سُورَةُ النَّمْلِ مَكِّيَّةٌ

وَهِيَ ثَلاَثٌ وَتِسْعُونَ آيَةً

مكّيّة و هى ثلاث و تسعون اية ربّ يسّر و تمّم بالخير

 بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

_________________________________

١

طس تِلْكَ اشارة الى آيات السورة آياتُ الْقُرْآنِ وَ كِتابٍ مُبِينٍ اى اللوح المحفوظ و إبانته انه خط فيه ما هو كائن فهو تنبيه للناظرين فيه و تأخيره هاهنا باعتبار تعلق علمنا به و تقديمه فى الحجر باعتبار سبقه على القران فى الكتابة. او المراد به القران المبين للاحكام من الحلال و الحرام و غير ذلك و مبين لصحته باعجازه و عطفه على القران كعطف احدى الصفتين على الاخرى و تنكيره للتعظيم. نكر الكتاب هاهنا و عرفه فى الحجر و نكر القران هناك و عرف هاهنا لان القران و الكتاب اسمان علمان لما نزل على محمد صلى اللّه عليه و سلم و وصفان له لانه يقر او يكتب فحيث جاء بلفظ التعريف أريد به العلم و حيث جاء بالتنكير أريد به الوصف.

٢

هُدىً وَ بُشْرى منصوبان حالان من القران و العامل فيهما معنى الاشارة او مجروران بدلان منه او مرفوعان خبران آخران لتلك او خبران لمحذوف اى هى هدى و بشرى لِلْمُؤْمِنِينَ متعلق بهدى و بشرى على سبيل التنازع او ببشرى فقط يعنى هدى لجميع الحلق فمن لم يهتد فبسوء اختياره و بشرى للمؤمنين خاصة.

٣

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ اى يحافظون على فرائضها و سننها و آدابها وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ من تمّة الصلة و الواو للحال او للعطف و تغير النظم بتقديم المسند اليه على الفعل للدلالة على قوة يقينهم و ثباته و قصد الحصر يعنى ما يوقنون بالاخرة حق الإيقان الا هؤلاء الجامعين بين الايمان و الأعمال الصالحة فان الجهد فى الأعمال دليل على ايقانهم. و جاز ان يكون خارجا عن الصلة استينافا كما يدل عليه تغير النظم يعنى الّذين كذلك هم الموقنون لا غير.

٤

إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ القبيحة بتسليط النفس و جعلها مشتهاة لها فَهُمْ يَعْمَهُونَ لا يدركون عواقب أمرها جملة زيّنّا خبر لان و قولهم فهم يعمهون معطوف عليها او هذا خبر لان و الفاء لتضمن الموصول معنى الشرط و زيّنّا حال من فاعل لا يؤمنون بتقدير قد و جملة انّ الّذين لا يؤمنون معترضة لبيان حال من نجاست المذكورين.

٥

أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ فى الدنيا اخبار بما يلحقهم يوم بدر من قتل و اسر و ذل وَ هُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ من غيرهم حيث أكرمهم اللّه من بين الناس حيث بعث فيهم رسولا من أنفسهم يريد ان يطهرهم و يزكيهم و يوصلهم الى أكرم الكرامات فى الدنيا و الاخرة فاختاروا على هذا فى الدنيا القتل و الاسر و فى الاخرة النار المؤيدة المؤصدة جملة أولئك الى آخرها و ما عطف عليها استيناف لبيان عاقبة أمرهم.

٦

وَ إِنَّكَ يا محمد لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ عطف على آيات القران و تنكير الحكيم و العليم للتعظيم يعنى من عند اىّ حكيم و اىّ عليم لا يدرك كنه علمه و لا حكمته أحد و الجمع بين الوصفين مع ان العلم داخل فى الحكمة لعموم العلم و دلالة الحكمة على إتقان الفعل و الاشعار بان علوما منها ما هو حكمة كالعقائد و الشرائع و منها ما ليس كذلك كالقصص و الاخبار بالمغيبات و هذا تمهيد لما يذكر فيه من القصص منها ما قال.

٧

إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ فى مسيره من مدين الى مصر الظرف متعلق باذكر و جاز ان يكون متعلقا بعليم إِنِّي قرأ نافع «و ابو جعفر- ابو محمد» و ابن كثير و ابو عمرو بفتح الياء و الباقون بإسكانها آنَسْتُ اى أبصرت ناراً سَآتِيكُمْ اى امكثوا مكانكم ساتيكم ذكر هاهنا ساتيكم على التيقن و فى القصص لعلىّ اتيكم على الترجي لان الراجي على تقدير حصول رجائه يعد بالإتيان قطعا اشعارا على غرفه و جزمه بما يعدبه و فيه دليل ع لى جواز نقل الحديث بالمعنى و جواز النكاح بغير لفظ النكاح و الترويح مما يؤدى معناه مِنْها بِخَبَرٍ عن الطريق لانه قد ضل الطريق و السين للدلالة على بعد المسافة الوعد بالإتيان و ان ابطا أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قرأ الكوفيون «و يعقوب- أبو محمد» بالتنوين على ان قَبَسٍ بدل منه اوصف له فان الشهاب شعلة من نار ساطعة و القبس مشعلة يقتبس من معظم النار كذا فى القاموس. و الباقون بلا تنوين باضافة الشهاب الى القبس و الاضافة بيانية لجواز اطلاق القبس على الشهاب. و

قال البغوي الشهاب و القبس متقاربان فى المعنى فان القبس هو العود الذي أحد طرفيه تار و ليس فى طرفه الاخر نار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ افتعال من الصلى و هو الإيقاد بالنار اى راجيا ان تستدفئوا بها من البرد و كان فى شدة الشتاء.

٨

فَلَمَّا جاءَها يعنى لمّا قرب موسى من النار التي راها يقال بلغ فلان المنزل إذا قرب منه و ان لم يبلغه بعد نُودِيَ أَنْ بُورِكَ ان مفسرة لما فى النداء معنى القول او التقدير بان بورك على انها مصدرية او مخففة من الثقيلة و التخفيف و ان اقتضى التعويض بلا او قد او السين او سوف لكنه دعاء و هو يخالف غيره فى احكام كثيرة مَنْ فِي النَّارِ وَ مَنْ حَوْلَها روى عن ابن عباس رض و سعيد بن جبير و الحسن معناه قدس من فى النّار و هو اللّه سبحانه على معنى انه تعالى نادى موسى و أسمعه كلامه قيل كان ذلك نوره عزّ و جلّ حسبه موسى نارا فلذلك ذكر موسى بلفظ النار روى مسلم عن ابى موسى قال قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بخمس كلمات فقال ان اللّه لا ينام و لا ينبغى له ان ينام يخفض القسط و يرفعه برفع اليه عمل الليل قبل عمل النهار و عمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفت لاحرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره من خلقه.

و قال سعيد بن جبير كانت النار بعينها و هى احدى حجب اللّه تعالى كما ورد فى بعض الروايات حجابه النار لو كشفها لاحرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره من خلقه و على هذا التأويل هذه الاية من المتشابهات كقوله تعالى هل ينظرون الّا ان يأتيهم اللّه فى ظلل من الغمام و لمّا كان فى هذا الكلام إيهام التحيز و التشبيه نزه اللّه سبحانه نفسه و هو المنزه من كل سوء و عيب فقال وَ سُبْحانَ اللّه رَبِّ الْعالَمِينَ و روى مجاهد عن ابن عباس انه قال بوركت النار و روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رض انه قال سمعت ابيّا يقول ان بوركت النار و من حولها و كلمة من على هذا زائدة و بورك النار و بورك فى النار معناهما واحد فان العرب يقول بارك اللّه و بارك فيه و بارك عليه بمعنى واحد و المعنى بورك فى النار و فيمن حولها و هم الملائكة و موسى عليه السلام و يسمى النار مباركة كما يسمى البقعة مباركة قال اللّه تعالى فى البقعة المباركة و قيل معناه بورك من فى طلب النار او من فى مكان النار بحذف المضاف و هو موسى عليه السلام و من حولها و هم الملائكة الذين حول النار حاضرين هناك فهذه تحية من اللّه لموسى بالبركة كما حيّا ابراهيم على السنة الملائكة حين دخلوا على ابراهيم فقالوا رحمة اللّه و بركاته عليكم اهل البيت و قيل من فى النار هم الملئكة و ذلك ان النور الذي راه موسى كان فيه ملائكة لهم رجل بالتسبيح و التحميد و التقديس و من حولها موسى لانه كان بالقرب منها و قيل من حولها عام شامل لكل من فى ذلك الوادي و حواليهما من ارض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الأنبياء و تصدير الخطاب بذلك بشارة بانه قد قضى له امر عظيم ينتشر بركته فى أقطار الشام و على هذه التأويلات قوله تعالى و سبحن اللّه ربّ العلمين لدفع توهم التشبيه الناشي من سماع كلامه و للتعجيب من عظم ذلك الأمر.

٩

يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللّه الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الضمير الشأن اسم ان و انا اللّه خبرها او الضمير للمنادى اسمها و انا خبرها و اللّه عطف بيان له و العزيز الحكيم صفتان له ممهدتان لما أراد ان يظهره يعنى انا القوىّ القادر على ما يبعد من الأوهام كتقليب العصا حيّة الفاعل لكل ما يفعله بحكمة و تدبير.

١٠

وَ أَلْقِ عَصاكَ عطف على بورك داخل فى حيزان المفسرة يدل عليه قوله تعالى فى غير هذه السورة و ان الق عصاك بعد قوله ان يا موسى انّى انا اللّه بتكرير ان و التقدير نودى هذا المقول و هذا المقول فهو من قبيل عطف المفرد على المفرد و ليس من عطف الإنشاء على الخير فَلَمَّا رَآها اى راى موسى عصاه تَهْتَزُّ تتحرك بالاضطراب كَأَنَّها جَانٌّ اى حية خفيفة فى سرعة سيره و كثرة اضطرابه وَلَّى اى هرب موسى من الخوف مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ اى لم يرجع من عقّب المقاتل إذا كرّ بعد الفرار يا مُوسى لا تَخَفْ جملة النداء و ما بعده فى محل النصب على تقدير القول يعنى

قلنا يا موسى لا تخف من هذه الحية إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ يعنى لاجل قربهم بي و استقرارهم بحضرتي الْمُرْسَلُونَ الجملة فى مقام التعليل لعدم الخوف يعنى الذين يبلغون رسالاتى فانهم يخشوننى وحدي و لا يخشون أحدا غيرى فلا منافاة بين هذه الاية و بين قوله عليه السلام انا أخشاكم باللّه او المعنى لا يخافون مطلقا عند نزول الوحى لفرط الاستغراق او المعنى انهم لا يكون لهم سوء عاقبة فيخافون.

١١

إِلَّا مَنْ ظَلَمَ قيل هذا استثناء متصل و فيه اشارة الى موسى حيث قتل القبطي و المعنى لا يخيف اللّه أنبياءه من أحد غيره الا بذنب أصابه أحدهم و المراد بالظلم الذنب الصغيرة او ترك الأفضل و على هذا قوله ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ يعنى توبة بعد ذنب عطف على ظلم داخل فى الصلة و انما قيد بهذا إيذانا بانه لا يحوز صدور ذنب من الأنبياء و ان كانت صغيرة او قبل النبوة الا مستعقبا للتوبة فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ معطوف على بدل تقديره فانى اغفر له و ارحمه و قيل قوله ثم بدل الى آخره كلام مبتدا معطوف على محذوف بيان لحال من ظلم من الناس كافة تقديره فمن ظلم ثمّ بدّل حسنا بعد سوء فانّى غفور رّحيم. و قيل الاستثناء منقطع لان المرسلين لا يجوز منهم الظلم و على انقطاعه تقديره لكن من ظلم من الناس وهم غير المرسلين فانهم يخافون غير اللّه تعالى و قيل هو استدراك لما يختلج فى الصدور من نفى الخوف عن كلهم مع ان فيهم من فرطت منه صغيرة فالتقدير لكن من صدر منه صغيرة منهم فانه و ان فعلها فقد اتبعها ما يبطلها و استحق به من اللّه مغفرة و رحمة فهو ايضا لا يخاف غير اللّه- لكن هذين التأويلين يقتضيان ان موسى لم يخف من الحية و ذلك غير واقع لقوله فلمّا راها- ولّى يدبّرا و لم يعقّب و قوله تعالى فاوجس فى نفسه خيفة موسى الا ان يراد بنفي الخوف من الأنبياء ففى مطلق الخوف منهم لانتقاء سوء العاقبة نظيره قوله تعالى لا خوف عليهم و لا هم يحزنون لكن سوق الكلام يأبى عنه إذ الموجود المنهي عنه انما هو الخوف من الحية و قال بعض العلماء الا هاهنا بمعنى و لا يعنى لا يخاف لدىّ المرسلون و لا المذنبون التائبون اى هم صلحاء المؤمنين فان غير المعصوم لا يخلو عن ذنب لكن من استدرك ذنبه بالتوبة صار كمن لا ذنب له و هذا التأويل ايضا يناسب نفى مطلق الخوف لا خوف غير اللّه فقط كالتأويلين السابقين «١».

(١) أقول هذا البحث الطويل لا يجدى شيئا و لا يشفى غليل الذكي للمتفطن و الحق ما قاله حكيم الامة المحمدية خاتم المفسرين و المحدثين الولي الكامل الشيخ التهانوى نور اللّه مرقده فى تفسير المسمى ببيان القران فى تفسير قوله تعالى خذها و لا تخف سنعيدها سيرتها الاولى ما نصه. اور موسى عليه السلام كادر جانا بعض نى كما هى كه طبعى هى جو كسى طرح جلالت شاركى منافى نهين اور بعض نى كها هى كه جو حادثه مخلوق كى جانب سى هواس مين تونه درنا كمال هى جيسى ابراهيم عليه السلام اتش نمرودى سى نهين درى اورجو امر خالق كى طرف سى هواس مين درناهى كمال هى كه وه فى الحقيقة حق تعالى سى درنا هى جيسى هواتيز هونى كى وقت جناب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كاگهبرا جانا حديثون مين أيا هى سو چونكه أس تبدل مين مخلوق كاواسطه نه تها أس سى درگئى كه يه كوئى قهر الهى نهو و قال رحمه اللّه تعالى فى رسالته المسماة بمسائل السلوك من كلام ملك الملوك فى تفسير هذه الآية قال العبد الضعيف فيه بقاء الطبائع فى الكاملين حيث خاف عليه السلام خوفا طبعيا و فيه الأمر بتعديل الطبعيات بالعقليات انتهى فالحاصل و فه عليه السلام كان من اللّه تعالى الا من غيره او كان طبعيا و المنتهى عنه هو الخوف العقلي فلا منافاة فلا حاجة الى الدفع ١٢ لفقير الدهلوي.

١٢

وَ أَدْخِلْ يَدَكَ عطف على الق عصاك فِي جَيْبِكَ اى جيب قميصك و هو طرقه كذا فى القاموس و قيل الجيب هو القميص لانه يجاب اى يقطع

قال البغوي قال اهل التفسير كان عليه مدرعة من صوف لاكم لها و لا آزر تَخْرُجْ اى يدك مجزوم فى جواب الأمر بتقدير ان تدخل يدك تخرج بَيْضاءَ نيرة تغلب نور الشمس حال من الضمير المستتر فى تخرج مِنْ غَيْرِ سُوءٍ اى كائنا من غير برص صفة لبيضاء او حال مرادف له او حال من الضمير فى بيضاء فِي تِسْعِ آياتٍ يعنى هاتان آيتان لك فى تسع آيات اى فى جملتها او معها على التسع هى فلق البحر و الطوفان و الجراد و القمل و الضفادع و الذم و الطمسة و الجذب فى بواديهم و الفقصان فى مضارعهم و من عدّ العصا و اليد مع التسع عدّ الأخيرين واحدا و لم يعد الفلق لانه لم يبعث به الى فرعون او التقدير اذهب فى تسع آيات على انه استيناف بالإرسال فيتعلق به قوله إِلى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ و على الأولين تقدير هاهنا مبعوثا او مرسلا على انه حال من فاعل الق و ادخل على سبيل التنازع إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ تعليل للارسال ..

