سُورَةُ الصَّافَّاتِ مَكِّيَّةٌ وَهِيَ مِائَةٌ وَاثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ آيَةً مكّيّة و هى مائة و اثنان و ثمانون اية ربّ يسّر و تمّم بالخير _________________________________ بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. ١ وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا (١) اقسم بالملائكة الذين يصفون فى مقام العبودية كصفوف المصلين عن جابر بن سمرة رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها فقلنا يا رسول اللّه كيف تصف الملائكة عند ربها قال يتمون الصفوف و يتراصون فى الصف- كذا قال ابن عباس و الحسن و قتادة و قيل هم الملائكة تصف بأجنحتها فى الهواء واقفة حتى يأمر اللّه بما يريد و قيل هى الطير قال اللّه تعالى وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ .... ٢ فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) يعنى الملائكة تزجر السحاب و تسوقه و قيل الملائكة تزجر الناس عن المعاصي بإلهام الخير او الشياطين عن التعرض لهم. و قال قتادة هى زواجر القران تنهى و تزجر عن القبيح. ٣ فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) هم الملائكة الذين يتلون ذكر اللّه او آيات من الكتب السماوية على الأنبياء و ذكرا منصوب على المفعولية و جاز نصبه على المصدرية من معنى التاليات. او اقسم بنفوس العلماء الصافّين أقدامهم فى الصلاة الزاجرين عن الكفر و السيئات بالحجج و النصيحات التالين آيات ربهم رفيع الدرجات- او بنفوس الغزاة المقاتلين فى سبيل اللّه صفّا كانّهم بنيان مرصوص الزاجرين الخيل و العدو التالين لذكر اللّه لا يشغلهم مبارزة العدو عن ذكر اللّه- و العطف لاختلاف الدوات او الصفات و الفاء لترتيب الوجود فان الصف كمال و الزجر تكميل بالمنع عن الشر او الاساقة الى الخير و التلاوة افاضة او الرتبة كما فى قوله تعالى ثمّ كان من الّذين أمنوا- ادغم حمزة التاءات فيما يليها لتقاربها فانها من طرف اللسان و اصول الثنايا و ابو عمر و على أصله فى الإدغام الكبير. جواب القسم. ٤ إِنَّ إِلهَكُمْ يا اهل مكة لَواحِدٌ (٤) رد لما قال كفار مكة اجعل الالهة الها وّاحد لانّ هذا لشئ عجاب. ٥ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ رَبُّ الْمَشارِقِ (٥) خبر بعد خبر لانّ او خبر مبتدا محذوف اى هو و المراد بالمشارق مشارق الكواكب كلها او مشارق الشمس فى السنة فانها ثلاث مائة و خمس و ستون تطلع كل يوم من واحد و بحسبها يختلف المغارب و لذلك اكتفى بذكرها مع ان الشرق أدلّ على القدرة و ابلغ فى النعمة .. ٦ إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا اى القربى منكم فيه التفات من الغيبة الى التكلم بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) قرا الجمهور بالاضافة و هى بيانية اى بزينة هى الكواكب او اضافة المصدر الى المفعول اى بان زينا الكواكب فانها كما جاءت اسما كالليقة جاء مصدرا كالنسبة او الى الفاعل اى بان زينها الكواكب و قرا حمزة و يعقوب و حفص «لا بل هو كالجمهور- ابو محمد» بتنوين زينة وجر الكواكب على ابدا لها منه اى بزينة هى الكواكب او بزينة هى لها كاضوائها و أوضاعها قال ابن عباس اى بضوء الكواكب و هذه القراءة يؤيد كون الاضافة فى قراءة الجمهور بيانية و