سُورَةُ سَبَأٍ مَكِّيَّةٌ وَهِيَ أَرْبَعٌ وَخَمْسُونَ آيَةً مكّيّة و هى اربع و خمسون اية ربّ يسّر بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و تمّم بالخير _________________________________ ١ الحمد للّه الّذى له ما فى السّموت و ما فى الأرض ملكا و خلقا و قمرا فهو الحقيق بالحمد سرّا و جهرا دون غيره و انما يحمد غيره لاجل اضافة بعض النعم الى غيره ظاهرا و بالمجاز. وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ لان نعماء الاخرة ايضا له تعالى و ليس هذا من قبيل عطف المقيد على المطلق بل المعطوف عليه مقيد بكونه فى الدنيا لما يدل الوصف بالموصول و الصلة على انه المنعم بالنعم الدنيوية فله الحمد فى الدنيا لكمال قدرته و تمام نعمته و كذا فى الاخرة لان نعماء الآخرة ايضا له تعالى و تقديم الظرف فى الجملة الثانية للاشعار بان الحمد فى الدنيا قد يكون اللّه تعالى بواسطة من يستحق الحمد لاجلها و لا كذلك نعم الاخرة بل هى مختصة باللّه تعالى قيل الحمد فى الاخرة هو حمد اهل الجنة كما قال اللّه تعالى و قالوا الحمد للّه الّذى هدينا لهذا و ما كنّا لنهتدى لو لا ان هدينا اللّه و قالوا الحمد للّه الّذى صدقنا وعده- و الحمد للّه الّذى اذهب عنّا الحزن وَ هُوَ الْحَكِيمُ الذي احكم امور الدين الْخَبِيرُ (١) ببواطن الأشياء و ظواهرها. ٢ يَعْلَمُ حال او استيناف فى مقام التعليل ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ من المطر الذي ينفذ فى مسام الأرض و الأموات و الكنوز وَ ما يَخْرُجُ مِنْها من النبات و الفلذات و الأموات إذا حشروا و الماء من الآبار و العيون وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من الأمطار و الصواعق و الملائكة و الكتب و المقادير و الأرزاق و انواع البركات و اصناف البليات وَ ما يَعْرُجُ فِيها من الملائكة و اعمال العباد و الدعوات وَ هُوَ الرَّحِيمُ فينزّل ما يحتاجون اليه الْغَفُورُ (٢) للمفرطين فى شكر نعمته مع كثرتها هذه الجملة معطوفة على يعلم. ٣ وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ انكار لمجيئها معطوف على جملة مقدرة مفهومة من قوله تعالى وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ... وَ هُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ فانه يفهم منه وعد اللّه بالرحمة و المغفرة للحامدين يوم تأتى الساعة قُلْ بَلى رد لكلامهم و اثبات لما نفوه وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ تكرير لايجابه مؤكدا بالقسم و بتوصيف المقسم به بقوله عالِمِ الْغَيْبِ فان عظم المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم و فيه اشارة الى ان الساعة من الغيب و علمه مختص باللّه تعالى يكفى لاثباته شهادة تعالى و لا يجوز لاحد اثبات شي ء من الغيب و لا نفيه الا بتعليم من اللّه تعالى. قرا حمزة و الكسائي علّام الغيب على وزن فعّال للمبالغة و الباقون على وزن فاعل و قرا نافع و ابن عامر بالرفع على انه خبر مبتدا محذوف او مبتدا خبره ما بعده و الباقون بالجر على انه صفة للرب ففيه تأكيد للردّ على انكارهم فان انكار هم ليس الا مبنيّا على جهلهم و استبعادهم ممكنا مثل سائر الممكنات ثابتا إتيانه بأخبار عالم الغيب لا يَعْزُبُ قرأ الكسائي بكسر الزاء و الباقون بضمها و معناهما واحد اى لا يغيب عَنْهُ مِثْقالُ اى مقدار ثقل ذَرَّةٍ اى نملة صغيرة كائنة فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ موجهة فى شي ء من الازمنة الماضية او المستقبلة او الحال و القول بان المعنى لا يعزب عنه مثقال ذرّة موجودة فى الزمان الحال كائنة فى السماوات او الأرض يأباه المقام لان الجملة واقعة تأكيدا لقوله عالم الغيب بيانا لشمول علمه جميع الكائنات ماضيا كان او مستقبلا حتى يكون مؤكدا للاخبار بإتيان الساعة. و ايضا حضور جميع الأشياء الموجودة فى الحال؟؟؟ لبعض من الخلائق كما ذكرنا فى سورة الانعام فى تفسير قوله تعالى تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا انه قيل يا رسول اللّه ملك الموت واحد و الزحفان يلتقيان من المشرق و المغرب و ما بين ذلك من السقط و الهلاك انه حوى الدنيا الملك الموت حتى جعلها كالطست بين يدى فهل يفوته منها شي ء فالظاهر من هذه الاية ان الازمنة كلها و ما فيها من الزمانيات الماضية و المستقبلة حاضرة عند اللّه سبحانه و هو خارج عن الزمان كما ان الامكنة و المكانيات حاضرة عنده تعالى و هو خارج عن المكان لا يجرى عليه زمان كما لا يحويه مكان فالزمان مخلوق له تعالى حادث حدوثا ذاتيا كما ان المكان مخلوق له فالماضى و المستقبل بالنسبة اليه سواء كما ان الامكنة كلها بالاضافة اليه سواء و قد نبه على ذلك بعض الأكابر من علماء الظاهر قال الجلال الدواني رحمة اللّه عليه فى رسالته الزوراء إذا اعتبرت الامتداد الزمانى الذي هو محل التغيير و التبديل و عرض الحوادث الكونية بما يقارنه من الحوادث جملة واحدة وجدته شأنا من شيون العلة الاولى محيطا لجميع الشيون المتعاقبة- ثم ان أمعنت النظر وجدت التعاقب باعتبار حضور حدود ذلك الامتداد و غيبوبتها بالنسبة الى الزمانيات الواقعة تحت حيطته- و اما المراتب العالية عليها فلا تعاقب بالنسبة إليها بل الجميع متساوية بالنسبة إليها متحاذية فى الحضور لذاتها فما ظنك ما على شواهق العوالي ليس عند ربك صباح و الإمساء تنبيه إذا أخذت امتداد مختلف الاجزاء فى اللون كخشب اختلف اللون فى اجزائه ثم امررته فى محاذات ذرة او غيرها ممّا يضيق حدقته عن الإحاطة بجميع ذلك الامتدادات ليس تلك الألوان المختلفة متعاقبة فى الحضور لديها لضيق حدقتها متقاربة فى الحضور لديك لقوة احاطتك فاعتبروا يا أولى الابصار انتهى كلامه فائدة و قد يأتى على بعض الأكابر حالة يخرج فيه من حيز الزمان فيرى الماضي او المستقبل موجودا عنده و يشهد عليه ما رواه الشيخان فى الصحيحين عن عبد اللّه بن عباس قال انخسف الشمس على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و الناس فقام قياما طويلا فذكر الحديث بطوله حتى قال قالوا يا رسول اللّه رايناك تناولت شيئا فى مقامك هذا ثم رأيناك تكعكعت فقال انى رايت الجنة فتناولت منها عنقودا و لو أخذته لاكلتم منه ما بقيت الدنيا و رايت النار فلم ار كاليوم منظرا قط أفظع و رايت اكثر أهلها النساء الحديث- و لا شك ان دخول النساء فى النار لا يكون الا بعد القيامة و قد راه النبي صلى اللّه عليه و سلم موجودا لا يقال لعل النبي صلى اللّه عليه و سلم راى صورة النار و الجنة فى عالم المثال مثل ما يرى النائم فى المنام لان قوله لو أخذته لا كلتم منه ما بقيت الدنيا صريح فى انه صلى اللّه عليه و سلم راى حقيقة الجنة و النار دون مثالهما و ما روى مسلم عن جابر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال رايت الجنة فرايت امراة ابى طلحة و سمعت خشخشة امامى فاذا بلال و ما روى احمد و ابو داود و الضياء عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لما عرج بي ربى عزّ و جلّ مررت بقوم لهم اظفار من نحاس يخمشون وجوههم و صدورهم فقلت من هؤلاء يا جبرئيل قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس و يقعون فى اعراضهم و عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عرضت علىّ النار فرايت فيها امراة من بنى إسرائيل تعذب فى هرة ربطها فلم تطعمها و لم تدعها تأكل من حشاش الأرض حتى ماتت جوعا و رايت عمر بن عامر الخزاعي يجر قصبه فى النار و كان أول من سيب السوائب- رواه مسلم و قال اكثر المفسرين معنى قوله تعالى لا يَعْزُبُ عَنْهُ اى علمه مِثْقالُ ذَرَّةٍ ... وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ اى من الذرة وَ لا أَكْبَرُ منه إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) حملة مؤكدة لنفى العزوب ان كان المراد بالعزوب العزوب عن علمه او المراد بالكتاب المبين علمه تعالى او اللوح المحفوظ الذي حاك عن بعض من علومه و ان كان المراد عدم عزوب شي ء من ذاته سبحانه فهذا تأسيس لا تأكيد و أصغر و اكبر مرفوعان بالابتداء و يؤيده القراءة بالفتح على اعمال لا التي لنفى الجنس- و لا يجوز العطف مرفوعا على مثقال و مفتوحا على ذرة فى محل الجر لامتناعها من الصرف لان الاستثناء عنه؟؟؟ و لا يجوزان يكون الاستثناء منقطعا بمعنى لكن لان الاستدراك و الاستثناء المنقطع بعد النفي يكون اثباتا فيكون المعنى لا يعزب مثقال ذرة و لا أصغر منه و لا اكبر و لكن يعزب فى كتاب مبين و هذا فاسد- قال البيضاوي اللّهم إذا جعل الضمير فى يعزب للغيب و جعل المثبت فى اللوح خارجا عنه لظهوره على المطالعين له فيكون المعنى لا ينفصل عن الغيب إلا سطورا فى اللوح و هذا التوجيه ضعيف كما يشعر به كلام البيضاوي لان كونه فى اللوح لا يخرجه عن الغيب و الكلام فى شمول علمه تعالى و لا مساس لهذا التوجيه بالمدعى على انه ورد فى سورة يونس بلفظ لا يعزب عن ربّك من مّثقال ذرّة فى الأرض و لا فى السّماء و لا أصغر من ذلك و لا أكبر الّا فى كتب مبين و لا يتاتى هذا التوجيه هناك و قيل هذا على طريقة المدح بما يشبه الذم كما فى قوله تعالى وَ ما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللّه كقولك فى زيد لا عيب فيه الّا انه عالم يعنى لا عيب فيه أصلا و المعنى لا يعزب عنه مثقال ذرة الا فى كتاب مبين حكمه فكيف يغب عنه. ٤ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ علة لقوله لتأتينّكم و بيان لما يقتضى إتيانها أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لما قصروا فى أداء حقوق العبودية التي لا يمكن استيفاؤها وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) حسن فى الجنة لا تعب فيه و لا منّ عليه لما أتوا بها من الحسنات و تفضلا-. ٥ وَ الَّذِينَ سَعَوْا عطف على الّذين أمنوا مفعول ليجزى اى ليجزى الذين سعوا فِي آياتِنا بالابطال و تزهيد الناس فيها مُعاجِزِينَ قرأ ابن كثير و ابو عمرو معجّزين من التفعيل اى مثبطين عن الايمان من اراده و الباقون من المفاعلة اى مقدرين عجزنا او سابقين لنا فيفوتنا لظنهم بأن لا بعث و لا عقاب أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ قال قتادة الرجز سوء العذاب فمن بيانية أَلِيمٌ (٥) اى ذو الم يعنى مؤلم قرا ابن كثير و حفص و يعقوب بالرفع هنا و فى الجاثية على انه نعت للعذاب و الباقون بالجر على انه نعت للرجز. ٦ وَ يَرَى بمعنى يعلم مرفوع عطفا على مضمون بلى لتأتينكم و قيل منصوب معطوف على يجزى اى ليجزى الّذين أمنوا و ليعلم الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يعنى مؤمنى اهل الكتاب عبد اللّه بن سلام و أصحابه و قال قتادة هم اصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم و من تبعهم بإحسان اى يعلم عند مجي ء الساعة انه الحق عيانا كما علموه الان برهانا الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعنى القران مفعول أول ليرى هُوَ الْحَقَّ بالرفع «١» مبتدا و خبر و الجملة ثانى مفعولى يرى و قرئى بالنصب على انه ثانى مفعولى يرى و الضمير للفصل و جملة يرى مستأنفة للاستشهاد باولى العلم على الجهلة الساعين فى الآيات وَ يَهْدِي اللّه او الذي انزل إليك عطف على الحق إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) اى الإسلام. (١) اجمع القراء على النصب و لا خلاف بينهم فى ذلك- ابو محمد عفا اللّه عنهم-. ٧ وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا عطف على قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا و بينهما معترضات و وضع المظهر موضع الضمير للتصريح على مناط الحكم يعنى قال منكروا البعث بعضهم لبعض متعجبين منه هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يعنون محمدا صلى اللّه عليه و سلم يُنَبِّئُكُمْ صفة لرجل اى يخبركم بأعجب الأعاجيب و هو انه إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ كل منصوب على المصدرية لاضافته الى المصدر الميمى يعنى إذا متم و تمزق أجسادكم كل تمزق بحيث يصير ترابا او على الظرفية بمعنى إذا مزقتم و ذهبت بكم السيول كل مذهب و طرحته كل مطرح إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) منصوب بقوله ينبئكم بتضمين معنى القول يعنى يقول انّكم لفى خلق جديد و تقديم الظرف يعنى إذا مزّقتم للدلالة على البعد و المبالغة و عامله محذوف دل عليه ما بعده يعنى ينبئكم بانكم تبعثون إذا مزّقتم كلّ ممزّق يقول انّكم لفى خلق جديد و ذلك لان ما قبله لم يقارنه و ما بعد انّ لا يعمل فيما قبله و ذكروا النبي صلى اللّه عليه و سلم بالتنكير مع كونه مشهورا فى قريش شائعا انباؤه بالبعث تجاهلا به و بامره بناء على استبعاده و قصدا الى التحقير. ٨ أَفْتَرى همزة استفهام دخلت على همزة الوصل فسقطت من اللفظ للاستغناء عنها و لعدم اللبس بالخبر فان همزة الوصل هاهنا مكسورة بخلاف ما إذا كان همزة الوصل مفتوحة نحو ءاللّه و الذكر و ءائن فان هناك لا تحذف بل تسهل او تبدل الفا و يمد و سقطت من الخط ايضا على خلاف القياس عَلَى اللّه كَذِباً منصوب على المصدرية بافترى إذا لافتراء نوع من الكذب و هو التعمد به أَمْ بِهِ جِنَّةٌ اى جنون يوهمه ذلك و يلقيه على لسانه و زعم بعضهم بجعل الجنون قسيما للافتراء ان بين الصدق و الكذب واسطة و هى كل خبر لا يكون على بصيرة بالمخبر عنه و ضعفه بيّن فان الافتراء ليس مساو للكذب بل هو أخص منه فان الكذب خبر لا يطابق الواقع سواء كان عمدا او خطا بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ إضراب من جملة مقدرة اى لم يفتر و ليس به جنة بل الّذين لا يؤمنون بِالْآخِرَةِ المشتملة على البعث و العذاب فِي الْعَذابِ فيها وَ الضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) من الحق فى الدنيا رد اللّه سبحانه عليهم ترديد هم و اثبت لهم ما هو أقبح من القسمين و هو البعيد من الضلال بحيث لا يرجى الخلاص منه و ما هو مراده اى العذاب و جعل العذاب مقارنا للضلال فى الحكم مقدما عليه فى اللفظ للمبالغة فى استحقاقهم له و البعد فى الأصل صفة اتصال وصف به الضلال مجازا كقوله شعر شاعر .. ٩ أَ فَلَمْ يَرَوْا الاستفهام للانكار و التوبيخ و الفاء للعطف على محذوف تقديره اعموا فلم يروا اى لم ينظروا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ يعنى الى ما أحاط بجوانبهم مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ يعنى ان المشاهدات كلها تدل على كمال قدرة الصانع المختار و كمال قدرته يقتضى جواز البعث فكيف يحكمون باستحالته و كونه مكذبا فيه مفترى و المخبر على كمال صفات الكمال من العقل و الصدق المعروف بينهم فكيف يحكمون عليه بالجنون و الهزاء فما هو الإضلال بعيد- فهذه الجملة تعليل لقوله بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَ الضَّلالِ الْبَعِيدِ ثم بعد شرح ضلالهم يخوفهم اللّه تعالى على ما هم عليه بقوله إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ قرأ الكسائي بإدغام الفاء فى الباء و الباقون بالإظهار الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ قرأ حمزة و الكسائي يشأ يخسف يسقط بالياء فيهن على الغيبة لذكر اللّه فيما قبل و الباقون بالنون على التكلم عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ لتكذيبهم بالآيات بعد ظهور البينات قرا حفص كسفا بتحريك السين و الباقون بإسكانها قيل قوله أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ تمهيد للانذار و التخويف و المعنى اعمّوا فلم يروا ما أحاط بهم من السماء و الأرض حيثما كانوا و اين ما ساروا مقهورين لا يقدرون ان ينفذوا من أقطارهما و يخرجوا من ملكوتنا يعنى قد راوا ذلك فليخافوا ان يخسف اللّه بهم الأرض كما فعل بقارون او يسقط عليهم كسفا من السماء كما أرسلنا حجارة من السماء على قوم لوط لتكذيبهم رسولنا و كفرهم باياتنا إِنَّ فِي ذلِكَ الذي يرونه من السموات و الأرض لَآيَةً دلالة واضحة على كمال القدرة و جواز البعث بعد الموت و جواز تعذيب من كفر باللّه لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩) راجع الى اللّه بقلبه لكونه كثير التفكر و التأمل. ١٠ وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا على كثير من عباده المؤمنين يدل على ذلك قوله تعالى حكاية عن سليمان الْحَمْدُ للّه الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ و يندرج فيه النبوة و الكتاب و الملك و حسن الصوت و تلين الحديد و غير ذلك و فضلا منصوب على المفعولية و منّا حال منه يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ بدل من فضلا او من اتينا بتضمين القول اى قلنا يلجبال اوّبى معه اى سبح معه و الإياب الرجوع اى ارجعي فى التسبيح كلما رجع داود فيه- او الإياب هو التسبيح يقال اوّب إذا سبح فان المسبح يرجع الى اللّه معرضا عن غيره و قال القتيبي أصله من التأويب فى السير و هو ان يسير النهار كله و ينزل ليلا كانه قال إذا اتى النهار سيرى بالتسبيح معه و قال وهب نوحى معه وَ الطَّيْرَ معطوف على الجبال قرا يعقوب «١» بالرفع حملا على لفظه و الباقون بالنصب حملا على محله و جازان يكون النصب عطفا على فضلا او على انه مفعول معه لاوّبى و جازان يكون بالعطف على ضميره قال البيضاوي كان اصل النظم و لقد اتينا داود منّا فضلا و هى تأويب الجبال و الطير فبدل به هذا النظم لما فيه من الفخامة و الدلالة على عظم شأنه و كبرياء و سلطانه حيث جعل الجبال و الطيور كالعقلاء المنقادين لامره فى نفاذ مشيته فيها قال البغوي كان داود إذا نادى بالنياحة اجابته الجبال بصداها و عكفت الطير عليه من فوقه و قيل كان داود إذا تخلل الجبال فسبح اللّه جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح و قيل كان داود إذا لحقه فتور أسمعه اللّه تسبيح الجبال تنشيطا له وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) حتى كان الحديد فى يده كالشمع و العجين يعمل منه ما يشأ من غير نار و لا ضرب مطرقة. (١) و الصحيح انه قرا يعقوب بالنصب كالجماعة نعم روى الرفع عن روح ابن نهران و لا يؤخذ به ابو محمد عفا اللّه عنه. قال البغوي كان سبب ذلك على ما روى فى الاخبار ان داود لمّا ملك بنى إسرائيل كان من عادته ان يخرج للناس متنكرا فاذا راى من لا يعرفه يقدم اليه و يسئله عن داود و يقول له ما تقول فى داود و إليكم هذا اىّ رجل هو فيثنون عليه و يقولون خيرا فقيض اللّه له ملكا فى صورة آدمي فلما راه داود تقدم اليه على عادته فساله فقال الملك نعم الرجل هو و لا خصلة فيه فراع داود ذلك و قال ما هى يا عبد اللّه قال انه يأكل و يطعم عياله من بيت المال قال فتنبه لذلك و سال اللّه ان يسبب له سببا يستغنى به عن بيت المال فيتقوت منه و يطعم عياله فالان اللّه له الحديد و علّمه صنعة الدرع و انه أول من اتخذها و يقال انه كان يبيع كل درع باربعة آلاف درهم فيأكل و يطعم منها عياله و يتصدق منها على الفقراء و المساكين و يقال انه كان يعمل كل يوم درعا يبيعها بستة آلاف درهم فينفق منها الفين على نفسه و عياله و يتصدق باربعة آلاف على الفقراء و المساكين عن المقدام بن معديكرب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما أكل أحد طعاما قط خيرا من ان يأكل من عمل يديه و ان نبى اللّه داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده- رواه البخاري و احمد و ذكر البغوي هذا الحديث بلفظ كان داود لا يأكل الا من عمل يده. ١١ أَنِ اعْمَلْ اى أمرناه ان اعمل ان مصدرية او مفسرة سابِغاتٍ اى دروعا كوامل واسعات طوال يجرها لابسها على الأرض وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ السرد خرذ الجلد و استعير لنسج الدرع يعنى قدر فى نسجها بحيث تناسب حلقها و مساميرها فلا تجعلها رقاقا فتغلق و لا غلاظا فتكسر الحلق وَ اعْمَلُوا يا داود و اله صالِحاً خالصا للّه صالحا لقبوله منصوب على المفعولية او المصدرية إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) فاجازيكم عليه عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه طيب لا يقبل الا طيبا امر المؤمنين بما امر المرسلين فقال يايّها الرّسل كلوا من الطّيّبات و اعملوا صالحا الحديث- رواه مسلم. ١٢ وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ قرأ ابو بكر عن عاصم بالرفع على انه مبتدا محذوف الخبر تقديره و لسليمان الرّيح مسخّرة أورد الجملة اسمية للدلالة على ان كونها مسخرة لسليمان امر ثابت عند العامة مذكور على الالسنة او على تقدير فعل مجهول يعنى سخّر لسليمان الريح و الباقون بالنصب على انه مفعول لفعل محذوف تقديره و سخرنا لسليمان الريح و الجملة معطوفة على مفهوم كلام سابق فانه يفهم من قوله تعالى يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ انه سخرنا مع داود الجبال يسبحن و الطير و قد ورد بهذا اللفظ فى سورة الأنبياء غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ جملة مستأنفة اى جريها بالغد و يعنى من الصباح الى الزوال كان مسيرة شهر و بالعشي اى من الزوال الى الغروب كان كذلك قال الحسن كان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر و بينهما مسيرة شهر ثم يروح من إصطخر فيبيت ببابل و بينهما مسيرة شهر للراكب المسرع و قيل انه كان يتغدى بالري و يتعشى بسمرقند وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ النحاس عطف على سخرنا لسليمان الريح أسال اللّه تعالى له النحاس المذاب من معدنه فنبع منه بنوع الماء من الينبوع و لذلك سماه عينا- قال البغوي قال اهل التفسير أجريت له عين النحاس ثلاثة ايام الى اليمن كجرى الماء و كان بأرض اليمن و انما ينتفع الناس اليوم ما اخرج اللّه