سُورَةُ لُقْمَانَ مَكِّيَّةٌ

وَهِيَ أَرْبَعٌ وَثَلاَثُونَ آيَةً

مكّية و هى اربع «١» و ثلاثون اية ربّ يسّر و تمّم بالخير

 بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(١) و فى الأصل تسع و ثلاثون صدر هذا من سبق قلم لا شك فيه. لان آياتها ثلاث و ثلاثون عند اهل الحجاز و اربع و ثلاثون للباقى- ابو محمّد عفا اللّه عنه.

_________________________________

١

الم

٢

تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ ذى حكمة او وصف الكتاب بصفة اللّه عز و جلّ على الاسناد المجازى و الاضافة بمعنى من.

٣

هُدىً وَ رَحْمَةً قرأ حمزة بالرفع على انه خبر بعد خبر لتلك او خبر لمحذوف اى هى هدى و رحمة و الحمل على المبالغة كزيد عدل او بحذف المضاف اى ذات هدى و الباقون بالنصب على الحال من الآيات و العامل فيه معنى الاشارة لِلْمُحْسِنِينَ

٤

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ بيان لاحسانهم او تخصيص بهذه الثلاثة من شعبه لفضل اعتداد بها و تكرير الضمير للتؤكيد و لما جعل بينه و بين خبره.

٥

أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فائزون مقاصدهم لاستجماعهم العقيدة و العمل الصالح.

اخرج جويبر عن ابن عباس قال اشترى النضر بن الحارث قينة فكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام الا انطلق به الى قينة فيقول أطعميه و اسقيه و غنيه هذا خير مما يدعوك اليه محمد من الصلاة و الصيام و ان تقاتل بين يديه فنزلت.

٦

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ اى ما تلهى و تشتغل عما يفيد من الأحاديث التي لا اصل لها و الأساطير التي لا اعتبار فيها و المضاحيك و فضول الكلام- و الاضافة بيانية بمعنى من ان أراد بالحديث المنكر او تبعيضية ايضا بمعنى من ان أراد به الأعم منه.

و اخرج ابن جرير من طريق العوفى عن ابن عباس انها نزلت فى رجل من قريش اشترى جارية مغنية و روى البغوي عن ابى سلمة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يحل تعليم المغنيات و أثمانهن حرام و فى مثل هذا نزلت وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ الاية و ما من رجل يرفع صوته بالغناء الا بعث اللّه شيطانين أحدهما على هذا المنكب و الآخر على هذا المنكب و لا يزالان يضربان بارجلهما حتى يكون هو الذي يسكت- اخرج الترمذي و غيره عن ابى امامة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لا تبيعوا القينات و لا تشتروهن و لا تعلموهن و لا خير فى تجارة فيهن و ثمنهن حرام و فى مثل هذا أنزلت وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ- و

قال البغوي قال مقاتل و الكلبي نزلت فى النضر بن الحارث بن كلدة كان يتّجر فيأتى الحيرة و يشترى بها اخبار الأعاجم و يحدث بها قريشا و يقول ان محمدا يحدنكم بحديث عاد و ثمود و انا أحدثكم بحديث رستم و إسفنديار و اخبار الاكاسرة فيستملحون حديثه و يتركون استماع القران فانزل اللّه هذه الاية- و كذا اخرج البيهقي فى شعب الايمان عن ابن عباس رض

و قال مجاهد يعنى القينات و المغنين و معنى الاية على هذا مَنْ يَشْتَرِي ذات لهو او ذا لهو الحديث او المعنى من يشتري لهو الحديث اى يستبدل و يختار الغناء و المزامير و المعازف على القران- قال مكحول من اشترى جارية ضرابة لتمسكها لعنائها و ضربها مقيما عليه حتى يموت لم أصلّ عليه لان اللّه تعالى قال وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ الاية- و عن ابن مسعود رض و ابن عباس و الحسن و عكرمة و سعيد بن جبير قالوا لهو الحديث الغناء و الاية نزلت فيه و قال ابو الصهباء البكري سالت ابن مسعود عن هذه الاية قال هو الغناء و اللّه الذي لا اله الا هو يردّدها ثلاث مرات- و قال ابن جريج هو الطبل قلت مورد النص و ان كان خاصّا و هو الغناء او قصص الأعاجم لكن اللفظ عام و العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب و من اقال قتادة هو كل لهو و لعب و قال الضحاك هو الشرك.

(مسئلة):- اتخاذ المعازف و المزامير حرام باتفاق فقهاء «١» الأمصار عن ابى

(١) فى المتفق ضرب المزامير و استماعها حرام و فى الفتاوى الكبرى يحرم ضرب الطبل و استماعه لانه من الملاهي الا طبول الحراب و القافلة لان فيها اعلاما للغزاة و الرفقاء و انه طاعة و فى الملتقط و من الناس من يقول لا بأس بالغناء فى الأعراس و الوليمة الا ترى انه لا يأس بضرب الدف فى الأعراس و الوليمة و ان كان فى ذلك نوع لهو و انما لم يكن به بأس لانه فيه اظهار النكاح و اعلانيه و به امر صاحب الشرع حيث قال أعلنوا النكاح و لو بالدّف و كذلك الفتوى- و فى الذخيرة و منهم من قال لا بأس بالدّفّ فى الأعياد روى ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان جالسا فى بيته يوم العيد و فى دهليزه جاريتان تغنيان بالدّف فجاء ابو بكر و قال لهما أ تغنّيان فى دهليز رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال عليه السلام دعهما فان هذا اليوم يوم عيد ١٢ قدس سره-.

هريرة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم نهى عن ثمن الكلب و كسب الزمارة- رواه البغوي و عن ابى مالك الأشعري انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول يشربون الناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها و يضرب على رؤسهم المعازف و القينات يخسف اللّه بهم الأرض و يجعل منهم القردة و الخنازير رواه ابن ماجة و صححه ابن حبان و أصله فى صحيح البخاري و عن على بن ابى طالب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذ فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء قيل و ما هى يا رسول اللّه قال إذا كان المغنم دولا و الامانة مغنما و الزكوة مغرما و أطاع الرجل زوجته و عقّ امه و بر صديقه و جفا أباه و ارتفعت الأصوات فى المساجد و كان زعيم القوم أرذلهم و أكرم الرجل مخافة شرة و شربت الخمر و لبست الحرير و اتخذت القينات و المعازف و لعن اخر هذه الامة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء و خسفا و مسخا- رواه الترمذي و قال غريب- (مسئله):- قالت الفقهاء الغناء حرام بهذه الاية لكونه لهو الحديث و بما ذكرنا من الأحاديث. و قالت الصوفية كان من الرجال ذى قلب مطمئن بذكر اللّه فارغا عن غيره لا يلتفت الى ما سوى اللّه و لا يكون المغنى محلّا للشهوة و كان المجلس خاليا عن الأغيار و لا يكون وقت صلوة او نحوها جاز له السماع بل يستحب لان فى السماع خاصية انه يستعمل به نار المحبة الجامدة المستورة فى القلب و ذلك هو السبب لحرمته فى حق العامة فان العوام قلوبهم مشغولة بحب النساء او الغلمان فعند السماع يشتعل ذلك المحبّة و يشغلهم عن ذكر اللّه فكان فى حقهم لهو الحديث و من كان قلبه مشغولا بمحبة اللّه و ذكره فارغا عن غيره يكون السماع فى حقه موجبا لاشتغال محبة اللّه فيكون فى حقه مستحبا «١»- و الجواب عن النصوص ان الاية ناطقة بالحرمة لما هو لهو الحديث و سماع الصوفية ليس منه و الأحاديث الموجبة لحرمة الغناء مخصوصه بالبعض لورود أحاديث اخر دالة على الإباحة فحملنا أحاديث حرمة الغناء على ما كان منه على قصد اللّهو لا لغرض مشروع داعيا الى الفسوق- فلنذكر الأحاديث الدالة على اباحة الغناء بل على اباحة ضرب الدف ايضا منها حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت جاء النبي صلى اللّه عليه و سلم فدخل حين بنى علىّ فجلس على فراشى كمجلسك منى فجعلت جويريات لنا يضر بن بالدف و يندبن من قتل من ابائى يوم بدر إذ قالت إحداهن.