١٣

فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا يعنى جاءهم موسى بها مُبْصِرَةً اى بينة واضحة اسم فاعل بمعنى اسم المفعول اشعارا بانها لفرط وضوحها للابصار صارت بحيث تكاد تبصر نفسها لو كانت مما يبصر او ذات بصر يبصر بها قالُوا يعنى فرعون و قومه هذا سِحْرٌ مُبِينٌ واضح سحريته و جملة لمّا جاءتهم معطوفة على جملة محذوفة معطوفة على نودى تقديره نودى ان الق عصاك و ادخل يدك فى جيبك اذهب فى تسع آيات الى فرعون و قومه او مبعوثا إليهم اذهب إليهم فالقى موسى عصاه و ادخل يده فى جيبه ثم ذهب الى فرعون قومه فلمّا جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين.

١٤

وَ جَحَدُوا بِها اى أنكروا بايتنا انّها من عند اللّه «١» عطف على قالوا وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ اى و قد استيقنتها لان الواو الحال و الاستيقان ابلغ من الإيقان ظُلْماً وَ عُلُوًّا منصوبان على العلة او حالان من فاعل جحدوا يعنى لاجل الظلم و التكبر او ظالمين أنفسهم باستيجارهم النار المؤبدة متكبرين عن الايمان بما جاء به موسى فَانْظُرْ ايها المخاطب نظر استبصار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ كيف خبر لكان قدم عليه لاقتضائه الصدارة و الجملة مفعول لانظر يعنى انظر كيفية عاقبتهم حيث اغرقوا فى الدنيا فادخلوا نارا بعد الموت ..

(١)

قال البيضاوي رحمة اللّه تعالى و حجدوا بها اى فى ظاهر أمرهم إلخ فلا يردان الجحود بعد اليقين مستبعد ١٢ الفقير الدهلوي.

١٥

وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً بذات اللّه سبحانه على حسب الطاقة البشرية و بصفاته و أحكامه و بأحوال المبدا و المعاد و منطق الطير و الدواب و تسبيح الجبال و لانه الحديد وَ قالا شكرا للنعمة الْحَمْدُ للّه الَّذِي فَضَّلَنا بالنبوة و الكتاب و غير ذلك عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ عطفه بالواو اشعارا بان ما قالا بعض ما أتيا به فى مقابلة النعمة فهو معطوف على محذوف تقديره فعلا على حسب ما علما و عرفا حق النعمة و قالا هذا القول و لولا تقدير المحذوف لكان المناسب الفاء موضع الواو كما فى قولك أعطيته نشكر و فى الاية دليل على شرف العلم و كونه موجبا للفضل و تقدم العلماء على من سواهم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب و ان العلماء ورثة الأنبياء و ان الأنبياء لم يورثوا دينارا و لا درهما انما ورثوا العلم فمن اخذه أخذ يحظ وافر. رواه احمد و الترمذي و ابو داود و ابن ماجة من حديث كثير بن قيس و سماه الترمذي قيس بن كثير و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم الحديث رواه الترمذي عن ابى امامة الباهلي و فيها تحريض على الشكر على نعمة العلم و على ان يتواضع و يعتقد بانه و ان فضل على كثير فقد فضل عليه كثير و فوق كلّ ذى علم عليم-.

١٦

وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ نبوته و ملكه و علمه كذا اخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن ابى حاتم عن قتادة و احتجّت الروافض بهذه الاية على ان الأنبياء يورثون كغيرهم و هى حجة عليهم لا لهم لدلالتها على انه ورث سليمان دون سائر أولاد داود و قد كان لداود تسعة عشر ابنا- و الإرث عبارة عن ان ينقل شى ء الى أحد بعد ما كان لغيره من غير عقد جرى بينهم و لا ما يجرى مجرى العقد سواء كان بينهما قرابة اولا قال اللّه تعالى و أورثناها بنى إسرائيل و أورثكم ارضهم و ديارهم- و معنى قوله صلى اللّه عليه و سلم لا نورث انه لا يملك أحد من الناس مال نبى بعد موته بل يكون ماله موقوفا محبوسا على ملك اللّه تعالى

قال البغوي اعطى سليمان ما أعطي داؤد و زيد له تسخير الريح و الشياطين و قال و قال مقاتل كان سليمان أعظم ملكا من داود و أقضي منه و كان داود أشد تعبدا من سليمان و كان سليمان شاكرا لنعم اللّه قلت و كذا داود وَ قالَ سليمان يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ فيه شكر لنعمة اللّه عليه و دعاء للناس الى التصديق بذكر المعجزة. و النطق و المنطق عبارة عما يعبر به عما فى الضمير مفردا كان او مركبا فى القاموس نطق ينطق نطقا و منطقا و نطوقا تكلم بصوت و حروف يعرف بها المعاني و لما كان فهم المعاني للناس منحصرا فيما يتلفظ به الإنسان زعموه من خواص الإنسان. و لمّا كان سليمان عليه السلام يفهم من صوت الطير ما فى ضميرها كما كان يفهم من كلام الإنسان سماه منطقا

قال البغوي روى عن كعب قال صاح ورشان عند سليمان فقال أ تدرون ما يقول قالوا لا قال انه يقول. لدوا للموت و ابنوا للخراب.

و صاحت فاختة فقال أ تدرون ما تقول قالوا لا قال انها تقول ليت هذا الخلق لم يخلق و صلح طاءوس فقال أ تدرون ما يقول قالوا لا قال انه يقول كما تدين تدان و صاح هدهد فقال أ تدرون ما يقول قالوا لا قال انه يقول من لا يرحم لا يرحم و صاح صرد فقال أ تدرون ما يقول قالوا لا قال انه يقول استغفروا للّه يا مذنبون قال و صاحت طيطوى «١» فقال أ تدرون ما تقول قالوا لا قال فانها يقول كل هى ميّت و كل جديد بال و صلح خطاف فقال أ تدرون ما تقول قالوا لا قال انه يقول قدموا خيرا تجدوه و هدرت حمامة فقال أ تدرون ما تقول قالوا لا قال تقول سبحان ربى الا على ملأ سماواته و ارضه و صاح قمرى فقال أ تدرون ما يقول قالوا لا قال فانه يقول سبحان ربى الا على قال و الغراب يدعوا على العشار و الحدأة تقول كل شى ء هالك الا اللّه و القسطاة تقول من سكت سلم و الببغاء يقول ويل لمن الدنيا همه و الضفدع يقول سبحان ربى القدوس و البازي يقول سبحان ربى و بحمده و الضفدعة سبحان المذكور بكل لسان. و عن مكحول قال صاح دراج عند سليمان فقال أ تدرون ما يقول قالوا لا قال فانه يقول الرحمان على العرش استوى. و عن فرقد السيحى قال مرّ سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه و يميل ذنبه فقال أ تدرون ما يقول هذا البلبل قالوا اللّه و نبيه اعلم قال انه يقول أكلت و نصف تمرة فعلى الدنيا العفا- و روى ان جماعة من اليهود قالوا لابن عباس انا سائلون عن سبعة أشياء فان اخبرتنا امنّا صدّقنا قال سلوا تفقها و لا تسئلوا تعنتا قالوا أخبرنا ما يقول القنبر «٢» فى صفيره و الديك فى صقيعه و الضفدع فى نقيفه و الحمار فى تهيقه و الفرس فى صهيله و ما ذا يقول الزرزور و الدراج. قال نعم اما القنبر فيقول اللّهم العن مبغضى محمد و مبغضى ال محمد و الديك يقول اذكروا اللّه يا غافلون و الضفدع يقول سبحان المعبود فى لجج البحار و اما الحمار فيقول اللّهم العن الغشار و اما الفرس يقول إذا التقى الصفان سبوح قدوس رب الملائكة و الروح و اما الزرزور يقول اللّهم انى أسئلك قوت يوم بيوم و اما الدراج يقول الرحمان على العرش استوى فاسلم اليهود و حسن إسلامهم.

(١) طيطوى كنينوى ضرب من القطا او غيره كذا فى القاموس ١٢ الفقير الدهلوي [.....].

(٢) القنبر هكذا فى الأصل قال فى القاموس القبر كشكرّ و صرد طائر الواحدة بهاء و يقال القنبراءة قنابر ١٢ الفقير الدهلوي.

و روى عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده عن الحسين بن على عليهم السلام قال إذا صاح النسر قال ابن آدم عشق ما شئت آخره الموت و إذا صاح العقاب قال السلامة فى البعد من الناس و إذا صاح القنبر قال الهى العن مبغضى ال محمد و إذا صاح الخطاف قرا الحمد للّه ربّ العالمين و يمد الضّالّين كما يمد القاري. قلت ما روى عن كعب شرح أصوات الطيور عن سليمان عليه السلام و كذا ما روى عن مكحول و عن فرقد عنه عليه السلام يحتمل حمله على ان كل واحد منها واقعة هان و لا يدل على انحصار نطقهم فى الكلمات المذكورة و ما قص اللّه تعالى فى هذه السورة قصة النمل و الهدهد صريح فى انها تتكلم بكل ماسخ لها لكن ما روى من سوال اليهود و عن ابن عباس رضى اللّه عنه و جوابه إياهم يدل على انحصار مقالهم فيما ذكر فان صح هذا الرواية لزم تأويلها و اللّه اعلم وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ المراد به كثرة ما اولى كما يقال فلان يقصد كل أحد و يعلم كل شى ء و مثله و أوتيت من كلّ شى ء و الضمير فى علّمنا و أوتينا له و لابيه عليهما السلام اوله و لاتباعه فان اتباعه يأخذون منه ما علمه اللّه و أعطاه اوله وحده تعظيما على عادة الملوك لمراعاة قواعد السياسة. و قال ابن عباس المراد كل شى ء من امر الدنيا و الاخرة و قال مقاتل يعنى النبوة و و الملك و تسخير الشياطين و الرياح إِنَّ هذا العطاء لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ يعنى ليس هذا باستحقاق منّا او جزاء لاعمالنا بل تفضل من اللّه تعالى او المعنى زيادة ظاهرة على من عدانا. و هذا القول وارد على الشكر كقوله صلى اللّه عليه و اله و سلم انا سيد ولد آدم و لا فخر آدم و من دونه تحت لوائى يوم القيامة امتثالا لقوله تعالى و امّا بنعمة ربّك فحدّث

قال البغوي روى ان سليمان على نبينا و عليه الصلاة و السلام ملك مشارق الأرض و مغاربها فملك سبع مائة سنة و ستة أشهر جميع اهل الدنيا الجن و الانس و الطير و الدوابّ و السباع و اعطى مع ذلك العلم بمنطق كل شى ء و فى زمنه صنعت الصنائع العجيبة.

١٧

وَ حُشِرَ اى جمع لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فى مسير له فَهُمْ يُوزَعُونَ اى يكفون و يحبسون اى يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا و فيه اشارة الى انهم مع كثرتهم لم يكونوا مبعدين. فى القاموس وزعته اى كففته و منه الوزعة جمع وازع و هم المانعون من المحارم و الكلب و الزاجر و التوزيع القسمة و التفريق كالايزاع و التوزع و قال مقاتل يوزعون اى يساقون و قال السدىّ يوقضون قال محمد بن كعب كان معسكر سليمان عليه السلام مائة فرسخ خمسة و عشرون منها للجن و خمسة و عشرون منها للانس و خمسة و عشرون منها للطير خمسة و عشرون منها للوحش و كان له الف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاث مائة منكوحة و سبع مائة سرية يأمر الريح العاصف فترفعه و يأمر الرخاء فتسيره فاوحى اللّه اليه و هو يسير بين السماء و الأرض انى قد زدتّ فى ملكك انه لا يتكلم أحد من الخلائق الا جاءت به الريح و أخبرتك.

١٨

حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ وقف الكسائي بالياء فقال وادي و الباقون بغير ياء النَّمْلِ تعدية الإتيان بعلى اما لان إتيانهم كان من عال و اما لان المراد قطعه من قولهم اتى على الشي ء إذا أنفده و بلغ آخره روى عن وهب بن منبه عن كعب كان سليمان إذا ركب حمل اهله و خدمه و حشمه و قد أخذ مطابخ و مخابز فيها تنانير الحديد و قدور عظام تسع فى قدر منها عشر جزائر و قد اتخذ ميادين الدواب له امامه فيطبخ الطباخون و يخبز الخيارون و يجرى الدواب من بين يديه بين السماء و الأرض و الريح تهوى فسار من إصطخر الى اليمن فسلك مدينة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال هذه دار هجرة نبى اخر الزمان طوبى لمن أمن به و طوبى لمن اتبعه و راى حول البيت أصناما تعبد من دون اللّه فلما جاوز سليمان البيت بكى البيت فاوحى اللّه الى البيت ما يبكيك فقال يا رب أبكاني ان هذا نبى من أنبيائك و قوم من أوليائك مرو ابى و لم يصلّوا عندى و الأصنام تعبد حولى من دونك فاوحى اللّه اليه ان لاتبك فانى سوف املؤك وجوها سجدا و انزل فيك قرأنا جديدا او ابعث منك نبيا فى اخر الزمان أحب انبيائى و اجعل فيك عمارا من خلقى يعبدوننى و افرض على عبادى فريضة يدفون إليك دفيف «الدّفيف السير الغير الشديد كذا فى النهاية منه رح» النسور الى و كرها و يجنون إليك حنين الناقة الى ولدها و الحمامة الى بيضها و أطهرك من الأوثان و عبده الشياطين ثم مضى حتى مرّ بواد السدير واد من الطائف فاتى على واد النمل هكذا قال كعب انه واد بالطائف و قال مقاتل و قتادة هو ارض بالشام و قيل هو واد كان يسكنه الجن و أولئك النمل مراكبهم قال فرق الحميرى كان نمل ذلك الوادي أمثال الذباب و قيل كالبخاتى و المشهور انه النمل الصغير قالَتْ نَمْلَةٌ قال الشعبي كانت تلك النملة ذات جناحين و قيل كانت نملة عرجا و قال الضحاك كان اسمها طاحية و قال مقاتل كان اسمها حذمى يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لم يقل ادخلن لان الإنسان إذا تكلم و هو يرى غيره من الحيوانات غير عاقلة فيجعل لها ضمائر الجمادات كما يجعل للنساء ضمائرها الحاقا اياهن بغير ذوى العقول لضعف عقولهن و اما الحيوانات إذا تكلم بعضها بعضا ترى أنفسها من ذوى العقول فتخاطب العقلاء فحكى اللّه سبحانه قول النملة كما قالت لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ نهى لهم عن الحطم و المراد نهيهن عن التوقف و البروز كيلا يؤدى الى حطمهم اياهن كقولهم لا ارينك هاهنا اى لا تقف هاهنا فهو استيناف او بدل من الأمر لا جواب له فان النون لا تدخله فى السعة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ انهم يحطمونكم و لو شعروا لم يفعلوا كانها شعرت عصمة سليمان و أصحابه من الإيذاء عمدا. فويل للروافض لم يشعروا شعور النملة حتى نسبوا الظلم الى اصحاب سيد الأنبياء-

فان قيل كيف يتصور الحطم من سليمان و جنوده و كانت الريح تحمل سليمان و جنوده على نساط بين السماء و الأرض قيل كان بعض جنوده ركبانا و منهم مشاة على الأرض تطوى لهم و قيل يحتمل ان يكون هذا قيل تسخير الريح لسليمان. و قال بعض اهل العرفان معناه لا يحطمنكم اشتغالكم بروية جنود سليمان و طمكه و ما أعطاه اللّه من زهرة الحيوة الدنيا فيشغلكم عن ذكر اللّه و يهلككم فسمع سليمان قولها من ثلاثة أميال كذا قال مقاتل و ذلك لما انه كلما كان يتكلم خلق الا حملت الريح فالقته فى مسامع سليمان.