لسليمان عليه السلام وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ على تقدير كون الريح مرفوعا الموصول مع الصلة مبتدا خبره محذوف اى مسخرة و من الجن حال من الضمير المستكن فى يعمل عطف جملة اسمية على جملة اسمية و على تقدير كونه منصوبا الموصول معطوف على الريح و من الجن حال منه مقدم عليه تقديره و سخرنا له من يعمل بين يديه من الجن بِإِذْنِ رَبِّهِ اى بامره و حكمه او بإرادته و تسخيره متعلق بيعمل وَ مَنْ يَزِغْ اى من يعدل مِنْهُمْ اى من الجن عَنْ أَمْرِنا اى عما أمرنا به من طاعة سليمان واردنا ذلك نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) قيل المراد به عذاب الاخرة و قيل المراد به الإحراق بالنار فى الدنيا- قلت ان كان المراد بالاذن و الأمر الأمر التكليفي فالمناسب ان يفسر العذاب بالعذاب فى الاخرة لانها هى دار الجزاء على التكليفات و ان كان المراد بالاذن الارادة و التسخير كما هو الظاهر فالظاهر ان المراد به عذاب الدنيا قال البغوي و ذلك ان اللّه عزّ و جلّ و كل بهم ملكا بيده سوط من نار فمن زاغ منه عن امر سليمان ضربه صربة أحرقته- لا يقال ان كان اللّه أراد من الجن العمل فكيف يتصور من الجن العدول عنه لانه يلزم منه تخلف المراد عن الارادة و هو محال لان من فى قوله تعالى وَ مِنَ الْجِنِّ للتبعيض فالمعنى ان اللّه تعالى أراد ان يعمل لسليمان بعض الجن اى أكثرهم و لذلك وكل ملكا يعذب من عدل من امر سليمان و ذلك فى الظاهر سبب لان يعمل لسليمان اكثر الجن- او يقال معنى قوله من يرغ من أراد الزيغ منهم يضربه الملك حتى لا يزيغ. ١٣ يَعْمَلُونَ لَهُ حال من فاعل يعمل او مستأنفة ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ قصورا حصينة و مساجد رفيقه و مساكن شريفة سميت بها لانها يدب عنها و يحارب عليها- قال البغوي فكان مما عملوا له بيت المقدس ابتدأه داود و دفعه قامة رجل فاوحى اللّه اليه انى لم اقض ذلك على يدك و لكن ابن لك أملّكه بعدك اسمه سليمان أقضي تمامه على يده فلمّا توفاه اللّه استخلف سليمان فاحب إتمام بيت المقدس فجمع الجن و الشياطين و قسّم عليهم الأعمال فخصّ كل طائفة منهم بعمل يستصلحها له فارسل الجن و الشياطين فى تحصيل الرخام الأبيض من معادنه- فامر ببناء المدينة بالرخام و الصفاح و جعل اثنى عشر ربضا و انزل بكل ربض منها سبطا من الأسباط و كانوا اثنى عشر سبطا فلما فرغ من بناء المدينة ابتدا فى بناء المسجد و فرق الشياطين فرقا فرقا يستخرجون الذهب و الفضة و الياقوت من معادنها و الدر الصافي من البحر و فرقا يقلعون الجواهر و الحجارة من أماكنها و فرقا يأتونه بالمسك و العنبر و سائر الطيب من أماكنها فاتى بذلك التي لا يحصيها الا اللّه عزّ و جلّ- ثم احضر الصناعين و أمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة و تصييرها ألواحا و إصلاح تلك الجواهر و ثقب اللآلي و اليواقيت- و بنى المسجد بالرخام الأبيض و الأصفر و الأخضر و عمده بأساطين المينا الصافي و سقّفه بألواح الجواهر الثمينة و جصص سقوفه و حيطانه باللئالي و اليواقيت و سائر الجواهر و بسط ارضها بألواح الفيروزج- فلم يكن يومئذ فى الأرض بيت ابهى و أنور من ذلك المسجد كان يضي ء فى الظلة كانه القمر ليلة البدر- فلما فرغ منه جمع اليه أحبار بنى إسرائيل فاعلمهم انه بناه اللّه تعالى و ان كل شي ء فيه خالص للّه و اتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيدا عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لمّا فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سال ربه ثلاثا فاعطاه اثنين و انا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة سال حكما يصادف حكمة فاعطاه إياه و سال ملكا لا ينبغى لاحد من بعده فاعطاه إياه و سال ان لا يأتى هذا البيت أحد يصلى فيه ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته امه و انا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك- رواه البغوي و عن انس بن مالك قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صلوة الرجل فى بيته بصلوة و صلوته فى مسجد القباء بخمس و عشرين صلوة و صلاته فى المسجد الذي يجمع فيه بخمس مائة صلوة و صلاته فى المسجد الأقصى بألف صلوة و صلاته فى مسجدى بخمسين الف صلوة و صلوته فى المسجد الحرام بمائة الف صلوة- رواه ابن ماجة و عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا تشد و الرحال الا الى ثلاثة مساجد المسجد الحرام و المسجد الأقصى و مسجدى هذا- متفق عليه مسئلة هل يجوز تزيين المساجد بالذهب و الفضة و نحوهما قال بعضهم يكره ذلك لان فيه اضاعة المال و قد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما اثر بشييد المساجد رواه ابو داود عن ابن عباس و قال ابن عباس لتذخرفنها كما زخرفت اليهود و النصارى و قال عليه السلام ان من اشراط الساعة ان تزين المساجد الحديث- و قال بعضهم هو قربة لما فيه من تعظيم المسجد و قصة سليمان عليه السلام فى تزيين مسجد بيت المقدس يؤيد هذا القول قال صاحب الهداية و هذا إذا فعل من مال نفسه و اما المتولى فيفعل من مال الوقف ما يرجع الى احكام البناء دون ما يرجع الى النقش حتى لو فعل يضمن و قال ابن همام و لا شك ان الدفع الى الفقير اولى من تزيين المسجد و عند اكثر علمائنا لا بأس بأن ينقش المسجد بالجص و الساج و ماء الذهب و قوله لا بأس يشير الى انه لا يؤجر عليه لكن لا يأثم به كذا فى الهداية قال ابن همام و محل الكراهة التكلف فيه بدقائق النقوش و نحوه خصوصا فى المحراب او التزين مع ترك الصلاة او عدم إعطائه حقه من اللّفظ فيه و الجلوس لحديث الدنيا و رفع الأصوات بدليل اخر الحديث و هو قوله و قلوبهم خاوية من الايمان- قلت حديث النبي صلى اللّه عليه و سلم اولى بالاتباع من قصة سليمان لان شرائع من قبلنا لا يجوز اتباعه الا إذا لم يثبت فى شريعتنا ما يخالفه- و ايضا كان فيما فعل سليمان حكمة و هى ان يشتغل الشياطين عن إضلال الناس فى اعمال شاقة و اللّه اعلم قال البغوي قالوا يعنى اهل الاخبار فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتى غزاه بخت نصر فخرب المدينة و هدمها و نقض المسجد و أخذ ما كان فى سقوفه و حيطانه من الذهب و الفضة و الدر و الياقوت و سائر الجواهر فحمله الى دار مملكته من ارض العراق. و بنى الشياطين لسليمان باليمن حصونا كثيرة عجيبة من الصخرة وَ تَماثِيلَ اى صورا من نحاس و صفر و شبه و زجاج و رخام قيل كانوا يصورون السباع و الطيور و قيل كانوا يتخذون صور الملائكة و الأنبياء و الصالحين فى المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة و كانت مباحة فى شريعتهم قلت و لعل المراد به تماثيل غير ذى الروح لان تماثيل الإنسان كانت تعبد قبل ذلك حيث قال ابراهيم عليه السلام لابيه و قومه ما هذه التّماثيل الّتى أنتم لها عكفون و فى الصحيحين عن ابن عباس قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول كل مصور فى النار يجعل له بكل صورة صوّرها نفسا فيعذبه فى جهنم- قال ابن عباس فان كنت لا بدّ فاعلا فاصنع الشجر و ما لا روح فيه- متفق عليه و هذا الحديث عام فى كل مصور غير مختص بمصورى هذه الامة و هو خبر لا يحتمل النسخ و التبديل و عنه مرفوعا من صور صورة عذّب و كلف ان ينفخ فيها و ليس بنافخ- رواه البخاري و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يخرج عنق من الناس يوم القيامة لها عينان تبصران و أذنان يسمعان و لسان ينطق يقول انى وكلت بثلاثة بكل جبار عنيد و بكل من دعا مع اللّه الها اخر و بالمصورين- رواه الترمذي و عنه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول قال اللّه تعالى و من اظلم ممن ذهب يخلق كخلقى فليخلقوا ذرة و ليخلقوا حبة او شعيرة متفق عليه و سياق هذه الأحاديث يدل على ان حرمة التصوير غير مختص بهذه الامة لا يقال ان عيسى كان يتخذ صورة من الطين قلنا كان ذلك بإذن اللّه كان يخلق من الطّين كهيئة الطّير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللّه و انما المحرم على من يتخذ صورة فلا يستطيع ان ينفخ فيه الروح فيكلف ان ينفخ فيها و هو ليس بنافخ ابدا وَ جِفانٍ جمع جفنة بمعنى القصعة كَالْجَوابِ قرأ ابن كثير كالجوابى بإثبات الياء وصلا و وقفا و أثبتها ورش و ابو عمرو فى الوصل- جمع جابية و هو حوض ضخم كذا فى القاموس مشتق من جبى الخراج يقال للحوض الكبير لما يجي ء فيه الماء فهى من الصفات الغالبة قال البغوي كان يقعد على الجفنة الواحدة الف رجل يأكلون منها وَ قُدُورٍ راسِياتٍ ثابتات لها قوائم لا يحركن عن أماكنها لعظمهن لا ينزلن و لا يعطلن و كان يصعد إليها بالسلاليم و كانت باليمن اعْمَلُوا اى قلنا له و لاتباعه اعملوا جملة مستانفة يا آلَ داوُدَ شُكْراً تنكيره للتقليل فان الشكر الكثير بالنسبة الى نعماء اللّه سبحانه خارج عن طوق البشر بل عن طوق كل مخلوق و هو منصوب على العلّية اى اعملوا بط اعتي لشكر نعمتى او على المصدرية لان العمل بالطاعة شكر او على انه وصف للمصدر اى اعملوا عملا شكرا او على الحال اى حال كونكم شاكرين او على المفعولية اى اعملوا شكرا- قال جعفر بن سليمان سمعت ثابتا يقول كان داود نبى اللّه قد جزّى ساعات الليل و النهار على اهله فلم تكن تأتى ساعة من ساعات الليل و النهار الّا و الإنسان من ال داود قائم يصلى وَ قَلِيلٌ «١» مِنْ عِبادِيَ قرأ حمزة بإسكان الياء و الباقون بفتحها الشَّكُورُ (١٣) اى المتوفر على أداء الشكر بلسانه و جوارحه فى اكثر أوقاته و تقلبه دائما بلا فتور و ذلك بعد فناء القلب و دوام الحضور- و مع ذلك لا يوفى حقه لان توفيقه للشكر نعمة ليستدعى شكرا اخر لا الى نهاية و لذلك قيل الشكور من يرى نفسه عاجزا عن الشكر. (١) عن ابراهيم التميمي قال قال رجل عند عمر اللّهم اجعلنى من القليل فقال ما هذا الدعاء الذي تدعو به قال انى سمعت اللّه يقول و قليل من عبادى الشّكور و ذكر اية اخرى فقال عمر كل أحد افقه من عمر؟؟؟ برد اللّه تربته. ١٤ فَلَمَّا قَضَيْنا اى حكمنا عَلَيْهِ اى على سليمان الْمَوْتَ قال البغوي قال اهل العلم كان سليمان عليه السلام يتحرز فى بيت المقدس السنة و السنتين و الشهر و الشهرين و أقلّ من ذلك و اكثر يدخل فيه طعامه و شرابه فادخل فى المرة التي مات فيها و كان بدؤ ذلك انه كان لا يصبح يوما الا نبتت فى محراب بيت المقدس شجرة فيسئلها ما اسمك فتقول اسمى كذا فيقول لاىّ شي ء أنت فتقول لكذا و كذا فيامر بها فتقطع فان كانت نبتت لغرس غرسها و ان كانت لدوام كتب حتى نبتت الخروبة فقال لها ما أنت قالت الخروبة قال لاىّ شي ء نبتّ قالت لخراب مسجدك فقال سليمان ما كان اللّه ليخرّبه و انا حىّ أنت التي على وجهك هلاكى و خراب بيت المقدس فنزعها و غرسها فى حائط كريم. و قال اللّهم أعم موتى على الجن ليعلم الانس ان الجن لا يعلمون الغيب و كانت الجن تخبر الانس انهم يعلمون من الغيب ما شاء و او يعلمون ما فى الغد ثم دخل المحراب فقام يصلى متكئا على عصاه فمات قائما و كان للمحراب كوى بين يديه و من خلفه و كانت الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها فى حياته و ينظرون اليه يحسبون انه حىّ و لا ينكرون احتباسه عن الخروج الى الناس لطول صلاته فمكثوا يدابون له بعد موته حولا كاملا حتى أكلت الارضة عصا سليمان فخر ميّتا فعلموا بموته قال ابن عباس فشكرت الجن الارضة فهم يأتونها بالماء و الطين فى جوف الخشبة- و اخرج ابن ابى حاتم عن ابن يزيد قال قال سليمان لملك الموت إذا أمرت لى فاعلمنى فاتاه فقال يا سليمان قد أمرت بك قد بقيت سويعة فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب فقام يصلى متكئا على عصاه فقبض روحه و هو متكئ عليها فبقى كذلك حتى أكلها الارضة فخر ثم فتحوا عليه و أرادوا ان يعرفوا وقت موته فوضعوا الارضة على العصا فأكلت يوما و ليلا فحسبوا على ذلك فوجدوه قد مأت منذ سنة ما دَلَّهُمْ اى الجن او اله عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ اى الارضة التي يقال لها بالفارسية ديوك و هى دابة صغيرة تأكل الخشب و المراد بالأرض الثرى أضيف إليها الدابّة و قيل الأرض مصدر ارضت الخشبة بالبناء للمفعول اى اكلتها ارضة فهو من قبيل اضافة الشي ء الى فعله كما فى بقرة الحرث و رجل الحرب تَأْكُلُ حال من دآبة الأرض مِنْسَأَتَهُ اى عصاه من نسأت الغنم اى زجرتها و سقتها و منه نسأ اللّه فى اجله اى أخره قرا نافع و ابو عمر و بألف ساكنة بدل الهمزة و ابن ذكوان بهمزة ساكنة و الباقون بهمزة مفتوحة على الأصل فانه مفعول تأكل و حمزة إذا وقف جعلها بين بين فَلَمَّا خَرَّ اى سقط سليمان على الأرض تَبَيَّنَتِ اى ظهرت الْجِنُّ أَنْ مخففة من الثقيلة اسمه ضمير الشان محذوف لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما غاب عنهم كموت سليمان ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤) اى فى التعب و المشقة مسخرين لسليمان و هو ميت يظنونه حيّا ان مع صلته بدل اشتمال من الجن يعنى ظهر عدم علمهم بالغيب على الناس لانهم كانوا يشبهون ذلك على الانس و يؤيد هذا التأويل قراءة ابن مسعود و ابن عباس تبيّنت الانس اى علمت ان لّو كانوا اى الجن يعلمون الغيب ما لبثوا فى العذاب المهين- و قيل معنى الاية علمت الجنّ ان لّو كانوا يعلمون الغيب إلخ و هذا التأويل مستبعد جدّا فان الجن كانوا يعلمون جهلهم و انما كانوا يدّعون علمهم بالغيب عند الانس. قال البغوي ذكر اهل التاريخ ان سليمان كان عمره ثلاثا و خمسين سنة و مدة ملكه أربعون سنة و ملك و هو ابن ثلاث عشرة سنة و ابتدأ فى بناء بيت المقدس لاربع سنين مضين فى ملكه. اخرج ابن ابى حاتم عن على بن رباح قال حدثنى فلان ان فروة بن مسيك الغطفاني قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال يا بنى اللّه ان سبا قوم كان لهم فى الجاهلية عزو انى أخشى ان يرتدوا عن الإسلام أ فأقاتلهم فقال ما أمرت فيهم بشي ء بعد فنزلت. ١٥ لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ اى دلالة على كمال قدرتنا و وجوب شكرنا قرا البزي ابو عمر و لسبا بفتح الهمزة من غير تنوين لانه صار اسم قبيلة فمنع عن الصرف للتانيث مع العلمية و قنبل بإسكانها على نية الوقف و الباقون بخفضها مع التنوين لانه كان اسم رجل- قرا حفص و حمزة و الكسائي مسكنهم بإسكان السين بغير الف على الافراد غير ان حمزة و حفص يفتحان الكاف على القياس و الكسائي بكسرها حملا على ما شذّ من القياس كالمسجد و المطلع و الباقون بفتح السين و كسر الكاف و الف بينهما على الجمع قال البغوي روى ابو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك الغطيفى قال قال رجل يا رسول اللّه أخبرني عن سبا كان رجلا او امراة او أرضا قال كان رجلا من العرب ولد له عشرة من الولد تيامن منهم ستة و تشاءم منهم اربعة فاما الذين تيامنوا فكندة و الأشعريون و أزد و مذحج و انمار و حمير فقال رجل و ما انمار قال الذين منهم خثعم و بحيلة و اما الذين تشاءموا فعاملة و جذام و لخم و غسان- و كذا اخرج احمد و غيره عن ابن عباس مرفوعا و سبا هو ابن يشجب بن يعرب بن قحطان جَنَّتانِ بدل من اية او خبر محذوف تقديره الاية جنتان و المراد جماعتان من البساطين جماعة عَنْ يَمِينٍ البلد وَ جماعة عن شِمالٍ البلد او يكون بستان لكل رجل عن يمين مسكنه و شماله كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ يعنى من ثمار الجنتين وَ اشْكُرُوا لَهُ على ما رزقكم من النعمة و المعنى اعملوا بالطاعة يعنى قال لهم لبيهم ذلك او لسان الحال يعنى دلّ الحال على انهم كانوا أحقاء ان يقال لهم ذلك بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ استئناف للدلالة على موجب الشكر يعنى بلدكم هذا بلدة طيبة كثيرة الثمر ليست بسبخة قال السدىّ و مقاتل كانت المرأة تحمل على رأسها المكتل و تمرّ بالجنتين فيمتلى المكتل بانواع الفواكه من غير ان تمس شيئا بيدها. و قال ابن زيد لم تكن ترى فى بلدتهم بعوضة و لا ذباب و لا برغوث و لا عقرب و لا حية و كان الرجل يمر ببلدهم و فى ثيابه القبل فيموت القمل كلها من طيب الهواء فذلك قوله تعالى بلدة طيبة اى طيبة الهواء وَ رَبٌّ غَفُورٌ (١٥) قال مقاتل رب غفور للذنوب ان شكرتم فيما رزقكم قال وهب أرسل اللّه الى سبا ثلاثة عشر نبيا دعوهم الى اللّه و ذكّروهم نعمه عليهم و انذرهم عقابه. ١٦ فَأَعْرَضُوا عنهم و كذبوهم و قالوا ما نعرف للّه علينا نعمة قولوا لربكم فليحبس هذه النعمة عنا ان استطاع قال اللّه تعالى فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ اى سيل الأمر العرم اى الصعب من عرم الرجل فهو عارم إذا ساء خلقه و صعب او سيل المطر الشديد قيل كان ماء احمر أرسل اللّه عليهم من حيث شاء و قيل العرم الوادي و أصله من العرامة و هى الشدة و القوة و قيل العرم المسناة و قيل العرم الجراذ الذكر أضاف اليه السيل لانه نقب عليهم سكرا ضربت لهم بلقيس. و فى القاموس عرمة كفرحة سد يعترض به الوادي جمعه عرم أو هو جمع بلا واحد او هو الاحباس تبنى فى الاودية و الجرذ الذكر و المطر الشديد و واد و لكل فسر قوله تعالى سيل العرم. قال البغوي قال ابن عباس و ابن وهب و غيرهما كان ذلك يعنى العرم السد بنته بلقيس و ذلك انهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم فامرت بواديهم فسد بالعرم و هو المسناة بلغة حمير فسدت بين الجبلين بالصخرة و القار و جعلت لها أبوابا ثلاثة بعضها فوق بعض و بنت من دونه بركة ضخيمة و جعلت فيها اثنى عشر مخرجا على عدة أنهارها يفتحونها إذا احتاجوا الى الماء و إذا استغنوا سدوها فاذا جاء المطر اجتمع ماء اودية اليمن فاحتبس السيل من وراء السد فامرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه فى البركة فكانوا يسقون من الباب الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث .......... الأسفل فلا ينفد الماء حتى يثوب من السنة المقبلة فكان يقسم على ذلك فبقوا على ذلك بعد ذلك مدة فلما طغوا و كفروا سلط اللّه عليهم جراذا يسمى الخلد فنقب السدّ من أسفله فغرق الماء جناتهم و خرّب ارضهم- قال وهب و كانوا فيما يزعمون و يجدون فى علمهم و كهانتهم انه يخرّب سدهم فارة فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة فلمّا جاء زمانه و ما أراد اللّه عزّ و جلّ بهم من التغريق أقبلت فيما يذكرون فارة حمراء كبيرة الى هرة من تلك الهرر فساودتها حتى استأخرت منها الهرة فدخلت فى الفرجة التي كانت عندهما فتغلغلت فى السد فثقبت و حفرت حتى أوهنته للسيل و هم لا يدرون بذلك فلمّا جاء السيل وجد خللا فدخل فيه حتى قطع السد و فاض على أموالهم فغرقها و دفن بيوتهم الرمل فغرقوا و تمزّقوا حتى صاروا مثلا عند العرب يقولون صار بنو فلان أيدي سبا و أيادي سبا اى تفرقوا و تبددوا فذلك قوله تعالى فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ. وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ قرأ نافع و ابن كثير بإسكان الكاف و الباقون بضمها و هما لغتان قال فى القاموس الاكل بالضم و بالضمتين الثمر و الرزق قرا الجمهور أكل و يعقوب- ابو محمد و ابو عمرو بالاضافة الى خَمْطٍ فعلى قراءة الجمهور خمط صفة له و معناه حامض او مرّ او عطف بيان او بدل و معناه ثمر الأراك و على قراءة ابي عمر و الخمط كل نبت أخذ طعما مرّا او شجرة الأراك او نحو ذلك فهو لفظ مشترك- قال فى القاموس الخمط الحامض او المرّ من كل شي ء و كل نبت أخذ طعما من مرارة و شجر رائحته كالسدر و شجر قاتل و كل شجر لا شوك له و ثمر الأراك و قيل شجر الأراك و قال البيضاوي التقدير أكل أكل خمط فحذف المضاف و أقيم المضاف اليه مقامه فى كونه بدلا او عطف بيان يعنى على قراءة الجمهور و كون الخمط بمعنى الشجر و قال البغوي الاكل الثمر و الخمط الأراك و ثمره يقال له البرير هذا قول اكثر المفسرين- و قال المبرد كل نبت قد أخذ طعما من المرارة و قال ابن الاعرابى ثمر شجر يقال له فسوة الضبع على صورة الخشخاش يتفرك و لا ينتفع به وَ أَثْلٍ اى الطرفا معطوف على أكل لا على خمط إذ لا ثمر له و قيل هو شجر يشبه بالطرفاء الا انه أعظم وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) وصف السدر بالقلة فان جناه و هو النبق ممّا يطيب أكله و لذلك يغرس فى البساتين- و قال البغوي لم يكن السدر ذلك بل كان سدرا برّيا لا ينتفع به و لا يصلح ورقه لشئ و تسمية البدل جنتين للمشاكلة و التهكم. ١٧ ذلِكَ منصوب المحل على المصدرية يعنى جزيناهم ذلك الجزاء او مرفوع على انه مبتدا ما بعده خبره يعنى ذلك العقاب و التبديل جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا اى بكفرانهم النعمة او بكفرهم الرسل وَ هَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ (١٧) قرا حفص و يعقوب و خلف- ابو محمد و حمزة و الكسائي نجازى بالنون و كسر الزاء على التكلم و البناء للفاعل و الكفور بالنصب على المفعولية و الباقون بالياء التحتانية و فتح الزاء على الغيبة و البناء للمفعول و الكفور بالرفع على انه قائم مقام الفاعل يعنى ما يناقش الا هو و ما نناقش الا إياه .. ١٨ وَ جَعَلْنا عطف على بدلنا يقال كان هذا سابقا على التبديل فكيف ذكر بعده لان الواو لمطلق الجمع دون الترتيب فلا ينافى كونه سابقا عليه بَيْنَهُمْ اى بين اهل سبا وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها بالأنهار و الأشجار و التوسعة على أهلها و هى قرى الشام قُرىً ظاهِرَةً اى متظاهرة تظاهر الثانية من الاولى لقربها منها وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ اى و قدّرنا سيرهم فيها يعنى كانوا يسيرون فيها و إذا ساروا كانوا يبيتون فى قرية و يقيلون فى اخرى و كانوا لا يحتاجون من حمل زاد من