(١) فى شرح الكافي و اعلم ان المكروه من السماع عند علمائنا ما يكون على سبيل اللّهو و ارادة العصيان بان يجتمع الفساق على ذلك و يتركون الصلاة و قراءة القران- و اما ما كان من اهل الصلاة و اهل القران من جملة الصالحين فسماع هؤلاء حلال بلا خلاف بين علمائنا إذ لا يريدون بذلك الا وجه اللّه و حضوره و يذكرون اللّه فى خوف الاخرة و كل ذلك محمود غير مذموم و التواجد و الرقص ايضا غير مذموم لهذا المعنى- و فى شرح البزدوى المسمى بالنوري صنفه ابو القاسم بن محمد بن عبد اللّه الدمشقي- اعلم ان السماع انما يختلف علماءنا فى حقه فهو ما كان على سبيل اللّهو و اللعب يجتمع الفساق و شاربوا الخمر و تركوا الصلاة- فاما من سمع السماع و هو صالح دائم الصلاة لا تارك الورد و قراءة القران فهو حلال بلا خلاف بين علمائنا و كذلك الرقص و التواجد و فى الاقناع ان السماع يحصل به رقة القلب و الخشوع و اثارة الشوق الى لقاء اللّه تعالى و الخوف من سخطه و عذابه و المفضى الى ذلك قربة فاذا كان السماع هكذا فكيف يكون فيه شائبة اللّهو و الهواء و قال الشيخ شهاب الدين السهروردي فى العوارف و السماء يستجلب الرحمة من اللّه الكريم و اللّه اعلم- و فى فتاوى الخلاصة يجب ان يعلم ان التغنّى لا يناس الغير مكروه عند عامة المشايخ و منهم من جوز ذلك فى العرس و الوليمة و اما التغنّى لدفع الوحشة عن نفسه لا يكره عند البعض و به أخذ الامام السرخسي و المكروه عندهم ما يكون على سبيل اللّهو و منهم من يقول جميع ذلك مكروه و به أخذ الامام خواهر زاده و فى الجامع المضمرات قال ذكر فى النافع و الذخيرة ان المتغني إذا لم يسمع غيره و لكن يسمع نفسه لازالة الوحشة فلا بأس به و قال سمعت الشيخ الامام الاجل نجم الدين رحمه اللّه انه قال لو سمعه من جاريته يباح له ذلك و احاله الى واقعات الحسانيته و فى العوارف او زوجته كذا فى فتاوى ابراهيم شاهى- و فى المحيط ذكر محمّد فى السير الكبير عن انس بن مالك انه دخل على أخيه البراء بن مالك و كان يتغنى ١٢ منه برد اللّه تربته.

و فينا نبى يعلم ما فى غد فقال دعى هذه و قولى ما كنت تقولين رواه البخاري و روى ابن ماجة نحوه و فيه اما هذا فلا تقولوه لا يعلم ما فى غد الا اللّه- و عن عائشة قالت زفت امرأة الى رجل من الأنصار فقال نبى اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما كان معكم لهو فان الأنصار يعجبهم اللّهو- رواه البخاري و عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أعلنوا هذا النكاح و اجعلوا فى المساجد و اضربوا عليه بالدّفوف رواه الترمذي و قال هذا حديث غريب و عن عائشة قالت كانت عندى جارية من الأنصار زوجتها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يا عائشة الا تغنين فان هذا الحي من الأنصار يحبون الغناء رواه ابن حبان فى صحيحه و عن ابن عباس قال أنكحت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال اهديتم الفتاة قالوا نعم قالوا أرسلتم معها من تغنّى قالت لا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان الأنصار قوم فيه غزل فلو بعثتم معها من يقول اتيناكم فحيانا و حياكم. رواه ابن ماجة و عن عامر ابن سعد قال دخلت على قرظ بن كعب و ابى مسعود الأنصاري فى عرس و إذا جوار تغنين فقلت اى صاحبى رسول اللّه و اهل بدر يفعل هذا عندكم فقالا اجلس ان شئت فاستمع معنا و ان شئت فاذهب فانه قد رخص لنا فى اللّهو عند العرس- و عن عائشة ان أبا بكر رضى اللّه عنه دخل عليها و عندها جاريتان فى ايام منى تدففان و تضربان و النبي صلى اللّه عليه و سلم متفس بثوبه فانتهرهما ابو بكر فكشف النبي صلى اللّه عليه و سلم عن وجهه فقال دعهما يا أبا بكر فانها ايام عيد (تلك ايام منى) رواه البخاري و عند ابن ماجة ان لكل قوم عيدا و هذا عيدنا و عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان امرأة قالت يا رسول اللّه انى نذرت ان اضرب على رأسك بالدف قال او فى بنذرك- رواه ابو داود و قد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا وفاء لنذر فى معصية اللّه رواه مسلم و روى ان النبي صلى اللّه عليه و سلم لمّا قدم المدينة و نزل فى بنى نجارا صبرن جوار من بنى النجار يتغنين و يقلن نحن جوار من بنى نجار يا حبذا محمدا من جار رواه ابن ماجة عن انس و فيه فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم اللّه يعلم انى لاحبكن- و روى البيهقي عن عائشة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم حين قدم المدينة جعل النساء و الولاية و الصبيان يقلن شعر

طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعى اللّه داع

ايها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع

و روى احمد عن انس اما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المدينة لعبت الحبشة بحرابها فرحا برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و عن محمد بن حاطب الجمحي عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال فصل ما بين الحلال و الحرام الصوت و الدّف فى النكاح- رواه احمد و الترمذي و النسائي و ابن ماجة فظهر ان المحرم من الغناء ما يدعوا الى الفسق و يشغل عن ذكر اللّه و ما ليس كذلك فليس بحرام «١» غير انه لم يثبت عن النبي صلى اللّه عليه و سلم و لا عن الصحابة رضى اللّه عنهم استماع الغناء تقربا الى اللّه تعالى و لاجل ذلك ما اختار الكرام من النقشبندية و غيرهم ارتكابه و ان لم يرتكبوا الإنكار عليه و اللّه اعلم- لِيُضِلَّ الناس عَنْ سَبِيلِ اللّه اى عن دينه او ذكره و قراءة كتابه قرا ابن كثير و ابو عمرو «و رويس يخلف عنه- ابو محمد» ليضلّ بفتح الياء على صيغة المجرد بمعنى يلبث على ضلاله و يزيد فيه بِغَيْرِ عِلْمٍ بحال ما يشتريه او بالتجارة حيث استبدل اللّهو بقراءة القران و قال قتادة بحسب المؤمن الضلالة ان يختار حديث الباطل على حديث الحق وَ يَتَّخِذَها اى آيات اللّه قرا حمزة «و خلف- ابو محمد» و الكسائي و يعقوب «٢» و حفص بالنصب عطفا على قوله ليضل و الباقون بالعطف على قوله يشترى بالرفع هُزُواً مهزوّا به سخرية أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) ذو اهانة.

(١) فى الاحياء السماع فى اوقات السرور تأكيدا للسرور و تهيجا له مباح ان كان ذلك السرور مباحا كالغناء فى ايام العيد و فى العرس و فى وقت قدوم الغائب و فى الوليمة و العقيقة و عند ولادة الولد و ختانه و عند حفظ القران-

قلت و كذا عند تفويض الولد للمقرى لاجل التعليم ١٢ عنه أنار اللّه برهانه.

(٢) هذا سهو لان يعقوب قرا بالرفع بلا خلاف كابى عمرو- ١٢ ابو محمد عفا اللّه عنه.

٧

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى لا يتوجه اليه مُسْتَكْبِراً متكبرا الجملة الشرطية عطف على يشترى كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها حال من المستكن فى ولّى او مستكبرا او استئناف كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ قرأ نافع اذنه «٣» بلفظ المفرد على ارادة الجنس وَقْراً ثقلا مانعا من السماع بدل من كان لّم يسمعها او حال من المستكن فى لم يسمعها او استئناف فَبَشِّرْهُ اى أخبره و ذكر البشارة على التهكم بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) يحيق به.

(٣) هذا ليس بشئ قرا نافع اذنيه بإسكان الذال لا بالإفراد. ١٢ ابو محمد عفا اللّه عنه-.

٨

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) اى نعيم الجنات عكس للمبالغة.

٩

خالِدِينَ فِيها حال مقدر من الضمير فى لهم او من جنات و العامل ما تعلق به اللام اى مقدرا خلودهم فيها إذا دخلوها وَعْدَ اللّه اى وعد اللّه وعدا مصدر مؤكد لنفسه لكون ما قبله وعد حَقًّا اى حق ذلك الوعد حقا مصدر موكد لغيره لان كون الوعد حقا امر مغائر لنفس الوعد وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب على كل شى ء لا يمنعه شى ء من انجاز وعده و وعيده الْحَكِيمُ (٩) الذي لا يفعل الا ما يقتضيه الحكمة.

١٠

خَلَقَ السَّماواتِ صفة للحكيم بحذف الموصول تقديره الذي خلق او حال من الضمير المستتر فيه بتقدير قد او اس تئناف فى محل التعليل بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها جملة ترونها صفة لعمد و الضمير راجع اليه و هو صادق بان لا عمد لها أصلا او الضمير راجع الى السموات و الجملة لا محل لها من الاعراب و قد سبق فى الوعد وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ جبالا راسخات كراهة أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ او لان لا تميد بكم وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) اى من كل صنف حسن كثير المنفعة فيه التفات من الغيبة الى التكلم كانه استدل به على عزته التي هى كمال قدرته و حكمته التي هى كمال العلم و مهّد به قاعدة التوحيد و قررها بقوله.

١١

هذا اى ما ذكرت مما تعاينون خَلْقُ اللّه فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ الفاء للسببية يعنى كل ما ترونه مخلوق للّه تعالى فما ذا خلق الهتكم حتى استحقوا مشاركته فى العبادة ماذا منصوب بخلق او ما استفهام انكار مبتدا و ذا بمعنى الذي مع صلته خبره فارونى معلق عن العمل و ما بعده سد مسدّ المفعولين بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١) إضراب عن تبكيتكم الى التسجيل عليهم بالضلال الذي لا يخفى على من له ادنى تأمل و وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على انهم ظالمون.

١٢

وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ بن باعور بن ناخور بن تارخ و هوازر كذا

قال البغوي و قال قال وهب كان ابن اخت أيوب عليه السلام و قال مقاتل ذكر انه كان ابن خالة أيوب - و ذكر البيضاوي و غيره انه عاش حتى أدرك داود عليه السلام و أخذ منه العلم و كان يفتى قبل مبعثه ثم ترك الفتيا بعد مبعثه و قال الا اكتفى إذا كفيت و قال الواقدي كان قاضيا فى بنى إسرائيل و فى الدر المنثور اخرج ابن ابى شيبة و احمد فى الزهد و ابن ابى الدنيا فى كتاب المملوكين و ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم عن ابن عباس كان لقمان عبدا حبشيا نجارا و كذا ذكر البغوي عن خالد الربعي و قال قال مجاهد كان عبدا اسود عظيم الشفتين متشقق القدمين و قال قال سعيد بن المسيب كان خياطا و قيل كان رعى غنم و اللّه اعلم الْحِكْمَةَ فى القاموس و هى العدل و العلم و الحلم و النبوة و القران و الإنجيل و المراد بالحكمة فى قوله صلى اللّه عليه و سلم ان من الشعر لحكمة هو العلم و ما ورد فى قوله صلى اللّه عليه و سلم الا و فى رأسه حكمة المراد به العقل و كل من المعاني المذكورة يحتمل المقام

قال البغوي اتفق العلماء على انه كان حكيما اى فقيها عليما و لم يكن نبيّا الا عكرمة فانه قال كان نبيّا و تفرد بهذا القول

و اخرج ابن ابى حاتم عن وهب بن منبه انه سئل أ كان لقمان نبيّا قال لا لم يوح اليه و كان رجلا حكيما و كذا اخرج ابن جرير عن مجاهد- و قال بعضهم خيّر لقمان بين النبوة و الحكمة فاختار الحكمة

