سُورَةُ الْفُرْقَانِ مَكِّيَّةٌ

وَهِيَ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ آيَةً

مكّيّة و هى سبع و سبعون اية ربّ يسّر و تمّم بالخير

 بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

_________________________________

١

تَبارَكَ «٢» تفاعل من البركة و هى كثرة الخير يعنى تكاثر خيره و هذه الصيغة لا يتصرف فيه و لا يستعمل الا للّه تعالى قال ابن عباس معناه جاء كل بركة من قبله كذا قال الحسن و قيل معناه تزايد عن كل شى ء و تعالى عنه فى صفاته و أفعاله فان البركة تتضمن معنى الزيادة و من هاهنا قال الضحاك معناه تعظم الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ مصدر فرّق بين الشيئين إذا فصل بينهما سمّى به القران لفصله بين الحق و الباطل بتقريره و المحق و المبطل باعجازه او لكونه مفصولا بعضه عن بعض فى الانزال رتب اللّه سبحانه قوله تبارك على إنزال القران لما فيه من كثرة الخير و لدلالته على تعظمه سبحانه و تعاليه عَلى عَبْدِهِ محمد صلى اللّه عليه و سلم لِيَكُونَ

(٢) اخرج مالك و الشيخان عن عمر بن الخطاب رض قال سمعت هشام بن الحكيم يقرأ سورة الفرقان فى حيوة رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم فاستمعت لقراءته فاذا هم يقرا على حروف كثيرة لم يقرأينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فكدتّ اساوره فى الصّلوة فتصبرت حتى سلم فلبيته بردائه فقلت له من اقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرا فقال اقرأنيها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقلت كذبت فأن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أقرأنيها على غير ما قرات فانطلقت به أقوده الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقلت انى سمعت هذا يقرا سورة الفرقان على حروف لم تقرانيها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اقرأ يا هشام فقرأ عليه بقراءة سمعته يقرأ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كذلك كذلك أنزلت ثم قال لى اقرأ فقرات القراءة التي أقرأنيها صلى اللّه عليه و سلم فقال هكذا أنزلت ان هذا القران انزل على سبعة أحرف فاقرء و اما تيسر منه ١٢ منه برد اللّه مضجعه.

اى العبد او الفرقان لِلْعالَمِينَ اى للانس و الجن عامة و عموم الرسالة من خصائصه صلى اللّه عليه و سلم نَذِيراً اى منذرا او انذارا كالنكير بمعنى الإنكار و هذه الجملة و ان كانت فى حيز الإنكار لاهل مكة المخاطبين بها و لا بد من ان تكون الصلة معلومة لكنها لقوة دليلها أجريت مجرى المعلوم.

٢

الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ اى سلطانه و الموصول بدل من الاول و جاز الفصل بين البدل و المبدل منه بقوله ليكون لان المبدل منه اى الموصول مع الصلة و قوله ليكون من متعلقات الصلة تعليل له فكان المبدل منه لم يتم الا به و جاز ان يكون الموصول مرفوعا بتقدير المبتدا اى هو او منصوبا بتقدير اعنى او امدح وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً كما زعم النصارى وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ كما يقول المجوس و الثنوية اثبت له الملك مطلقا و نفى ما يقاومه فيه ثم نبّه على ما يدل عليه فقال وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ يعنى أحدث كل شى ء مراعى فيه التقدير كخلقه لانسان من مواد مخصوصة على صور و إشكال معينة فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً فسواه و هيأه لما أراد منه من الخصائص و الافعال كتهية الإنسان للادراك الفهم و النظر و التدبير و استنباط الصنائع المتنوعة و فراولة الأعمال المختلفة او المعنى فقدره للبقاء الى أجل مسمى و قد يطلق الخلق لمجرد الإيجاد من غير نظر الى وجه الاشتقاق فيكون المعنى و أوجد كل شى ء فقدره فى إيجاده حتى لا يكون متفاوثا و قيل قدر لكل شى ء تقديرا من الاجل و العمل و الرزق فجرت المقادير على ما خلق و لمّا تضمّن الكلام اثبات التوحيد و النّبوة أخذ فى البرد على من انكرهما فى بيان نقص الهتهم الباطلة فقال.

٣

وَ اتَّخَذُوا اى المنذرون «١» يدل عليه قوله نذيرا و المراد كفار مكة و الجملة معطوفة على قوله تبارك مِنْ دُونِهِ اى غير اللّه من زائدة و هو فى محل النصب على الحال من قوله آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً من الجواهر و الاعراض و الأعمال و الأحوال صفة لالهة وَ هُمْ يُخْلَقُونَ حيث خلق اللّه كل شى ء و هذا المعنى يعم الالهة الباطلة كلها و ان كان المراد بالالهة الأصنام فجاز ان يكون المعنى و هم ينحتون و يصورون اى حصلت لهم صورهم يكسب عبدتهم و الجملة معطوفة على ما سبق او حال أورد صيغة المضارع و المعنى على الماضي للاستحضار وَ لا يَمْلِكُونَ اى لا يقدرون لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا اى دفع ضراريد بهم ان يّسلبهم الذّباب شيئا لا يستنقذوه منه وَ لا نَفْعاً و لا جلب نفع و هذا حال الأصنام بل حال كل شى ء سوى اللّه تعالى فان عيسى و عزيرا و الملائكة مع علوم تبتهم لا يملكون لانفسهما نفعا و لا ضرّا الّا ما شاء اللّه قال اللّه تعالى قل لا املك لنفسى نفعا و لا ضرّا الّا ما شاء اللّه و لو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير و ما مسّنى السّوء وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً يعنى لا يملكون اماتة أحد و لا إحياءه اوّلا و لا بشبه ثانيا و هذا الأمور من لوازم الالوهية فكل من ليس كذلك فليس باله و فيه اشارة الى ان الإله يجب ان يكون قادرا على البعث و الجزاء.

(١) و فى الأصل اى المنذر بن يدل عليهم إلخ الفقير الدهلوي.

٤

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا عطف على اتخذوا وضع الظاهر موضع الضمير للاشعاريان انكار النبوّة كفر كانكار التوحيد و ذلك لان التوحيد على ما ينبغى لا يتاتى بمجرد العقل بل حقيقة التوحيد ما ورد به الشرع الا ترى الى الفلاسفة و أمثالهم كيف خبطوا فى الالهيّات حتى ضلوا و أضلوا فى الصحيحين عن ابن عباس رض فى قصة وفد عبد القيس قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أ تدرون ما الايمان باللّه وحده قالوا اللّه و رسوله اعلم قال ان تشهدوا ان لا اله الا اللّه و ان محمدا رسول اللّه الحديث إِنْ هَذا اى القران الذي جاء به محمد صلى اللّه عليه و سلم إِلَّا إِفْكٌ اى كذب مصروف عن وجهه يعنى ليس هذا من كلام اللّه كما يقول محمد صلى اللّه عليه و سلم بل افْتَراهُ يعنى اختلقه محمد صلى اللّه عليه و سلم وَ أَعانَهُ اى محمدا صلى اللّه عليه و سلم عَلَيْهِ اى على اختلاق القران قَوْمٌ آخَرُونَ قال مجاهد يعنون اليهود و قال الحسن عبيد بن الحصر الحبشي الكاهن و قيل جبر و يسار و عداس عبيد كانوا بمكة من اهل الكتاب زعم المشركون ان محمدا صلى اللّه عليه و سلم يأخذ منهم فَقَدْ جاؤُ يعنى قابلى هذه المقالة ظُلْماً حيث حكموا على الكلام المعجز بكونه إفكا مختلقا متلفقا من اليهود وَ زُوراً حيث نسبوا الافتراء الى من هو برئ منه

قال البيضاوي اتى و جاء ليطلقان بمعنى فعل فيعديان تعديته و قيل هذان منصوبان بنزع الخافض تقديره فقد جاءوا بظلم و زور.

٥

وَ قالُوا عطف على قال الّذين كفروا اى قال بعضهم يعنى النصر بن الحارث فانه كان يقول القران ليس من اللّه انما هو أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعنى ممّا سطره اى كتبه الأولون اى المتقدمون مثل قصة رستم و إسفنديار اكْتَتَبَها اى استكتبها محمد صلى اللّه عليه و سلم من جبر و يسار و عداس و أمثالهم فَهِيَ اى تلك الأساطير تُمْلى اى تقرا عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا ليحفظها فانه امىّ لا يقدر ان يكتب و لا ان يكرر من الكتاب.

٦

قُلْ استيناف فانّه فى جواب ماذا أقول لهم يعنى قل لهم ردّا عليهم ليس الأمر كما قلتم بل أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كما يدل على ذلك اعجازه البلخاء عن آخرهم عن معارضته و كونه مشتملا على علوم لا يعلمها الا عالم السر و الخفيات فكيف تحكمون عليه بكونه من كلام البشر من المتأخرين لو المتقدمين إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً فلذلك لا يعجلكم بالعقوبة على ما تقولون مع كمال قدرته عليها و استحقاقكم إياها.

٧

وَ قالُوا عطف على قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعنى و قالوا فى مقام الاستدلال على انكارهم النبوة ما لِهذَا الرَّسُولِ اى ما لهذا الذي يدعى الرسالة و فيه استهانة و تهكم يَأْكُلُ الطَّعامَ كما يأكل أحدنا حال من المشار اليه و العامل فيه معنى الاشارة وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ كما يمشى أحدنا يعنى لو كان نبيا لامتاز عن غيره من الناس و «١» ليس فليس

قال البغوي كانوا يقولون لست أنت بملك لانك تأكل و الملك لا يأكل و لست أنت بملك لان الملك لا يتسوق و أنت تتسوق و تتبدل قلت كلامهم هذا فاسد لانه صلى اللّه عليه و سلم لم يدع الملكية و لا السلطان بل قال إنّما انا بشر مثلكم يوحى الىّ و ادعاؤه النبوة غير مناف لاكل الطعام و المشي فى الأسواق الذي هو مقتضى البشرية التي هى من لوازم النبوة لان النبي لا يكون الا بشرا لان المجانسة شرط للافاضة و الاستفاضة قال اللّه تعالى لو كان فى الأرض ملئكة يمشون مطمئنّين لنزّلنا عليهم من السّماء ملكا رسولا لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ نراه فَيَكُونَ جواب لولا معنى هلا منصوب بتقدير ان بعد الفاء مَعَهُ نَذِيراً فنعلم صدقه بتصديق الملك جملة لولا مع جوابه بدل اشتمال من الجملة السابقة يعنى ما لهذا الرسول بشرا ليس ملكا قويا بذاته و لا مؤيدا بأحد الأمور الثلاثة المذكورة انزل اليه ملك.

(١) الاولى و إذ ليس فليس ١٢ الفقير الدهلوي.

٨

أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ من السماء كَنْزٌ ينفقه فلا يحتاج الى المشي فى الأسواق لطلب المعاش أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها صفة لجنة قرا حمزة و الكسائي نأكل بالنون على صيغة المتكلم مع الغير ذكروا كلا من الثلاثة على سبيل التنزل يعنون انه ان كان رسولا كان ملكا و ان لم يكن ملكا كان معه ملك يصدقه و ان لم يكن كذلك كان يلقى اليه من السماء كنز و ان لم يكن كذلك فلا اقل ان يكون له بستان كما يكون الدهاقين و المياسير فيعيش بربحه وَ قا لَ الظَّالِمُونَ وضع الظالمين موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم فيما قالوا إِنْ تَتَّبِعُونَ ايها المسلمون أحدا حين تتبعون محمدا صلى اللّه عليه و سلم إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً يعنى سحر فغلب على عقله و قيل اى مخدوعا و قيل مصروفا عن الحق و قيل مسحورا اى ذا سحر و هو الرئة اى بشرا و قيل هو مفعول بمعنى الفاعل.

٩

انْظُرْ يا محمد كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ كيف ظرف متعلق بضربوا قدم عليه لتضمنه صدر الكلام و الجملة بتأويل المفرد مفعول لانظر اى انظر الى كيفية ضربهم الأمثال اى الأشباه يعنى جعلوك مثل المفترين و القاصين حتى حكموا عليك بالافتراء و استكتاب القصص و مثل المسحورين و مثل من يدعى الملكية او السلطنة حتى حكموا عليك باستحالة الاكل و التسوّق و استلزام لوازم الأغنياء و السلاطين من الكنز و الجنة فَضَلُّوا عطف على ضربوا اى كيف ضربوا و كيف ضلوا عن الطريق الموصل الى الحق و معرفة نبوتك بمعرفة خواص الأنبياء من كونه بشرا معصوما يوحى اليه من ربه و معرفة ما يميّز بينه و بين المتنبّى من المعجزات الدالّة على نبوته فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا الى الرشد و الهدى عطف على ضلوا او المعنى ضربوا لك أمثالا متناقضة فلا يستطيعون سبيلا الى القدح فى نبوتك لان الكلام المتناقض ساقط و اللّه اعلم.

اخرج ابن ابى شيبة فى المصنف و ابن جرير و ابن ابى حاتم عن خيثمة قال قيل للنبى صلى اللّه عليه و سلم ان شئت أعطيناك مفاتيح الأرض و خزائنها لا ينقص ذلك عند ناشيئا فى الاخرة و ان شئت جمعتها لك فى الاخرة قال لا اجمعهما لى فى الاخرة فنزلت.

١٠

تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ فى الدنيا خَيْراً مِنْ ذلِكَ الّذى قالوا من الكنز و البستان و لكن اخّره للاخرة لانه خير و أبقى خيرا مفعول أول لجعل و لك مفعول ثان له

قال البغوي و روى عن عكرمة عن ابن عباس قال يعنى خيرا من المشي فى الأسواق و التماس المعاش ثم بين ذلك الخير بقوله جَنَّاتٍ فهو بدل من خيرا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ صفة لجنات وَ يَجْعَلْ لَكَ عطف على جعل قرا ابن كثير و ابن عامر و عاصم برواية ابى بكر بالرفع و الباقون بالجزم لان الشرطان كان ماضيا جاز فى جزائه الجزم و الرفع و يجوز ان يكون الرفع على الاستيناف على انه وعد بما يكون له فى الاخرة قُصُوراً اى بيوتا مشيدة و العرب تسمى كل بيت مشيد قصرا روى احمد و الترمذي و حسنه عن ابى أمامة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال عرض علىّ ربى ان يجعل لى بطحاء مكة ذهبا فقلت لا يا رب و لكن أشبع يوما و أجوع يوما و فى رواية عند البغوي او قال ثلاثا و نحو هذا فاذا جعت تضرعت إليك و إذا شبعت حمدتك و شكرتك و عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو شئت لسارت معى جبال الذهب جاءنى ملك ان حجزته لتساوى الكعبة فقال ان ربك يقرأ عليك السلام و يقول ان شئت نبيّا عبدا و ان شئت نبيّا ملكا فنظرت الى جبرئيل فاشار الىّ ان ضع نفسك فقلت نبيّا عبدا قالت فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعد ذلك لا يأكل متكئا و يقول أكل كما يأكل العبيد و اجلس كما يجلس العبيد.

١١

بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ عطف على قالوا يعنى قالوا ذلك بل قالوا اعجب من ذلك او متصل بما يليه يعنى بل قصرت انظارهم على الحطام الدنيوية و ظنوا ان الكرامة انما هى بالمال فكذبوك و طعنوا فيك بالفقر و بما تمحّلوا من المطاعن الفاسدة او المعنى بل كذبوا بالساعة فكيف يلتفتون الى هذا الجواب و يصدقونك بما وعد اللّه لك فى الاخرة او فلا تعجب تكذيبهم إياك فانه اعجب منه وَ أَعْتَدْنا عطف على كذبوا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً نارا شديدا لاسعار و قيل اسم لجهنم فيكون صرفه باعتبار المكان.

١٢

إِذا رَأَتْهُمْ اى إذا رات النار الكفار حمل بعض المحققين اسناد الرؤية الى النار على الحقيقة لما

قال البغوي انه روى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال من كذب علىّ متعمدا فليتبوا مقعده بين عينى النار قالوا و هل لها من عينين قال الم تسمع قول اللّه تعالى إذا راتهم من مكان بعيد و قيل الاسناد مجازى فقيل و التقدير إذا راتهم زبانيتها على حذف المضاف و قيل بعيني إذا كانت بمرئ منها كقوله صلى اللّه عليه و سلم لا تتراى نارهما اى لا يتقاربان بحيث يكون أحدهما بمرئى من الاخرى مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قال الكلبي من مسيرة مائة عام و قيل من مسيرة خمس مائه سنة سَمِعُوا اى الكفار لَها اى للنار تَغَيُّظاً اى صورت تغيظ هى صوت غليانها شبيها بصوت المتغيظ وَ زَفِيراً و هو صوت يسمع من جوقه و الجملة الشرطية صفة لسعير و تأنيث ضمير راتهم لانه بمعنى النار او جهنم.

١٣

وَ إِذا أُلْقُوا يعنى الكفار عطف على الشرطية الاولى مِنْها اى من جهنم حال مما بعده مكانا ظرف لالقوا ضَيِّقاً لزيادة العذاب فان الكرب مع الضيق و الرّوح مع السعة قرا ابن كثير بسكون الياء و الباقون بتشديدها اخرج ابن ابى حاتم عن يحيى بن أسيد ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سئل عن هذه الاية قال و الّذى نفسى بيده ليستكرهون فى النّار كما يستكره الوتد فى الحائط

و اخرج عن ابن عمر فى الاية قال مثل الزّج فى الرمح و قال ابن المبارك من طريق قتادة قال ذكر لنا ان عبد اللّه كان يقول ان جهنم لتضيق على الكافرين كضيق الزّجّ على الرمح

و اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم و ابن ابى الدنيا و البيهقي عن ابن مسعود قال إذا القى فى النار من يخلد فى النار جعلوا فى توابيت من حديد فيها مسامير من حديد ثم جعلت تلك التوابيت فى توابيت من حديد ثم قذفوا فى أسفل جهنم فما يرى أحدهم انه يعذب غيره

و اخرج ابو نعيم و البيهقي عن سويد بن غفلة نحوه مُقَرَّنِينَ حال من الضمير المرفوع فى القوا يعنى و قد قرئت أيديهم الى أعناقهم بالسلاسل و قيل مقرنين مع الشياطين دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً جزاء للشرط قال ابن عباس يعنى ويلا و قال الضحاك هلاكا اخرج احمد و البزار و ابن ابى حاتم و البيهقي بسند صحيح عن انس رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه و يسحبها من بعده و ذريته من بعده و هو ينادى يا ثبوراه و يقولون يا ثبورهم حتى يقفوا على النار فيقال لهم.

١٤

لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً استيناف كانّه فى جواب ماذا يقال لهم حين يدعون ثبورا يعنى هلاككم اكثر من ان تدعوا مرة واحدة فادعوا ادعية كثيرة و ذلك لان عذابكم انواع كثيرة كل نوع منها ثبور لشدته او لانه يتجدد كقوله تعالى كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب او لانه لا ينقطع فهو فى كل وقت ثبورا قال اللّه تعالى.