سبا الى الشام قيل كانت اربعة آلاف و سبع مائة قرية متصلة من سبا الى الشام قال قتادة كانت المرأة تخرج و معها مغزلها و على رأسها مكتلها فتمتهن بمغزلها فلا تأتى بيتها حتى تمتلى مكتلها من الثمار و كان ما بين اليمن و الشام كذلك سِيرُوا فِيها على ارادة القول يعنى قلنا بلسان المقال أو الحال فانهم لما مكنوا من السير كذلك كانوا كانهم أمروا به لَيالِيَ وَ أَيَّاماً يعنى متى شئتم ليلا او نهارا آمِنِينَ (١٨) اى حال كونكم لا تخافون عدوّا و لا سبعا و لا جوعا و لا عطفا فبطروا و طغوا و لم يشكروا و قالوا لو كان بين جناتنا ابعد مما هى لكان أجدر ان تشتهيه. ١٩ فَقالُوا عطف على جعلنا يا رَبَّنا باعِدْ قرأ ابن كثير و ابو عمرو و هشام بعّد بتشديد العين من التفعيل و الباقون بالألف من المفاعلة بَيْنَ أَسْفارِنا اى اجعل بيننا و بين الشام فلوات و مفاوزات لنركب فيها الرواحل و نتزود الأزواد و نربح فى التجارات و نتفاخر على الناس فعجل اللّه لهم الاجابة قرا يعقوب ربّنا بالرفع على الابتداء و بعد بفتح العين و الدال على صيغة الماضي كانهم استبعدوا أسفارهم القريبة أشرا و بطرا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالبطر و الطغيان عطف على قالوا فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يتحدث الناس بهم تعجبا و ضرب مثل فيقولون تفرقوا أيدي سبا وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ فرقناهم فى كل وجه من البلاد كل تفريق قال الشعبي لمّا غرقت قراهم تفرقوا فى البلاد اما غسان فلحقوا بالشام و مرّ الأزد الى عمان و خزاعة الى تهامة و مرّ ال خزيمة الى العراق و الأوس و الخزرج الى يثرب و هم ال أنمار و كان الذي قدم منهم المدينة عمرو بن عامر و هو جد الأوس و الخزرج إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر لَآياتٍ لعبر و دلالات لِكُلِّ صَبَّارٍ عن المعاصي و على البلاء و الطاعة شَكُورٍ (١٩) على النعم قال مقاتل يعنى مؤمنى هذه الامة صبور على البلاء شكور للنعماء و كذا قال مطرف قلت بل هو صبور و شكور دائما فان الدنيا دار البلاء حتى ان النعمة ايضا بلاء يبتلى به العبد هل يشكر عليه أم لا موته بلاء و حياته بلاء قال اللّه تعالى خلق الموت و الحيوة ليبلوكم ايّكم احسن عملا فهو صبور دائما عن المعاصي و على المصائب و الطاعات و كل بلاء و مصيبة مكفرة للذنوب فهى كما يوجب الصبر يوجب الشكر ثم توفيق الصبر ايضا نعمة من اللّه يوجب الشكر و قال المجدد رضى اللّه عنه إيلام المحبوب ألذ من انعامه فهو اولى بالشكر قال الشاعر فانى فى الوصال عبيد نفسى و فى الهجران مولى للموالى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الايمان نصفان فنصف فى الصبر و نصف فى الشكر رواه البيهقي فى شعب الايمان قلت فالمؤمن تامّ الايمان جامع للنصفين دائما غير مقتصر على النصف دون النصف-. ٢٠ وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ اى على الناس كلهم كذا قال مجاهد و قيل المراد على اهل سبا اى على الكفار منهم إِبْلِيسُ ظَنَّهُ قرأ اهل الكوفة سدّق بالتشديد يعنى ظنّ فيهم ظنّا حيث قال فبعزّتك لاغوينّهم أجمعين. و لا تجد أكثرهم شكرين فصدّق ظنه و حققه بفعله ذلك بهم و اتّباعهم إياه او وجده صادقا و قرا الآخرون بالتخفيف اى صدق فى ظنه او صدق بظن ظنه مثل فعلته جدك و يجوز ان يعدى الفعل اليه بنفسه كما فى صدق وعده لانه نوع من القول قال ابن قتيبة لما سأل إبليس النظرة فانظره اللّه فقال لاضلّنّهم و لاغوينّهم و لم يكن مستقينا وقت هذه المقالة ان ما قاله فيهم يتم و انما قاله ظنّا فلما اتبعوه و أطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) اى من اهل سبا او من الناس كلهم قال السدىّ عن ابن عباس يعنى ان المؤمنين كلهم لم يتبعوه فى اصل الدين قال اللّه تعالى انّ عبادى ليس لك عليهم سلطان يعنى المؤمنين فمن للبيان و قيل من للتبعيض يعنى بعض المؤمنين الذين يطيعون اللّه و لا يعصونه. ٢١ وَ ما كانَ لَهُ اى لابليس عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ اسم كان و من زائدة و الظرف المستقر اعنى له خبره و عليهم متعلق بالظرف يعنى لم يكن له قدرة على ان يوسوسهم و يعدهم و يمنّيهم الا بتسليطنا إياه عليهم حيث قلنا و استفزز من استطعت منهم بصوتك و اجلب عليهم بخيلك و رجلك و شاركهم فى الأموال و الأولاد و عدهم لشي ء إِلَّا لِنَعْلَمَ اى لتميز مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ فنجازى كلّا منها على حسب ما عمل قال الحسن ان إبليس لم يسل عليهم سيفا و لا ضربهم بسوط و انما وعدهم و منّاهم فاغتروا- فان قيل هذه الاية تدل على كون علمه تعالى حادثا و هو يقتضى الجهل سابقا تعالى اللّه عن ذلك أجيب بان علمه تعالى قديم لكن تعلق العلم بالمعلوم حادث و المراد هاهنا بحصول العلم حصول متعلقه مبالغة و يرد عليه ان العلم ما لم يتعلق بالمعلوم لا ينكشف المعلوم عند العالم فان العلم قبل التعلق بالمعلوم انما هو العلم بالقوة لا بالفعل فكون تعلق العلم حادثا يقتضى سبق الجهل فبقى المحذور فاجيب بان علمه تعالى قبل وجود الحادث كان متعلقا به كاشفا عنده تعالى كونه موجودا و هذا لا يقتضى سبق الجهل بل سبق علمه تعالى بكونه معدوما كما هو فى الواقع فلا محذور و معنى الاية ليتعلق علمنا بذلك موجودا كما تعلق به معدوما لكن يلزم حينئذ كونه تعالى محلّا للتغير فالاولى ان يقال ان الزمان بجميع اجزائه و ما فيها حاضر عند اللّه سبحانه متعلق علمه تعالى بها قديما سرمدا و انما التعاقب فيها بنسبة بعضها الى بعض فزيد الذي هو موجود فى وقت و معدوم فى وقت حاضر عند اللّه بكلا الحالتين كما ان كونه فى مكان دون مكان حاضر عنده بلا تغير فى ذاته تعالى فمعنى الاية لنعلم قديما سرمدا من يؤمن ممن هو فى شك و هذا لا يقتضى مسبوقية علمه تعالى كيف و ان السابقية و المسبوقية انما يتصور فيما يجرى عليه الزمان كما ان الفوقية و التحتية لا يتصور الا فيما يحويه المكان و من هو خالق للزمان و المكان منزه عنها كلها- لكن هذه الاية تدل على ان العلم تابع للمعلوم و كون المعلوم حادثا لا يقتضى كون العلم به حادثا فان المعلوم محفوف بالزمان و العلم محيط به شتان ما بينهما قال اللّه تعالى وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من الزمان و الزمانيات و من المؤمن و الكافر حَفِيظٌ (٢١) رقيب محافظ غير غافل عن شى ء فيجازى كلّا على حسب عمله-. ٢٢ قُلِ يا محمد لكفار مكة ادْعُوا ايّها الكفار الَّذِينَ زَعَمْتُمْ اى زعمتموهم الهة هما مفعولان لزعمتم حذف الاول لطول الموصول بصلته و الثاني لقيام صفته مقامه اعنى مِنْ دُونِ اللّه و لا يجوز ان يكون هذا مفعوله الثاني لانه لا يحصل به كلاما مفيدا و لا يملكون لانهم لا يزعمونه و المعنى ادعوهم فيما يهمكم من جلب نفع او دفع ضر يستجيبون لكم ان صح دعواكم كانّ هذا الكلام يدل على الشرطية من القياس الاستثنائى تقديره ان صح دعواكم بانهم الهة من دون اللّه يستجيبون لكم إذا دعوتموهم لكنهم لا يَمْلِكُونَ فهذا جملة مستأنفة يدل على الاستثناء مِثْقالَ ذَرَّةٍ من خيرا و شركائه فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ فلا يستجيبون لكم فلا يصح دعواكم و ذكرهما للعموم العرفي او لان الهتهم بعضها سماوية كالملائكة و الكواكب و بعضها ارضية كالاصنام او لان الأسباب الظاهرية للشر و الخير سماوية و ارضية وَ ما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ اى شركة و من زائدة و الجملة معطوفة على لا يملكون وَ ما لَهُ اى للّه تعالى مِنْهُمْ اى من شركائكم مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) يعينه على خلقها و تدبيرها-. ٢٣ وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ لاحد إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ان يشفع او اذن ان يشفع له و اللام على الاول كما فى قولك الكرم له و على الثاني كما فى قولك جئتك لزيد قرا ابو عمرو و حمزة و الكسائي اذن بضم الهمزة على صيغة المجهول و الباقون بفتحها على صيغة المعروف و هذا ردّ لما قالت الكفار على سبيل التنزل انه سلمنا ان الملائكة و الأصنام لا يملكون شيئا و ليسوا شركاء اللّه لكنهم يشفعون لنا عند اللّه فقال اللّه تعالى لا تنفع شفاعة أحد لاحد الّا لمن اذن له و الأصنام ليسوا أهلا لان يؤذن الشفاعة لانحطاط رتبتها عنها و الكفار لا يستحقون لان يؤذن لاحد فى شفاعتهم لطغيانهم و كفرهم و لا يؤذن للانبياء و الملائكة الا لشفاعة المؤمنين- حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قرأ ابن عامر و يعقوب فزّع بفتح الفاء و الزاء على البناء للفاعل و الضمير المستكن عائد الى اللّه و الباقون بضم الفاء و كسر الزاء على البناء للمفعول و الجار مع المجرور قائم مقام الفاعل و التفزيع ازالة الفزع كالتمريض ازالة المرض و الضمير فى قلوبهم راجع الى الشافعين و المشفوع لهم المفهومين مما سبق و حتى غاية للجملة المقدرة المفهومة مما سبق اعنى قوله تعالى لا تنفع الشّفاعة عنده الّا لمن اذن له فانه يفهم منه ان الشفعاء و المشفوع لهم ينتظرون الاذن للشفاعة فزعين خائفين احتمال عدم الاذن او فزعين من غشية تصيبهم عند سماع كلام اللّه عز و جل هيبة و جلالا حين يأذن لهم فى الشفاعة قلت و كذلك يأخذهم الغشية كلما قضى اللّه امرا روى البخاري عن ابى هريرة ان نبى اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال إذا قضى اللّه الأمر فى السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كانه سلسلة على صفوان فاذا فزّع عن قلوبهم قالوا ما ذا قال ربّكم قالوا الحقّ و هو العلىّ الكبير فسمعها مسترقوا السمع و مسترقوا السمع هكذا بعضهم فوق بعض (و وصف سفيان بكفه فحرفها و بدر بين أصابعه) فيسمع الكلمة فيلقيها الى من تحته ثم يلقيها الاخر الى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر او الكاهن فربما أدرك الشهاب قبل ان يلقيها و ربما القاها قبل ان يدركه فيكذب معه مأته كذبة فيقال أ ليس قد قال لنا يوم كذا و كذا كذا و كذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء و روى مسلم عن ابن عباس عن رجل من الأنصار انه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى حديث ربّنا تبارك اسمه إذا قضى امرا سبح حملة العرش ثم سبح اهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح اهل هذا السماء الدنيا ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ماذا قال ربّكم فيخبرونهم ما قال فليستخبر بعض اهل السماوات بعضا حتى يبلغ هذه السماء الدنيا فيخطف الجن السمع فيقذفون الى أوليائهم فيرمون فما جاءوا به على وجهه فهو حق لكنّهم يقذفون و يزيدون- و روى البغوي عن النواس بن سمعان رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا أراد اللّه ان يوحى بالأمر