سُورَةُ الرُّومِ مَكِّيَّةٌ

وَهِيَ سِتُّونَ آيَةً

مكيّة و هى ستون اية رب يسّر و تمّم بالخير

 بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

 اخرج ابن ابى حاتم عن ابن شهاب

و اخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة و يحيى بن يعمر و قتادة قال ابن شهاب بلغنا ان المشركين كانوا يجادلون المسلمين و هم بمكة قبل ان يخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فيقولون تشهدون «اى الروم- ابو محمد» انهم اهل الكتاب و قد غلبتهم المجوس و انكم تزعمون ستغلبوننا بالكتاب الذي انزل على نبيكم فكيف غلبت المجوس الروم و هم اهل الكتاب فستغلبكم كما غلبت فارس الروم «١».

(١) اخرج الترمذي و الحاكم و صححه عن ابن عباس فى هذه الاية انه قال كان المشركون يحبون ان يظهر فارس على الروم لانهم كانوا اصحاب أوثان- و كان المسلمون يحبون ان يظهر الروم على فارس لانهم كانوا اصحاب كتاب فلمّا غلبت الروم ذكروه لابى بكر فذكره ابو بكر لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم امام انهم سيغلبون فذكره أبو بكر لهم فقالوا اجعل بيننا و بينك أجلا فان ظهرنا كان لنا كذا و ان ظهرتم كان لكم كذا و كذا و كذا فجعلا بينهم خمس سنين فلم يظهروا فذكر ذلك ابو بكر لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال الا جعلته (أراه قال) دون العشرة فظهرت الروم بعد ذلك فذلك قوله الم غُلِبَتِ الرُّومُ- قال سفيان سمعت انهم ظهروا عليهم يوم بدر- و لهذا الحديث طرق متعددة مستفيضة عن ابن مسعود و البراء بن عازب و ينار بن مكرم الأسلمي ١٢ منه نور اللّه مضجعه-.

_________________________________

١

الم

٢

غُلِبَتِ الرُّومُ

٣

فِي أَدْنَى الْأَرْضِ اى ادنى ارض العرب منهم لانها الأرض المعهودة عندهم او فى ادنى ارضهم من العرب و اللام بدل من الاضافة قال عكرمة هى أذرعات و كسكر

و قال مجاهد ارض الجزيرة

و قال مجاهد «٢» الأردن و فلسطين وَ هُمْ اى الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ مصدر مبنى للمفعول اى من بعد ان غلبوا على صيغة المجهول سَيَغْلِبُونَ على فارس.

(٢) هكذا فى الأصل لعلهم نقلوا عن مجاهد قولين او صدر هذا من سبق قلم- ابو محمد عفا اللّه عنه-.

٤

فِي بِضْعِ سِنِينَ البضع ما بين الثلاث الى السبع و قيل ما بين الثلاث الى التسع و قيل ما دون العشرة و قال الجوهري تقول بضع و بضعة عشر رجلا فاذا جاوزت العشرين لا تقول بضع و عشرون و لهذا يخالف ما جاء فى الحديث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الايمان بضع و سبعون شعبة

قال البغوي كان بين فارس و الروم قتال فكان المشركون يودّون غلبة فارس على الروم لان اهل فارس كانوا مجوسا أميين و المسلمون يودّون غلبة الروم على فارس لانهم كانوا اهل كتاب فبعث كسرى يعنى پرويز بن هرمز بن نوشيروان جيشا الى الروم و استعمل عليهم رجلا يقال له شهريزاد و بعث قيصر جيشا و امّر عليهم رجلا يقال له يحيس فالتفتا ما ذرعات الشام و بصرى (و هواد فى الشام الى ارض العرب و العجم) فغاب فارس الروم فبلغ ذلك المسلمين بمكة فشق ذلك عليهم و فرح به كفار مكة و قالوا للمسلمين انكم اهل كتاب و النصارى اهل كتاب و نحن أميون و قد ظهر إخواننا اهل فارس على إخوانكم من الروم فان قاتلتمونا لنظهرن عليكم فانزل اللّه تعالى هذه الاية فخرج ابو بكر الصديق رضى اللّه عنه الى الكفار فقال فرحتم بظهور إخوانكم فو اللّه ليظهرن الروم على فارس على ما أخبرنا بذلك نبينا فقال أبيّ بن خلف الجمحي كذبت فقال أنت أكذب يا عدو اللّه فقال اجعل بيننا و بينك أجلا انا جئك (و المناحبة المراهنة) على عشر قلائص منى و عشر قلائص منك فان ظهر الروم على فارس غرمت و ان ظهر فارس على الروم غرمت ففعلوا و جعل الاجل ثلاث سنين فجاء ابو بكر الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فاخبره بذلك (و ذلك قبل تحريم القمار) فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما هكذا ذكرت انما البضع ما بين الثلاث الى التسع فزائده فى الخطر و ماده فى الاجل فخرج ابو بكر فراى ابيّا فقال لعلك ندمت قال لا أزايدك فى الخطر و امادك فى الاجل فجعل مائة قلوص و مائة قلوص الى تسع سنين و قيل الى سبع سنين قال قد فعلت- فلمّا خشى أبيّ بن خلف ان يخرج ابو بكر من مكة أتاه فلزمه و قال انى أخاف ان تخرج من مكة فاقسم لى كفيلا فكفل له عبد اللّه بن ابى بكر ابنه فقال لا و اللّه لا أدعك حتى تعطينى كفيلا فاعطاه- ثم خرج الى أحد فرجع أبيّ بن خلف الى مكة فمات بمكة من جراحته التي جرحه النبي حين بارزه- فظهرت الروم على فارس يوم الحديبية و ذلك عند رأس سبع سنين من مناجئتهم و قيل كان يوم بدر قال الشعبي لم يمض تلك المدة مدة عقد المناحبة بين اهل مكة و صاحب قمارهم أبيّ بن خلف و المسلمين و صاحب قمارهم ابى بكر الصديق (و كان ذلك قبل تحريم القمار) حتى غلبت الروم فارس و ربطوا خير لهم بالمدائن و بنوا للرمية فقمر ابو بكر ابيّا و أخذ مال الخطر من ورثته و جاء به و حمله الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال له النبي صلى اللّه عليه و سلم تصدق به

و اخرج الترمذي من حديث ابى بكر نحوه.

(مسئلة):- قال ابو حنيفة العقود الفاسدة كعقد الربوا و غيرها جائزة فى دار الحرب بين المسلمين و الكفار مستدلا بقصة ابى بكر و لان اموال الكفار غير معصوم يجوز أخذها ما لم يكن غدرا بعد الاستيمان.

قال البغوي و كان سبب غلبة الروم على فارس على ما قال عكرمة ان شهريزاد بعد ما غلب الروم لم يزل يطيئهم و يخرّب مدائنهم حتى بلغ الخليج- فبينا اخوه فرخان جالس على سريره يشرب فقال لاصحابه لقد رأيت انى جالس على سرير كسرى فبلغت حكمته كسرى فكتب الى شهريزاد إذا أتاك كتابى فابعث الىّ راس فرخان فكتب اليه ايها الملك انك لن تجد مثل فرخان و ان له نكابة و صوتا فى العدو فلا تغفل- فكتب اليه ان فى رجال فارس خلقا منه فعجل الىّ برأسه فكتب فغضب كسرى و لم يجبه و بعث بريدا الى اهل الجيش انى قد نزعت منكم شهريزاد و استعملت عليكم فرخان ثم دفع الى البريد صحيفة صغيرة امر فيها بقتل شهريزاد فقال إذا ولّى فرخان الملك و انقاد له اخوه فاعطه الصحيفة- فلمّا قرا شهريزاد الكتاب قال سمعا و طاعة و نزل عن سريره و جلس فرخان و دفع الصحيفة فقال ايتوني بشهريزاد فقدمه ليضرب عنقه فقال لا تعجل علىّ حتى اكتب وصيتي قال نعم فدعى بالسقط و أعطاه ثلاث صحائف و قال كل هذا راجعت فيك لسرى و أنت تريد ان تقتلنى بكتاب واحد فرد الملك الى أخيه فكتب شهريزاد الى قيصر ملك الروم ان لى إليك حاجة لا يحملها البريد و لا يبلغها الصحف فالقنى و لا تلقنى الا فى خمسين روميا فانى ألقاك فى خمسين فارسيّا فاقبل قيصر فى خمسين روميا «١» و جعل يضع العيون بين يديه فى الطريق و خاف ان يكون قد مكر حتى أتاه عيون له انه ليس معه الا خمسون

(١) و فى الأصل خمسين الف روميا ١٢.

رجلا ثم سقط لهما و القيافى قبة ديباج ثم ضربت لهما و مع كل واحد منهما سكين فدعوا بترجمان بينهما فقال شهريزاد ان الذين خربوا مدائنك انا و أخي بكيدنا و شجاعتنا و ان كسرى حسدنا و أراد ان اقتل أخي فابيت ثم امر أخي ان يقتلنى فقد خلقنا جميعا فنحن تقاتله معك فقال قد أصبتما ثم استأثر أحدهما على صاحبه ان السر بين اثنين فاذا جاوزهما فشا فقتلا الترجمان معا بسكينهما فادليت الروم على فارس عند ذلك فابتغوهم فقتلوهم و مات كسرى و جاء الخبر الى النبي صلى اللّه عليه و سلم يوم الحديبية ففرح هو و من معه فذلك قوله الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ الاية- و قرئ غلبت بالفتح على صيغة المعروف و سيغلبون بالضم و معناه ان الروم غلبوا على ارض فارس و المسلمون سيغلبونهم- و فى السنة التاسعة من غلبة الروم غذاهم المسلمون و فتحوا بعض بلادهم و على هذا يكون الغلب مصدرا مبنيّا للفاعل مضافا الى الفاعل و يؤيد هذه القراءة ما اخرج الترمذي عن ابى سعيد قال لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فاعجب ذلك المؤمنين فنزلت الم غُلِبَتِ الرُّومُ ....