١٥

قُلْ يا محمد استيناف أَ ذلِكَ الذي ذكرت لك من صفة النار و أهلها او أ ذلك الكنز و الجنة التي فى الدنيا خَيْرٌ من جنة الخلد أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ خير من ذلك استفهام تقرير للتقريع مع التهكم و التوبيخ للكفار و اضافة الجنة الى الخلد للمدح او للدلالة على خلودها او للتميز عن جنات الدنيا الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ العائد الى الموصول محذوف و المراد بالمتقين من يتقى الشرك و التكذيب بدلالة مقابلة الكفار و ان الجنة يكون جزاء لكل مؤمن كانَتْ لَهُمْ فى علم اللّه او اللوح المحفوظ او لان ما وعد اللّه فى تحققه كالواقع جَزاءً ثوابا على أعمالهم وَ مَصِيراً مرجعا ينقلبون اليه التنكير فيها للتعظيم و جزاء و مصيرا حالان من الضمير المرفوع فى كانت او خبر ثان له و جملة كانت لهم حال من المفعول المقدر لوعد اى جنّة الخلد الّتى وعد المتّقون إياها و قد كانت لهم جزاء و مصيرا او حال من المتّقون و الرابط ضمير لهم.

١٦

لَهُمْ فِيها اى فى الجنة ما يَشاؤُنَ العائد محذوف اى ما يشاءونه من النّعيم يعنى على ما يليق برتبته إذا الظاهر ان الناقص لا يدرك ما يدركه الكامل بالتشهى و فيه تنبيه على ان جميع المرادات لا يحصل الا فى الجنة خالِدِينَ حال من أحد ضمائرهم كانَ الضمير الراجع الى ما يشاءون عَلى رَبِّكَ وَعْداً اى موعودا من اللّه و كلمة على للوجوب استعمل لاستحالة الخلف فى الموعود و لا يلزم منه الا لجاء لان تعلق الارادة بالموعود مقدم على الوعد الموجب للانجاز و هو تحقق الاختيار مَسْؤُلًا اى حقيقا بان يسئل و يطلب او مسئولا ساله الناس فى دعائهم ربّنا اتنا ما وعدتنا على رسلك قال محمد بن كعب القرظي كان مسؤلا من الملائكة بقولهم ربّنا و أدخلهم جنّت عدن الّتى وعدتهم.

١٧

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ متعلق بقالوا سبحانك و جملة قالوا سبحانك مع متعلقاتها عطف على و اتّخذوا من دون اللّه الهة. قرا ابن كثير و ابو جعفر و يعقوب و حفص بالياء على الغيبة و الباقون بالنون على التكلم و التعظيم وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه اى كل معبود سواه عبد بالباطل عاقلا كان او غير عاقل لان كلمة ما يعمهما على الأصح

و قال مجاهد رض يعنى من الملائكة و الجن و عيسى ع و عزير ع خص لهؤلاء بقرينة السؤال و الجواب. و قال عكرمة و الضحاك و الكلبي يعنى الأصنام لان ما لغير ذوى العقول و هذا القول محمول على ان اللّه سبحانه يجعلها فى الاخرة ذات حيوة و نطلق فتنطق كما تنطق الجوارح و الامكنة و نحو ذلك فَيَقُولُ للمعبودين بالباطل عطف على يحشر قرا ابن عامر بالنون على التكلم و التعظيم و الباقون بالياء على الغيبة اى يقول اللّه سبحانه لهم أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ بدل من عبادى يعنى أضللتم إياهم بدعوتكم إياهم الى عبادة أنفسكم أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ اى معرفة الحق لاخلالهم بالنظر الصحيح و اعراضهم عن المرشد النصيح الفصيح و هو استفهام تقريع و تبكيت للعبيد و أصله ء أضللتم أم ضلّوا فغير النظم ليلى حرف الاستفهام المقصود بالسؤال و هو المتولى للفعل دون نفس الفعل لانه قطعى لا شبهة فيه و الا لما توجه العتاب.

١٨

قالُوا أورد صيغة الماضي للمستقبل لتحقق الوقوع سُبْحانَكَ تعجبا لما قيل لهم لعصمتهم ان كانوا ملائكة او أنبياء او لعدم قدرتهم على الإضلال ان كانوا جمادات او غير ذلك. او اشعارا بانهم الموسومون بتسبيحه و تحميده حيث قال اللّه تعالى و ان من شى ء الّا يسبّح بحمده فكيف يليق بهم إضلال عبيده او تنزيها للّه تعالى من ان يكون له شريك ما كانَ يَنْبَغِي لَنا جملة ينبغى خبر كان و اسمه ضمير الشان أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ من مزيدة لتأكيد النفي اى ما يصح لنا ان نوالى أحدا غيرك للعصمة و عدم القدرة فكيف يصح لنا ان ندعو غيرنا الى ان يتخذ وليا دونك و هذا جواب صحيح للانبياء و الملائكة و كذا للجمادات و اما من ادعى فى الدنيا الوهيّة باطلة من شياطين الجن و الانس فهذا الجواب منهم كقولهم و اللّه ربنا ما كنّا مشركين و كقول الشيطان لمّا قضى لامر انّ اللّه وعدكم وعد الحقّ و وعدتكم فاخلفتكم و ما كان لى عليكم من سلطان الاية وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ بطول العمر و الصحة و انواع النعم فاستغرقوا فى الشهوات حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ عطف على متّعتهم يعنى حتى غفلوا عن ذكرك و تذكّر آلائك و التّدبّر فى آياتك المنصوبة الدالّة على ذلك و عن احتياجهم إليك او تركوا الموعظة و الايمان بالقران فهو نسبة للضلال إليهم من حيث انه يكسبهم و اسناد له الى ما فعل اللّه بهم فحملهم عليه فهذه الاية حجة لنا على المعتزلة لا لهم علينا وَ كانُوا فى قضائك عطف على نسوا قَوْماً بُوراً اى هلكا مصدر وصف به و لذلك يستوى فيه الواحد و الجمع و قيل جمع بائر كعائذ و عوذ.

١٩

فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ خطاب مع المشركين فى الدنيا يعنى فسيكذبكم فى الاخرة الهتكم التي تعبدونها أورد صيغة الماضي للقطع بوقوعها كما فى قوله تعالى إذا السّماء انشقّت. و جاز ان يكون بتقدير القول يعنى فنقول حينئذ للمشركين فقد كذبكم المعبودون بِما تَقُولُونَ الباء بمعنى فى اى فى قولكم انهم الهة او هؤلاء أضلونا و جاز ان يكون بما تقولون بدل اشتمال من الضمير المنصوب فى كذّبوكم يعنى كذبوا قولكم فَما تَسْتَطِيعُونَ عطف على فقد كذّبوكم قرا حفص بالتاء على الخطاب للعابدين و الباقون بالياء على ان الضمير راجع الى المعبودين صَرْفاً اى لا يستطيع المعبودون صرف العذاب عنكم وَ لا نَصْراً لكم اولا تستطيعون أنتم صرف العذاب عن أنفسكم و لا نصر أنفسكم. و قيل الصرف الحيلة و منه قول العرب انه يتصرف اى يحتال وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ ايها الناس نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً ان كان المراد بالظلم الشرك فالجزاء لازم اجماعا و ان كان يعم الكفر و الفسق فاقتضاء الجزاء مقيد بعدم المزاحم وفاقا و هو التوبة و الإحباط بالطاعة اجماعا و بالعفو عندنا اخرج الواحدي من طريق جويبر و البغوي عن الضحّاك رض عن ابن عبّاس رض و ابن جرير رض نحوه من طريق سعيد او عكرمة عند انه لما عيّر المشركون رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بالفاقة و قالوا ما لهذا الرّسول يأكل الطّعام و يمشى فى الأسواق حزن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فنزل.

٢٠

وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ يعنى الا رسلا انهم لياكلون فحذف الموصوف لدلالة المرسلين عليه و أقيمت الصفة مقامه و المعنى الا رسلا آكلين الطعام و الماشين فى الأسواق كقوله تعالى و ما منّا الّا له مقام معلوم اى ما منّا من أحد الا من له مقام معلوم و جاز ان يكون حالا اكتفى منها بالضمير يعنى ما أرسلنا قبلك أحد من المرسلين فى حال من الأحوال الّا و الحال انّهم لياكلون و جملة ما أرسلنا معترضة لتسلية النبي صلى اللّه عليه و سلم وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً اى بلية فالغنى فتنة للفقير يقول الفقير مالى لم أكن مثله و الصحيح فتنة للمريض و الشريف للوضيع و قال ابن عباس اى جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا على ما تسمعون فيهم و ترون من خلافهم و تتبعوا الهدى و قيل نزلت فى ابتلاء الشريف بالوضيع و ذلك ان الشريف إذا أراد ان يسلم فراى الوضيع قد اسلم قبله انف و قد اسلم بعده. فيكون له على الشريف السابقة و الفضل فيقيم على الكفر و يمتنع عن الإسلام فذلك افتتان بعضهم ببعض و هذا قول الكلبي و قال مقاتل نزلت فى ابى جهل و الوليد بن عتبة و العاص بن وائل و النضر بن الحارث و ذلك انهم إذا راوا أبا ذر رض و ابن مسعود رض و عمّارا رض و بلالا رض و صهيبا رض و عامر بن فهيرة قالوا نسلم و نكون مثل هؤلاء. و قال قتادة رض نزلت فى ابتلاء المؤمنين بالمستهزئين من قريش كانوا يقولون انظروا الّذين اتبعوا محمدا من موالينا و رذالتنا فقال اللّه تعالى لهؤلاء المؤمنين أَ تَصْبِرُونَ على هذه الحالة من الفقر و الشدة و الأذى فتؤجروا أم لا تصبرون فتزدادوا غمّا الى غمكم و حاصل المعنى اصبروا وَ كانَ رَبُّكَ بَصِيراً بمن صبر و جزع عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا نظر أحدكم الى من فضل عليه فى المال و الجسم فلينظر الى من هو أسفل منه. رواه الشيخان فى الصحيحين و احمد.

الجزء التّاسع و العشر.

٢١

وَ قالَ عطف على قال الّذين كفروا الَّذِينَ لا يَرْجُونَ اى لا يأملون لِقاءَنا بالخير لانكارهم البعث و لا لقاءنا بالشر اما مجازا و اما على لغة تهامة قال الفراء ان الرجاء بمعنى الخوف على لغة تهامة و منه قوله تعالى ما لكم لا ترجون للّه وقارا اى لا يخافون للّه عظمة و اصل اللقاء الوصول الى الشي ء و منه الرؤية فانه وصول الى المرئي و المراد به الوصول الى جزائه لَوْ لا اى هلّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ فيخبروننا بصدق محمد او يكونون رسلا من اللّه إلينا أَوْ نَرى رَبَّنا فيامرنا باتباعه لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا جواب قسم محذوف فى شأن أَنْفُسِهِمْ حيث طلبوا لانفسهم ما ينفق لافراد من الأنبياء الّذين هم أكمل خلق اللّه فى أكمل أوقاتها و ما هو أعظم من ذلك وَ عَتَوْا تجاوزوا الحد فى الظلم

و قال مجاهد طغوا و قال مقاتل علوا فى القول و

قال البغوي العتو أشد الكفر و أفحش الظلم عُتُوًّا كَبِيراً بالغا أقصى مراتبه حيث طلبوا رؤية اللّه و لا شى ء فوق ذلك و قيل عتوهم انهم عاينوا المعجزات الباهرة فاعرضوا عنها و طلبوا لانفسهم الخبيثة ما تقطعت دونه أعناق الطالبين الكاملين.

٢٢

يَوْمَ يَرَوْنَ اى الكفار الْمَلائِكَةَ يعنى حين الموت او يوم القيامة جملة معترضة و الظرف امّا متعلق باذكر و يقولون حجرا محجورا عطف على يرون و جملة لا بشرى يومئذ لّلمجرمين معترضة اخرى و اما متعلق بقوله تعالى لا بشرى بتقدير القول يعنى يوم يرون الملئكة يقولون اى الملائكة لا بُشْرى للمجرمين قال عطية ان الملائكة يبشرون المؤمنين يوم القيامة و يقولون للكافرين لا بشرى لكم.

و قيل معناه يوم يرون الملائكة لا يبشرون كما يبشرون المؤمنين بالجنة يَوْمَئِذٍ تكرير او خبر للا او ظرف لما تعلق به اللام فى للمجرمين لِلْمُجْرِمِينَ اما متعلق بالظرف المستقر اعنى يومئذ او خبر للا او متعلق بالبشرى ان قدرت منونة غير مبنية مع لا فانها لا تعمل و للمجرمين أمّا عام يتناول حكمه حكمهم و اما خاص وضع موضع ضميرهم تسجيلا على جرمهم و اشعارا بما هو المانع للبشرى و الموجب لما يقابله وَ يَقُولُونَ اى الملائكة عطف على يقولون لا بشرى حِجْراً مَحْجُوراً كذا

قال البغوي عن عطاء عن ابن عباس انه تقول الملئكة حراما محرما ان يدخل الجنة الا من قال لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه و عن مقاتل انه إذا خرج الكفار من قبورهم قالت الملائكة لهم حراما محرما عليكم ان تكون لكم الجنة و قال بعضهم معنى الاية يقولون اى المجرمون حين يخرجون من قبورهم و يرون الملائكة حجرا محجورا

قال البغوي قال ابن جريح كانت العرب إذا نزلت بهم شدة و راوا ما يكرهون قالوا حجرا محجورا فهم يقولون ذلك إذا عاينوا الملائكة و معناه عوذا معوذا قال مجاهد يستعيذون من الملائكة يعنى يوم يرون الملائكة و تقول الملائكة لا بشرى و يقول المجرمون حجرا محجورا اى يطلبون من اللّه ان يمنع لقاءهم.

٢٣

وَ قَدِمْنا اى عمدنا ذلك اليوم عطف على و يقولون إِلى ما عَمِلُوا اى الكفار مِنْ عَمَلٍ صالح كقرى الضيف و صلة الرحم و اغاثة الملهوف و نحوها فَجَعَلْناهُ عائد الى ما عملوا هَباءً مَنْثُوراً اى باطلا لا ثواب له لفوات شرط الثواب عليه من الايمان و الإخلاص للّه تعالى قال على الهباء ما يرى فى الكوى إذا وقع الشمس فيها كالغبار و لا يمس منها بالأيدي و لا يرى فى الظل و هو قول الحسن و عكرمة و مجاهد- و المنثور المفرق صفة لهباء و قال ابن عباس و قتادة و سعيد بن جبير هو ما تسفه الريح و تذريه من التراب و حطام الشجر و قال مقاتل هو ما يطير من حوافر الدّواب عند السير و قيل الهباء المنثور ما يرى فى الكوة و الهباء المنبتّ ما يطيره الريح من سنابك الخيل شبه عملهم المحبط فى حقارته و عدم نفعه بالهباء ثم بالمنثور منه فى انتثاره بحيث لا يمكن نظمه او فى تفرقه نحوا عراضهم التي كانوا يتوجهون نحوها او مفعول ثالث من حيث انه كالخبر كقوله تعالى كونوا قردة خسئين.

٢٤

أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ اى يوم يرون الملئكة خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا اى مكانا يستقر فى اكثر الأوقات وَ أَحْسَنُ مَقِيلًا مكانا يؤوى اليه للاسترواح بالأزواج و هو التمتع بهن و يجوز ان يراد به مكان القيلولة على التشبيه إذ لا نوم فى الجنة و قال الأزهري القيلولة و المقيل الاستراحة نصف النهار و ان لم يكن مع ذلك نوم لان اللّه تعالى قال و احسن مقيلا و الجنة لا نوم فيها و فى احسن رمز الى ما يتزين به مقيلهم من حسن الصور و غيره من المحاسن و يحتمل ان يراد بالمستقر و المقيل المصدر او الزمان و اشارة الى ان مكانهم و زمانهم أطيب ما يتخيل من الامكنة و الازمنة و التفضيل اما لارادة الزيادة مطلقا او بالاضافة الى ما للمترفين فى الدنيا اخرج ابن المبارك فى الزهد و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن ابى حاتم و الحاكم و صححه عن ابن مسعود رض قال لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء و هؤلاء و ذكر البغوي عن ابن مسعود رض لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل اهل الجنة فى الجنة و اهل النار فى النار

و قرا ثمّ انّ مقيلهم لالى الجحيم هكذا كان يقرأه-

و اخرج ابن المبارك و سعيد بن منصور و ابن جرير و ابن المنذر و ابو نعيم فى الحلية عن ابراهيم النخعي قال كانوا يرون انه يفرغ من حساب الناس يوم القيامة نصف النهار فيقيل اهل الجنة فى الجنة و اهل النار فى النار و

قال البغوي كان ابن عباس رض يقول فى هذه الاية الحساب ذلك اليوم فى اوله و قال القوم حين قالوا فى منازلهم فى الجنة

قال البغوي و يروى ان يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر الى غروب الشمس.

٢٥

وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ عطف على يوم يرون قرا اهل الكوفة و ابو عمرو بتخفيف الشين هاهنا و فى سورة ق بحذف احدى التاءين و الباقون بالتشديد بإدغام التاء فى الشين السَّماءُ بِالْغَمامِ اى بسبب طلوع الغمام و هو الغمام المذكور فى قوله تعالى هل ينظرون الّا ان يأتيهم اللّه فى ظلل من الغمام و الملئكة و قد مر فى سورة البقرة. و هو غمام ابيض رقيق مثل الضبابة و لم يكن الا لبنى إسرائيل فى تيههم و

قال البغوي الباء بمعنى عن يتعاقبان يقال رميت السهم بالقوس و عن القوس فالمعنى تشقق السماء عن الغمام وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ قرأ العامة بنون واحدة و تشديد الزاء و فتح اللام على صيغة الماضي المبنى للمفعول و رفع الملائكة على انه مسند اليه

و قرا ابن كثير بنونين و تخفيف الزاء و ضم اللام على صيغة المضارع المبنى للفاعل المتكلم على التعظيم من الانزال و نصب الملائكة على المفعولية تَنْزِيلًا اخرج الحاكم و ابن ابى حاتم و ابن جرير و ابن ابى الدنيا فى كتاب الأهوال عن ابن ابى عباس انه قرا يوم تشقّق السّماء بالغمام قال يجمع اللّه الخلق يوم القيمة فى صعيد واحد الجن و الانس و البهائم و السباع و الطير و جميع الخلق فتشقق السماء الدنيا فينزل أهلها و هم اكثر ممّن فى الأرض من الجن و الانس و جميع الخلق فيحيطون بالجن و و الانس و جميع الخلق فيقول اهل الأرض أ فيكم ربنا فيقولون لا ثم ينزل اهل السماء الثانية و هم اكثر من اهل السماء الدنيا و اهل الأرض فيقولون أ فيكم ربنا فيقولون «١» لا فيحيطون بالملائكة الّذين نزلوا قبلهم و بالجن و الانس و جميع الخلائق ثم ينزل اهل السماء الثالثة و هم اكثر من اهل السماء الثانية و الاولى و اهل الأرض فيقولون أ فيكم ربنا فيقولون لا ثم ينزل اهل السماء الرابعة و هم اكثر من اهل السماء الثالثة و الثانية و الاولى و اهل الأرض فيقولون أ فيكم ربنا فيقولون لا ثم

(١) و ليس فى الأصل فيقولون لا ١٢ الفقير الدهلوي.

ينزل اهل السماء الخامسة و هم اكثر ممن تقدم ثم اهل السماء السادسة كذلك ثم اهل السماء السابعة و هم اكثر من اهل السماوات و اهل الأرض فيقولون أ فيكم ربنا فيقولون لا ثم ينزل ربّنا فى ظلل من الغمام و حوله الكروبيون و هم اكثر من اهل السماوات السبع و الأرضين و حملة العرش لهم قرون ككعوب القنا ما بين قلام أحدهم كذا و كذا و من أخص قدمه الى كعبه خمس مائة عام و من كعبه الى ركبته خمس مائة عام و من ركبته الى ارنبه خمس مائة عام و من ارنبه الى ترقوته مقدم الحلق مسيرة خمس مائة و من ترقوته الى موضع القرط خمس مائة عام و قد مرّ هذا الحديث «١» و اقوال فى أعلى الصيد و حيث تترقى النفس منه رح العلماء فى تاويل نزوله تعالى فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى هل ينظرون الّا ان يأتيهم اللّه فى ظلل من الغمام.

