حديث الدنيا متاع و خير متاعها المرأة الصالحة- رواه مسلم عن عمرو بن العاص مرفوعا و هذا ايضا يدل على كون النكاح من الأمور الدنيوية المباحة فكل امر وقع في باب النكاح في الكتاب او السنة محمول على الإباحة او الاستحباب و اما حديث عكاف أنت اذن من اخوان الشياطين واقعة حال محمول على حالة شدة التوقان و خوف الفتنة- ثم النكاح يكون عبادة باقتران حسن النية بان يريد كثرة اهل الإسلام و غض البصر و نحو ذلك- و هذا شي ء غير مختص بالنكاح بل الاكل و الشرب و البيع و الشراء و الاجارة و سائر المعاملات المباحة كلها مع اقتران حسن النية تصير عبادات قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم طلب الحلال فريضة بعد الفريضة رواه الطبراني و البيهقي عن ابن مسعود و رواه الطبراني عن انس بن مالك بلفظ طلب الحلال واجب على كل مسلم- و كما ان النكاح فرض على الكفاية لبقاء النسل كذلك الاكل و الشرب بقدر ما يسد الرمق فرض عين و التجارة و سائر انواع الحرف فرض على الكفاية ايضا لو تركها الناس أجمعون اختل امر معاشهم و معادهم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم التاجر الصدوق الامين مع النبيين و الصديقين و الشهداء- رواه الترمذي عن ابى سعيد الخدري و حسنه و رواه ابن ماجة من حديث ابن عمر نحوه و البغوي في شرح السنة عن انس نحوه لكن حسن تلك الأشياء انما هو بالغير و اما حسن الذكر و الانقطاع الى اللّه فانما هو بذواتهما فاين هذا من ذك عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حكاية عن اللّه سبحانه لا يزال عبدى يتقرب الىّ بالنوافل حتى أحببته الحديث رواه البخاري و لم يقل اللّه سبحانه لا يزال عبدى يتقرب الىّ بالنكاح او بالأكل و الشرب و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما اوحى الىّ ان اجمع المال و أكون من التاجرين و لكن اوحى الىّ ان اسبح بحمد ربك و أكن من الساجدين- رواه البغوي في تفسير سورة الحجر- و ما قيل في جواب حال يحيى انه كان أفضل في شريعتهم و قد نسخت الرهبانية في شريعتنا فليس بشي ء بل النكاح كان أفضل من العزوبة في كل دين كما يدل عليه قوله صلى اللّه عليه و سلم اربع من سنن المرسلين وعد منها النكاح- و قد كان آدم و نوح و ابراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و يوسف و موسى و هارون و أيوب و داود و سليمان و زكريا كلهم كانوا متزوجين و كانوا أفضل من يحيى عليه السلام فلعل يحيى عليه السلام راى التزوج في حقه مخلّا ببعض امور أفضل منه و ايضا كون الرهبانية مشروعة في دين عيسى و يحيى و منسوخة في ديننا ممنوع بل الرهبانية الّتي كانت النصارى تفعلها كانت مبتدعة حيث قال اللّه تعالى وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها- و ما ورد في الأحاديث ان النبي صلى اللّه عليه و سلم نهى عن التبتل و عن الرهبانية فليس المراد منه انه صلى اللّه عليه و سلم نهى عن التخلي للذكر و الانقطاع عن الخلق الى اللّه تعالى كيف و قد قال اللّه تعالى وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خير مال المسلم الغنم يتبعها شعف الجبال يفر بدينه عن الفتن- رواه البخاري بل المراد انه صلى اللّه عليه و سلم نهى عن ترك الأمور المباحة الّتي لا مثوبة عند اللّه في تركها كالنكاح و النوم على الفراش و أكل اللحم و الكلام مع الناس كما كانت الرهبان من النصارى تفعلها قال اللّه تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّه الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ فالممنوع هو الرهبانية المبتدعة دون الرهبانية المشروعة و قد وقع في الحديث في مدح اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انهم رهبان بالليل ليوث بالنهار و اللّه اعلم- فائدة

قال البغوي تائيد المذهب الشافعي ان في الاية دليلا على ان تزويج النساء الأيامى الى الأولياء- لان اللّه تعالى خاطبهم به كما ان تزويج العبيد و الإماء الى السادة لقوله تعالى وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ- أراد البغوي ان الاية تدل على انه لا يجوز نكاح الحرة العاقلة البالغة بعبارتها من غير ولى و قد ذكرنا هذه المسألة و اختلاف العلماء فيها و أدلتهم في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ- و الاستدلال بهذه الاية في هذه المسألة لا يصح لان الايم يعم الرجل و المرأة الصغيرين و الكبيرين و البكر و الثيب و قد اجمعوا على ان نكاح الرجال البالغين ليس الى الأولياء و على ان النكاح الباكرة الصغيرة الى الأولياء فتخصيص هذه الاية بالنساء ليس اولى من تخصيصها بالصغار و الصغائر- و ايضا يحتمل التجوز في لفظ الانكاح و لعله أراد بالانكاح عدم منعهم من النكاح و تائيدهم فيه و في الاية دليل على ان المملوك إذا طلب من المولى ان يزوجه وجب عليه تزويجه و كذلك المرأة البالغة إذا طلبت من الولي تزويجها وجب على الولي انكاحها- هذا على اصل الشافعي و من يقول بعدم جواز النكاح بعبارة النساء و اما على اصل ابى حنيفة فمعنى الوجوب على الولي انه يحرم عليه منعها من النكاح فهذه الاية في هذه المسألة نظيرة لقوله تعالى فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا خطب إليكم من ترضون دينه و خلقه فزوجوه ان لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض و فساد عريض- رواه الترمذي و عن عمر بن الخطاب و انس بن مالك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال في التورية مكتوب من بلغت ابنته اثنتي عشرة سنة و لم يزوجها فاصابت اثما فاثم ذلك عليه- و عن ابى سعيد و ابن عباس قالا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من ولد له ولد فليحسن اسمه و أدبه فاذا بلغ فليزوجه فان بلغ و لم يزوجه فاصاب اثما فانما إثمه على أبيه روى الحديثين البيهقي في شعب الايمان- إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ وَ اللّه واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) رد لما عسى ان يمنع من النكاح يعنى لا يمنعنكم من النكاح الفقر «١» فان اللّه متكفل لارزاق العباد كلهم و المال غاد و رائح و قيل المراد بالغنى هاهنا القناعة و قيل اجتماع الرزقين رزق الزوج و رزق الزوجة و الاول أصح فهو وعد من اللّه بالاغناء

(١) عن ابى بكر الصديق قال أطيعوا اللّه فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغناء قال اللّه تعالى إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ و عن قتادة قال ذكر لنا ان عمر بن الخطاب قال ما رايت كرجل لم يلتمس الغناء من الباءة و قد وعد اللّه فيها ما وعد- و عن عمر بن الخطاب انه قال ابتغوا الغناء في الباءة و اطلبوا الفضل في الباءة و تلا ان يكونوا فقراء يغنهم اللّه الاية ١٢ منه برد اللّه مضجعه.

للناكح-

قال البغوي قال عمر عجب لمن يبتغى الغناء بغير النكاح و اللّه تعالى يقول إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ و قال إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللّه كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ- و روى البزار و الخطيب و الدار قطنى من حديث عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تزجوا النساء فانهن يأتين بالمال- رواه ابو داود في مراسيله عن عروة مرسلا و روى الثعلبي و الديلمي صاحب مسند الفردوس من حديث ابن عباس التمسوا الرزق بالنكاح-

قلت و لعل لهذا الوعد لمن أراد التعفف بالنكاح و توكل على اللّه في الرزق يدل على ذلك قوله تعالى.

٣٣

وَ لْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً يعنى من لا يجد اسباب النكاح و ما لا بد منه للناكح من المهر المعجل و النفقة و منعه فقره من ان ينكح خوفا من الجور و فوات حقوق النكاح فعليه ان يجتهد في العفة و دفع الشهوة بالصوم و قلة الطعام و نحو ذلك حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و من لم يستطع يعنى النكاح فعليه بالصوم فانه له و جاء حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ اى يوسع عليهم من رزقه و اللّه اعلم- اخرج ابن السكن في معرفة الصحابة عن عبد اللّه بن صبيح عن أبيه قال كنت مملوكا لحويطب بن عبد العزى فسالته الكتابة فابى فنزلت وَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ اى يطلبون المكاتبة مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ عبدا كان او امة- الموصول مع صلته مبتدا خبره فَكاتِبُوهُمْ جئ بالفاء لكون المبتدا متضمنا لمعنى الشرط او الموصول منصوب بفعل مضمر يفسره قوله فكاتبوهم و الفاء زائدة-

قال البغوي لما نزلت هذه الاية كاتب حويطب عبده على مائة دينار و وهب له عشرين فادّاها فقتل يوم حنين في الحرب- و هذا امر استحباب عند جمهور العلماء حتى قال صاحب الهداية و هذا ليس بامر إيجاب بإجماع بين الفقهاء و انما هو امر ندب و هو الصحيح يعنى القول بانه امر اباحة كما قال بعض مشائخنا ... غير صحيح إذ في الحمل على الإباحة الفاء الشرط إذ هو مباح بدونه و اما الندبية فمعلق به- و أجيب بان الشرط خرج مخرج العادة لان المولى لا يكاتب عبده عادة الا إذا علم فيه خيرا- و روى عن بعض المتقدمين بانه للوجوب و هو قول عطاء و عمرو بن دينار و قال احمد في رواية عنه بوجوبها إذا طلب العبد من سيده مكاتبته على قدر قيمته او اكثر لما روى ابن سيرين سأل انس بن مالك ان يكاتبه فتلكا عنه فشكى الى عمر فعلاه بالدرة فامره بالكتابة فكاتبه كذا ذكر البغوي في تفسيره- و الكتابة عقد معاوضة يدل عليه صيغة المفاعلة يبتاع العبد من سيده نفسه بما يؤديه من كسبه و اشتقاقه من الكتابة بمعنى الإيجاب فيشترط فيه الإيجاب و القبول من الجانبين و ليس هو إعتاقا معلقا بأداء المال فيجوز كتابة العبد الصغير إذا كان يعقل البيع و الشراء لتحقق الإيجاب و القبول إذ العاقل من اهل القبول و التصرف نافع في حقه- و لا يجوز كتابة مجنون و صبى لا يعقل لعدم تحقق القبول منه فلو ادى عنه غيره لا يعتق و يستردّ ما دفع- و صفته عند ابى حنيفة ان يقول المولى لعبده كاتبتك على مال كذا و يقول العبد قبلت فيعتق بادائه و ان لم يقل المولى إذا أديتها فانت حر لانه موجب العقد فيثبت من غير تصريح كما في البيع و به قال مالك و احمد و قال الشافعي يشترط ان يقول المولى كاتبتك على كذا من المال منجما إذا أديته فانت حر فان ترك لفظ التعليق و نواه جاز- و لا يكفى لفظ الكتابة بلا تعليق و لا نية و يقول قبلت كذا في المنهاج-

(مسئلة) و يجوز في الكتابة ان يشترط المال حالا و يجوز مؤجلا و منجما و قال الشافعي و احمد لا يصح حالا و لا بد من نجمين لانه عاجز عن التسليم في زمان قليل لعدم الاهلية قبله للرق- و لنا الإطلاق في الاية من غير شرط التنجيم و قد ذكرنا انه عقد معاوضة و البدل معقود به فاشبه الثمن في البيع في عدم اشتراط القدرة على التسليم- حتى جاز للمفلس اشتراء اموال عظيمة و من الجائز ان يرزق العبد على فور الكتابة أموالا عظيمة بطريق الهبة او الزكوة فان كانت الكتابة حالا و امتنع من الأداء جاز للمولى رده الى الرق-

(مسئلة) و إذا صحت الكتابة خرج المكاتب عن يد المولى ليتحقق مقصود الكتابة و هو أداء البدل فيملك البيع و الشراء و الخروج الى السفر و ان نهاه المولى و لا يخرج عن ملكه اجماعا لانه عقد معاوضة فلا يخرج عن ملك المولى ما لم يدخل البدل في ملكه-

(مسئلة) و الكتابة عقد لازم من جهة المولى اتفاقا فلا يجوز للمولى فسخه الا برضاء العبد لانها موجب للعبد استحقاق العتق و العتق لا يحتمل الفسخ فكذا استحقاقه- و لانه عبادة كالعتق ففسخه يوجب ابطال العمل و قد قال اللّه تعالى وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ- لكنه غير لازم من جهة العبد فلا يجبر العبد على الاكتساب بل تفسخ الكتابة برضائه عند ابى حنيفة و الشافعي و احمد غير انه ان كان بيد المكاتب مال يفى بما عليه يجبر على الأداء عند ابى حنيفة و ليس له حينئذ فسخ الكتابة لانه حينئذ متعنّت- و قال مالك ليس للعبد تعجيز نفسه مع القدرة على الاكتساب فيجبر على الاكتساب حينئذ-

(مسئلة) و إذا لم يخرج المكاتب عن ملك المولى جاز للمولى ان يعتقه فيعتق مجانا و يسقط بدل الكتابة عن ذمته لانه ما التزم الا مقابلا بالعتق و قد حصل له دونه فلا يلزمه و الكتابة و ان كانت لازمة من جانب المولى لكنها يفسخ برضاء العبد و الظاهر رضاؤه توسلا الى عتقه بغير بدل-

(مسئلة) و إذا لم يخرج من ملكه جاز للمولى بيع رقبة المكاتب عند احمد و لا يكون البيع فسخا للكتابة بل يقوم المشترى فيه مقام البائع و هو القول القديم للشافعى و قال ابو حنيفة و مالك لا يجوز بيع رقبة المكاتب الا برضاه فهو فسخ للكتابة و هو القول الجديد للشافعى- لكن عند مالك جاز بيع المكاتبة و الدين المؤجل بثمن حال ان كان عينا فيعرض او عرضا فتعين- وجه قول ابى حنيفة و من معه ان المكاتب استحق يدا على نفسه لازمة في حق المولى و لو ثبت الملك بالبيع للمشترى لبطل ذلك و قد علمت ان ثبوت الملك للمشترى لا يقتضى فسخ الكتابة عند احمد و لا يبطل استحقاق المكاتب يدا على نفسه بل يقوم المشترى فيه مقام البائع و قد رضى المشترى بذلك ان علم كونه مكاتبا و ان لم يعلم كان للمشترى حق فسخ البيع- احتج احمد بحديث عائشة ان بريرة جاءت عائشة تستعينها في كتابتها و لم تكن قضت من كتابتها شيئا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ابتاعي فاعتقى فانما الولاء لمق أعتق- رواه احمد و أصله في الصحيحين انها قالت جاءت بريرة عائشة فقالت انى كاتبت على تسع أواق في كل عام اوقية فاعينينى فقالت عائشة ان أحب أهلك ان أعدها لهم عدة واحدة و اعتقك فعلت و يكون الولاء لى- فذهبت الى أهلها فابوا ذلك عليها فقالت انى قد عرضت ذلك عليهم فابوا الا ان يكون الولاء لهم- فسمع بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فسالنى فاخبرته فقال خذيها فاعتقيها و اشترطى لهم الولاء فان الولاء لمن أعتق الحديث- و روى النسائي هذه القصة عن بريره نفسها و في هذا الحديث ليس حجة لاحمد فان النزاع فيما إذا كان بيع المكاتب بغير رضاه و اما ان كان برضاه فاظهر الروايتين عن ابى حنيفة جواز البيع حينئذ و قد كان بيع بريرة برضاها- و لذلك عقد البخاري باب بيع المكاتب إذا رضى-

(مسئلة) لا يعتق المكاتب الا بأداء كل البدل لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال المكاتب عبد ما بقي من مكاتبته درهم- رواه ابو داود و النسائي و الحاكم من طرق و رواه النسائي و ابن ماجة من وجه اخر من حديث عطاء عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص في حديث طويل و لفظه و من كان مكاتبا على مائة اوقية و قضاها الا اوقية فهو عبد قال النسائي هذا حديث منكر و قال ابن حزم عطاء هذا هو الخراسانى لم يسمع من عبد اللّه بن عمرو و رواه الترمذي و ابو داود و ابن ماجة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال من كاتب عبده على مائة اوقية فاداها الا عشر أواق او قال عشرة دنانير ثم عجز فهو رقيق- و روى مالك في الموطإ عن نافع عن ابن عمر موقوفا المكاتب عبد ما بقي عليه درهم و رواه ابن قانع من طريق اخر عن نافع عن ابن عمر مرفوعا و أعله قال صاحب الهداية في هذه المسألة اختلاف الصحابة قال في الكفاية قال زيد بن ثابت مثل قولنا و قال علىّ يعتق بقدر ما ادى- و قال ابن مسعود إذا ادى قدر قيمته يعتق و فيما زاد ذلك يكون المولى غريما من غرمائه- و قال ابن عباس يعتق بنفس الكتابة و يكون المولى غريما من غرمائه- و انما اخترنا قول زيد للحديث المرفوع-

قلت و قد روى ابو داود و الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه قال إذا أصاب المكاتب حدا او ميراثا ورث بحساب ما عتق منه- و في رواية له قال يؤدى المكاتب بحصة ما ادى دية حر و ما بقي دية عبد- و ضعفه و عن أم سلمة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا كان عند مكاتب أحدا كن وفاء فليحتجب منه- رواه الترمذي و ابو داود و ابن ماجة

(مسئلة) و إذا عجز المكاتب عن نجم نظر الحاكم في حاله فان كان له دين يقتضيه او مال يقدم عليه لم يعجل بتعجيزه و انتظر ثلاثة ايام و لا يزاد عليه و ان لم يكن له وجه و طلب المولى تعجيزه عجزه و فسخ الكتابة عند ابى حنيفة و محمد و قال ابو يوسف لا يعجزه حتى يتوالى عليه نجمان- و لا يجوز للمولى تعجيزه الا بالقضاء او برضاء العبد-

(مسئلة) ما ادى المكاتب من الصدقات الى مولاه ثم عجز فهو طيب للمولى و ان كان غنيا او هاشميّا لتبدل الملك فان العبد يتملك صدقة و المولى عوضا عن العتق و اليه وقعت الاشارة النبوية في حديث عائشة رضى اللّه عنها- حيث قالت دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و البرمة تفور بلحم- فقرب اليه خبز و آدم من آدم البيت- فقال الم أر برمة فيها لحم قالوا بلى و لكن ذلك لحم تصدق على بريرة و أنت لا تأكل الصدقة قال هو عليها صدقة و لنا هدية متفق عليه بخلاف ما إذا أباح للغنى او الهاشمي لان المباح له يتناوله على ملك المبيح فلم يتبدل الملك فلم يتطيب و نظيره المشترى شراء فاسدا إذا أباح لغيره لا يطيب له و لو ملّكه يطيب له-

(مسئلة) إذا مات المكاتب قبل أداء بدل الكتابة مات رقيقا عند الشافعي و احمد و يرتفع الكتابة سواء ترك مالا او لم يترك كما لو تلف المبيع قبل القبض يرتفع البيع-

قال البغوي و هو قول عمر و ابنه و زيد بن ثابت و عمر بن عبد العزيز و قتادة- و قال ابو حنيفة و مالك و الثوري و عطاء و طاؤس و الحسن البصري و النخعي ان ترك ما يفى بدل الكتابة فهو حرّ و بدل الكتابة للمولى و الزيادة لورثته الأحرار- إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً قال ابن عمر يعنى قوة على الكسب و هو قول مالك و الثوري و قال الحسن و الضحاك و مجاهد يعنى مالا لقوله تعالى في الوصية ان ترك خيرا اى مالا- روى ان عبدا ... لسلمان قال له كاتبنى قال لك مال قال لا قال تريد ان تطعمنى من أوساخ الناس و لم يكاتبه- و هذا القول ضعيف لان العبد و ما في يده من المال ملك المولى إذ هو ليس أهلا لمالكية المال ...