بِنَصْرِ اللّه بفتح الغين

و اخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه و هذه قراءة شاذة و الاولى هى المتواترة و لعل النبي صلى اللّه عليه و سلم لما غلب الروم على فارس علم بالوحى الغير المتلو انه غلبت اليوم الروم على فارس فى ادنى الأرض و هم اى الروم من بعد ان غلبوا على الفارس سيغلبهم المؤمنون فقرأ على ما رواه الترمذي عن ابى سعيد بفتح الغين من غلبت على البناء و سيغلبون على البناء للمفعول و اللّه اعلم للّه الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ اى قبل غلبة الروم على فارس حين كونهم مغلوبين وَ مِنْ بَعْدُ اى بعد غلبهم عليهم حين كونهم غالبين ليس شى ء منهما الا بقضائه و قدره هذه الجملة تعليل لقوله سيغلبون وَ يَوْمَئِذٍ اى يوم إذا كان الغلبة للروم يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ

٥

بِنَصْرِ اللّه من له كتاب على من ليس له كتاب و ظهور صدقهم فيما أخبروا به المشركين و غلبتهم فى رهانهم و ازدياد يقينهم و ثباتهم فى دينهم. قال السدى فرح النبي صلى اللّه عليه و سلم بظهورهم على المشركين يوم بدر و ظهور اهل الكتاب على اهل الشرك- قال جلال الدين المحلى فرح المسلمون بذلك و علموا به يوم وقوعه يوم بدر بنزول جبرئيل بذلك فيه مع فرحهم بنصرهم على المشركين فيه- هذه الجملة معطوفة على قوله وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ فينصر هؤلاء تارة و هؤلاء اخرى وَ هُوَ الْعَزِيزُ ينتقم من عباده بتسليط غيرهم عليهم تارة الرَّحِيمُ و يرحمهم و يتفضل عليهم بتضرهم اخرى.

٦

وَعْدَ اللّه اى وعد اللّه وعدا مصدر مؤكد لنفسه لا ما قبله و هو قوله و هم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فى معنى الوعد لا يُخْلِفُ اللّه وَعْدَهُ لامتناع الكذب عليه وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يعنى كفار مكة لا يَعْلَمُونَ وعده و لا صحة وعده لجهلهم و عدم تفكرهم.

٧

يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا يعنى امور معاشهم كيف يكتسبون و كيف يتجرون و كيف يزرعون و نحو ذلك وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ التي هى المستقر ابدا هُمْ غافِلُونَ لا تخطر ببالهم هم الثانية تكرير للاولى او مبتدا و غافلون خبره و الجملة خبر الاولى و الرابطة إعادة لفظ المبتدا نحو الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ و هو على الوجهين مناد على تمكن غفلتهم عن الاخرة و هذه الجملة محققة لمضمون الجملة السابقة بدل من قوله لا يَعْلَمُونَ تقريرا و تشبيها لهم بالحيوانات المقصور إدراكها من الدنيا ببعض ظاهرها دون العلم بجميعها فان من العلم بظاهر معرفة حقائقها و صفاتها و خصائصها و افعالها و أسبابها و كيفية صدورها منها و كيفية التصرف فيها و لذلك نكر ظاهرا و اما باطنها انها مجاز الى الاخرة و وصلة الى نيلها و أنموذج لاحوالها و اشعارا بانه لا فرق بين عدم العلم و العلم الذي يختص بظاهر الدنيا.

٨

أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا الهمزة للتوبيخ و الواو للعطف على محذوف تقديره اقصروا نظرهم على ظاهر من الحيوة الدنيا و لم يتفكروا فِي أَنْفُسِهِمْ اى لم يحدثوا التفكر فيها حتى يظهر لهم بعض بواطنها او المعنى او لم يتفكروا فى امر أنفسهم فانها اقرب إليهم من غيرها و امراة يجتلى فيها للمستبصر ما يجتلى له فى الممكنات بأسرها فان الإنسان عالم صغير حتى يعلموا و يقولوا ما خَلَقَ اللّه السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ اى ما خلقها باطلا عبثا بغير حكمة بالغة بل خلقها مقرونة مصحوبة بالحكمة وَ أَجَلٍ مُسَمًّى يعنى ما خلقها للخلود بل لاجل معين ينتهى عنده و بعده قيام الساعة و وقت الحساب و الثواب و العقاب قال اللّه أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ يدل على ان تركهم غير راجعين عبث فمن تفكر فى نظام السموات و الأرض و ما بينهما يحكم ان خالقه حكيم و الحكيم لا يفعل العبث و الحكمة فى خلقها معرفة الخالق و صفاتها و لو لا البعث و النشور و الثواب و العقاب يستوى العارف و الكافر فمن تفكر فيها يكتسب العلم بالاخرة فلا يكون من الغافلين وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ يعنى كفار مكة لاجل غباوتهم و عدم تفكرهم بِلِقاءِ رَبِّهِمْ اى بجزائه عند انقراض الدنيا لَكافِرُونَ اى لجاحدون يحسبون ان الدنيا ابدية و لا بعث و لا حساب.

٩

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا الهمزة للانكار و التوبيخ و انكار النفي اثبات و تقرير و الواو للعطف على محذوف تقديره الم يخرج اهل مكة من ديارهم و لم يسيروا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا منصوب فى جواب النفي كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم كيف فى محل النصب على انه خبر كان قدم عليه لما له صدر الكلام و الجملة فى محل النصب على انه مفعول لينظروا يعنى انهم قد ساروا فى أسفارهم و نظروا الى اثار الّذين كذّبوا الرسل من قبلهم فدمروا عل ى تكذيبهم كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً كعاد و ثمود و غيرهم فان القرون الماضية كانوا أشد قوة و أطول أعمارا و اكثر اثارا من القرون التالية- هذه الجملة مع ما عطف عليه مستأنفة فى جواب كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ أَثارُوا الْأَرْضَ مع ما عطف عليه عطف على كانوا اى قلّبوا وجهها لاستنباط المياه و استخراج المعادن و كربوها للزرع و غير ذلك وَ عَمَرُوها اى الأرض عمارة أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها منصوب على انه صفة مصدر محذوف يعنى عمروها عمارة اكثر من عمارة اهل مكة إياها فانهم فى واد غير ذى زرع لا تبسط لهم فى غيرها و فيه تهكم بهم حيث كانوا مفترين بالدنيا مفتخرين بها و هم أضعف حالا فى الدنيا فان مدارها على التبسط فى البلاد و التسلط على العباد و التصرف فى أقطار الأرض بانواع العمارة و هم ضعفاء يلجئون الى واد لا نفع لها و لو لا رحلتى الشتاء و الصيف لهم الى اليمن و الشام لماتوا جوعا وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ عطف على كانوا أشدّ منهم قوة فَما كانَ اللّه لِيَظْلِمَهُمْ معطوف على جملتين محذوفتين معطوفتين على جاءتهم تقديره جاءتهم رسلهم بالبينات فكذبوهم فدمرهم اللّه فى الدنيا فما كان اللّه ليظلمهم اى ما كان صفة اللّه ظلمهم فان اللام لام الجحود و ان بعدها مقدرة يعنى ما كان صفة اللّه ان يفعل بهم ما يفعل الظلمة من التعذيب بغير جرم و لا تذكير وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث فعلوا ما ادى الى تدميرهم.

١٠

ثُمَّ اى بعد التدمير فى الدنيا عطف على جملة مقدرة و هى فدمرهم اللّه ثم كانَ عاقِبَةَ قرأ اهل الحجاز و البصرة بالرفع على انه اسم كان و خبره ما بعده او محذوف كما سنذكر و اهل الكوفة و الشام بالنصب على انه خبر كان و الاسم ان كذّبوا الَّذِينَ أَساؤُا من الأعمال تقديره ثم كان عاقبتهم فوضع المظهر موضع المضمر للدلالة على بعض ما يقتضى تلك العاقبة السُّواى تأنيث أسوأ كالحسنى تأنيث احسن يعنى الخصلة التي تسؤهم او عقوبة هى أسوأ العقوبات او هو مصدر كالبشرى نعت به مبالغة قيل السّوآء اسم من اسماء جهنم كما ان الحسنى اسم من اسماء الجنة أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللّه وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ عطف على كذّبوا و ان كذّبوا مع ما عطف عليه منصوب على العلية لقوله ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا- السُّواى تقديره لان كذبوا و جاز ان يكون بدلا او عطف بيان السّواى يعنى ثم كان عاقبة المسيئين التكذيب يعنى حملهم تلك السيئات على ان كذبوا بايات اللّه.

عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء فى قلبه فان تاب و نزع و استغفر صقل قلبه منها و ان زاد زادت حتى تعلو قلبه ذلكم الران الّذى ذكر اللّه فى كتابه كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ رواه احمد و الترمذي و النسائي و غيرهم و جاز ان يكون ان كذبوا مع ما عطف عليه خبر كان و السواى مصدر أساءوا او مفعوله و المعنى ثم كان عاقبة الذين اقترفوا الخطيئة ان طبع اللّه على قلوبهم حتى كذبوا بايات اللّه و يجوز ان يكون السّواى مصدرا و مفعولا للفعل و ان كذّبوا تابعا لها بدلا او عطف بيان و الخبر محذوف للابهام و التهويل تقديره ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ فعلوا السيئات اى التكذيب جهنم و ما لا يعرف ما أعد لهم من العذاب فيها و جاز ان يكون مفسرة للاساءة فان الاساءة إذا كانت مفسرة بالتكذيب و الاستهزاء كانت متضمنة لمعنى القول-.