١٩

فَتَبَسَّمَ سليمان عطف على محذوف تقديره فسمع سليمان مقالها و أدرك معناها ففرح بما سمع و أدرك ما لا يسمع و لا يدرك غيره و بوصفها إياه و جنوده بالعدل او تعجب من حذرها و تحذيرها و اهتدائها الى مصالحها فتبسم سرورا او تعجبا ضاحِكاً حال من فاعل تبسم يعنى تبسم مبالغا فى التبسم و أصلا الى الضحك و جاز ان يكون مصدرا اى تبسم تبسما شديدا كانه ضحك على طريقة قمت قائما قال الرجاج اكثر ضحك الأنبياء التبسم و قيل كان اوله التبسم و آخره الضحك. عن عائشة قالت ما رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قط ضاحكا مستجمعا حتى ارى لهواته انما كان يتبسم رواه البخاري و عن عبد اللّه بن الحارث بن جزء ما رايت أحدا اكثر تبسما من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رواه الترمذي مِنْ قَوْلِها اى لاجل قول النملة فحبس جنوده حتى دخل النمل مساكنهم وَ قالَ شكر اللّه و هضما لنفسه من أداء الشكر و استعانة من اللّه على شكره رَبِّ أَوْزِعْنِي قرأ ورش و البزي بفتح الياء و الباقون بإسكانها و المعنى الهمنى قيل هذا ايضا بمعناه الحقيقي كما ان معناه الحبس و المنع كذا فى القاموس و

قال البيضاوي معناه اجعلنى أزع شكر نعمتك عندى اى اكفه و ارتبطه لا ينفلت عنى بحيث لا انفك عنه و قال بعض المحققين معناه اجعلنى بحيت أزع اى احبس نفسى عن الكفر و قيل معناه احبس نفسى عن كل شى غيرك أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ فان الانعام على الوالدين و جعل أحد ولدا الخيار الناس نعمة عليه قال اللّه تعالى الحقنا بهم ذرّيّتهم و ما ألتناهم من عملهم من شى ء وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ فى بقية عمرى وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي زمرة عِبادِكَ الصَّالِحِينَ قال ابن عباس يريد مع ابراهيم و اسمعيل و اسحق و يعقوب و من بعدهم من الأنبياء.

٢٠

وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ اى طلبها و بحث عنها و التفقد طلب ما فقد فلم يجد فيها الهدهد و كان سبب تفقده ان سليمان كان إذا نزل منزلا تظله جنده الطير من الشمس فأصابته من موضع الماء تحت الأرض كما يرى فى الزجاجة و يعرف قربه و بعده فينقر الأرض فتجئ الشياطين فيسلخونه و يستخرجون الماء. كذا اخرج ابن ابى شيبة و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و الحاكم و صححه عنه قال سعيد بن جبير لما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن ازرق يا وصاف انظر ما يقول ان الصبى يضع الفخ و يحثو عليه التراب فيجئ الهدهد و لا يبصر الفخ حتى يقع فى عنقه فقال له ابن عباس ويحك ان القدر إذا جاء حال دون البصر. و فى رواية إذا جاء القضاء و القدر ذهب و عمى البصر. فنزل سليمان منزلا فاحتاج الى الماء فطلبوا فلم يجدوا فتفقد الهدهد ليدل على الماء فلم ير الهدهد و ظن انه حاضر و لم يره لساتر او غير ذلك فَقالَ هذه الجملة معطوفة على تفقّد الطّير و هى معطوفة على محذوف معطوف على و حشر لسليمان جنوده تقديره و امر الطيور بالاظلال فوقع الشمس على سريره فنظر و تفقّد الطّير او يقال حشر لسليمان جنوده فنزل منزلا فلم يجد الماء فطلب الهدهد و تفقّد الطّير فقال ما لِيَ قرأ عاصم و ابن كثير و الكسائي و هشام «و ابن وردان بخلاف عنه. ابو محم» بفتح الياء و الباقون بإسكانها لا أَرَى الْهُدْهُدَ الاستفهام للتعجب و جملة لا ارى حال من الضمير للمتكلم و العامل فيه معنى التعجب فلما لم يره بعد التفقد و لاح له انه غائب فاضرب عن ذلك و سال عن صحة ما لاح له فقال أَمْ كانَ أم منقطعة بمعنى بل و الهمزة يعنى بل أ كان الهدهد مِنَ الْغائِبِينَ و لمّا ثبت انه غائب قال.

٢١

لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً ليعتبر به أبناء جنسه قيل العذاب الشديد ان ينتف ريشه و ذنبه و يلقيه فى الشمس ممعطا لا يمتنع من النمل و لا من هو أم الأرض و قال مقاتل لاطلينّه بالقطران و لاشمسنّه و قيل لاودعنه القفص و قيل لافرقنّ بينه و بين الفه و قيل لاحبسته مع ضده و قيل اولا لزمنه خدمة اقرانه و كان التعذيب جائزا له عليه السلام أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي قرأ ابن كثير بنونين الاولى مشددة مفتوحة و الثانية نون الوقاية و الباقون بنون واحدة مشيددة مكسورة بِسُلْطانٍ مُبِينٍ اى بحجة بينة فى غيبته و عذر ظاهر و الحلف فى الحقيقة على أحد الاقرين بتقدير عدم الثالث لكن لمّا اقتضى ذلك وقوع أحد الثلاثة ثلّث المحلوف عليه بعطفه عليهما و جاز ان يكون او فى او لياتينّى بمعنى الّا ان كما فى قولك لالزمنك او تعطينى حقى يعنى الا ان تعطينى حقى ..

٢٢

فَمَكَثَ الهدهد قرا عاصم «اى روح ابو محمد» و يعقوب بفتح الكاف و الباقون بضمها و هما لغتان غَيْرَ بَعِيدٍ اى مكثا غير طويل او زمانا غير مديد يريد به الدلالة على سرعة رجوعه خوفا من سليمان على نفسه و كان سبب غيبة الهدهد على ما ذكره العلماء ان سليمان لمّا فرغ من بناء البيت المقدس عزم على الخروج الى ارض الحرم و امام هناك ما شاء اللّه ان يقيم و كان ينحر كل يوم طول مقامه بمكة خمسة آلاف ناقة و يذبح خمسة آلاف ثور و عشرين الف كبش و قال لمن حضره من اشراف قومه ان هذا مكان يخرج منه نبىّ عربىّ صفته كذا يعطى النصر على جميع من ناداه و يبلغ هيبته مسيرة شهر القريب و البعيد عنده سواء لا تأخذه فى اللّه لومة لائم قالوا باىّ دين يدين يا نبى اللّه قال بدين الحنيفة فطوبى لمن أدركه و أمن به فقالوا كم بيننا و بين خروجه قال مقدار الف عام فليبلّغ الشاهد منكم الغائب فانه سيد الأنبياء و خاتم الرسل. قال فاقام بمكة حتى قضى نسكه ثم خرج من مكة و سار صباحا نحو اليمن و وافى صنعاء وقت الزوال و ذلك مسيرة شهر فراى أرضا حسنا تزهر خضرتها فاحب النزول بها و يصلى و يتغدّى فلمّا نزل قال الهدهد ان سليمان قد اشتغل بالنزول فارتفع نحو السماء فانظر الى طول الدنيا و عرضها ففعل ذلك فنظر يمينا و شمالا فراى بستانا لبلقيس فسال الى الخضرة فوقع فيه فاذا هو بهدهد فهبط اليه و كان اسم هدهد سليمان يعفور و اسم هدهد اليمن عنفير فقال عنفير اليمن ليعفور سليمان من اين أقبلت و اين تريد قال أقبلت من الشام مع صاحبى سليمان بن داود فقال من سليمان قال ملك الجن و الانس و الشياطين و الطير و الوحوش و الرياح فمن اين أنت قال من هذه البلاد قال و من ملكها قال امراة يقال لها بلقيس و ان لصاحبكم ملكا عظيما و لكن ليس ملك بلقيس دونه ملكة اليمن كلها و تحت يدها اثنى عشر الف قائد تحت يد كل قائد مائة الف مقاتل فهل منطلق معى حتى تنظر الى ملكها قال أخاف ان تفقدنى سليمان فى وقت الصلاة إذا احتاج الى الماء قال الهدهد اليماني ان صاحبك يسره ان تأتيه بخير هذه الملكة فانطلق معه و نظر الى بلقيس و ملكها و ما رجع الى سليمان الا وقت العصر قال فلمّا نزل سليمان و دخل عليه وقت الصلاة و كان نزل على غير الماء فسال الجن و الانس و الشياطين عن الماء فلم يعلموا فتفقّد الطير ففقد الهدهد فدعا عريف الطير و هو النسر فساله عن الهدهد فقال أصلح اللّه الملك انا لا أدرى اين هو و ما أرسلته فغضب عند ذلك ثم قال لاعذّبنّه عذابا شديدا او لاذبحنّه او لياتينّى بسلطان مبين ثم دعا العقاب سيد الطير فقال علىّ بالهدهد الساعة فرفع العقاب دون السماء حتى التزق بالهواء فنظر الى الدنيا كالقصعة بين يدى أحدكم ثم التفت يمينا و شمالا فاذا هو بالهدهد مقبلا من نحو اليمن فانقض العقاب نحوه يريده فلما راى الهدهد ذلك علم ان العقاب يقصده بسوء فناشده اللّه الذي قواك و أقدرك علىّ الا رحمتنى و لم تتعرض لى بسوء قال قولى عنه العقاب فقال له ويلك ثكلتك أمك ان نبى اللّه قد حلف ان يعذبك او يذبحك ثم طارا متوجهين نحو سليمان فلمّا انتهيا الى العسكر تلقاه المنسر و الطير فقالوا له ويلك اين غبت فى يومك هذا لقد توعدك نبى اللّه و أخبره بما قال فقال الهدهد ما استثنى رسول اللّه قالوا بلى قال او ليايتينّى بسلطان مبين قال فنجوت إذا ثمّ طار العقاب و الهدهد حتى أتيا سليمان و كان قاعدا على كرسيه فقال العقاب قد أتيتك به يا نبى اللّه فلما راه الهدهد رفع راسه و ارخى ذنبه و جناحيه يجرهما على الأرض تواضعا لسليمان فلما دنى منه أخذ برأسه فمده اليه فقال له اين كنت لا عذبنك عذابا شديدا فقال الهدهد اذكر و قوفك بين يدى اللّه عزّ و جلّ فلمّا سمع سليمان ذلك ارتعد و عفا عنه ثم ساله فقال ما الّذى ابطاك عنى فَقالَ الهدهد عطف على محذوف تقديره فانى فقال أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ الإحاطة العلم بالشي ء من جميع جهاته و استعماله فى غير علم اللّه سبحانه اما بطريق المجاز او المبالغة و المعنى علمت مستيقنا ما لم تعلم و فى مخاطبته إياه بذلك تنبيه على ان فى ادنى خلق اللّه تعالى من أحاط علما ما لم يحط به سليمان ليتحاقر اليه نفسه و يتصاغر لديه علمه و فيه دليل على بطلان قول الروافض ان الامام لا يخفى عليه شى ء و لا يكون فى زمانه اعلم منه وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ اسم بلد باليمن بينها و بين صنعاء مسيرة ثلاثة ايام قرا ابو عمرو و البزي من سبا و بسبا فى سورة سبأ مفتوحة الهمزة بلا تنوين غير منصرف على تأويل البلدة او المدينة

و قرا قنبل ساكنة الهمزة على نية الوقف و الباقون بكسر الهمزة و التنوين منصرفا لما كان فى الأصل اسم رجل.

قال البغوي جاء فى الحديث ان النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم سئل عن سبا فقال كان رجلا له عشرة من البنين تيامن منهم ستة و تشام اربعة يعنى ستة منهم أخذوا اليمن وطنا و الباقون أخذوا الشام وطنا بِنَبَإٍ يَقِينٍ اى بخبر متيقن قال سليمان و ماذك قال.

٢٣

إِنِّي وَجَدْتُ اى أصبت امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ صفة لامراة كان اسمها بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان و كان أبوها ملك عظيم عظيم الشأن قد ولده أربعون ملكا و هو فى آخرهم و كان يملك ارض اليمن كلها و كان يقول لملوك الأطراف ليس أحد منكم كفوا لى و ابى ان يتزوج فيهم فزوجوه امراة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن فولدت له بلقيس و لم يكن له ولد غيرها. و ورد فى الحديث ان احدى أبوي بلقيس كان جنيّا فلمّا مات ابو بلقيس طمعت فى الملك فطلبت من قومها ان يبايعوها فاطاعها قوم و عصاها آخرون فملّكوا عليهم رجلا و افترقوا فرقيتن كل فرقة استولت على طرف من اليمن ثم ان الرجل الّذى ملّكوه أساء السيرة فى اهل مملكته حتى كان يمديده الى حرم رعيته و يفجر بهن فاراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه فلما رات بلقيس ذلك أدركتها الغيرة فارسلت اليه تعرض نفسها عليه و أجابها الملك و قال ما منعنى ان ابتداك بالخطبة الا الياس منك فقالت لا ارغب عنك كفو كريم فاجمع رجال قومى فاخطبنى إليهم فجمعهم و خطبها إليهم فقالوا لا نراها تفعل ذلك فقال لهم انما ابتدأت و انا أحب ان تسمعوا قولها فجاءوها فذكرو لها فقالت نعم أحببت الولد فزوجوها فلمّا زفت اليه خرجت فى أناس كثير من جيشها فلما راته سقته الخمر حتى سكر ثم جزت رأسه و انصرفت من الليل الى منزلها فلمّا أصبح الناس راوا الملك قتيلا و رأسه منصوب على باب داره فطموا ان تلك المناكحة كانت مكرا و خديعة منها فاجتمعوا إليها و قالوا أنت بهذا الملك أحق من غيرك (حديث):- روى احمد و البخاري فى الصحيح و الترمذي و النسائي عن ابى بكرة رضى اللّه عنه قال لما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اهل فارس ملّكوا عليهم بنت كسرى قال لن يفلح قوم و لّوا أمرهم امراة قوله تعالى وَ أُوتِيَتْ حال بتقدير قد من فاعل تملكهم مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ يحتاج اليه الملوك من الآلة و العدة او المراد به الكثرة كما سبق وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ حال بعد حال اى سرير ضخم كان مضروبا من الذهب مكللا بالدر و الياقوت الأحمر و الزبرجد الأخضر و قوائمه من الياقوت و الزمرد عليه سبعة أبيات على كل بيت باب يغلق. روى ابن ابى حاتم عن زهير بن محمد قال سرير من ذهب و صفحتاه موصول بالياقوت و الزبرجد طوله ثمانون ذراعا فى عرض أربعين ذراعا و قال ابن عباس كان عرش بلقيس ثلاثون ذراعا فى ثلاثين ذراعا و طوله فى السماء ثلاثون ذراعا و قال مقاتل كان طوله ثمانين ذراعا و ارتفاعه ثلاثين ذراعا.

٢٤

وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللّه ظرف متعلق بيسجدون وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ القبيحة من عبادة الشمس و غيرها جملة و زين مع ما عطف عليه حال من فاعل يسجدون بتقدير قد فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ المستقيم فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ اليه عطف على يسجدون.

٢٥

أَلَّا يَسْجُدُوا قرأ ابو جعفر و الكسائي «رويس ابو محمد» الا بالتخفيف على انه حرف تنبيه و يا للنداء و مناداه محذوف تقديره الا يا هؤلاء اسجدوا قال ابو عبيدة امر مستأنف من اللّه تعالى و جاز كونه امرا من سليمان لمن حضره و على هذا حذفت همزة الوصل فى الدرج و الالف من حرف النداء لالتقاء الساكنين فى اللفظ و فى خط مثبتان و إذا قف وقف على الا او على يا و ابتدا بقوله اسجدوا

و قرا الباقون الّا يسجدوا بالتشديد لاجل ادغام نون ان المصدرية فى اللام من حرف النفي الداخلة على المضارع و ان مع صلته بتقدير حرف الجر متعلق بزين لهم او بصدهم- و المعنى زيّن لهم الشّيطان أعمالهم فصدّهم لئلا يسجدوا للّه او يقال ان لا يسجدوا بدل من أعمالهم يعنى زين لهم الشيطان ان لا يسجدوا و جاز ان يكون لا زائدة و ان مع صلتها متعلق بلا يهتدون تقديره فهم لا يهتدون ان يسجدوا للّه الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الخب ء بمعنى المخبؤ و هو ما خفى غيره و إخراجه إظهاره قال اكثر المفسرين خب ء السماوات المطر و خب ء الأرض النبات و قيل يريد علم غيب السموات و الأرض و اللفظ يعم اشراق الكواكب و إنزال المطر و إنبات النبات و إخراج ما فى الشي ء من القوة الى الفعل و إخراج ما فى الإمكان و العدم الى الوجوب و الوجود و معلوم انه يختص بالواجب لذاته فهو يستحق بالاستحقاق للسجود دون غيره وَ يَعْلَمُ ما تُخْفُونَ فى سرائركم وَ ما تُعْلِنُونَ فيجب الحذر من اشراكه غيره فى العبادة سرّا و علانية قرا الكسائي و حفض بالتاء فيهما على الخطاب و الباقون بالياء على الغيبة.