و اخرج ابن جرير و ابن المبارك عن الضحاك قال إذا كان يوم القيامة امر اللّه السّماء فتشققت باهلها فيكون الملائكة على حافتها حين يأمرهم الرب فينزلون فيحيطون بالأرض و من عليها ثم الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة فصفّوا صفّادون صف ثم ينزل ملك الا على مجنبته اليسرى جهنم فاذا راها اهل الأرض ندوا فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض الا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة فرجعوا الى المكان الذي كانوا فيه و ذلك قوله تعالى انّى أخاف عليكم يوم التّناد يوم تولّون مدبّرين و قوله تعالى و جاء ربّك و الملك صفّا صفّا وجئ يومئذ بجهنّم و قوله تعالى يمعشر الجنّ و الانس ان استطعتم ان تنفذوا من أقطار السّموت و الأرض فانفذوا و قوله تعالى و انشقّت السّماء فهى يومئذ واهية و الملك على أرجائها يعنى ما تشقق منها فبينما كذلك إذا سمعوا الصوت و اقبلوا الى الحساب.

(١) قال ابن كثير بعد سطر هذه الرواية فمداره على على بن زيد بن جدعان و فيه ضعف فى سباقاته غالبا و فيها نكارة شديدة أه الفقير الدهلوي.

٢٦

الْمُلْكُ مبتدا يَوْمَئِذٍ اى يوم إذ تشقق السماء متعلق بالملك الْحَقُّ صفة للملك لِلرَّحْمنِ خبر للمبتدا يعنى الملك الثابت المتحقق الّذى لا زوال له يومئذ ثابت للرحمن دون غيره و جاز ان يكون يومئذ خبرأ للمبتدا و للرحمان متعلق به وَ كانَ يَوْماً خبر كان و اسمه ضمير مستتر عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً صفة ليوم و على الكافرين متعلق به يعنى كان ذلك البوم يوما شديدا على الكافرين و جاء فى الحديث عن ابى سعيد قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم عن يوم كان مقداره خمسين الف سنة ما أطول هذا اليوم فقال و الّذى نفسى بيده انه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من الصلاة المكتوبة يصليها فى الدنيا و اللّه اعلم

قال البغوي كان عقبة بن ابى معيط لا يقدم من سفر الا صنع طعاما يدعو اليه اشراف قومه و كان يكثر مجالسة النبي صلى اللّه عليه و سلم فقدم ذات يوم من سفر فصنع الطعام فدعا الناس و دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فلمّا قرب الطعام قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما انا بأكل طعامك حتى تشهد ان لا اله الّا اللّه و انى رسول اللّه فقال عقبة اشهد ان لا اله الا اللّه و ان محمدا رسول اللّه فاكل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من طعامه- و كان عقبة صديقا لابى بن خلف فلمّا اخبر أبيّ بن خلف قال له يا عقبه صبأت قال لا و اللّه ما صبأت و لكن دخل على رجل فابى ان يأكل طعامى الا ان اشهد له فاستحييت ان يخرج من بيتي و لم يطعم فشهدت له فطعم فقال ما انا بالّذى ارضى منك ابدا الا ان تأتيه فتبزق فى وجهه ففعل ذلك عقبة فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم لا القان خارجا من مكة الا علوت رأسك بالسيف فقتل عقبة يوم بدر صبرا و اما أبيّ بن خلف فقتله النبي صلى اللّه عليه و سلم يوم أحد بيده و كذا اخرج ابن جرير مرسلا و فيه و قال أبيّ لعقبة ارضى منك الا ان تأتيه فتطأ قفاه و تبزق فى وجهه فوجده ساجدا فى دار الندوة ففعل ذلك فقال عليه السلام لا ألقاك خارجا من مكة الا علوت راسك بالسيف فاسر يوم بدر فامر عليا بقتله و طعن ابيّا بأحد فى المبارزة فرجع الى مكة فمات ففى شأن عقبة و أبيّ نزلت.

٢٧

وَ يَوْمَ يَعَضُّ عطف على يوم تشقّق الظَّالِمُ يعنى عقبة بن ابى معيط عَلى يَدَيْهِ من فرط الحسرة اخرج ابن جرير عن ابن عباس قال كان ابى بن خلف يحضر النبي صلى اللّه عليه و سلم فزجره عقبة بن ابى معيط فسنزلت هذه الاية الى قوله خذولا

و اخرج مثله عن الشعبي و مقسم

قال البيضاوي عض اليدين و أكل البنان و حرق الأسنان و نحوها كنايات عن الغيظ و الحسرة. قال الضحاك لما بزق عقبة فى وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عاد بزاقه فى خده فاحترق خداه و كان اثر ذلك فيه حتى الموت و قال الشعبي كان عقبة بن ابى معيط خليل امية بن خلف فاسلم عقبة فقال امية وجهى من وجهك حرام ان بايعت محمدا فكفر و ارتدّ فانزل اللّه عزّ و جلّ و يوم يعضّ الظّالم يعنى عقبة بن ابى معيط بن امية بن عبد الشمس بن عبد مناف على يديه ندما و أسفا على ما فرط فى جنب اللّه و اوبق نفسه بالمعصية و الكفر لطاعة خليله الّذى صده عن سبيل ربه قال عطاء يأكل يديه حتى يبلغ مرفقيه ثم تنبتان ثم يأكل هكذا كلّما نبتت يده أكلها تحسرا على ما فعل يَقُولُ يا لَيْتَنِي تقديره يا قوم ليتنى قرا ابو عمرو رض بفتح الياء و الآخرون بإسكانها خال من فاعل يعض اتَّخَذْتُ فى الدنيا مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يليتنى اتبعت محمدا او اتخذت معه سبيلا الى الهدى و النجاة طريقا واحدا و هو طريق الحق و لم ينشعب بي طريق الضلالة.

٢٨

يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً يعنى ابى بن خلف و فلان كناية عن الاعلام خَلِيلًا

٢٩

لَقَدْ أَضَلَّنِي فلان عَنِ الذِّكْرِ اى عن ذكر اللّه او كتابه او موعظة الرسول او كلمة الشهادة جواب قسم محذوف بَعْدَ إِذْ جاءَنِي اى الذكر مع الرسول وَ كانَ الشَّيْطانُ يعنى الخليل المضلّ فان كل متمر دعات من الانس و الجن و كل من صد عن سبيل اللّه فهو شيطان لِلْإِنْسانِ خَذُولًا فعول من الخذلان و هو ترك الاعانة و النصر يعنى لا يواليه حتى يؤديه الى الهلاك ثم يتركه و لا ينفعه و هذه الآيات و ان كان موردها خاصا لكنها عامة من حيث العمارة يشتمل حكمه كل متحابين اجتمعا على معصية عن ابى موسى رضى اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال مثل الجليس الصالح و السوء كحامل المسك و نافخ الكير فحامل المسك اما ان يجديك و اما ان تبتاع منه او تجد ريحا طيبة و نافخ الكير اما ان يحرق ثيابك و اما ان تجد ريحا خبيثة رواه البخاري و عن ابى سعيد الخدري انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول لا تصاحب الا مؤمنا و لا يأكل طعامك الا تقى رواه احمد و ابو داود و الترمذي و ابن حبان و الحاكم و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المرء على دين خليله فلينظر من يخالل- رواه البغوي و فى الصحيحين و عند احمد و اصحاب السنن عن انس و فى الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال المرء مع من أحب.

٣٠

وَ قالَ الرَّسُولُ محمد صلى اللّه عليه و سلم يومئذ عطف على يعضّ الظّالم يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي قرا نافع و ابو عمرو و البزي بفتح الياء و الباقون بإسكانها يعنى قريشا اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً اى متروكا فاعرضوا عنه و لم يؤمنوا به و لم يعملوا بما فيه و قيل معناه جعلوه بمنزلة الهجر و الهذيان و القول السي ء فزعموا انه شعر او سحر او كهانة و هو قول النخعي و مجاهد و قيل معناه قال الرسول محمد صلى اللّه عليه و سلم فى الدنيا يشكوا قومه الى ربه انّ قومى اتّخذوا لهذا القران مهجورا و على هذا قال الرسول عطف على قال الّذين لا يرجون و لما شكى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قومه الى ربه عزاه اللّه تعالى بقوله.

٣١

وَ كَذلِكَ اى جعلا مثل ما جعلنا لك اعداء من مشركى قريش جَعَلْنا عطف على قال الرّسول لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا لفظ العدو يحتمل للواحد و الجمع مِنَ الْمُجْرِمِينَ اى من المشركين فاصيركما صبروا فانى ناصرك و هاديك وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً الى طريق قهرهم وَ نَصِيراً عليهم هاديا و نصيرا حال من فاعل كفى او تمييز من النسبة مثل قوله تعالى و كفى باللّه شهيدا و اللّه دره فارسله جملة كفى بربّك عطف على كذلك جعلنا.

و اخرج ابن ابى حاتم و الحاكم و صححه و الضياء فى المختار عن ابن عباس انه قال المشركون ان كان محمد (كما يزعم) نبيّا فلم يعذبه ربه الا ينزل عليه القران جملة واحدة فانزل اللّه تعالى.

٣٢

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا عطف على قال الّذين لا يرجون لَوْ لا هلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ اى انزل عليه كخبّر بمعنى اخبر كيلا يناقض قوله جُمْلَةً واحِدَةً دفعة واحدة حال من القران كما أنزلت التورية على موسى و الإنجيل على عيسى و الزبور على داود عليهم الصلاة و السلام.

قال البيضاوي هذا اعتراض لا طائل تحته لان الاعجاز لا يختلف بنزوله جملة او مفرقا مع ان التفريق قوائد منها ما أشار اليه بقوله كَذلِكَ متعلق بمحذوف اى أنزلناه كذلك مفرقا لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ اى لنقوى بتفريقه قلبك على حفظه و فهمه و لان نزوله بحسب الوقائع يوجب بصيرة فى المعنى و لانه إذا نزل منجما و هو يتحدى كل نجم فيعجزون عن معارضة ذلك زاد ذلك قوة قلبه و لانه إذا نزل به جبرئيل حالا بعد حال يثبت به فواده و من فوائد التفريق فى النزول معرفة الناسخ من المنسوخ و منها انضمام القرائن الحالية الى الدلالات اللفظية فانه يعين على البلاغة وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا عطف على أنزلناه المقدر الّذى تعلق به لنثبت قال ابن عباس رض بيّنّه بيانا و الترتيل القراءة فى ترسل و تثبت و قال السدى فصلناه تفصيلا

و قال مجاهد بعضه فى اثر بعض و قال النخعي و الحسن فرقناه تفريقا و اصل الترتيل فى الأسنان و هو تفليجها.

٣٣

وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ اى سوال عجيب كانه مثل يريدون به القدح فى نبوتك إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ يعنى الّا جئنا لك فى جواب سوالهم بما يحق لرد ما جاءوك وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً عطف على الجار و المجرور اى بما هو احسن بيانا يزيل اشكالهم او المعنى لا يأتونك بحال عجيب يقولون هذا كان حاله الا أعطيك من الأحوال ما يحق لك فى حكمتنا و ما هو احسن كشفا لما بعثت له و الفسر الا بانة و كشف المغطى كذا فى القاموس.

٣٤

الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ ذم منصوب او مرفوع او مبتدا خبره أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ سَبِيلًا و المفضل عليه هو الرسول على طريقة قوله تعالى قل هل أنبئكم بخير من ذلك متوبة عند اللّه من لّعنه اللّه و غضب عليه كانّه قيل ان حالهم على هذه الاسئلة تحقير مكانه بتضليل سبيله و لا يعلمون حالهم ليعلموا انهم هم شرّ مّكانا و اضلّ سبيلا و قيل انه متصل بقوله تعالى اصحاب الجنّة يومئذ خير مستقرّا و احسن مقيلا فالمفضل عليه عام كما كان هناك يعنى أولئك شر مكانا من كل مكين و أضل سبيلا من كل سالك ضالّ فكلمتا مكانا و سبيلا تميزان من النسبة و وصف السبيل بالضلال من الاسناد المجازى للمبالغة عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة اصناف ركبانا و مشاة و على وجوههم فقال رجل يا رسول اللّه او يمشون على وجوههم قال الّذى أمشاهم على أقدامهم قادر على ان يمشيهم على وجوههم. رواه ابو داود و البيهقي و عن انس رض سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كيف يحشر الكافر على وجهه قال أ ليس الّذى أمشاه على رجليه فى الدنيا قادرا على ان يمشيه على وجهه يوم القيامة متفق عليه و عن معاوية بن حيدة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول انكم تحشرون رجالا و ركبانا و تجرون على وجوهكم. رواه الترمذي و حسنه و عن ابى ذر قال حدثنى الصادق المصدوق صلى اللّه عليه و سلم ان الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج فوج طاعمين كاسين راكبين و فوج يمشون و يسعون و فوج يسحبهم الملائكة على وجوههم. رواه النسائي و الحاكم و البيهقي ..

٣٥

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ اى التورية وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً يوارده و يعينه فى الدعوة و إعلاء كلمة اللّه و لا ينافى ذلك مشاركته فى النبوة لان المتشاركين فى الأمر متوازران عليه.

٣٦

فَقُلْنَا لهما اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فادعواهم الى الايمان باللّه و آياته الدالّة على وجوده و وحدته و صفاته الكاملة فانهم كانوا ينكرون الصانع او يشركون به غيره و يعبدون الأصنام و جاز ان يكون المراد بالآيات معجزات موسى عليه السلام و على هذا قوله تعالى الّذين كذّبوا بايتنا صادق بالنسبة الى زمان الحكاية يعنى حين نزول القران و لا يجوز ان يكون المراد بالآيات آيات التوراة لانها ما نزلت الا بعد هلاك فرعون و قومه فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً فى الكلام حذف للايجاز تقديره فذهبا إليهم فدعواهم الى الايمان باللّه و آياته فكذّبوهما فدمّرناهم تدميرا اقتصر على ما هو المقصود من القصة و هو الزام الحجة ببعثة الرسل و استحقاق التدمير بتكذيبهم.

٣٧

وَ قَوْمَ نُوحٍ منصوب باذكر او بفعل مضمر يفسره قوله أغرقناهم يعنى أغرقنا قوم نوح و لا يجوز ان يكون معطوفا على هم فى دمّرناهم إذ لو كان كذلك لزم تعقيب تدمير قوم نوح بإتيان موسى و قد كان قبل ذلك لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ ظرف لفعل مضمر ناصب لقوم نوح او ظرف لما بعده و المراد بتكذيب الرسل تكذيب نوح و من قبله من الرسل عليهم السلام او تكذيب نوح وحده و أورد صيغة الجمع لان تكذيب واحد من الرسل كتكذيب الكل او المعنى كذبوا بعثة الرسل أَغْرَقْناهُمْ بالطوفان وَ جَعَلْناهُمْ اى جعلنا إغراقهم او قصتهم لِلنَّاسِ آيَةً عبرة وَ أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ على أنفسهم بالكفر عَذاباً أَلِيماً

٣٨

وَ عاداً وَ ثَمُودَ عطف على هم فى جعلنهم و جاز ان يكون منصوبا بفعل محذوف دلّ عليه سياق الكلام يعنى أهلكنا عادا و ثمودا و باذكر و قد مرّ قصتهما فيما سبق من سورة الأعراف و غيرها.

وَ أَصْحابَ الرَّسِّ فى القاموس الرسّ ابتداء الشي ء و منه رسّ الحمى و رسيسها و البئر المطوية بالحجارة و الإصلاح و الإفساد ضد و واد بآذربيجان عليه الف مدينة و الحفر و دفن الميت. و لعل اطلاق اصحب الرس على قوم معهودين لكونهم بلدين بالشر و الكفر مفسدين فى الأرض او لكونهم اهل بئر او ساكنى تلك الوادي او لانهم قتلوا نبيهم و دفنوه و المراد هاهنا قوم كانوا اهل بئر قعود عليها اصحب مواش يعبدون الأصنام فوجه اللّه عليهم شعيبا عليه السلام يدعوهم الى الإسلام فتمادوا فى طغيانهم و فى أذى شعيب عليه السلام فبينما هم حول البئر فى منازلهم انهارت البئر فخسف اللّه بهم و بديارهم و رباعهم فهلكوا جميعا كذا قال وهب بن منبه و أخرجه ابن جرير و ابن عساكر عن قتادة

قال البغوي قال قتادة و الكلبي الرس بئر بفلح اليمامة قتلوا نبيهم فقتلهم اللّه عزّ و جلّ و قال بعضهم هم بقية ثمود قوم صالح و هم اصحب البئر التي ذكرها اللّه تعالى فى قوله و بئر معطّلة و قصر مشيد و كذا اخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن ابى حاتم عن قتادة و

قال البغوي قال سعيد بن جبير كان لهم نبى يقال له حنظلة بن صفوان فقتلوه فاهلكهم اللّه.

قيل ابتلاهم اللّه بطير عظيم كان فيها من كل لون و سموها عنقا لطول عنقها و كانت تسكن جيلهم الذي يقال له فتح ادمخ و تنقضّ على صبيانهم فتخطفهم فدعا عليها حنظلة فاصابتها الصاعقة ثم انهم قتلوه و اهلكوا- و

قال البغوي قال كعب و مقاتل و السدى الرس بئر بانطاكية قتلوا فيها حبيب النجار و هم الّذين ذكرهم اللّه فى سورة يس و قيل هم اصحاب الأخدود الذي حفروه و قال عكرمة هم رسّوا نبيهم فى البئر اى دفنوه و قيل الرسّ المعدن و جمعه رساس وَ قُرُوناً عطف على اصحب الرّس يعنى و أهلكنا قرونا و هو جمع الكثرة لقرن و هو قوم مقترنون من زمن واحد- القرن إذا كان مضافا الى شخص معين او جمع معلوم يراد به من يقترن و يلاقى ذلك الشخص او تلك الجماعة يعنى أكثرهم او واحدا منهم و منه ما يقال القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير بقوله صلى اللّه عليه و سلم خير القرون قرنى ثم الّذين يلونهم ثم الّذين يلونهم فقرن النبي صلى اللّه عليه و سلم هم الصحابة الّذين راوا النبي صلى اللّه عليه و سلم و القرن الثاني الّذين راوا واحدا من الصحابة او اكثر و الثالث الّذين راوا واحدا منهم او اكثر و ان كان غير مضاف يراد به قوم مقترنون فى زمن واحد و لا شك فى انه إذا اقترن جماعة فى زمان فكبارهم تقترن فى صغرهم بكبار سبقوا و صغارهم تفترن فى كبرهم بصغار تلحقهم- فوضعوا لاطلاق القرن مدة فقيل أربعون او عشرة او عشرون او ثلاثون او خمسون او ستون او سبعون او تسعون او مائة او مائة و عشرون و الاصحّ انها مائة سنة بقوله صلى اللّه عليه و سلم لغلام عش قرنا فعاش مائة سنة و المعنى على هذا و أهلكنا اهل اعصار كثيرة كافرة بَيْنَ ذلِكَ اى بين ماد و ثمود و اصحاب الرّسّ و قوم موسى كَثِيراً صفة لقرون.