تكلم بالوحى أخذت السماوات منه رجفة او قال رعدة شديدة خوفا من اللّه فاذا سمع ذلك اهل السماوات صعقوا و خروا للّه سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبرئيل فيكلم اللّه وحيه بما أراد ثم يمر جبرئيل على الملائكة كلما مرّ بسماء ساله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبرئيل فيقول جبرئيل قال الحقّ و هو العلىّ الكبير قال فيقولون كلهم مثل ما قال جبرئيل فينتهى جبرئيل بالوحى حيث امر اللّه. و الظرف يعنى إذا فزّع عن قلوبهم متعلق بقوله قالُوا يعنى قال بعضهم لبعض حين ينكشف عنهم الفزع اللاحق بهم بالاذن فى الشفاعة ما ذا قالَ رَبُّكُمْ فى الشفاعة قالُوا اى بعضهم لبعض الْحَقَّ مقول لقال المقدر يعنى قال ربنا الحقّ و هو الاذن فى الشفاعة التي هو الحق يعنى لمن هو أهلها و هم المؤمنون وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٢) اى ذو العلو و الكبرياء لا يستطيع ملك مقرب و لا نبى مرسل ان يتكلم فيه الا باذنه. قال البغوي قال بعضهم انما يفزعون حذرا من قيام الساعة قال مقاتل و الكلبي و السدى كانت الفترة بين عيسى و محمد صلى اللّه عليه و سلم خمس مائة و خمسين سنة و قيل ست مائة سنة لم يسمع الملائكة فيها وحيا فلمّا بعث محمد صلى اللّه عليه و سلم بالرسالة و سمع الملائكة ظنوا انها الساعة لان محمدا صلى اللّه عليه و سلم عند اهل السماوات من اشراط الساعة فصعقوا ممّا سمعوا خوفا من قيام الساعة فلما انحدر جبرئيل يعنى فى بدء الوحى جعل يمر باهل كل سماء فيكشف عنهم فيرتفعون رءوسهم و يقول بعضهم لبعض ما ذا قال ربّكم قالوا الحقّ يعنون الوحى و هو العلىّ الكبير فان قيل على ما قال مقاتل و أمثاله كيف يرتبط قوله تعالى حتّى إذا فزّع عن قلوبهم بما سبق من الكلام قلت لعل وجه ارتباطه انه متصل بقوله تعالى و يرى الّذين أوتوا العلم الّذى انزل إليك من ربّك هو الحقّ و يهدى الى صراط العزيز «١» الحميد و المراد بالذين أوتوا العلم الملائكة و ما بينهما اعتراض و المعنى و يرى الملائكة ما انزل إليك من ربك من القران هو الحق و لذلك افزعوا عند نزوله خوفا من قيام الساعة حيث كان نزوله عندهم من اشراط الساعة حتّى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربّكم قالوا الحقّ و هو العلىّ الكبير- (١) و فى الأصل الى صراط مستقيم. و قال جماعة الموصوفون بذلك المشركون قال الحسن و ابن زيد حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت بهم اقامة للحجة عليهم قالت لهم الملائكة ماذا قال ربّكم على لسان رسله فى الدنيا قالوا الحقّ فاقرّوا حين لا ينفعهم الإقرار قلت و على هذا التأويل هذه الاية مرتبطة بقوله تعالى هو منها فى شكّ يعنى هم فى شك الى الموت حتّى إذا فزّع عن قلوبهم بعد الموت أقروا حين لا ينفعهم الإقرار-. ٢٤ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ المطر مِنَ السَّماواتِ وَ النبات من الْأَرْضِ استفهام تقرير اى حمل المخاطب على الإقرار بان اللّه يرزق لا غير و فيه تأكيد لقوله لا يملكون و هذه الجملة متصلة بقوله قل ادعوا قُلِ اللّه فاعل لفعل محذوف اى يرزقكم اللّه إذ لا جواب سواه و فيه اشعار بانهم ان سكتوا و توقفوا فى الجواب مخافة الإلزام فهم مقرّون بقلوبهم ذلك وَ إِنَّا اى الموحدين أَوْ إِيَّاكُمْ اى المشركين باللّه لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٤) إذ التّوحيد نفى الاشتراك فهو نقيضه و الضلال نفى البداية فهو نقيضه و ارتفاع النقيضين و كذا اجتماعهما محال فهذه قضية منفصلة حقيقية عنادية و المفهوم مما سبق ان اللّه يرزق لا غير و هو يستلزم ان الموحد على هدى و المشرك فى ضلال مبين فانعقد القياس الاستثنائى بان الموحدين اما على الهدى او فى ضلال مبين لعدم الواسطة لكنهم على الهدى إذ لا يرزق الا اللّه فليسوا فى ضلال او لكنهم ليسوا على ضلال فهم على الهدى او يقال المشركون اما على الهدى او فى ضلال مبين لعدم الواسطة لكنهم ليسوا على هدى فهم فى ضلال او لكنهم فى ضلال او لا يرزق الا اللّه فليسوا على هدى فليس هذا الكلام مبنيا على الشك بل على حصر الاحتمالات و ابطال احدى النقيضين لاثبات الاخر او اثبات أحدهما لابطال الاخر كما هو دأب المناظرة و خولف بين حرفى الجر الداخلين على الهدى و الضلال لان صاحب المهدى كأنّه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء و صاحب الضلال كانه منغمس فى ظلام لا يدرى اين يتوجه .. ٢٥ قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَ لا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) يعنى ما أمركم به من التوحيد و ترك الإشراك انما هو نصيحة لكم و الا فلا مضرة لاحد بعمل غيره ففى هذا الكلام حث و ترغيب على ما امر به من التوحيد و فى اسناد الاجرام الى نفسه و العمل الى المخاطب رعاية لحسن الأدب و اظهار النصح دون التعصب و التعنت. ٢٦ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا اى بينى و بينكم رَبُّنا يوم القيامة ثُمَّ يَفْتَحُ اى يحكم و يفصل بَيْنَنا بِالْحَقِّ اى بما يستحقه كل منابان يدخل المحق الجنة و المبطل النار وَ هُوَ الْفَتَّاحُ اى الحاكم الفاصل فى القضايا المغلقة الْعَلِيمُ (٢٦) بما ينبغى ان يقضى به فى الاية السابقة الزام للكفار على سبيل المناظرة و فيما بعدها على سبيل النصيحة و فى هذه الاية على طريقة التوبيخ بذكر حكم اللّه فيهم يوم القيامة .. ٢٧ قُلْ أَرُونِيَ اى أعلموني الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ الموصول مع صلته مفعول ثان لارونى و شركاء مفعوله الثالث يعنى الذين ألحقتموهم باللّه فى استحقاق العبادة أعلموني كونهم شركاء يعنى باىّ صفة جعلتموهم شركاء هل يخلقون شيئا او يرزقون او ينفعون أحدا او يضرون يعنى لا سبيل الى القول بانهم شركاء اللّه. فى هذه الاية استفسار عن شبهتهم بعد الزام الحجة عليهم و اقامة البرهان زيادة فى تبكيتهم كَلَّا ردع لهم عن الإلحاق بعد ظهور عدم المشاركة فى شى ء من الصفات بَلْ هُوَ يعنى المستحق للعبادة ليس الا اللّه الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) صاحب العزة القاهرة و الحكمة البالغة لا شريك له شى ء فى شى ء من الصفات فكيف تلحقون به الجمادات النازلة فى ادنى مراتب الممكنات المتسمة بالزلة الآبية عن قبول العلم و القدرة رأسا فالضمير عائد الى المستحق للعبادة و اللّه خبره و الحصر مستفاد من هذا التركيب و العزيز و الحكيم صفتان للّه او خبران آخران و جاز ان يكون هو للشأن و اللّه مبتدا و العزيز و الحكيم صفتان له و الخبر محذوف اى متوحد لاستحقاق العبادة .. ٢٨ وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً صفة لمصدر محذوف اى الا ارسالة كافة يعنى عامة شاملة لِلنَّاسِ فانها إذا عمتهم و قد كفتهم ان يخرجوا منها أحد منهم فعلى هذا قوله للناس متعلق بكافة و جاز ان يكون كافة حال من كاف الخطاب و التاء للمبالغة يعنى يعنى و ما أرسلناك الا جامعا لهم فى الإبلاغ عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلى نصرت بالرعب مسيرة شهر و جعلت لى الأرض كلها مسجد او طهورا فايّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل و احلّت لى الغنائم و لم يحل لاحد قبلى و أعطيت الشفاعة و كان النبي يبعث الى قومه خاصة و بعثت الى النّاس عامة متفق عليه و عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم و نصرت بالرعب و أحلت لى الغنائم و جعلت لى الأرض مسجدا و طهورا و أرسلت الى الخلق كافّة و ختم بي النبيون- و جاز ان يكون المعنى أرسلناك كافة اى كافّا تكفهم عن الكفر فى الدنيا و عن الوقوع فى النار فى الاخرة عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مثلى كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش و هذه الدواب التي يقعن فيها و جعل يحجزهن و يغلبنه فيقتحمن فيها فانا أخذ بحجزكم عن النار و أنتم تقتحمون فيها- متفق عليه و اللفظ للبخارى و قيل للناس متعلق بأرسلناك و كافة حال من الناس قدّم عليه للاهتمام يعنى أرسلناك لاجل ارشاد الناس كافة عامة أحمرهم و أسودهم و اكثر النحويين لا يجوّزون ذلك لان ما فى حيز المجرور لا يتقدم على الجار. و جملة ما أرسلناك حال من فاعل قل أروني غير ذلك على سبيل التنازع يعنى قل هذه المقالات لالزام الكفار و إرشادهم و الى كونك مرسلا إليهم كافتهم او كافا إياهم بَشِيراً للمؤمنين بالجنة وَ نَذِيراً للكافرين من النار حالان من كاف الخطاب مترادفان لكافة على تقدير كونه حالان داخلان تحت الاستثناء بحرف واحد على طريقة ما ضربتك الا ضربا شديدا قائما و ما حسبك الا راكبا مسرعا و جاز ان يكونان حالان من الضمير فى كافة على تقدير كونه حالا من الكاف وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ و هم الكفار لا يَعْلَمُونَ (٢٨) اى لا يعتقدون ذلك بل يحملون إرشادك إياهم على العناد و المخالفة. ٢٩ وَ يَقُولُونَ اى الكفار لفرط جهلهم استهزاء و استبعادا مَتى هذَا الْوَعْدُ اى المبشر به و المنذر عنه او متى هذا الموعود لقولك يجمع بيننا ربّنا ثمّ يفتح بيننا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) يخاطبون به الرسول صلى اللّه عليه و سلم للمؤمنين و الجزاء محذوف دلّ عليه ما قبله يعنى ان كنتم صدقين فى الوعد فانبؤنى عن وقته. ٣٠ قُلْ لهم فى الجواب لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ اى وعد يوم او زمان وعد و الاضافة الى اليوم حينئذ للتبين لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَ لا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠) عليه و المراد بذلك اليوم يوم القيامة و قال الضحاك يعنى الموت لا تتقدمون و لا تتاخرون بان يزاد فى اجالكم او ينقص و لهذا جواب تهديد مطابق لما قصدوه بسوالهم من الاستهزاء و الإنكار-. ٣١ وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَ لا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ اى بما تقدمه و هو التورية و الإنجيل قالوا ذلك حين سالوا اهل الكتاب عن الرسول صلى اللّه عليه و سلم فاخبروهم انا نجد نعته فى كتبنا فغضبوا و قالوا ذلك و جاز ان يكون المراد بالّذى بين يديه محمد صلى اللّه عليه و سلم و قيل المراد بالّذى بين يديه القيامة و الجنة و النار و هذه الجملة معطوفة على و يقولون متى هذا الوعد وَ لَوْ تَرى الخطاب لمحمد صلى اللّه عليه و سلم او لكل مخاطب و المفعول محذوف يعنى و لو ترى الظالمين إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ محب وسون عِنْدَ رَبِّهِمْ للحساب الظرف متعلق بتري و جاز ان يكون الظرف مفعولا لترى و المعنى و لو ترى موضع محاسبتهم يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يعنى يتراجعون بينهم القول و يتجاورون و الجملة حال من الضمير فى موقوفون او خبر بعد خبر