للمنافاة بين المالكية و المملوكية و الواجب عليه الأداء مما يملكه بعد ما صار أهلا لمالكيه المال يدا- و قال الزجاج لو أراد المال لقال ان علمتم لهم خيرا و قال ابراهيم بن زيد و عبيد صدقا و امانة-

و اخرج البيهقي عن ابن عباس قال امانة و وفاء و قال الشافعي اظهر معانى الخير في العبد الاكتساب مع الامانة فاحب ان لا يمتنع من كتابته إذا كان كذا- و قال صاحب الهداية المراد بالخير ان لا يضرّ بالمسلمين و ان كان يضرّبهم بان كان كافرا يعين الكفار او نحو ذلك يكره كتابته و لكن تصح لو فعله- و حكى عن عبيدة في قوله تعالى إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً اى أقاموا الصلاة و قيل و هو ان يكون العبد عاقلا بالغا فاما الصبى و المجنون فلا يصح كتابتها لان الابتغاء منهما لا يصح-

قلت رتب اللّه سبحانه الأمر بالكتابة على قوله وَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ فاشتراط العقل فهم منه فيكون هذا الشرط على هذا التقدير لغوا و اشتراط البلوغ لا وجه له لان الصبى العاقل يتحقق منه الابتغاء-

(مسئلة) العبد الّذي لا كسب له لا يكره كتابته عند ابى حنيفة و مالك و الشافعي و احمد في رواية عنه و في رواية عن احمد يكره بناء على ارادة قدرة الاكتساب من الخير قلت لو سلمنا كون قدرة الاكتساب شرطا لاستحباب الكتابة فانعدام شرط الاستحباب لا يقتضى الكراهة- كيف و يمكنه الوصول الى المال بقبول الصدقات-

(مسئلة) يكره كتابة الامة الغير المكتسبة اتفاقا لانها عسى ان تكتسب المال بالزنى و اللّه اعلم- و أتوهم من مال اللّه الّذى أتاكم حثّ لجميع الناس على اعانتهم بالتصدق عليهم فريضة كانت او نافلة- و قيل المراد سهمهم الّذي جعل اللّه لهم من الصدقات المفروضات بقوله و في الرّقاب و هو قول الحسن و زيد بن اسلم- و لفظ الاية لا يقتضى تخصيص الصدقات بالمفروضة فان هذا الأمر ايضا للاستحباب كالامر بالكتابة- و قيل هذا خطاب للسادة فقيل يستحب للمولى ان يحط «١» من بدل الكتابة شيئا و قيل يجب عليه ذلك

قال البغوي و هو قول عثمان و علّى و الزبير و جماعة و به

(١) روى عن عمر انه كاتب عبد اللّه يكنى أبا امية فجاء بنجمه حين حلّ قال يا أبا امية اذهب فاستعن به في مكاتبتك قال يا امير المؤمنين لو تركته حين يكون من اخر نجم قال أخاف ان لا أدرك وكدت ثم قرا و أتوهم من مال اللّه الّذى أتاكم- منه رحمه اللّه.

قال الشافعي ثم اختلفوا في قدره فقال قوم حط عنه ربع الكتابة و هو قول على أخرجه عبد الرزاق و سعيد بن منصور و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردوية و البيهقي من طريق ابن عبد الرحمان السلمى و رواه بعضهم عن علىّ مرفوعا- و عن ابن عباس يحط عنه الثلث و قيل يحط عنه ما شاء و هو قول الشافعي قال نافع كاتب عبد اللّه بن عمر غلاما له على خمسة و ثلاثين الف درهم فوضع في اخر كتابته خمسة آلاف درهم و قال سعيد بن جبير كان ابن عمر إذا كاتب لم يضع عن مكاتبه من أول نجومه مخافة ان يعجز فيرجع اليه صدقته و وضع في اخر كتابته ما احبّ-

قلت تفسير الإيتاء بالحط غير صحيح لان الإيتاء يدل على التمليك و لا تمليك في الحط و من هاهنا قال ابو حنيفة لا يجب على المولى قط شي ء من البدل اعتبارا بالبيع فانه عقد معاوضة و لا يجب الحط في سائر المعاوضات فكذا فيها و هذا لان الكتابة سبب لوجوب مال الكتابة على العبد فلا يجوز ان يكون بعينه سببا لاستحقاق الحط الّذي هو ضد الوجوب كالبيع قلت بدل الكتابة غير مقدر اجماعا فلو كان حط شي ء من بدل الكتابة واجبا على المولى لكان للمولى ان يكاتبه على الالف إذا أراد كتابته على سبعمائة فيحط عنه ثلاثمائة و يخرج عن العهدة و لا فائدة في ذلك- اخرج مسلم من طريق ابى سفيان عن جابر بن عبد اللّه قال كان عبد اللّه بن ابى بن سلول يقول لجارية له اذهبي فابغينا شيئا فانزل اللّه تعالى وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ يعنى إمائكم عَلَى الْبِغاءِ يعنى على الزنى عطف على قوله و انكحوا الأيامى عطف النهى على الأمر و ما بينهما معترضات

و اخرج مسلم من هذا الطريق ان جارية لعبد اللّه بن ابى يقال لها مسيكة و اخرى يقال لها اميمة فكان يريدهما على الزنى فشكتا ذلك الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فانزل اللّه تعالى هذه الاية-

و اخرج الحاكم من طريق ابى الزبير عن جابر قال كانت مسيكة لبعض الأنصار فقالت ان سيدى يكرهنى على البغاء فنزلت-

و اخرج البزار و الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال كانت لعبد اللّه بن أبيّ جارية تزنى في الجاهلية فلما حرم الزنى قالت و اللّه لا ازنى فنزلت-

و اخرج البزار بسند ضعيف عن انس نحوه و سمى الجارية معاذة-

و اخرج سعيد بن منصور عن سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة ان عبد اللّه بن أبيّ كانت له امتان مسيكة و معاذة فكان يكرههما على الزنى فقالت إحداهما ان كان خيرا فقد استكثرت منه و ان كان غير ذلك فانه ينبغى ان ادعه فانزل اللّه-

قال البغوي و روى انه جاءت احدى الجاريتين يوما ببرد و جاءت الاخرى بدينار فقال لهما فارجعا فازنيا قالتا و اللّه لا نفعل قد جاء الإسلام و حرم الزنى فاتتا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و شكتا فانزل اللّه تعالى هذه الاية

و اخرج الثعلبي من حديث مقاتل انه كان لعبد اللّه بن أبيّ ست جوار الحديث فنزلت وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً اى تعففا

قال البيضاوي ليس هذا شرطا قيدا للاكراه فانه لا يوجد بدونه و ان جعل شرطا للنهى لم يلزم من عدمه جواز الإكراه لجواز ان يكون ارتفاع النهى بارتفاع المنهي عنه يعنى عند عدم ارادة التحصن يمتنع الإكراه بل يتحقق الزنى طوعا-

قلت ان هاهنا بمعنى إذا و هو ظرف ليس بشرط و الكلام خرج كذلك لمطابقة سبب النزول و اختير ان موضع إذا للدلالة على ان ارادة التحصن من الإماء كالشاذ النادر و في هذا التقييد توبيخ للموالى و تشنيع لهم على إكراههم و تنبيه على انهن مع قصور عقلهن و اشتهاء انفسهن لما أردن تحصنا فانتم ايها السادة مع انكم رجال غيور أحق بذلك- و قال الحسين و فضيل في الاية تقديم و تأخير تقديرها و انكحوا الأيامى منكم ان أردن تحصّنا و لا تكرهوا فتياتكم على البغاء لِتَبْتَغُوا اى لتطلبوا ايها السادة باكراههن عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا يعنى كسبهن و بيع أولادهن وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللّه مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) يعنى للمكروهات و الوزر على المكره لما كان الحسن إذا قرا هذه الاية قال لهن و اللّه لهن و اللّه و لما في مصحف ابن مسعود من بعد إكراههنّ كهنّ غفور رّحيم- اخرج هذه القراءة عبد بن حميد و ابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن مسعود و على هذا التأويل قوله مَنْ يُكْرِهْهُنَّ مبتدأ خبره محذوف لان الجملة التالية لا تصلح ان تكون خبرا له لعدم العائد الى المبتدأ تقديره و من يكرههنّ فعليه وزرهن فانّ اللّه من بعد إكراههنّ لهنّ غفور رّحيم- و لو قيل تأويل الاية فَإِنَّ اللّه مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ له اى لمن اكره ان تاب جاز كونه خبرا للمبتدأ لكنه بعيد لان سياق الكلام للتوبيخ لمن اكره و ذا لا يناسب الوعد بالمغفرة و الرحمة كيف و الاية نزلت في عبد اللّه بن أبيّ المنافق و قد نزل فيه قوله تعالى سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ إِنَّ اللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ «١».

فان قيل المكرهة غير آثمة فلا حاجة الى المغفرة

قلنا الإكراه بجملته لا ينافى اهلية الأداء لوجود الذمة و العقل و لا يوجب وضع الخطاب بحال لان المكره مبتلى و الابتلاء يحقق الخطاب و لذلك حرم على المكره بالقتل و نحوه الزنى ان كان رجلا اتفاقا- و كذا حرم قتل النفس على المكره بالفتح مطلقا اتفاقا و وجب عليه القصاص عند زفر خلافا لابى حنيفة على ما حقق في موضعه غير انه تعالى رفع الإثم و رخص في مواضع كاجراء الكفر على اللسان إذا كان قلبه مطمئنا بالايمان- و إفساد الصلاة و الصوم و الإحرام و إتلاف مال الغير- إذا كان الإكراه كاملا و رفع الإثم و الرخصة انما هو اثر الرحمة و المغفرة الم تسمع الى قوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ حيث ذكر المغفرة و الرحمة مع رفع الإثم- و يمكن ان يقال ان رفع الإثم انما هو في الإكراه الملجئ و هو ما يخاف منه المكره تلف نفس او عضو ممن يقدر على إيقاعه و الكلام هاهنا في اكراه عبد اللّه بن ابى على أمتيه و الظاهر ان ذلك لم يكن ملجيا فلم يرتفع الإثم و اللّه اعلم-.

(١) و في الأصل استغفر لهم او لا تستغفر لهم لن يغفر اللّه لهم ان اللّه لا يهدى القوم الفاسقين- و ليس في القران هكذا ١٢ الفقير الدهلوي-.

٣٤

وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ يا محمد في هذه السورة جواب قسم محذوف آياتٍ مُبَيِّناتٍ قرأ ابن عامر و حفص و حمزة و الكسائي بالكسر على صيغة اسم الفاعل يعنى آيات بينت الاحكام و الحدود او من بين بمعنى تبين يعنى واضحات تصدقها الكتب المقدمة و العقول السليمة-

و قرا الباقون بالفتح على صيغة اسم المفعول يعنى آيات بينت في هذه السورة و أوضحت فيها الاحكام و الحدود وَ مَثَلًا مِنَ جنس أمثال الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ يعنى قصة عجيبة مثل قصصهم و هى قصة عائشة فانها كقصة يوسف و مريم- او المعنى شبيها من حالهم بحالكم ايها القاذفون ان يلحقكم مثل ما لحق من قبلكم من المفترين وَ مَوْعِظَةً وعظ بها في تلك الآيات لِلْمُتَّقِينَ (٣٤) فانهم هم المنتفعون بها و قيل المراد بالآيات القران و هو موصوف بالصفات المذكورة.

٣٥

اللّه نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ النور في الأصل كيفية يدركها الباصرة اوّلا و يدرك بها سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجسام الكثيفة المحاذية لهما و هو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على اللّه تعالى فهو ليس على ظاهره و يدل عليه إضافته الى ضميره تعالى في قوله مثل نوره- فالمعنى اما بتقدير المضاف او على المبالغة كقولك زيد كرم اى ذو كرم او كريم غاية الكرم كانه نفس الكرم مبالغة او هو مصدر بمعنى الفاعل يعنى منور السموات و الأرض بالشمس و القمر و الكواكب و بالأنبياء و الملائكة و المؤمنين كذا قال الضحاك و يقال منور الأرض بالنبات و الأشجار و قيل معناه الأنوار كلها منه يقال فلان رحمة اى منه الرحمة- و قد يذكر هذا اللفظ على طريق المدح يقول القائل إذا سار عبد اللّه من مرو ليلة- فقد سار منها نورها و جمالها- و قيل المعنى مدبرها من قولهم للرئيس الفائق في التدبير نور القوم لانهم يهتدون به في الأمور- و قيل معناه موجدها فان النور ظاهر لذاته مظهر لغيره و اصل الظهور الوجود كما ان اصل الخفاء العدم و اللّه سبحانه موجود بذاته موجد لكل ما عداه- او الّذي به يدرك او يدرك أهلها من حيث انه يطلق على الباصرة لتعلقها به او لمشاركتها له في توقف الإدراك عليه- ثم على البصيرة لانها افوق إدراكا فانها يدرك نفسها و غيرها من الكليات و الجزئيات الموجودة و المعدومة و تغوص في بواطنها و يتصرف فيها بالتركيب و التحليل- ثم ان هذه الإدراكات لبست لا هلها لذواتها و لا لما فارقتها فهى اذن من سبب يفيضها عليه- و هو اللّه سبحانه ابتداء او بتوسط من الملائكة و الأنبياء و لذلك سموا أنوارا و يقرب من هذا القول ما ذكر البغوي من قول ابن عباس ان معناه هادى اهل السموات و الأرض فهم بنوره يعنى بهدايته الى الحق يهتدون و بهداه من حيرة الضلالة ينجون فاضافته إليهما للدلالة على سعة اشراقه- او لاشتمالها على الأنوار الحسية و العقلية و قصور الإدراكات البشرية عليها و على المتعلق و المدلول بهما- مَثَلُ نُورِهِ اى صفة نور اللّه في قلب المؤمن الّذي يهتدى به الى ذاته تعالى و صفاته و تصديق ما قال مما لا يستبد في إدراكه عقول الفحول و يرى به الحق حقّا و الباطل باطلا قال اللّه تعالى فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ

قال البغوي كان ابن مسعود يقرا مثل نوره في قلب المؤمن- و قال سعيد بن جبير عن ابن عباس مثل نوره الّذى اعطى المؤمن- و قال بعضهم الضمير عائد الى المؤمن و كان ابى يقرأ مثل نور قلب من أمن و هو عبد جعل اللّه الايمان و القران في صدره- و قال الحسن و زيد بن اسلم أراد بالنور القران- و قال سعيد بن جبير و الضحاك هو محمد صلى اللّه عليه و سلم- و قيل أراد بالنور الطاعة سمى طاعة اللّه نورا و أضاف هذه الأنوار الى نفسه كَمِشْكاةٍ و هى الكوة الّتي لا منفذ لها فان كان لها منفذ فهى الكوة- قيل هى حبشية

و قال مجاهد هى القنديل و المضاف مقدر و المعنى مثل نوره كمثل نور مشكوة

فِيها مِصْباحٌ اى سراج مفعال من الصبح بمعنى الضوء و منه الصبح بمعنى الفجر الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ اى في قنديل من الزجاج قال الزجاج انما ذكر الزجاجة لان النور وضوء النار فيها أبين من كل شي ء و ضوؤه يزيد في الزجاج و هذه الجملة صفة للمصباح و العائد المظهر الموضوع موضع المضمر ثم وصف الزجاجة بقوله الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ الجملة صفة لزجاجة و العائد فيها ايضا المظهر الواقع موضع الضمير- قرا ابو عمرو و الكسائي بكسر الدال و المد و الهمزة فهو فعّيل من الدرء