٣٩

وَ كُلًّا منصوب بفعل مضمر يدل عليه ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ و التنوين عوض من المضاف اليه تقديره و أنذرنا كل واحد من تلك القرون ضربنا له الأمثال اى بيّنّا له القصص العجيبة من القصص الأولين ليعتبروا بها وَ كُلًّا اى كل واحد منهم تَبَّرْنا تَتْبِيراً اى أهلكنا إهلاكا لما لم يعتبروا بالأمثال و كذبوا المنذرين قال الأخفش معناه كسرناه تكسيرا قال الزجاج كل شى ء كسرته و فتنه فقد تبّرته و منه التبر لفتات الذهب و الفضة.

٤٠

وَ لَقَدْ أَتَوْا جواب لقسم محذوف معطوف على و لقد اتينا موسى الكتاب و الضمير راجع الى اهل مكة أسند فعل البعض الى الكل كما فى قوله فكذّبوه فعقروها يعنى و اللّه لقد مرّ اهل مكة يعنى أكثرهم مرّوا مرامرا فى أسفارهم الى الشام عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ يعنى سدوم عظمى قريات قوم لوط أمطرت عليها الحجارة لما كانوا يعملون الخبائث إتيان الرجال فى ادبارهم

قال البغوي قريات قوم لوط كانت خمسا فاهلك اللّه تعالى منها أربعا و نجت واحدة و هى صغيرة و كان أهلها لا يعملون الخبيث و كانت تلك القرى على طريق اهل مكة عند ممرهم الى الشام أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها الاستفهام للانكار و انكار النفي اثبات و تقرير يعنى لقد كانوا يرونها فما لهم لم يعتبروا بها و لم يتذكروا بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً يعنى ليس عدم اتعاظهم لاجل عدم رؤيتهم بل لعمه فى قلوبهم لا يتوقعون نشورا و لا عاقبة او لا يأملون نشورا كما يأمله المؤمنون علما فى الثواب او لا يخافونه على لغة تهامة ..

٤١

وَ إِذا رَأَوْكَ يعنى كفار قريش عطف على لا يرجون إِنْ يَتَّخِذُونَكَ اى ما يتخذونك إِلَّا هُزُواً استثناء مفرغ منصوب على انه مفعول ثان ليتخذونك مصدر بمعنى المفعول اى مهزوّا به

قال البغوي نزلت فى ابى جهل و أصحابه مرّوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالوا استهزاء أَ هذَا يعنون محمدا صلى اللّه عليه و سلم مبتدا خبره الَّذِي بَعَثَ اللّه اى بعثه اللّه رَسُولًا جملة أ هذا معمول لفعل محذوف تقديره يقولون أ هذا الّذى بعثه اللّه رسولا و الاستفهام للتعجب و الإنكار و كلمة هذا للتحقير و جملة يقولون بيان لما سبق يعنى يتخذونك مهزوّا به يقولون فيك كذا.

٤٢

إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا اى ليصرفنا عن عبادتها بفرط اجتهاده فى الدعاء الى التوحيد و كثرة إتيانه بما يسبق الى الذهن انها حجج و معجزات- ان مخففة من الثقيلة و اللام فارقة و فيه دليل على فرط اجتهاده صلى اللّه عليه و سلم و فى دعوتهم و عرض المعجزات المتكاثرة المتوافرة عليهم حتى شارفوا بزعمهم ان يتركوا دينهم المعوج الى دينه القويم لو لا فرط لجاجهم و استمساكهم بعبادة الهتهم و من هذا شأنه ان لا يتذكر بمشاهدة المعجزات المتوافرة الباهرة فكيف يعتبر برؤية حجارة القرى الحالية لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا اى ثبتنا عَلَيْها و استمسكنا بعبادتها و جواب لولا محذوف دل عليه ما قبله تقديره لولا صبرنا ثابت او لو لا ثبت صبرنا لاضلّنا. و لولا فى مثله تفيد الحكم المطلق من حيث المعنى دون اللفظ و لمّا كان كلامهم هذا مشعرا بنسبة الضلال الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه قال اللّه سبحانه ردا عليهم وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا أهم أضل سبيلا أم المؤمنون و فيه وعيد و دلالة على انه لا يهملهم اللّه.

٤٣

أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ بان أطاع هواه و بنى عليه دينه لا يسمع حجة و لا يتبصر دليلا قدم المفعول الثاني للعناية به

قال البغوي قال ابن عباس ارايت من ترك عبادة اللّه خالقه و هوى حجرا فعبده من شرطية جزاؤه أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا حفيظا يمنعه عن ذلك و الجملة الشرطية قائم مقام المفعولين لرايت و الاستفهام الاول للتقرير و التعجيب و الثاني للانكار يعنى لست عليهم حفيظا قال الكلبي نسختها اية القتال.

٤٤

أَمْ تَحْسَبُ أم منقطعة يعنى بل أ تحسب أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ كلام اللّه منك أَوْ يَعْقِلُونَ ما يستفاد منه و الاستفهام للانكار يعنى انهم لا يسمعون و لا يعقلون حيث ختم اللّه على قلوبهم و على سمعهم و المراد بالسمع هاهنا سمع قلوبهم فهم لا ينتفعون بالمواعظ و الحجج و فيه دليل على ان إفادة البرهان العلم بالنتيجة امر عادى منوط بمشية اللّه تعالى و تخصيص الأكثر لانه كان منهم من أمن و منهم من تعقل الحق و كابر استكبارا او خوفا على الرياسة إِنْ هُمْ اى ما هم الضمير راجع الى أكثرهم إِلَّا كَالْأَنْعامِ حيث يسمعون بآذانهم كالانعام و لا يسمعون بقلوبهم فلا ينتفعون به و لا يتدبرون فيما شاهدوا من الدلائل و المعجزات بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا من الانعام فان الانعام ان لم يدركوا الحق حقّا و الباطل باطلا فهم لا يزعمون الحق باطلا و الباطل حقا فالانعام فى جهل بسيط و الكفار فى جهل مركب و لا شك ان الجاهل بالجهل المركب أضل و ابعد من الحق من الجاهل بالجهل البسيط فالانعام لا يميزون بين الحق و الباطل و الكفار يحكمون بحقيقة الشرك و يعبدون الحجارة بلا دليل بل مع ظهور بطلانها و ينكرون الرسل مع شواهد الحجج و المعجزات و سطوع برهانها. و قيل لان البهائم تنقاد من يتعهدها و تميز من يحسن إليها ممن يسئ إليها و تطلب ما ينفعها و تهرب ممّا يضرها و هؤلاء لا ينقادون لربهم و لا يعرفون إحسانه من اساءة الشيطان و يمكن ان يقال ان الانعام تعرف خالقها و تسجد له و تسبح له بحمده و تعقل و ان كان تعقلهم غير مدرك للعوام. و قد روى الشيخان فى الصحيحين عن ابى هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم قال بينما رجل يسوق بقرة إذ عيى فركبها فقالت لم نخلق لهذا انما خلقنا لحراثة الأرض فقال الناس سبحان اللّه بقرة تكلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فانى او من به و ابو بكر و عمر رض و ما هما «١» ثمه و قال بينما رجل فى غنم له إذ عدا الذئب على شاة منها فاخذها فادركها صاحبها فاستنقذها فقال له الذئب فمن له يوم السبع إذ لا راعى لها غيرى فقال سبحان اللّه ذئب يتكلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم او من به انا و ابو بكر رض و عمر رض و ماهما ثمّ.

(١) قوله و ما هما ثمه اى لم يكن ابو بكر رض و عمر رض حاضرين و انما قال ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثقة بهما لعلمه بصدق إيمانهما و قوة يقينهما و كمال معرفتهما بقدرة اللّه تعالى فقوله و ما هما ثمه قول راوى الحديث ١٢ الفقير الدهلوي.

فائدة: للملائكه روح و عقل و للبهائم نفس و هوى و الآدمي مجمع للجميع فان غلب نفسه و هواه على الروح و العقل كان اضلّ من البهائم و ان غلب عقله و روحه على النفس و الهوى كان أفضل من الملائكة-.

٤٥

أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ الم تنظر الى صنعه كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ كيف بسطه او المعنى الم تنظر الى الظل كيف مده ربك فغير النظم اشعار ابان المعقول من هذا الكلام لوضوح برهانه هو «٢» دلالة حدوث الظل و تصرفه على الوجه النافع بأسباب ممكنة علا ان ذلك فعل للصانع الحكيم كالمشاهد المرئي فكيف بالمحسوس او المعنى الم ينته علمك الى ربك كيف مد الظل و هو ما بين طلوع الفجر الى طلوع الشمس جعله ممدودا لانه ظل لا شمس معه كما قال فى ظل الجنة و ظلّ ممدود او المراد بالظل ما يقع للجدران و الأشجار بعد طلوع الشمس قال ابو عبيدة الظل ما نسخته الشمس و الفي ء ما نسخ الشمس فقبل الزوال يسمى ظلا و بعد الزوال فيا لانه فاء من جانب المشرق الى جانب المغرب و يمكن ان يقال ان الظل هو ظلمة الليل تنسخه الشمس بطلوعها وَ لَوْ شاءَ ربك لَجَعَلَهُ ساكِناً اى ثابتا مسنقرا من سكن بمعنى قرّبان جعل اللّيل سرمدا الى يوم القيمة او عير متقلص من السكون بان يجعل الشمس مقيمة على وضع واحد و جملة و لو شاء اما حال من ربك او معترضه ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ اى على الظل دَلِيلًا يعنى لو لم تكن الشمس لما عرف الظل ظلا و لولا النور لما عرف الظلمة ظلمة فان الأشياء تعرف بأضدادها و ايضا لا يوجد الظل و لا يتفاوت الا بسبب حركات الشمس و فيه التفات من الغيبة الى التكلم.

(٢) و فى الأصل و هو دلالة إلخ و لم يستقم ١٢ الفقير الدهلوي.

٤٦

ثُمَّ قَبَضْناهُ اى أزلناه بطلوع الشمس و ارتفاعها و وقوع شعاعها موقع الظل لمّا عبر احداثه بالمد عبر عن إزالته بالقبض إِلَيْنا اى الى حيث ما أردنا و قيل القبض الى نفسه كناية عن الكف قَبْضاً يَسِيراً سهلا غير عسيرا و قليلا قليلا حيثما ترتفع الشمس تنقص الظل و ان كان المراد بالظل ظلمة الليل فقبضه اليسير ازالة الظلمة قليلا قليلا حين طلوع الفجر تقل الظلمة انا فانا حتى تسفر جدّا ثم إذا طلعت الشمس تزول الظلمة عن مواضع تقع فيها شعاع الشمس و تقل الظلمة عن مواضع تقع فيها أنوارها مع الحجب على حسب تفاوت الحجب- و ثمّ فى الموضعين لتفاضل اوقات ظهورها شبّه تباعد ما بينهما فى الفضل بتباعد ما بين الحوادث فى الوقت.

ولى هاهنا تأويل اخر و هو ان يراد بالظلّ عالم الإمكان فانه ظلّ لمرتبة الوجوب موجود بوجود ظلّى فى خارج ظلّى و يراد بالشمس مراتب صفات اللّه سبحانه و أسمائه- و المعنى الم تر الى صنع ربّك كيف أوجد عالم الإمكان و مدّ الوجود المنبسط على هياكل الماهيات الممكنة الّذى هو ظل للوجود الحق و لو شاء لجعله ساكنا مستقرّا على حالة واحدة و لكن لم يشأ ذلك بل جعله محلا للحوادث مستعدا للتغير و الفناء حتى يتضح إمكانه و افتقاره انى ماهية متاصلة الوجود ذات الوجوب و البقاء قال اللّه تعالى ثمّ جعلنا الشّمس عليه دليلا و ذلك حين يتجلّى على الصوفي اسماء اللّه تعالى و صفاته و شاهد ببصيرة القلب لوجود الحق فحينئذ ظهر له كون عالم الإمكان ظلّا من ظلاله و كان يزعم قبل تلك التجلّيات و المشاهدات ان عالم الإمكان هو الموجود على الحقيقة دون غيره ثم يعنى بعد تلك التجليات و المشاهدات قبضناه إلينا يعنى اجتبيناه و قربناه قربا غير متكيف إلينا اى الى مرتبة الصفات و الذات قبضا يسيرا- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حكاية عن ربه صلى اللّه عليه و سلم لا يزال عبدى يتقرب الىّ بالنوافل حتى أحببته فاذا أحببته كنت سمعه الّذى يسمع به الحديث و قالت الصوفية من استوى يوماه فهو مغبون ..

٤٧

وَ هُوَ يعنى ربك الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً شبه ظلمة الليل باللباس فى ستره وَ النَّوْمَ سُباتاً اى راحه للابد ان يقطع المشاغل و اصل السبت القطع او موتا كقوله تعالى و هو الّذى يتوفّيكم باللّيل و منه المسبوت للميت وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً اى ذا نشور و انتشار ينتشر فيه الناس لاكتساب المنافع الدينية و الدنيوية.

٤٨

وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ قرا ابن كثير الرّيح على التوحيد ارادة للجنس و الباقون على الجمع ملاحظة للافراد بُشْراً قرا الجمهور بضم النون و الشين من النشور و ابن عامر بضم النون و سكون الشين على التخفيف و أصله ضم الشين جمع ناشرة يعنى ناشرات للسحاب

و قرا حمزة و خلف ابو محمد و الكسائي بفتح النون على انه مصدر وصف به

و قرا عاصم بضم الباء التحتانية و تخفيف الشين تخفيف بشر جمع بشير بمعنى مبشرين بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ اى قدام المطر وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً عطف على أرسل على سبيل الالتفات من الغيبة الى التكلم و الطهور اما اسم لما ينطهر به كالسحور لما يتسحر به و الفطور لما يفطر به كما فى قوله صلى اللّه عليه و سلم ان الصعيد الطيب طهور المسلم ما لم يجد الماء و لو الى عشّر حجج رواه احمد و ابو داود و الترمذي عن ابى ذر و صححه و قوله صلى اللّه عليه و اله و سلم جعل لنا الأرض كلها مسجدا و ترابها طهورا و اما مصدر كالقبول و منه قول صلى اللّه عليه و سلم طهور اناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب ان يغسل سبع مرات أولهن بالتراب رواه مسلم و ابو داود عن ابى هريرة و انما وصف الماء به مبالغة و ما صفة للمبالغة كالصبور و الشكور و القطوع و الضحوك بمعنى الكامل فى الطاهرية

قال البغوي ذهب قوم الى ان الطهور ما يتكرر به التطهير كالصبور اسم لما يتكرر منه الصبر و الشكور اسم لما يتكرر منه الشكر و هو قول مالك حتى جوز و الوضوء بالماء الّذى استعمل فى الوضوء مرة.

قلت و هذا ليس بشئ لان الفعول ليس من التفعيل فى شى ء و ايضا لا دلالة فيه على التكرار بل على المبالغة الا ان يقال الكمال فى الطاهرية اما بان يكون طاهرا فى نفسه مطهرا لغيره و قد ثبت كون الماء على هذه الصفة بالنصوص و الإجماع و النقل المتواتر و اما بان كان طاهرا بحيث لا ينجسه شى ء و به قال مالك محتجا بقوله صلى اللّه عليه و سلم الماء لا ينجسه شى ء رواه احمد و ابن خزيمة و ابن حبان عن ابن عباس رض و روى اصحب السنن الاربعة بلفظ ان الماء لا يخبث و رواه الدار قطنى عن عائشة رض و الطبراني فى الأوسط و ابو يعلى و البزار و ابو على بن السكن فى صحاحه من حديث شريك و روى احمد و الترمذي و ابو داود و النسائي عن ابى سعيد الخدري قال قيل يا رسول اللّه أ نتوضا من بئر بضاعة و هى بئر يلقى فيها الحيض و لحوم الكلاب و النتن فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان الماء طهور لا ينجسه شى ء. و روى ابن ماجة عن ابى سعيد قوله صلى اللّه عليه و سلم فى الحياض تردها السباع و الكلاب و الحمر لها ما حملت فى بطونها و لنا ما غير طهور.

فان قيل هذه الأحاديث متروكة بالإجماع حتى ان مالكا يقول ان الماء إذا تغير أحد أوصافه يتنجس بوقوع النجاسة فيه

قلنا إذا تغير أحد أوصاف الماء فهو ليس بماء مطلق و كلامنا فى الماء المطلق. و الجواب عن هذا الاحتجاج ان المراد بالماء هاهنا الماء المعهود يعنى الماء الكثير المستقر فى الحياض و فى بئر بضاعة و نحو ذلك حتى يندفع التعارض بين هذه الأحاديث و أحاديث اخر تدل على تنجس الماء بوقوع النجاسة فيه و ان لم يتغير أحد أوصافه منها قوله صلى اللّه عليه و سلم طهور اناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه ان يغسل سبع مرات أولهن بالتراب. رواه مسلم و ابو داؤد و منها قوله صلى اللّه عليه و سلم لا يبولن أحدكم فى الماء الدائم الّذى لا يجرى ثم يتوضا منه متفق عليه و هذا لفظ البخاري و منها قوله صلى اللّه عليه و سلم إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده فى الإناء حتى يغسلها ثلاثا فان أحدكم لا يدرى اين باتت يده. رواه مالك و الشافعي و احمد و البخاري و مسلم و اصحاب السنن الاربعة عن ابى هريرة رض و قد روى نحو هذا الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ابن عمر رض و جابر رض و عائشة رض فحملنا أحاديث تنجس الماء على القليل و أحاديث عدم التنجس على الكثير فاختلف العلماء فى حد الكثير فقال الشافعي و احمد الماء إذا بلغ القلتين (و هى خمسمائة رطل بالبغدادي و بالمساجة ذراع و ربع ذراع طولا و عرضا و عمقا) فهو كثير لا يتنجس الا إذا تغير بالنجاسة طعمه او لونه او ريحه و ما دونه قليل يتنجس. و قال ابو حنيفة ما لا يصل فيه النجاسة من جانب الى جانب اخر على اكبر رأى المبتلى به فكثير و الا فقليل و قدّره بعض المتأخرين بعشر فى عشر و قيل خمسة عشر فى خمسة عشر و قيل اثنى عشر فى اثنى عشر و قيل ثمان فى ثمان و قيل سبع فى سبع بذراع الكرباس و هى سبع قبضات كل قبضة اربع أصابع و التقدير غير منقول عن ابى حنيفة و لا عن صاحبية. وجه قول ابى حنيفة ان التقدير لم يرد من جهة الشارع و حديث القلتين ضعيف فيجب تفويضه الى رأى المبتلى به. و احتج الشافعي و احمد بحديث القلتين و الحق انه حديث صحيح رواه الشافعي و احمد و الاربعة و ابن خزيمة و ابن حبان و الحاكم و الدار قطنى و البيهقي من حديث عبد اللّه بن عبد اللّه بن عمر رض بن الخطاب عن أبيه و لفظ ابى داود سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن الماء و ما ينوبه من السباع و الدواب فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث و لفظ الحاكم إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شى ء.