قرا ابو بكر بتنوين زينة و نصب الكواكب على المفعولية فيؤيد كون الاضافة الى المفعول او منصوب بتقدير اعنى او على البدل من محل زينة. ٧ وَ حِفْظاً منصوب على المصدرية بإضمار فعله اى و حفظناها حفظا او بالعطف على زينة بحسب المعنى كانّه قال انا خلقنا الكواكب زينة للسماء و حفظا اى لاجل الحفظ مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) خارج من الطاعة برمى الشهب من الكواكب و هذه الاية تفيد ان الكواكب كلها فى السماء الدنيا و قول البيضاوي ان كون الثوابت فى الكرة الثامنة و ما عدا القمر من السيارات فى الست المتوسطة بينها و بين سماء الدنيا ان تحقق لم يقدح فى ذلك فان اهل الأرض يرونها بأسرها كجواهر مشرقة متلالية على سطحها الأزرق باشكال مختلفة مبنى على تجويز قول الفلاسفة و الحق ان قول الفلاسفة باطل بالكتاب و السنة و الإجماع فان كون السماوات سبعا منصوص عليه بالكتاب فلا يجوز القول بالكرة الثامنة و تسميتها باسم غير السماء لا يفيد كتسمية الخمر بغير اسمها لا يفيد الحل و ايضا الدّنيا صفة للسماء و مفهوم الصفة يقتضى حصر زينتها فى السماء الدنيا و لو لا ذلك الحصر لما وجه لتقييد السماء بالدنيا و ايضا قوله تعالى و حفظا من كلّ شيطان مارد يرد القول بكون الكواكب فى سماء غير سماء الدنيا فان رجم الشيطان ليس الا من السماء الدنيا و لا سبيل للشياطين فوق سماء الدنيا و القول بان الشهاب تخرج من الكواكب الثابتة فى السماء الثامنة نافذة من السماوات السبع الى سارق السمع من الشياطين يأباه العقل و النقل و اللّه اعلم. ٨ لا يَسَّمَّعُونَ قرأ حفص و حمزة و الكسائي «و خلف- ابو محمد» بتشديد السين و الميم أصله يتسمّعون فادغمت التاء فى السين و المعنى يطلبون السماع و فيه مبالغة فى نفى السماع و الباقون بسكون السين و تخفيف الميم من المجرد- و هذا كلام مبتدا لبيان حالهم بعد ما حفظ السماء عنهم و لا يجوز جعله صفة لكلّ شيطان فانه يقتضى حفظها من الشياطين الذين لا يسمعون و لا علة للحفظ على حذف اللام كما فى جئتك ان تكرمنى ثم حذف ان و اهدار عملها فان اجتماع ذلك منكر إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى متعلق بلا يسمعون بتضمين معنى الاصفاء مبالغة لنفيه و تهويلا لما يمنعهم عنه و المراد بالملا الأعلى الملائكة او اشرافهم مدبرات الأمور وَ يُقْذَفُونَ اى يرمون عطف على لا يسمعون مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) اى من آفاق سماء الدنيا بالشهب إذا قصدوا المكث و الإصغاء. ٩ دُحُوراً مصدر بمعنى الطرد منصوب على المصدرية لان القذف و الدحور متقاربان او على الحال بمعنى مدحورين او بنزع الخافض اى بدحور و هو ما يطرد به وَ لَهُمْ عَذابٌ اخر واصِبٌ (٩) اى دائم او شديد و هو عذاب الاخرة و قال مقاتل لهم عذاب فى الدنيا دائم الى النفخة الاولى يحرقون. ١٠ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ استثناء من فاعل لا يسمعون و بدل منه و قيل استثناء منقطع و الخطفة الاختلاس يعنى من اختلس كلمة من كلام الملائكة مسارقة و لذلك عرّف الخطفة فَأَتْبَعَهُ اتبع بمعنى تبعه اى لحقه شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) و هو ما يرى كانّ كوكبا انقض و هو شعلة تخرج من كوكب لرجم مسترقى السمع من الشياطين. و ليس كما قالت الفلاسفة