و قرا أبو بكر و حمزة بضم الدال و المد و الهمزة و هذا الوزن شاذ قال اكثر النحاة ليس في كلام العرب فعّيل بضم الفاء و كسر العين و قال ابو عبيدة أصله فعول من دراأت مثل سبوح- ثم استثقلوا كثرة الضمات فردوا بعضها الى الكسرة كما قالوا عتيّا بضم العين من العتو- و على هذين القرائتين هو مشتق من الدرء بمعنى الدفع فانه يدفع الظلام بضوئه او يدفع بعض ضوئه بعضا من لمعانه او يدفع الشياطين من السماء و شبّهه بحالة دفعة الشياطين لانه يكون في تلك الخالة أضوء و أنور و يقال هو من درأ الكوكب إذا اندفع فيتضاعف ضوؤه في ذلك الوقت و قيل درا بمعنى طلع يقال درأ النجم إذا طلع و ارتفع و يقال درأ علينا فلان اى طلع و ظهر و المعنى كانها كوكب طالع

و قرا الآخرون بضم الدال و تشديد الراء و الياء منسوب الى الدّر في صفائه و حسنه-

فان قيل الكوكب اكثر ضوءا من الدّرّ فما وجه نسبته اليه

قلنا معناه انه أضوء و احسن من سائر الكواكب كما ان الدر أضوء و احسن من سائر الحبوب- و قيل الكوكب الدري واحد من الكواكب الخمسة العظام و هى الرخل و المريخ و المشترى و الزهرة و عطارد قلت لعل ذلك الكوكب هى الزهرة لكونها أضوء من غيرها- قيل شبه بالكوكب و لم يشبه بالشمس و القمر لان الشمس و القمر يلحقهما الخسوف و الكسوف بخلاف الكواكب قلت بل وجه ذلك ان المصباح يشبّه بالشمس حيث قال اللّه تعالى وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً فشبّه الزجاجة بالكوكب ليدل على انحطاط رتبة الزجاجة من رتبة المصباح و لو قال كانها شمس لزم فضل الزجاجة على المصباح و هو مخل بالمقصود- يُوقَدُ خبر ثان للمصباح او حال من الضمير المستكن في الظرف المستقر اعنى في زجاجة العائد الى المصباح- قرا ابن كثير «١» و ابو عمرو و ابو جعفر و يعقوب بفتح الماء الفوقانية و فتح الواو و القاف المشددة و الدال على صيغة الماضي من التفعل بمعنى توقد المصباح اى اتقدت يقال توقدت النار اى اتقدت و الباقون على صيغة المضارع المجهول من الافعال فابوبكر و حمزة و الكسائي بالتاء الفوقانية على ان الضمير راجع الى الزجاجة بحذف المضاف و التقدير توقد نار الزجاجة لان الزجاجة لا توقد- و الباقون بالياء التحتانية على ان الضمير للمصباح اى يوقد المصباح مِنْ شَجَرَةٍ من للابتداء يعنى ابتداء يوقد المصباح من شجرة او للسببيّة على حذف المضاف اى من دهن شجرة- أبهم الشجرة ثم وصفها بقوله مُبارَكَةٍ ثم أبدلها و بينها بقوله زَيْتُونَةٍ تعظيما لشأنها و تفخيما لامرها لانها كثيرة البركة و فيها منافع كثيرة فان الزيت يسرج به و هو اصقى و أضوء الادهان و هو ادام و فاكهة و لا يحتاج في استخراجه الى عصّار بل كل واحد يستخرجه

قال البغوي جاء في الحديث انه مصحح من الناسور و هى شجرة توقد من أعلاها الى أسفلها- ذكر البغوي عن أسيد بن ثابت او أسيد الأنصاري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كلوا الزيت و ادهنوا به فانه شجرة مباركة و رواه الترمذي عن عمر مرفوعا و احمد و الترمذي و الحاكم عن ابى أسيد مرفوعا و رواه ابن ماجة و الحاكم و صححه عن ابى هريرة مرفوعا كلوا الزيت و ادهنوا به فانه طيب مبارك- و رواه ابو نعيم في الطب عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كلوا الزيت و ادهنوا به فانه شفاء من سبعين داء منها الجذام- لا شَرْقِيَّةٍ صفة لزيتونة و حرف النفي جزء من المحمول

(١) و في الأصل ابن ذكوان- و هو من زلة القلم- ابو محمّد عفا اللّه عنه.

قيل معناه ليس بمضحى تشرق عليها الشمس دائما فتحرقها وَ لا غَرْبِيَّةٍ و لا في مقناة تغرب و تغيب عنها الشمس دائما فتتركها نيا و هو قول السدى و جماعة و قيل معناه لا شرقية تقع عليها الشمس عند طلوعها فقط و لا غربية تقع عليها الشمس عند غروبها دون طلوعها بل هى نابتة على قلة او في صحراء واسعة تقع عليها الشمس دائما فيكون ثمرها انضج و زيتها أصفى-

قال البغوي و هذا كما يقولون فلان لا بأبيض و لا بأسود يريدون ليس بأبيض خالص و لا باسور خالص بل اجتمع فيه الأمران يقال هذا الرمّان ليس بحامض و لا حلواى بل اجتمع فيه الحموضة و الحلاوة و هو قول ابن عباس في رواية عكرمة و الكلبي و الأكثرين- و قيل معناه غير نابتة في مشرق الأرض و لا في مغربها بل في وسطها و هو الشام فان زيتون الشام يكون أجود- و قال الحسن ليست هذه من أشجار الدنيا و لو كانت في الدنيا كانت شرقية او غربية و انه مثل ضربه اللّه لنوره-

قلت و على هذا القول لعل اللّه سبحانه أراد شجرة من أشجار الجنة و مثّل نوره بنور زيتون الجنة يَكادُ زَيْتُها اى دهنها يُضِي ءُ بنفسه لتلألؤه و فرط و بيصه وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ يعنى قبل ان يصيبه النار هذه الجملة صفة اخرى لزيتونة و فيه مبالغة في بيان صفاء ...

زيت الزيتون و بياضه- و كلمة يكاد موجب لتصحيح المقال نُورُ به عَلى نُورٍ بالنار فهو نور متضاعف فان نور المصباح زاد في إنارته و صفاء الزيت و زهرة القنديل و ضبط مشكوة لا منفذ فيه-

قال البغوي اختلف اهل العلم في معنى هذا التمثيل قال بعضهم وقع التمثيل لنور محمد صلى اللّه عليه و سلم قال ابن عباس لكعب الأحبار أخبرني عن قوله تعالى مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ قال كعب هذا مثل ضربه اللّه لنبيه صلى اللّه عليه و سلم فالمشكوة صدره و الزجاجة قلبه و المصباح فيها النبوة يكاد نور محمد صلى اللّه عليه و سلم و امره يتبين للناس و لو لم يتكلم انه نبى كما كان يكاد ذلك الزيت ان يضئ و لو لم تمسسه نار نور على نور- و لنعم ما قال كعب فها انا اذكر فصلا في ظهور امر نبوته قبل ان يبعث و قبل ان يتكلم انه نبى- (فصل) (فى معجزاته الّتي ظهرت قبل بعثته صلى اللّه عليه و سلم) ذكر في خلاصة السير انه قالت أم النبي صلى اللّه عليه و سلم رايت في المنام حين حملت به انه خرج منى نور أضاء له قصور بصرى من الشام ثم وقع حين ولدته انه لواضع ....

بالأرض رافع رأسه الى السماء- و قال الحافظ ابن حجران أم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رأت حين وضعته نورا أضاءت لها قصور الشام و قال صححه ابن حبان و الحاكم و عند ابى نعيم في الدلائل انه صلى اللّه عليه و سلم لما ولد ذكرت امه ان الملك غمسه في ماء انبعه ثلاث مرات ثم اخرج صرة من حرير ابيض فاذا فيها خاتم فضرب على كتفه كالبيضة المكنونة تضي ء كالزهرة و روى البيهقي و ابن ابى الدنيا و ابن السكن ان ليلة ميلاده صلى اللّه عليه و سلم ارتجس ايوان كسرى و سقطت منه اربع عشرة شرافة و أفزع كسرى و خمدت نار فارس و لم تخمد قبل ذلك بألف عام و غارت بحيرة سلوة- و في حديث عائشة كان يهودىّ سكن مكة يتجر فيها قال ليلة مولد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يا معشر قريش ولد في هذه الليلة نبىّ هذه الامة بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كانهن عرف الفرس فخرجوا باليهودى حتى أدخلوه على امه فقالوا اخرجى المولود ابنك فاخرجته و كشفوا عن ظهره فراى تلك الشامة فوقع اليهودي مغشيا عليه قالوا مالك مالك قال ذهبت و اللّه النبوة من بنى إسرائيل- رواه الحاكم و في المواهب اللدنية قصة عميصا الراهب كان يقول لاهل مكة يوشك ان يولد منكم يا اهل مكة مولود يدين له العرب و يملك العجم هذا زمانه- فلمّا ولد قال لعبد المطلب قد ولد لك المولود الّذي كنت احدّثكم عنه- و عن العباس بن عبد المطلب قال قلت يا رسول اللّه دعانى الى الدخول في دينك امارة لنبوتك رايتك في المهد تناغى «١» القمر و تشير اليه بإصبعك فحيث أشرت اليه مال- قال كنت أحدثه و يحدثنى و يلهينى عن البكاء و اسمع وجبته حين يسجد تحت العرش وعد من الخصائص ان مهده صلى اللّه عليه و سلم كان يتحرك بتحريك الملائكة- و روى انه صلى اللّه عليه و سلم تكلم أوائل ما ولد- و روى ابو يعلى و ابن حبان عن عبد اللّه بن جعفر عن حليمة مرضعة النبي صلى اللّه عليه و سلم قالت لما وضعته في حجرى اقبل عليه ثدياى بما شاء «٢» من لبن فشرب حتى روى و شرب معه اخوه تعنى ضمرة و ناما- و ما كان ينام قبل ذلك و ما كان في ثديى ما يرويه و لا في شارفنا ما يغذيه- و قام زوجى الى شارفنا تلك فنظر إليها فاذا انها لحافل فحلب منها ما شرب و شربت حتى انتهينا ريا و شبعا فبتنا بخير ليلة- و لما رجعنا ركبت أتاني و حملته عليها فو اللّه لقد قطعت «٣» مالا يقدر عليها شي ء من حمرهم- حتى ان صواحبى ليقلن لى ويحك يا بنت ابى ذويب اربعى علينا أ ليس هذه أتانك الّتي كنت خرجت عليها- فاقول بلى و كانت قبل ذلك قد اذمت بالركب حتى شق عليهم ضعفا و عجفا- و عن ابن عباس قال كانت حليمة تحدث انها أول ما فطمت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تكلم فقال اللّه اكبر كبيرا و الحمد للّه كثيرا و سبحان اللّه بكرة و أصيلا .... فلما ترعرع «٤»

(١) تناغى اى تجادل ناغت الام صبيها لا طفته و شاغلته بالمحادثة و الملاعبة ١٢ منه رحمه اللّه.هكذا في حاشية الأصل من يد المفسر رحمه اللّه تعالى و الغالب انه تحادث لان المناغاة المحادثة فلعله من زلة القلم ١٢ الفقير الدهلوي-.

(٢) بما شاء اى بما شاء اللّه من لبن إلخ كذا في الزرقانى ١٢ الفقير الدهلوي.

(٣) هكذا في الزرقانى و في الأصل فو اللّه تقطعت إلخ الفقير الدهلوي-.

(٤) فى الأصل تزعزع بالزاءين المعجمتين و ليس بشي ء و في مجمع البحار ترعرع الصبى بالرائين المهملتين إذا نشاء و كبر ١٢ الفقير الدهلوي-.

كان يخرج فينظر الى الصبيان يلعبون فيجتنبهم الحديث- و عنه قال كانت حليمه لا تدعه يذهب مكانا بعيدا فغفلت عنه فخرج مع أخته الشيماء في الظهيرة الى البهم فخرجت حليمة تطلبه فوجدته مع أخته فقالت في هذا الحرّ فقالت أخته يا امه ما وجد أخي حرا رايت غمامة تظلّه إذا وقف وقفت و إذا سار سارت معه و في الشمائل المجدية قالت حليمة ما كنا نحتاج الى السرّاج من يوم أخذناه لان نور وجهه كان أنور من السراج فاذا احتجنا الى السراج في مكان جئنا به فتنورت الامكنة ببركته صلى اللّه عليه و سلم- و روى ان حليمة لمّا أخذته دخلت على الأصنام فنكس الهبل رأسه و كذا جميع الأصنام من أماكنها تعظيما له- و جاءت به الى الحجر الأسود ليقبّله فخرج الحجر الأسود من مكانه حتى التصق بوجهه الكريم صلى اللّه عليه و سلم- و روى انه لمّا ارضعته حليمة درّ لبنها و انهمر فكانت ترضع معه عشرة او اكثر- و كانت حليمة إذا مشت به على واد يابس اخضر في الوقت- و كانت تسمع الأحجار تنطق بسلامها عليه و الأشجار تحن بأغصانها اليه- و كان النبي صلى اللّه عليه و سلم يخرج .... هو و اخوه يرعيان الغنم فقال اخوه ان أخي الحجازي إذا وقف بقدميه على الوادي يخضر لوقته- و إذا جاء الى البئر و نحن نسقى الأغنام يعلو الماء الى فم البئر و إذا قام في الشمس ظلته الغمامة- و تأتى الوحوش اليه و هو قائم فتقبّله- و في خلاصة السير أن مرضعة النبي صلى اللّه عليه و سلم قالت بينما هو في بهم لنا إذ جاء اخوه يشتد فقال أخي القرشي قد اخذه رجلان عليهما ثياب بيض فاضجعاه فشقا بطنه قالت فخرجنا نحوه فوجدناه قائما متقنعا وجهه فالتزمناه و

قلنا مالك- قال جاءنى رجلان عليهما ثياب بيض فاضجعانى فشقا بطني فالتمسا فيه شيئا لا أدرى ما هو- و في رواية من حديث شداد بن أوس عند ابى يعلى و ابى نعيم و ابن عساكر فاذا انا برهط ثلاث معهم طست من ذهب ملئى ثلجا فعمد أحدهم فاضجعنى على الأرض ثم اخرج أحشاء بطني ثم غسلها بذلك الثلج فانعم غسلها ثم أعادها مكانها- ثم قام الثاني

و اخرج قلبى و انا انظر اليه فصدعه ثم اخرج منه مضغة سوداء فرمى به- ثم قال بيده يمنة و يسرة كانه يتناول شيئا فاذا بخاتم في يده من نور يحار الناظر دونه- فختم به قلبى فامتلا نورا و ذلك نور النبوة و الحكمة ثم أعاد مكانه فوجدتّ برد ذلك الخاتم في قلبى دهرا- ثم قال الثالث لصاحبه تنح فامرّ يده بين مفرق صدرى الى منتهى عانتى فالتام ذلك الشق- و في حديث انس قال لقد كنت ارى اثر المخيط في صدره صلى اللّه عليه و سلم-

و اخرج ابن عساكر ان أبا طالب حين أقحط الوادي استسقى و معه النبي صلى اللّه عليه و سلم و هو غلام فاخذ ابو طالب النبي صلى اللّه عليه و سلم و الصق ظهره بالكعبة و لاذ النبي صلى اللّه عليه و سلم بإصبعه و ما في السماء قزعة- فاقبل السحاب من هاهنا و هاهنا و اغدق و اغدق و انفجر له الوادي- و في ذلك قال ابو طالب شعر و ابيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للارامل «١»

و في خلاصة السير انه لمّا بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اثنتي عشرة سنة خرج مع عمه ابى طالب الى الشام فلما بلغ بصرى راه بحيرا الراهب فعرفه بصفته فجاء فاخذ بيده و قال هذا رسول رب العالمين يبعثه اللّه رحمة للعالمين- فقيل و ما علمك بذلك قال انكم أقبلتم من العقبة فلم يبق حجر و لا شجر إلا خرّ ساجدا و لا يسجد ان الا للنبى و انا نجده في كتبنا- و قال لابى طالب لئن قدمت به الشام ليقتلنه اليهود فرده خوفا عليه- ثم خرج النبي صلى اللّه عليه و سلم مرة ثانية الى الشام و هو ابن خمسة و عشرين سنة مع ميسرة غلام خديجة في تجارة لها قبل ان يتزوجها-

(١) اى المساكين من الرجال و النساء- و هو بالنساء أخص الّتي مات زوجها- منه رح.