و فى رواية لابى داود و ابن ماجة فانه لا بنجس قال الحاكم صحيح على شرطهما و قد احتجا بجميع رواته و قال ابن مندة اسناده على شرط مسلم و قد اعترف الطحاوي بصحة الحديث ايضا

فان قيل مدار هذا الحديث على الوليد بن كثير فقيل عنه عن محمد بن جعفر بن الزبير و قيل عنه عن محمد بن عباد بن جعفر تارة عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عمر رض و تارة عن عبد اللّه بن عبد اللّه بن عمر رض

قلنا قال الحافظ هذا الاضطراب ليس بقادح فانه على تقدير كون الجميع محفوظا انتقال من ثقة الى ثقة و عند التحقيق الصواب عن الوليد بن كثير عن محمد بن عباد بن جعفر عن عبد اللّه بن عبد اللّه بن عمر المكبر و عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عمر المصغر و من رواه على غير هذا الوجه فقد و هم و قد رواه جماعة عن الوليد بن كثير على الوجهين قال الدار قطنى القولان صحيحان عن الاسامة عن الوليد و له طريق ثالث رواه الحاكم و غيره من طريق حماد بن سلمة عن عاصم بن المنذر عن عبد اللّه بن عبد اللّه بن عمر سئل ابن معين عن هذا الطريق فقال اسناده جيد

فان قيل قد روى لم يحمل خبثا و قد روى لم ينجسه شى ء و قد روى لا يتنجس

قلنا هذا مبنى على الرواية بالمعنى و هى صحيحة و الاضطراب فى المتن لا يقال الا عند التعارض

فان قيل قد روى بالشك قلتين او ثلاثا روى احمد عن وكيع و الدار قطنى عن يزيد بن هارون كلاهما عن حماد بن سلمة عن عاصم بن المنذر عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عمر عن أبيه مرفوعا إذا بلغ الماء قلتين او ثلاثا لم ينجسه شى ء

قلنا قال ابن الجوزي قد اختلف عن حماد فروى عنه ابراهيم بن الحجاج و هذبه و كامل بن طلحة فقالوا قلتين او ثلاثا و روى عنه عقان و يعقوب بن إسحاق الحضرمي و بشر بن السرى و العلاء بن عبد الجبار و موسى بن اسمعيل و عبيد اللّه بن موسى العبسي إذا كان الماء قلتين و لم يقولوا ثلاثا و اختلف عن يزيد بن هارون فروى عنه ابن السباح بالشك و روى عنه ابن مسعود رض بغير شك فوجب العمل على قول من لم يشك قلت و يمكن ان يقال ان كلمة او ليس للشك بل للترديد و التخبير و المعنى اى المبلغين بلغ الماء لا يتنجس فلا يتنجس إذا بلغ القلتين كما لا يتنجس إذا بلغ ثلاثا.

فان قيل قد روى أربعين قلة رواه الدار قطنى و ابن عدى و العقيلي عن القاسم بن عبد اللّه العمرى عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا بلغ الماء أربعين قلة فانه لا يحمل الخبث

قلنا قال احمد المقاسم كان يكذب و يضع الحديث و كذا قال يحيى بن معين و ابو حاتم الرازي و ابو زرعة فلا يضطرب بروايته الحديث الصحيح

فان قيل روى الدار قطنى بإسناد صحيح من طريق روح بن القاسم عن محمد بن المنكدر عن ابن عمر موقوفا إذا بلغ الماء أربعين قلة لم يتنجس. و من طريق وكيع عن سفيان الثوري عن ابن المنكدر عنه نحوه و من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن المنكدر عنه نحوه و قول الراوي على خلاف ما رواه طعن الحديث

قلنا اولا ان مفهوم الشرط ليس بحجة عند ابى حنيفة مطلقا و كذا عند الشافعي و غيره إذا خرج على طبق السؤال و ثانيا بان القلة لفظ مشترك ليطلق على الكوز و الجرة ايضا صغرت او كبرت فيحمل حديث الأربعين على الصغيرة التي تساوى عشرون منها قلة واحدة كبيرة لدفع التعارض.

فان قيل إذا كان القلة لفظا مشتركا بين الجرة و القربة و الدلو و رأس الجبل و غير ذلك قال فى القاموس القلّة بالضم أعلى الرأس و السنام و الجبل او كل شى ء و الجب العظيم و الجرة العظيمة او عامة او من الفخار و الكوز الصغير ضد. و التقييد بقلال هجر لم يثبت فى الحديث الصحيح المرفوع و ما رواه ابن عدى من حديث ابن عمر رض إذا بلغ الماء قلتين من قلال هجر لم ينجسه شى ء ففى اسناده مغيرة بن صقلان و هو منكر الحديث فلا بد ان يترك العمل بالحديث ما لم يتبين المراد منه كما هو الحكم فى المجمل و من ثم قال الطحاوي هذا حديث صحيح لكنا تركنا العمل به لعدم علمنا بالقلتين

قلنا قد ترجح أحد معانيه و هى قلال هجر بوجوه فوجب العمل به لان رأس الجبل و كذا أعلى الرأس و السنام غير مراد بالإجماع لان وصول الماء الى رأس الجبلين فى الارتفاع لا يتصور الا فى البحر المحيط او عند الطوفان و أعلى الرأس و السنام ايضا غير مراد للاجماع علا ان الماء اقل من ذلك القدر يصير كثيرا فوجب الانصراف الى الأواني و بعد الانصراف الى آلاء انى ترجح قلال هجر بوجوه أحدها كثرة استعمال العرب لفظ القلة بهذا المعنى فى أشعارهم كذا قال ابو عبيدة فى كتاب الطهور قال البيهقي قلال هجر كانت مشهورة عندهم و لهذا شبّه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما راى ليلة المعراج من سدرة المنتهى فاذا ورقها مثل أذان الفيلة و إذا نبقها مثل قلال هجر. ثانيها ان قلال هجر أكبرها كذا قال الأزهري فجعل الشارع الحد مقدرا بالعدد يدل على ان المراد بها أكبرها لانه لا فائدة فى تقديرها لقلتين صغيرتين مع القدرة على تقديره بواحدة كبيرة. ثالثها ان الكبيرة ان كانت مرادة فذاك و ان كانت الصغيرة مرادة فعدم تنجس الماء عند البلوغ قدر القلتين الكبيرتين اولى للقطع لوجود الصغيرة فى الكبيرة فحملنا القلتين على الكبيرتين احتياطا و به يحصل التقن و اللّه اعلم

فان قيل قد ضعّف حديث القلتين الحافظ ابن عبد البر و العاصي إسماعيل بن اسحق و ابو بكر بن الولي المالكيون قال ابن عبد البر ما ذهب اليه الشافعي مذهب ضعيف من جهة النظر غير ثابت من جهة الأثر لانه حديث تكلم فيه جماعة من اهل العلم و لان القلتين لم يوقف على مبلغهما فى اثر ثابت و الا اجماع

قلنا أقوالهم اجمالات للاسولة المتقدمة و لم يقل أحد بتضعيف واحد من رواته فانهم رجال الصحيحين فاذا ظهر لك اجوبة الأسئلة اندفع ما قالوا و اللّه اعلم.

(مسئلة):- لا يجوز الوضوء و الغسل بغير الماء من المائعات الطاهرة اجماعا لقوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمّموا صعيدا طيّبا و هل يجوز التطهير من النجاسة الحقيقية بغير الماء من المائعات الطاهرة أم لافعال الجمهور لا يجوز و قال ابو حنيفة يجوز احتج البغوي للجمهور بهذه الاية و قال الطهور فى الاية بمعنى المطهر لما قال فى اية اخرى و ينزّل عليكم من السّماء ماء ليطهّركم فثبت ان التطهير مختص بالماء و لو جاز ازالة النجاسة بها لجاز ازالة الحدث بها. و هذا الاستدلال غير صحيح لان كون الماء مطهرا لا يدل على حصر التطهير فيه كما ان كونه طاهرا لا يدل على حصر الطهارة فيه و الفرق لابى حنيفة فى الأحداث و الأنجاس ان الحدث نجاسة حكمية غير مرئية لا يدركه وجوده و لا زواله الا من الشرع و زواله باستعمال الماء ثابت بالنص و الإجماع و اما باستعمال غير الماء فلم يثبت بنص و لا اجماع و لا يجوز إثباته بالقياس لان الأصل معدول عن سنن القياس- و النجاسة الحقيقية امر مرئى و إزالته بالماء معقول لكونه طاهرا مزيلا فيقاس عليه سائر المائعات لاجل هذا المعنى قلت لكن يرد عليه ان الماء إذا صب على النجس تنجس باول الملاقات فحصول الطهارة بالغسل ثلاثا او سبعا امر تعبدى و بالعصر لا يخرج الماء يجمع اجزائه فكان القياس ان لا يتطهر الثوب و نحوه بالغسل و من ثم كان فى شرائع من قبلنا قطع موضع النجاسة من الثوب و لما كان حصول الطهارة بالغسل ثابتا بالشرع على خلاف القياس فلا يجوز قياس المائعات على الماء.

(مسئله) الماء كما يتنجس بورود النجاسة عليه يتنجس بوروده على النجاسة عندنا لان المنجس انما هو اختلاط النجاسة بالماء و لا فرق فى الوجهين. و ذكر ابن الجوزي مذهب احمد ان غسالة النجاسة إذا انفصلت غير متغيرة بعد طهارة المحل فهى طاهرة و كذلك البول على الأرض و نحوه إذا كوثر بالماء و لم يتغير الماء يحكم بطهارة الماء و المكان قال و هو قول مالك و الشافعي و احتج على ذلك بحديث انس رض بن مالك قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قاعدا فى المسجد إذ جاء أعرابي قبال فى المسجد فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لرجل من القوم قم فأتنا بدلو من الماء فشنه عليه. رواه احمد و البخاري و مسلم فى الصحيحين و روى البخاري عن ابى هريرة نحوه

قلنا هذا الحديث مخالف للقياس الصحيح فهو محمول على انه صلى اللّه عليه و سلم امر بصب الماء بعد نقل التراب من ذلك المكان و رواية بعض الحديث شائع من الصحابة و التابعين و غيرهم و قد روى ذلك بوجوه منها ما روى الدار قطنى من طريق عبد الجبار عن ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن انس ان أعرابيا بال فى المسجد فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم احفر و إمكانه ثم صبرا عليه ذنوبا من ماء- قال الحافظ رجاله ثقات

فان قيل قال الدار قطنى و هم عبد الجبار على ابن عيينة لان اصحاب ابن عيينة الحفاظ رووه عنه عن يحيى بن سعيد و لم يذكروا الحفر

قلنا عبد الجبار ثقة و الزيادة من الثقة مقبولة و منها ما رواه الدار قطنى عن ابن مسعود نحوه و سنده ضعيف لكن أحد من رواته لم يتهم بالكذب. و منها ما رواه الدار قطنى و ابو داود عن عبد اللّه بن مغفل بن مقرن المزني قال الدار قطنى عبد اللّه بن مغفل تابعي و رواته ثقات غير ان من رواته جرير بن حازم قال الذهبي ثقة امام تغير قبل موته فحجبه ابنه وهب فما حدث حتى مات قال ابن معين هو فى قتادة ضعيف قلت و هذا الحديث ليس من قتادة بل هو عن عبد الملك بن عمير و عبد الملك ثقة مخرج فى الصحيحين

فان قيل قال احمد هذا حديث منكر قلت هذا جرح اجمالى و هو غير مقبول و انما قال ذلك احمد لعدم وقوع الحفر فى الرواية المشهورة و ذا ليس بجرح لان الزيادة من الثقة مقبولة- و منها ما اخرج الطحاوي من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس و كذا روى سعيد بن منصور عن ابن عيينة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال احفروا مكانه. و هذا ايضا مرسل و المرسل عند ابى حنيفه رح أقوى من المرسل و عند مالك رح و احمد رح دونه لكنه حجة مطلقا و عند الشافعي لا يقبل المرسل الا بأحد امور خمسة ان يسند غيره او يرسله غيره و علم ان شيوخهما مختلفة او يعضده قول صحابى او قول اكثر اهل العلم أو يعلم من حاله انه لا يرسل الا برواية عن عدل و هاهنا مرسل طاءوس صحيح أيده مرسل عبد اللّه بن مغفل و هو حسن و مسند انس رض صحيح او حسن و مسند ابن مسعود ضعيف.

فان قيل رواية انس التي فى الصحيحين أقوى و أرجح من تلك الروايات

قلنا اولا ان حديث الصحيحين صحيح من حيث السند ضعيف من حيث المعنى لتعارضه بالأحاديث التي تكاد ان تكون مقواترة الدلالة على نجاسة الماء باختلاط النجاسة و ثانيا ان الترجيح انما يعتير عند التعارض و لا تعارض هاهنا بل ما ذكرنا من الأحاديث ناطق. بحفر التراب و حديث انس ساكت عنه فلا يترك العمل بشئ منها.

(مسئلة):- الماء المستعمل فى ازالة الحديث او اقامة القرية طاهر عند الجمهور و روى الحسن عن ابى حنيفة انه نجس نجاسة غليظة و روى ابو يوسف عنه انه نجس نجاسة خفيفة لمكان الاختلاف و روى محمد عن ابى حنيفة مثل قول الجمهور و به قال محمد- احتج الحنيفية على نجاسة الماء بالنص و القياس اما النص فما رواه مسلم من حديث ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يغتسل أحدكم فى الماء الدائم و هو جنب- و روى ابو داود بلفظ لا يبولن.

أحدكم فى الماء الدائم و لا يغتسل فيه من الجنابة- و النهى للتحريم يدل على تنجس الماء

قلنا لا بل النهى للتنزيه لاحتمال تلوث بدن المجنب من المنى غالبا فهو كالنهى. للمستيقظ عن إدخال يده فى الإناء لاحتمال كون اليد نجسا بالنجاسة الحقيقية كما يدل عليه قوله صلى اللّه عليه و سلم فانه لا يدرى اين باتت يده و اما القياس فقياسهم على ما يزيل النجاسة الحقيقية بجامع الاستعمال فى النجاسة.

قلنا هذا قياس مع الفارق فان استعمال الماء فى ازالة النجاسة الحقيقية يوجب اختلاط الماء بأجزاء النجاسة و ذلك سبب لتنجس الماء و لا اختلاط فى ازالة النجاسة الحكمية لان الحدث امر حكمى لا يتجزى زوالها فكل ماء استعمل فى عضو من الأعضاء لا يرقع به الحدث بل استعمال الماء فى جميع البدن للمجنب و فى الأعضاء الاربعة كلها للمحدث شرط لزوال الحدث يزول الحدث بعد ذلك فكل جزء من اجزاء ماء الوضوء طاهر فكذا جميعه لان انضمام ما ليس بنجس الى ما ليس بنجس لا يوجب التنجس اجماعا.

و استدلوا على تنجس الماء باقامة القربة بقوله صلى اللّه عليه و سلم من توضأ فاحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره متفق عليه عن عثمان و عن ابى هريرة نحوه رواه مسلم قالوا هذا الحديث يدل على ان الخطايا تخرج من بدنه مع الماء و لا شك ان الخطايا قاذورات فيتنجس الماء باختلاطها كما يتنجس باختلاط سائر القاذورات و هذا ليس بشئ فان الخطايا ليست بأجسام و لا اعراض تقوم بالماء و ليست مثل النجاسة الحقيقية من كل وجه و ليس خروجها من البدن كخروج النجاسة الحقيقية حتى يلزم به تنجس الماء بل هو عبارة عن العفو و المغفرة و لو كانت الخطايا قاذورات لما جازت صلوة العصاة من المؤمنين و هى جائزة اجماعا بل هى مكفرة الخطايا قال اللّه تعالى ان الحسنات يذهبن السّيّئات و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الصلوات الخمس و الجمعة الى الجمعة و رمضان الى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر- رواه مسلم عن ابى هريرة و حديث ابن مسعود فى رجل أصاب من امراة قبلة فاخبر النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم فانزل اللّه و أقم الصّلوة طرفى النّهار الاية متفق عليه و لنا على طهارة الماء المستعمل أحاديث منها حديث جابر قال جاء رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يعودنى و انا مريض لا عقل فتوضا و صبّ وضوءه علىّ فعقلت و قلت يا رسول اللّه انما يرثنى كلالة فنزلت اية الفرائض متفق عليه و منها حديث السائب بن يزيد قال ذهبت بي خالتى الى النّبى صلى اللّه عليه و اله و سلم فقالت يا رسول اللّه ان ابن أختي وجع فدعا بالبركة ثمّ توضا فشربت عن وضوئه فنظرت الى خاتم النبوة بين كتفيه مثل ذر الحجلة. متفق عليه و منها حديث المسور بن مخرمة ذكر فى صلح الحديبية قال فو اللّه ما تتخم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بنخامة إلا وقع فى كف رجل منهم فذلك بها وجهه و صدره و إذا توضا كادوا يقتتلون على وضوئه- رواه البخاري (مسئلة):- ازالة النجاسة الحقيقية بالماء المستعمل فى ازالة الحدث او اقامة القربة جائز اتفاقا الا عند من يقول بكونه نجسا و هل يجوز به الغسل او الوضوء اختلفوا فيه فقال محمد الماء المستعمل فى اقامة القربة لا يجوز به التوضي و الغسل فهو طاهر غير مطهر و قال زفر و الشافعي المستعمل فى ازالة الحدث طاهر غير مطهر و قال ابو حنيفة كل ماء استعمل فى ازالة الحدث او اقامة القربة لا يجوز به التوضي و الاغتسال فهو طاهر غير مطهر- استدلوا على كونه غير مطهر بالنص و القياس أمّا النص فقوله صلى اللّه عليه و سلم لا يغتسل أحدكم فى الماء الراكد قالوا هذا نهى مقتضاه أحد الامرين اما نجاسة الماء بالاستعمال و اما سلب طهوريته لكن الاول لا يتصور فتعين الثاني

قلنا ليس الأمر كذلك بل النهى للتنزيه يقتضى احتمال النجاسة بالنجاسة الحقيقية و احتمال النجاسة لا يوجب التنجس فان الطهارة اليقينية لا يزول بالشك و ايضا كون الماء مطهرا وصف لازم للماء المطلق و اما القياس فالقياس على مال الزكوة بجامع اقامة القربة و إسقاط الفرض تقريره ان من المعلوم ان إسقاط الفرض و اقامة القرية يوجب فى الآلة تدنسا لا يصل الى التنجس كما فى مال الزكوة حيث حرّم على الهاشمي و لم يتنجس فكذا يوجب الاستعمال للقربة او إسقاط الفرض تدنسا يسلب عنه وصف التطهير و لا يصل الى التنجس. و الجواب انا لا نسلم ان اقامة القربة او إسقاط الفرض موجب للتدنس مطلقا و حرمة مال الزكوة على الهاشمي امر تعبدى الا ترى ان الجسد و الثوب يتادى بهما الصلاة و يسقط الفرض و يقام القربة و لا يتدنس منها شى ء و كذا الاضحية يسقط بها الواجب و لا يتدنس لحمها حيث أكلها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ايضا كون الماء مطهرا وصف لازم للماء المطلق الطاهر لقوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمّموا علّق التيمم يفقد الماء المطلق و لا شك ان الماء المستعمل ماء مطلق فلا يجوز التيمّم مع وجوده فيجب به الوضوء لا محالة-

فان قيل هو ليس بماء مطلق لان الماء المطلق ما لم يقم به خبث و لا معنى يمنع جواز التوضي به للصلوة فخرج الماء المقيد و الماء المتنجس و الماء المستعمل

قلنا اولا انا لا نسلم ان الماء المستعمل قام به معنى يمنع جواز التوضي به فهو مصادرة على المطلوب و ثانيا ان الماء المطلق ما يطلق عليه اللغوي لفظ الماء بلا تقييد و لا شك ان اللغوي لا يفرق عند اطلاق لفظ الماء بين الماء الطاهر و المتنجس الذي لم يتغير أحد أوصافه و المستعمل فى قربة و المستعمل فى تبرد و من ثم قال الزهري إذا ولغ الكلب فى اناء أحدكم و ليس له وضوء غيره يتوضا به و قال سفيان هذا الفقه بعينه يقول اللّه تعالى فلم تجدوا ماء فتيمّموا و هذا ماء ذكره البخاري تعليقا. لكنّا نقول لمّا منع الشارع عن استعمال النجاسات و أمرنا بالاجتناب عنها حيث قال و ثيابك فطهّر و الرّجز فالهجر و قال فى اية الوضوء و لكن يريد ليطهّركم و قال عليه السلام إذا ولغ الكلب فى اناء أحدكم فلبرقه ثم ليغسله سبع مرات. رواه مسلم عن ابى هريرة و قال عليه السلام من ابتلى منكم بشئ من هذه القاذورات فليستتر بستر اللّه و قال اللّه تعالى يحلّ لكم الطيّبات و يحرّم عليكم الخبائث فمن كان قادرا على الماء المتنجس فهو غير واجد للماء حكما لكونه ممنوعا عن استعماله شرعا كالقاعد على شفير البئر من غير دلو و نحوه ممنوع عن استعمال الماء طبعا فان الطبع يمنعه عن السقوط فى البئر و كذا المريض الواجد للماء منوع عن استعماله طبعا و شرعا فان الممنوع شرعا كالممنوع طبعا و اما الماء المستعمل فليس بواجب الاجتناب عنه شرعا لكونه طاهرا فواجده واجد للماء حقيقة و حكما فلا يجوز له التيمم و يجب عليه الوضوء فثبت ان كون الماء مطهرا لازم لكونه طاهرا.