١١

اللّه يَبْدَؤُا الْخَلْقَ اى يخلقهم ابتداء ثُمَّ يُعِيدُهُ اى الخلق يبعثهم بعد الموت ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجزيهم بأعمالهم قرا ابو بكر بالياء للغيبة لان الضمير عائد الى الخلق و الباقون بالتاء التفاتا من الغيبة الى الخطاب للمبالغة فى المقصود.

١٢

وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ظرف متعلق بقوله يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ و الجملة معطوفة على قوله اللّه يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قال قتادة و الكلبي اى ييئسون من كل خير

و قال مجاهد يغتضحون و قال الفراء ينقطع كلامهم و حجتهم فى القاموس البلس محركة من لا خير عنده و المبلس الساكت على ما فى نفسه و ابلس يئس و تحير و منه إبليس او هو أعجمي و قال الجزري فى النهاية المبلس الساكت من الحزن او الخوف و الإبلاس الحيرة.

١٣

وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ اى من الذين اشركوهم باللّه سبحانه فى العبادة على زعم انهم يشفعون لنا عند اللّه فهم لا يكونون لهم شُفَعاءُ يجيرونهم من عذاب اللّه أورد بصيغة الماضي لتحقق وقوعه وَ كانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ اى يحجدون بآلهتهم حين يئسوا منهم- و قيل معناه كانوا فى الدنيا بسبب شركائهم كافرين باللّه تعالى.

١٤

وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ظرف متعلق بيتفرّقون يَوْمَئِذٍ بدل من يوم تقوم الساعة او تأكيد له اى يوم إذا كانوا مبلسين و كانوا بشركائهم كافرين يَتَفَرَّقُونَ قال مقاتل يتفرقون بعد الحساب سيق المؤمنون الى الجنة و الكافرون الى النار ثمّ لا يجتمعون ابدا ثم فصله بقوله.

١٥

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ اى ارض ذات ازهار و انهار من رياض الجنة يُحْبَرُونَ قال ابن عباس رض يكرمون

و قال مجاهد و قتادة ينعمون و قال ابو عبيدة يسرون و الحبرة السرور و قيل الحبرة كل نعمة حسنة و التخبير التحسين و فى النهاية للجزرى الحبرة بالفتح النعمة و سعة العيش و الحبرة بالكسر و قد يفتح الجمال و الهيئة الحسنة و فى القاموس نحوه و فى حديث ابى موسى لو علمت انك يا رسول تسمع لقراءتى لحبرتها لك تحبيرا اى حسنت صوتى بها-

قال البغوي و قال الأوزاعي عن يحيى بن كثير يحيرون هو السّماء فى الجنة و كذا اخرج هناد و البيهقي عن يحيى بن كثير فى هذه الاية و قال الأوزاعي إذا أخذ فى السماع لم تبق شجرة فى الجنة الا و رفت و قال ليس أحد من خلق اللّه احسن صوتا من اسرافيل فاذا أخذ فى السماع قطع على اهل سبع سموت صلاتهم و تسبيحهم-

و اخرج ابن عساكر عن الأوزاعي فى هذه الاية قال هو السماء إذا أراد اهل الجنة ان يطربوا اوحى اللّه تعالى الى رياح يقال لها العفافة فدخلت فى اجام قصيب اللؤلؤ الرطب فحركته فضرب بعضه بعضا فتطرب الجنة فاذا طربت لم يبق شجرة فى الجنة الا ورقت-

و اخرج الطبراني و البيهقي عن ابى امامة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال ما من عبد يدخل الا ان تجلس عند رأسه و عند رجليه ثنتان من الحور العين يغنيان بأحسن صوت سمعه الانس و الجن و ليس بمزمار الشيطان و لكن بتحميد اللّه و تقديسه

و اخرج البيهقي عن ابن عباس رض انه سئل فى الجنة غناء قال الكرار من مسك عليها يمجدون اللّه تعالى بصوت لم يسمع الاذن مثله قط-

قلت الطرب بالشعر و الغناء فى الدنيا لا يحصل الا بذكر المحبوب بكلام موزون فى صوت حسن موزون و لا شك ان الناس إذا فازوا يرؤية جمال اللّه سبحانه و لاجمال فوق جماله فلا محبوب لهم غيره فيطربون بسماع ذكره بصوت حسن موزون و فى بعض الأحاديث ان الحور العين يغنّين لازواجهن بأصوات ما سمعها أحد قط فيكون ممّا يغنّين

نحن الخيرات الحسان ازواج قوم كرام

و مما يغنّين

نحن الخالدات فلا نموتن نحن الامنات فلا نخافن

نحن المقيمات فلا نطحن

كذا اخرج الطبراني عن ابن عمر رض مرفوعا

و اخرج الطبراني و البيهقي و ابن ابى الدنيا عن انس نحوه و عن مالك بن دينار عند احمد فى الزهد يقول اللّه لداؤد عليه السلام مجدنى بذلك الصوت الحسن فيندفع داود بصوت ستقرع نعيم اهل الجنة و عن ابى هريرة عند الاصبهانى مرفوعا ان اللّه تعالى ليوصى الى شجرة الجنة ان اسمعي عبادى الذين شغلوا أنفسهم عن المعازف و المزامير بذكرى فيسمعهم بأصوات ما سمع الخلائق مثلها قط بالتسبيح و التقديس. و فى الباب أحاديث كثيرة

و اخرج الحكيم فى نوادر الأصول عن ابى موسى رض قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من استمع الى صوت غناء لم يؤذن له ان يسمع صوت الروحانيين قال يا رسول اللّه ما الروحانيون قال قراء اهل الجنة

و اخرج دينورى عن مجاهد قال ينادى مناد يوم القيامة ان الذين كانوا ينزهون أصواتهم و أسماعهم عن اللّهو و مزامير الشيطان قال فيحلهم اللّه فى رياض من مسك فيقول للملائكة اسمعوا عبادى تحميدي و تمجيدى و اخبروهم ان لا خوف عليهم و لا هم يحزنون- و روى الديلمي عن جابر بن عبد اللّه مرفوعا مثله.

١٦

وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ اى البعث و القيامة فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ مدخلون لا يغيبون عنه.

١٧

فَسُبْحانَ اللّه مصدر لفعل محذوف تقديره فسبحوا للّه سبحانا حذف الفعل و أضيف المصدر الى المفعول و الفاء للسببية و التفريع على ما سبق من صفاته تعالى من الإبداء و الاعادة و غيرها و المراد بالتسبيح الصلاة يعنى صلوا للّه حِينَ تُمْسُونَ اى حين تدخلون فى المساء صلوة المغرب شكرا لما أنعم اللّه من تمام النهار بالسلامة و النعمة و الدخول فى الليل للسكون و الراحة- بدا بذكر صلوة المغرب لتقدم الليل على النهار فى اعتبار الشهور و الأيام وَ حِينَ تُصْبِحُونَ شكرا لما أنعم اللّه عليه من تمام الليل بالسلامة و الراحة و الدخول فى النهار لكسب المعاش و المعاد ذكر صلوة الصبح بعد المغرب لمقابلة الصباح بالمساء.

١٨

وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قال ابن عباس اى يحمدون اهل السموات و الأرض و يصلون له الجملة حال من اللّه او معترضة وَ عَشِيًّا اى اخر النهار عن عشى العين إذا نقص نورها عطف على يصبحون يعنى صلوا صلوة العصر صلوة الوسطى- و لما كان ذلك وقت اشتغال الناس بامور الأسواق قدم ذكرها على ذكر الظهر اهتماما يعنى لا بد لكم من الاشتغال بالصلوة حين اشتغال الناس بامور الدنيا كيلا تكونوا من الذين لا يلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر اللّه وَ حِينَ تُظْهِرُونَ اى تدخلون فى الظهيرة يظهر عليكم صولة الشمس و يذكركم حر نار جهنم و حر ذكائها يوم القيامة- خص هذه الأوقات لما تظهر فيها قدرته و تتجدد نعمته و لما يحدث فيها من الشواهد الناطقة بتنزيهه و استحقاقه الحمد و الشكر ممن له نميز من اهل السموات و الأرض ذكر فى هذه الاية أربعا من الصلوات الخمس و قيل حين تمسون اشارة الى المغرب و العشاء جميعا اخرج ابن جرير و الطبراني و الحاكم قول ابن عباس ان الاية جامعة للصلوات الخمس حين تمسون كناية عن المغرب و العشاء جميعا-

و

قال البغوي قال نافع بن الأزرق لابن عباس هل تجد الصلوات الخمس فى القران قال ابن عباس نعم

و قرا هاتين الآيتين و قال جمعت هذه الاية الصلوات الخمس و مواقيتها.

عن ابن عباس رض قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم من قال حين يصبح و حين يمسى سبحان اللّه حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ الى قوله.