فلما قدم الشام نزل تحت ظلّ شجرة قريبا من صومعة راهب فاطلع الراهب الى ميسرة فقال من هذا الرجل قال ميسرة رجل من قريش من اهل الحرم فقال ما نزل تحت هذه الشجرة قط الا نبى- و في بعض الروايات ان الراهب دنا الى النبي صلى اللّه عليه و سلم و قال امنت و انا اشهد انك الّذي ذكره اللّه في التورية فلما راى الخاتم قبّله و قال اشهد انك رسول اللّه النبي الأمي الهاشمي العربي المكي صاحب الحوض و الشفاعة و لواء الحمد و قيل ان ميسرة قال كان إذا كانت الهاجرة و اشتد الحرّ نزل ملكان يظلانه من حر الشمس و هو يسير على بعيره- و لما سمعت خديجة ذلك من ميسرة اشتاقت الى ان يتزوجها صلى اللّه عليه و سلم- فائدة قال السهيلي في توجيه قول الراهب ما نزل تحت هذه الشجرة قط الا نبى انه يريد ما نزل تحتها هذه الساعة و مبنى قوله هذا بعد العهد بالأنبياء و استبعاد بقاء الشجرة تلك المدة الطويلة و استبعاد وجود شجرة على الطريق تخلو من ان ينزل تحتها أحد قط لكن لفظة قط في الخبر يمنع هذا التوجيه- و لا شك ان المعجزات انما تكون بخرق العادات فلا وجه للاستبعاد فان اللّه قادر على ابقاء الشجرة و صرف الناس عن النزول تحتها زمانا طويلا على خلاف العادة و اللّه اعلم- رجعنا الى التفسير روى سالم عن ابن عمر في هذه الاية قال المشكوة جوف محمّد صلى اللّه عليه و سلم و الزجاجة قلبه و المصباح النور الّذي جعل اللّه فيه لا شرقية و لا غريبة اى لا نصرانى و لا يهودى توقد من شجرة مباركة يعنى ابراهيم عليه السلام نور على نور نور قلب ابراهيم على نور قلب محمّد صلى اللّه عليه و سلم و قال محمد بن كعب القرظي المشكوة ابراهيم و الزجاجة إسماعيل و المصباح محمد صلى اللّه عليه و سلم سماه اللّه مصباحا كما سماه سراجا حيث قال و سراجا مّنيرا- توقد من شجرة مباركة و هى ابراهيم عليه السلام سماه مباركا لان اكثر الأنبياء من صلبه لا شرقية و لا غربية يعنى ابراهيم لم يكن يهوديّا و لا نصرانيّا و لكن كان حنيفا مسلما لان اليهود يصلّون قبل المغرب و النصارى قبل المشرق- يكاد زيتها يضى ء و لو لم تمسسه نار يكاد محاسن محمد صلى اللّه عليه و سلم تظهر للناس قبل ان يوحى اليه نور على نور نبى من نسل نبى نور محمد على نور ابراهيم عليهما الصلاة و السّلام- و قال بعضهم وقع هذا التمثيل لما نور به قلب المؤمن من العلوم و المعارف بنور المشكوة المثبت فيها من مصباحها و يؤيده قراءة أبيّ و ابن مسعود روى ابو العالية عن ابى بن كعب قال هذا مثل المؤمن فالمشكوة نفسه و الزجاجة صدره و المصباح ما جعله اللّه من الايمان و القران في قلبه يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ و هى الإخلاص للّه وحده فمثله كمثل الشجرة الّتي التفت بها الشجر و هى خضراء ناعمة لا يصيبها الشمس إذا طلعت و لا إذا غربت- و كذلك المؤمن قد احترس من ان يصيبه شي ء من الفتن فهو بين اربع خلال إذا اعطى شكر و إذا ابتلى صبر و إذا حكم عدل و إذا قال صدق- يكاد زيتها يضئ اى يكاد قلب المؤمن يعرف الحق قبل ان يتبين له لموافقته إياه نور على نور قال ابى و هو ينقلب بين خمسة أنوار قوله نور و علمه نور و مدخله نور و مخرجه نور و مصيره الى النور يوم القيامة- و قال ابن عباس هذا مثل نور اللّه و هذا في قلب المؤمن يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى فاذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى و نورا على نور قلت يعنى قلب الصوفي ينشرح بالحق قولا و فعلا و اعتقادا فيقبله و ينقبض بالباطل فلا يقبله و من ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم استفت نفسك و ان أفتاك المفتون- رواه البخاري في التاريخ عن وابصة بسند حسن فاذا جاءه العلم بالكتاب و السنة ازداد هدى و يقينا و قال الكلبي يعنى ايمان المؤمن و عمله و قال السدى نور الايمان و نور القران- و قال الحسن و ابن زيد هذا مثل للقران فالمصباح هو القران فانه كما يستضاء بالمصباح يهتدى بالقران و الزجاجة قلب المؤمن و المشكوة فمه و لسانه و الشجرة المباركة شجرة الوحى يكاد زيتها يضئ اى يكاد حجة القران يتضح و ان لم يقرأ- يعنى القران نور من اللّه عزّ و جلّ لخلقه مع ما اقام لهم من الدلالات و الاعلام قبل نزول القران فازدادوا بذلك نورا على نور- و قيل هو تمثيل للّهدى الّذي دل عليه الآيات المبينات في جلاء مدلولها و ظهور ما تضمنته من الهدى بالمشكاة المنعوتة- او تشبيه للّهدى من حيث انه محفوف بظلمات أوهام الناس و خيالاتهم بالمصباح و انما دخل الكاف على المشكوة لاشتمالها عليه- او تمثيل لما منح اللّه على عباده من القوى الدراكة الخمس المترتبة الّتي ينط بها المعاش و المعاد و هى الحساسة الّتي يدرك المحسوسات بالحواس الخمس و الخيالة الّتي تحفظ صور تلك المحسوسات لتعرضها على القوة العقلية متى شاءت- و العاقلة الّتي تدرك الحقائق الكلية و المتفكرة الّتي تؤلف المعقولات لتستنتج منها علم مالم يعلم و القوة القدسية الّتي يتجلى فيها لوائح الغيب و اسرار الملكوت المختصة بالأنبياء و الأولياء المعنيّة بقوله تعالى وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا بالأشياء الخمسة المذكورة في الاية و هى المشكوة و الزجاجة و المصباح و الشجرة و الزيت- فان الحساسة كالمشكوة لان لها محلها كالكوى و وجهها الى الظاهر لا يدرك ما وراءها و اضاءتها بالمعقولات لا بالذات- و الخيالية كالزجاجة في قبول صور المدركات من الجوانب و ضبطها للانوار العقلية و انارتها بما يشتمل عليها من العاقلة- و العاقلة كالمصباح لاضاءتها بالإدراكات الكلية و المعارف الالهية- و المتفكرة كالشجرة المباركة لتأديتها الى ثمرات لا نهاية لها الزيتونة المثمرة للزيت الّذي هو مادة المصباح الّتي لا تكون شرقية و لا غربية لتجردها عن اللواحق الجسمية او لوقوعها بين الصور و المعاني متصرفة فى القبيلتين منتفعة من الجانبين- و القوة القدسية كالزيت فانها لصفائها و ذكائها يكاد يضئ بالمعارف من غير تفكر و لا تعلم- او تمثيل للقوة العقلية فانها في بدء أمرها خالية عن العلوم مستعدة لقبولها كالمشكوة ثم تنتقش بالعلوم الضرورية بتوسط احساس الجزئيات بحيث يتمكن من تحصيل النظريات فتصير كالزجاجة متلالية في نفسها ......

فاذا حصل له العلوم فان كان بفكر و اجتهاد فكالشجرة الزيتونة و ان كان بالحدث فكالزيت و ان كان لقوة قدسية فكالذى يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ لانها تكاد تعلم و لو لم يتصل بملك الوحى و الإلهام الّذي مثله النار من حيث ان العقول تشتعل عنها- ثم إذا حصلت لها العلوم بحيث يتمكن من إحضارها متى شاءت كان كالمصباح فاذا استحضرها كان نورا على نور ولى في هذه الاية تأويلان آخران مبتنيان على كشف المجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه أحدهما اللّه نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يعنى موجدها و مظهرها من كتم العدم في الخارج الظلي مثل نوره اى وجوده الّذي انبسط على ماهيات الممكنات- و الاضافة للتشريف كما في بيت اللّه و ناقة اللّه او لانه صادر منه كما يقال نور الشمس و القمر لما انبسط على الأرض من النور لاجل مقابلتهما كمشكوة اى كنور مشكوة على حذف المضاف فيها مصباح تنورت المشكوة بذلك المصباح فكما ان المشكوة استفادت النور و تنورت بالمصباح كذلك ماهيات الممكنات استفادت نور الوجود و وجدت بمصباح صفات اللّه سبحانه و أسمائه الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ نعت اللّه سبحانه المصباح بكونها في الزجاجة لكمال التصوير- فان المجدد رضى اللّه عنه قال ان مبادى تعينات عامة الممكنات (سوى الأنبياء و الملائكة) ظلال الأسماء و الصفات و ذلك ان اللّه سبحانه كما يعلم صفات كماله كذلك يعلم نقائضها الّتي هى مسلوبة عنه تعالى كالموت نقيض الحيوة و الجهل نقيض العلم و العجز نقيض القدرة و الصمم نقيض السمع و العمى نقيض البصر و البكم نقيض الكلام و الجبر نقيض الارادة و التعطل نقيض التكوين- و إذا اجتمعت في مرتبة العلم صفاته تعالى مع نقائضها انتقشت و تلونت صور تلك النقائض بعكوس الصفات فصارت مخلوطات حقائقها الاعدام و عوارضها عكوس الصفات- فتلك المخطوطات تسمى في اصطلاح الصوفية بظلال الصفات و الأعيان الثابتة في مرتبة العلم و مبادى تعينات الممكنات و حقائقها و مربيات لها و هى كالزجاجة الّتي تنورت بنور المصباح و الظرفية من حيث التجلّى فان الصفات تجلّت في الظلال .... فتنوّرت الظلال بانوارها كما ان الزجاجة تنوّرت بنور المصباح الكائن فيها و الظلال تجلّت و اعطت نورها المقتبس من الصفات على ماهيات الممكنات- فتنوّرت و وجدت و ظهرت الماهيات بنور الظلال كما ان المشكوة تنورت بنور الزجاجة المقتبس من المصباح- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حجابه النور لو كشفه لاحرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره من خلقه رواه مسلم في حديث ابى موسى لعل المراد بالنور في هذا الحديث هى مرتبة الظلال و سبحات الوجه صفات اللّه سبحانه- فان ماهيات الممكنات لدنو رتبتها و ضعف استعداداتها غير صالح للاقتباس عن الصفات من غير توسط الظلال فلولاها لانعدم الممكنات بأسرها- لكن الأنبياء و الملائكة لقوة استعداداتهم اقتبسوا من الصفات كما ان الظلال اقتبسوا منها و لاجل ذلك خلقوا معصومين لانعدام الشر في أصولهم الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يعنى انها لا معة بانوار المصباح بحيث تشتبه بالمصباح على الناظرين حتى لا يكادون يميزون بينها و بين المصباح قال الشاعر

رق الزجاج و رقت الخمر فتشابها و تشاكل الأمر

فكانّما خمر و لا زجاج و كانّما زجاج و لا خمر

و من أجل هذا التشابه و التشاكل بين الظلال و الصفات زعم كثير من العرفاء (و هم الصوفية الوجودية) الظلال صفات للّه تعالى و لم تتميّز عندهم المرتبتان و قالوا الصفات عين الذات- و زعموا ماهيات الممكنات عين ما يتجلّى فيها من مربياتها- فقالوا ليس في الكون الا اللّه و ليس في جبتى سوى اللّه و قال شاعرهم شعر

لا ملك سليمان و لا بلقيس و لا آدم في الكون و لا إبليس

و الكل صور و أنت المعنى يا من هو للقلوب مقناطيس

و ما هى الا هفوات نشات من السكر و غلبة العشق فلم يتميزوا بين المتجلّى و بين ما تجلّى فيه رحمهم اللّه- يوقد ذلك المصباح من شجرة مّبركة زيتونة يعنى من زيتها اعلم ان الصفات تنوّرت اى وجدت و ظهرت في الخارج الحقيقي بذات اللّه سبحانه فهى ممكنة في نفسها واجبة بذات اللّه تعالى و هى من جهة إمكانها مربيات لتعينات الأنبياء و الملائكة و هى موجودة بوجود قديم مستفاد من الذات فالذات شبّهت بشجرة مّباركة زيتونة- و لاجل ذلك نعتت الشجرة بكونها لا شرقية و لا غربية لمتنزه الذات عن جميع الجهات- و هذه الصفات الّتي شبّهت بالمصباح زائدة على الذات على ما هو مستفاد من الكتاب و السنة و عليه انعقد اجماع اهل الحق من الامة- و اما قول الأشعري انها لا عين الذات و لا غيرها معناه انها زائدة على الذات فليست عينها غير منفكة عنها و هو المعنى بلا غيرها و أنكر الفلاسفة و المعتزلة الصفات الزائدة و قالوا لو كانت الصفات غير الذات زائدة عليها لزم احتياج الذات إليها في ترتب الآثار- فقال المتكلمون الممتنع الاحتياج الى شي ء اجنبى و اما الاحتياج الى الصفات فغير ممتنع- و قال المجدد رضى اللّه عنه ان صفات اللّه تعالى الزائدة على الذات موجودة في الخارج على ما اقتضته الحكمة الخفية و دلت عليه النصوص و الإجماع لكن ذاته تعالى في حد ذاته مستغن عن الصفات غير محتاجة إليها في ترتب الآثار حتى لو فرضنا عدم الصفات لكفى الذات في ترتب الآثار- فالذات كاف فى الاستماع و لو فرضنا عدم زيادة وصف السمع و كذلك كاف في الابصار و نحو ذلك فالذات باعتبار انها صالحة لترتب اثار الاستماع تسمى شأن السمع و اعتباره و باعتبار انها صالحة للابصار تسمى شأن البصر و هكذا فالشيون اصول للصفات كما ان الصفات اصول للظلال- و هذه الاعتبارات و الشيون الكائنة في الذات شبيهة بالزيت في الشجرة المباركة الزيتونة فتم التشبيه بقوله تعالى يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ حيث جاز ترتب الآثار على اعتبارات الذات و لو لم تكن هناك صفات شبيهة بنار المصباح- نور على نور- يعنى نور المصباح المنور للزجاج و المشكوة زائد على نور زيت الشجرة كما ان نور الصفات في ترتب الآثار عليها و اضاءة الماهيات و إيجاد الممكنات زائد على نور اعتبارات في الذات يهدى اللّه لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ يعنى لا يعلم هذه المعارف الخاصة الا من يشاء اللّه من خواص العرفاء و اللّه اعلم- و على هذا التأويل في هذه الاية اشارة الى الإيجاد و الولادة الاولى من كتم العدم الى الوجود الخارجي الظلي المستلزم لا قربية الذات بسائر الموجودات عامة المكنى بقوله تعالى وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ و قد ذكرنا تحقيق الاقربية في تفسير تلك الاية في سورة قاف- و التأويل الثاني على ما قاله السلف اللّه نور السّموت و الأرض اى هادى اهل السموات و الأرض فهو بنوره يهتدون الى معرفة الذات و الصفات و يرتقون الى مدارح القرب الخاص المكنى عنه بقوله تعالى قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ و قوله تعالى اللّه وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ و قوله عليه السلام حكاية عن اللّه سبحانه لا يزال عبدى يتقرب الىّ بالنوافل حتى أجبته فاذا أجبته كنت سمعه الّذي يسمع به الحديث- و هذا القرب هو المسمى بالولاية الخاصة مثل نوره في قلب المؤمن كمشكوة اى كنور مشكوة فيها مصباح فالمشكوة حينئذ مثال لقلب المؤمن و المصباح الموقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقيّة و لا غربيّة يكاد زيتها يضئ و لو لم تمسسه نار شبيه بما يتجلّى في قلب المؤمن من صفات اللّه سبحانه المنشعبة من الذات المندمج فيها الشيون و الاعتبارات الذاتية على ما مرّ تقريره- و قوله الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ اشارة الى ان عامة الناس من الأولياء ليس حظهم من تجليات الصفات الا من وراء حجب الظلال فان مبادى تعينات غير الأنبياء انما هى ظلال الصفات ففاية ارتقائهم بالاصالة الى أصولهم و هى الظلال الّتي يقتبسون بتوسطها أنوار الصفات فيحصل لهم فيها الفناء و البقاء و يتقربون الى اللّه بقرب يسمى ولاية الأولياء و هى الولاية الصغرى لكن بعض الآكلين منهم قد يحصل لهم الترقي من هذا المقام بتبعية صاحب الشريعة الى مقام الصفات بل الى الشيون و الاعتبارات و يحصل فيها الفناء و البقاء فمقام الصفات من حيث الظهور يعنى من حيث قيامها بالذات يسمى الولاية الكبرى ولاية الأنبياء و من حيث البطون يسمى الولاية العليا ولاية الملائكة- ثم الصديقون منهم (و هم ثلّة من الاوّلين يعنى اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قليل من الآخرين) يرتقون من مقام الصفات و الشيون الى مرتبة الذات المتعالي من الشيون و الاعتبارات حتى يتجلّى الذات بلا حجب الصفات و الاعتبارات فتبارك اللّه رفيع الدرجات- و ليس في هذه الاية اشارة الى الفريقين الأخيرين غير ان قوله تعالى نُورٌ عَلى نُورٍ جاز ان يكون اشارة الى تفاوت درجات الأولياء في مراتب وصولهم الى اللّه تعالى- يعنى ان هناك نور على نور بعضها فوق بعض يَهْدِي اللّه لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ على حسب ما شاء عن عبد اللّه بن عمرو قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ان اللّه خلق خلقه في ظلمة فالقى عليهم من نوره فمن أصاب من ذلك النور اهتدى و من أخطأه ضلّ فلذلك أقول جف القلم على علم اللّه- رواه احمد و الترمذي يعنى خلق اللّه خلقه في ظلمة اى جهل و ضلال ناش من العدم الذاتي الكائن في مبادى تعيناتهم فالقى عليهم من نوره اى من النور الّذي اقتبس الظلال من الصفات فمن أصابه ذلك النور اهتدى و من اخطأه ضل و طريق الاصابة ان يقتبس ذلك النور ممن بعثه اللّه رحمة للعالمين و شرح صدره و ملأ قلبه نورا و حكمة و ايمانا و يجعل قلبه مرءاة لقلبه عليه السلام فيتنور قلبه بقدر الاقتباس و الاقتفاء فمنهم من اكتسب صورة الايمان و نجا من الكفر في الدنيا و النيران في الاخرة و منهم من اكتسب حقيقة الايمان على تفاوت الدرجات و منهم من لم يقتبس أصلا فاخطأه النور و ضلّ- عن ابى عنبسة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان للّه تعالى آنية من اهل الأرض وانية ربكم قلوب عباد اللّه الصالحين و احبّها اليه ألينها و أرقها- رواه الطبراني وَ يَضْرِبُ اللّه الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ يعنى يبين في القران للامور الّتي لا سبيل للحواس إليها بالأمثال المحسوسة ليحصل للناس بها علم و يزداد وضوحا- و جاز ان يكون معنى الاية ان اللّه يرى أولياءه في عالم المثال أمثالا لما لا مثل له حتى يتبين لهم الحق- و ذلك ان القرب الى اللّه سبحانه ثابت بالكتاب و السنة لا يزال العبد يتقرب اليه بالنوافل لكن ذلك القرب امر غير متكيف لا يمكن دركه بالحواس و لا بالعقل و لا يتعلق به علم حصولى و لا حضورى و لكن يدرك بعلم مفاض من اللّه تعالى س وى ما ذكر و هو المكنى بقوله حتى كنت سمعه الّذي يسمع به- و جعل اللّه تعالى لدركه وجها اخر و هو ان الأمور الّتي لا مثل لها يتمثل في عالم المثال بصورة الأجسام فيرى الصوفي في عالم المثال دائرة للظلال و دائرة للصفات و نحو ذلك- و كلّما يتقرب العبد الى اللّه بالنوافل و الانابة و الاجتباء يرى الصوفي نفسه سائرا الى دائرة الظلال حتى يصلها و يضمحل فيها و يتلون بلونها- ثم يرى نفسه سائرا الى الصفات حتى يصلها و يضمحل فيها و يتلون بلونها- و ذكر التلون انما هو لقصور العبارة و الّا فلا لون هناك قال اللّه تعالى سنريهم ايتنا في الآفاق و في أنفسهم حتّى يتبيّن لهم انّه الحقّ وَ اللّه بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (٣٥) هذه الجملة حال من فاعل يضرب.