٢٦

اللّه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ بدل من الضمير او خبر ثان اللّه و الجملة تعليل لا سجدوا يعنى فهو المستحق للسجود لا غير.

٢٧

قالَ سليمان للّهدهد سَنَنْظُرُ اى سنستعرف مشتق من النظر بمعنى التأمل أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ غيّر النظر و لم يقل أم كذبت للمبالغة (حيث جعلها منسلكا فى الكاذبين معدودا فيهم و يلزمه كونها كاذبا البتة) و رعاية الفواصل. فدلهم الهدهد على الماء فاحتفر و الركايا و روى الناس و الدواب ثم كتب كتابا. من عبد اللّه سليمان بن داود الى بلقيس ملكة سبا بسم اللّه الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى اما بعد فلا تعلوا علىّ و أتوني مسلمين قال ابن جريج لم يزد سليمان على ما قص اللّه فى كتابه و قال قتادة كذلك الأنبياء يكتب جملا لا يطيلن و لا يكثرون فلما كتب الكتاب و طبقه بالمسك و ختمه بخاتمه قال للّهدهد.

٢٨

اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ قرأ ابو عمرو و عاصم و حمزة بإسكان الصاد و ابو جعفر و يعقوب باختلاسها كسرا و الباقون بإشباع الكسرة إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ اى تنح عَنْهُمْ الى مكان قريب فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ اى ماذا يرجع بعضهم الى بعض من القول و أخذ الهدهد الكتاب و اتى به بلقيس و كانت بأرض يقال لها مارب من صنعاء الى ثلاثة ايام فوافاه فى قصرها و قد غلقت الأبواب و أخذت المفاتيح فوضعتها تحت رأسها فاتاها الهدهد و هى نائمة مستلقية قفاها فالقى الكتاب على نحرها كذا اخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن ابى حاتم عن قتادة- و قال مقاتل حمل الهدهد الكتاب بمنقاره حتى وقف على رأس المرة و حولها القادة و الجنود فرفرف ساعة و الناس ينظرون اليه حتى رفعت المرأة راسها فالقى الكتاب فى حجرها و قال ابن منبه و ابن زيد كانت كوة مستقبلة الشمس تقع فيها حين تطلع فاذا نظرت إليها سجدت لها فجاء الهدهد الكوة فسدها بجناحيه فارتفعت الشمس فلم تعلمها فلما استبطأت الشمس قامت تنظر فرم الصحيفة إليها. فاخذت بلقيس الكتاب و كانت قارية فلما رات الخاتم ارتعدت و خضعت لان ملك سليمان كان فى خانمه و عرفت ان الّذى أرسل الكتاب أعظم ملكا منها فقرأت الكتاب و تأخر الهدهد غير بعيد فجاءت ففعدت على سرير ملكها و جمعت الملأ من قومها و هم اثنا عشر الف قائد مع كل قائد مائة الف مقاتل و قال ابن عباس كان مع بلقيس مائة الف قيل مع كل قيل مائة الف و القيل الملك دون الملك الأعظم و قال قتادة و مقاتل كان اهل مشورتها ثلاث مائة و ثلاثة عشر رجلا كل رجل منهم على عشرة الان قال فجاءوا فاخذوا مجالسهم.

٢٩

قالَتْ لهم بلقيس يا أَيُّهَا الْمَلَأُ و هم اشراف الناس و كبراؤهم إِنِّي أُلْقِيَ قرأ نافع «و ابو جعفر- ابو محمد» بفتح الياء و الباقون بإسكانها إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ قال عطاء و الضحاك سمته كريما لانه كان مختوما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كرامة الكتاب ختمه رواه الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس

و اخرج ابن مردوية فى القى الىّ كتاب كريم قال مختوم و روى عن ابن جريح كريم اى حسن و هو اختيار الزجاج و روى عن ابن عباس كريم اى شريف لشرف صاحبه قيل سمته كريما لغرابة شانه إذ كانت مستلقية فى بيت مغلقة الأبواب فدخل الهدهد من كوة و ألقاه على نحرها بحيث لم تشعر به و قيل سمته كريما لكونه مصدرا ببسم اللّه الرحمان الرحيم ثم بينت ممن الكتاب فقالت.

٣٠

إِنَّهُ اى الكتاب او العنوان مِنْ سُلَيْمانَ ثم بينت ما فيها فقالت وَ إِنَّهُ اى المكتوب او المضمون بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٣١

أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ ان مفسرة او مصدرية و هو لصلته خبر محذوف اى هو او المقصود ان لا تعلوا او بدل من كتاب و المعنى لا تتكبروا و لا تمتنعوا من الاجابة فان ترك الاجابة من العلو و التكبر وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ مؤمنين او منقادين و هذا كلام فى غاية الوجازة مع كمال الدلالة على المقصود لاشتماله على البسملة الدلالة على ذات الصانع و صفاته صريحا و التزاما و النهى عن الترفع الذي هى أم الرذائل و الأمر بالإسلام الجامع لامهات الفضائل و ليس فيه الأمر بالانقياد قبل اقامة الحجة على رسالته حتى يكون استدعاء للتقليد فان إلقاء الكتاب إليها على تلك الحالة من أعظم الدلائل ..

٣٢

قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي اى أشيروا الىّ فيما عرض لى و اجيبونى فيما أشاوركم فيه و الفتيا و الفتوى الجواب عما يشكل من الاحكام ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً اى حاكمة بامر حكما قطعيّا يقطع اختيار المحكوم عليه حَتَّى تَشْهَدُونِ اى حتى تحضروني و تشيرونى او تشهدوا على كونه صوابا جملة قالت مع ما فى حيزها بدل اشتمال من قالت السابقة.

٣٣

قالُوا مجيبين لها نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ فى القتال وَ أُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ ٥ عند الحرب قال مقاتل أرادوا بالقوة كثرة العدد و بالبأس شدة الشجاعة. لما ان الاستشار منها دائرا بين الصلح و القتال و كان القتال أصعب الامرين أجابوا بامتثال أمرها فى

٣٤

قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذ سليمان من م و ان هذه الكرامة كانت بسببه و الخطاب فى

٤٠

أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ للعفريت كانه أراد اظهار معجزة فنحدّاهم اولا فلمّا قال عفريت ما قال استبطأه فقال له ذلك و أراد به انه يتاتى له ما لا يتهيا لعفاريت عن الحسن فضلا عن غيرهم و المراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة او اللوح و اتيك فى الموضعين صالح للفعلية و الاسمية و الطرف تحريك الأجفان للنظر و لمّا كان الناظر يوصف بإرسال الطرف وصف بردّ الطرف و الطرف بالارتداد و المعنى انك ترسل طرفك نحو شى ء فقيل ان ترده احضر عرشها و هذا غاية الاسراع و مثّل فيه.

فَلَمَّا رَآهُ سليمان معطوف على محذوف تقديره فامره سليمان بالإتيان بالسرير فدعا باسم اللّه الأعظم فمال عرشها تحت الأرض فنبع عند سرير سليمان فلما راه مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ شكرا للنعمة كما هو دأب المخلصين من عباد اللّه هذا اى التمكن من إحضار العرش فى مدة ارتداد الطرف من مسيرة شهرين بنفسه او غيره مِنْ فَضْلِ رَبِّي اى بعض افضاله علىّ لِيَبْلُوَنِي قرأ نافع «و ابو جعفر- ابو محمّد» بفتح الياء و الباقون بإسكانها اى فضل علىّ لاجل ابتلائى أَ أَشْكُرُ نعمة فاراه فضلا من اللّه من غير حول منى و لا قوة و أقوم بحقه أَمْ أَكْفُرُ بان أجد نفسى أهلا لها او اقصر فى أداء موجبه و محلهما النصب على البدل من الضمير المنصوب فى ليبلونى وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لانه به يستحب دوام النعمة و مزيدها فان الشكر قيد النعمة الموجودة و صيد النعمة المفقودة و به يفرغ ذمته عن الواجب و يرتفع درجته عند اللّه تعالى و يستحق اجرا فى دار الجزاء قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر- رواه احمد و الترمذي و ابن ماجة و الحاكم بسند صحيح عن ابى هريرة و رواه احمد و ابن ماجة بسند صحيح عن سنان بن سنة بلفظ الطاعم الشاكر له مثل اجر الصائم الصابر وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ عن شكره كَرِيمٌ ينعم على الشاكر و الكافر جواب الشرط محذوف أقيم دليله مقامه تقديره و من كفر فلا يضر ربى لانه غنى كريم.

٤١

قالَ سليمان نَكِّرُوا لَها اى لبلقيس عَرْشَها يعنى اجعلوها بحيث لا تعرفها إذا رأت روى انه جعل أسفله أعلاه و أعلاه أسفله و جعل مكان الجوهر الأحمر الأخضر و مكان الأخضر الأحمر نَنْظُرْ مجذوم على جواب الأمر أَ تَهْتَدِي الى معرفته او للجواب الصواب أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ و انما حمل سليمان على ذلك (على ما ذكره كعب و وهب و غيرهما) ان الشياطين خافت ان يتزوجها سليمان فتفشى اليه اسرار الجن لان أمها كانت جنيّة و إذا ولدت ولدا لا ينفكون من تسخير ولده و ذريته من بعده فاساء و الثناء عليها ليزهدوه فيها و قالوا ان فى عقلها شيئا و ان رجليها كحافر الحمار و انها شعراء الساقين فاراد سليمان ان يختبر عقلها بتنكير عرشها و ينظر الى قدمها ببناء الصرح.

٤٢

فَلَمَّا جاءَتْ عطف على قوله فلمّا جاء سليمان قال أ تمدّونن بمال و ما بينهما معترضات قِيلَ لها أَ هكَذا عَرْشُكِ شبّه الأمر عليها زيادة فى امتحان عقلها قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ قال مقاتل عرفته و لكنها شبّهت عليهم كما شبّهوا عليها و قيل اشتبه الأمر عليها فلم يقل نعم و لا لاخوفا من الكذب فعرف سليمان عقلها حيث لم تقر و لم تنكر. و قيل لها فانه عرشك فما اغنى عنك إغلاق الأبواب و الحرس فقالت وَ أُوتِينَا الْعِلْمَ بكمال قدره اللّه و صحة نبوة سليمان مِنْ قَبْلِها اى قبل اية العرش بايات اخر من إلقاء هدهد الكتاب و امر الهدية و الرسل و قيل انه من كلام سليمان عليه السلام و قومه عطفه على جوابها لما فيه من الدلالة على إيمانها باللّه تعالى و رسله جوّزت ان يكون ذلك عرشها تجويزا غالبا و إحضاره ثمه من المعجزات التي لا يقدر عليها غير اللّه و لا يظهر الا على أيدي الأنبياء عليهم السلام و المعنى و أوتينا العلم باللّه تعالى و قدرته و صحة ما جاء من عنده قبلها وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ منقادين لحكمه لم نزل على دينه و يكون غرضهم فيه التحدث بما أنعم اللّه عليهم من التقدم فى ذلك شكرا له و قيل معناه و أوتينا العلم بإسلامها و مجيئها طائعة من قبل مجيئها و كنا مسلمين طائعين للّه عزّ و جلّ.

٤٣

وَ صَدَّها اى منعها سليمان عليه السلام ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللّه يعنى عن عبادة الشمس فما فى محل النصب بحذف حرف الجر و إيصال الفعل اليه و قيل ما فى محل الرفع و المعنى و صدّها عن التوحيد ما كانت تعبد من دون اللّه لا نقصان عقلها كما قالت الجن ان فى عقلها شيئا إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ استيناف اخبر اللّه تعالى انها كانت من قوم تعبد الشمس فنشات فيهم و لم تعرف الا عبادة الشمس.

ثم أراد سليمان ان ينظر الى قدميها و ساقيها من غير ان يسئلها كشفها لما قالت الشياطين ان رجليها كحافر الحمار و هى شعراء الساقين فامر الشياطين ان يبنوا له صرحا اى قصرا من زجاج و قيل بيتا من زجاج كانه الماء بياضا و قيل الصرح صحن الدار و الحضري تحته الماء و القى فيه كل شى ء من دوابّ البحر السمك و الضفادع و غيرهما. ثم وضع سريره على صدره و جلس عليه و عكفت عليه الطير و الانس و الجن و قيل اتخذ صحنا من قوارير و جعل تحتها تماثيل الحيطان و الضفادع فكان إذا راه أحد ظنّه الماء. فلما جلس على السرير دعا بلقيس فلمّا جاءت.

٤٤

لَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ عطف على محذوف تقديره فدخلته يعنى من الباب و رأته اى الصرح بلا حجاب قبل ورودها فلمّا راته سِبَتْهُ لُجَّةً من ماء كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها لتخوضه قرا قنبل عن ساقيها هاهنا و فى ص بالسّؤق و فى الفتح على سؤقه بالهمزة فى الثلاثة- و الباقون بغير همزة اخرج ابن ابى شيبة و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن ابى حاتم فى حديث طويل عن ابن عباس ان سليمان امر قبل قدومها ببناء قصر صحنه من زجاج ابيض و اجرى من تحته الماء و القى فيه حيوانات البحر و وضع سريره فى صدره فجلس عليه فلما بصرته ظنته ماء راكدا فكشف عن ساقيها لتخوضه و تخلص الى سليمان فنظر سليمان فاذا هى احسن الناس ساقا و قد ما الا انها شعراء الساقين فلمّا راى سليمان ذلك صر بصره عنها و من هاهنا يظهر ان النظر الى الاجنبية على ارادة خطبة النكاح جائز قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا خطب أحدكم المرأة فان استطاع ان ينظر الى ما يدعوه الى نكاحها فليفعل- رواه ابو داود عن جابر و روى احمد و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و الدار هى عن مغيرة بن شعبة قال خطبت امراة فقال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هل نظرت إليها قلت لا قال فانظر إليها فانه أحرى ان يؤدم بينكماالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ اى مملس و منه الأمرنْ قَوارِيرَ من زجاج الَتْ حين رات المعجزة من سليمان بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بالكفر و عبادة الشمس فتبت عنه الان أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ للّه رَبِّ الْعالَمِينَ اى أخلصت له التوحيد و قيل انها لما بلغت الصرح و ظنته لجة قالت فى نفسها ان سليمان يريد ان يغرقها و كان القتل أهون من هذا فقالت انّى ظلمت نفسى بذلك الظن لسليمان عليه السلام فتبت عنه و أسلمت- و اختلفوا فى أمرها بعد إسلامها فقال عون بن عبد اللّه سال رجل عبد اللّه بن عيينة هل تزوجها سليمان قال انتهى أمرها الى قولها و أسلمت مع سليمان للّه ربّ العلمين يعنى لا علم لنا وراء ذلك و قال بعضهم تزوجها أخرجه ابن عساكر عن عكرمة و لما أراد ان يتزوجها كره ما راى من كثرة شعر ساقيها فسال الانس ما يذهب هذا قالوا الموسى فقالت المرأة لم تمسنى حديدة قط فكره سليمان الموسى و قال انه يقطع فسال الجن فقالوا لا ندرى ثم سال الشياطين فقالوا انا نحتال لك حتى تكون كالفضة البيضاء فاتخذوا النورة و الحمام فكانت النورة و الحمامات من يومئذ فلمّا تزوجها سليمان أحبها حبّا شديدا فاقرها على ملكها و امر الجن فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعا و حسنا و هى سلحون و سنون و عمد ان ثم كان سليمان يزورها كل شهر مرة بعد ان ردها الى ملكها يقيم عندها ثلاثة ايام يبتكر من الشام الى اليمن و من اليمن الى الشام و ولد له منها ذكر و روى عن وهب قال زعموا ان بلقيس لما أسلمت قال لها سليمان اختاري رجلا من قومك أزوجكه قالت و مثلى يا نبى اللّه تنكح الرجال و قد كان لى فى قومى من الملك و السلطان ما كان قال نعم انه لا يكون فى الإسلام الا ذلك و لا ينبغى لك ان تحرمى ما أحل اللّه لك فقالت زوجنى ان كان لا بد ذلك من ذى تبع ملك همدان فزوجها إياه ثم ردها الى اليمن و سلط زوجها ذا تبع على اليمن و دعا رديعه امير جن اليمن فقال اعمل لذى تبع ما استعملك فيه فلم تزل ملكا يعمل له فيه ما أراد حتى مات سليمان فلما ان حال الحول و تبينت الجن موت سليمان اقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان فى جوف اليمن صرخ بأعلى صوته يا معشر الجن ان ملك سليمان قد مات فارفعوا ايديكم فرفعوا أيديهم و تفرقوا و انقضى ملك ذى تبع و ملك بلقيس مع ملك سليمن-

