٢٩

وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللّه اى مراتب القرب الى اللّه و مرضاته وَ قرب رَسُولَهُ وَ نعماء الدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللّه أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ يعنى لمن أرادت رضوان اللّه و رسوله و الدار الاخرة فانها هى المحسنة إذ الإحسان ان تعبد ربك بالحضور كانك تراه أَجْراً عَظِيماً (٢٩)

قال البغوي و كانت تحت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يومئذ تسع نسوة خمس من قريش عائشة بنت ابى بكر و حفصة بنت عمرو أم حبيبة بنت ابى سفيان و أم سلمة بنت امية و سودة بنت زمعة و اربع من غير قريش زينب بنت جحش الاسدية و ميمونة بنت الحارث الهلالية و صفية بنت حيى بن اخطب الخيبرية و جويرية بنت الحارث المصطلقية- و لمّا نزلت اية التخيير بدأ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعائشة و كانت أحبهن اليه فخيرها

و قرا عليها القران فاختارت اللّه و رسوله و الدار الاخرة و رات الفرح فى وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و تابعنها على ذلك- قال قتادة فلمّا اخترن اللّه و رسوله شكرهن على ذلك و قصره عليهن فقال لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ.

اخرج مسلم و احمد و النسائي من طريق ابى الزبير عن جابر قال اقبل ابو بكر ليستأذن على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فلم يؤذن له ثم اقبل عمر فاستاذن فلم يوذن له ثم اذن لهما فدخلا و النبي صلى اللّه عليه و سلم جالس و حوله نساؤه واجما «١» ساكتا قال فقال عمر لا قولن شيئا اضحك النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال لو رايت بنت خارجة سالنى النفقة فقمت إليها فوجأت «اى ضربت يحاء يضرب- منه رح» عنقها فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قال هن حولى كما ترى يسئلننى النفقة فقام ابو بكر الى عائشة يجأء عنقها و قام عمر الى حفصة يجاء عنقها كلاهما يقولان لا تسئلنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ابدا ما ليس عنده- ثم اعتزلهن شهرا و تسعا و عشرين ثم نزلت هذه الاية- قال فبدا بعائشة قال يا عائشة انى أريد ان اعرض عايك امرا احبّ ان لا تعجلى فيه حتى تستشير أبويك فقال و ما هو يا رسول اللّه فتلا عليها الآيات فقالت أفيك يا رسول اللّه استشير ابوىّ بل اختار اللّه و رسوله و الدار الاخرة أسئلك ان لا تخبر امرأة من نسائك قال لا تسئلنى امراة منهن الا أخبرتها ان اللّه لم يبعثنى جحودا و لا مفتنا و لكنه بعثني مبشرا معلما و فى الصحيح عن الزهري ان النبي صلى اللّه عليه و سلم اقسم ان لا يدخل على أزواجه شهرا قال الزهري فاخبرنى عروة عن عائشة قالت فبدانى فقلت يا رسول اللّه انك أقسمت ان لا تدخل علينا شهرا فانك بتسع و عشرين اعدهن قال ان الشهر تسع و عشرون.

(١) الوجم ككتف صاحب العبوس المطرق لشدة الحزن وجم كوعد وجما و وجوما سكت على غيظه ١٢ قاموس منه رحمه اللّه.

(فائدة)

قال البغوي اختلف العلماء فى هذا الخيار هل كان ذلك تفويض الطلاق حتى يقع الطلاق بنفس اختيارها نفسها أم لا فذهب الحسن و قتادة و اكثر اهل العلم انه لم يكن تفويض الطلاق بل خيرهن فى طلب الطلاق فان اخترن الدنيا فارقهن بدليل قوله تعالى فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ- و ذهب قوم الى انه كان تفويض الطلاق لو اخترن انفسهن كان طلاقا.