(مسئلة):- إذا وقع فى الماء شى ء طاهر فان لم يتغير به أحد أوصافه و لم يزد على الماء اجزاء جازيه الوضوء اجماعا- و ان تغير به أحد أوصافه او اكثر فان كان الاحتراز عنه متعذرا كالطين و الأوراق فى الخريف جاز به الوضوء اجماعا ما لم يخرجه عن طبع الماء اى رقته كما إذا تغير الماء بطول المكث و ان لم يكن الاحتراز عنه متعذرا كالخل و الزعفران و الأشنان فان تغير به أحد أوصاف الماء لا يجوز به الوضوء عند الشافعي لانه ماء مقيد و الوظيفة عند فقد الماء المطلق التيمم و عند ابى حنيفة رحمه اللّه يجوز به الوضوء الا إذا اختلط الماء جامد أزال رقته او غيّر اكثر أوصافه من الطعم او اللون او الريح كالانبذة او مائع غلب عليه بالاجزاء او غيّر اكثر أوصافه او طبخ فى الماء غيره فغيّره كالمرق و ماء الباقلا الا ما يقصد به النظافة كالاوس و السدر و الأشنان و لا بأس لو تغير الماء باختلاط الطاهر تغييرا يسير المادوى ابن خزيمة و النسائي من حديث أم هانى ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اغتسل هو و ميمونة فى قصعة فيها اثر العجين. و ما روى البخاري عن أم عطية الانصارية قالت دخل علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حين توفيت ابنته فقال اغسلها ثلاثا او خمسا او اكثر من ذلك ان رايتن ذلك بماء و سدر و اجعلن فى الاخرة كافورا و شيئا من كافور. و ما رواه البزار من حديث ابى هريرة ان ثمامة بن أثال اسلم فامره النبي صلى اللّه عليه و سلم ان يغتسل بماء و سدر- و حديث قيس بن عاصم انه اسلم فامره النبي صلى اللّه عليه و سلم ان يغتسل بماء و سدر.

٤٩

لِنُحْيِيَ بِهِ اى بالماء بَلْدَةً مَيْتاً ذكر ميتا لان البلدة بمعنى البلد او بتأويل المكان او لان تأنيثه غير حقيقى او لانه غير جار على الفعل كسائر ابنية المبالغة فاجرى مجرى الجامد وَ نُسْقِيَهُ سقى و أسقي لغتان بمعنى واحد مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً يعنى اهل البوادي الّذين يعيشون بالمطر و لذلك نكر الانعام و الاناسىّ و تخصيصهم لان اهل المدن و القرى يقيمون بقرب الأنهار و الآبار و المنابع فيستغنون لانفسهم و لانعامهم عن سقى السماء و لان سياق الاية لتعداد النعم على الإنسان و عامة منافعهم و غالب معائشهم منوط بالانعام و لذلك قدم سقيها «كقطران دويبة كالهرة منتنة جمع طرابين و ظرابى- قاموس منه رح» على سقيهم كما قدم عليها احياء الأرض فانه كقطران دوسية كالهرة منتنة جمع قطرابين و ظرابى قاموس منه رح سبب لحياتها و تعيشها. و اناسىّ جمع انسى او جمع انسان كظرابى جمع ظربان علا ان أصله أناسين كبساتين جمع بستان فقلبت النون ياء.

٥٠

وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ يعنى المطر بَيْنَهُمْ مرة ببلد و مرة ببلد اخر

قال البغوي قال ابن عباس ما من عام بامطر من عام و لكن اللّه يصرفه فى الأرض

و قرا هذه الاية و روى مرفوعا ما من ساعة من ليل و لانهار الا السماء يمطر فيها يصرفه اللّه حيث يشاء و ذكر ابن إسحاق و ابن جرع و مقاتل و بلغوا ابن مسعود يرفعه قال ليس من سنة بامطر من اخرى و لكن اللّه قسم هذه الأرزاق فجعلها فى السماء الدنيا فى هذا القطر ينزل منه كل سنة بكيل معلوم و وزن معلوم و إذا عمل قوم بالمعاصي حول اللّه ذلك الى غيرهم فاذا عصوا جميعا صرف ذلك الى الفيافي و البحار و قيل المراد بتصريف المطر تصريفه وابلا و طلّا «كسحاب المطر الضعيف ١٢ قاموس منه رح» و رذاذا و نحوها و قيل المراد تصريفه فى الأنهار او فى المنابع كسحاب المطر الضعيف ١٢ قاموس منه رح و قيل التصريف راجع الى القول يعنى صرفنا هذا القول بين الناس فى القران و سائر الكتب لِيَذَّكَّرُوا اى ليتفكروا و يعرفوا كمال القدرة و حق النعمة فى ذلك و يقوموا بشكره او ليعتبروا بالصرف عنهم و إليهم فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً اى الا كفر ان النعمة إذا مطروا قالوا مطرنا بنوء كذا عن زيد بن خالد الجهني رضى اللّه عنه قال صلى لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الصبح بالحديبية فى اثرة سماء كانت بالليل فلمّا انصرف اقبل على النّاس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا اللّه و رسوله اعلم قال قال أصبح من عبادى مؤمن بي و كافه فاما من قال مطرنا بفضل اللّه و رحمته فذلك مومن بي و كافر بالكواكب و اما من قال مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي و مؤمن بالكواكب. متفق عليه.

٥١

وَ لَوْ شِئْنا بعث الرسول فى كل قرية لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً نبيّا ينذر أهلها فيخف عليك اعياء التبليغ و لكن بعثناك الى الناس كافة إجلالا لك و تعظيما لشأنك و تفضيلا لك على سائر الرسل.

٥٢

فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فيما يدعونك اليه من موافقتهم و مداهنتهم و لكن اشكر إنعامنا عليك بالرسالة العامة فاثبت على ما أنت عليه من الدعوة و اظهار الحق وَ جاهِدْهُمْ بِهِ اى يا للّه يعنى بعونه و توفيقه او بالقران او بترك طاعتهم الّذى يدل عليه فلا تطع و المعنى انهم يجتهدون فى ابطال الحق فقابلهم بالاجتهاد فى مخالفتهم و احقاق الحق جِهاداً كَبِيراً شديدا بالقلب و اللسان و السيف و السنان.

٥٣

وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ اى خلاهما متجاورين متلاصقين يقال مرجت الدابة و امرجتها إذا أرسلتها فى المرعى و خلّيتها تذهب حيث تشاء عطف على قوله و هو الّذى أرسل الرّياح و ما بينهما معترضات هذا عَذْبٌ فُراتٌ قامع للعطش من قرط عذريته وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ اى مرّ شديد الملوحة من تأجّح النار إذا تلهب فانه يريد فى العطش هذان الجملتان بتقدير القول حال من البحرين او صفة له على طريقة و لقد امرّ على اللئيم يسبنى او بحذف الموصول مع الصلة و التقدير مرج البحرين الّذين يقال فى شأنهما هذا عذب فرات و هذا ملح أجاج وَ جَعَلَ بَيْنَهُما عطف على مرج يعنى جعل بينهما بقدرته بَرْزَخاً حاجزا مانعا لاختلاط بعضها ببعض وَ حِجْراً مَحْجُوراً اى سترا ممنوعا فلا يبغيان و لا يفسد الملح العذب.

قال البيضاوي و ذلك كدخيلة تدخل البحر فتشقه فتجرى فى خلاله فراسخ لا يتغير طعمها و قيل المراد بالبحر العذب النهر العظيم مثل النيل و بالبحر الملح البحر الكبير و بالبرزخ ما يحول بينهما من الأرض فيكون القدرة فى الفصل و اختلاف الصفة مع ان مقتضى طبيعة اجزاء كل عنصر ان تضامت و تلاصقت و تشابهت فى الكيفية.

٥٤

وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ اى من النطفة بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً اى قسّمه قسمين ذوى نسب اى ذكورا ينسب إليهم و ذوات صهر اى إناثا يصاهر بهن فهو كقوله تعالى و جعل منه الزّوجين الذّكر و الأنثى و قيل جعله نسبا و صهرا اى ذا نسب «١» منسوب الى الأباء ذكرا كان او أنثى و ذا مهربان يتزوج ذكرا او أنثى وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً اى قادرا على ما يشاء حيث خلق من مادة واحدة بشرا إذا أعضاء مختلفة و طباع متباعدة و جعله قسمين متقابلين و ربما يخلق من نطفة واحدة توأمين ذكرا و أنثى.

(١) و عن ع بد اللّه بن المغيرة انه سئل عمر بن الخطاب عن نسب و صهر فقال أراكما لا و قد عرفتم النسب فاما الصهر فالاختان و الصحابة- منه رح.

٥٥

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه ما لا يَنْفَعُهُمْ ان عبدوه عطف على الجملة السابقة او حال بتقدير المبتدا يعنى و هم يعبدون ما لا ينفعهم وَ لا يَضُرُّهُمْ ان هجروه وَ كانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً اى معينا للشيطان على ربه بالمعاصي و قيل معناه كان الكافر على ربه هيّنا ذليلا يقال جعلنى ظهيرا اى ذليلا من ظهرت الشي ء إذا جعلته خلف ظهرك و لم يلتفت اليه.

٥٦

وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً للمومنين بالجنة وَ نَذِيراً للكافرين من النار جملة معترضة.

٥٧

قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ اى على تبليغ الرسالة بدل عليه قوله مبشّرا و نذيرا مِنْ أَجْرٍ حتى يشق عليكم اتباعى خوف الغرامة جملة مستانفه الّا فعل مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا ليتقرب اليه و يطلب الزلفى عنده جعل طاعة الرسول فى امتثال أوامر اللّه و الانتهاء عن مناهيه اجرا على الرسالة من حيث انه مقصود منه و استثناه من الاجر المنفي سواله قلعا لشبهة الطمع و اظهار الغاية المشفقة حيث جعل ما ينفعهم اجرا لنفسه وافيا مرضيّا به مقصودا عليه. و اشعارا بان طاعتهم يعود عليه بالثواب من حيث انها بدلالته قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الدال على الخير كفاعله رواه البزار عن ابن مسعود و الطبراني عن سهل بن سعد و عن ابى مسعود و رواه احمد و اصحب الكتب الستة و الضياء بزيادة و اللّه يحب اغاثة اللّهفان عن بريدة و ابن ابى الدنيا فى قضاء الحوائج عن انس نحوه و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من سنّ فى الإسلام سنة حسنة فله أجرها و اجر من عمل بها من غير ان ينقص من أجورهم شى ء- رواه مسلم فى حديث طويل عن جرير و قيل هذا استثناء منقطع و لكن من شاء ان يتّخذ الى ربّه سبيلا بالإنفاق من ماله فى سبيله فليتخذ يعنى لا اسئلكم لنفسى اجرا و لكن لا منع من انفاق المال فى سبيل اللّه و طلب مرضانه و اتخاذ السبيل الى جنته و لعل اللّه سبحانه دفعا لتهمة سوال الاجر فى الأمر بأداء الزكوة و غيرها من الصدقات حرّم الصدقات على نبيه و اهل بيته.

(مسئله):- يستنبط من هذه الاية انه لا يجوز الاستيجار للطاعة كتعليم القران و الاذان و الامامة و نحو ذلك و قوله الى ربه اى الى ثواب ربه حال من سبيلا و هو مفعول ليتخذ.

٥٨

وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ فى دفع شرهما و الاستغناء عن أجورهم فانه الحقيق بان يتوكل عليه من الاحياء الّذين يموتون فانهم إذا ما تواضاع من توكّل عليهم عطف على قل لا اسئلكم وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ و نزّلهه عن صفات النقصان مثنيا عليه بصفات الكمال طالبا لمزيد الانعام فقل سبحان اللّه و بحمده و قيل معناه صل للّه شكرا على نعمه وَ كَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً اى عالما فيجازيهم بها جملة كفى به حال من الحي.

٥٩

الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ لعل ذكره زيادة تقرير لكونه حقيقا بان يتوكل عليه من حيث انه الخالق للكل و المتصرف و فيه اشارة الى الثبات و الثاني فى الأمور فانه تعالى مع كمال قدرته و سرعة نفاذ امره فى كل مراد خلق الأشياء على تود رو تدرج الموصول مبتدا و خبره الرَّحْمنُ او الموصول صفة للحى او منصوب على المدح بتقدير اعنى او امدح و الرحمان خبر مبتدأ محذوف اى هو الرحمان او بدل من فاعل استوى فَسْئَلْ بِهِ اى بما ذكر من الخلق و الاستواء خَبِيراً اى عالما يخبرك بحقيقته كذا قال الكلبي و الخبير هو اللّه او جبرئيل او من قرا فى الكتب المتقدمة ليصدقك فيه و قيل الضمير للرحمن و المعنى ان أنكروا اطلاقه على اللّه فسئل عنه من يخبرك من اهل الكتاب ليعرفوا مجئ ما يرادفه فى كتبهم و على هذا يجوز ان يكون مبتدأ و الخبر ما بعده و السؤال كما يعدى بعن يعدى بالباء و قيل معناه فسئل إليها الإنسان بالرحمن خبيرا يخبرك بصفاته.

٦٠

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ عطف على قوله الّذى خلق السّموت و الأرض فى ستّة ايّام ثمّ استوى على العرش الرَّحْمنُ او على جملة هو الرّحمان اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ لانهم ما كانوا يطلقونه على اللّه و كانوا يقولون لا نعرف الرحمان الا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب يسمونه حمن اليمامة أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا أنت يا محمد كذا قرا الجمهور بصيغة المخاطب خطابا للنبى صلى اللّه عليه و سلم

و قرا حمزة و الكسائي لما يأمرنا بصيغة الغائب يعنون لما يأمرنا محمد صلى اللّه عليه و سلم وَ زادَهُمْ عطف على قالوا يعنى و زادهم الأمر بالسجود للرحمان نُفُوراً عن الايمان.

٦١

تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً قال الحسن و مجاهد و قتادة البروج هى النجوم الكبار سميت بروجا لظهورها و قال عطية العوفى بروجا اى قصورا فيها الحرس وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً يعنى الشمس لقوله تعالى و جعل الشّمس سراجا

و قرا حمزة «و خلف ابو محمد» و الكسائي سرجا على الجمع و هى الشمس و سائر الكواكب سوى القمر فانه ليس بسراج لان السراج ما يضئ بنفسه و القمر نوره مستفاد من نور الشمس كما يدل عليه كماله و نقصانه على حسب مقابلة الشمس و يدل عليه العطف بقوله وَ قَمَراً مُنِيراً مضيئا بالليل.

٦٢

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً اى ذوى خلفة يخلف كل واحد منهما الا خربان يقوم أحدهما مقام صاحبه فمن فاته عمله فى أحدهما قضاه فى «١» الاخر

قال البغوي جاء رجل الى عمر رض بن الخطاب قال فاتتنى صلوة الليلة قال أدرك ما فاتك من ليلك فى نهارك قال اللّه تعالى لجعل اللّيل و النّهار خلفة لّمن أراد ان يذّكّر

و قال مجاهد يعنى كل واحد منهما مخالف للاخر هذا اسود و هذا ابيض لِمَنْ أَرادَ متعلق بجعل أَنْ يَذَّكَّرَ قرأ حمزة و الكسائي بتخفيف الذال و الكاف و ضمها مع سكون الذال من المجرد اى يذكر اللّه سبحانه و الباقون بتشديد الذال و الكاف و فتحهما من التفعل بإدغام التاء فى الذال يعنى لمن أراد ان يتذكر آلاء اللّه و يتفكر فى صنعه فيعلم انه لا بد له من صانع حكيم واجب لذاته رحيم على العباد او المعنى أراد ان يذكر ما فاته فى أحد الملوين من خير يفعله فى الاخر أَوْ أَرادَ شُكُوراً اى شكر نعمة ربه عليه يعنى ان خلق الليل و النهار و ما اظلم عليه الليل و أشرق عليه النهار و ما فيها من المنافع لاجل ان يتذكر فيهما المتذكرون و يشكر على نعمائه الشاكرون فمن خلا وقته عن الذكر و الشكر و التذكر و التفكر فقد ضاع وقته و هلك رأس ماله.

(١) عن الحسن ان عمر أطال صلوة الضحى فقيل له صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعة فقال انه يقى على من وردى شى ء فاحببت ان أتمه او قال أقضيه و تلا و هو الّذى جعل اللّيل و النّهار خلفة الآية- منه رح.

٦٣

وَ عِبادُ الرَّحْمنِ مبتدا خبره أولئك يجزون الغرفة أضاف الى نفسه تشريفا لهم و إظهارا لفضلهم أو لأنهم هم الراسخون فى عبادته على ان عابد و عباد كتاجر و تجار و ذكر من أسمائه اسم الرحمن اشعارا بانهم موصوفون بكمال الرحمة على الخلق و موعودون بكمال رحمة اللّه عليهم الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً هينين او مشيا هيّنا مصدر وصف به و المعنى انهم يمشون على الأرض بالسكينة و الوقار متواضعين غير أشرين و لا متكبرين «٢» و الهون فى اللغة الرفق و ألين و فى القاموس الهون الوقار و منه قوله صلى اللّه عليه و سلم المؤمن هين لين حتى تخاله من اللين أحمق. رواه البيهقي بسند ضعيف عن ابى هريرة وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ عطف على يمشون يعنى إذا خاطهم السفهاء بما يكرهون قالُوا سَلاماً قال مجاهد يعنى سدادا من القول ما يسلمون فيه من الإيذاء و الإثم كذا قال مقاتل بن حبان قال الحسن لو جهل عليهم جاهل حملوا و لم يجهلوا و روى عن الحسن معناه سلموا عليهم دليله قوله عزّ و جلّ و إذا سمعوا اللّغو اعرضوا عنه و قالوا لنا اعمالنا و لكم أعمالكم سلم عليكم قال الكلبي و ابو العالية هذا قبل ان يؤمر بالقتال ثم نسختها اية القتال و الحق ان لاية محكمة غير منسوخة فانما الأمر بالقتال انما هو لا علاء كلمة اللّه حقا للّه سبحانه و هو منته يقول لا اله الا اللّه او إعطاء الجزية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا اللّه و ان محمدا رسول اللّه- الحديث متفق عليه عن ابن عمر و قال اللّه سبحانه قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه الى قوله حتّى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون و هذا بيان لحال المؤمنين فى مقابلة السفهاء و اعراضهم عن انتقامهم و عدم مواخذتهم لاجل أنفسهم عن ابى هريرة ان رجلا قال يا رسول اللّه ان لى قرابة أصلهم و يقطعونى و احسن إليهم و يسيؤن الىّ و احلم عنهم و يجهلون علىّ فقال لئن كنت كما قلت فكانها تسفهم المل و لا يزال معك من اللّه ظهير ما دمت على ذلك رواه مسلم روى عن الحسن البصري انه إذا قرا هذه الاية قال هذا وصف نهارهم ثم قرا.