قلت نظر سليمان الى ساق بلقيس يؤيد قول من قال انه نكحها و يأبى قول من قال انه انكحها ذا تبع و اللّه اعلم قيل ان الملك وصل الى سليمان و هو ابن ثلاث عشر سنة و مات و هو ابن ثلاث و خمسين سنة سبحان اللّه من لا زوال لملكه- شعر

لا ملك سليمان و لا بلقيس لا آدم فى الكون و لا إبليس

و الكل فصورة و أنت المعنى يا من هو للقلوب مقناطيس و اللّه اعلم

٤٥

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً جواب قسم محذوف و هذه الجملة معطوفة على قوله تعالى و لقد اتينا داود و سليمان و قوله صالحا بدل من أخاهم أَنِ مفسرة لارسلنا او مصدرية بتقدير الباء اى بان اعْبُدُوا اللّه وحده فَإِذا هُمْ مبتدا خبره فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ صفة لفريقين اى ففاجرا التفرق و الاختصام فامن فريق و كفر فريق و الواو فى يختصمون لمجموع الفريقين قال اختصامهم ما ذكر فى سورة الأعراف قال الّذين استكبروا من قومه للّذين استضعفوا الى قوله ان كنت من المرسلين.

٤٦

قالَ لهم صالح يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ اى بالعقوبة حيث تقولون يا صالح ائتنا بما تعدنا ان كنت من المرسلين قَبْلَ الْحَسَنَةِ اى قبل التوبة حيث تاخرونها الى نزول العذاب الاستفهام للانكار و التوبيخ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللّه بالتوبة من كفركم قبل نزول العذاب لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ اى لكى ترحموا بقبولها فانها لا تقبل بعد ما ترون العذاب.

٤٧

قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ اى تشامنا بكم إذ وقع بيننا الافتراق حين اخترعتم دينا او تتابع علينا الشدائد و امسك عنا المطر قالوا هذه الضراء و الشدة من شومك و شوم أصحابك قالَ طائِرُكُمْ اى شومكم يعنى سبب شومكم الذي جاء منه شر عِنْدَ اللّه و هو قضاؤه او عملكم المكتوب عنده سمى القضاء طائرا لسرعة نزوله بالإنسان فانه لا شى ء اسرع من قضاء مختوم و سمى العمل طائرا لسرعة صعوده الى السماء و قال ابن عباس طائركم عند اللّه يعنى شومكم أتاكم من عند اللّه لكفركم و قيل سمى الشوم طائرا لان اهل الجاهلية كانوا يتشامون بصوت الطائر و مروره على تهج معين معروف عندهم إذا سافروا المستعير لفظ الطائر للشوم لذلك العرف بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ إضراب عن مفهوم الكلام السابق يعنى ليس طائركم منى و من أصحابي بل أنتم تفتنون اى تعذبون بكفركم كذا قال محمد بن كعب و قال ابن عباس تختبرون بالخير و الشر نظيره قوله تعالى و نبلوكم بالشّرّ و الخير فتنة.

٤٨

وَ كانَ فِي الْمَدِينَةِ اى مدينة ثمود و هى الحجر تِسْعَةُ رَهْطٍ اى تسعة انفس وقع الرهط تميز للتسعة باعتبار المعنى فان معناه الجماعة من الثلاثة او السبعة الى العشرة كما ان النفر من الثلاثة الى التسعة يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ خبر لكان و اسمه تسعة رهط و فى المدينة حال منه او ظرف وَ لا يُصْلِحُونَ يعنى كان شانهم الإفساد الخالص عن شوب الصلاح و هم أبناء الشر افهم الذين اتفقوا على عقر الناقة و هم غواة قوم صالح و اشقياهم و أشقاهم قزار بن سالف و هو الذي تولى عقرها.

٤٩

قالُوا استيناف او حال بتقدير قد يعنى قال بعضهم لبعض تَقاسَمُوا يعنى تحالفوا باللّه هو امر مقولة قالوا او فعل ماضى وقع بدلا من قالوا او حال بإضمار قد من فاعل قالوا لَنُبَيِّتَنَّهُ اى لنقتلن صالحا بياتا اى ليلا وَ أَهْلَهُ اى قومه الذين اسلموا به ثُمَّ لَنَقُولَنَّ قرأ الأعمش و «خلف- ابو محمد و» حمزة و الكسائي لتبيّننّه و لتقوّلنّ بالتاء للخطاب فيما بينهم فيهما و ضم التاء الثانية فى الاولى و ضم اللام فى الثانية لدلالتها على الواو المحذوفة للجمع و الباقون بالنون للتكلم و فتح التاء و اللام لِوَلِيِّهِ لولى دمه ما شَهِدْنا اى ما حضرنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ قرأ الجمهور بضم الميم و فتح اللام من الإهلاك يحتمل للمصدر و الزمان و المكان و كذا على قراءة حفص بفتح الميم و كسر اللام من الهلاك فان مفعلا قد جاء مصدرا لمرجع

و قرا ابو بكر بالفتح فيكون مصدرا وَ إِنَّا لَصادِقُونَ يعنى و نحلف انّا لصادقون او و الحال انّا لصادقون فيما ذكر لان الشاهد للشئ غير المباشر له عرفا او لانا ما شهدنا مهلكهم وحده بل مهلكه و مهلكهم كقولك ما رايت ثم رجلا بل رجلين ..

٥٠

وَ مَكَرُوا مَكْراً اى غدروا غدرا حيث قصدوا تبييت صالح وَ مَكَرْنا مَكْراً بان جعلناها سببا لاهلاكهم وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ حال من فاعل مكرنا.

٥١

فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ عاقبة اسم كان و كيف خبره مقدم عليه لصدارته و الاستفهام للتعجب. و الجملة الاستفهامية بتأويل المفرد مفعول لانظر أَنَّا دَمَّرْناهُمْ قرأ الكوفيون و يعقوب انّا بفتح الهمزة على انه خبر مبتدا محذوف او بدل من اسم كان او خبر له و كيف حال او التقدير لانّا دمّرناهم و الباقون بكسر الهمزة على الاستيناف و على هذا ان كان كان ناقصة فخبرها كيف و ان كان تامة فكيف حال و لا يجوز ان يكون انّا دمّرناهم خبر كان لعدم العائد- اختلفوا فى كيفية إهلاكهم قال ابن عباس أرسل اللّه الملائكة تلك الليلة الى دار صالح يحرسونه فاتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة و لا يرون الملائكة فقتلهم و قال مقاتل جلسوا فى سفح الجيل ينتظرون بعضهم ليأتوا دار صالح فحثم عليهم الجبل فاهلكهم اللّه تعالى اخرج عبد الرزاق وعيد بن حميد و ابن المنذر و ابن ابى حاتم عن قتادة قال مكر اللّه بهم رماهم بصخرة فاخذتهم وَ قَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ اهلكهم اللّه تعالى بالصيحة.

٥٢

فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً اى خالية من خوى البطن إذا خلا او ساقطة منهدمة من خوى النجم إذا سقط منصوب على الحال و العامل فيه معنى الاشارة بِما ظَلَمُوا اى خاوية بسبب كفرهم و ظلمهم إِنَّ فِي ذلِكَ اى فيما فعل يثمود لَآيَةً على كمال قدر تناء صدق الأنبياء لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فيتعظون به.

٥٣

وَ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ الكفر و المعاصي و هم صالح و من معه و كانوا اربعة آلاف.

٥٤

وَ لُوطاً منصوب بفعل مضمر يدل عليه قوله لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ تقديره و أرسلنا لوطا و جاز ان يكون منصوبا باذكر إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ظرف لفعل مقدر و هو اذكر او متعلق بأرسلنا على تقدير كونه عاملا فى لوطا او بدل من لوط على تقدير كونه منصوبا باذكر أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ اى الفعلة البالغة فى القبح الاستفهام للانكار و التوبيخ و كذا الاستفهام الثاني وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ اى تعلمون فخشها من بصر القبائح مع ان اقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح و قيل معناه و يبصر بعضكم بعضا فانهم كانوا يعلنون بها و يفعلونها بمشهد القوم فيكون افحش او المعنى و أنتم تبصرون اثار من قبلكم من العصاة و ما نزل بهم.

٥٥

أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ اللائي خلقن لذلك بيان لاتيانهم الفاحشة و شهوة منصوب على العلية للدلالة على قبحه و التنبيه على ان الحكمة فى المواقعة طلب النسل لاقتضاء الشهوة بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ اى تفعلون فعل من يجهل بقبحها او يكون سفيها لا يميز بين الحسن و القبح او تجهلون العاقبة و التاء فى تجهلون لكون الموصوف به فى معنى المخاطب قيل اجتمع هاهنا الخطاب بقوله أنتم و الغيبة بقوله قوم فغلب الخطاب على الغيبة. و هذه الآيات تدل على ان حسن الافعال و قبحها ثابتة لها فى أنفسها قبل ورود الشرع و ان كانت معرفة بعضها متوقفة على الشرع.

٥٦

فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ اى يتنزهون عن أفعالنا او عن الاقذار و جملة انهم أناس فى مقام التعليل للاخراج.

٥٧

فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها اى قدرنا كونها مِنَ الْغابِرِينَ اى الباقين فى العذاب.

٥٨

وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ.

٥٩

قُلِ الْحَمْدُ للّه وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى امر اللّه تعالى رسوله صلى اللّه عليه و سلم بعد ناقص عليه القصص الدالة على كمال قدرته و عظمة شأنه و ما خص به رسله من الآيات و التشريفات ان يحمد اللّه على إهلاك الكفار من الأمم الخالية و على جميع نعمه و على اعلامه ما جهل من أحوالهم و ان يسلم على من اصطفاه من عباده عرفانا بفضلهم و حق تقدمهم و اجتهادهم فى الدين و قوله الَّذِينَ اصْطَفى قال مقاتل هم الأنبياء و المرسلون بدليل قوله تعالى وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ و قال ابن عباس فى رواية مالك هم اصحاب محمد صلى اللّه عليه و سلم عن سفيان الثوري انها نزلت فى اصحاب محمد صلى اللّه عليه و سلم و قال الكلبي هم امة محمد صلى اللّه عليه و سلم بدليل قوله تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ الاية و قيل هم المؤمنون كلهم السابقون و اللاحقون- و قيل هذا من تمام قصة لوط عليه السلام و خطاب للوط عليه السلام بتقدير القول يعنى و

قلنا له قُلِ الْحَمْدُ للّه إلخ امره بان يحمد اللّه على هلاك كفار قومه و يسلّم على من اصطفاه بالعصمة عن الفواحش و النجاة من الهلاك او على محمد و أمته فان ما وصل بالأنبياء و الأمم من الكرامات و دفع البليّات كان ببركة نوره صلى اللّه عليه و اله و سلم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كنت أول الناس فى الخلق و آخرهم فى البعث.

رواه ابو سعد عن قتادة مرسلا و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كنت نبيّا و آدم بين الروح و الجسد رواه ابن سعد بسند صحيح عن ميسرة بن سعد عن ابى الجدعاء و الطبراني عن ابن عباس آللّه خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ متصل بما سبق فى صدر السورة إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ الى قوله هُمُ الْأَخْسَرُونَ و هذا الزام و هكم بهم و تسفيه لرأيهم بعد ما ذكر من القصص الدالة على قدرته تعالى على إكرام عباده الصّلحين و كبت أعدائه يعنى من هذا شانه هو مستحق للعبادة و الخوف و الرجاء خير من غيره امّا يشركونه من الأصنام و غيرها مما لا يضر و لا ينفع و ضره اقرب من نفعه خير من اللّه القادر القاهر لمن يعبد- قرا ابو عمرو و عاصم و يعقوب يشركون بالياء التحتانية على الغيبة و الباقون بالتاء الفوقانية خطابا لاهل مكة اتيسوان پاره ختم.

(الجزء العشرون) بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.

٦٠

أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أم متصلة و ما عطف عليه بأم محذوف تقديره ءالهتكم التي لم يخلقوا شيئا و هم يخلقون خير أم من خلق. و قيل منقطعة بمعنى بل و الهمزة قيل للاضراب عن الاستفهام السابق لبداهة كون اللّه تعالى مبدا لكل خير و عدم الخيرية رأسا فيما اشركوه فكيف يمكن الموازنة و الاستفهام عنه و الهمزة للتقرير اى حمل المخاطب على الإقرار بخيرية من خلق السّموات و الأرض وَ أَنْزَلَ لَكُمْ اى لاجل انتفاعكم مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ اى بساتين جمع حديقة قال الفراء الحديقة البستان المحاط عليها فان لم يكن عليه حائط فليس بحديقة

قال البيضاوي من الاحداق و هو الإحاطة ذاتَ بَهْجَةٍ اى حسن المنظر يبتهج به صفة لحدائق و افراد بهجة لتأويل حدائق بجماعة حدائق و فى الكلام التفات من الغيبة الى التكلم لتأكيد اختصاص الفعل بذاته تعالى و التنبيه على ان اثبات الحدائق البهية المختلفة الأنواع المتباعدة الطباع من المواد المتشابهة لا يقدر عليه غيره كما صرح بقوله ما كانَ اى ما يمكن لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها اى شجرة من أشجارها و الاضافة للجنس و الجملة ما كان لكم إلخ صفة لحدائق أَ إِلهٌ مَعَ اللّه أعانه على ذلك الاستفهام للانكار يعنى ليس أحد أعانه على ذلك فلا مستحق للعبادة غيره معه لانفراده بالخلق بَلْ هُمْ يعنى كفار مكة قَوْمٌ يَعْدِلُونَ من لا يخلق بمن يخلق فيشركون به او المعنى بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ عن الحق الذي هو التوحيد فيه التفات من الخطاب الى الغيبة-.

٦١

أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً بدل من أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ إلخ و الكلام فى أم فى هذا و فى ما بعدها مثل ما سبق و جعلها قرارا إبداء بعضها من الماء و تسويتها بحيث يمكن الاستقرار عليها وَ جَعَلَ خِلالَها وسطها ظرف مستقر وقع ثانى مفعول جعل و كذا فى الجملة التاليتين أَنْهاراً جارية وَ جَعَلَ لَها اى للارض رَواسِيَ جبالا ثابتة منعها من الحركة و اتبع منها الأنهار وَ جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ العذاب و الملح حاجِزاً مانعا من الاختلاط أَ إِلهٌ مَعَ اللّه ليس كذلك بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ انه لا اله الا هو لاهمالهم النظر الصحيح مع الادلة القاطعة فيشركون به جهلا و بعضهم يعلمون ذلك و لكن ينكرونه تعنتا و عنادا.