(مسئلة) إذا قال الزوج لامراته اختاري و نوى بذلك ان تطلق نفسها ان شاءت فلها ان تطلق نفسها مادامت فى المجلس فان قامت منه او أخذت فى عمل اخر خرج الأمر من يدها لانه تمليك الفعل منهيّا و التمليكات يقتضى جوابا فى المجلس كما فى البيع قال صاحب الهداية لها خيار المجلس بإجماع الصحابة رضى اللّه عنهم و قال ابن همام قال ابن المنذر اختلفوا فى الرجل يخير زوجته فقالت طائفة أمرها بيدها فى المجلس فان قامت من مجلسها فلا خيار لها روينا هذا القول عن عمر بن الخطاب و عثمان و ابن مسعود رضى اللّه عنهم و فى أسانيدها مقال و به قال جابر بن عبد اللّه و به قال عطاء و مجاهد و الشعبي و النخعي و مالك و سفيان الثوري و الأوزاعي و الشافعي و ابو ثور و اصحاب الرازي- و قالت طائفة أمرها بيدها فى المجلس و بعدها و هو قول الزهري و قتادة و ابى عبيدة و ابن نصر قال ابن المنذر و به نقول لقوله صلى اللّه عليه و سلم لعائشة لا تستعجلى حتى تستأمرى أبويك و حكى صاحب المغني هذا القول من الصحابة عن على رضى اللّه عنه و أجاب ابن الهمام عن قول ابن المنذر ان الرواية عن على لم يستقر فقد روى عنه قول الجماعة كذا نص محمد فى بلاغاته حيث قال بلغنا عن عمر و عثمان و على و ابن مسعود و جابر رضى اللّه عنهم فى الرجل يخير امرأته ان لها الخيار مادامت فى مجلسها ذلك فاذا قامت من مجلسها فلا خيار لها و لم يرو عن غيره من الصحابة ما يخالف ذلك فكان اجماعا سكوتيا و قوله فى أسانيدها مقال لا يضر بعد تلقى الامة بالقبول مع ان رواية عبد الرزاق عن جابر و ابن مسعود جيدة- و اما التمسك بقوله صلى اللّه عليه و سلم لا تعجلى فضعيف لانه ليس فى الاية تخيير الطلاق و تفويضه كما يدل عليه قوله تعالى فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا.

(مسئلة) لا بد من النية فى قوله اختاري لانه يحتمل تخيرها فى نفسها و يحتمل تخيرها فى تصرف اخر غيره.

(مسئلة) إذا قال الزوج اختاري فقالت اخترت نفسى فالمروى عن عمرو ابن مسعود و ابن عباس انها تقع واحدة رجعية و به أخذ الشافعي و احمد لان قوله اختاري بمنزلة قوله طلقى نفسك و قولها اخترت نفسى بمنزلة قوله طلقت نفسى و الواقع بها رجعى اجماعا و بان الكتاب دل على ان الطلاق يعقب الرجعة الا الثالث- و روى عن زيد بن ثابت انه يقع الطلقات الثلاث و به أخذ مالك فى المدخول بها و فى غيرها يقبل منه دعوى الواحدة وجه قول زيد ان اختيارها يقتضى ثبوت اختصاصها بها بحيث لا يكون لزوجها إليها سبيل من غير رضاءها و الا لا يحصل فائدة التخيير إذا كان له ان يراجعها فى الحال شاءت او أبت و ذلك الاختصاص لا يتصور الا فى البائن و الطلاق يعقب الرجعة بالكتاب الا ان يكون ثلاثا فيقع الثلاث و ثبت عن على رضى اللّه عنه ان الواقع به واحدة بائنة و به قال ابو حنيفة رحمه اللّه لما ذكرنا ان اختصاصها بنفسها لا يتصور الا بالبينونة و البينونة قد يكون بواحدة اجماعا كالطلاق بمال و الطلاق قبل الدخول فيحمل عليه لحصول المقصود و لا وجه لجعله ثلاثا بعد حصول المقصود بواحدة- و قد روى الترمذي عن ابن مسعود و عمر ان الواقع بها بائنة كما روى عنهما الرجعية فاختلف الرواية عنهما-

قلت البينونة يتنوع الى غليظة و خفيفة فان نوى بها الزوج الغليظة لا بد ان يقع به ثلاثا- لكن أبا حنيفة رحمه اللّه يقول ان قوله اختاري لا يدل على البينونة بل يفيد الخلوص و الصفاء و البينونة يثبت فيه اقتضاء فلا يعم بل يقدر بقدر الضرورة بخلاف أنت بائن و نحوه فلا يقع الثلاث بقوله اختاري و ان نوى الثلاث لان النية انما تعمل فيما يحتمله اللفظ و يقع بقوله أنت بائن ثلاثا ان نوى الثلاث و بخلاف قوله اختاري اختاري اختاري لان تعدد اللفظ يدل على تعدد المقصود.