انه بخار يصعد الى الأثير و يشتعل فان هذا قول باطل مبنى على الظن و التخمين و انّ الظّنّ لا يغنى من الحقّ شيئا و هذا كقولهم فى المطر انه بخار يصعد من الأرض و يصل الى الطبقة الزمهريرية من الهواء فيجمد و يكون غماما ثم يصل اليه الحرارة من الشمس فيذوب و يقطر ماء و هذه الأقوال الباطلة التي لا دليل عليها يأباه العقل فان الابخرة قد يصعد كثيرا لاجل شدة الحر و لا يكون مطرا الى سنين و قد يكون امطارا متوالية متكاثرة فى البرد من غير ان يدرك حينئذ صعود الابخرة و ايضا لو كان كذلك لذاب فى بعض الأحيان الغمام كله و لم ير ذلك قط و ايضا البخارات لا تزال تتصاعد دائما فرؤية الشهاب فى بعض الأحيان لا معنى له- و هذه الأقوال باطلة بالكتاب و السنة قال اللّه تعالى و أنزلنا من السّماء ماءّ و قال اللّه تعالى و أنزلنا من السّماء من جبال فيها من برد و هذه الاية و زيّنا السّماء الدّنيا بزينة الكواكب الى قوله شهاب ثاقب و روى البخاري عن قتادة قال خلق اللّه تعالى هذه النجوم لثلاث جعلها زينة للسماء و رجوما للشياطين و علامات يهتدى فمن تأول فيها غير ذلك اخطأ و أضاع نصيبه و تكلف ما لا يعلم- و روى ايضا عن ابى هريرة ان نبى اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال إذا قضى اللّه الأمر فى السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كانه سلسلة على صفوان فاذا فزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربّكم قالوا للذى قال الحقّ و هو العلىّ الكبير فسمعها مسترقوا السّمع و مسترقوا السمع هكذا بعضهم فوق بعض (و وصف سفيان بكفه فحركها و بدر بين أصابعه) فيسمع الكلمة فيلقيها الى من تحته ثم يلقيها الاخر الى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر او الكاهن فربما أدرك الشهاب قبل ان يلقيها و ربما القاها قبل ان يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال أ ليس قد قال لنا يوم كذا كذا و كذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعها من السماء- و روى مسلم عن ابن عباس ربنا تبارك اسمه إذا قضى امرا سبح حملة العرش ثم سبح اهل السماء الذين يلونهم حتى تبلغ التسبيح اهل هذه السماء الدنيا ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ماذا قال ربّكم فيخبرونهم ما قال فيستخبر بعض اهل السماوات بعضا حتى تبلغ اهل هذه السماء الدنيا فيخطف الجن السمع فيقذفون الى أوليائهم و يرمون فما جاءوا به على وجهه فهو حق و لكنهم تعرفون فيه و «اى يكذبون منه ره» يزيدون- و روى البخاري عن عائشة قالت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ان الملائكة تنزل فى العنان و هو السحاب فتذكر الأمر قضى فى السماء فيسترق الشياطين السمع فيستمعه فيوحيه الى الكهان فيكذبون معه مائة كذبة من عند أنفسهم- قال البيضاوي و اختلف فى المرجوم يتاذى فيرجع او يحترق به لكن قد يصيب الصاعد مرة و قد لا يصيب كالموج لراكب السفينة و لهذا لا يرتدعون .. ١١ فَاسْتَفْتِهِمْ الضمير المنصوب لمشركى مكة أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ممن خلقناهم أَمْ مَنْ خَلَقْنا هم أشد خلقا منهم و المراد بمن خلقنا ما سبق ذكره من السماوات و الأرض و ما بينهما من الخلائق و المشارق و المغارب و الكواكب و الشهب الثواقب و من لتغليب