قال البغوي و روى انه كان نائما فى نصف النهار فنودى يا لقمان هل لك ان يجعلك اللّه خليفة فى الأرض فتحكم بين الناس بالحق فاجاب الصوت فقال ان خيرنى ربى قبلت العافية و ان عزم على فسمعا و طاعة فانى اعلم ان فعل ذلك أعانني و عصمنى فقالت الملائكة بصوت (لا يراهم) لم يا لقمان قال لان الحكم باشد المنازل و أكدرها يغشاه الظلم من كل مكان ان أصاب لقمان فبالحرىّ ان ينجو و ان أخطأ أخطأ طريق الجنة و من يكن فى الدنيا ذليلا خير من ان يكون شريفا و من يختار الدنيا على الاخرة تفته الدنيا و لا يصيب الاخرة- فعجبت الملائكة من حسن نطقه فنام نومه فاعطى الحكمة فانتبه و هو يتكلم بها- و نودى داود عليه السلام بعدها فقبلها و لم يشترط ما شرط لقمان فهوى فى الخطيئة غير مرة كل ذلك يعفو اللّه عنه و كان يوازره لقمان لحكمته و هذه الرواية تدل على انه ليس المراد بالحكمة العدل فى الحكم بين الناس و لنعم ما قال الجزري فى النهاية فى تفسير الحكمة انها عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم قلت أفضل الأشياء ذات اللّه تعالى قال اللّه تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ و قال عزّ و جلّ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قل اللّه و أفضل علم لا يعتريه الغفلة و هو العلم الحضوري فان العلم الحصولى لا ينفك عن غفلة و ايضا لا يمكن درك اللّه سبحانه بالعلم الحصولى فانه حصول صورة الشي ء فى الذهن و هو سبحانه منزه عن الصورة و التحيز بل العلم الذي يتعلق بذات اللّه سبحانه هو فوق العلم الحضوري و العلم الحضوري الذي يتعلق بذات العالم بالنسبة الى ذلك العلم كالحصولى بالنسبة الى الحضوري و هو من خصائص قلب الإنسان و من ثم وقع فى الحديث القدسي لا يسعنى ارضى و لا سمائى و لكن يسعنى قلب عبدى المؤمن و يحصل ذلك لاخص الخواص من اولياء اللّه و اللّه اعلم- اخرج الحاكم و البيهقي فى شعب الايمان عن انس ان لقمان كان عبدا لداود و هو يسرد الدروع فلم يسئله عنها فلمّا أتمها لبسها و قال نعم لبوس الحرب أنت فقال الصمة حكمة و قليل فاعله- و روى انه سئل اىّ الناس شر قال الذي لا يبالى ان راه الناس مسيئا-

و اخرج ابن ابى شيبة و احمد و ابن جرير عن خالد الربعي قال كان عبدا حبشيّا نجارا فقال له سيده اذبح شاة و ائتني بأطيب مضغتين منها فاتى باللسان و القلب ثم بعد ايام امر بان يأتى بأخبث مضغتين منهما فاتى بهما ايضا فسأله عن ذلك فقال هما أطيب شى ء إذا طابا و أخبث شى ء إذا خبثا- أَنِ اشْكُرْ للّه الظاهر ان تقديره و

قلنا له ان اشكر للّه على ما اعطاك من الحكمة و قال اكثر المفسرين ان مفسرة فان فى إيتاء الحكمة معنى القول-

قلت و توجيه ذلك ان إيتاء الحكمة عبارة عن تعليمها و التعليم يكون بالقول غالبا فالمعنى اتيناه الحكمة اى أمرناه بالشكر و هذا يدل على ان الحكمة هو الشكر و إيتاء الحكمة الأمر بالشكر و المراد بالأمر الأمر التكويني دون التكليفي فان امر التكليفي يعم لقمان و غيره و هو لا يستلزم حصول الشكر بخلاف التكويني فانه يستلزمه كما يستلزم إيتاء الحكمة حصولها و تفسير الحكمة بالشكر مبنى على المجاز فان الشكر لازم للحكمة فيجوز اطلاق أحدهما على الاخر مبالغة مجازا و الشكر عبارة عن اظهار النعمة و ضده الكفران و هو ستر النعمة و فى القاموس الشكر بالضم عرفان الإحسان قيل هو مقلوب عن الكشر اى الكشف فانه اظهار النعمة و هو ثلاثة اضرب شكر القلب تصور النعمة و شكر اللسان الثناء على النعمة و شكر الجوارح مكافات النعمة بالطاعات- قيل أصله من عين شكر اى ممتلية فالشكر على هذا الامتلاء من ذكر النعم و نعمته و من أجل هذا قال اللّه تعالى وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ و وصف اللّه تعالى فى القران رجلين من عباده بالشكر أحدهما ابراهيم قال فيه شاكرا لّانعمه و ثانيهما نوح حيث قال إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً قال فى النهاية الشكر مقابلة النعمة بالقول و الفعل و النية فيثنى من المنعم بلسانه و يديب نفسه فى طاعته و يعتقد انه مولاها و هو من شكرت الإبل شكرا إذا أصاب مرعى فسمنت عليه- و جاز ان يكون تقديره و

قلنا له ان اشكر للّه على ما اتيناك من الحكمة و غيرها وَ مَنْ يَشْكُرْ اللّه فَإِنَّما يَشْكُرُ اللّه لِنَفْسِهِ اى لنفع نفسه فان الشكر قيد للموجود و صيد للمفقود و موجب تقرب الى الرب المعبود و ثواب فى دار الخلود قال اللّه تعالى لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ الاية وَ مَنْ كَفَرَ نعمة اللّه فَإِنَّ و باله عليه و اللّه غَنِيٌّ عن شكره لا يحتاج اليه حَمِيدٌ (١٢) حقيق بالحمد و ان لم يحمد ينطق بحمده جميع مخلوقاته بلسان الحال.

١٣

وَ اذكر إِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ اسمه أنعم او اشكم او ماثان وَ هُوَ يَعِظُهُ حال من لقمان يا بُنَيَّ تصغير اشفاق قرا ابن كثير بإسكان الياء و حفص بفتح الياء و الباقون بكسرها لا تُشْرِكْ بِاللّه متعلق بلا تشرك و جاز ان يكون قسما جوابه ما بعده قيل كان ابنه كافرا فلم يزل به حتى اسلم إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) تعليل للنهى الظلم وضع الشي ء فى غير موضعه المختص به اما بنقصان او بزيادة و اما بعدول عن وقته او مكانه- و يقال على التجاوز عن الحق قليلا كان التجاوز او كثيرا و لهذا يستعمل فى الذنب الصغير و الكبير و لا شك إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ فانه وضع العبادة فى موضع لا يحتمل صلاحيتها أصلا و تسوية من لا نعمة الا منه بمن لا يصلح الانعام مطلقا.