(٢) عن عمر انه راى غلاما يتبختر فى مشية فقال له ان التبختر به مشية مكروهة الّا فى سبيل اللّه و قد مدح اللّه أقواما فقال و عباد الرّحمن الّذين يمشون على الأرض هونا فاقصد فى مشيك- منه رح.

٦٤

وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً فقال هذا وصف ليلهم و خص البيتوتة لان العبادة بالليل أشق و ابعد من الرياء و أوفق للقلب باللسان و لان النهار خص لنوع اخر من العبادة و هو انهم يجاهدون فى سبيل اللّه لا يخافون فى اللّه لومة لائم و يصاحبون خيار الناس للتعليم و التعلم و الإرشاد و الاسترشاد قوله لربهم متعلق بسجّدا و هو جمع ساجد و قياما جمع قائم او مصدر اجرى مجراه و تأخير القيام المروي عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اشراف أمتي حملة القران و اصحاب الليل- رواه البيهقي فى شعب الايمان و عن ابى هريرة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول أفضل الصلاة بعد المفروضة صلوة فى جوف الليل- رواه احمد و عن ابى امامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عليكم بقيام الليل فانه داب الصالحين قبلكم و هو قربة الى ربكم و مكفرة للسيئات و منهاة عن الإثم. رواه الترمذي و عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثلاثة يضحك اللّه إليهم الرجل إذا قام بالليل يصلى و القوم إذا صفوا فى الصلاة و القوم إذا صفوا فى قتال العدو- رواه البغوي فى شرح السنة

قال البغوي قال ابن عباس من صلى بعد العشاء الاخرة ركعتين او اكثر فقد بات للّه ساجدا و قائما. و عن عثمان بن عفان قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من صلى العشاء فى جماعة كان كقيام تصف ليلة و من صلى الفجر فى جماعة كان كقيام ليلة. رواه احمد و مسلم فى الصحيح.

٦٥

وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ يعنى انهم مع حسن معاشرتهم مع الخلق و اجتهادهم فى عبادة الحق خائفون من عذاب اللّه مبتهلون الى اللّه فى صرفه عنهم لعدم اعتذارهم بأعمالهم و عدم وثوقهم على استمرار حالهم عن على رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه تبارك و تعالى اوحى الى نبى من أنبياء بنى إسرائيل قل لاهل طاعتى من أمتك ان لا يتكلوا على أعمالهم فانى لا اناصب عند الحساب يوم القيامة أشاء ان أعذبه إلا عذبته و قل لاهل معصيتى من أمتك لا يلقوا بايديهم فانى اغفر الذنوب العظيمة و لا أبالي- رواه ابو نعيم إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً اى لازما و منه الغريم للملازمة و

قال البغوي الغرام أشد اللازم و قيل غراما يعنى هلاكا و قيل الغرام ما يصيب الإنسان من شدة و مصيبة قال محمد بن كعب القرظي سال اللّه الكفار عن شكر نعمه فلم يؤدوا فاغرمهم اللّه فبقوا فى النار- قال الحسن كل غريم يفارق غريمه الا جهنم.

٦٦

إِنَّها يعنى جهنم ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً ساءت فعل ذم بمعنى بئست و فيها ضمير مبهم يفسره الضمير و المخصوص بالذم ضمير محذوف اى هى به يرتبط باسم انّ و مستقرّا حال او تمييز و الجملة تعليل للجملة الاولى او تعليل ثان و كلاهما يحتملان الحكاية و الابتداء من اللّه- و جاز ان يكون ساءت من الافعال المتصرفة من ساء يسوء سوءا و مساءة بمعنى مضاد لحسنت و يؤيد هذا المعنى قوله تعالى فى وصف الجنة حسنت مستقرّا و مقاما و على هذا فى ساءت ضمير مستتر راجع الى اسم انّ و مستقرّا حال او تمييز عن النسبة بمعنى ساء الاستقرار و الاقامة فيها.

٦٧

وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا قرا ابن كثير و اهل البصرة يقتروا بفتح الياء و كسر التاء

و قرا اهل المدينة و ابن عامر بضم الياء و كسر التاء

و قرا الآخرون بفتح الياء و ضم التاء و كلها لغات يقال اقتر يقتر و قتّر بالتشديد و قتر يقتر و يقتر على وزن ينصر و يضرب. و الإسراف الانفاق فى معصية اللّه و ان قلّت و الاقتار منع حق اللّه تعالى و هو قول ابن عباس و مجاهد و قتادة و ابن جريج و به قال الحسن فى هذه الاية ان معناه لم ينفقوا فى معاصى اللّه و لم يمسكوا عن فرائض اللّه و قال قوم الإسراف مجاوزة الحد فى الانفاق حتى يدخل فى حد التبذير. و الاقتار التقتير عما لا بد منه و هذا معنى قول ابراهيم لا يجيعهم و لا يعريهم و لا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف قلت و هذا القول راجع الى القول الاول بل هو أخص منه فانه مجاوزة الحد المشروع فى الانفاق المباح حتى دخل فى حد التبذير و ذلك حرام معصية حيث قال اللّه تعالى انّ المبذّرين كانوا اخوان الشّياطين و كان الشّيطن لربّه كفورا و انفاق من وجب نفقته عليه بحيث لا يجيعهم و لا يعريهم فريضة و الإمساك عنه إمساك عن فريضة اللّه وَ كانَ اى الانفاق بَيْنَ ذلِكَ اى بين الإسراف و الاقتار قَواماً قصدا وسطا حسنة «١» بين السيئتين سمى الوسط قواما لاستقامة الطرفين كما سمى سواء لاستوائهما و هو خبر ثان او حال مؤكدة و جاز ان يكون خبرا لكان و بين ذلك ظرفا لغوا و قيل انه اسم كان مبنى لاضافته الى غير متمكن و هو ضعيف لانه بمعنى القوام فيكون كالاخبار بالشي ء عن نفسه اخرج الشيخان فى الصحيحين عن ابن مسعود قال سالت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اىّ الذنب أعظم قال ان تجعل للّه ندّا و هو خلقك قلت ثمّ اىّ قال ان تقتل ولدك مخافة ان يطعم معك قلت ثم اىّ قال ان تزنى حليلة جارك فانزل اللّه تصديقها.

(١) قال ابن زيد بن حبيب أولئك (يعنى مصداق هذه الاية) اصحاب محمد صلى اللّه عليه و سلم كانوا لا يأكلون الطعام للتنعم و اللذة و لا يلبسون ثوبا للجمال و لكن كانوا يريدون من الطعام ما يسدّ الجوع و يقويهم على عبادة ربهم و من الثياب ما يستر عوراتهم و ما يكفهم من الحر و البرد. و قال عمر رض بن خطاب رضى اللّه عنه كفى سرفا ان لا يشتهى الرجل شيئا الا اشتراه فاكله ١٢ رحمه اللّه.

٦٨

وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّه إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّه إِلَّا بِالْحَقِّ متعلق بمحذوف اى لا يقتلون قتلا الا قتلا بالحق او متعلق بلا يقتلون اى لا يقتلون بسبب الا بالحق يعنى بقود او رجم او نحو ذلك وَ لا يَزْنُونَ نفى عنهم أمهات المعاصي بعد ما اثبت لهم اصول الطاعات إظهارا لكمال ايمانهم و اشعارا بان الاجر موعود للجامع بين ذلك و تعريضا للكفرة من الاتصاف بأضدادها كانه قال و الذين طهّرهم اللّه عما أنتم عليه من الشرور و السيئات و لذلك عقبه بالوعيد تهديدا لهم فقال وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ اى أشياء من هذه الأمور يَلْقَ أَثاماً يعنى جزاء اثم كذا قال ابن عباس و قال ابو عبيده الأثام العقوبة

و قال مجاهد الأثام واد فى جهنم

قال البغوي يروى ذلك عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص و يروى فى الحديث الغىّ و الأثام بئران يسيل فيهما صديد اهل النار قلت اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عمر فى هذه الاية قال واد فى جهنم

و اخرج هناد عن سفيان مثله

و اخرج ابن جرير و الطبراني و البيهقي «٢» قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو ان صخرة زنة عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت سبعين خريفا ثم تنتهى الى غىّ و اثام قلت و ما غىّ و اثام قال نهران فى أسفل جهنم يسيل فيهما صديد اهل النار و هما اللذان ذكرهما اللّه تعالى فى كتابه فسوف يلقون غيّاء وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً

(٢) هكذا بيا ض فى الأصل. [.....].

٦٩

يُضاعَفْ قرأ ابن كثير «ابو جعفر و يعقوب ابو محمد» و ابن عامر يضعّف من التفعيل و الباقون من المفاعلة لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ لانضمام المعصية الى الكفر وَ يَخْلُدْ قرا ابن عامر و ابو بكر يضاعف «١» و يخلد بالرفع على الاستيناف او الحال و الباقون بجزمهما بدلا من بلق فِيهِ قرا ابن كثير على أصله و حفص هاهنا خاصة بصلة الضمير المجرور مبالغة فى الوعيد و الباقون على ما هو الأصل فى الضمير المجرور إذا سكن ما قبله باختلاس كسرتها مُهاناً اى ذليلا حال اخرج الشيخان عن ابن عباس ان ناسا من اهل الشّرك قتلوا فاكثروا و زنوا فاكثروا ثم أتوا محمدا صلى اللّه عليه و سلم فقالوا ان الّذى تقول و تدعو اليه لحسن لو تخبرنا ان لعملنا كفارة فنزلت و الّذين لا يدعون مع اللّه الها اخر و لا يقتلون النّفس الّتى حرّم اللّه الّا بالحقّ و لا يزنون و من يفعل ذلك يلق أثاما لّضعف له العذاب يوم القيمة و يخلد فيه مهانا

(١) اى قرا ابن عاد يضعّف و يخلد و ابو بكر يضاعف و يخلد ابو محمد عفى عنه.-

٧٠

الّا من تاب عن الشرك.

وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً الى قوله تعالى غفورا رحيما و نزلت قل يعبادى الّذين أسرفوا على أنفسهم الاية قال ابن عباس الّا من تاب من ذنبه و أمن بربه و عمل عملا صالحا فيما بينه و بين ربه

و اخرج البخاري و خيره عن ابن عباس قال لما انزل فى الفرقان و الّذين لا يدعون مع اللّه الها اخر و لا يقتلون النفس الّتى الاية قال مشركوا مكة قد قتلنا النفس بغير الحق و دعونا مع اللّه الها اخر و اتينا الفواحش فنزلت الّا من تاب و

قال البغوي أخبرنا عن ابن عباس قال قرانا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سنتين و الّذين لا يدعون مع اللّه الها اخر الاية ثم نزلت الا من تاب و أمن فما رايت النبي صلى اللّه عليه و سلم فرح بشئ فرحه بها و فرحه بانّا فتحنا لك فتحا مّبينا لّينفر لك اللّه ما تقدّم من ذنبك و ما تاخّر.

فان قيل لا يجوز الاستثناء مفصولا فكيف يقال بنزوله بعد سنتين

قلنا نزلت هذه الاية أول مرة بغير الاستثناء ثم نزلت تلك الآيات مع الاستثناء فهذه الاية ناسخة للاولى فى المقدار المستثنى

فان قيل تقرر فى الأصول ان محل النسخ الاحكام دون الاخبار و هذه الاية اخبار فكيف يمكن نسخه

قلنا عدم جواز النسخ فى الاخبار لعدم احتمال التخلف فيها كيلا يلزم الكذب و اية الوعيد يجوز نسخه لانه إنشاء للوعيد يحتمل التخلف فيه تفضلا و مغفرة هذه الاية تدل على ان الاستثناء من الإثبات نفى و بالعكس كما يدل على ذلك الاستثناء المفرغ و ليس كما قالوا ان المستثنى فى حكم المسكوت عنه و الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا إذ لو كان كذلك لما جاز نسخ المنطوق بالمسكوت و قوله عملا صالحا منصوب على المفعولية او المصدرية فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللّه سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ فذهب جماعة الى ان المراد ان يمحو اللّه سوابق معاصيهم بالتوبة و ثبت مكانها لواحق طاعتهم او يبدل اللّه فى الدنيا ملكة المعصية فى النفس بملكة الطاعة و يوفقه لاضداد ما سلف منهم من المعاصي و هذا معنى ما قال ابن عباس و الحسن و سعيد بن جبير و مجاهد و الضحاك و السدى يبدل اللّه بقبائح ما عملوا فى الشرك محاسن الأعمال فى الإسلام فيبدل اللّه لهم بالشرك التوحيد و بقتل المؤمنين قتل المشركين المحاربين و بالزنى عفة و احصانا و ذهب جماعة الى ان المراد ان اللّه تعالى يبدل سيئاتهم التي عملوها فى الإسلام حسنات يوم القيامة تفضلا و هو قول سعيد بن المسيب و مكحول و عائشة و ابى هريرة و سلمان رضى اللّه عنهم أجمعين و يؤيده حديث ابى ذر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال اعرضوا صغائر ذنوبه فتعرض عليه صغائرها و تخبأ كبائرها فيقال أعملت كذا و كذا و هو يقرّ ليس ينكر و هو مشفق من الكبائر فيقال أعطوه مكان كل سيئة حسنة فيقول ان لى ذنوبا لا أراها هاهنا فلقد رايت رسول اللّه ضحك حتى بدت نواجذه رواه مسلم

و اخرج ابن ابى حاتم عن سلمان قال يعطى رجل يوم القيامة صحيفة فيقرا أعلاها فاذا يكاد ليسوء ظنه نظر فى أسفلها فاذا حسناته ثم ينظر فى أعلاها فاذا هى قد بدّلت حسنات

و اخرج ايضا عن ابى هريرة رضى اللّه عنه قال ليأتينّ اللّه بناس يوم القيامة ودوا انهم أكثروا من السيئات قيل من هم قال الذين يبدل اللّه سيأتهم حسنات

فان قيل كيف يتصور تبديل السيئة على هذا المعنى بالحسنة و كيف يثاب على السيئة فان السيئة امر مكروه غير مرضى اللّه تعالى فكيف يتصور كونه مرضيّا له تعالى فان اللّه لا يرضى لعباده الكفر و العصيان قلت توجيه ذلك عندى بوجهين أحدهما ان عباد اللّه الصالحين كلما صدر عنهم ما كتب اللّه عليهم من العصيان ندموا غاية الندم و استحقروا أنفسهم غاية الاستحقار و التجئوا الى اللّه تعالى كمال الالتجاء و خافوا عذاب اللّه مع رجاء المغفرة فاستغفروه حتى صاروا مهبطا لكمال الرحمة بحيث لو لم يذنبوا لم يصيروا بهذه المثابة فعلى هذا صار عصيانهم الذي كان سببا للعقاب سببا للثواب و لو بتوسط الندم و التوبة من هاهنا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و الّذى نفسى بيده لو لم تذنبوا لذهب اللّه بكم و لجاء يقوم يذنبون فيستغفرون اللّه و يغفر لهم رواه مسلم من حديث ابى هريرة و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم استغفروا لماعز بن مالك لقد تاب توبة لو قسمت بين امة لوسعتهم- و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لخالد بن الوليد حين سبّ الامرأة الغامدية مهلا يا خالد فو الذي نفسى بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس «١» لغفر له- رواه مسمر فى قصة ماعز و الغامدية عن بريدة و هذا ما قيل معصية أولها غفلة و آخرها ندامة خير من طاعة أولها عجب و آخرها رؤية ثانيهما ان الغائصين فى بحار المحبة قد يصدر منهم امور لا يتزن بميزان الشرع ككلمات الشح و السماع و الوجد و رهبانية ابتدعوها يجعل اللّه تعالى هذه الأمور الصادرة منهم كلها حسنات لصدورها عن محبة صرفة و من هاهنا قال العارف الرومي مثنوى

(١) قوله صاحب مكسوم اى من يأخذ من التجار إذا مر و امسا اى ضريبه باسم العشر (مجمع البحار) و فيه ان المكس أعظم الذنوب و ذلك لكثرة مطالبات الناس و مظلماتهم و صرفها فى غير وجهها و فى الحاشية المكس لنقصان و للماكس من العمال من ينقص من حقوق المساكين و لا يعطيها بتمامها قالد البيهقي ١٢ الفقير الدهلوي.

هر چه گيرد علتى علت شود كفر گيرد كاملى ملت شود

كار پاكان را قياس از خود مگير گر چه ماند در نوشتن شير شير

او بدل گشت و بدل شد كار او لطف گشت و نور شد هر نار او

و لعل ما ورد فى حديث ابى ذر انه يقال اعرضوا صغائر ذنوبه فيعرض عليه صغائرها و يخبأ عنه كبائرها اشارة الى هذا فان هذه الأمور التي تصدر من الكاملين لغلبة المحبة انما هى بميزان الشرع صغار الذنوب دون كبائرها يجعلها اللّه تعالى لهم حسنات لكونها ناشية من منابع المحبة و اما كبار الذنوب التي صدرن عنهم على سبيل الندرة لما كتب اللّه تعالى صدورها عنهم فيخبأ عنهم و يغفر و يستر و لا يذكر كما أشير اليه بقوله تعالى وَ كانَ اللّه غَفُوراً رَحِيماً يغفر الذنوب جميعا صغائرها و كبائره ا بالتوبة و و بلا توبة قلت لعل قوله تعالى و الّذين لا يدعون مع اللّه الها اخر اشارة الى فناء القلب فان المرء بعد فناء قلبه لا يقصد شيئا غير اللّه و لا يرجوا شيئا الا منه و لا يخاف غيره و كل ما هو مقصود لك فهو معبود لك بل لا يرى غيره موجودا بوجود متاصل و الا له هو الموجود بوجود بوجود متاصل يقتضى ذاته وجوده

فان قيل أ ليس المؤمنون عامه قبل الفناء يعتقدون بان اللّه موجود بوجود يقتضيه ذاته و غيره ليس كذلك قلت بلى يعتقدون ذلك لكن بالاستدلال دون الرؤية و الشهود و يشهد على ذلك بداهة الوجدان و خوفهم و طمعهم من الخلق. و قوله تعالى و لا يقتلون النّفس الّتى حرّم اللّه الّا بالحقّ و لا يزنون اشارة الى فناء النفس و ان النفس الامارة بالسوء إذا فنيت و اطمأنت بمرضاة اللّه تعالى انسلخ عن دواعى العصيان و الدليل على هذه الاشارة وصفهم بهذه الصفات بعد وصفهم بصفات الكمال بقوله وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ الى آخره و لو كان المراد به التوحيد المجازى و التقوى الظاهري لقدم ذلك على الصفات المذكورات فيما سبق.