العقلاء و الاستفهام للتقرير- و قيل المعنى أم من خلقنا من غيرهم من الأمم السالفة كعاد و ثمود قد أهلكناهم بذنوبهم فما لكم تأمنون من العذاب و التأويل الاول يوافق قوله تعالى ء أنتم «١» أشدّ خلقا أم السّماء و يدل على إطلاقه قوله تعالى إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) اى لاصق يتعلق باليد و قال مجاهد و الضحاك اى منتن فانه فارق بين خلقهم و خلق السماوات و الأرض فان خلقها بلا مادة سبق و هذه الجملة متضمنة للسوال المذكور على طريقة عن النّبإ العظيم بعد قوله عمّ يتسآءلون و الغرض من هذا الكلام الرد على منكر البعث فانه شهادة عليهم بالضعف لان ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة و القوة فمن قدر على خلق السماوات و غيرها قادر البتة على ما لا يعتد به بالاضافة إليها و احتجاج عليهم بان خلقهم الاول من الطين اللازب فمن اين ينكرون ان يخلقوا ثانيا من تراب حيث قالوا أ إذا كنّا ترابا أ إنّا لفى خلق جديد و ان الطين اللازب يحصل بضم الجزء المائى الى الجزء الأرضي و هما باقيان قابلان للانضمام و الفاعل لا تغير فى قدرته فعلى ما ينكرون .. (١) و فى الأصل أهم أشدّ ١٢. ١٢ بَلْ ابتدائية للانتقال من غرض الى اخر و هو الاخبار بحاله و حالهم و ليست للاضراب عَجِبْتَ العجب حالة يعترى للانسان عند رؤية امر لم يعهد مثله فيعبر عن تلك الحالة بقوله عجبت و بصيغة التعجب منه قوله صلى اللّه عليه و سلم عجب ربك من قوم يساقون الى الجنة فى السلاسل- و قوله سبحانه ما أعظم شأنه و يطلق ايضا على الشي ء الذي لم يعهد مثله انه عجب قال اللّه تعالى أ كان للنّاس عجبا ان أوحينا الى رجل منهم و كثيرا يستعمل العجب فيما يراه الرجل حسنا غاية الحسن يقال أعجبني كذا و منه قوله تعالى و من النّاس من يعجبك قوله و قوله عليه السلام عجب ربكم من شابّ ليست له صبوة و قوله صلى اللّه عليه و سلم عجب ربكم من الكم و قنوطكم و قد يستعمل فيما يراه قبيحا غاية القبح يقال عجبت من بخلك و شرهك و قال الشاعر شيئان عجيبان هما أبرد من يخ شيخ يتصبى و صبى يتشيخ- و فيما يراه كثيرا غاية الكثرة يقال ما أكرمه و ما أطفاه و ما أشد استخراجه و ما أجهله و ما اشر بياضه فالمعنى ان هذا الشي ء بهذا الحسن او بهذا القبح او بهذا الكرام او الجهل او البياض لم يعهد مثله- و قيل هى حالة يعرض للانسان عند الجهل بسبب الشي ء و بناء على ذلك قالوا لا يصح على اللّه العجب لاحاطة علمه بكل شى ء و قيل هى حالة يعترى للانسان عند استعظامه الشي ء و الصحيح ان مال هذين التفسيرين الى ما ذكرنا لان الإنسان يستعظم ما لم يعهد مثله و كذا ما يجهل بسببه يراه غير معهود مثله فلا حاجة الى الصرف عن الظاهر فى قراءة حمزة و الكسائي «و خلف- ابو محمد» عجبت بضم التاء على صيغة المتكلم رنال البيضاوي العجب من اللّه اما على الفرض و التخييل او على معنى الاستعظام اللازم و قيل انه مقدر بالقول يعنى قل يا محمد بل عجبت و قال البغوي و العجب من اللّه إنكاره و تعظيمه و العجب من اللّه قد يكون بمعنى الإنكار و الذم كما فى هذه الاية و قد يكون بمعنى الاستحسان كما فى الحديث عجب ربكم من شابّ ليست له صبوة- و سئل جنيد عن هذه الاية فقال ان اللّه ما يعجب من شى ء و لكن اللّه وافق رسوله فقال و ان تعجب فعجب قولهم اى هو كما تقوله- و قرا الجمهور