١٤

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ اى أمرناه ان يبرّهما و يشكرهما جملة معترضة بين قصة لقمان حَمَلَتْهُ أُمُّهُ معترضة فى معترضة مؤكدة للتوصية فى حق الام خاصة عن ابى هريرة قال قال رجل يا رسول اللّه من أحق بحسن صاحبتى قال أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك ثم أدناك فادناك متفق عليه و قال عليه السلام ان اللّه حرم عليكم عقوق الأمهات متفق عليه فى حديث للمغيرة وَهْناً كائنا عَلى وَهْنٍ صفة لوهن و هو حال من فاعل حملته تقديره ذات وهن او يوهن وهنا قال ابن عباس معناه شدة على شدة و قال الضحاك ضعفا على ضعف

و قال مجاهد مشقة على مشقة فان المرأة إذا حملت توالى عليها الضعف و المشقة الحمل ضعف و الطلق ضعف و الوضع ضعف و الرضاع ضعف وَ فِصالُهُ اى فطامه فِي عامَيْنِ اى فى انقضاء عامين و كانت ترضع فى تلك المدة و احتج بهذه الاية الشافعي و ابو يوسف و محمد ان أقصى مدة الرضاع حولان و قد ذكرنا مسئلة الرضاع فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ الاية و فى سورة النساء فى تفسير قوله وَ أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ أَنِ اشْكُرْ لِي تفسير لوصينا او بدل من والديه بدل اشتمال وَ لِوالِدَيْكَ قال سفيان بن عيينة فى هذه الاية من صلّى الصلوات الخمس فقد شكر اللّه و من دعا لوالديه فى ادبار الصلوات الخمس فقد شكر لوالديه إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) المرجع فيه وعد و وعيد يعنى اجازيك على شكرك و كفرك.

١٥

وَ إِنْ جاهَداكَ عطف على قوله ان اشكر عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ باستحقاق الإشراك يعنى فكيف و أنت تعلم بطلان الإشراك بالادلة القاطعة فَلا تُطِعْهُما فى ذلك فان حق اللّه غالب على حق كل ذى حق قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لاطاعة للمخلوق فى معصية الخالق- رواه احمد و الحاكم و صححه عن عمران و الحكيم ابن عمرو الغفاري و فى الصحيحين و سنن ابى داؤد و النسائي عن علىّ نحوه وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا صحابا مَعْرُوفاً يرتضيه الشرع و العقل.

(مسئلة) يجب بهذه الاية الانفاق على الأبوين الفقيرين و صلتهما و ان كانا كافرين عن اسماء بنت ابى بكر قالت قدمت علىّ أمي و هى مشركة فى عقد قريش فقلت يا رسول اللّه ان أمي قدمت علىّ و هى راغبة أ فأصلها قال نعم صليها- متفق عليه- و قد مرّ فى سورة العنكبوت ان هاتين الآيتين نزلتا فى سعد بن ابى وقاص و امه.

وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ دين مَنْ أَنابَ اى اقبل إِلَيَّ و أطاعني و هو النبي صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه قال عطاء عن ابن عباس يريد اللّه سبحانه به أبا بكر و ذلك حين اسلم أتاه عثمان و طلحة و الزبير و سعد بن ابى وقاص و عبد الرحمان بن عوف و قالوا قد صدّقت هذا الرجل و امنت به قال نعم هو صادق فامنوا به ثم حملهم الى النبي صلى اللّه عليه و سلم حتى اسلموا فهؤلاء سالفة الإسلام اسلموا بإرشاد ابى بكر قال اللّه تعالى وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ يعنى أبا بكر.

(مسئلة) لا يجوز إطاعة الوالدين إذا امرا بترك فريضة او إتيان مكروه تحريما لان ترك الامتثال لامر اللّه و الامتثال لامر غيره اشراك معنى و لما روينا من قوله عليه السلام لاطاعة للمخلوق فى معصية الخالق- و يجب إطاعتهما إذا امرا بشئ مباح لا يمنعه العقل و الشرع- و هل يجب إطاعتهما ان امرا بترك إكثار الذكر و النوافل و كسب الأموال فوق الحاجة و نحو ذلك و الظاهر عندى انه لا يجب ذلك لان اللّه سبحانه امر باتباع سبيل من أناب اليه و إكثار النوافل و ترك ما لا يعنيه و ترك الدنيا و التبتل الى اللّه سبيل المنيبين لا محالة- و لا شك ان الصحابة رضوان اللّه عليهم تركوا الأوطان و هاجروا و بذلوا أنفسهم و أموالهم على خلاف مرضاة ابائهم و أمهاتهم و قد قال اللّه تعالى قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّه وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّه بِأَمْرِهِ فكيف يجوز ترك المجاهدة فى سبيل اللّه مع النفس و الشيطان لابتغاء مرضاة الآباء و الأمهات- اخرج الحاكم عن عامر بن عبد اللّه بن الزبير عن أبيه قال قال ابو قحافة لابى بكر أراك يعتق رقابا ضعافا فلو انك اعتقت رجالا اجلد يمنعونك و يقومون دونك فقال يا أبت انما أريد ما عند اللّه فنزلت وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى حين أعتق بلالا و عامر بن فهير و أم عميس و زبيرة و نحوهم- و هاجر أبو بكر مع اربعة آلاف درهم مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و لم يترك لاهله شيئا على خلاف مرضاة أبيه كما ذكرنا فى قصة هجرة النبي صلى اللّه عليه و سلم فى سورة التوبة فى تفسير قوله تعالى إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّه إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ ...

ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ اى مرجعك و مرجعهما فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) فاجازيك على إسلامك و اجازيهما على كفرهما هذان الآيتان معترضتان فى أثناء وصية لقمان تأكيدا لما فيها من النهى عن الشرك كانه قال و وصينا بمثل ما وصى لقمان و ذكر الوالدين للمبالغة فى ذلك فانهما مع كونهما تلوا الباري فى استحقاق التعظيم و الطاعة لا يجوز ان يستحقا الطاعة فى الإشراك فما ظنك بغيرهما.

١٦

يا بُنَيَّ قرأ حفص بفتح الياء و الباقون بكسرها إِنَّها اى الخصلة من الاساءة او الإحسان و قال قتادة الضمير راجع الى الخطيئة و ذلك ان ابن لقمان قال لابيه يا أبت ان عملت الخطيئة حيث لا يرانى أحد كيف يعلمها اللّه فقال انها إِنْ تَكُ فى الصغر مثلا مِثْقالَ وزن حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ اسم تك ضمير مستتر و خبره مثقال على قراءة الجمهور بالنصب

و قرا نافع «و ابو جعفر- ابو محمد» مثقال بالرفع على انه اسم تك و هى تامة و تأنيث الفعل لاضافة المثقال الى الحبة و ضمير انها للقصة على هذه القراءة فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يعنى فى أخفى مكان و احرزه كجوف صخرة او أعلاه كمحدب السموات او أسفله كمقعر الأرض و قال قتادة فى صخرة فى جبل و قال ابن عباس هى صخرة تحت الأرضين السبع و هى التي يكتب فيها اعمال الفجار و خضرة السماء منها و قال السدىّ خلق اللّه الأرض على حوت و هو النون الذي ذكره اللّه عزّ و جلّ فى القران ن و القلم و الحوت فى الماء على ظهر صفاة «الصخرة و الحجر الا ملس ١٢ نهاية منه رح» و الصفاة على ظهر ملك و الملك على صخرة (و هى الصخرة التي ذكرها لقمان ليست فى السماء و لا فى الأرض) و الصخرة على الريح يَأْتِ بِهَا اللّه يحضرها فيحاسب عليها إِنَّ اللّه لَطِيفٌ يصل علمه الى كل خفى و دقيق خَبِيرٌ (١٦) عليم بكنه كل شى ء قال الحسن معنى الاية هو الإحاطة بجميع الأشياء صغيرها و كبيرها

قال البغوي و فى بعض الكتب ان هذه الكلمة اخر ما تكلم بها لقمان فانشقت مرارته من هيبتها.