٣٦

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّه أَنْ تُرْفَعَ صفة لبيوت و ان بتقدير الباء متعلق بإذن اى اذن اللّه بان ترفع تلك البيوت و المراد بها المساجد قال سعيد بن جبير عن ابن عباس المساجد بيوت اللّه في الأرض و هى تضي ء لاهل السماء كما تضي ء لاهل الأرض النجوم- و معنى ان ترفع قال مجاهدان تبنى نظيره قوله تعالى وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من بنى للّه مسجدا بنى اللّه له بيتا في الجنة متفق عليه من حديث عثمان و قال الحسن معناه ان تعظم يعنى لا يذكر فيها القبيح من القول قال اللّه تعالى أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ-

قال البغوي روى صالح ... بن حبان عن بريدة في هذه الاية قال انما هى اربع مساجد لم يبنها الا نبى الكعبة بناها ابراهيم و إسماعيل و بيت المقدس بناها داود و سليمان و مسجد المدينة و مسجد قبا اسّس على التّقوى من اوّل يوم بناهما رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم-

قلت و لا وجه لتخصيص هذه المساجد و ان كن هى أفضل المساجد البتة- قوله في بيوت متعلق بما قبله اى كمشكوة في بعض بيوت كذلك او توقد في بيوت كذلك فيكون تقييدا للممثل به- و هذا التأويل عندى ضعيف لان اللّه سبحانه شبّه نوره بنور المشكوة و قيدها بقيود تدل على قوة النور و شدة لمعانه و لا مدخل في ذلك لهذا القيد أصلا- و القول بان قناديل المساجد تكون أعظم ممنوع بل قناديل مجالس الأغنياء يكون أقوى نورا و أشد لمعانا من قناديل المساجد- فالاولى ان يقال انه متعلق بقوله تعالى يَهْدِي اللّه لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ فان الهداية غالبا يكون للعاكفين في المساجد و المصلين حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الصلاة معراج المؤمن «١» و قال

(١) هكذا بياض في الأصل ١٢.

اقرب ما يكون العبد من ربه و هو ساجد فاكثروا الدعاء- رواه مسلم و ابو داود و النسائي عن ابى هريرة و جاز ان يكون متعلقا بمحذوف يعنى سبحوا امر بالتسبيح لجلب هداية اللّه المذكور فيما سبق وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ في الصلاة و خارجها قال ابن عباس يتلى فيها كتابه يُسَبِّحُ صفة اخرى لبيوت او جملة مستأنفة او خبر اخر للّه يعنى اللّه نور السّموت و الأرض و اللّه يسبح له- قرا أبو بكر و ابن عامر بفتح الباء على البناء للمفعول مسندا الى احدى الظروف الثلاثة المذكورة بعدها و الوقف على هذا على الآصال و الباقون بكسر الباء على البناء للفاعل لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ (٣٦) قال اهل التفسير أراد به الصلوات المكتوبات فان المساجد بنيت لاجلها فصلوة الفجر تؤدّى بالغدو و الاربعة الباقية بالآصال- و الغدو في الأصل مصدر اطلق للوقت و لذلك حسن اقترانه بالآصال و هو جمع «١» اصل اى العشى و قيل أراد صلوة الصبح و العصر لكمال الاهتمام فان الصبح وقت النوم و العصر وقت الاشتغال بالسوق و لذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من صلى البردين دخل الجنة- رواه مسلم من حديث ابى موسى و قال اللّه تعالى حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى

قال البغوي روى عن ابن عباس قال التسبيح بالغدو و صلوة الضحى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من مشى الى صلوة مكتوبة و هو متطهر فاجره كاجر الحاج المحرم و من مشى الى صلوة الضحى لا ينصبه الا إياه فاجره كاجر المعتمر و صلوة على اثر صلوة كتاب في عليين- ذكره البغوي من حديث ابى امامة و روى الطبراني عنه بلفظ من مشى الى صلوة مكتوبة في الجماعة فهى كحجة و من مشى الى صلوة تطوع فهى كعمرة نافلة-.

(١) و في مجمع البحار الآصال جمع اصل (بضمتين) جمع اصيل و قيل غير ذلك ١٢ الفقير الدهلوي. [.....].

٣٧

رِجالٌ فاعل يسبح على قراءة الجمهور و فاعل لفعل محذوف دل عليه يسبح على قراءة ابن عامر و ابى بكر في جواب سوال مقدر كانّه قيل من يسبح له فقال يسبح له رجال- خص الرجال بالذكر لانه ليس على النساء جمعة و لا جماعة في المسجد او لان الغالب في النساء الجهل و الغفلة لا تُلْهِيهِمْ اى لا تشغلهم تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ أفرد البيع بالذكر مع شمول لفظ التجارة إياه لانه أهم من قسمى التجارة فان الربح يتوقع بالاشتراء و يتحقق بالبيع- و قيل أراد بالتجارة الاشتراء (و ان كان اسم التجارة يقع على البيع و الاشتراء) يدل عطف البيع عليه- و انما ذكر لفظ التجارة موضع الاشتراء لان الاشتراء مبدأ التجارة و قيل أراد بالتجارة المعاملة الرابحة ثم ذكر البيع مبالغة بالتعميم بعد التخصيص- و قال الفراء التجارة لاهل الجلب و البيع ما باعه الرجل على يديه عَنْ ذِكْرِ اللّه يعنى عن حضور المساجد لا قام الصلاة

قال البغوي روى سالم عن ابن عمر انه كان في السوق فاقيمت الصلاة فقام الناس فاغلقوا حوانيتهم فدخلوا المسجد فقال ان فيهم نزلت لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّه او المراد لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر اللّه و دوام الحضور و هذا يعم من ترك المعاملات و استغرق أوقاته بالطاعات و اعتزل الناس و من لم يترك المعاملات و هو مع اشتغاله بالتجارات لا يشغل التجارة قلبه عن ذكر اللّه فهو في الناس كائن بائن ظاهره مع الخلق و باطنه مع اللّه غافل عما سواه وَ إِقامِ الصَّلاةِ عوض فيه الاضافة من التاء المعوضة من العين الساقط بالاعلال-

قال البغوي أراد اللّه سبحانه أداءها في أوقاتها لان من اخّر الصّلوة عن وقتها ليس هو مقيما للصلوة وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ المفروضة قال ابن عباس إذا حضر وقت الزكوة لم يحبسوها- و قيل هى الأعمال الصالحة كلها- يَخافُونَ حال من فاعل يسبح او من مفعول لا تلهيهم يعنى انهم مع ما هم عليه من الذكر و الطاعة يخافون يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ صفة ليوما و العائد ضمير فيه يعنى تضطرب و تتغير من الهول الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ (٣٧) و قيل معناه تتقلّب قلوب الكفار عمّا كانت عليه في الدنيا من الكفر و الشك و تنفتح أبصارهم من الاغطية فتبصر ما لم تكن تبصر و لم تحتسب و تتقلب قلوب المؤمنين و أبصارهم عما كانوا عليه من القناعة بمشاهدة المثال فيرون اللّه سبحانه كالقمر ليلة البدر و كالشمس في رابعة النهار- و قيل معناه تتقلب القلوب يوم القيامة من الخوف و الرجاء يخشى الهلاك و يطمع النجاة و تتقلب الابصار حولهم من اى ناحية يؤخذا من ذات اليمين أم من ذات الشمال و من اين يؤتون كتبهم أمن قبل اليمين أم من قبل الشمال- و قيل تتقلب القلوب من الخوف فترجع الى الحنجرة فلا تنزل و لا تخرج و تتقلب الابصار اى تشخص من هول الأمر و شدته.

٣٨

لِيَجْزِيَهُمُ اللّه متعلق بيسبح او بلا تلهيهم و جاز ان يكون متعلقا بيخافون و يكون اللام حينئذ للعاقبة إذا لخوف ليس من الافعال الاختيارية- و العلة الغائية يختص بالافعال الاختيارية- أَحْسَنَ جزاء ما عَمِلُوا الموعود لهم من الجنة فهو منصوب على المصدر او المعنى يجزيهم أعمالهم الحسنة فاحسن بمعنى حسن و هو منصوب على المفعولية وَ يَزِيدَهُمْ على الجزاء الموعود او على جزاء أعمالهم مالم يخطر ببالهم مِنْ فَضْلِهِ وَ اللّه يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨) تقرير للزيادة و تنبيه على كمال القدرة و نفاذ المشية و سعة الإحسان يعنى يرزق اللّه ما لا نهاية له يقال فلان ينفق بغير حساب اى يوسع كانه لا يحسب ما ينفقه-.

٣٩

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ و هو اللامع في المفازة من لمعان الشمس عليها وقت الظهيرة يظن انه ماء يسرب اى يجرى- الجملة معطوفة على مضمون الكلام السابق تقديره المهتدون بنور اللّه يجزيهم اللّه احسن ما عملوا و يزيدهم و الذين كفروا لا ينفعهم أعمالهم فانها كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ القيعة و القاع المستوي من الأرض و جمعه قيعان و تصغيره قويع و قيل هى جمع قاع كحيرة و حار يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ اى يتوهمه العطشان ماءً تخصيص الظمآن بالذكر لتشبيه الكافر به في شدة الخيبة عند مسيس الحاجة حَتَّى إِذا جاءَهُ اى جاء ما توهمه ماءا و موضعه لَمْ يَجِدْهُ شيئا مما ظنه وَ وَجَدَ اللّه اى وجد عذاب اللّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ اى أعطاه جزاء اعماله وافيا كاملا على حسب عمله-

فان قيل وجد اللّه معطوف على لم يجده و على جاءه و الضمير المرفوع في كل منهما راجع الى الظمآن فما معنى وجد الظمآن عذاب اللّه عند السراب-

قلت هذا الكلام عندى يحتمل التأويلين أحدهما ان الكافر إذا كان يوم القيامة اشتد عطشه فيرى النار سرابا يحسبه ماء فيسرع اليه حتى إذا جاءه لم يجده شيئا مما توهمه و وجد عذاب اللّه يعنى النار عنده و ثانيهما ان المراد بعذاب اللّه ما يلحق الظمآن في الدنيا من الشدة و اليأس و مبناه سيئات اعماله حيث قال اللّه تعالى ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ- و الاولى ان يقال ان حتى ابتدائية يتصل بقوله أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ- و المعنى حتى إذا جاء الكافر عمله في الاخرة لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اللّه عِنْدَهُ فالضمير المرفوع في جاءه راجع الى أحد من الكفار لا الى الظمآن و المنصوب الى عمله لا الى السراب وَ اللّه سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) لا يشغله حساب عن حساب يحاسب عباده في قدر نصف يوم من ايام الدنيا-.

٤٠

أَوْ كَظُلُماتٍ عطف على كسراب و او للتخيير كانه يخير المخاطب في التشبيه فان أعمالهم لكونها غير نافعة موجبة للياس و التحسر كائنة كالسراب و لكونها خالية عن نور الحق كائنة كالظلمات المتراكمة من لج البحر و الأمواج و السحاب- او للتنويع فان أعمالهم ان كن حسنات كالصدقة وصلة الرحم و نحوها فهى كالسراب و ان كن قبيحات فكالظلمات او للتقسيم باعتبار الوقتين فانها كالظلمات في الدنيا و كالسراب في الاخرة فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ عميق كثير الماء منسوب الى اللج

قال البيضاوي هو معظم الماء كذا في النهاية و القاموس و قيل هو تردد أمواجه يَغْشاهُ اى البحر مَوْجٌ يغشاه صفة اخرى للبحر و الموج ما يعلو من الماء باضطراب الرياح مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ يعنى امواج مترادفة متراكمة مِنْ فَوْقِهِ اى من فوق الموج الثاني سَحابٌ يحجب أنوار النجوم قرا البزي بغير تنوين مضافا الى ظُلُماتٌ بالجر و برواية القواس سحاب بالرفع و التنوين و الظلمات بالجر على البدل من قوله كظلمات

و قرا الباقون سحاب ظلمت كلاهما بالرفع و التنوين فيكون تمام الكلام عند قوله سَحابٌ و ظُلُماتٌ خبر لمبتدأ محذوف اى هى ظلمات بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لينظر إليها و هى اقرب ما يرى لَمْ يَكَدْ يَراها اى لم يقرب ان يراها فضلا ان يراها و الضمائر للواقع في البحر و ان لم يجز ذكره لدلالة الكلام عليه كذلك اعمال الكفار ظلمات على قلبه بعضها فوق بعض مانعة لهم من الاهتداء و ادراك الحق فالكفر الّذي هو من اعمال القلوب كالبحر اللجى المظلم يغشاه ظلمات المعاصي بعضها فوق بعض كالامواج الّتي بعضها فوق بعض و الختم و الطبع على قلبه كالسحاب على الأمواج- فاذا أراد الكافر التفكر في امور الدين و ان يدرك ما هو اجلى البديهيات لم يكد يريها الا ترى انه ينكر الأنبياء مع تواتر معجزاتهم الباهرة و يعتقد الوهية الحجارة مع انحطاط رتبتها عن سائر المخلوقات وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللّه لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠) يعنى ان الهداية امر وهبى بل حصول العلم بالنتيجة بعد العلم بالمقدمتين امر عادى وهبى ليس على سبيل الوجوب عند اهل الحق فكم من بله في امور الدنيا أكياس في امور الاخرة و كم من كيس جربز في الدنيا هم عن الاخرة غافلون و هم في امور الدين كالانعام- و هو المعنى من قوله صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه خلق خلقه في ظلمة فالقى عليهم من نوره فمن أصاب من ذلك النور اهتدى و من أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم اللّه-

و قد مرّ فيما سبق

قال البغوي قال مقاتل نزلت هذه الاية في عتبة بن ربيعة بن امية كان يلتمس الدين في الجاهلية و ليس المسوح فلما جاء الإسلام كفر.

٤١

أَ لَمْ تَرَ ا لم تعلم علما يشبه المشاهدة في اليقين و الوثاقة الحاصل بالوحى و الاستدلال و الكشف الصريح أَنَّ اللّه يُسَبِّحُ لَهُ اى يشهد على تقدسه و تنزهه عن المناقص مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة و ما في علم اللّه من جنوده وَ من في الْأَرْضِ من الانس و الجنّ و غيرهم و المراد جميع المخلوقات و انما أورد كلمة من تغليبا لذوى العقول- و الدليل على ارادة العموم قوله تعالى وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ اى باسطات أجنحتهن في الهواء قيد الطير بالصافات لئلا يلزم التكرار فان الطير الكائنة على وجه الأرض دخلت في من في الأرض كُلٌّ اى كل واحد من المسبحة قَدْ عَلِمَ اللّه صَلاتَهُ اى دعاءه وَ تَسْبِيحَهُ و قيل معناه علم كل من المسبحة صلوة نفسه و تسبيحه بتعليم اللّه تعالى وَ اللّه عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١)

٤٢

وَ للّه مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فانه مالكهما و خالقهما و لما فيها من الذوات و الصفات و الافعال وَ إِلَى اللّه الْمَصِيرُ (٤٢) مرجع الجميع فيجازى كلهم على حسب عمله حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء.

٤٣

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّه يُزْجِي سَحاباً اى يسوق من التزجية و هو دفع الشي ء- و منه البضاعة المزجاة فانها يدفعها كل أحد ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ اى يجمع بين قطع متفرقة بعضها الى بعض ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً اى بعضها فوق بعض فَتَرَى الْوَدْقَ اى المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ اى من فتوقه وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها بدل اشتمال من السماء و من في الموضعين لابتداء الغاية و جاز ان تكون الثانية للتبعيض واقعا موقع المفعول مِنْ بيانية بَرَدٍ بيان للجبال فالمعنى على الاول ينزل من جبال كائنة في السماء كائنة تلك الجبال من برد و على هذا قال ابن عباس اخبر اللّه تعالى ان في السماء جبالا من برد و على الثاني ينزل من السماء بعض جبال يعنى قطعا عظاما تشبه بالجبال في عظمها و جمودها كائنة تلك الجبال من برد و جاز ان تكون من هذه للتبعيض واقعا موقع المفعول فَيُصِيبُ بِهِ اى بذلك البرد مَنْ يَشاءُ فيهلك زرعه و أمواله وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ فلا يضره يَكادُ سَنا اى ضوء بَرْقِهِ اى برق السحاب يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) قرا ابو جعفر يذهب بضم الياء و كسر الهاء من الافعال فالياء على هذا زائدة.

٤٤

يُقَلِّبُ اللّه اللَّيْلَ وَ النَّهارَ اى يأتى بالليل بعد النهار و بالنهار بعد الليل او يزيد في أحدهما ما ينقص من الاخر او بتغير أحوالهما بالحرّ و البرد و الظلمة و النور او ما يعم ذلك عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال اللّه تعالى يؤذينى ابن آدم يسب الدهر و انا الدهر بيدي الأمر اقلب الليل و النهار متفق عليه إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور لَعِبْرَةً اى دلالة على وجود الصانع الواجب وجوده و كمال قدرته و احاطة علمه و نفاذ مشيته و تنزهه عن الاحتياج الى غيره لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) اى لمن أعطاه اللّه بصيرة و عقلا سليما.