وَ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ أدرك ما فاته فى يومه ذلك و من قالهن حين يمسى أدركه ما فاته فى الليلة- رواه ابو داؤد و عنه عليه السلام من سره ان يكتال له بالقفيز الا و فى فليقل فَسُبْحانَ اللّه حِينَ تُمْسُونَ الاية- رواه الثعلبي من حديث انس بسند ضعيف جدا عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال من قال سبحان اللّه و بحمده فى يوم مائة مرة حطت خطاياه و ان كانت مثل زبد البحر متفق عليه و عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من قال حين يصبح و حين يمسى سبحان اللّه و يحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به الا أحد قال مثل ما قال او زاد عنه متفق عليه و عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان فى الميزان حبيبتان الى الرحمان سبحان اللّه و بحمده سبحان اللّه العظيم- متفق عليه و عن جويرية بنت الحارث بن ابى ضرار رضى اللّه عنها ان النبي صلى اللّه عليه و سلم خرج ذات غداة من عندها (و كان اسمها برة) فخرج و هى فى المسجد فرجع بعد ما تعالى النهار و قال مازلت فى مجلسك هذا منذ خرحت بعد قالت نعم فقال لقد قلت بعدك اربع كلمات ثلاث مرات لو و زنت بكلماتك لوزنتهن سبحان اللّه و بحمده عدد خلقه و رضاء نفسه وزنة عرشه و مداد كلماته- رواه مسلم و عن سمرة بن جندب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أفضل الكلام اربع سبحان «١» اللّه و الحمد للّه و لا اله الا اللّه و اللّه اكبر و فى رواية أحب الكلام الى اللّه اربع سبحان اللّه و الحمد للّه و لا اله الا اللّه و اللّه اكبر لا يضرك بايتهن بدأت- رواه مسلم و عن ابى ذر قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اىّ الكلام أفضل قال ما اصطفى اللّه لملائكته سبحان اللّه و بحمده- رواه مسلم و عن جابر رض قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من قال سبحان اللّه العظيم و بحمده غرست له نخلة فى الجنة رواه الترمذي.

(١) عن ابن عباس رض قال قال عمر رض بن الخطاب اما الحمد للّه فقد عرفناه فقد يحمد الخلائق بعضهم بعضا و اما لا اله الا اللّه فقد عرفناها فقد عبدت الالهة من دون اللّه و اما اللّه اكبر فقد يكبر المصلى و اما سبحان اللّه فما هو فقال رجل من القوم اللّه اعلم فقال لقد شقى عمر ان لم يكن يعلم ان اللّه اعلم فقال على رض يا امير المؤمنين هو اسم ممنوع ان ينتحله أحد من الخلائق و اليه مفزع الخلق واجب ان يقال له فقال هو كذلك. منه رحمه اللّه- [.....].

١٩

يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كالانسان من النطفة و الطائر من البيضة وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ النطفة و البيضة من الحيوان او يعقب الحيوة بالموت و بالعكس وَ يُحْيِ الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها اى يبسها وَ كَذلِكَ اى مثل ذلك الإخراج تُخْرَجُونَ من قبوركم احياء بعد الموت فلم تنكرونه بعد ما تشاهدون نظيره فهى تعليل للبعث قرا «و خلف و ابن ذكوان بخلاف عنه ابو حمد» حمزة و الكسائي بفتح التاء و ضم الراء على البناء للفاعل و الباقون يضم التاء و فتح الراء على البناء للمفعول ..

٢٠

وَ مِنْ آياتِهِ اى من آيات قدرته تعالى على البعث أَنْ خَلَقَكُمْ اى خلق أصلكم آدم مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ إذا للمفاجاة مضاف الى الجملة و العامل فيه معنى المفاجاة و المعنى ثم فاجأتم وقت كونكم بشرا منتشرين فى الأرض بعد ما كنتم جمادا بلا حس و حركته.

٢١

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ من للابتداء لان حواء خلقت من ضلع آدم و سائر النساء من نطف الرجال او للبيان لانهن من جنسهم لا من جنس اخر أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها لتميلوا إليها و تألفوا لها فان الجنسية علة الضم و الاختلاف سبب التنافر وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ اى بين الرجال و النساء او بين افراد الجنس مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً بواسطة الزواج حال الشبق و غيرها بخلاف سائر الحيوانات نظما لامر المعاش او بان تعيّش الإنسان موقوف على التعاون المحوج الى التواد و التراحم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فى عظمة اللّه و قدرته فيعلمون ما فى ذلك من الحكم و من التناسل.

٢٢

وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ اى لغاتكم بان علّم كل صنف لغة و ألهمه و اقدره عليها او أجناس نطقكم و اشكاله و كيفيات أصواتكم بحيث لا يكاد يلتبس صوت أحد بغيره وَ أَلْوانِكُمْ اى ألوان الجلد من السواد و البياض و غيرها او مشخصات الأعضاء و هياتها و ألوانها و حلاها بحيث لا يلتبس أحد بغيره إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ لا يكاد يخفى على عاقل من ملك او انس او جن

و قرا حفص بكسر اللام خصهم بالذكر لانهم أحقاء بالمعرفة قال اللّه تعالى.

وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ

٢٣

وَ مِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ منامكم فى زمانين لاستراحة القوى النفسانية و قوة القوى الطبيعية وَ ابْتِغاؤُكُمْ المعاش و المعاد مِنْ فَضْلِهِ فى كلا الزمانين او المعنى منامكم بالليل و ابتغاؤكم بالنهار فلف و ضم بالزمانين و الفعلين بعاطفين اشعارا بان كلّا من الزمانين و ان خص بأحدهما فهو صالح للاخر عند الحاجة و يؤيده سائر الآيات الواردة فيه إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تفهم و استبصار فان الحكمة فيه ظاهرة.

٢٤

وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ مقدر بان او الفعل فيه نزل منزلة المصدر كقوله تسمع للمعيدى خير من ان تراه او صفة لمحذوف تقديره اية يريكم بها البزق خَوْفاً من الصاعقة و فى حالة السفر وَ طَمَعاً فى الغيث إذا كنتم فى منازلكم و نصبهما على العلة لفعل يلزم المذكور فان إراءتهم يستلزم رؤيتهم الى البرق للخوف او الطمع او الفعل مذكور بحذف المضاف اى لاراءة خوف و طمع او بتأويل الخوف و الطمع بالاخافة و الاطماء كقولك فعلته رغما للشيطان او على الحال مثل كلمته شفاها وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً مطرا فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بالانبات بَعْدَ مَوْتِها اى يبسها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ اى يستعملون عقولهم فيدركون كمال قدرة الصانع و حكمته.

٢٥

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ اى يبقيان فى حيزيهما بِأَمْرِهِ اى بإقامته لهما و إرادته ببقائهما ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ الجملة معطوفة على ان تقوم بتأويل المفرد كانّه قال و من آياته قيام السماء و الأرض ثم خروجكم من القبور إذا دعاكم دعوة واحدة و ثم لتراخى زمانه او لعظم ما فيه و قوله مِنَ الْأَرْضِ

قال البغوي اكثر العلماء على انه متعلق بتخرجون و

قال البيضاوي هذا لا يجوز لان ما بعد إذا لا يعمل فيما قبله بل متعلق بقوله دعاكم كقوله دعوته من أسفل الوادي- اخرج ابن عساكر عن زيد بن جابر الشافعي فى قوله تعالى وَ اسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ قال يقف اسرافيل على صخرة بيت المقدس فيقول يا ايها العظام النخرة و الجلود المتمزقة و الاشعار المتقطعة ان اللّه يأمرك ان تجتمع لفصل الحساب- و إذا الثانية للمفاجاة و لذلك ناب مناب الفاء فى جواب الاولى ظرف مضاف الى الجملة و العامل فيه معنى المفاجاة تقديره ففاجأتم وقت خروجكم.

٢٦

وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ملكا و خلقا كُلٌّ اى كل واحد منها لَهُ قانِتُونَ مطيعون قال الكلبي هذا خاص بمن كان منهم مطيعا و الصحيح انه عام لبيان قهرمانه و المراد الانقياد فى الأوامر التكوينية قال ابن عباس كل مطيع له فى الحيوة و الموت و البعث و نحو ذلك و ان عصوا فى العبادة اخرج ابن ابى حاتم عن عكرمة قال تعجب الكفار من احياء الموتى فنزلت.

٢٧

وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الإهلاك وَ هُوَ الاعادة و تذكير الضمير لتذكير الخبر او الاعادة بمعنى ان يعيد أَهْوَنُ عَلَيْهِ الجملة حال من فاعل يعيد او معطوفة على ما سبق قال الربيع بن خيثم و الحسن و قتادة و الكلبي أهون بمعنى هين و لا شى ء على اللّه بعزيز و يجئ افعل بمعنى الفعيل و هو رواية العوفى عن ابن عباس.

و قال مجاهد و عكرمة و هو أهون على طريق ضرب المثل اى هو أيسر عليه على ما يقع فى عقر لكم فان فى عقول الناس الاعادة أهون من الإنشاء و قيل هو أهون عليه عندكم و قيل هو يعنى العود أهون على الخلق فانهم فى العود يقومون بصيحة واحدة فيكون أهون عليهم من ان يكونوا نطفا ثم علقا ثم مضغا الى ان يصيروا رجالا و نساء و هذا معنى رواية حبان عن الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى اى الوصف الأعلى الذي ليس لغيره ما يساويه او يدانيه كالقدرة العامّة و الحكمة التامّة قال ابن عباس هى انه ليس كمثله شى ء-

و اخرج عبد الرزاق و ابن ابى حاتم انه قال قتادة فى قوله تعالى وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى قال شهادة ان لا اله الا اللّه قلت أراد به الوصف بالوحدانية فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يصف به ما فيهما نطقا و دلالة وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب فى ملكه و خلقه لقادر على كل شى ء لا يعجزه شى ء من الإبداء و الاعادة الْحَكِيمُ الذي يجرى الافعال على ما يقتضيه الحكمة- اخرج الطبراني عن ابن عباس قال كان اهل الشرك يكبّون اللّهم لبيك لا شريك لك الا شريكا هو لك تملكه و ما ملكت فنزلت.