١٧

يا بُنَيَّ قرأ حفص و البزي «و قتل باسكاء ابو محمد» بفتح الياء و الباقون بكسرها أَقِمِ الصَّلاةَ تكميلا لنفسك وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ تكميلا لغيرك وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من الشدائد و الأذى بسبب الأمر و النهى او غير ذلك إِنَّ ذلِكَ اى الصبر او كل ما امره مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) اى من الأمور التي عزمه اللّه اى قطعه قطع إيجاب قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خير الأمور عوازمها اى فرائضها التي عزم اللّه عليك بفعلها و العزم فى الأصل عقد القلب على إمضاء امر فالعزم على هذا مصدر بمعنى المفعول او المعنى من الأمور التي يعزم عليها بجد لوجوبها.

١٨

وَ لا تُصَعِّرْ قرأ نافع و ابو عمرو «و خلف- ابو محمد» و حمزة و الكسائي و لا تصاعر من المفاعلة و ابن كثير و ابن عامر و عاصم و ابو جعفر و يعقوب بتشديد العين من غير الف خَدَّكَ لِلنَّاسِ اى لا تمل عنهم و لا تولهم صفحة وجهك تكبرا قال ابن عباس تقول لا تتكبر فتحقر و تعرض عنهم بوجهك إذا كلموك وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً اى فرحا و بطرا مصدر وقع موقع الحال اى يمرح مرحا او العلة اى لاجل المرح إِنَّ اللّه لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ متبختر فى مشيه فَخُورٍ (١٨) على الناس علة للنهى نشر على غير ترتيب اللف لرعاية القافية.

١٩

وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ اى توسط فيه فوق الدبيب لانه دليل الخيلاء و مشى المتكبرين و دون الاسراع لانه مشى السفهاء و يذهب البهاء قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سرعة المشي يذهب بهاء المؤمن- أخرجه ابن عدى و ابو نعيم فى الحلية من حديث ابى هريرة و أخرجه ابن عدى ايضا من حديث ابى سعيد و ابن عمرو المراد بالاسراع المنهي ما يكون بجد فوق مشيه الطبعي و اما الاسراع على عادته دون الخبب فمحمود روى ابن سعد عن يزيد بن مرثد انه صلى اللّه عليه و سلم كان إذا مشى اسرع حتى يهرول الرجل وراءه فلا يدركه- و روى الطبراني و البيهقي عن ابى موسى قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عليكم بالسكينة عليكم ... بالقصد فى المشي بجنائزكم

و اخرج الستة قوله صلى اللّه عليه و سلم اسرعوا بالجنازة فان يك صالحة يتقدمونها و ان يكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم- فهذه الأحاديث تدل على ان المراد بالاسراع ما ذكرت و المراد بالقصد هو الاسراع دون الخبب.

وَ اغْضُضْ قال مقاتل اى اخفض مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ يعنى أوحشها لَصَوْتُ الْحَمِيرِ تعليل لغضّ الصوت يعنى ان صوت الحمير منكر جدّا لكونه جهيرا جدّا فلا يكن صوتك مثل صوتها أول صوتها زفير و آخرها شهيق و هما صوت اهل النار قال موسى بن أعين سمعت سفيان الثوري يقول فى قوله تعالى إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ هى العطسة القبيحة المنكرة قال وهب تكلم لقمان باثنى عشر الف باب من الحكمة و أدخلها الناس فى كلامهم و قضاياهم ..

٢٠

أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللّه سَخَّرَ لَكُمْ لاجل نفعكم ما فِي السَّماواتِ من الشمس و القمر و النجوم و البحار و الجبال من الأرض وَ ما فِي الْأَرْضِ من المعادن و النباتات و الحيوانات بان مكّنكم من الانتفاع بها بوسط او بغير وسط وَ أَسْبَغَ اى أتم و أكمل عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ قرأ اهل المدينة و ابو عمرو و حفص بفتح العين و ضم الهاء على الجمع و الاضافة و الباقون بسكون العين و بالتاء منونة على صيغة الواحد بارادة الجنس ظاهِرَةً مع ما عطف عليه حال من نعمه و النعمة الظاهرة هى المحسوسة من حسن الصورة و تسوية الأعضاء و الرزق و العافية و غيرها من نعماء الدنيا و الإسلام و الرسول و القران و تخفيف الشرائع و توفيق اتباع الرسول و ظهور الإسلام و النصر على الأعداء وَ باطِنَةً من القلب و العقل و الحواس الباطنة و حسن الأخلاق و الامداد بالملائكة و الإلهام بالاعتقاد الحق و ستر الذنوب و عدم التعجيل فى العقوبة و نور معرفة اللّه و نار عشقه و رسوله و شفاعة رسوله وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ النبي صلى اللّه عليه و سلم عطف على وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ و ما بينهما معترضات فِي اللّه فى توحيده و صفاته بِغَيْرِ عِلْمٍ مستفاد من الدليل

قال البغوي نزلت فى النضر بن الحارث و ابى بن خلف و أشباههما وَ لا هُدىً راجع الى الرسول وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) منزل من اللّه بل بالتقليد كما قال اللّه تعالى.

٢١

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللّه قالُوا لانتبع ما انزل اللّه بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا فيه منع من التقليد فى اصول الدين قال اللّه تعالى أَ يتبعون بتقدير يعنى قل ا يتبعون آباءهم وَ لَوْ كانَ الواو للحال او للعطف على مقدر يعنى لو لم يكن و لو كان الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ الضمير اما لهم او لابائهم إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) بإلقاء حسن التقليد او حسن الإشراك فى قلوبهم و الاستفهام للانكار و التعجب.

٢٢

وَ مَنْ يُسْلِمْ «١» وَجْهَهُ اى توجهه إِلَى اللّه و اقبل بشراشره عليه يعنى لا يفعل فعلا و لا يترك شيئا الا ابتغاء مرضاته و يفوض امره اليه وَ هُوَ مُحْسِنٌ فى اعماله قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه يعنى بالحضور التام فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى يعنى تمسك باوثق ما يتمسك به و اعتصم باقوى ذريعة لا يحتمل انقطاعه تمثيل لطيف للمتوكل على المتشبث بالعروة الوثقى وَ إِلَى اللّه عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) إذا لكل صائر اليه.

(١) في الأصل و من أسلم.

٢٣

وَ مَنْ كَفَرَ و لم يسلم وجهه الى اللّه فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ تقديره فقد أضرّ نفسه و أوبقه و لا يضرك شيئا لا فى الدنيا و لا فى الاخرة و لمّا كان عدم الضّرر موجبا لعدم الحزن أورده فى مورده قرا نافع لا يحزنك بضم الياء و كسر الزاء من الأحزان إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فى الدارين فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا بالتعذيب إِنَّ اللّه عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) من الاعتقادات و الخطرات فضلا عما فى الظاهر فيجازى كلّا على حسب اعتقاده و عمله.