٤٥

وَ اللّه خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ قرأ حمزة و الكسائي خالق كلّ دابّة باضافة اسم الفاعل الى مفعوله حاملا لضمير الفاعل و الباقون خلق على صيغة الماضي و نصب كلّ على المفعولية يعنى خلق كل من يدب على الأرض من الحيوانات مِنْ ماءٍ هو جزء مادية او ماء مخصوص يعنى النطفة فيكون تنزيلا للغالب منزلة الكل إذ من الحيوانات مالا يتولد من النطفة- و قيل من ماء صفة لدابة و ليس صلة لخلق و لا يدخل في الدابة الملائكة و الجن- و قيل الماء اصل لجميع الخلائق

قال البغوي و ذلك ان اللّه خلق الماء ثم جعل بعضه ريحا فخلق منها الملائكة و بعضه نارا فخلق منها الجن و بعضه طينا فخلق منه آدم و سائر الحيوانات فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحيات و الديدان وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالانسان و الطير وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالبهائم و السباع و لم يذكر من يمشى على اكثر من اربع كالعناكب و بعض الحشرات لانها في صورة من يمشى على اربع و تذكير الضمير لتغليب العقلاء و التعبير عن الأصناف ليوافق التفصيل الإجمال يَخْلُقُ اللّه ما يَشاءُ مما ذكر و ممّا لم يذكر من البسائط و المركبات على اختلاف الصور و الهيئات و الحركات و الطبائع و الافعال مع اتحاد المادة على مقتضى مشيته و حكمته إِنَّ اللّه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (٤٥) فيفعل ما يشاء.

٤٦

لَقَدْ أَنْزَلْنا فى القران آياتٍ او أنزلنا في عالم الوجود الظلي دلائل مُبَيِّناتٍ مظهرات للحق شواهد على وجود الصانع العليم الحكيم القدير بانواع الدلالات وَ اللّه يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) يعنى دين الإسلام الموصل الى مراتب القرب و الفوز الى الجنة و النجاة من النار يعنى ان الايمان امر وهبى لا يحصل بالنظر في الدلائل الا بتوفيق من اللّه و هدايته و اللّه اعلم- ذكر البغوي ان بشر المنافق كانت بينه و بين رجل من اليهود خصومة في ارض فقال اليهودي نتحاكم الى محمد و قال المنافق نتحاكم الى كعب بن اشرف فان محمدا يحيف علينا فنزلت.

٤٧

وَ يَقُولُونَ يعنى بشرا و أمثاله من المنافقين آمَنَّا بِاللّه وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا اى إياهما ثُمَّ يَتَوَلَّى عن الايمان و عن طاعتهما بالامتناع عن قبول حكمه إذا كان حكمه على خلاف هواه فَرِيقٌ مِنْهُمْ الذين لم يكونوا في الخصومة على الحق مِنْ بَعْدِ ذلِكَ اى بعد قولهم هذا وَ ما أُولئِكَ اشارة الى المنافقين كلهم و فيه اعلام بان جميعهم و ان أمنوا بلسانهم لم يؤمن قلوبهم او الى الفريق المتولى منهم بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) التعريف للدلالة على انهم ليسوا من المؤمنين الذين عرفتهم و يعلم اللّه صدقهم و إخلاصهم- اخرج ابن ابى حاتم من مرسل الحسن قال كان الرجل إذا كان بينه و بين الرجل منازعة فدعى الى النبي صلى اللّه عليه و سلم و هو محق إذ عن و علم ان النبي صلى اللّه عليه و سلم سيقضى له بالحق و إذا أراد ان يظلم فدعى الى النبي صلى اللّه عليه و سلم اعرض و قال انطلقوا الى فلان فانزل اللّه.

٤٨

وَ إِذا دُعُوا إِلَى اللّه وَ رَسُولِهِ اى الى حكم اللّه و رسوله و قيل معنى قوله إِذا دُعُوا إِلَى اللّه دعوا الى رسوله فقوله و رسوله منزلة التفسير لما سبق كما في قوله أعجبني زيد و كرمه- و جملة إذا دعوا الى آخره عطف على ما أولئك بالمؤمنين او على يقولون لِيَحْكُمَ الرسول بحكم اللّه بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) يعنى فاجأ فريق منهم الاعراض عن الحكم او عن الايمان يعنى من كان منهم يعلم انه على الباطل.

٤٩

وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ على من يخاصمهم يَأْتُوا إِلَيْهِ صلى اللّه عليه و سلم مُذْعِنِينَ (٤٩) منقادين لحكمه ليقينهم انه يحكم بالحق.

٥٠

أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ اى كفر و ميل الى الظلم أَمِ ارْتابُوا بان راؤا منك تهمة فزال ثقتهم و يقينهم بك أَمْ يَخافُونَ يقينا أَنْ يَحِيفَ اللّه عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ فى الحكومة بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) على أنفسهم بالكفر و عدم الانقياد للّه و رسوله و على الناس الناس يريدون ان يأكلوا أموالهم بالباطل إضراب عن القسمين الأخيرين لتحقيق القسم الاول وجه التقسيم ان امتناعهم اما لخلل فيهم او في الحاكم و الثاني اما ان يكون محققا عندهم او متوقعا و كلاهما باطل لان منصب نبوته و فرط أمانته يمنعه فتعين الاول- و يشهد على ذلك إتيانهم للحكم اليه مذعنين إذا كان لهم الحق- أورد ضمير الفصل ليدل على نفى ذلك عن غيرهم لا سيما المدعو الى حكمه- ثم عقب اللّه تعالى ذكر المؤمنين المخلصين و ما ينبغى لهم على ما هو عادته في المثاني و القران العظيم فقال.

٥١

إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ المخلصين إِذا دُعُوا إِلَى اللّه وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ قول منصوب على انه خبر لكان و اسمه أَنْ يَقُولُوا يعنى قولهم سَمِعْنا الدعاء وَ أَطَعْنا بالاجابة وَ أُولئِكَ يعنى من كان هذا قوله هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) دون غيرهم.

٥٢

وَ مَنْ يُطِعِ اللّه وَ رَسُولَهُ قال ابن عباس فيما ساءه و سرّه وَ يَخْشَ اللّه على ما عمل من الذنوب و في مخالفة أحكامه وَ يَتَّقْهِ اى يتقى عذابه بامتثال أوامره و الانتهاء عن مناهيه و محافظة أحكامه و حدوده- قرا حفص بإسكان القاف و اختلاس كسرة الهاء لسكون ما قبلها و هذا لغة إذا سقط اليا- للجزم يسكنون ما قبلها يقولون لم اشتر طعاما بسكون الراء و الجمهور بكسر القاف على الأصل و يسكن الهاء وصلا و وقفا أبو بكر و ابو عمرو و خلاد في رواية عنه عن حمزة و الباقون يكسرون الهاء فيختلسها ابو جعفر و قالون و يعقوب و يشبعها الباقون لاجل تحرك ما قبلها فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) بالنعيم المقيم و رضوان اللّه تعالى-.

٥٣

وَ أَقْسَمُوا يعنى المنافقين بِاللّه جَهْدَ أَيْمانِهِمْ جهد منصوب على انه مصدر يعنى مضاف الى مصدر اقسموا من غير لفظه او حال من فاعل اقسموا باللّه جاهدين بايمانهم يعنى بالغين غايتها- و جهد اليمين مستعار من جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها او ظرف يعنى وقت جهدهم ايمانهم اى المبالغة فيه انكار للامتناع لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ يا محمد بالخروج عن ديارهم و أموالهم او بالخروج للجهاد لَيَخْرُجُنَ جواب لاقسموا على الحكاية و جزاء للشرط معنى-

قال البغوي ذلك ان المنافقين كانوا يقولون لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أينما كنت نكن معك لان خرجت خرجنا و ان أقمت أقمنا و ان امرتنا بالجهاد جاهدنا قال اللّه تعالى قُلْ لهم لا تُقْسِمُوا على الكذب طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ قال مجاهد اى هذه طاعة بالقول باللّسان دون الاعتقاد و هى معروفة اى امر عرف منكم انكم تكذبون و تقولون ما لا تفعلون- و قيل معناه طاعة معروفة بينة خالصة أفضل و أمثل من الخلف بالقول و قال مقاتل بن سليمان ليكن منكم طاعة معروفة و قيل معناه المطلوب منكم طاعة معروفة لا اليمين بالطاعة نفاقا إِنَّ اللّه خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) لا يخفى عليه سرائركم.

٥٤

قُلْ كرد الأمر تأكيدا أَطِيعُوا اللّه وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ امر بتبليغ ما خاطبهم اللّه تعالى على الحكاية مبالغة في تبكيتهم فَإِنْ تَوَلَّوْا صيغة مضارع حذفت احدى التاءين بقرينة ان تطيعوه يعنى ان تتولوا ايها المنافقون عن الطاعة فيه التفات من الغيبة الى الخطاب فَإِنَّما عَلَيْهِ اى على محمد ما حُمِّلَ من التبليغ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ من الامتثال جزاء الشرط محذوف أقيم علته مقامه و التقدير فان تتولوا تخسروا أنفسكم و لا تضرون الرسول شيئا لانه انما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ عليه و قد ادى ما كان عليه وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ و أنتم تتولون عنه فتخسرون وَ إِنْ تُطِيعُوهُ عطف على ان تولوا اى ان تطيعوا محمدا في حكمه تَهْتَدُوا الى الحق و الى سبيل الجنة وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤) اى التبليغ الموضح لما كلفتم به بيان لما حمل- اخرج الحاكم و صححه و الطبراني عن أبيّ بن كعب قال لما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه المدينة و آوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون الا بالسلاح و لا يصبحون الا فيه فقالوا ترون انا نعيش حتى نبيت امنين مطمئنين لا نخاف الا اللّه فنزلت

٥٥

وَعَدَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ يا اهل المدينة الذين هم مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حين نزول الاية و ليس المراد من المؤمنين عامة لانه يلزم حينئذ الاستدراك فان كلمة الذين أمنوا مغن عنه.

وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ جواب قسم محذوف تقديره وعد اللّه و اقسم اى قال و اللّه ليستخلفنّهم او الوعد في تحققه نزل منزلة القسم اى لنورثنهم ارض الكفار من العرب و العجم فنجعلهم يعنى نجعلن منهم خلفاء ملوكا واجب الطاعة سياسة- او المعنى لنجعلهم بأجمعهم متصرفين في الأرض تصرف الملوك في مماليكهم كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ صفة لمصدر محذوف اى استخلافا كاستخلاف الذين من قبلهم من الأنبياء داود و سليمان و غيرهما كذا قال قتادة او كاستخلاف بنى إسرائيل حيث أهلك الجبابرة بمصر و الشام و أورثهم ارضهم و ديارهم و أموالهم يعنى كما كان اللّه تعالى وعد موسى عليه السلام في التورية بفتح بلاد الشام و لم يتحقق انجاز الوعد في حياته عليه السلام كما قال اللّه تعالى فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فاستخلف اللّه بعده يوشع بن نون و أنجز ذلك الوعد على يديه حتى فتح الشام و قسم البلاد في بنى إسرائيل بوصية موسى- كذلك وعد اللّه محمدا صلى اللّه عليه و سلم ليظهره على الدين كله و وعد بفتح الشام على ما قرئ غلبت الرّوم على البناء للفاعل في ادنى الأرض و هم من بعد غلبهم اى بعد ما غلبوا على الفارس سيغلبون على البناء للمفعول اى سيغلبهم المسلمون في بضع سنين وعد اللّه لا يخلف اللّه وعده و لم يتيسر ذلك في حيوة النبي صلى اللّه عليه و سلم- فاستخلف اللّه أبا بكر و عمر و أنجز وعده حين قاتل أبو بكر ببني حنيفة و من ارتد من العرب و فتح الشام في خلافة عمر حين غزاهم في السنة التاسعة من غلبة الروم الّذي كان يوم الحديبية في سنة ست من الهجرة- و كون الوعد منجزا في خلافة عمر مروى عن على حين استشار عمر اصحاب النبي في المسير الى العراق للجهاد فاشار علىّ بالجهاد متمسكا بهذه الاية- روى هذا القول عن علىّ بطرق متعددة في كتبنا و في النهج البلاغة من كتب الروافض قول علىّ رضى اللّه عنه ان هذا الأمر لم يكن نصرته و لا خذلانه بكثرة و لا قلة و هو دين اللّه الّذي أظهره و جنده الّذي أعزه و ايّده حتى بلغ ما بلغ و طلع من حيث طلع و نحن على موعود من اللّه حيث قال وَعَدَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ الاية- فاللّه منجز وعده و ناصر جنده الى اخر ما قال قرا أبو بكر استخلف بضم الهمزة و التاء و كسر اللام على البناء للمفعول و الباقون بكسر الهمزة و فتح التاء و اللام على البناء للفاعل لقوله تعالى وَعَدَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا ...

وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى اى اختار لَهُمْ قال ابن عباس يوسّع لهم في البلاد حتى يملكوها و يظهر دينهم الإسلام على سائر الأديان وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ قرأ ابن كثير و أبو بكر و يعقوب بالتخفيف و سكون الباء من الابدال و الباقون بالتشديد و فتح الباء من التبديل مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً جملة يعبدوننى حال من الّذين أمنوا منكم لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد او استيناف لبيان المقتضى للاستخلاف و قوله لا يُشْرِكُونَ حال من فاعل يعبدوننى او حال مرادف ليعبدوننى من الموصول- قال ابو العالية فاظهر اللّه نبيه على جزيرة العرب فامنوا و وضعوا السلاح ثم ان اللّه قبض نبيه فكانوا كذلك امنين في زمان ابى بكر و عمر و عثمان حتى وقعوا فيما وقعوا و كفروا النعمة قال ابو العالية مكث النبي صلى اللّه عليه و سلم بمكة بعد الوحى عشر سنين مع أصحابه و أمروا بالصبر على أذى الكفار ثم أمروا بالهجرة الى المدينة و أمروا بالقتال و هم على خوفهم لا يفارق أحد منهم سلاحه- فقال رجل منهم ما يأتى علينا يوم نأمن فيه و نضع السلاح فنزلت هذه الاية-

و اخرج ابن ابى حاتم عن البراء قال فينا نزلت هذه الاية و نحن في خوف شديد فانجز اللّه وعده و ابدلهم بعد الخوف أمنا و بسط لهم في الأرض- و فيه دليل على صحة النبوة لكونه اخبارا عن الغيب على ما صار الأمر اليه و صحة خلافة الخلفاء الراشدين إذ لو لم يكن المراد خلافة الخلفاء الراشدين لزم الخلف في وعد اللّه إذ لم يجتمع الموعود و الموعود لهم الا في زمنهم و صحة مذهب اهل السنة و كونه دينا ارتضاه اللّه- و بطلان مذهب الروافض حيث قالوا الائمة خائفون الى اليوم حتى لم يظهر المهدى و هو مختف لخوف الأعداء- و قولهم انه سينجز اللّه وعده حين يظهر المهدى باطل يأباه كلمة منكم في الاية و اىّ ظهور للدين ان ظهر بضع سنين بعد الف و مائة ما اجهلهم عن سفينة مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال سمعت النبي صلى اللّه عليه و سلم يقول الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يكون ملكا ثم قال يعنى سفينة امسك خلافة ابى بكر سنتين و خلافة عمر عشر او خلافة عثمان اثنتي عشر و خلافة علىّ ستة- و عن عدى بن حاتم قال بينا انا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذ أتاه رجل فشكى اليه الفاقة و اتى اليه اخر فشكى اليه قطع السبيل فقال يا عدى هل رايت الحيرة قلت لم ارها و قد انبئت عنها قال فان طالت بك الحيوة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف الكعبة لا تخاف أحدا الا اللّه (قلت فيما بينى و بين نفسى فاين و عارطى قد سعروا البلاد) و لئن طالت بك الحيوة لتفتحن كنوز كسرى قلت كسر بن هرمر قال كسرى بن هرمز و لئن طالت بك الحيوة ترين الرجل يخرج ملاكفه من ذهب او فضة يطلب من يقبله منه و لقين أحدكم ربه يوم يلقاه و ليس بينه و بينه ترجمان يترجم له فيقول الم ابعث إليك رسولا ليبلّغك فيقول بلى فيقول الم أعطك مالا و أفضل عليك فيقول بلى فينظر عن يمينه فلا يرى الا جهنم و ينظر عن يساره فلا يرى الا جهنم- قال عدى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول اتق النار و لو بشق تمرة فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة قال عدى فرايت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف الا اللّه و كنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز و لئن طالت بك الحيوة لتربن ما قال النبي صلى اللّه عليه و سلم يخرج الرجل ملاكفه فلا يجد أحدا يقبله وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ اى ارتد او كفر النعمة و لم يشكر بعد تمكين المؤمنين و استخلافهم و تائيد دينهم الّذي ارتضى لهم فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) الخارجون عن الايمان او عن حد الطاعة

قال البغوي قال اهل التفسير أول من كفر بهذه النعمة و جحد بها الذين قتلوا عثمان رضى اللّه عنه فلمّا قتلوه غير اللّه ما بهم و ادخل عليهم الخوف حتى صاروا يقتتلون بعد ما كانوا إخوانا- روى البغوي بسنده عن حميد بن هلال قال قال عبد اللّه بن سلام في عثمان رضى اللّه عنه ان الملائكة لم تزل محيطة بمدينتكم هذه منذ قدمها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتى اليوم فو اللّه لئن قتلتموه ليذهبون ثم لا يعودون ابدا فو اللّه لا يقتله رجل منهم الا لقى اللّه أجذم لا يد له و ان سيف اللّه لم يزل مغمودا و اللّه لئن يسلنه اللّه لا يغمده عنكم (اما قال ابدا و اما قال الى يوم القيامة) فما قتل نبى قط الا قتل به سبعون الفا و لا خليفة الا قتل به خمسة و ثلاثون الفا. قلت ثم كفر .....