على صيغة المخاطب بفتح التاء يعنى عجبت أنت يا محمد من تكذيبهم إياك مع اعترافهم بكونك أمينا صدوقا و شهادة المعجزات على صدقك و كون القرآن معجزا او عجبت من انكارهم قدرة اللّه على البعث مع ظهور قدرته تعالى على كل شى ء فان هذا الأمر لم يعهد مثله قال قتادة عجب نبى اللّه صلى اللّه عليه و سلم من هذا القران حين انزل و ضلال بنى آدم بعده و ذلك ان النبي صلى اللّه عليه و سلم كان يظن ان من سمع لهذا القران يؤمن به فلمّا سمع المشركون و سخروا منه و لم يؤمنوا به عجب من ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال اللّه تعالى بل عجبت يا محمد وَ يَسْخَرُونَ (١٢) حال من فاعل عجبت بتقدير المبتدا يعنى و هم يسخرون من تعجبك و تقريرك للبعث. ١٣ وَ إِذا ذُكِّرُوا اى وعظوا بالقران لا يَذْكُرُونَ (١٣) لا يتعظون او المعنى إذا ذكرهم ما يدل على صحة الحشر لا ينتفعون به لبلادتهم و قلة فكرتهم. ١٤ وَ إِذا رَأَوْا آيَةً معجزة تدل على صدق الرسول صلى اللّه عليه و سلم قال ابن عباس و مقاتل هو انشقاق القمر يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) يبالغون فى السخرية او يستدعى بعضهم بعضا ان يسخر منها. ١٥ وَ قالُوا اى و يقولون إِنْ هذا يعنون ما يرونه من المعجزة إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) ظاهر سحريته و قالوا. ١٦ أَ إِذا مِتْنا قرأ نافع و حمزة و الكسائي بكسر «١» الميم وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أصله أ نبعث إذا متنا فبدل الفعلية بالاسمية و قدم الظرف و كرر الهمزة مبالغة في الإنكار و اشعارا بان البعث مستنكر فى نفسه و فى هذا الحال اولى بالإنكار فهذا ابلغ من قراءة ابن عامر بطرح الهمزة الاولى و قراءة نافع و الكسائي و يعقوب «و ابى جعفر- ابو محمد» بطرح الثانية. (١) هذا هو الصحيح و هكذا فى الأصل فى المتن لكن كتبه على الحاشية بالضم. و هو وهم كما «و بال عمران فى ص ١٦١ ابو محمد. ١٧ أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) عطف على محل اسم ان بعد مضى الخبر او على الضمير فى مبعوثون فانه مفصول عنه بهمزة الاستفهام و الاستفهام لانكار الجمع بين بعثهم و بعث ابائهم لزيادة الاستبعاد لبعد زمانهم- و سكن نافع «اى قالون عنه و الاصبهانى عن ورش و ابو جعفر و ابو محمد» و ابن عامر الواو على معنى الترديد و على هذه «٢» القراءة لا يجوز العطف (٢) و فى الأصل هذا القراءة. ١٨ قل يا محمد. نَعَمْ تبعثون أنتم و آباؤكم قرا الكسائي بالكسر و هو لغة فيه وَ أَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) الدخور أشد الصغار حال من فاعل المقدر. ١٩ فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ جواب شرط مقدر يعنى إذا كانت البعث فانّما هى اى البعثة و قيل هى ضمير مبهم موضحها خبرها يعنى زجرة واحِدَةٌ اى صيحة واحدة اى نفخة الثانية و الزجر الطرد و المنع بالصوت يقال زجر الراعي غنمه إذا صاح عليها و أمرها فى الاعادة كما امر فى الإبداء و لذلك رتب عليها فَإِذا هُمْ قيام من مراقدهم احياء يَنْظُرُونَ (١٩) عطف على فانّما هى زجرة يعنى انما البعثة زجرة ففاجت وقت كونهم احياء ينظرون اى يبصرون او ينتظرون ما يفعل بهم. ٢٠ وَ قالُوا يا للتنبيه وَيْلَنا اى هلاكنا مصدر لا فعل له من لفظه و جملة