(مسئلة) لو قالت اخترت زوجى بعد ما قال لها اختاري لا يقع شى ء عند الجمهور لان الزوج لم يطلقها بل جعل أمرها باختيارها و هى لم تختر الطلاق بل اختارت ابقاء النكاح- و عن على رضى اللّه عنه انه يقع رجعية كانه جعل نفس اللفظ ايقاعا قال ابن همام لكن قول عائشة خيّرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاخترناه و لم يعدّه علينا شيئا- رواه الستة و فى لفظ الصحيحين فلم يعدد يفيد عدم وقوع شى ء كما قاله الجمهور-

قلت لما ذكرنا فيما سبق ان تخيير ازواج النبي صلى اللّه عليه و سلم لم يكن تخييرا للطلاق بل كان تخييرا فى طلب انطلاق فلا يكون قول عائشة حجة على ما قاله الجمهور و اللّه اعلم.

(مسئلة) و لا بد من ذكر النفس فى كلامه او كلامها حتى لو قال اختاري فقالت اخترت لا يقع الطلاق لان هذا اللفظ ليس لفظا للطلاق فكان القياس ان لا يقع بها شى ء لان التمليك فرع ملك المملك و الزوج لا يملك إيقاع الطلاق بهذا اللفظ لكنا تركنا القياس و

قلنا بوقوع الطلاق باختيارها بإجماع الصحابة و الإجماع انما هو فى المفسّر من أحد الجانبين بالنفس و لان قوله اختاري مبهم يحتمل تخيرها فى نفسها و تخيرها فى تصرف اخر غيره- و المبهم لا يصلح تفسيرا للمبهم و لا تعيين مع الإبهام- و لمّا كان وقوع الطلاق بقوله اختاري معدولا عن سنن القياس مقتصرا على مورد الإجماع لا يكتفى بالنية و ان كان مع القرينة الحالية دون المقالية لعدم الإجماع هناك- و قال الشافعي و احمد يكتفى بالنية مع القرينة الحالية بعد ان نوى الزوج وقوع الطلاق به و تصادقا عليه و قال ابو حنيفة النية بدون احتمال اللفظ يلغوا و الا لوقع بجرد النية مع لفظ لا يصلح له أصلا كاسقنى و انما تركنا القياس بموضع الإجماع. قلت لكن قوله النية بدون احتمال اللفظ يلغو ليس فى محله فان لفظ اختاري و اخترت بدون ذكر النفس يحتمل تخيرها الطلاق و اختارها إياه و غير ذلك و ان لم تكن نصّا فيه و لذلك لو قال اختاري فقالت اخترت نفسى يقع الطلاق ان نوى الزوج لان كلامها مفسرة و ما نواه الزوج من محتملات كلامه- و كذا لو قال اختاري اختيارة فقالت قد اخترت طلقت ايضا لان الهاء فى اختيارة ينبئ عن الاتحاد و و الانفراد و اختيارها نفسها يتحد مرة و يتعدد اخرى فصار مفسرا من جانبه.

(مسئلة) و لو قال الزوج اختاري فقالت انا اختار نفسى فهى طالق و القياس ان لا يطلق لان هذا مجرد وعد او يحتمله فصار كما إذا قال طلقى نفسك فقالت انا اطلق نفسى قال صاحب الهداية وجه الاستحسان قول عائشة لابل اختار اللّه و رسوله و اعتباره صلى اللّه عليه و سلم جوابا منها- لا يقال ذكر فيما سبق ان قصة عائشة لم يكن تخييرا فى التطليق بل فى طلب الطلاق لانا نقول مقصودنا يحصل باعتباره صلى اللّه عليه و سلم جوابا للاختيار سواء كان الاختيار متعلقا بالتطليق او طلب التطليق- و لان قولها انا اختار نفسى حكاية عن حالة قائمة و هو اختيار نفسها بخلاف قولها- طلق نفسى لان جمله على الحال متعذر لانه ليس حكاية عن حالة قائمة و اللّه اعلم.

﴿ ٢٩