٦٢

أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ اسم فاعل من الاضطرار و هو افتعال من الضر يعنى من ابتلى بضر أحوجه شدته الى الجاء الى اللّه تعالى يجيبه إِذا دَعاهُ بفضله إنشاء فان اللام فى المضطر للجنس دون الاستغراق فلا يلزم منه اجابة كل مضطر وَ يَكْشِفُ اى يدفع السُّوءَ الّذى ألجأه الى الدعاء وَ يَجْعَلُكُمْ عطف على يجيب خُلَفاءَ الْأَرْضِ اى خلفاء من قبلكم فى الأرض بان ورّثكم سكناها و التصرف فيها او سلطانها- و قيل يعنى جعلكم خلفاء الجن فى الأرض قلت و يمكن ان يقال معناه جعل منكم خلفاء اللّه تعالى فى ارضه بدليل قوله تعالى إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ... أَ إِلهٌ مَعَ اللّه الذي خلقكم بهذه النعم العامة و الخاصة يعنى ليس كذلك قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ الا اللّه ما مزيدة و قليلا منصوب يتذكرون على المصدرية او على الظرفية و المراد بالقلة العدم او الحقارة المزيحة للفائدة قرا ابو عمرو و هشام يذّكّرون بالياء للغيبة و الباقون بالتاء للخطاب

و قرا حمزة «خلف- ابو محمد» و الكسائي و حفص بتخفيف الذال و الباقون بتشديدها ..

٦٣

أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ بالنجوم و علامات الأرض فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ إذا سافرتم فى الليالى أضاف الظلمات الى البحر و البرّ للملابسة وَ مَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ يعنى المطر أَ إِلهٌ مَعَ اللّه يقدر مثل ذلك تَعالَى اللّه القادر الخالق عَمَّا يُشْرِكُونَ عن اشراك العاجز المخلوق-.

٦٤

أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الاماتة و الكفار و ان أنكروا الاعادة فهم محجوجون بالحجج الدالة عليها من النقل المشهود عليه بالمعجزات مع إمكانها عقلا وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ اى من اسباب سماوية و اسباب ارضية أَ إِلهٌ مَعَ اللّه يقدر على ذلك قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ على ان مع اللّه الها اخر يقدر على شى ء من ذلك إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى الإشراك فان كمال القدرة من لوازم الالوهية

قال البغوي و لمّا سال المشركون النبي صلى اللّه عليه و سلم عن وقت قيام الساعة نزلت.

٦٥

قُلْ يا محمد فى جوابهم لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ من الملئكة وَ من فى الْأَرْضِ من الجن و الانس و منهم الأنبياء عليهم السلام من موصول او موصوف الْغَيْبَ يعنى ما غاب عن مشاعرهم و لم يقم عليه دليل عقلى إِلَّا اللّه لكن اللّه يعلم ما غاب عنهم و غيره تعالى لا يعلم الا بإعلامه فالاستثناء منقطع لانه تعالى منزه عن الاستقرار فى السموات و الأرض و رفعه على لغة بنى تميم فانهم يجيزون النصب و البدل فى المنقطع كما فى المتصل و عليه قول الشاعر- شعر

و بلدة ليس بها أنيس الا اليعافير و الا العيس

و قيل الاستثناء متصل و دخول المستثنى فى المستثنى منه على سبيل فرض المحال و فرض المحال ليس بمحال و قال فى البحر المواج المستثنى منه محذوف و فى الكلام حذف تقديره لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ لا يعلمه أحد الّا اللّه فهذه الجملة تعليل لنفى العلم قلت و يمكن ان يكون التقدير لا يعلم من فى السّموات و الأرض الغيب بشئ الّا باللّه اى بتعليمه وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ اى متى يحشرون يعنى وقت حشرهم ممّا لا يدرك بالمشاعر فهو من الغيب الذي لا يمكن العلم به و الاطلاع عليه الا بتعليم من اللّه تعالى و انه تعالى لم يطلع على ذلك أحدا بل استأثر علمه لنفسه فلا يتصور لهم العلم به و هذا تخصيص بعد تعميم و فائدته التأكيد و مطابقة الجواب السؤال و حتم احتمال التخصيص فانه قوله تعالى لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ يفيد نفى علمهم بالغيب و ذلك مخصوص بما حصل لهم بتعليم من اللّه تعالى بتوسط الرسل-.

٦٦

بَلِ ادَّارَكَ كذا قرا ابو جعفر و ابن كثير و ابو عمرو بهمزة القطع على وزن أكرم من الافعال اى بلغ و لحق عِلْمُهُمْ فاعل لادرك فِي الْآخِرَةِ ظرف لادرك و المفعول محذوف دلّ عليه ما سبق و المعنى انهم لا يدركون وقت قيام الساعة فى الدنيا قط بل يدرك علمهم ذلك فى الاخرة إذا عاينوه او المعنى بل أدرك علمهم اليوم بتعليم الرسل صلى اللّه عليه و سلم إياهم فى شأن الاخرة أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ أَنَّ اللّه يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ لكنهم لا يعلمون وقت مجيئها و فرأ الباقون بل ادّرك أصله تدارك يعنى تدارك و تكامل علمهم و حصل لهم اليوم بتعليم الرسول صلى اللّه عليهم و سلم فى شأن الاخرة او يحصل لهم العلم بذلك إذا عاينوه يقال تدارك الفاكهة إذا تكاملت نضجا و حصول العلم القطعي للمؤمنين فى الدنيا ظاهر و للكافرين باعتبار قيام الادلة الموجبة للقطع مقامه بَلْ هُمْ يعنى كفار مكة فِي شَكٍّ مِنْها اى من قيام الساعة بعد وجود ما يوجب القطع من اخبار الرّسول صلى اللّه عليه و سلم المؤيد بالمعجزات و قيل قوله بل ادّرك على طريقة الاستفهام معناه هل تدارك و تتابع علمهم فى الاخرة يعنى لم يتتابع و ضل و غاب علمهم به فلم يبلغوه و لم يدركوه لان فى الاستفهام ضربا من الجحد يدل هذا التأويل قراءة ابن عباس بلى بإثبات الالف المكتوب بصورة الياء ءادّرك بفتح الهمزة للاستفهام و سقوط همزة الوصل اى لم يدرك و فى قراءة أبيّ أم تدارك علمهم و العرب يضع بل موضع أم و أم موضع بل و ذكر على بن عيسى و إسحاق ان بل فى بل ادّرك بمعنى لو و المعنى لو أدركوا فى الدنيا ما أدركوه فى الاخرة لم يشكوا بل هم اليوم فى شك من الساعة بَلْ هُمْ مِنْها اى من الساعة عَمُونَ جمع عمى و هو عمى القلب نفى اللّه عنهم علم الغيب اولا ثم أكّد ذلك بنفي شعورهم بما هو ما لهم لا محالة ثم بالغ فيه بان اضرب عنه و بيّن ان منتهى علمهم و ما تكامل فيه اسباب العلم من الحجج و الآيات مقصور على ان القيامة كائنة لا محالة و هم لا يعلمونها كما ينبغى ثم اضرب عنه و قال بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ منها بعد تكامل الادلة كمن يتحير فى امر لا يجد عليه دليلا فهم لا يستطيعون ازالة الشك ثم اضرب عنه و قال بل هم فى أسوأ حال منه فانهم عمون لا يدركون دليلهم لاختلال بصيرتهم و هذا او ان اختص بالمشركين فمن فى السموات و الأرض نسب الى جميعهم كما يسند فعل البعض الى الكل و قيل الاضراب الاول عن نفى الشعور بوقت القيامة عنهم بوضعهم باستحكام علمهم فى امر الاخرة تهكما و قيل أدرك بمعنى انتهى و اضمحل من قولهم أدرك الشمرة لانها تلك غايتها التي عندها يعدم و ما بعدها إضراب عن علمهم بامر الاخرة مبالغة فى نفيه و دلالة على ان شعورهم بها انهم شاكون فيها ثم اضرب عنه و قال هُمْ مِنْها عَمُونَ ليس لهم صلاحبة العلم أصلا-.

٦٧

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا عطف على مضمون قوله تعالى بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ و كالبيان له وضع المظهر هاهنا موضع الضمير و لم يقل و قالوا لكون ذكر الكافرين مجملا فيما سبق أ إذا قرا «و ابو جعفر- ابو محمد» نافع إذا بغير همزة الاستفهام على صيغة الخبر و همزة الاستفهام على هذا مقدرة و الباقون بهمزتين على الاستفهام كُنَّا تُراباً وَ آباؤُنا أَ إِنَّا قرأ ابن عامر و الكسائي بنونين أحدهما للوقاية و بهمزة واحدة على صيغة الخبر و تقدير همزة الاستفهام و الباقون بنون واحدة و همزتين على الاستفهام و ضمير أ إنّا راجع إليهم و الى ابائهم غلبت الحكاية على الغائب لَمُخْرَجُونَ من القبور أحياء و من حال الموت الى الحيوة و هذا كالبيان لعمهم و العامل فى إذا محذوف دل عليه مخرجون تقديره انخرج إذا كنا ترابا أ نحن مخرجون حينئذ و الاستفهام للانكار- و الجملة الاستفهامية الثانية تأكيد للاولى تكرير للانكار مبالغة له و لا يجوز ان يكون مخرجون عاملا فى إذا لان كلام من الهمزة و انّ و اللام مانعة من عمله فيما قبله.

٦٨

لَقَدْ وُعِدْنا هذا اى البعث جواب قسم محذوف نَحْنُ على لسان محمد صلى اللّه عليه و سلم وَ آباؤُنا على لسان غيره من الأنبياء مِنْ قَبْلُ وعد محمد صلى اللّه عليه و سلم و تقديم هذا على نحن هاهنا لان المقصود بالذكر هاهنا هو البعث و حيث اخّر فالمقصود هو المبعوث إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعنى أحاديثهم و أكاذيبهم التي كتبوها كالاسمار.

٦٩

قُلْ يا محمد سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ تهديد لهم على التكذيب و تخويف بان ينزل بهم مثل ما نزل بالمكذبين قبلهم و التعبير عنهم بالمجرمين ليكون لطفا بالمؤمنين فى ترك الجرائم.

٧٠

وَ لا تَحْزَنْ يا محمد عَلَيْهِمْ اى على تكذيبهم و اعراضهم وَ لا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ قرأ ابن كثير بكسر الضاد و الباقون بالفتح و هما لغتان يعنى لا تكن فى ضيق صدر و غم مِمَّا يَمْكُرُونَ من للسببية و ما مصدرية اى بسبب مكرهم

قال البغوي نزلت فى المستهزئين الّذين عقاب مكة يعنى ان اللّه بالغ أمرك الى الكمال ..

٧١

وَ يَقُولُونَ عطف على قال الَّذِينَ كَفَرُوا و ما بينهما معترضات مَتى هذَا الْوَعْدُ اى الموعود من العذاب إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ان العذاب نازل.

٧٢

قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ اى ردفكم و اللام مزيدة للتاكيد يعنى عسى ان يتبعكم و يلحقكم بلا مهلة بَعْضُ تنازع فيه الفعلان يكون و ردف اعمل أحدهما و أضمر فى الاخر الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ حلوله و هو عذاب يوم بدر

قال البيضاوي عسى و لعل و سوف فى مواعيد الملوك كالجزم بها و انما يطلقونه إظهارا لوقارهم و اشعارا بان الرمزة منهم كالتصريح من غيرهم و عليه جرى وعد اللّه و وعيده و هذا المعنى قول من قال ان عسى و لعل فى كلام اللّه واجبة الوقوع يعنى و اما فى الوعيد فيجوز العفو بشرط الايمان و اما الكافر فلا يستحق العفو و قوله تعالى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ليس من هذا الباب و من ثم لم يوجد من فرعون تذكر و لا خشية.

٧٣

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ فيغفر المؤمن ان شاء و لا يستعجل الكافر بالعذاب و كذلك لم يعجل على اهل مكة بالعذاب كذا قال المقاتل هذه الجملة اما حال او معترضة وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ و لا يعرفون حق النعمة فيستعجلون العذاب بحملهم.

٧٤

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ اى ما نخفى صدور الناس وَ ما يُعْلِنُونَ اى الناس من عداوتك فيجازيهم عليه و ليس تأخير العذاب عنهم لخفاء حالهم و هذه الجملة معطوفة على عسى فان عسى فى كلام اللّه كالتحقق.

٧٥

وَ ما مِنْ غائِبَةٍ اسم ما و من زائدة اى ما من شى ء غائب عن أبصار الناس و هى من الصفات الغالبة كالخافية و التاء فيهما للمبالغة كما فى الرواية او اسمان لما يغيب و يختفى فالتاء فيه كالتاء فى عافية و عاقبة و

قال البغوي هى صفة لمحذوف اى جملة غائبة من مكتوم سر و خفى امر و شى ء غائب كائنة فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ ظرف لغو متعلق بغائبة إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ مستثنى مفرغ خبر ما اى بين او مبين ما فيه لمن يطالعه و هو اللوح المحفوظ.

٧٦

إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ اى يبيّن لهم أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من امر الدين قال الكلبي ان اهل الكتاب اختلفوا بينهم و صاروا أحزابا يطعن بعضهم فنزل القران ببيان ما اختلفوا فيه هذه الجملة مع ما عطف عليه متصل بقوله تعالى وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ واقعة عنها مقام التعليل و ما بينهما معترضات.

٧٧

وَ إِنَّهُ اى القران لَهُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فانهم هم المنتفعون به دون الكفار من اهل الكتاب و غيرهم.

٧٨

إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي اى يحكم بَيْنَهُمْ اى بين المختلفين فى امر الدين يوم القيامة بِحُكْمِهِ متعلق بيقضى

فان قيل قوله يقضى معناه يحكم فكيف يتعلق به بحكمه فانه نظير ينصره بنصره و ذالا يجوز

قلنا المراد الحكم هذا بمعنى المحكوم و المعنى يحكم بما حكم به فى القران او المراد بحكمته وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب الذي لا رادّ لقضائه الْعَلِيمُ بحقيقة ما يقضى فيه و حكمته.

٧٩

فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه و لا تبال بمن عاداك متصل بقوله إِنَّ رَبَّكَ يقضى بينهم إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ البين حقيقة علل التوكل بانه على الحق الظاهر الّذى لا مساغ فيه اشارة الى ان صاحب الحق حقيق بالوثوق على اللّه و نصره.

٨٠

إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى اى الكفار شبّههم بالموتى لعدم الانتفاع لهم بتسامع ما يتلى عليهم كما شبهوا بالأصم فى قوله تعالى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ و الدعاء مفعول للفعلين على التنازع قرا ابن كثير لا يسمع بالياء و فتحها و فتح الميم على صيغة الغائب من المجرد و الصّمّ بالرفع على الفاعلية و كذلك فى سورة الروم و الباقون بالتاء و ضمها و كسر الميم على صيغة المخاطب من الاستماع و نصب الصّمّ على المفعولية إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ

فان قيل ما معنى لهذا القيد فان الأصم الذي لا يسمع سواء عليه ان يولّى او لا قيل ذكره على التأكيد و المبالغة و قيل الأصم إذا كان حاضرا قد يسمع برفع الصوت او يفهم بالاشارة او الكتابة فاذا ولى لم يسمع و لم يفهم رأسا يعنى ان الكفار لفرطا عراضهم عما يدعون اليه كالميت الّذى لا سبيل الى استماعه و كالاصم المدبر الذي لا سبيل الى افهامه قيل الظرف متعلق بالفعلين على سبيل التنازع و يرد عليه ان نسبة التولي الى الأصم جائز و الى الموتى لا يجوز فكيف يتصور التنازع و الجواب ان الموتى و الأصم كلا منهما مستعار للكافر و هو من اهل التولي و يسمى هذه الاستعارة استعارة مجروة و هى ان يوصف المستعار بوصف ملائم للمستعار له و اللّه اعلم-.