باستخلاف الخلفاء طوائف الروافض و الخوارج و يمكن ان يكون قوله تعالى وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ اشارة الى يزيد بن معاوية حيث قتل ابن بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و من معه من اهل بيت النبوة و أهان عترته و افتخر به و قال هذا يوم بيوم بدر- و بعث جيشا على مدينة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و فعل ما فعل في وقعة الحرة بالمدينة و بالمسجد الّذي اسّس على التّقوى من اوّل يوم و هو روضة من رياض الجنة و نصب المجانيق على بيت اللّه تعالى و قتل ابن الزبير ابن بنت خليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و فعل ما فعل حتى كفر بدين اللّه و أباح الخمر قوله تعالى.

٥٦

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ في سائر ما أمركم به لَعَلَّكُمْ اى لكى تُرْحَمُونَ (٥٦) جملة اقيموا مع ما عطف عليه معطوف على قوله و أطيعوا اللّه فان الفاصل وعد على المأمور به و تكرير الأمر بطاعة الرسول للتأكيد و تعليق الرحمة بها.

٥٧

لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ اى معجزين اللّه عن ادراكهم في الأرض و إهلاكهم- قرا ابن عامر و حمزة لا يحسبنّ بالياء على الغيبة و الموصول فاعل له اى لا يحسبن الكافرون أنفسهم معجزين و الباقون بالتاء على الخطاب للنبى صلى اللّه عليه و سلم و الموصول مفعوله الاول يعنى لا تحسبنهم معجزين وَ مَأْواهُمُ النَّارُ حال من الموصول او عطف على لا تحسبن من حيث المعنى كانّه قيل الذين كفروا لا يفوتون اللّه و مأويهم النّار وَ لَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧) النار جملة لا تحسبن وعيد متصل بقوله وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ- اخرج ابن ابى حاتم عن مقاتل بن خبان انه كان لاسماء بنت مرثد غلاما و كثيرا ما يدخل عليها في وقت تكره دخوله عليها فيه فاتت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالت ان خدمنا و غلماننا يدخلون علينا في وقت نكرهها فانزل اللّه عزّ و جلّ.

٥٨

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ رجوع الى تتمة الاحكام السابقة بعد ذكر ما يوجب الطاعة فيما سلف من الاحكام و غيرها و الوعد عليها- و الوعيد على الاعراض عنها و المراد بالخطاب الرجال و النساء جميعا غلّب فيه الرجال و

قال البغوي قال ابن عباس وجّه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو الى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه فدخل و راى عمر بحالة كره عمر رؤية ذلك الحال فانزل اللّه هذه الاية وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ يعنى الذين لم يقربوا الحلم من الأحرار كما في قوله تعالى وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ يعنى قار بن البلوغ فدخل في حكم المنع عن الدخول المراهق فانه في حكم البالغ ثَلاثَ مَرَّاتٍ اى ليستأذنوا في ثلاثة اوقات مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ لانه وقت القيام من المضاجع و طرح ما ينام فيه من الثياب و لبس ثياب اليقظة وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ الّتي كانت لليقظة عند القيلولة مِنَ الظَّهِيرَةِ بيان للحين وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ لانه وقت التجرد عن اللباس و الالتحاف باللحف ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ قرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر ثلث بالنصب بدلا من قوله ثَلاثَ مَرَّاتٍ و الباقون بالرفع على انه خبر مبتدا محذوف اى هى ثلث عورت لّكم و جاز ان يكون مبتدأ خبره ما بعده- و قيل تقديره ثلاث ساعات انكشاف عورات لكم على حذف المضافين فالعورة على هذا بمعنى السوءة- و

قال البيضاوي تقديره هى ثلاث اوقات تخيّل فيها تستّركم و اصل العورة الخلل و قيل اصل العورة من العار فتكنى بالعورة عن سوءة الإنسان لما يلحق من ظهوره العار اى المذمّة و لذلك سمى النساء عورة و لذلك يقال العورة للكلمة القبيحة و يقال للشق من الثوب و يقال للخلل في البيت عورة للحوق العار به قال اللّه تعالى إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ اى منخرقة- فعلى هذا سميت الأوقات الثلاث عورات للحوق العار برؤية الإنسان فيهن غير مستنر- و في القاموس العورة الخلل في الثغر و غيره و كل مكمن للستر و السوءة و الساعة الّتي هى قمن من ظهور العورة فيها و هى ثلاث ساعات قبل صلوة الفجر و عند نصف النهار و بعد العشاء الاخيرة و كل امر يستحيى منه و من الجبال شعوفها- (مسئلة)- مقتضى هذه الاية انه لا يجوز لعبد و ان كان صغيرا عاقلا ان يدخل على سيده و لا لامة ان تدخل على سيدتها و اما دخول العبد البالغ او المراهق على سيدته فممنوع في جميع الأوقات لقوله تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ...

وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ الاية- و المماليك المستشهاة منها قد ذكرنا ان المراد به الإناث دون الذكور و اما دخول الامة على سيدها الّتي يجوز له و بها فجائز في كل وقت كالزوجة- و لا يجوز لصغير عاقل ان يدخل في أحد هذه الأوقات بغير استئذان- و يجوز لهم ان يدخلوا بغير الاستيذان في غير هذه الأوقات كما قال اللّه تعالى- لَيْسَ عَلَيْكُمْ ايها الذين تسكنون البيوت وَ لا عَلَيْهِمْ اى المملوكين و الأطفال الداخلين عليكم للخدمة و نحو ذلك جُناحٌ بَعْدَهُنَّ بعد هذه الأوقات الثلاث في ترك الاستئذان لدفع الحرج لمخالطتهم و كثرة دخولهم كما يدل عليه قوله تعالى طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ اى هم اى الأطفال و العبيد طوافور عليكم يدخلون و يخرجون كثيرا استيناف لبيان المرخص في الدخول بلا استئذان بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ يعنى بعضكم طائف على بعض او يطوف بعضكم على بعض بدل من الجملة السابقة و بيان له جعل اللّه سبحانه العبيد و الأطفال من جنس أنفسهم لكثرة مخالطتهم فجعلهم بعض المخاطبين كَذلِكَ اى تبيّنا مثل ذلك التبين يُبَيِّنُ اللّه لَكُمُ الْآياتِ اى آيات الاحكام وَ اللّه عَلِيمٌ بأحوالكم حَكِيمٌ (٥٨) فيما شرع لكم

قال البغوي اختلف العلماء في حكم هذه الاية فقال قوم هو منسوخ قال ابن عباس لم يكن للقوم ستور و لا حجاب و كان الولائد و الخدم يدخلون فربما يرون مالا يحبون فامروا بالاستئذان ثم بسط اللّه الرزق و اتخذوا الستور فراى ان ذلك اغنى عن الاستئذان- و ذهب قوم الى انها غير منسوخة روى سفيان عن موسى بن عائشة قال سالت الشعبي عن هذه الاية أ منسوخة هى قال لا و اللّه قلت ان الناس لا يعملون بها قال اللّه المستعان- و قال سعيد بن جبير في هذه الاية ان ناسا يقولون نسخت و اللّه ما نسخت و لكنها مما تهاون به الناس قلت و الصحيح انها غير منسوخة لكن الحكم بالاستئذان معلول باختلال التستر في تلك الأوقات كما يدل عليه قوله تعالى ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ و هو الفارق بين تلك الأوقات و غيرها و عدم الحكم عند عدم العلة لا يكون نسخا- فما وقع في كلام ابن عباس انها منسوخة مبنى على التجوز فعلم انه إذا كان من شأن الناس عدم اختلال التستر في تلك الأوقات لا يستلزمهم الاستئذان و اللّه اعلم.

٥٩

وَ إِذا بَلَغَ اى قارب البلوغ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فى الأوقات كلها لزوال المبيح للدخول بغير استئذان و هو المخالطة و كثرة الدخول- و حكم هذه الاية يعم كل من يريد الدخول على الرجال او النساء محرمات كن او اجنبيات و يؤيده ما روى عن ابى سعيد الخدارى قال أتانا ابو موسى فقال ان عمر رضى اللّه عنه أرسل الىّ ان اتيه فاتيت بابه فسلمت ثلاثا فلم يرد علىّ فرجعت و قد قال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع- قال عمر أقم عليه البينة قال ابو سعيد فقمت معه فذهبت الى عمر فشهدت- متفق عليه و عن عطاء بن يسار ان رجلا سال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال استأذن على مى فقال نعم فقال الرجل انى معها في البيت فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم استأذن عليها فقال الرجل انى خادمها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم استاذن عليها أ تحب ان تراها عريانة قال لا قال فاستاذن عليها- رواه مالك مرسلا

قال البغوي قال سعيد بن المسيب يستأذن الرجل على امه فانما أنزلت هذه الاية في ذلك و سئل حذيفة أ يستأذن الرجل على والدته قال نعم ان لم يفعل راى منها ما يكره-

قلت لعل الأمر بالاستئذان في هذه الاية للاستحباب دون الوجوب فمن أراد الدخول في بيت نفسه و فيه محرماته يكره له الدخول فيه من غير استئذان تنزيها لاحتمال رؤيته واحدة منهن عريانة و هو احتمال ضعيف و مقتضاه التنزه عنه- و اما الدخول في بيت غيره من غير استئذان فمحرم لا يجوز لقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا و كذا في بيت فيه نساء اجنبيات لا يجوز للرجل الدخول عليهن من غير استئذان لقوله تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ و اللّه اعلم- و

قال البيضاوي استدل بهذه الاية من أوجب استئذان العبد البالغ على سيدته و جوابه ان المراد بهم المعهودون الذين جعلوا قسيما للمماليك فلا يندرجون فيهم- و كلام البيضاوي هذا يشعر باختلاف العلماء في وجوب استئذان العبد البالغ على سيدته بناء على اختلافهم في ان العبد هل هو محرم لسيدته كما قال به مالك و الشافعي اولا كما قال به ابو حنيفة فمن قال بكونه محرما فالاستئذان عنده مستحب كالاستئذان على غيرها من المحرمات- و من لم يقل بكونه محرما قال بوجوبه و اللّه اعلم كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آياتِهِ وَ اللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٤٩) كرره تأكيدا و مبالغة في الأمر بالاستئذان-.

٦٠

وَ الْقَواعِدُ مبتدا مِنَ النِّساءِ حال من ضمير الفاعل جمع قاعد و هى المرأة الّتي يئست عن الحيض و الحمل و لاجل اختصاصها بالنساء جاء قاعد بغير هاء كالحائض و الحامل اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً صفة للقواعد اى لا يطمعن فيه لكبرهن قال ربيعة يعنى العجائز اللاتي إذا راهن الرجال استقذروهن فاما من كانت فيها بقية جمال و هى محل للشهوة فلا تدخل في هذه الاية فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ خبر للمبتدا جئ بالفاء لتضمن المبتدا معنى الشرط أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ اى في ان يضعن بعض ثيابهن يدل عليه قراءة ابن مسعود و أبيّ بن كعب ان يّضعن من ثيابهنّ فلا يجوز لها كشف ظهرها و بطنها و ما تحت سرتها لكن جاز لها كشف رأسها و وجهها و ذراعيها و نحو ذلك غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ و اصل البرج الظهور و منه يقال البرج للركن و الحصن و كواكب السماء و التبرج التكلف في اظهار ما يخفى من قولهم سفينة بارجة لا غطاء عليها- و البرج سعة العين بحيث يرى بياضها محيطا بسوادها كله لا يغيب منه شي ء الا انه خص في الاستعمال بتكشف المرأة زينتها و جمالها للرجال وقع في الحديث كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يكره عشر خلال منها التبرج بالزينة لغير محلها- قال صاحب الهداية التبرج اظهار الزينة للناس الا جانب و هو المذموم و اما للزوج فلا و هو معنى قوله عليه السلام لغير محلها- و قوله تعالى غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ حال من فاعل يضعن يفيد تقييد عدم الجناح في وضع ثياب العجائز ان يكون ذلك من غير ارادة اظهار الزينة للرجال فمن كانت منهن أرادت بها التبرج فذلك عليها حرام وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ اى يطلبن من انفسهن العفة و هى كف النفس عمالا يحل كذا في القاموس- و المراد و ان يكففن انفسهن عن وضع الثياب عند الرجال خَيْرٌ لَهُنَّ من وضعها لانه قد يفضى الى الفتنة و التستّر ابعد من التهمة وَ اللّه سَمِيعٌ لمقالتهن للرجال عَلِيمٌ (٦٠) بمقصود هن في وضع الثياب.

٦١

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ

قال البغوي قال سعيد بن جبير و الضحاك و غيرهما كان العرجان و العميان و المرضى يتنزهون عن مواكلة الأصحاء لان الناس يتقذرونهم و يكرهون مواكلتهم فيقول الأعمى ربما أكل اكثر و يقول الأعرج ربما أخذ مكان اثنين فنزلت هذه الاية يعنى ليس عليهم حرج في مواكلة الأصحاء-

قال البغوي و كذا اخرج ابن جرير عن ابن عباس انه لما انزل اللّه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ تحرج المسلمون عن مواكلة المرضى و الأعمى و الأعرج و قالوا الطعام أفضل الأموال و قد نهانا اللّه تعالى عن أكل المال بالباطل و الأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب و الأعرج لا يتمكن من الجلوس و لا يستطيع المزاحمة على الطعام و المريض يضعف عن التناول فانزل اللّه هذه الاية الى قوله مفاتحه و على هذا التأويل يكون على بمعنى في يعنى ليس عليكم حرج في الأعمى اى في مواكلته- و قال سعيد بن المسيب كان المسلمون إذا غزوا خلفوا زمناهم و يدفعون إليهم مفاتيح بيوتهم و يقولون قد أحللنا لكم ان تأكلوا ممّا في بيوتنا فكانوا يتحرجون و يقولون لا ندخلها و هم غيب فانزل اللّه عزّ و جلّ هذه الاية رخصة لهم- و قال الحسن نزلت هذه الاية رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد- و قد تم الكلام هاهنا و ما بعده كلام منقطع عنه و هو قوله وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ اى البيوت الّتي فيها أزواجكم و عيالكم و دخل فيها بيوت الأولاد لان بيت الولد كبيته حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنت و مالك لابيك- أخرجه الستة و ابن حبان و الحاكم عن عائشة و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان أطيب ما يأكل الرجل من كسبه و ان ولده من كسبه- رواه ابو داود و الدارمي من حديث عائشة و روى الترمذي و النسائي و ابن ماجة نحوه و المعنى ليس عليكم حرج ان تأكلوا من اموال أزواجكم و أولادكم كذا قال ابن قتيبة- أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ قال ابن عباس عنى بذلك وكيل الرجل و قيمه في ضيعته و ماشيته لا بأس عليه ان يأكل من ثمر ضيعته و يشرب من لبن ماشيته و لا يحمل و لا يدخر- و قال الضحاك يعنى بيوت عبيدكم و مماليككم و ذلك ان السيد يملك منزل عبده و المفاتح الخزائن لقوله تعالى وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ- و يجوز ان يراد به ما يفتح به قال عكرمة إذ ملك الرجل المفتاح فهو خازن فلا بأس ان يطعم الشي ء اليسير- و قال السدى الرجل الّذي يولى طعامه غيره ليقوم فلا بأس ان يأكل منه-

و اخرج البزار بسند صحيح عن عائشة قالت كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فيدفعون مفاتحهم الى زمناهم و يقولون لهم قد أحللنا لكم ان تأكلوا مما احببتم فكانوا يقولون انه لا يحل لنا انهم أذنوا من غير طيب أنفسهم فانزل اللّه هذه الاية-

و اخرج ابن جرير عن الزهري انه سئل عن قوله تعالى لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ما بال الأعمى و الأعرج و المريض ذكروا هاهنا قال أخبرني عبيد اللّه بن عبد اللّه قال ان المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم و كانوا يدفعون مفاتيح أبوابهم و يقولون قد أحللنا لكم ان تأكلوا مما في بيوتنا و كانوا يتحرجون من ذلك و يقولون لا ندخلها و هم غيب فانزلت هذه الاية رخصة لهم- و قال قوم أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ ما خزنتموه عندكم

و قال مجاهد و قتادة من بيوت أنفسكم مما خزنتموه و ملكتم أَوْ صَدِيقِكُمْ يعنى بيوت صديقكم الّذي صدقكم في المودة فانه ارضى بالتبسط في أموالهم و اسر و هو يقع على الواحد و الجمع كالخليط-

قال البغوي قال ابن عباس نزلت في الحارث بن عمرو خرج غازيا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و خلف مالك بن زيد على اهله فلما رجع وجده مجهودا فساله عن حاله فقال تحرجت ان أكل من طعامك بغير اذنك فانزل اللّه تعالى هذه الاية-

و اخرج الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس نحوه و ذكر خالد بن زيد بدل مالك بن زيد-

قال البغوي و كان الحسن و قتادة يريان دخول بيت الصديق و التمتع بطعامه من غير استئذان منه فى الاكل بهذه الاية- و المعنى فليس عليكم جناح ان تأكلوا من منازل هؤلاء إذا دخلتموها و ان لم يحضروا من غير ان تتزودوا و تتحملوا- قيل هذا الحكم كان في اوّل الإسلام فنسخ و الصحيح انه ليس بمنسوخ لكنه محمول على ان هذا الحكم مختص بما إذا علم رضاء صاحب البيت بإذن صريح او قرينة و لذلك خصص هؤلاء بالذكر فانه يعتاد التبسط بينهم- فالتخصيص بهؤلاء خارج مخرج العادة و الا فمن دخل بيت اجنبى و علم رضاء صاحب البيت يأكل طعامه بإذن صريح او دلالة جاز له ذلك-

(مسئلة) و بهذه الاية الدالة على جريان العادة بالانبساط بين المحارم احتجت الحنفية على انه لا قطع على من سرق من بيت ذى رحم محرم منه سواء كان المسروق ماله او مال غيره و يجب القطع على من سرق من بيت اجنبى مال ذى رحم محرم منه اعتبارا للتحرز و عدمه-

فان قيل فعلى هذا لزم عدم القطع على من سرق من بيت صديقه ايضا بهذه الاية بعينها

قلنا الصداقة امر عارض يوجد و يزول و قد عاداه بالسرقة فلم يبق الصداقة بخلاف القرابة فانها لا تزول و اللّه اعلم و

قال البغوي كانت العميان و العرجان و المرضى يدخلون على الرجل لطلب الطعام فاذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم الى بيوت ابائهم و أمهاتهم او بعض من سمى اللّه في هذه الاية- فكان اهل الزمانة يتحرجون من ذلك الطعام و يقولون ذهب بنا الى بيت غيره فانزل اللّه هذه الاية- فعلى هذا معنى الاية ليس على الأعمى و أمثاله حرج و لا عليكم ان تأكلوا أنتم مع الأعمى و أمثالهم من بيوت أنفسكم و أولادكم و أزواجكم او بيوت ابائكم الى قوله او صديقكم- و

قال البغوي قال عطاء الخراسانى عن ابن عباس قال كان الغنى يدخل على الفقير من ذوى قرابة او صداقة يدعوه الى طعامه فيقول و اللّه انى لاجنح اى اتحرج ان أكل معك و انا غنى و أنت فقير فنزلت هذه الاية- لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً اى مجتمعين او متفرقين

قال البغوي نزلت في بنى ليث بن بكر و هم حى من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده حتى يجد ضيفا يأكل معه فربما قعد الرجل و الطعام بين يديه من الصباح الى الرواح و ربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فاذا امسى و لم يجد أحدا أكل هذا قول قتادة و الضحاك و ابن جريج

و اخرج ابن جرير عن عكرمة و ابى صالح و ذكر البغوي عنهما ايضا انهما قالا كانت الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتى يأكل الضيف معهم فنزلت رخصة لهم ان يأكلوا كيف شاءوا جميعا او أشتاتا فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً من هذه البيوت او من غيرها فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ اى ليسلم بعضكم على بعض فانه يطلق الأنفس على جماعة متحدة دينا و قرابة قد قال اللّه تعالى لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ... لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ...

ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً- و قيل معناه فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً لكم لا اهل بها فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ يعنى قولوا السّلام علينا و على عباد اللّه الصّالحين فان الملائكة ترد عليهم تَحِيَّةً مصدر من غير لفظة تسلموا فان التحية هو التسليم روى الشيخان في الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خلق اللّه آدم على صورته طوله ستون ذراعا فلمّا خلقه قال اذهب فسلّم على أولئك النفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيوك فانها تحيتك و تحية ذريتك فقال السّلام عليكم فقالوا السلام عليك و رحمة اللّه الحديث مِنْ عِنْدِ اللّه اى كائنة من عنده مشروعة من لدنه و جاز ان يكون صلة للتحية فانه طلب الحيوة و هى من عند اللّه مُبارَكَةً يعنى مقرونة بذكر البركة و هى الزيادة في الخيرات فيقول السّلام عليكم و البركة و قيل وصف تحية السّلام بالبركة لانه يرجى بها زيادة الخير و الثواب طَيِّبَةً اى لا رياء فيها و لا نفاق صادرة من طيب النفس و قيل معناه تطيب بها نفس المستمع قال ابن عباس معنى مباركة طيبة حسنة جميلة- عن انس رضى اللّه عنه انه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم متى لقيت أحدا من أمتي فسلم عليه يطل عمرك فاذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك وصل صلوة الضحى فانها صلوة الأوابين- أخرجه البيهقي في شعب الايمان و الثعلبي و حمزة بن يوسف الجرجاني في تاريخ جرجان و سنده ضعيف-

قال البغوي هذه الاية في دخول الرجل في بيت نفسه فانه يسلم على اهله و من في بيته و هو قول جابر و طاءوس و الزهري و الضحاك و قتادة و عمرو بن دينار قال قتادة إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهم أحق ممن سلمت عليهم- و إذا دخلت بيتا لا أحد فيها فقل السلام علينا و على عباد اللّه الصّالحين حدثنا ... ان الملائكة يرد عليهم- و روى البيهقي في شعب الايمان عن قتادة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم مرسلا إذا دخلتم بيتا فسلموا على أهلها و إذا خرجتم فاودعوا اهله بسلام- و روى الترمذي عن انس ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال يا بنى إذا دخلت على أهلك فسلم يكون بركة عليك و على اهل بيتك- و عن ابن عباس قال ان لم يكن في البيت أحد فليقل السلام علينا من ربنا السلام علينا و على عباد اللّه الصالحين السلام على اهل البيت و رحمة اللّه- و روى عمرو بن دينار عن ابن عباس في هذه الاية قال إذا دخلت المسجد فقل السلام علينا و على عباد اللّه الصالحين- و عن عبد اللّه بن عمرو ان رجلا سال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اىّ الإسلام خير قال تطعم الطعام و تقرئ السلام على من عرفت و من لم تعرف- متفق عليه و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم للمؤمن على المؤمن ست خصال يعوده إذا مرض و يشهده إذا مات و يجيبه إذا دعا و يسلمه إذا لقيه و يشمته إذا عطس و ينصح له إذا غاب او شهد- رواه النسائي و روى الترمذي و البزار نحوه و عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا و لا تؤمنوا حتى تحابّوا اولا أدلكم على شي ء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم- رواه مسلم و عن ابى هريرة مرفوعا يسلم الراكب على الماشي و الماشي على القاعد و القليل على الكثير متفق عليه و عنه عند البخاري يسلم الصغير على الكبير الحديث- و عن عمران بن حصين ان رجلا جاء الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال السلام عليكم فرد عليه ثم جلس فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم عشر ثم جاء اخر فقال السّلام عليكم و رحمة اللّه فرد عليه فجلس فقال عشرون ثم جاء اخر فقال السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته فرد عليه فجلس فقال ثلاثون رواه الترمذي و ابو داود و روى ابو داود عن معاذ بن انس مرفوعا بمعناه و زاد ثم اتى اخر فقال السّلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته و مغفرته فقال أربعون قال و هكذا تكون الفضائل- و عن ابى امامة مرفوعا ان اولى الناس باللّه من بدا بالسلام و عن ابى هريرة مرفوعا إذا انتهى أحدكم الى مجلس فليسلم فان بدا له ان يجلس فليجلس ثم إذا قام فليسلم فليست الاولى بأحق من الاخرة- رواه الترمذي و ابو داود و عن علّى بن ابى طالب تجزئ عن الجماعة إذا مروا ان يسلم أحدهم و تجزى عن الجلوس ان يرد أحدهم ذكره البغوي في المصابيح موقوفا و رواه البيهقي في شعب الايمان مرفوعا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمُ الْآياتِ كرره ثالثا لمزيد التأكيد و تفخيم الاحكام المختتمة به و فصل الأولين بما هو المقتضى لذلك و هو علم اللّه و حكمته و هذا بما هو المقصود منه فقال لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١) الحق و الخير في الأمور- اخرج ابن إسحاق و البيهقي في الدلائل عن عروة و محمد بن كعب القرظي و غيرهما قالوا لمّا أقبلت قريش عام الأحزاب نزلوا بمجمع الاسيال من رومة بئر بالمدينة قائدها ابو سفيان و أقبلت غطفان حتى نزلوا بنقبين «١» الى جانب أحد- و جاء رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الخبر فضرب الخندق على المدينة و عمل فيه و عمل المسلمون فيه و ابطأ رجال من المنافقين و جعلوا يزورون بالضعيف من العمل فيتسللون الى أهليهم بغير علم من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و لا اذن و جعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة الّتي لا بد منها يذكر ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و يستأذنه في اللحوق لحاجته فياذن له فاذا قضى به بشر فانزل اللّه تعالى.

(١) النقب هو الطريق بين الجبلين- مجمع البحار- الفقير الدهلوي-.

٦٢

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الآيات الى اخر السورة الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّه وَ رَسُولِهِ من صميم قلوبهم دون من قالوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ... وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ وصف الأمر بالجامع مجازا للمبالغة و المراد على امر يقتضى ان يجمع الناس لذلك الأمر كحفر الخندق و المشاورة و الجهاد و نحو ذلك كالجمعة و الأعياد لَمْ يَذْهَبُوا اى لم يتفرقوا عنه و لم ينصرفوا عمّا اجتمعوا له من الأمر حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ اى الرسول صلى اللّه عليه و سلم فيأذن لهم و لا حاجة هاهنا الى القول بان المراد بالمؤمنين الكاملون لانه حكاية و اخبار عن حال المؤمنين الموجودين في ذلك الوقت و ما به كانوا يمتازون عن المنافقين و قد كانوا كلهم كاملين في الايمان و كان شأنهم ذلك دون المنافقين- و لما كان عدم التخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في مواضع الشدة دليلا واضحا على صدق ايمانهم إعادة مؤكدا على اسلوب ابلغ فقال إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ لاجل ضرورة أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَ رَسُولِهِ بصميم قلوبهم يعنى ان المستأذن مؤمن لا محالة دون الذاهب بغير اذن فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ الّذي نابهم و دعاهم الى الانصراف فيه مبالغة و تضييق للامر يعنى لا ينبغى للمؤمنين ان يستأذنوا لكل ما نابهم من النوائب بل لبعض ضرورى منها لا بد له من الانصراف فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ قيد الأمر بالاذن بالمشية للدلالة على ان هذا امر للاباحة و ليس للوجوب و لو كان الاذن بعد الاستئذان واجبا على النبي صلى اللّه عليه و سلم بطل فائدة الاستئذان لانه لا يعجز أحد عن الاستيذان- و فيه دليل على ان بعض الاحكام كان مفوضا الى رأيه صلى اللّه عليه و سلم و كذا الى رأى الامام و من منع ذلك قيد المشيّة بان يكون تابعة لعلمه بصدقه فكان المعنى فاذن لّمن علمت ان له عذرا او يكون الأمر الجامع قاصرا في اقتضاء الاجتماع او كان المستأذن مستغنى عنه وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللّه يعنى بعد الاذن فان الاستئذان و لو بعذر قصور لان فيه تقديما لامر الدنيا على امر الدين إِنَّ اللّه غَفُورٌ لفرطات العباد رَحِيمٌ (٦٢) بالتيسير عليهم و

قال البغوي قال المفسرون في سبب نزول هذه الاية كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة و أراد الرجل ان يخرج من المسجد أحد لحاجة او عذر لم يخرج حتى يقوم بحيال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حيث يراه فيعرف انه انما قام ليستأذن فاذن لمن شاء منهم قال مجاهد و اذن الامام يوم الجمعة ان يشير بيده- قال اهل العلم و كذلك كل امر اجتمع عليه المسلمون مع الامام لا يخالفونه و لا يرجعون عنه الا باذنه و إذا استأذنوا الامام ان شاء اذن له و ان شاء لم يأذن هذا إذا لم يكن سبب يمنعه من المقام- فان حدث سبب يمنعه من المقام مثل ان يكون امراة في المسجد فتحيض فيه او يجنب رجل او عرض له مرض فلا يحتاج الى الاستئذان-.

٦٣

لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً يعنى إذا دعاكم الرسول الى امر جامع او غير ذلك فاجيبوا دعوته و امتثلوا امره و لا تجعلوا دعوته إياكم كدعوة بعضكم بعضا في جواز الاعراض و المساهلة في الاجابة و الرجوع بغير اذن- فان المبادرة الى اجابته واجبة و المراجعة بغير اذنه حرام بخلاف غير ذلك- فهذه بهذا التأويل نظيرة لقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للّه وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ- و الاضافة في دعاء الرسول اضافة المصدر الى فاعله و المفعول محذوف-

و قال مجاهد و القتادة معنى الاية لا تجعلوا دعاءكم الرسول كدعاء بعضكم بعضا يعنى لا تدعوه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا و لكن فخموه و شرفوه- اخرج ابو نعيم في الدلائل من طريق الضحاك عن ابن عباس انه قال كانوا يقولون يا محمد يا أبا القاسم فانزل اللّه تعالى هذه الاية فقالوا يا نبى اللّه يا رسول اللّه- لكن هذا التأويل لا يناسب ما سبق و ما يتلوه فان الكلام في الخروج باستئذان و بغير استئذان و ايضا لا يناسبه نفس هذا الكلام لان المشبه به هو الدعاء المضاف الى الفاعل لكون المفعول به بعده منصوبا فلا بد ان يكون في المشبه ايضا الرسول فاعلا للدعاء لا مفعولا- و

قال البغوي قال ابن عباس معنى الاية احذروا عن دعاء الرسول عليكم إذا اسخطتموه فان دعاءه موجب ليس كدعاء غيره- روى البخاري في الصحيح عن عائشة قالت ان اليهود أتوا النبي صلى اللّه عليه و سلم فقالوا السام عليك قال و عليكم فقالت عائشة السام عليكم و لعنكم اللّه و غضب عليكم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مهلا يا عائشة عليك بالرفق و إياك العنف و الفحش قالت ا و لم تسمع ما قالوا قال ا و لم تسمعى ما قلت رددتّ عليهم فيستجاب لى فيهم و لا يستجاب لهم فيّ-

قلت على هذا كان حق الكلام لا تجعلوا دعاء الرّسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض- لكن يمكن على هذا معنى الاية لا تجعلوا دعاء الرّسول ربه كدعاء صغيركم كبيركم يجيبه مرة و يرده اخرى- فان دعاءه مستجاب لا يرد لا محالة- قَدْ يَعْلَمُ اللّه الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ السل انتزاع الشي ء من الشي ء و إخراجه في اختفاء و لذلك يطلق على السرقة الخفية يقال سلّ البعير في جوف الليل و انسل و استل اى انطلق و خرج في اختفاء كذا في القاموس و المعنى الذين يخرجون مِنْكُمْ اى من بينكم مختفيا لِواذاً مصدر لاوذ يلاوذ ملاوذة و لو إذا و ليس من لاذ يلوذ فان مصدره لياذوا للياذ الالتجاء بغيره و الانضمام اليه ورد في الدعاء المأثور اللّهم الوذ بك- و اللو أذان يلوذ كل واحد منهم بالاخر و المعنى انهم يخرجون مستترين يلوذ و يستتر بعضهم ببعض يخرج او يلوذ بمن يؤذن في الخروج فيخرج معه كانه تابعه في القاموس اللوذ بالشي ء الاختفاء و الاحتضان به كاللواذ مثلثة و كان هذا حال المنافقين في حفر الخندق على ما قال ابن إسحاق و البيهقي عن عروة و محمد بن كعب القرظي كانوا .... ينصرفون عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مختفين- و قال ابن عباس كان المنافقون يثقل عليهم المقام في المسجد يوم الجمعة و استماع خطبة النبي صلى اللّه عليه و سلم فكانوا يلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد في استتار- و لو إذا منصوب على الحال و معنى قوله قد يعلم انه يجازيهم فان الجزاء فرع العلم- فَلْيَحْذَرِ تفريع على قوله قَدْ يَعْلَمُ اللّه ... الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ قيل عن زائدة و المعنى يذهبون سمتا خلاف سمته و قيل أورد عن لتضمن يخالفون معنى الاعراض- او المعنى يصدون عن امره دون المؤمنين من خالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه و حذف المفعول لان المقصود بيان المخالف و المخالف عنه- و جاز ان يكون عن امره في محل النصب على الحال و المفعول محذوف تقديره الذين يخالفون الرسول و يخالفون المؤمنين عن امره و ضمير امره اما راجع الى اللّه او الى الرسول صلى اللّه عليه و سلم أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ اى محنة و بلاء في الدنيا كذا قال مجاهد أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) في الاخرة ان مع صلته في محل النصب على انه مفعول ليحذروا يعنى ليحذروا إصابة الفتنة او إصابة العذاب الأليم و ذلك بسبب المخالفة عن امره- و جاز ان يكون المفعول محذوفا تقديره فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ عن المخالفة لئلا يصيبهم فتنة او عذاب اليم- و هذه الاية حجة للقائلين بان مطلق الأمر يعنى مالا قرينة على كونه للوجوب او للندب او غير ذلك يكون للوجوب فحسب و ليس مشتركا بين الوجوب و الندب على ما نقل عن الشافعي او بينهما و بين الإباحة او بين الثلاثة و بين التهديد على ما ذهب اليه الشيعة و نقل عن ابن شريح- فان خوف الفتنة و العذاب لا يتصور الا في ترك الواجب او ارتكاب المحرم-.

٦٤

أَلا إِنَّ للّه ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خلقا و ملكا قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من الايمان و النفاق و الموافقة و المخالفة فهو خطاب لجميع المكلفين و جاز ان يكون خطابا للمنافقين خاصة على سبيل الالتفات من الغيبة الى الخطاب و جملة قد يعلم تقرير لما سبق لان الّذي هو خالق و مالك لكل شي ء لا بد ان يعلم احوال مخلوقاته و مملوكاته وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ اى يوم يرجع الناس للجزاء الى اللّه تعالى فيه التفات من الخطاب الى الغيبة فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا من الخير و الشر بايفاء الجزاء و الظرف يعنى يوم يرجعون متعلق بقوله ينبئهم و الفاء زائدة كما في قوله تعالى لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا و جاز ان يكون الظرف معطوفا على ظرف محذوف متعلق بقوله قد يعلم ما أنتم عليه تقديره قد يعلم ما أنتم عليه اليوم و يوم يرجعون اليه فينبّئهم بما عملوا وَ اللّه بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (٦٤) لا يخفى عليه منكم خافية-

روى البغوي عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا تنزلوا النساء الغرف و لا تعلموهن الكتابة و علموهن بالمغزل و سورة النور- صدق اللّه و صدق رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و صدق اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رضى اللّه عنهم أجمعين

﴿ ٠