٢٨

ضَرَبَ اللّه اى بيّن لَكُمْ ايها المشركون مَثَلًا كائنا مِنْ أَنْفُسِكُمْ اى شبها منتزعا من أحوالكم فانها من اقرب الأمور إليكم و هو هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ اى من ممّا ليككم مِنْ شُرَكاءَ لكم فِي ما رَزَقْناكُمْ من الأموال و غيرها فَأَنْتُمْ و هم فِيهِ سَواءٌ فى التملك و التصرف يتصرفون فيه كتصرفكم تَخافُونَهُمْ ان تتصرفون فيها دونهم كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ اى أمثالكم فى الحرية- و الاستفهام للانكار يعنى ليس الأمر كذلك و انها معارة لكم مع انهم بشر مثلكم فكيف تجوزون كون الحجارة التي هى أعجز المخلوقات شركاء لخالق الأرض و السموات كَذلِكَ اى تفصيلا مثل ذلك التفصيل نُفَصِّلُ الْآياتِ نبيّنها فان التمثيل ما يكشف المعاني و يوضحها لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ اى يستعملون عقولهم فى تدبر الأمثال

و اخرج جويبر مثل ما اخرج الطبراني فى سبب نزول الاية عن داود بن ابى هند عن ابى جعفر محمد بن على عن أبيه عليهم السّلام.

٢٩

بَلِ اتَّبَعَ إضراب من مضمون الكلام السابق يعنى ليس اللّه شريك بل اتبع الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بتعريضها للعذاب بالاشراك باللّه أَهْواءَهُمْ فى الشرك بِغَيْرِ عِلْمٍ حال من فاعل اتبعوا يعنى جاهلين بما يجب عليهم فَمَنْ يَهْدِي اى إياه الفاء للسببية و الاستفهام للانكار إذا اتبعوا أهواءهم و لم يقبلوا هدى اللّه فلا أحد يهديهم وضع المظهر يعنى قوله مَنْ أَضَلَّ اللّه موضع الضمير اشعارا بان اللّه أضلهم فمن يقدر على هدايته وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلصونهم عن آفاتها.

٣٠

فَأَقِمْ الفاء للسببية يعنى لما ثبت وحدانيته تعالى و ظهر ان المشركين انما اتبعوا أهواءهم جاهلين فاقم أنت وَجْهَكَ اى أخلص بوجهك لِلدِّينِ اى للاسلام حَنِيفاً مائلا اليه مستقيما عليه غير ملتفت عنه الى غيره فِطْرَتَ اللّه منصوب على الإغراء اى الزموا فطرة اللّه اى خلقته و المراد به دينه يعنى الإسلام كذا قال ابن عباس رض و جماعة من المفسرين فالاية خطاب للنبى صلى اللّه عليه و سلم و لامته بتبعيته فالاية بمنزلة التأكيد او التفسير لما قبله سماه فطرة لكونه لازما لكل مخلوق كما يدل عليه قوله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها خلقهم مستعدين لها متمكنين على إدراكها و قيل المراد به العهد المأخوذ من آدم و ذريته بقوله أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى قالوا كل مولود فى العالم مولود على ذلك الإقرار و هو الحنيفة التي وقعت الخلفة عليها و قد مرّ ما ورد فى هذا الباب فى تفسير هذه الاية فى سورة الأعراف عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما من مولود الا يولد على الفطرة فابواه يهود انه او ينصرانه او يمحبسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاع هل تحسون فيها من جدعاء ثم قرا فِطْرَتَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّه متفق عليه يعنى كل مولود يولد فى مبدا الخلقة على الجبلة السليمة و الطبع المهيا لقبول الحق فلو ترك عليها لاستمر على لزومها لان هذا الدين مركوز فى العقول السليمة حسنه و انما يعدل عنه من يعدل لافة من الآفات كتقليد الآباء قوله تعالى لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّه الظرف المستقر خبر اللّه و الجملة الخبرية معناه النهى يعنى لا تبدلوا دين اللّه قال مجاهد و ابراهيم النخعي الزموا فطرة اللّه و اتبعوه و لا تبدلوا التوحيد بالشرك- و قيل فطرة اللّه منصوب على المصدرية لفعل دل عليه ما بعده يعنى فطر اللّه الناس فطرة التي فطرهم عليها حكى عن عبد اللّه بن مبارك قال معنى الحديث كل مولود يولد على الفطرة اى على خلقته التي جبل عليها فى علم اللّه من السعادة او الشقاوة و كل منهم صائر فى العاقبة الى ما فطر اللّه عليها و عامل فى الدنيا بالعمل المشاكل لها و على هذا معنى قوله تعالى لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّه يعنى ما جبل عليه الإنسان من السعادة و الشقاوة لا يتبدل فلا يكون الشقي سعيدا و لا السعيد شقيّا عن ابن مسعود قال حدثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو الصادق المصدوق ان خلق أحدكم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث اللّه اليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله و اجله و رزقه و شقى او سعيد ثم ينفخ فيه الروح فو الذي لا اله غيره ان أحدكم ليعمل بعمل اهل الجنة حتى ما يكون بينه و بينها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل النار فيدخلها و ان أحدكم ليعمل بعمل اهل النار حتى ما يكون بينه و بينها الاذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل الجنة فيدخلها. متفق عليه و عن ابى الدرداء قال بينما نحن عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نتذاكر ما يكون إذ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذ سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوه و إذا سمعتم برجل تغير عن خلقه فلا تصدقوه فانه يصير الى ما جبل عليه.

رواه احمد و المعنى على هذا التأويل ان اللّه فطر كلّا على فطرة لا يتبدل و قد فطرك و من معك سعداء فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ كانه تعليل و تشجيع على الإخلاص و جاز ان يكون فطرة اللّه على هذا التأويل منصوبا بتقدير ملتزمين فطرة اللّه التي فطركم عليها فوضع الظاهر يعنى لفظ الناس موضع الضمير اشعارا بان الناس كلهم مغطورون على فطرة غير تاركوها فانتم اقيموا وجوهكم للدين قال عكرمة و مجاهد يعنى لا تبدلوا خلق اللّه و المراد منه تحريم اخصاء البهائم ذلِكَ اشارة الى الدين المأمور بالإقامة او الفطرة على التأويل الاول الدِّينُ الْقَيِّمُ المستقيم الذي لا اعوجاج فيه وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يعنى كفار مكة لا يَعْلَمُونَ استقامة لعدم تدبرهم.

٣١

مُنِيبِينَ إِلَيْهِ اى راجعين اليه من أناب إذا رجع مرة بعد اخرى و قيل معناه منقطعين اليه من غيره من الناب منصوب بفعل مقدر و هو كونوا بدليل عطف لا تكونوا عليه او حال من الضمير فى الزموا او ملتزمين الناصب المقدر لفطرت اللّه او فى أقم لان الاية خطاب للرسول صلى اللّه عليه و سلم و أمته صدّرت بخطاب الرسول لتعظيمه كما فى قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ يدل عليه قوله وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ

٣٢

مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ بدل من المشركين يعنى تقرقوا و اختلفوا فيما يعبدونه على اختلاف اهوائهم قرا حمزة و الكسائي فارقوا يعنى تركوا دينهم الّذى أمروا به وَ كانُوا شِيَعاً فرقا تشايع كل امامها الذي اخترع لهم دينا قيل المراد به اهل البدع من هذه الامة حيث تركوا دين الحق و اتبعوا أهواءهم و اطلق عليهم لفظ المشركين لكونهم ممن اتخذ الهه هواه عن عبد اللّه بن عمرو رض قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تفترق أمتي ثلاثا و سبعين فرقة كلهم فى النار الا واحدة قيل من هى يا رسول اللّه قال ما انا عليه و أصحابي- رواه الترمذي كُلُّ حِزْبٍ منهم بِما لَدَيْهِمْ من الاعتقاد فَرِحُونَ مسرورون ظنّا بانهم على الحق روى الدارمي عن ابراهيم بن إسحاق عن ابن المبارك عن الأوزاعي قال قال إبليس لاوليائه من اى شى ء تأتون بنى آدم فقالوا من كل شى ء فقال فهل تأتونهم من قبل الاستغفار فقالوا هيهات ذاك شى ء قرن بالتوحيد قال لابثن فيهم شيئا لا يستغفرون منه قال فبث فيهم الأهواء.

٣٣

وَ إِذا مَسَّ النَّاسَ يعنى كفار مكة ضُرٌّ قحط و شدة دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعون اليه من دعاء غيره ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً خلاصا من الشدة او خصبا و رحمة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ فاجاء فريق منهم بالاشراك بربهم الذي عافاهم و نسبوا معافاتهم الى غيره- عن زيد بن خالد الجهتى قال صلى لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صلوة الصبح بالحديبية على اثر سماء كانت من الليل فلما انصرف اقبل على الناس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا اللّه و رسوله اعلم قال قال أصبح من عبادى مؤمن و كافر فاما من قال مطرنا بفضل اللّه و رحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب و اما من قال مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب متفق عليه و عن ابى هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ما انزل اللّه من السماء بركة الا أصبح فريق من الناس بها كافرين ينزل اللّه الغيث فيقول بكوكب كذا و كذا. رواه مسلم.