٨١

وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ قرأ الأعمش و حمزة هاهنا و فى الروم تهدى بالتاء المفتوحة و اسكان الهاء بغير الف على صيغة المضارع و العمى بالنصب و إذا وقف اثبت ياء تهدى فى السورتين و الباقون بالياء المكسورة و صيغة اسم الفاعل مضافا و العمى بالجر و وقفوا هاهنا بالياء و فى الروم بغير ياء اتباعا للمصحف عَنْ ضَلالَتِهِمْ يعنى ما أنت بمرشد من أعمى اللّه قلبه عن الايمان إِنْ تُسْمِعُ يعنى لا تسمع و لا ينفع اسماعك القران أحدا إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا يعنى من قدّرنا إيمانه فَهُمْ مُسْلِمُونَ مخلصون من اسلم وجهه للّه-.

٨٢

وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ يعنى إذ دنا وقوع معنى ما قيل عليهم اى ما وعدوا به من البعث و العذاب أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً

قال البغوي روى عن على رضى اللّه عنه ليس بدابة لها ذنب و لكن لها لحية كانه يشير الى انه رجل و الأكثر على انها دابة ذات اربع قوائم. اخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال الدابة ذات وبر و ريش مولفة فيها من كل لون لها اربع قوائم ثم يخرج بعقب من الحاج و روى عن جريح عن ابى الزبير انه وصف الدابة فقال رأسها رأس الثور و عينها عين الخنزير و اذنها اذن الفيل و قرنها قرن ابل و صدرها صدر اسد و لونها لون تمر و خاصرتها خاصرورة و ذنبها ذنب كبش و قوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين اثنى عشر ذراعا معها عصا موسى و خاتم سليمان فلا يبقى مومن الا نكتت فى مسجده بعصا موسى نكتة بيضاء يضئ بها وجهه و لا يبقى كافر الا نكتت وجهه بخاتم سليمان نكتة سوداء فيسود بها وجهه حتى ان الناس يتبايعون فى الأسواق بكم يا مؤمن بكم يا كافر ثم تقول لهم الدابة يا فلان أنت من اهل الجنة يا فلان أنت من اهل النار و ذلك قوله عزّ و جلّ وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ متعلق باخرجنا روى البغوي عن ابن عمر رضى اللّه عنهما قال تخرج من صدع فى الصفا كجرى الفرس ثلاثة ايام و ما خرج ثلثا و روى عن ابن عباس رضى اللّه عنهما انه قرع الصفا بعصاه و هو محرم و قال ان الدابة تسمع قرع عصاى. و عن عبد اللّه بن عمر رضى اللّه عنهما قال تخرج الدابة من شعب فيمس رأسها السحاب و رجلاها فى الأرض ما خرجتا فتمرّ بالإنسان يصلى فتقول ما الصلاة من حاجتك فتخطمه.

و ذكر البغوي حديث ابى شريحة الأنصاري رضى اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال تكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجا باليمن فيفشو ذكرها فى البادية و يدخل ذكرها القرية يعنى مكة ثم بينا الناس يوما فى أعظم المساجد على اللّه حرمة و أكرمها على اللّه عزّ و جل يعنى المسجد الحرام لم تر عنهم الا هو فى ناحية المسجد يدنو و يدنو كذا قال عمرو ما بين الركن الأسود الى باب بنى مخزوم فى وسط من ذلك فارفض الناس عنها و ثبت لها عصابة عرفوا انهم لم يعجزوا اللّه مخرجت عليهم تنفض راسها من التراب فمرّت بهم فجلّت عن وجوههم حتى تركتها كانها الكواكب الدرية ثم دكت فى الأرض لا يدركها طالب و لا يعجزها هارب حتى ان الرجل ليقوم فيعود منها بالصلوة فيأتيه من خلفه فتقول يا فلان الان تصلى فتقبل بوجهه و تسمه فى وجهه فتجاوز الناس فى ديارهم و تصطحبون فى أسفارهم و تشتركون فى الأموال و يعرف الكافر من المؤمن فيقال للمؤمن يا مؤمن و للكافر يا كافر و عن حذيفة بن اليمان رضى اللّه عنه قال ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الدابة قلت يا رسول اللّه من اين تخرج قال من أعظم المساجد هرمة على اللّه تعالى بينهما عيسى يطوف بالبيت و معه المسلمون إذ تضطرب الأرض تحتهم تحرك القنديل و تنشق الصفا مما يلى المشرق و تخرج الدابّة من الصفا أول ما يبدو منها رأسها بلمعة ذات وبر و ريش لن يدركها طالب و لن يفوتها هارب و تسم الناس مومنا و كافرا اما المؤمن فتترك وجهه كانه كوكب درى و نكتت بين عينيه مومن و اما الكافر فنكتت بين عينيه نكتة سوداء و نكتت بين عينيه كافر.

رواه البغوي و كذا اخرج ابن جرير و روى البغوي عن سهل بن صالح عن أبيه عن ابن عباس رضى اللّه عنهما ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال بئس الشعب شعب حناد مرتين او ثلاثا قيل و لم ذلك يا رسول اللّه قال تخرج منه الدابة فتصرخ ثلاث صرخات يسمعها بين الخافقين قال وجهها وجه رجل و سائر خلقها كخلق الطير فتخبر من راها ان اهل مكة كانوا محمد و القران لا يوقنون- تُكَلِّمُهُمْ صفة لدابة يعنى تكلم الدابة الناس قال السدىّ تكلمهم ببطلان سائر الأديان سوى دين الإسلام و قال بعضهم كلامها ان تقول لواحد هذا مؤمن و لاخر هذا كافر كما مرّ فى الأحاديث و قيل كلامها ما قال اللّه تعالى أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ قال مقاتل تكلمهم بالعربية فتقول عن اللّه تعالى أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ تخبر الناس ان اهل مكة لم يؤمنوا بالقران و البعث- قرا الكوفيون «و يعقوب- ابو محمد» انّ بالفتح و هو حكاية عن قول الدابة او على تقدير الجار تقديره بان او حكاية قول اللّه الّذى قيل عليه و دنا وقوعه او علة خروجها على حذف اللام على قول غيره

و قرا الآخرون انّ بالكسر على الاستيناف اى انّ الناس كانوا بايتنا لا يوقنون قبل خروجها قيل أراد بايتنا خروجها اى خروج دابة الأرض و سائر اشراط الساعة و أحوالها فانها من آيات اللّه تعالى-

قال البغوي قرا ابن جبير و عاصم الجحدري و ابو رجاء العطاردي تكلّم بفتح التاء و تخفيف اللام من الكلم بمعنى الجرح و قال ابن الحوراء سألت ابن عباس عن هذه الاية تكلمهم او تكلّمهم فقال كل ذلك تفعل تكلم المؤمن و تكلّم الكافر قال ابن عمر رضى اللّه عنهما و ذلك يعنى خروج الدابة حين لا يؤمر بالمعروف و لا ينهى عن المنكر قال الشيخ جلال الدين المحلى و من خروج الدابة ينقطع الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و لا يؤمن كافر بعد ذلك كما اوحى اللّه الى نوح أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ قلت و هذا يستنبط من الأحاديث و الآثار- (فصل) عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال بادروا بالأعمال ستّا الدخان و الدجال و دابّة الأرض و طلوع الشمس من مغربها و امر العامة و خويصة أحدكم- رواه مسلم و عن عبد اللّه بن عمرو قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ان أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها و خروج الدابّة على النّاس ضحى و أيتهما كانت قيل صاحبتها فالاخرى على اثرها قريبا- رواه مسلم و عن حذيفة بن اسد الغفاري قال اطلع النبي صلى اللّه عليه و سلم و نحن نتذاكر فقال ما تذكرون قالوا نذكر الساعة قال انها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر ايت فذكر الدخان و الدجال و الدّابة و طلوع الشمس من مغربها و نزول عيسى بن مريم و يأجوج و ثلث خسوف خسف بالمشرق و خسف بالمغرب و خسف بجزيرة العرب و اخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس الى محشرهم. و فى رواية نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس الى المحشر- و فى رواية فى العاشرة و ريح يلقى الناس فى البحر رواه مسلم و عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال تخرج الدّابة و معها خاتم سليمان و عصا موسى فتجلو وجه المؤمن بالعصا و تختم انف الكافر بالخاتم حتى ان اهل الخوان ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن و يقول هذا ... يا كافر. رواه احمد و الترمذي و ابن ماجة و الحاكم و صححه عن ابى امامة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال تخرج الدابّة قسّم الناس على خراطيمهم ثم يعمرون فيكم حتى يشترى الرجل الدابّة فيقال ممّن اشتريت فيقول من الرجل المختم رواه احمد عن ابن عمر رضى اللّه عنهما قال تخرج الدابّة ليلة جمع و الناس يشيرون الى منى-

و اخرج ابن ابى شيبة و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن ابى حاتم عن الحسن ان موسى عليه السلام سال ربه ان يريد الدّابّة فخرجت ثلاثة ايام و لياليهن يذهب فى السماء لا يرى واحد من طرفيها قال فراى منظرا فظيعا فقال رب ردها فردها قلت و الأحاديث المذكورة تدل على ان الدابة تميّز بين المؤمنين الصادقين فى ايمانهم و بين المنافقين الذين أظهروا الايمان و ابطنوا الكفر و المراد بالكفر اما ضد الإسلام المجازى الّذى قلوب أهاليهم غير مصدقة بما جاء به النبي صلى اللّه عليه و سلم و اما ضد الإسلام الحقيقي الّذى قلوب أهاليهم وافقت ألسنتهم فى التصديق لكن لم يؤمن نفوسهم و لم تطمئن فان كان المراد بالكافر هذا المعنى فقول الدّابة يا فلان أنت من اهل النار يراد به دخولها لا خلودها و لا يجوز ان يكون المراد بالكفر المجاهر بالكفر لان المجاهر بالكفر لم يبق بمكة بعد الفتح و ايضا المجاهر بالكفر ممتاز عن المسلمين قبل خروج الدابة لا حاجة فى امتيازهم الى الدابة و اللّه اعلم.

٨٣

وَ يَوْمَ نَحْشُرُ يعنى يوم القيامة مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً اى من كل قرن جماعة كلمة من هاهنا للتبعيض و فوجا مفعول لنحشر و من كل امة حال منه قلت و ذلك حين يقول اللّه تعالى لادم ابعث بعث النار من ذريتك و قد مرّ الحديث فى صدر سورة الحج مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا صفة لفوج و من هاهنا للبيان اى فوجا مكذبين فَهُمْ يُوزَعُونَ اى يجلس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا

قال البيضاوي هو عبارة عن كثرة عددهم و تباعد أطرافهم.

٨٤

حَتَّى ابتدائية داخلة على الشرطية إِذا جاؤُ الى المحشر قالَ اللّه تعالى لهم أَ كَذَّبْتُمْ بِآياتِي الاستفهام للتوبيخ وَ لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً الواو للحال يعنى أكذبتم بها بادى الرأى غير ناظرين فيها نظرا يحيط علمكم بكنهها و انها حقيقة بالتصديق او التكذيب او للعطف يعنى أجمعتم بين التكذيب بها و عدم النظر و التأمل فى حقيقتها أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تقديره أم لم تكذّبوا فان لم تكذّبوا فما ذا كنتم ودع يعنى اىّ شى ء كنتم تعملون غير التكذيب و هذا ايضا توبيخ و تبكيت إذ لم يفعلوا غير التكذيب من الجهل فلا يقدرون ان يقولوا فعلنا ذلك.

٨٥

وَ وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ عطف على قال فى حيز جزاء الشرط اى وجب عليهم العذاب الموعود لهم بِما ظَلَمُوا اى بسبب ظلمهم اى تكذيبهم بايات اللّه فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ باعتذار إذ ليس لهم عذر فى نفس الأمر او لما لا يؤذن لهم فيعتذرون و قيل لا ينطقون لان أفواههم مختومة و قيل لا ينطقون لشغلهم بالعذاب و الظاهر هو الاول يدل عليه قوله.

٨٦

أَ لَمْ يَرَوْا يعنى كيف يعتذرون على الكفر بعد رؤية الادلة الموجبة للايمان و الاستفهام للانكار و انكار النفي اثبات يعنى قد رئوا أَنَّا جَعَلْنَا اى خلقنا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ بالنوم و القرار وَ النَّهارَ مُبْصِراً كان أصله ليبصروا فيه فبولغ فيه يجعل الابصار حالا من أحواله المجعول عليه بحيث لا ينفك عنه و جملة انّا جعلنا قائم مقام المفعولين لقوله الم تروا فان الرؤية بمعنى العلم يعنى الم يعلموا بتعاقب النور و الظلمة على وجه مخصوص نافع مناط لمصالح معاشهم و معادهم انّ لها خالقا حكيما قادر قاهرا و ان من كان قادرا على ذلك قادر على بعثة الرسل ليدعوا الخلق الى عبادته و قادر على الانعام و الانتقام على اطاعته و عصيانه و قادر على ابدال الموت بالحياة كما هو قادر على ابدال الظلمة بالنور و اليقظة بالنوم و قد دلت المعجزات على صدق الرسل و ما جاءوا به إِنَّ فِي ذلِكَ الأمور لَآياتٍ دالة على التوحيد و صدق الرسول فاىّ عذر للمكذب بعده و قيد ثبوت الآيات بقوله لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لانهم هم المنتفعون بها قيل جملة الم يروا الى آخرها دليل للحشر فان تعاقب اليقظة النوم يدل على جواز تعاقب الحيوة الموت-.

٨٧

وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ معطوف على قوله و يوم نحشر عن ابن عمر ان أعرابيا سال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن الصور قال قرن ينفخ فيه. رواه ابو داود و الترمذي و حسّنه و النسائي و ابن حبان و الحاكم و عن ابن مسعود نحوه رواه مسدد بسند صحيح و عن زيد بن أرقم قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كيف أنعم و صاحب القرن قد التقم القرن و احنى جبهته و أصغى بالسمع متى يؤمر فسمع بذلك اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فشق عليهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قولوا حسبنا اللّه و نعم الوكيل- و روى احمد و الحاكم و البيهقي و الطبراني عن ابن عباس رض نحوه و الترمذي و الحاكم و البيهقي عن ابى سعيد نحوه و ابو نعيم عن جابر نحوه

و اخرج سعيد بن منصور و البيهقي عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم جبرائيل عن يمينه و ميكائيل عن يساره و هو صاحب الصور يعنى اسرافيل قال القرطبي علماء الأمم مجمعون على ان ينفخ فى الصور اسرافيل فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة و أرواح المؤمنين وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ من الانس اختلف العلماء فى هذه النفخة هل هى الصعق او غير ذلك فقيل النفخات ثلاث أولها نفخة الفزع تفزع منها الخلائق ثانيتها نفخة الصعق تصعق اى تموت بها الخلائق ثالثتها نفخة البعث فهذه الاية تدل على نفخة الفزع و قوله تعالى وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللّه ثُمَّ نُفِخَ فيه اخرى فاذا هم قيام ينظرون تدل على نفخة الصعق و نفخة البعث و هذا اختيار ابن العربي. و قد صرّح بالنفخات الثلاث فى حديث طويل لابى هريرة و سنذكره من قريب. و قيل هما نفختان فقط و نفخة الفزع هى نفخة الصعق قالوا الأمر ان متلازمان اى فزعوا فزعا ماتوا منه و هذا ما صححه القرطبي و استدل بانه استثنى من نفخة الفزع كما استثنى من نفخة الصعق حيث قال اللّه تعالى فيهما إِلَّا مَنْ شاءَ اللّه فدلّ على انهما واحد- و هذا الاستدلال غير صحيح لان الاستثناء منهما بقوله الا ما شاء اللّه لا يدل على اتحاد النفختين و لا على اتحاد المستثنى فيهما و ان كان المستثنى منه فى الكلامين واحد

قال البغوي و اختلفوا فى هذا الاستثناء روى عن ابى هريرة رضى اللّه عنه ان النبي صلى اللّه عليه و سلم سئل عن قوله تعالى إِلَّا مَنْ شاءَ اللّه قال هم الشهداء لانهم احياء عند ربهم لا يصل الفزع إليهم ثم ذكر البغوي قول الكلبي و مقاتل و ذكر الحديث كما سنذكر من بعد لكن قول البغوي بالاختلاف فى هذه الاية مبنى على اتحاد نفخة الفزع و نفخة الصعق و الظاهر انهما متغائران.