قالوا عطف على ينظرون و يقولون يا ويلنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) اى يوم نجازى فيه بأعمالنا. ٢١ هذا يَوْمُ الْفَصْلِ اى يوم القضاء او الفرق بين المحسن و المسي ء الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) قيل هذا جواب الملائكة و قد تم كلامهم على يوم الدّين و قيل هذا ايضا من كلامهم بعضهم لبعض- فحينئذ يقول اللّه سبحانه للملائكة. ٢٢ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا يعنى أشركوا فانّ الشّرك لظلم عظيم يعنى اجمعوهم الى الموقف للحساب و الجزاء وَ أَزْواجَهُمْ يعنى نظراءهم و أشياعهم و اتباعهم اخرج البيهقي من طريق النعمان بن بشير قال سمعت عمر بن الخطاب يقول احشروا الّذين ظلموا و أزواجهم يعنى ضرباءهم الذين هم مثلهم يجيئ اصحاب الربوا مع اصحاب الربوا و اصحاب الزنى مع اصحاب الزنى و اصحاب الخمر مع اصحاب الخمر ازواج فى الجنة و ازواج فى النار- و اخرج البيهقي عن ابن عباس يعنى أشباههم- و قال البغوي قال قتادة و الكلبي يعنى من عمل مثل عملهم فاهل الخمر مع اهل الخمر و اهل الربوا مع اهل الربوا و قال الضحاك قرناؤهم من الشياطين كل كافر مع شيطانه فى سلسلة و قال الحسن أزواجهم من المشركات وَ ما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) ٢٣ مِنْ دُونِ اللّه فى الدنيا يعنى الأوثان و الطواغيت و قال مقاتل يعنى إبليس و احتج بقوله ان لا تعبدوا الشّيطان و اللفظ مخصوص بقوله تعالى انّ الّذين سبقت لهم منّا الحسنى أولئك عنها مبعدون. فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) قال ابن عباس دلوهم الى طريق النار و قال ابن كيسان قدموهم الى النار و العرب يسمى السائق هاديا. ٢٤ وَ قِفُوهُمْ اى احبسوهم قال المفسرون لمّا سيقوا الى النار حبسوا عند الصراط فيقول اللّه تعالى قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) تعليل بقفوا قال ابن عباس يسئلون عن جميع أفعالهم و أقوالهم و روى عنه عن لا اله الا اللّه اخرج مسلم عن ابى برزة الأسلمي رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يزول قد ما عبد عن الصراط حتى يسئل عن اربع عن عمره فيما أفناه و عن جسده فيما أبلاه و عن علمه ما عمل فيه و عن ماله من اين اكتسبه و فيم أنفقه. و اخرج الترمذي و ابن مردوية مثله عن ابن مسعود و اخرج الطبراني مثله عن معاذ بن جبل و ابى الدرداء و ابن عباس و اخرج ابن المبارك فى الزهد عن ابى الدرداء قال ان أخوف ما أخاف إذا وقعت الحساب ان يقال لى قد علمت فما عملت و اخرج احمد فى الزهد عنه قال أول ما يسئل عنه العبد يوم القيامة يقال ما عملت فيما علمت و اخرج ابن ابى حاتم عن ابقع بن عبد اللّه الكلاعى قال ان لجهنم سبع قناطير و الصراط عليها فيحبس الخلائق عند القنطرة الاولى فيقولون قفوهم انّهم مسئولون فيحاسبون عن الصلاة و يسئلون منها فيهلك فيها من هلك و ينجو من نجا فاذا بلغوا الثانية حوسبوا عن الامانة كيف أدوها و كيف خانوها فيهلك من هلك و ينجو من نجا فاذا بلغوا القنطرة الثالثة سئلوا عن الرحم كيف و صلوها و كيف قطعوها فيهلك من هلك و ينجو من نجا قال و الرحم يومئذ متدلية الى الهواء يقول اللّهم من وصلني فصله و من قطعنى فاقطعه. ٢٥ ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) اى يقال لهم