٣٤

لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ اللام فيه للعاقبة و قيل للامر بمعنى التهديد لقوله تعالى فَتَمَتَّعُوا غير ان فيه التفات من الغيبة الى الخطاب فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة تمتيعكم.

٣٥

أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً أم منقطعة بمعنى بل و الهمزة و الاستفهام للانكار عطف على كلّ حزب بما لديهم فرحون و جاز ان يكون متصلة معطوفة على مقدر تقديره أ يشركون بلا حجة أم أنزلنا عليهم سلطانا قال ابن عباس يعنى حجة و عذرا و قال قتادة كتابا و قيل ذو سلطان يعنى ملكا معه برهان او رسولا مؤيدا بالمعجزة فَهُوَ يَتَكَلَّمُ نطقا او دلالة كقوله تعالى كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ اى باشراكهم و صحته او بالأمر الذي بسببه يشركون به و بالوهيته و الاستفهام فى أم أنزلنا للتقرير يعنى حمل المخاطب على الإقرار بانهم يشركون بلا حجة.

٣٦

وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً نعمة من صحة و سعة فَرِحُوا بطروا بِها بسببها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ اشدة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ اى بشوم معاصيهم إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ فاجاءوا القنوط من رحمته و هذا خلاف وصف المؤمن فانه يشكر عند النعمة و يرجو ربه عند الشدة و يصبر و يحتسب.

٣٧

أَ وَ لَمْ يَرَوْا الاستفهام للانكار و الواو للعطف على محذوف تقديره الم يتفكروا و لم يعلموا أَنَّ اللّه يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ اى يضيق فما لهم بطروا فى السراء و لم يشكروا و قنطوا فى الضراء و لم يرجعوا الى اللّه راجين مغفرته بالندم و التوبة و ترك المعصية و لم يصبروا و لم يحتسبوا كالمؤمنين إِنَّ فِي ذلِكَ القبض و البسط لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يستدلون بهما على كمال القدرة و الحكمة.

٣٨

فَآتِ الفاء للسببية يعنى إذا عرفت ان قبض الرزق و البسط من اللّه تعالى فات ذَا الْقُرْبى مصدر بمعنى القرابة حَقَّهُ من البر و الصلة و النفقة الواجبة بقوله تعالى وَ عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ و قد مرّ بحث نفقة المحارم فى تفسير تلك الاية فى سورة البقرة وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ المسافر الّذى ليس معه ما له و كان له مال فى وطنه اتهم حقوقهم من مال الزكوة ابتغاء مرضات اللّه و رجاء من فضله فى الدنيا و الاخرة ذلِكَ الإيتاء خَيْرٌ من إيثار اللذات لانفسهم لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللّه اى ذاته او جهته يعنى يقصدون به رضاءه و يرجون ثوابه دون من يؤتى رياء و سمعة وَ أُولئِكَ عطف على الموصول او على ذلك هُمُ الْمُفْلِحُونَ دون غيرهم فانهم اشتروا بالدنيا الفانية العقبى الباقية.

٣٩

وَ ما آتَيْتُمْ بالمد عند الجمهور يعنى ما أعطيتم أكلة الربوا مِنْ رِباً زيادة محرمة فى المعاملة او عطية مباحة من هدية او هبة يتوقع بها مزيد مكافاة و على هذا التأويل سمى العطية بالربا باسم المطلوب و هو الزيادة-

و قرا ابن كثير ما آتيتم فى الموضعين مقصورا اى ما جئتم به من إعطاء زيادة محرمة او عطية مباحة يتوقعون بها مزيد مكافاة لِيَرْبُوَا قرأ اهل المدينة و يعقوب بالتاء للخطاب مضمومة و الباء المضمومة و اسكان الواو اى لتربوا أنتم و تصيرون ذا زيادة فِي أَمْوالِ النَّاسِ اى اموال المعطين او المعطى لهم

و قرا الباقون ليربوا بالياء التحتانية المفتوحة و فتح الواو اى ليزيدوا فى أموالهم فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللّه فلا يزيدوا عنده و لا يبارك فيه.

قال البغوي اختلفوا فى معنى الاية فقال سعيد بن جبير رض و مجاهد و طاءوس و قتادة و اكثر المفسرين هو الرجل يعطى غيره العطية ليثيب اكثر منها و هذا جائز حلال و لكن لا يثاب عليه يوم القيامة و هو معنى قوله فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللّه و كان هذا حراما على النّبي صلى اللّه عليه و سلم لقوله تعالى وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ و قال الضحاك هو الرجل يعطى قريبه او صديقه لتكثير ماله و لا يريد به وجه اللّه و قال الشعبي هو الرجل يلتزق بالرجل فيخدمه و يسافر معه فيجعل له ربح ماله التماس عونه لا لوجه اللّه فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللّه لانه لا يريد به وجهه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انما الأعمال بالنيات و انما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته الى اللّه و رسوله فهجرته الى اللّه و رسوله و من كانت هجرته الى الدنيا يصيبها او امراة ينكحها فهجرته الى ما هاجر اليه متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ اى ما أعطيتم من صدقة او فعلتم أداء الزكوة تُرِيدُونَ به وَجْهَ اللّه ذاته او ثوابه و رضاءه فَأُولئِكَ يعنى الذين يؤتون الزّكوة هُمُ الْمُضْعِفُونَ اى الذين يضاعف لهم الثواب فيعطون بالحسنة عشرة أمثالها الى سبع مائة ضعف الى ما لا نهاية له و يضاعف لهم أموالهم ببركة الزكوة او المعنى هم ذووا الأضعاف من الثواب نظيره المقوي و الموسر لذى القوة و اليسار- و تغييره عن سنن المقابلة عبارة و نظما للمبالغة و الالتفات فيه للتعظيم كانه خاطب به الملائكة و خواص الخلق تعريفا لح الهم او للتعميم كانه قال من فعل ذلك فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ و الراجع منه محذوف ان جعلت ما موصولة تقديره المضعفون به و قال الزجاج تقديره تاهلها هم المضعفون.

٤٠

اللّه مبتدا و ما بعده خبره الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ... هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ اى ممن اشركتموها باللّه من الأصنام و غيرها و الاستفهام للانكار اى ليس شى ء منها مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْ ءٍ ذكر اللّه سبحانه لوازم الالوهية و أثبتها لنفسه و نفاها عن غيره مؤكدا بالإنكار على ما دل عليه البرهان و العيان و وقع عليه الوفاق ثم استنتج من ذلك تقدسه عن ان يكون له شريكا فقال سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ قرا «و خلف ابو محمد» حمزة و الكسائي بالتاء الفوقانية و الباقون بالياء التحتانية و جاز ان يكون الَّذِي خَلَقَكُمْ صفة للّه و هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ خبره و الرابط من ذلكم لانه بمعنى من أفعاله تقديره اللّه الّذى خلقكم هل من شركائكم من يفعل شيئا من أفعاله. من الاولى و الثانية تفيد ان شيوع الحكم فى جنس الشركاء و الافعال و الثالثة مزيدة لتعميم النفي و كل منها مستقلة لتعجيز الشركاء.

٤١

ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ كالجدب و الموتان و كثرة الحرق و الغرق و القتال و الجدال و محق البركات و الظلم و كثرة المضار و الأمراض و الضلال و الرياح المفسدة فى البحار و مصادمة الدواب فى البحار. و

قال البغوي أراد بالبر البوادي و المفاوز و بالبحر المدائن و القرى التي على المياه الجارية

و اخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم عن عكرمة انه قال العرب يسمى المصر يحرا يقول احدبت البر و انقطعت مادة البحر و قال عطية و غيرها البر ظهر الأرض من الأمصار و غيرها و البحر هو البحر المعروف و قلة المطر كما تؤثر فى البر تؤثر فى البحر فتخلوا جواف الاصداف لان الصدف إذا جاء المطر ترتفع الى وجه البحر و تفتح فاه فما يقع فى فيه من المطر صار لؤلؤا و قال ابن عباس و مجاهد الفساد فى البر قتل ابن آدم أخاه و فى البحر غصب الملك الجابر السفينة اخرج الفريابي و ابن المنذر رض و ابن ابى حاتم عن مجاهد انه قال ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ بقتل قابيل أخاه و فى البحر بان ملك عمان جلندى كان يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً و قال الضحاك كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتى ابن آدم شجرة «اى ذات أفق اى ذات كلاء و أنيق حسن معجب» الا وجد عليها ثمرة و كان ماء البحر عذبا و كان لا يقصد الأسد البقر و الغنم فلمّا قتل قابيل هابيل اقشرت الأرض و شاكت الأشجار و صار ماء البحر ملحا أجاجا و قصد الحيوان بعضه بعضا بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ اى بشوم معاصيهم او بكسبهم إياه يعنى وقع القحط و الجدب بمكة بشوم معاصى أهلها حتى أكلوا العظام و الجيف لِيُذِيقَهُمْ قرأ قنبل بالنون على التكلم و الباقون بالياء بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا اى بعض جزائه فان تمام الجزاء فى الاخرة و اللام للعلة او العاقبة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ اى لكى يرجعوا من أعمالهم الخبيثة متعلق بقوله لِيُذِيقَهُمْ قال قتادة امتلأت الأرض ظلما و ضلالة قبل مبعث النبي صلى اللّه عليه و سلم فلمّا بعث رجع راجعون من الناس-.