٢٤

نُمَتِّعُهُمْ اى نملهم ليتمتعوا قَلِيلًا اى تمتيعا قليلا او زمانا قليلا فى الدنيا الى انقضاء اجالهم ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ اى نلجئهم و نردهم فى الاخرة إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ اى عذابا يثقلهم ثقل الاجرام الغلاظ و هو عذاب النار.

٢٥

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّه لوضوح الدليل المانع من اسناد الخلق الى غيره بحيث اضطروا الى الإقرار به قُلِ الْحَمْدُ للّه على ما الزمهم و ألجأهم الى الاعتراف بما يوجب بطلان معتقدهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) ان ذلك يلزمهم و إذا نبهوا عليه لم يتنبهوا.

٢٦

للّه ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ملكا و خلقا فلا يستحق العبادة غيره إِنَّ اللّه هُوَ الْغَنِيُّ عن حمد الحامدين الْحَمِيدُ (٢٦) المستحق للحمد و ان لم يحمد اخرج ابن إسحاق عن عطاء بن يسار و كذا ذكر البغوي انه قال نزلت بمكة وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا- فلمّا هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الى المدينة أتاه أحبار اليهود فقالوا الم يبلغنا عنك انك تقول وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا- إيانا تريد أم قومك فقال كلّا عنيت قالوا الست تتلو فيما جاءك انا أوتينا التورية و فيها تبيان كل شى ء فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هى فى علم اللّه قليل فانزل اللّه تعالى.

٢٧

وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ يعنى لو ثبت كون الأشجار كلها أقلاما و توحيد شجرة لان المراد تفصيل الآحاد وَ الْبَحْرُ المحيط يَمُدُّهُ اى يزيده و ينصب فيه مِنْ بَعْدِهِ اى من خلفه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ فاعل يمدّه قرا ابو عمرو يعقوب البحر بالنصب عطفا على اسم انّ او بإضمار فعل يفسره يمدّه و الباقون بالرفع عطفا على انّ و معمولها و على هذا يمدّه حال- و جاز ان يكون البحر مبتدأ و ما بعده خبره و الجملة مستانفة او فى محل النصب على انه حال

فان قيل ليس فيه ضمير راجع الى ذى الحال قلت هو كقولك جئت الجيش قادم و نحو ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظرف و كان مقتضى الكلام ان يقال و لو ان الأشجار أقلام و البحر مداد يمده من بعده سبعة أبحر لكن اغنى عن ذكر المداد قوله يمدّه لانه من مد الدوات و أمدها- و

قال البغوي فى الاية إضمار تقديره وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ يكتب بها كلمات اللّه ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّه المعبر بها عن معلومات اللّه بتلك الأقلام و بذلك المداد و لا بأكثر من ذلك بالغا ما بلغ لان معلوماته تعالى غير متناهية لا يمكن نفادها و لذلك اختار صيغة جمع القلة للاشعار بان ذلك لا يفئ بالقليل فكيف بالكثير إِنَّ اللّه عَزِيزٌ لا يعجزه شى ء حَكِيمٌ (٢٧) لا يخرج عن علمه و حكمته امر

و اخرج ابن جرير عن عكرمة قال سال اهل الكتب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن الروح فانزل اللّه تعالى وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فقالوا تزعم انا لم نؤت من العلم الا قليلا و قد أوتينا التورية و هى الحكمة وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً فنزلت هذه الاية فعلى ما ذكرنا من الروايات فى سبب النزول الاية مدنية و قيل الاية مكية و انما امر اليهود وفد قريش ان يسئلوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و يقولوا له ذلك و هو بعد بمكة-

و اخرج ابو الشيخ فى كتاب العظمة و ابن جرير عن قتادة قال قال المشركون انما هذا الكلام يوشك ان ينفد فنزل وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ الاية.

٢٨

ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ أجمعين إِلَّا كَنَفْسٍ اى الا كخلق نفس واحِدَةٍ و بعثها إذ لا يشغله شأن عن شأن و يكفى لوجود الكل تعلق إرادته مع قدرته الذاتية فلا يتعذر عليه خلق الكل كما لا يتعذر عليه خلق نفس واحدة إِنَّ اللّه سَمِيعٌ يسمع كل مسموع بَصِيرٌ (٢٨) يبصر كل شى ء لا يشغله ادراك بعضها عن ادراك بعض اخر فكذلك الخلق او المعنى انّ اللّه سميع لاقوال المشركين ان لا بعث بصير بأعمالهم.

٢٩

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ عطف على يولج او حال بتقدير قد الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ واحد من النيرين يَجْرِي فى السماء إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى اى وقت معين و هو يوم القيامة الفرق بينه و بين قوله لِأَجَلٍ مُسَمًّى ان الاجل منتهى الجري و ثمه غرضه حقيقة او مجازا و كلا المعنيين حاصل فى الغايات وَ أَنَّ اللّه بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) عطف على قوله أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّه يُولِجُ و جملة أَ لَمْ تَرَ متصل بقوله أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللّه سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ مقرر له.

٣٠

ذلِكَ الذي ذكر من سعة عمله و شمول قدرته و عجائب صنعه بِأَنَّ اى بسبب ان اللّه هُوَ الْحَقُّ الثابت اى الواجب وجوده و جميع كمالاته او الثابت ألوهيته وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ قرأ ابو عمرو و حفص و حمزة «و يعقوب و خلف- ابو محمد» و الكسائي بالياء على الغيبة و الباقون بالتاء على الخطاب مِنْ دُونِهِ من الالهة الْباطِلُ المعدوم فى حد ذاته او الباطل دعوى الالوهية فيه وَ أَنَّ اللّه هُوَ الْعَلِيُّ المترفع على كل شى ء و المتسلط عليه الْكَبِيرُ (٣٠) الظاهر الباهر كبرياؤه و من كان هذا شأنه يجب ان يكون علمه و قدرته شاملا لجميع الأشياء ..

٣١

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ متصل بقوله أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّه يُولِجُ ... بِنِعْمَتِ اللّه اى بإحسانه فى تهية أسبابه و هو استشهاد اخر على باهر قدرته و شمول انعامه و الباء للصلة او للحال لِيُرِيَكُمْ اللّه مِنْ آياتِهِ اى بعض دلائل قدرته من عجائب البحر الذي أدركتموه إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) يعنى صبار على المشاق فيتعب نفسه بالتفكر فى الآفاق و الأنفس و يعرف النعم و يشكر عليها مانحها- او المراد لايات للمؤمنين قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الايمان نصفان فنصف فى الصبر و نصف فى الشكر- رواه البيهقي فى شعب الايمان عن انس يعنى يشكر فى السراء و يصبر فى الضراء.