فلنذكر الأحاديث و الآثار الواردة فى الاستثناء روى ابو يعلى و الحاكم و صححه و البيهقي عن ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم قال سالت جبرئيل عن هذه الاية وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللّه من الّذين لم يشاء اللّه ان يصعقهم قال هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول عرشه قالوا و انما صح استثناء الشهداء لانهم احياء عند ربهم

قال البغوي و فى بعض الآثار الشهداء ثنية اللّه عزّ و جل اى الذين استثناهم اللّه تعالى كذا روى هناذ بن السرى و البيهقي و النحاس فى معانى القران عن سعيد بن جبير فى قوله تعالى الا من شاء اللّه قال هم الشهداء مقلدون السيوف حول العرش و قال الكلبي و مقاتل يعنى جبرئيل و اسرافيل و ملك الموت عليهم السلام و ذلك لما اخرج الفريابي فى تفسيره عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و نفخ فى الصّور فصعق من فى السّموات و من فى الأرض الّا من شاء اللّه قالوا يا رسول اللّه من هولاء الذين استثنى اللّه قال جبرئيل و ميكائيل و ملك الموت و اسرافيل و حملة العرش فاذا قبض اللّه أرواح الخلائق قال لملك الموت من بقي قال سبحانك ربى تبارك تباركت و تعاليت ذا الجلال و الإكرام بقي جبرئيل و ميكائيل و اسرافيل و ملك الموت فيقول خذ نفس اسرافيل فياخذ نفس اسرافيل فيقول يا ملك الموت من بقي فيقول سبحانك تباركت و تعاليت ذا الجلال و الإكرام بقي جبرئيل و ميكائيل و ملك الموت فيقول خذ نفس ميكائيل فيأخذ نفس ميكائيل فيقع كالطود العظيم فيقول يا ملك الموت من بقي فيقول بقي جبرائيل و ملك الموت فيقول مت يا ملك الموت فيموت- فيقول يا جبرائيل من بقي فيقول وجهك الكريم الباقي الدائم و جبرئيل الميت الفاني قال فلا بد من موته فيقع ساجدا يخفق جناحيه قال رسول اللّه صلى اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان فضل خلقه على خلق ميكائيل كالطود العظيم على ظرب من الظراب.

و اخرج البيهقي عن انس رفعه فى قوله فنفخ فى الصور الاية قال فكان ممن استثنى اللّه ثلاثة جبرئيل و ميكائيل و ملك الموت فيقول اللّه و هو اعلم يا ملك الموت من بقي فيقول وجهك الباقي الكريم و عبدك جبرئيل و ميكائيل و ملك الموت فيقول توف نفس ميكائيل فيقول و هو اعلم من بقي فيقول بقي وجهك الباقي الكريم و عبدك جبرئيل و ملك الموت فيقول توف نفس جبرئيل ثم يقول و هو اعلم يا ملك الموت من بقي فيقول بقي وجهك الباقي الكريم و عبدك ملك الموت و هو ميت فيقول مت ثم يقول انا بدأت و الخلق ثم أعيده فاين الجبارون المتكبرون فلا يجيبه أحد ثم ينادى لمن الملك اليوم فلا يجيبه أحد فيقول هو اللّه الواحد القهار ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ-

و اخرج البيهقي عن زيد بن اسلم قال الذي استثنى اثنا عشر جبرئيل و ميكائيل و اسرافيل و ملك الموت و حملة العرش ثمانية و

قال البغوي يروى انه يقبض روح جبرئيل و ميكائيل ثم روح حملة العرش ثم روح اسرافيل ثم روح ملك الموت

و اخرج البيهقي عن مقاتل بن سليمان يقبض روح ميكائيل ثم روح جبرئيل ثم روح اسرافيل ثم يأمر ملك الموت فيموت.

و اخرج ابو الشيخ فى كتاب العظمة عن وهب قال هؤلاء الاربعة جبرئيل و ميكائيل و اسرافيل و ملك الموت أول من خلقهم اللّه و اخر من يميتهم و أول من يحييهم هم المدبّرات امرا و المقسّمات امرا. قال السيوطي لا تنافى بين هذه الروايات يعنى روايات الاستثناء لامكان الجمع بان الجميع من المستثنى.

قلت الأحاديث و الآثار المذكورة كلها واردة فى بيان الاستثناء الواقع فى نفخة الصعق لا ما وقع فى نفخة الفزع و عندى المستثنى فى نفخة الفزع ما دل عليه قوله تعالى فيما بعد مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ و قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ فانه نص فى ان المؤمنين الّذين لا يدخلون النار و يدخلون الجنة لا ينحقهم الفزع لكن عند نفخة الفزع لا يكون من الناس الا الكفار لقوله صلى اللّه عليه و سلم لا تقوم الساعة الا على الأشرار- رواه احمد و مسلم عن ابن مسعود و قوله صلى اللّه عليه و سلم لا تقوم الساعة حتى لا يقال فى الأرض اللّه اللّه. رواه احمد و مسلم و الترمذي عن انس و قوله صلى اللّه عليه و سلم لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت- رواه عبد الرزاق فى الجامع و قوله صلى اللّه عليه و سلم لا تقوم الساعة حتى يرفع الركن و القران. رواه السنجري عن ابن عمر و يدل على ذلك غيرها من الأحاديث و لهذا حمل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المستثنى على أرواح الشهداء فانهم احياء عند ربهم و اما الملائكة و أرواح الأنبياء عليهم السلام فهم ايضا داخلون فى المستثنى و لا يفزعون البتة و اللّه اعلم روى ابن جرير فى تفسيره و الطبراني فى المطولات و ابو يعلى فى مسنده و البيهقي فى البعث و ابو موسى المديني فى المطولات و على بن معبد فى كتاب الطاعة و العصيان و عبد بن حميد و ابو الشيخ فى كتاب العظمة حديثا طويلا عن ابى هريرة ذكر فيه فينفخ ثلاث نفخات الاولى نفخة الفزع و الثانية نفخة الصعق و الثالثة نفخة القيام لرب العلمين فيأمر اللّه اسرافيل بالنفخة الاولى فيقول اللّه انفخ نفخة الفزع فينفخ فيفزع اهل السماء و الأرض الا من شاء اللّه. الى ان قال فتذهل المراضع و تضع الحوامل و يشيب الولدان و تطير الشياطين هاربة من الفزع حتى تأتى أقطار الأرض فتتلقاهم الملائكة فتضرب وجوهها فترجع و تولى الناس مدبرين ينادى بعضهم بعضا و الذي يقول اللّه يوم التّناد الى ان قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و الأموات يومئذ لا يعلمون بشئ من ذلك قلت يا رسول اللّه فمن استثنى اللّه فى قوله الا من شاء اللّه قال أولئك الشهداء و انما يصل الفزع الى الاحياء و هم أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ وقاهم اللّه من فزع ذلك اليوم و امنهم منه و هو عذاب يبعثه على اشرار خلقه يقول اللّه يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ الاية فيمكثون فى ذلك ما شاء اللّه ثم يأمر اللّه اسرافيل بنفخة الصعق فصعق اهل السموات و الأرض الا من شاء اللّه فيقول ملك الموت قد مات اهل السموات و الأرض الا من شئت فيقول و هو اعلم فمن بقي ثم ذكر موت جبرئيل و ميكائيل و حملة العرش و موت ملك الموت نحو ما تقدم من حديث انس ثم ذكر الحديث بطوله الى دخول اهل الجنة الجنة و بقاء اهل الخلود فى النار.

فان قيل هذا الفزع لا يكون الا على شرار خلق اللّه من شياطين الانس و الجن و ليس أحد منهم فى السماء فما معنى قوله تعالى فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ قلت لعل ذلك على سبيل الفرض او يقال ان الشياطين قد يذهبون الى السماء لاستراق السمع او يقال المراد بالسماء السحاب و نحو ذلك فانه قد يطلق السماء على كل ما بفوقك قال اللّه تعالى فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ يعنى سقف بيتك او يقال المراد بمن يفزع من اهل السماء أرواح بعض المؤمنين و يكون المراد بمن سبقت لهم الحسنى الأنبياء و المقربون الصديقون- و اما المستثنى من نفخة الصعق فالقول فيه ما قال صاحب المفهم التحقيق ان المراد بالصعق ما هو أعم من الموت فلمن لم يمت الموت و لمن مات الغشية و هذا من قبيل عموم المجاز و هذه الغشية يعم الأنبياء عليهم السلام الا موسى عليه السلام فانه حصل فيه تردد- روى الشيخان فى الصحيحين و الترمذي و ابن ماجة و اللفظ له عن ابى هريرة قال قال رجل من اليهود بسوق المدينة و الذي اصطفى موسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه و قال أ تقول هذا و فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فذكر ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال قال اللّه تعالى وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللّه ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ فاكون أول من رفع رأسه فاذا انا بموسى أخذ بقائم من قوائم العرش فلا أدرى ارفع راسه قبلى او كان ممن استثنى اللّه و لمّا كان الصعق بمعنى الموت او الغشية يعم الأنبياء فيعم الشهداء بالطريق الاولى و الملائكة ايضا و المستثنى منهم جبرئيل و ميكائيل و اسرافيل و ملك الموت و حملة العرش فانهم لا يموتون بالنفخة و يموتون بعد ذلك كما مرّ فى الأحاديث و اللّه اعلم.

وَ كُلٌّ اى كل واحد من اهل السماوات و الأرض أَتَوْهُ اى حاضرون الموقف بعد نفخة البعث او راجعون الى امره كذا قرا الجمهور بالمد و ضم التاء على صيغة اسم الفاعل

و قرا حفص و حمزة «خلف ابو محمد» مقصورا و فتح التاء على صيغة الماضي و معناه الاستقبال لتحقيق وقوعه عطف على فزع داخِرِينَ صاغرين.

٨٨

وَ تَرَى الْجِبالَ اى تبصرها ايها الناظر وقت نفخة الفزع عطف على يوم ينفخ او على يوم نحشران يقدر هنا ترى ما ترى تَحْسَبُها جامِدَةً اى وافقه مكانها الجملة حال من فاعل ترى و مفعوله اى تظنها قائمة غير متحركة وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ حال من الضمير المنصوب فى تحسبها يعنى تسير الجبال كسير السحاب فى السرعة حتى تقع على الأرض فتستوى بها و ذلك لان الاجرام الكبار إذا تحركت فى سمت واحد لا تكاد يتبين حركتها صُنْعَ اللّه مصدر مؤكد لمضمون جملة متقدمة لا محتمل لها غيره و يسمى تأكيدا لنفسه معنى صنع اللّه صنعا الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ احكم خلقه و سواه على ما ينبغى إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ قرأ ابن كثير و ابو عمرو بالياء على الغيبة و الباقون بالتاء على الخطاب اى يجازى كلّا من العاصي و المطيع على خسب فعله ثم بينه فقال.

٨٩

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ قال ابو معشر كان ابراهيم يحلف و لا يستثنى ان الحسنة لا اله الا اللّه و قال قتادة بالإخلاص و قيل هى كل طاعة فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها قيل من للسببية و ليس للتفضيل إذ لا شى ء خير من قول لا اله الا اللّه فالمعنى يحصل له خير و هو الثواب و الامن من العذاب من جهة تلك الحسنة و بسبيها و قال محمد بن كعب و عبد الرحمان ابن زيد من تفضيلية و المعنى فله عشر أمثالها الى سبعمائة ضعف الى ما شاء اللّه نظيره قوله تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ اى يوم ينفخ فى الصور آمِنُونَ قرأ الكوفيون فزع بالتنوين للتنكير و يومئذ بالنصب على الظرفية و التنكير يفيد الاستغراق لان الجملة فى قوة النفي لان قوله امنون بمعنى لا يخافون و لا يفزعون و النكرة فى حيز النفي يفيد الاستغراق

و قرا الآخرون بلا تنوين باضافة فزع الى يومئذ و الاضافة أول على الاستغراق او هى للعهد لتقدم ذكر الفزع فقرأ أكثرهم يومئذ بالجر للاضافة و نافع بفتح الميم على انه مبنى اكتسب البناء ممّا أضيف اليه.

٩٠

وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ اى الشرك فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ الفاء للعطف على محذوف لا للجزاء لا تدخل على الماضي بغير قد تقديره من جاء بالسّيئة فله جزاء السّيئة او استحق العذاب فكبّت وجوههم اى فكبوا على وجوههم فِي النَّارِ او المراد بالوجوه أنفسهم هَلْ تُجْزَوْنَ يعنى ما تجزون إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى إلا جزاؤه وفاقا لما عملوا فان الشرك أعظم الجرائم لا شى ء فوقه فى السوء و جهنم أشد الاجزية فيه التفات من الغيبة الى الخطاب و التقدير و يقول لهم خزنة جهنّم هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ-.

٩١

إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ يعنى مكة أضاف الرّب الى البلدة تشريفا لها و اشعارا بما فى الكعبة الحسناء من التجليات المختصة بها الَّذِي حَرَّمَها صفة للرب اى جعلها حرما أمنا لا يسفك فيها دم و لا يظلم فيها أحد و لا ينفر صيدها و لا يختلا خلاها ذكر هذا الوصف منة على قريش حيث جعل مسكنهم أمنا من الفتن الشائعة فى العرب وَ لَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ خلقا و ملكا مع تلك البلدة عطف على حرمها او حال من الضمير المرفوع المستكن فيها وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بتقدير الباء اى أمرت بان أكون من المنقادين للّه تعالى او ثابتين على ملة الإسلام عطف على أمرت ان اعبد.

٩٢

وَ أَنْ أَتْلُوَا تلاوة الدعوة الى الايمان او هو من التلو بمعنى الاتباع و المعنى ان اتبع الْقُرْآنَ عطف على ان أكون و جملة انّما أمرت متصلة بقوله تعالى إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ و إِنَّهُ لَهُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ و

قال البيضاوي امر اللّه سبحانه لرسوله ان يقول لهم ذلك بعد ما بين لهم المبدا و المعاد و شرح احوال القيامة اشعارا بانه قد أتم الدعوة و ادى ما كان عليه فلم يبق عليه الا الاشتغال بشأنه و الاستغراق فى عبادة ربه و التقدير قل انما أمرت بكذا فَمَنِ اهْتَدى بدعوتك وعيد ربه وحده كما أمرت فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ فان منافعه تعود اليه فليس له ان يمن عليك وَ مَنْ ضَلَّ اى أخطأ طريق الحق يتبعك بعد تمام الدعوة منك فَقُلْ له إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ يعنى لست عليكم بوكيل و لا علىّ من وبال ضلالك أصلا إذ ليس علىّ الا البلاغ-.

٩٣

وَ قُلِ الْحَمْدُ للّه على نعمة النبوة و على ما وفقك من تمام التبليغ و الدعوة الواجبة عليك سَيُرِيكُمْ اللّه ايها الضالون آياتِهِ القاهرة على حقيقة ما دعوتكم اليه فى الدنيا كما وقع يوم بدر من قتل و سبى و ضرب الملائكة وجوههم و ادبارهم و كما راوا من انشقاق القمر و تسبيح الحصا و نحو ذلك و كما يجئ من خروج الدابّة و غير ذلك نظيره قوله تعالى سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ او المعنى سيريكم آياته فى الاخرة و قال سيريكم آياته فى السماء و فى الأرض و فى أنفسكم كما سنريهم آياتنا فى الآفاق و فى أنفسهم فَتَعْرِفُونَها اى فتعرفون انها آيات اللّه و لكن لا ينفعكم حينئذ المعرفة

وَ ما رَبُّكَ يا محمد ص بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيجازى كلّا على حسب عمله لوقتهم.

﴿ ٠