للظالمون يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا اى الاتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا اى الرؤساء لَوْ لا أَنْتُمْ يعنى لو لا صدكم إيانا عن الايمان باللّه و برسوله و دعاؤكم إيانا الى الكفر لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) بالنبي فانتم اوقعتمونا فى العذاب و. ٣٢ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فى جوابهم أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ استفهام انكار يعنى نحن لم نصدكم عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ الهدى بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) اثبتهم انهم هم الذين صدوا أنفسهم حيث اثروا التقليد و متابعة الكفار بلا دليل و تركوا متابعة الرسول المؤيد بالمعجزات و لذلك أورد همزة الاستفهام على الاسم. ٣٣ وَ قالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لم نصد أنفسنا بَلْ صدنا عن الهدى مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ اى مكركم إيانا فى الليل و النهار و إضافة المكر الى الظرف للاتساع و قيل عنوا بمكر الليل و النهار طول السلامة و طول الأمل فهما صدنا إِذْ تَأْمُرُونَنا الظرف بدل من الليل و النهار أَنْ نَكْفُرَ بِاللّه وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً ان مفسرة للامر او مصدرية بتقدير الباء وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ اى أضمر الفريقان الندامة على الضلال و الإضلال و أخفاها كل عن صاحبه مخافة التعيير او المعنى أظهروها و الهمزة يصلح للاثبات و السلب كما فى أشكيته وَ جَعَلْنَا عطف على راوا العذاب الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا فى النار أورد المظهر موضع الضمير تنويها للذم و اشعارا بموجب الاغلال هَلْ يُجْزَوْنَ اى لا يجزون جزاء إِلَّا جزاء ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣) فى الدنيا تعدية يجزى اما لتضمين فعل متعد نحو تؤتون او لنزع الخافض. اخرج ابن المنذر و ابن ابى حاتم من طريق سفيان عن عاصم عن ابى رزين قال كان رجلان شريكين خرج أحدهما الى الشام و بقي الاخر فلمّا بعث النبي صلى اللّه عليه و سلم كتب الى صاحبه فكتب صاحبه يسئله ما عمل فكتب اليه انه لم يتبعه من قريش أحد الا رذالة الناس و مساكينهم فترك تجارته ثم اتى صاحبه فقال دلنى عليه و كان يقرأ بعض الكتب- فاتى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال الى ما تدعو فقال الى كذا و كذا فقال اشهد انك رسول اللّه فقال و ما علمك بذلك قال انه لم يبعث نبى الا اتبعه رذالة الناس و مساكينهم فنزلت. ٣٤ وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ الاية فارسل اليه النبي صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه قد انزل تصديق ما قلت من زائدة و نذير فى محل النصب على المفعولية إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها حال بتقدير قد من نذير يعنى الّا و قد قال مترفوا تلك القرية اى متنعميها خص المتنعمين بالتكذيب لان الداعي الى التكذيب و الإنكار غالبا التكبر و المفاخرة بزخارف الدنيا و الانهماك فى الشهوات و الاستهانة بالفقراء و لذلك ضموا التهكم و المفاخرة الى التكذيب فقالوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) مقابلة الجمع بالجمع. ٣٥ وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً منكم فنحن اولى منكم ما تدعون ان أمكن لانا أحباء اللّه حيث أعطانا ذلك وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) اما لان العذاب لا يكون او لان اللّه أكرمنا فلا يهيننا. ٣٦ قُلْ يا محمد ردّا لحسبانهم إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ فى الدّنيا لِمَنْ يَشاءُ امتحانا وَ يَقْدِرُ اى يضيق الرزق لمن يشاء ابتلاء و ليس القبض و البسط فى الدنيا مبنيا على التوهين و التكريم لان الدنيا دار الابتلاء لا دار الجزاء و لذلك يختلف فيها احوال الاشخاص المتماثلة فى الخصائص و الصفات وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ اى الكفار لا يَعْلَمُونَ (٣٦) فيظنون ان كثرة الأموال و الأولاد للكرامة-. ٣٧ وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي اى متلبسة بالخصلة التي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى قال الأخفش زلفى اسم مصدر كأنّه قال يقربكم عندنا تقريبا و جاز ان يكون الباء زائدة و التي محمولا على أموالكم بارادة جماعة أموالكم إِلَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً الاستثناء منقطع يعنى لكن من أمن و عمل صالحا فايمانه و عمله يقربه عنى كذا قال ابن عباس و جاز ان يكون الاستثناء متصلا من مفعول يقربكم يعنى ان الأموال و الأولاد لا يقرب الى اللّه أحدا الّا المؤمن الصالح الذي ينفق ماله فى سبيل اللّه و يعلّم ولده الخير و يربّيه على الصلاح- او من أموالكم و أولادكم على حذف المضاف يعنى الا اموال من أمن و أولاده فانها تقربه فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا قرء يعقوب جزاء منصوبا منونا على التميز او على انه مصدر لفعله الذي دل عليه و الضّعف مرفوعا على انه مبتدا و لهم خبره و الجملة خبر أولئك تقديره فاولئك لهم الضّعف يجزون جزاء و عن يعقوب رفعهما على ان الجزاء مبتدا و الضعف بدل منه و لهم خبره و قرا الجمهور جزاء بالرفع على انه مبتدا و الضعف بالجر على انه مضاف اليه اضافة المصدر الى المفعول و المراد ان اللّه يضعف جزاء حسناتهم فيجزون بالحسنة الواحدة عشرا الى سبعمائة الى ما لا نهاية له وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) قرا حمزة الغرفة على ارادة الجنس و الباقون على الجمع و الغرف رفع الشي ء و هى المنازل الرفيعة من الجنة و قد ذكرنا ما ورد فى الغرفات من الأحاديث فى تفسير سورة الفرقان فى تفسير قوله تعالى أولئك يجزون الغرفة بما صبروا. ٣٨ وَ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا اى فى ابطال آياتنا مُعاجِزِينَ مقدرين عجزنا او ظانّين انهم يفوتوننا أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨). ٣٩ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ يعنى يوسع عليه تارة و يضيق عليه اخرى فهذا فى شخص واحد باعتبار وقتين و ما سبق فى شخصين فلا تكرار و قال صاحب البحر المواج الاولى لرد فخرهم بالعباد و هذا لرد بخلهم حيث قال وَ ما أَنْفَقْتُمْ فى سبيل اللّه ما شرطية فى محل النصب و قوله مِنْ شَيْ ءٍ بيانه و جواب الشرط فَهُوَ الرب يُخْلِفُهُ اى يعطيه ما يخلفه اما بعجلة فى الدنيا و اما بدخوله للاخرة فما لكم لا تنفقون أموالكم فى سبيل اللّه و تبخلون بها و تقديم المسند اليه على المسند الفعلى للتخصيص و التأكيد وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) فان غيره وسط فى إيصال رزقه و اطلاق الرازق على غيره انما هو بالمجاز و الرازق الحقيقي ليس الا اللّه فان قلت يلزم حينئذ الجمع بين الحقيقة و المجاز فى قوله الرّازقين قلنا المراد هاهنا عموم المجاز .. ٤٠ وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ اى الكفار جَمِيعاً المستكبرين و المستضعفين ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ عطف على يحشر قرا يعقوب و ابو جعفر و حفص يحشرهم و يقول بالياء و الباقون بالنون فيهما أَ هؤُلاءِ الكفار الذين كانوا يعبدون الملائكة و يقولون هم بنات اللّه إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) فى الدنيا يقول ذلك تبكيتا للمشركين و تقريعا لهم و إقناطا لهم من الشفاعة و تخصيص الملائكة لانهم اشرف لشركائهم و الصالحون للخطاب منهم و لان عبادتهم مبدأ الشرك و أصله و الظرف متعلق بقوله. ٤١ قالُوا سُبْحانَكَ اى نلزهك تنزيها عن الشريك أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ يعنى أنت الذي خص موالاتنا به دونهم يعنى لا موالاة بيننا و بينهم كانّهم بينوا بذلك براءتهم عن الرضاء بعبادتهم بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ اى الشياطين الذين زيّنوا لهم عبادة الملائكة و قيل كانت الشياطين يتمثلون لهم و يخيلون إليهم انهم الملائكة فيعبدونهم أَكْثَرُهُمْ يعنى اكثر الناس و هم المشركون او المراد بالأكثر الكل و الضمير للمشركين بِهِمْ اى بالجن مُؤْمِنُونَ (٤١). ٤٢ فَالْيَوْمَ اى فذلك اليوم لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا يعنى لا يملك بعض الخلائق من الجن و الانس و الملائكة لبعضهم نفعا اثابة او شفاعة و لا تعذيبا إذ الأمر كله للّه وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بوضع العبادة فى غير موضعه ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) فى الدنيا عطف على لا يملك .. ٤٣ وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ اى على اهل مكة آياتُنا من القران بَيِّناتٍ واضحات على لسان محمّد صلى اللّه عليه و سلم قالُوا ما هذا يعنون محمدا صلى اللّه عليه و سلم إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَ قالُوا ما هذا يعنون القرآن إِلَّا إِفْكٌ اى خير غير مطابق للمواقع مُفْتَرىً يعنون انه افترى محمد على اللّه انه كلامه وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ يعنى امر النبوة او الإسلام أو القرآن لَمَّا جاءَهُمْ يعنى بمجرد مجيئه عندهم من غير تدبر و تفكر إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) اى ظاهر سحريته فالاول باعتبار معناه و هذا باعتبار لفظه او اعجازه و فى تكرير الفعلى و التصريح بذكر الكفرة و ما فى اللام من الاشارة الى القائلين و المقول فيه انكار عظيم له و تعجيب بليغ منه. ٤٤ وَ ما آتَيْناهُمْ يعنى كفار مكة مِنْ كُتُبٍ فيها دليل على صحة الإشراك هذه الجملة مع ما عطف عليه حال من فاعل قال الّذين كفروا يَدْرُسُونَها وَ ما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) يدعوهم اليه و ينذرهم على تركه فمن اين يدّعون بالشرك و يحكمون على القرآن بالإفك و السحر و على النبي بالكذب- و فيه تجهيل لهم و تسفيه لرأيهم ثم هددهم فقال. ٤٥ وَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم رسلنا و هم عاد و ثمود و قوم ابراهيم و قوم لوط و اصحاب مدين و اصحاب الايكة هذا ايضا حال بتقدير قد او معطوف على قال الّذين كفروا وَ ما بَلَغُوا يعنى هؤلاء الكفار اى كفار مكة مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ اى عشر ما أعطينا الأمم الخالية من العدة و النعمة و طول العمر فَكَذَّبُوا رُسُلِي فحين كذبوا رسلى جاءهم نكيرى حيث دمّرناهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ لهم اى كيف كان إنكاري عليهم بالعقوبة و الإهلاك يعنى هو واقع موقعه استفهام