٤٢

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ اى من قبلكم لتروا منازل الذين ظلموا خاوية كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ الجملة حال بتقدير قد او استيناف للدلالة على ان سوء عاقبتهم كان لظهور الشرك و غليته فيهم او كان الشرك فى أكثرهم و ما دونه من المعاصي فى قليلهم فاهلكوا جميعا بشوم الجار السوء او بتركهم الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر جملة قل سيروا تأكيد من حيث المعنى ليذيقهم لدلالة على اذاقة العذاب.

٤٣

فَأَقِمْ وَجْهَكَ حذرا عما لحق بمن قبلك فالفاء للسببية لِلدِّينِ الْقَيِّمِ البليغ فى الاستقامة و هو دين الإسلام مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ اى لا يقدر أحد ان يرده مِنَ اللّه متعلق بيأتي او بمردّ لانه مصدر على معنى لا يرده اللّه لتعلق إرادته بمجيئه يمكن ان يكون المراد بذلك اليوم يوم يأتيهم العذاب فى الدنيا و الظاهر ان المراد به يوم القيامة يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أصله يتّصدّعون اى يتضرفون فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فى السّعير او فريق يعذب فى الدنيا و فريق لا يعذب كيوم بدر.

٤٤

مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ اى و باله فى الدنيا و الاخرة وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ اى يسوون منازل حسنة فى القبور و فى الجنة.

٤٥

لِيَجْزِيَ اللّه متعلق بيمهدون الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ظاهر موضع الضمير لبيان مناط جزائهم مِنْ فَضْلِهِ متعلق بيجزى قال ابن عباس رض ليثيبهم اللّه اكثر من ثواب أعمالهم اقتصر على جزاء المؤمنين للاشعار بانه المقصود بالذات و ان اللّه انما يريد الاثابة الا من ابى و ظلم على نفسه و اختار النار لاجل كفرهم كما يدل عليه قوله إِنَّهُ اى اللّه لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ فهم بكفرهم لم يستحقوا تفضله و قال الشيخ جلال الدين قوله ليجزى متعلق بيصّدّعون و قد ذكر جزاء الفريقين فان قوله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ معناه انه يعاقبهم و اللّه اعلم.

و قوله من فضله دالّ على ان الاثابة تفضل محض و تأويله بالعطاء او الزيادة على الثواب عدول عن الظاهر قلت و يؤيده ما اخرج احمد فى الزهد عن ابى الحارث قال اوحى اللّه تعالى الى داود انذر عبادى الصالحين فلا يعجبوا بانفسهم و لا يتكلوا على أعمالهم فانه ليس عبد من عبادى أنصبه للحساب و أقيم عليه عدلى الا عذبته

و اخرج ابو نعيم عن على رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه تبارك و تعالى اوحى الى نبى من أنبياء بنى إسرائيل قل لاهل طاعتى من أمتك ان لا يتكلوا على أعمالهم فانى لا اناصب عبدا لحساب يوم القيامة أشاء أعذبه الا عذبته و قل لاهل معصيتى من أمتك لا يلقوا بايديهم فانى اغفر الذنوب العظيمة و لا أبالي-

و اخرج الطبراني عن واثلة بن الأسقع رضى اللّه عنه يبعث اللّه يوم القيامة عبدا لا ذنب له فيقول اللّه تبارك و تعالى باىّ الامرين أحب إليك ان اجزى بعملك او بنعمتي عليك قال اى رب أنت اعلم انى لم اعصك قال خذوا عبدى بنعمة من نعمى فما يبقى له حسنة الا استغرقتها تلك النعمة فيقول بنعمتك و رحمتك.

و اخرج البزار عن انس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين ديوان فيه العمل الصالح و ديوان فيه ذنوبه و ديوان فيه النعم من اللّه تعالى يقول اللّه تعالى لاصغر نعمة من ديوان النعم خذى منك من العمل الصالح فتستوعب العمل الصالح فيقول و عزتك ما استوعبت و يبقى الذنوب و قد ذهب العمل الصالح كله فاذا أراد اللّه تعالى ان يرحم عبدا قال يا عبدى قد ضاعفت و لك حسناتك و تجاوزت عن سياتك و وهبت لك نعمتى

و اخرج الطبراني فى الأوسط عن ابن عمر رضى اللّه عنهما ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال من قال لا اله الا اللّه كان له بها عهدا عند اللّه و من قال سبحان اللّه كتب له بها مائة الف حسنة فقال رجل يا رسول اللّه كيف نهلك بعد هذا قال و الّذى نفسى بيده ان الرجل ليجى ء يوم القيامة بعمل لو وضع على جبل لاثقله فتقوم نعمة من نعم اللّه تعالى فكان كله يستنفد ذلك كله يوما يتفضل اللّه به من رحمته

و اخرج الشيخان عن عائشة و عن ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال سددوا و قاربوا و ابشروا فانه لا يدخل الجنة أحدا عمله قالوا و لا أنت يا رسول اللّه قال و لا انا الا ان يتغمدنى اللّه بمغفرته و رحمته- و عند مسلم عن جابر نحوه و قد ورد هذا ايضا من حديث ابى سعيد أخرجه احمد و من حديث ابن ابى موسى و شريك بن طارق أخرجهما البزار و من حديث شريك بن طريف و اسامة بن شريك و اسد بن كرز أخرجها الطبراني.

و هاهنا إشكالان أحدهما انه لا يبقى حينئذ فائدة فى الطاعة و ترك المعصية فان اللّه تعالى لو لم يتفضل عذّب اهل الطاعة و لو تفضل غفر اهل المعصية و ادخل الجنة و ثانيهما انه معارض لقوله تعالى ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فانه يدل على ان دخول الجنة مسبب بالأعمال- و الجواب عن الاول ان الطاعة يقتضى محبة اللّه عبده حيث قال اللّه تعالى إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّه وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حكاية عن اللّه سبحانه ما يزال عبدى يتقرب الىّ بالنوافل حتى أحببته رواه البخاري عن ابى هريرة فى حديث طويل و المحبة يقتضى التفضل و التفضل سبب لجلب كل خير و دفع كل ضرر و عن الثاني بان للجنة منازل تنال فيها بالأعمال فان درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال و اما اصل دخولها و الخلود فيها فبفضل اللّه و رحمته يؤيده ما أخرجه هناد فى الزهد عن ابن مسعود قال تجوزون الصراط بعفو اللّه و تدخلون الجنة برحمة اللّه و تقسمون المنازل بأعمالكم

و اخرج ابو نعيم عن عون بن عبد اللّه مثله و اللّه اعلم ..

٤٦

وَ مِنْ آياتِهِ دلائل قدرته أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ من الشمال الى الجنوب و بالعكس و من المشرق الى المغرب و بالعكس على حسب إرادته من غير محرك كما يشهد به الحس قرا حمزة «١» و الكسائي الرّيح على ارادة الجنس مُبَشِّراتٍ بالمطر حال من الرياح وَ لِيُذِيقَكُمْ المذوقات من الحبوب و الثمار و غيرها معطوف على معنى مبشرات كانّه قال ليبشركم و ليذيقكم او على محذوف تقديره يرسل الرياح ليذهب عنكم الحر و السموم و ليذيقكم مِنْ رَحْمَتِهِ من للابتداء وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بالرياح بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا الأرباح بالتجارة فى البحر مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ اى و لتشكروا نعم اللّه فيها فتجلبوا ثمراته فى الدنيا و الاخرة جملة من آياته متصل بقوله اللّه الَّذِي خَلَقَكُمْ الاية ..

(١) هذا و هم لانهم جمعوا على قراءته بالجمع و المختلف فيه الرّيح فتثير و الذي وقع بعد هذا فقرأه بالتوحيد ابن كثير و حمزة و الكسائي و خلف- ابو محمد عفاء اللّه عنه-.

٤٧

لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالدلالات الواضحات على صدقهم فامن بهم قوم و كفر بهم آخرون يدل عليه قوله انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا اى عذبنا الذين كفروا بهم كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ معطوف على جملة محذوفة تقديره و نصرنا الذين أمنوا كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ و فيه اشعار بان الانتقام من الكفار كان لاجل نصر المؤمنين و اظهار كرامتهم.

فان قيل هذه الاية تدل على وجوب نصر المؤمنين تفضلا فيلزم منه ان لا يغلب الكفار عليهم قط و قد يرى خلاف ذلك-

قلنا اللام و الاضافة فى نصر المؤمنين للعهد و المراد ان المؤمنين الذين جاهدوا الكفار خالصا لاعلاء كلمة اللّه و الموعود من اللّه ان ينصرهم و لو بعد حين و عن ابى الدرداء قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ما من مسلم يرد عن عرض أخيه الا كان حقّا على اللّه ..

... ان يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ثم تلا هذه الاية كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ . أخرجه الترمذي و حسنه و أخرجه إسحاق بن راهويه و الطبراني و غيرهما من حديث اسماء بنت يزيد و قد يوقف على حقّا على انه متعلق بالانتقام.

٤٨

اللّه الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ متصلا تارة فِي السَّماءِ اى فى سمتها كقوله تعالى و فرعها فى السماء كَيْفَ يَشاءُ حال من مفعول يبسط اى سائرا او واقعا مطبقا او غير مطبق من جانب دون جانب الى غير ذلك وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً قطعا تارة اخرى «بخلاف عن وهب و ابو جعفر- ابو محمد» قرا ابن عامر بسكون السين على انه مخففا او جمع كسقة او مصدر وصف به فَتَرَى الْوَدْقَ المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فى التارتين فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعنى بلدهم إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون بمجئى الخصب.