٣٢

وَ إِذا غَشِيَهُمْ اى علاهم و غطاهم الظرف متعلق يدعوا اللّه فيه معنى الشرط و الجزاء و الجملة معطوفة على تجرى فى البحر خبر لانّ و ضمير غشيهم راجع الى اهل الفلك رابط بين الاسم و الخبر مَوْجٌ فى البحر كَالظُّلَلِ جمع الظلة شبّه بها الموج يأتى منه شى ء بعد شى ء قال مقاتل كالجبال و قال الكلبي كالسحاب دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ بان ينجيهم و لا يدعون غيره لما تقرر فى الأذهان انه لا كاشف لضر الا اللّه سبحانه و يزول بما غلبهم من الخوف الشديد ما ينازع الفطرة السليمة من الهوى و التقليد فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ متعلق بنجاهم بتضمين معنى أوصلهم و جملة فلمّا نجّاهم معطوفة على إذا غشيهم فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ قيل هو جواب لمّا و الظاهر ان جواب لمّا محذوف و هذا دليل عليه تقديره فلمّا نجاهم الى البرّ اختلفوا فمنهم شاكر لنعمة اللّه و منهم كافر و منهم مقتصد يعنى متوسط فى الكفر لانزجاره بعض الانزجار و كان بعض الكفار أشدّ افتراء و أشد قولا من بعض فذكر المقتصد لدلالته على جانبه كذا قال الكلبي معنى المقتصد و قال أكثرهم معنى المقتصد المقيم على الطريق القصد الذي هو التوحيد لما قيل ان الاية نزلت فى عكرمة بن ابى جهل هرب عام الفتح الى البحر فجاءهم ريح عاصف فقال عكرمة لان أنجانا اللّه من هذه لارجعن الى محمد و لاضعن يدى فى يده فسكنت الرياح فرجع الى مكة و النبي صلى اللّه عليه و سلم ثمه و اسلم و حسن إسلامه و التقدير على هذا فمنهم مقتصد و منهم كافر يدل عليه قوله وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا المنزلة اى بحقيقتها او بدلائل قدرتنا و منها الانجاء من الموج إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ اى غدار فانه نقض العهد الفطري او العهد الذي عاهد فى الشدة و الختر أسوأ الغدر كَفُورٍ (٣٢) للنعم.

٣٣

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ اى احذروا عذابه وَ اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي اى لا يغنى والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ الراجع الى الموصوف محذوف اى لا يجزى فيه والد مؤمن عن ولده الكافر وَ لا مَوْلُودٌ مؤمن عطف على والد هُوَ جازٍ صفة لمولود يعنى و لا يجزى مولود مؤمن من شأنه ان يكون هو جاز عَنْ والِدِهِ الكافر متعلق بلا يجزى و انما قيدنا بالكافر لان المؤمن يشفع للمؤمن قال اللّه تعالى وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ و قال اللّه جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ شَيْئاً منصوب على المصدرية اى لا يجزى شيئا من الاجزاء و جاز ان يكون مولود مبتدأ خبره هو جاز عن والده و تغير النظم للتاكيد فان هذه الجملة واردة على نهج من التأكيد لم يرد عليه المعطوف عليه لان الجملة الاسمية أكد من الفعلية و قد انضم الى ذلك لفظ المولود و فيه تأكيد اخر لان المولود انما يطلق على من ولد بلا واسطة و الولد يطلق عليه و على ولد الولد كما فى قوله تعالى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فاذا كان المولود لا ينفع أباه فلا ينفع أجداده بالطريق الاولى- و وجه إيراده على التأكيد ان الخطاب كان للمؤمنين فى ذلك الزمان و غالبا مات اباؤهم على الكفر فاريد حسم اطماعهم من ان ينفعوا آباءهم بالشفاعة فى الاخرة إِنَّ وَعْدَ اللّه بالبعث و الثواب و العقاب حَقٌّ لا يمكن تخلفه فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الفاء للسببية الْحَياةُ الدُّنْيا بزينتها فانها فانية و لذّاتها ضعيفة مشوبة بالمكاره وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّه فى حلمه و امهاله الْغَرُورُ (٣٣) الشيطان بان يرجيكم المغفرة فيجسركم على الذنوب.

اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم عن مجاهد مرسلا قال جاء رجل من اهل البادية و سماه البغوي الحارث بن عمرو بن الحارث بن محارب بن حفصة فسال النبي صلى اللّه عليه و سلم عن الساعة اى وقتها و قال امراتى حبلى فاخبر ما تلد و بلادنا مجدبة فاخبرنى متى ينزل الغيث و قد علمت باىّ ارض ولدتّ فاخبرنى اين أموت فانزل اللّه تعالى.

٣٤

إِنَّ اللّه عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ اى علم وقت قيامها جملة مستأنفة فى جواب متى يكون ذلك اليوم وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ متى شاء لا يعلم نزولها الا هو وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ اذكر أم أنثى لا يعلمها غيره وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ عن ابن عمران رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال مفاتح الغيب خمس لا يعلمها الا اللّه لا يعلم أحد ما يكون فى غد الا اللّه و لا يعلم ما فى الأرحام الا اللّه و لا يعلم أحد متى تقوم الساعة الا اللّه و لا تدرى نفس باى ارض تموت الا اللّه و لا يدرى أحد متى يجئى المطر الا اللّه رواه احمد و البخاري و روى البغوي فى تفسير هذه الاية عن ابن عمر بهذا اللفظ ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال مفاتح الغيب خمس إِنَّ اللّه عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ و فى الصحيحين فى قصة سوال جبرئيل فى حديث ابى هريرة فى خمس يعنى انّ السّاعة لا يعلمهن الا اللّه ثم قرا إِنَّ اللّه عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الاية-

و اخرج ابن ابى شيبة فى المصنف عن خيثمة ان ملك الموت مر على سليمان فجعل ينظر الى رجل من جلسائه فقال الرجل من هذا قال ملك الموت فقال كانّه يريدنى فمر الريح ان يحملنى و يلقينى بالهند ففعل فقال الملك كان دوام نظرى اليه تعجبا منه إذ أمرت ان اقبض روحه بالهند و هو عندك و اللّه اعلم.

و انما جعل العلم للّه و الدراية للعبد لان فيها معنى الحيلة فيشعر بالفرق بين العلمين فى القاموس دريته علمته او لضرب من حيلة فعنه اشارة الى ان العبد ان عمل حيلة و بذل فيها وسعه لم يعرف ما هو لاحق به من كسبه و عاقبته فكيف بغيره ما لم يحصل له علم بتعليم من اللّه تعالى بتوسط الرسل او بنصب دليل عليه إِنَّ اللّه عَلِيمٌ يعلم الأشياء كلها خَبِيرٌ (٣٤) يعلم بواطنها كما يعلم ظواهرها حكى ان منصورا راى فى منامه ملك الموت و سأله عن مدة عمره فاشار اليه بأصابعه الخمس فعبرها المعبرون بخمس سنين او بخمسة أشهر او بخمسة ايام فقال ابو حنيفة هو اشارة الى هذه الاية فان هذه العلوم الخمسة مختصة باللّه تعالى و اللّه اعلم.

﴿ ٠