توبيخ فليحذر هؤلاء من مثله و لا تكرير فى كذّب لان الاول للتكثير و الثاني للتكذيب او الاول مطلق غير مقيد بالمفعول فانه نزل منزلة اللازم و الثاني مقيد تفصيل بعد الإجمال و لذلك عطف عليه بالفاء و قال صاحب البحر المواج ضمير فكذبوا رسلى عائد الى كفار مكة عطف على ما بلغوا فلا تكرار- قرا ورش نكيرى بإثبات الياء وصلا لا وقفا و الجمهور بحذفها فى الحالين-. ٤٦ قُلْ يا محمد إِنَّما أَعِظُكُمْ اى أرشدكم و انصح لكم بِواحِدَةٍ اى بخصلة واحدة و هى ما دل عليه قوله أَنْ تَقُومُوا للّه ليس المراد بالقيام ضد الجلوس و الرقود بل المراد به الانتصاب فى الأمر و التصدي له كما فى قوله تعالى أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ و المعنى ان تنتصبوا فى التفكر خالصا لوجه اللّه معرضا عن التعصب و التقليد مَثْنى وَ فُرادى يعنى اثنين اثنين و واحدا واحدا فان الازدحام يشوش الخاطر حالان من فاعل تقوموا ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا فى امر محمد صلى اللّه عليه و سلم و ما جاء به عطف على تقوموا يعنى قوموا اما اثنين اثنين فيتفكران و يعرض كل واحد منهما فكره على صاحبه و ينظران بنظر الانصاف او يتفكر فرد فرد فى نفسه بعدل و نصفة حتى يتضح له الحق- و ان مع صلته أما فى محل الجر بدلا من واحدة او بيانا له و أما فى محل الرفع بإضمار هو و اما فى محل النصب بإضمار اعنى ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ متعلق بتتفكّروا بتضمين يعلموا ارشاد الى مواد التفكر و المراد ان هذا امر بديهي و هو ان صاحبكم محمدا صلى اللّه عليه و سلم ليس به جنون فانه ذو عقل سليم و لبّ عظيم و فهم مستقيم لا ينكره الا معاند او مجنون- و بديهي ان من له عقل سليم لا يتصدى الأمر عظيم عبث يعادى بسببه الخلائق مع كونه متوحدا صفر اليد من غير تحقيق و وثوق ببرهان من غير فائدة معتدة به من جلب نفع او دفع ضرر- و جلب نفع او دفع ضرر دنيوى غير موجود اما جلب النفع فمنفى حيث يقول. ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ و كذا دفع الضرر لان ضرر معادات الخلائق موجود فما هذا الدعوى من محمد صلى اللّه عليه و سلم الا لجلب نفع متوقع فى غير هذا الدار الدنيا و دفع ضرر كذلك فيثبت بهذه المقدمات قوله إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) يلحق بكم فى غير هذا الدار فهذه المقدمات يرشد الى وجوب اتباعه لا سيما قد انضم ذلك الى معجزات كثيرة- قال ابن عباس لمّا نزلت و انذر عشيرتك الأقربين صعد النبي صلى اللّه عليه و سلم على الصفا فجعل ينادى يا بنى فهر يا بنى عدى لبطون قريش حتى اجتمعوا فقال ارايتكم لو أخبرتكم ان خيلا تريد ان تغير عليكم أ كنتم مصدقى قالوا ما جرّبنا عليك الا صدقا قال فانى نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ فقال ابو لهب تبّا لك سائر اليوم أ لهذا جمعتنا فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ- متفق عليه- ٤٧ قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ على الرسالة فَهُوَ لَكُمْ يعنى لا اسئلكم شيئا و قيل معناه ما سألتكم من اجر بقولي ما اسئلكم عليه من اجر الّا من شاء ان يتّخذ الى ربه سبيلا و قوله لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ... فَهُوَ لَكُمْ اى لفائدتكم لان اتخاذ السبيل الى اللّه ينفعكم و قربائى قرباكم- قلت بل قربى النبي صلى اللّه عليه و سلم علماء الظاهر و الباطن من اهل بيته و غيرهم و مودتهم يورث التقرب الى اللّه سبحانه إِنْ أَجْرِيَ قرأ ابن كثير و ابو بكر و يعقوب و خلف- ابو محمد و حمزة و الكسائي بإسكان الياء و الباقون بفتحها إِلَّا عَلَى اللّه فى غير هذا الدار الدنيا و لو لا ذلك لم ارتكب تحمل تلك المشقة عبثا فلا بد لكم ان تتبعونى و تعملوا ما يوجب لكم الاجر على اللّه عزّ و جلّ تفضلا منه بناء على وعده قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يا معاذ هل تدرى ما حق اللّه على عباده و ما حق العباد على اللّه قلت اللّه و رسوله اعلم قال حق اللّه على العباد ان يعبدوه و لا يشركوا به شيئا و حق العباد على اللّه ان لا يعذب من لا يشرك به شيئا- متفق عليه عن معاذ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (٤٠) فيجازى كل امرئ على حسب عمله و اعتقاده. ٤٨ قُلْ يا محمد إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ اى يلقيه و ينزله على من يشاء ان يجتبيه من عباده او المعنى يرمى به الباطل فيدمغه او المعنى يرمى به الى أقطار الآفاق فيكون وعدا بإظهار الإسلام روى احمد عن المقداد انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر و لا وبر الا ادخله اللّه كلمة الإسلام بعز عزيزا و ذل ذليل اما يعزهم اللّه فيجعلهم من أهلها او يذلهم فيدينون لها عَلَّامُ الْغُيُوبِ (٤٨) بالرفع صفة محمولة على محل اسم انّ او بدل من المستكن فى يقذف او خبر ثان لان او خبر محذوف اى هو علّام الغيوب يعلم من هو اهل للاجتباء بالوحى و يعلم عاقبة امر الإسلام حيث يدفع به الكفر و يظهره فى الأقطار. ٤٩ قُلْ يا محمد جاءَ الْحَقُّ اى القران و الإسلام و التوحيد وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ (٤٩) اى ذهب الباطل يعنى الشرك و زهق فلم يبق منه بقية تبدى شيئا او تعيده كما قال بل يقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه فاذا هو زاهق و قال قتادة الباطل إبليس اى ما يخلق إبليس أحدا و لا يبعثه و هو قول الكلبي ايضا و قيل الباطل الأصنام- قال البغوي ان كفار مكة كانوا يقولون للنبى صلى اللّه عليه و سلم انك قد ضللت حتى تركت دين ابائك فانزل اللّه تعالى. ٥٠ قُلْ يا محمد إِنْ ضَلَلْتُ يعنى ما تدينت به من الدين ان كان ضلالا كما تقولون فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي يعنى وبال ضلالى انما يعود الى نفسى فكيف اختار الوبال على نفسى مع انه لا جنون بي و لا منفعة دنيوية يعود الىّ وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي يعنى ان كان هذا هداية فليس من قبل نفسى و لا من عند أحد من اهل هذا البلد لظهور انى أمي ما كتبت و لا قرأت على أحد فليس هو الا مستفادا من اللّه وحيا فيجب عليكم ان تتبعونى فتهتدوا كما اهتديت فهذا استدلال على النبوة و هذا الوجه المقابلة بين الشرطين و قال البيضاوي فى وجه المقابلة ان معنى قوله ان ضللت فانّما اضلّ على نفسى فان وبال ضلالى عليها فانه بسببها فانها هى الضالة بالذات و الامارة بالسوء و ان أهديت فبهدايته تعالى فعلى هذا وزان هذه الاية قوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن اللّه و ما أصابك من سيّئة فمن نفسك إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) يدرك قول كل ضالّ و مهتد و فعله ان أخفاه-. ٥١ وَ لَوْ تَرى ايها المخاطب إِذْ فَزِعُوا وقت فزع الكفار عند الموت و قال قتادة عند البعث و جواب لو محذوف يعنى لرايت امرا فظيعا فَلا فَوْتَ لهم يعنى فلا يفوتون اللّه بهرب او تحصن او بإعطاء فداء عن نفسه وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) يعنى من ظهر الأرض الى بطنها كما قيل او من الموقف الى النار و قال الضحاك هو يوم بدر فزعوا و أخذوا من مكان قريب بعذاب الدنيا لكن لا يناسب هذا التأويل قوله. ٥٢ وَ قالُوا آمَنَّا بِهِ اى بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و قد مر ذكره فى قوله ما بصاحبكم فانهم لم يقولوا يوم بدرا منّا به بل قال ابو جهل حين قتل و كان به رمق و أخذ ابن مسعود لحيته و قال الحمد للّه الذي أخزاك يا عدو اللّه قال بما ذا أخزاني هل زاد على رجل قتله قومه و هل كان الّا هذا. و انما يقولون امنّا به عند البأس إذا اخذه سكرات الموات و عند البعث من القبور إذا عاينوا العذاب و عند البعث الى النار وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ قرأ نافع و ابن كثير و ابن عامر و حفص و ابو جعفر و يعقوب و ابو محمد بضم الواو بغير مد و معناه التناول يعنى من اين لهم ان يتناولوا الايمان و التوبة و الباقون التّناؤش بالمد و الهمزة و إذا وقف حمزة جعلها بين بين لان ذلك من النئش بالهمزة و هو الحركة فى الإبطاء يعنى انى لهم ان يتحركوا و يطلبوا الايمان و التوبة و جاز ان يكون من النوش بمعنى التناوش فيكون أصله الواو ثم يهمز للزوم ختمها فعلى هذا يقف حمزة بضم الواو ورد ذلك الى أصله كذا قال الداني فى التيسير- قال فى القاموس النأش يعنى بالهمز التناول كالتناوش و الاخذ و البطش و النهوض و التأخير و لا يستقيم التأخير هاهنا و يستقيم غير ذلك و النوش يعنى بالواو التناول و الطلب و المشي و الاسراع في النهوض مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥١) فان تناول الايمان انما هو فى حين التكليف انه بعد عنهم حين التكليف و هذا تمثيل حالهم فى الاستخلاص بعد ما فات عنهم و بعد عنهم مجال من يريد تناول الشي ء من غلوة مثل تناوله على ذراع فى الاستحالة و عن ابن عباس انه قال انهم يسئلون الرد الى الدنيا فيقال و انى لهم الرد من مكان بعيد اى من الاخرة الى الدنيا .. ٥٣ وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ اى باللّه و قد مر ذكره او بمحمد و قد ذكر بقوله ما بصاحبكم او بالقرآن المذكور بقوله جاء الحقّ او بالعذاب المفهوم من قوله أخذوا و الجملة حال من فاعل قالوا مِنْ قَبْلُ ذلك الوقت فى أوان التكليف وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) اى من جانب بعيد من امر النبي صلى اللّه عليه و سلم و هو الشّبه الذي تمحلوها فى امر الرسول صلى اللّه عليه و سلم و حال الاخرة كما حكاه من قبل و لعله تمثيل لحالهم فى ذلك بحال من يرمى شيئا لا يراه من مكان بعيد لا محال الظن فى لحوقه قال مجاهد يرمون محمدا صلى اللّه عليه و سلم بما لا يعلمون يقولون شاعر ساحر كذّاب بلا تحقيق هذا تكلم بالغيب و قال قتادة يرمون بالظن يقولون لا بعث و لا جنة و لا نار و هذا معطوف على قوله و قد كفروا به على حكاية الحال الماضية او على قالوا فيكون تمثيلا لحالهم بحال القاذف فى تحصيل ما ضيعوه من الايمان فى الدنيا-. ٥٤ وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من نفع الايمان و النجاة من النار او الرجوع الى الدنيا او كل ما يشتهيه الطبع من المأكولات و المشروبات و غيرها التي كانت لهم ميسرة فى الدنيا و الظرف قائم مقام فاعل حيل او هو مسند الى مصدره اى حيل الحيلولة قرا ابن عامر و الكسائي حيل بإشمام الضم للحاء و الباقون بإخلاص الكسر كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ اى باشباههم من كفار الأمم الخالية مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ من البعث و نزول العذاب بهم مُرِيبٍ (٥٤) موقع للريبة او ذى الريبة منقول من المشكك او الشاك نعت به الشك للمبالغة- |
﴿ ٠ ﴾