٧١

وَ مَنْ تابَ عن الشرك و المعاصي بتركها و الندم عليها و الاستغفار وَ عَمِلَ صالِحاً بتلافى ما فرط او خرج عن الشرك و المعاصي و دخل فى الطاعة فَإِنَّهُ يَتُوبُ اى يرجع إِلَى اللّه مَتاباً لا الى غيره فحق عليه تعالى ان يثيبه و يبدل سيئاته بالحسنات و هذه الجملة معترضة معطوفة على معترضة سابقة و هى قوله تعالى و من يفعل ذلك يلق أثاما و الجملتان وقعتا بين الموصولات التي هى صفات مارحة لعباد الرحمان الاولى منهما لبيان عقاب المسيئين المفهومين من قوله تعالى و الّذين لا يدعون الى آخره و الثانية منهما لبيان عاقبة التوابين للذكورين فى الاستثناء قيل التنكير فى متابا للتعظيم و الترغيب الى التوبة لئلا يتحد الشرط يعنى انه يتوب الى اللّه متابا مرضيا عند اللّه ماحيا للعقاب محصلا للثواب و قيل معناه فانه يرجع الى اللّه اى الى ثوابه مرجعا حسنا و هذه تعميم بعد تخصيص- و

قال البغوي قال بعض اهل العلم هذه الاية فى التوبة عن غير ما ذكر فى الاية الاولى من القتل و الزنى يعنى من تاب و رجع عن الشرك وادي الفرائض فمن لم يقتل و لم يزن فانه يتوب الى اللّه اى يعود اليه بعد الموت متابا حسنا يفضل على غيره ممن قتل و زنى ثم تاب. فالتوبه الاولى اى الشرط اعنى قوله و من تاب معناها رجع عن الشرك و الثانية اى الجزاء اعنى فانّه يتوب الى اللّه متابا معناها رجع الى اللّه للحزاء و المكافاة فافترقا. و قال بعضهم هذه الاية فى التوبة عن جميع المعاصي و معناه و من أراد التوبة و عزم عليها فليتب لوجه اللّه فقوله يتوب الى اللّه متابا خبر بمعنى الأمر اى ليتب الى اللّه و قيل معناه فليعلم ان توبته و مصيره الى اللّه.

قلت و على تقدير كون المراد بقوله تعالى يبدّل اللّه سيّئاتهم التائبين الذين صدر عنهم بعض الأمور التي لم يتزن بميزان الشرع لغلبة السكر و المحبة فبدل اللّه سيئاتهم حسنات لاجل مجبتهم جاز ان يكون المراد بالتائبين فى هذه الاية عباد اللّه الصالحين الذين لم يصدر عنهم شى ء من تلك الأمور يعنى من رجع عن جميع ما كره اللّه و لم يعملوا شيئا منها و لو يغلبة المحبة و السكر فانه يتوب الى اللّه متابا احسن من الأولين و هم اصحاب الصحو من الأولياء كالنقسبندية الذين هم على هيئة اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم فى اتباع السنة و اللّه اعلم ..

٧٢

وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ

قال البغوي قال الضحاك و اكثر المفسرين يعنى الشرك فانه شهادة بالزور قلت و يلزم على ذلك التكرار لما مر من قوله تعالى و الّذين لا يدعون مع اللّه الها اخر و قال على بن طلحة يعنى لا يشهدون على الناس شهادة الزور (مسئله):-

قال البغوي قال عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه يجلد شاهد الزور أربعين جلدة و يسخمّ «١» وجهه و يطاف به فى السوق.

(١) قوله يسخّم وجهه اى سود و السخام الفحم (مجمع البحار الفقير الدهلوي.

و روى ابن ابى شيبة ثنا ابو خالد عن حجاج عن مكحول عن الوليد عن عمر انه كتب الى عماله بالشام فى شاهد الزور يضرب أربعين سوطا و يسخم وجهه و يحلق رأسه و يطال حبسه و روى عبد الرزاق فى مصنفه عن مكحول ان عمر ضرب شاهد الزور أربعين سوطا و قال أخبرنا يحيى بن العلا أخبرني الأحوص بن الحكيم عن أبيه ان عمر امر بشاهد الزور ان يسخم وجهه و يلقى عمامته فى عنقه و يطاف به فى القبائل و من هاهنا قال مالك و الشافعي و ابو يوسف و محمد انه يعزر شاهد الزور بالضرب و يوقف فى قومه حتى يعرفون انه شاهد الزور و زاد مالك فقال و يشهد فى الجوامع و الأسواق قالوا انه كبيرة من الكبائر على ما صرح به النبي صلى اللّه عليه و سلم فى حديث انس رواه الشيخان فى الصحيحين و فيها رواه البخاري انه صلى اللّه عليه و سلم قال الا أخبركم بالكبر الكبائر قالوا بلى يا رسول اللّه قال الشرك باللّه و عقوق الوالدين (و كان متكيا فجلس فقال) الا و قول الزور و شهادة الزور فما زال يكررها حتى

قلنا ليته سكت و قرن اللّه تعالى بينها و بين الشرك حيث قال فاجتنبو الرّجس من الأوثان و اجتنبوا قول الزّور و إذا كان كبيرة و ليس فيها تقدير شرعى فى الحد ففيها التعزير- و قال ابو حنيفة يكتفى فى تعزيره بالتشهير و لا يضرب و لا يحبس فان المقصود الانزجار و يحصل ذلك بالتشهير و اما الضرب و غير ذلك فمبالغة فى الزجر لكنه يقع مانعا من الرجوع و شهادة الزور لا يظهر الا بالإقرار و الرجوع فوجب التخفيف نظرا الى هذا الوجه و اثر عمر محمول على السياسة و مثل مذهب ابى حنيفة روى عن شريح روى محمد بن الحسن فى كتاب الآثار من طريق ابى حنيفة عن ابى الهيثم عمن حدثه عن شريح انه كان إذا أخذ شاهد الزور فان كان من السوق قال للرسول قل لهم اى لاهل السوق ان شريحا يقراكم السلام و يقول لكم انا وجدنا هذا شاهد زور فاحذروه فان كان من العرب أرسل الى مسجد قومه اجمع ما كانوا فقال للرسول مثل ما قال فى المرة و الاولى و كذا روى ابن ابى شيبة عن شريح و قال ابن جريح المراد بشهادة الزور الكذب مطلقا و قيل معنى الاية لا يحضرون مجالس الكذب فان مشاهدة الباطل شركة فيه فلا يجوز ان يسمع قصة فيها أباطيل او يقرأ شعرا كذلك قال مجاهد يعنى لا يحضر أعياد المشركين و قيل المراد به النوح و قال قتادة لا يساعدون اهل الباطل على باطلهم و قال محمد بن الحنفية لا يشهدون اللغو و الغناء قال ابن مسعود العناء ينبت النفاق فى القلب كما ينبت الماء الزرع

قال البغوي و اصل الزور تحسين الشي ء و وضعه على خلاف صفته فهو تمويه الباطل بما يوهم انه حق قلت الزور فى اللغة الليل قال اللّه تعالى تزاور عن كهقهم و فى الكذب ميل من الحق الى الباطل و كذا فى كل لغو و فى القاموس الزور بالضم الكذب و الشرك باللّه و أعياد اليهود و النصارى و الرئيس و مجلس الغناء و ما يعبد من دون اللّه و القوة قلت و هذه الاية يصلح كل ما ذكر من المعاصي الا الرئيس و القوة وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً عطف على لا يشهدون الزّور فهما صلتان لموصول واحد و الأظهر فى وجه اشتراكهما ان يراد بالزور المعاصي كلها و بالشهود الحضور و باللغو ايضا المعاصي كلها كما قال الحسن و الكلبي و المعنى الّذين لا يحضرون مجالس المعاصي باختيارهم و إذا مروا هناك اتفاقا مروا كراما مسرعين معرضين غير مقبلين عليه يقال كرم فلان عما يشينه إذا تنزّه و أكرم نفسه عنه و قال مقاتل معنى الاية و إذا سمعوا من الكفار الشتم و الأذى اعرضوا و اصفحوا و هو رواية ابن جريج عن مجاهد نظيره و إذا سمعوا اللّغو اعرضوا عنه قال السدى هى منسوخة باية القتال قلت بل هى غير منسوخة إذ القتال منته بإعطاء الجزية و لا يجوز القتال بالشتم و الأذى.

٧٣

وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ بالوعظ و القراءة او بالدلالة على دلائل التوحيد و التنزيه لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً اى لم يقيموا غير و أعين لها و غير متبصرين بعيون داعية متغافلين عنها كانهم صم لم يسمعوها و عمى لم يروها بل يسمعون ما يذكرون به سماع قبول فيفهم ونه و يرون الحق فيتبعونه و المراد نفى الحال دون الفعل كقولك لا يلقانى زيد راكبا و يقول الهاء للمعاصى المدلول عليها باللغو.

٧٤

وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قرأ ابو عمرو و حمزة و الكسائي و ابو بكر و ذرّيّتنا بغير الف و الباقون بالألف على الجمع قُرَّةَ أَعْيُنٍ تنكير الأعين لارادة تنكير القرة تعظيما و أورد الأعين بصيغة جمع القلة لان المراد أعين المتقين و هى قليلة بالاضافة الى عيون غيرهم و من ابتدائية يعنى هب لناقرة أعين كائنة من أزواجنا و ذرياتنا يعنى اجعلهم صالحين تقربهم أعيننا قال القرطبي ليس شى ء أقر لعين المؤمن من ان يرى زوجته و أولاده مطيعين للّه عزّ و جل قال الحسن وحّد القرة لانها مصدر و أصلها من البرد لان العرب تتاذى من الحر و تستريح من البرد و تذكر قرة العين عند السرور و سخنة الأعين عند الحزن و يقال دمع العين عند السرور بارد و عند الحزن حاد و قال الأزهري معنى قرة الأعين ان يصادف قلبه من يرضاه و تقر عينه عن النظر الى غيره وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً تأكيد للجملة السابقة فان أزواجهم و ذرياتهم إذا كانوا متقين و هم ائمة لازواجهم و ذرياتهم صاروا للمتقين اماما وحّد اماما للدلالة على الجنس و عدم اللبس كما فى قوله تعالى ثمّ يخرجكم طفلا و انّهم عدوّ لّى الّا ربّ العلمين و قيل لانه مصدر كالقيام و الصيام يقال امّ اماما كما يقال قام قياما و صام صياما او لان المراد اجعل كل واحد منا للمتقين اماما كما فى قوله تعالى انّا رسول ربّ العلمين او لكون كلهم كنفس واحدة لاتحاد طريقتهم و اتفاق كلمتهم و قيل هى جمع امّ كصائم و صيام و المعنى قاصدين للمتقين سالكين سبيلهم.

٧٥

أُوْلئِكَ اى عباد اللّه الصالحين الموصوفين بتلك الصفات يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ اى يثابون أعلى مواضع الجنة روى الشيخان فى الصحيحين و احمد عن ابى سعيد الخدري رضى اللّه عنه و الترمذي عن ابى هريرة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ان اهل الجنة يتراءون اهل الغرف فوقهم كما ترون الكوكب فى السماء الغابر من أفق المشرق او المغرب لتفاصل ما بينهم قالوا يا رسول اللّه تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بلى و الذي نفسى بيده رجال أمنوا باللّه و صدقوا المرسلين و روى عن سهل بن سعد مثله

و اخرج احمد و الحاكم و صححه و البيهقي عن ابن عمر و الترمذي و البيهقي عن على و احمد عن ابى مالك الأشعري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انه قال ان فى الجنة غز برى ظاهرها من باطنها من ظاهرها قالوا لمن يا رسول اللّه قال لمن أطاب الكلام و اطعم الطعام او بات فانتا و الناس نيام. كذا فى حديث ابن عمر و فى حديث علىّ لمن أطاب الكلام و أفشى السلام و يطعم الطعام و صلى بالليل و الناس نيام. و فى حديث ابى مالك لمن اطعم الطعام و الان الكلام و تابع الصيام و صلى بالليل و الناس نيام.

و اخرج البيهقي و ابو نعيم عن جابر بن عبد اللّه رضى اللّه عنه قال قال لنا النبي صلى اللّه عليه و سلم الا أخبركم بغرف الجنة

قلنا بلى يا رسول اللّه قال ان فى الجنة غرفا من اصناف الجواهر يرى ظاهرها من باطنها من ظاهرها فيها من النعيم و اللذات و الشرف مالا عين رأت و لا اذن سمعت

قلنا يا رسول اللّه لمن هذه الغرف قال لمن أفشى السلام و اطعم الطعام و ادام لصّيام و صلى بالليل و الناس نيام

قلنا يا رسول اللّه و من يطيق ذلك قال أمتي يطيق ذلك و ساخبركم عن ذلك من لقى أخاه و سلم عليه و رد عليه فقد أفشى السلام و من اطعم اهله و عياله من الطعام حتى يشبعهم فقد أطعمهم الطعام و من صام رمضان و من كل شهر ثلاثة فقد ادام الصيام و من صلى العشاء الاخيرة و صلى الغداة فى جماعة فقد صلى بالليل و الناس نيام اليهود و النصارى و المجوس. و اسناده غير قوى

و اخرج ابن عدى و البيهقي عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان فى الجنة لغرفا فاذا كان ساكنها فيها لم يخف عليه ما خلفها و إذا كان خلفها لم يخف عليه ما فيها فقيل لمن هى يا رسول اللّه قال لمن أطاب الكلام و واصل الصيام و اطعم الطعام و أفشى السلام و صلى بالليل و الناس نيام قيل و ما طيب الكلام قال سبحان اللّه و الحمد للّه و لا اله الا اللّه و اللّه اكبر فانه يأتي يوم القيمة و هن مقدمات و منجّيات و معقّبات قيل و ما وصال الصوم قال من صام شهر رمضان فصامه قيل فما اطعام الطعام قال من قات عياله قيل فما افشاء السلام قال مصاحبة أخيك و تحيته قيل و ما الصلاة و الناس نيام قال صلوة العشاء الاخرة-

و اخرج الحكيم الترمذي عن سهل بن سعد مرفوعا فى هذه الاية قال الغرفة من ياقوتة حمراء و زبرجد خضراء و درة بيضاء ليس فيها قصم و لا وصم بِما صَبَرُوا اى بصبرهم على المشاق من مضض الطاعات و رفض الشهوات و على تحمل المجاهدات و على أذى المشركين

و اخرج ابو نعيم عن ابى جعفر قال بما صبروا على الفقر فى دار الدنيا وَ يُلَقَّوْنَ قرأ حمزة و الكسائي و ابو بكر بفتح الياء و سكون اللام و تخفيف القاف و الباقون بضم الياء و فتح اللام و تشديد القاف فِيها اى فى تلك الغرفة تَحِيَّةً وَ سَلاماً اى يحييهم الملائكة و يسلمون عليهم اى يدعون اللّه لهم او يبشرهم بالبقاء و السلامة من كل آفة و قال الكلبي يحيى بعضهم على بعض بالسلام و يرسل الرب إليهم السلام اخرج احمد و البزار و ابن حبان عن ابن عمر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال أول من يدخل الجنة من خلق اللّه فقراء المهاجرين الذين تسربهم الثغور و تتقى بهم المكاره و يموت أحدهم و حاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء فيقول اللّه تعالى لمن يشاء من ملئكته ايتوهم فحيوهم فيقول الملائكة ربنا نحن سكان سمائك و خيرتك من خلقك فتأمرنا ان نأتى هؤلاء و نسلم عليهم قال انهم كانوا يعبدوننى لا يشركون بي شيئا و تسربهم الثغور و تتقى بهم المكاره يموت أحدهم و حاجته فى صدرة لا يستطيع لها قضاء قال فتاتيهم الملئكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كلّ باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدّار و قيل معناه يلقون فيها تحية اى بقاء دائما و سلاما من الآفات.

٧٦

خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً اى موضع قرار و اقامة

و اخرج مسلم عن ابى سعيد الخدري و ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ينادى مناد ان لكم ان تصحوا فلا تسقنوا ابدا و ان لكم ان تحيوا فلا تموتوا ابدا و ان لكم ان تشبوا فلا تهرموا ابدا و ان لكم ان تنعموا فلا تيئسوا ابدا ..

٧٧

قُلْ يا محمد ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي جملة مستأنفة من عبأت الجيش عبوا اى رتبتهم و هيئتهم كذا فى النهاية يعنى ما يهييكم لدخول الجنة لَوْ لا دُعاؤُكُمْ أباه بالاستغفار و قيل لو لا عبادتكم و قيل لو لا ايمانكم و قيل لو لا دعاؤه إياكم اى الإسلام فاذا أمنتم هياكم لدخول الجنة و قيل ما يعبؤا من العبا بمعنى الثقل يعنى ما يرى ربكم لكم وزنا و قدرا و لا يعتد بكم لو لا دعاؤكم اى عبادتكم و طاعتكم إياه فان شرف الإنسان و كرامته بالمعرفة و الطاعة و الا فهو كالانعام بل هو أضل سبيلا او لو لا دعاؤه إياكم الى الإسلام فاذا أمنتم ظهر لكم قدر و قيل معناه ما يعبؤكم و لا يعتدبكم اى يخلقكم لو لا عبادتكم و طاعتكم يعنى انه خلقكم لعبادته كما قال ما خلقت الجنّ و الانس الّا ليعبدون و

قال البغوي هذا قول ابن عباس و مجاهد و قيل معناه ما يبالى بكم و هذا المعنى ماخوذ من الثقل و الوزن و القدر فان الشي ء الثقيل ذا القدر و الوزن يبالى به فقيل معناه ما يبالى بمغفرتكم ربى لو لا دعاؤكم معه الهة و ما يفعل بعذابكم لو لا شرككم كما قال اللّه تعالى ما يفعل اللّه بعذابكم ان شكرتم و أمنتم و قيل معناه ما يبالى بعذابكم لو لا دعاؤكم إياه فى الشدائد كما يدل عليه قوله تعالى فاذا ركبوا فى الفلك دعو اللّه مخلصين له الدّين و قيل معناه ما خلقكم ربكم و له إليكم حاجة و ليس لكم فى جنبه تعالى قدر الا ان تسئلوه فيعطيكم و تستغفروه فيغفر لكم فما على هذه الوجه نافية و ان جعلتها استفهامية فحلها النصب على المصدر كانّه قيل اى عبا يعبؤا بكم فَقَدْ كَذَّبْتُمْ خطاب لكفار مكة يعنى ان اللّه دعاكم بالرسول الى توحيده و عبادته فقد كذّبتم الرسول فلم تجيبوا فكيف يهيكم لدخول الجنة او فكيف يكون لكم عنده وزن و قدر او فكيف يبالى بعذابكم او فكيف لا يبالى بمغفرتكم فَسَوْفَ يَكُونُ تكذيبكم لِزاماً اى لازما لكم فلا ترزقون التوبة حتى تجازى أعمالكم او المعنى يكون جزاء تكذيبكم لازما لكم يحيق بكم لا محالة او اثره لازما بكم حتى يكبكم فى النار و قال ابن عباس لزاما يعنى موتا و قال ابو عبيدة هلاكا و قال ابن زيد قتالا و قال ابن جرير عذابا دائما لازما و هلاعا مفنيا يلحق بعضكم ببعض

قال البغوي اختلفوا فيه فقال قوم هو يوم بدر قتل منهم سبعون و هو قول ابن مسعود و أبيّ بن كعب و مجاهد يعنى انهم قتلوا يوم بدر و اتصل به عذاب الاخرة لازما روى البخاري فى الصحيح عن ابن مسعود رض قال خمس قد قضين الدخان و القمر و الروم و البطشة و اللزام و قيل اللزام هو عذاب الاخرة و اللّه اعلم.

الحمد للّه رب العلمين و صلى اللّه تعالى على خير خلقه محمد و اله و أصحابه أجمعين

﴿ ٠