٤٩

وَ إِنْ كانُوا مخففة من الثقيلة يعنى و انهم كانوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ المطر خفف المكي و «بضريان- ابو محمد و» البصري ينزل مِنْ قَبْلِهِ تكرير للتأكيد و الدلالة على تطاول عهدهم بالمطر و استحكام يأسهم و ليس فى قراءة ابن مسعود كلمة من قبله لَمُبْلِسِينَ اللام فارقة و قيل ان نافية و اللام بمعنى الا و المعنى و ما كانوا من قبله الا آيسين.

٥٠

فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللّه يعنى اثار الغيث من النبات و الأشجار و الحبوب و الثمار و لذلك جمعه ابن عامر و حفص و حمزة و الكسائي

و قرا الجمهور اثر رحمت اللّه مفردا على ارادة الجنس كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بالانبات بَعْدَ مَوْتِها اى يبسها إِنَّ ذلِكَ الذي قدر على احياء الأرض بعد موتها لَمُحْيِ الْمَوْتى يحييهم بعد ما يميتهم فما وجه انكاركم ايها الكفار بعد ما تشاهدون ما يماثله وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ان نسبة قدرته الى جميع الممكنات على السواء.

٥١

وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً موجبا ليبس الأرض فَرَأَوْهُ اى راوا الأثر او الزرع فانه مدلول عليه بما تقدم مُصْفَرًّا و اللام جواب قسم مقدر لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ بنعمة اللّه جواب للقسم سدّ مسد الجزاء مبنية حال الكفار لقلة تثبتهم و عدم تدبرهم و سرعة تزلزلهم لعدم تفكرهم و سوء رأيهم- و النظر السوي يقتضى ان يتوكلوا على اللّه و يلتجئوا اليه بالاستغفار إذا احتبس المطر عنهم و لا ييئسوا من رحمة اللّه. و ان يبادروا الى الشكر و الاستدانة بالطاعة إذا أصابهم برحمته و لا يفرطوا فى الاستبشار و ان يصبروا على بلائه إذا ضرب بزرعهم آفة و لا يكفروا نعمه.

٥٢

فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى «١» و هم مثلهم لسدهم عن الحق مشاعرهم وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ قرأ ابن كثير لا يسمع بالياء على الغيب على البناء للفاعل من المجرد و رفع الصم و الجمهور على صيغة الخطاب من الافعال و نصب الصم الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ قيد الحكم به ليكون أشد استحالة فان الأصم المقبل و ان لم يسمع الكلام يفطن منه بواسطة الحركات شيئا.

(١) اخرج مسلم عن انس رض بن مالك ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ترك قتلى بدر ثلاثة ايام حتى جيفوا ثم أتاهم فقام يناديهم فقال يا امية بن خلف يا أبا جهل بن هشام يا عتبة بن ربيعة هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا فسمع عمر صوته فجاء فقال يا رسول اللّه تناديهم بعد ثلاث و هل يسمعون يقول اللّه إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى فقال و الّذى نفسى بيده ما أنتم باسمع منهم و لكنهم لا يطيقون ان يجيبوا- و روى مثله عن ابن عمر قلت إذا صح عن النبي صلى اللّه عليه و سلم ان الموتى تسمع كلام الحي فمعنى قوله تعالى إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى باختيارك و قدرتك كما أنت تسمع الحىّ على ما جرى به عادة اللّه تعالى لكن اللّه تعالى يسمع الموتى كلام الاحياء إذا شاء او انك لا تسمع الموتى سماعا تترتب عليه الفائدة ١٢ منه نور اللّه مرقده-.

٥٣

وَ ما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ اى الكفار قرا حمزة تهدى بصيغة المضارع سماهم عميا لفقدهم المقصود الحقيقي من الابصار او لعمى قلوبهم عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ سماع إفهام و قبول إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فان ايمانهم يدعوهم الى تلقى اللفظ و تدبر المعنى و يجوز ان يراد بالمؤمن المشارف للايمان او من قدر اللّه له الايمان فَهُمْ مُسْلِمُونَ لما تأمرهم به ..

٥٤

اللّه الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ اى ابتداؤكم ضعف اى ضعف الطفولية او جعل الضعف أساس أمركم كقوله تعالى خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ او المعنى خلقكم من اصل ضعيف و هو النطفة اى ذى ضعف كقوله تعالى أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ اى ضعف الطفولية قُوَّةً اى شبابا ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً هرما وَ شَيْبَةً قرأ ابو بكر و حمزة من ضعف فى المواضع الثلاثة بفتح الضاد و كذلك روى حفص عن عاصم فيهن غير انه ترك ذلك و اختار الضم اتباعا منه لرواية حدثه بها الفضل بن مرزوق عن عطية العوفى عن عبد اللّه بن عمر رض انه صلى اللّه عليه و سلم اقرأ ذلك بالضم و ردّ عليه الفتح- كذا اخرج ابو داؤد و الترمذي عن ابن عمر رض و هذه الرواية ضعيفة كذا قال الداني و ما رواه حفص عن عاصم عن ائمته أصح و الباقون بضم الضاد فيهن كذا قال الداني و

قال البغوي فى التفسير قرا حفص بضم الضاد و فتحها و الآخرون بفتحها و هما لغتان فالضمة لغة قريش و الفتح لغة تميم و فى القاموس الضعف بالفتح فى الرأي و بالضم فى البدن يَخْلُقُ ما يَشاءُ من الضعف و القوة و الشباب و الشيب وَ هُوَ الْعَلِيمُ بتدبير خلقه الْقَدِيرُ على كل ما يشاء.

٥٥

وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ اى القيامة سميت بها لانها تقوم فى اخر ساعة من ساعات الدنيا او لانها يقع بغتة و صارت علما لها بالغلبة كالكواكب للزهرة يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ يحلف المشركون ما لَبِثُوا فى الدّنيا و القبور بدليل قوله تعالى.

لَقَدْ لَبِثْتُمْ ... إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ ... غَيْرَ ساعَةٍ من الزمان استقلوا مدة لبثهم اضافة الى مدة عذابهم فى الاخرة او نسيانا او لان ما مضى صار كان لم يكن قال اللّه تعالى كَذلِكَ اى مثل ذلك الصرف عن الصدق و التحقيق كانُوا فى الدنيا يُؤْفَكُونَ يصرفون عن الحق حيث كانوا يشركون باللّه و يقولون ان لا بعث

٥٦

وَ قالَ عطف على يقسم المجرمون الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ اى الملائكة و الأنبياء و المؤمنون ردّا لقولهم لَقَدْ لَبِثْتُمْ زمانا كتب اللّه لكم لبثه فِي كِتابِ اللّه او زمانا كائنا فى كتاب اللّه اى مكتوبا فيه مدة لبثكم او لبثتم لبثا كائنا فى كتاب اللّه اى اللوح المحفوظ او صحف الملائكة الموكلين بالأرحام حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان خلق أحدكم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثمّ يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث اللّه اليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله و اجله الحديث- او القران و هو قوله تعالى وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ متعلق بقوله لبثتم فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الّذى كنتم تنكرونه فى الدنيا جملة معترضة او جواب شرط محذوف تقديره ان كنتم تنكرون البعث فهذا يوم البعث اى فانتم مبطلون و قد تبين بطلان انكاركم وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ انه حق لتفريطكم فى النظر.

٥٧

فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ قرأ الكوفيون لا ينفع بالياء التحتانية و الباقون بالتاء الفوقانية لتأنيث الفاعل لكنه غير حقيقى و مفصول وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ اى لا يطلب منهم العتبى اى الرضاء كذا فى القاموس يعنى لا يطلب منهم موجبات رضاء اللّه منهم من التوبة و الطاعة كما طلب منهم فى الدنيا من قولهم استعتبني فلان فاعتبته اى استرضانى فارضية او المعنى لا يطلب رضاؤهم باللّه كما يطلب من المؤمنين رضاؤهم عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه يقول لاهل الجنة هل رضيتم فيقولون و ما لنا لا نرضى و قد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من الخلق فيقول اما أعطيكم أفضل من ذلك قالوا و ما أفضل من ذلك فيقول احلّ لكم رضوانى فلا أسخط بعده- متفق عليه و قال اللّه تعالى وَ لَسَوْفَ يَرْضى ..

٥٨

وَ لَقَدْ ضَرَبْنا اى بيّنّا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ اى انواع الحكايات التي هى فى الغرابة كالامثال مثل صفة المبعوثين من الكفار يوم القيامة و ما يقولون و ما يقال لهم و ما لا يكون لهم من الانتفاع بالمعذرة و عدم استغنائهم. او بينّا لهم من كل مثل ينبّههم على التوحيد و البعث و صدق الرسول وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ جواب قسم محذوف بِآيَةٍ من آيات القران او معجزة كعصا موسى لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من فرط غباوتهم و قساوة قلوبهم إِنْ أَنْتُمْ يعنون الرسول و المؤمنين إِلَّا مُبْطِلُونَ اى قائلون بالأباطيل.

٥٩

كَذلِكَ اى طبعا مثل ذلك الطبع الذي طبعنا على قلوب كفار مكة الّذين قالوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ يَطْبَعُ اللّه عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ توحيد اللّه او لا يطلبون العلم و يصرون على خرافات اعتقدوها فان الجهل المركب يمنع عن ادراك الحق و يوجب تكذيب المحق.

٦٠

فَاصْبِرْ على اذاهم إِنَّ وَعْدَ اللّه بنصرتك و اظهار دينك على سائر الأديان حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ اى لا يجملنك على الخفة و القلق او لا يحملنك على الجهل و اتباعهم فى الغى الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ بتكذيبهم و إيذائهم-

﴿ ٠