توبيخا ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا تحريض على التناصر و الغرض منه التهكم و التعجيز. ٢٦ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) قال ابن عباس اى خاضعون و قال الحسن منقادون يقال استسلم لشئ إذا انقاده و خضع-. ٢٧ وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يعنى الرؤساء و الاتباع او الكفرة و القرناء يَتَساءَلُونَ (٢٧) حال من الفاعل و المفعول يعنى يسئل بعضهم بعضا توبيخا و لذلك فسر بقوله يتلاومون و يتخاصمون. ٢٨ قالُوا اى يقول الاتباع للرؤساء او الكفرة للقرناء إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) اى عن أقوى الوجوه و أيمنها او عن الدين او عن الخير كذا قال الضحاك و مجاهد مستعار عن يمين الإنسان الذي هو أقوى الجانبين و أشرفهما و أنفعهما و لذلك سمى يمينا- و قال بعضهم المراد باليمين الحلف يعنى كنتم تحلفون ان ما تدعوننا اليه من الدين هو الحق- و قيل معناه القوة و القهر يعنى كنتم تكرهوننا و تقسروننا على الضلال هذه الجملة و ما بعدها بيان للتساؤل. ٢٩ قالُوا اى يقول الرؤساء او الشياطين ما اضللناكم بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) يعنى كنتم كافرين ضآلين باختياركم. ٣٠ وَ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ من قهر و غلبة تقرير لما سبق بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) اى مختارين الطغيان. ٣١ فَحَقَّ اى وجب عَلَيْنا عطف على محذوف مفهوم ممّا سبق تقديره كنتم قوما طاغين كما كنا طاغين فحقّ علينا جميعا قَوْلُ رَبِّنا لاملانّ جهنّم من الجنّة و النّاس أجمعين إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) العذاب. ٣٢ فَأَغْوَيْناكُمْ اضللناكم عن الهدى و دعوناكم الى ما كنا عليه عطف على فحقّ علينا إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) ضالين يعنون ان ضلال الفريقين و وقوعهم فى العذاب كان امرا مقضيا علينا و انه غاية ما فعلنا بكم انا دعونا الى الغيّ لانا كنا على الغى فاحببنا ان تكونوا مثلنا قال اللّه تعالى. ٣٣ فَإِنَّهُمْ الفا للسببية يعنى لمّا كان كلهم من الرؤساء و الاتباع و الكفرة و القرناء على الغى فهم يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) ٣٤ إِنَّا كَذلِكَ انا مبتدا و الجملة خبر و كذلك فى محل النصب على المصدرية اى فعلا مثل ما نفعل بهؤلاء نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) اى بكل مشرك و المجرم هو المشرك لقوله تعالى. ٣٥ إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللّه يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) ٣٦ وَ يَقُولُونَ عطف على يستكبرون أَ إِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) يعنون النبي صلى اللّه عليه و سلم قال اللّه تعالى ردّا عليهم. ٣٧ بَلْ جاءَ النبي صلى اللّه عليه و سلم بِالْحَقِّ اى التوحيد الذي قام عليه البرهان وَ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) يعنى ليس هذا دعوى مبتدعا بل ادعاه الأولون من الرسل و هذا يصدقهم و يطابق دعواه دعواهم. ٣٨ إِنَّكُمْ ايها المجرمون فيه التفات من الغيبة الى الخطاب لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) بالإشراف و تكذيب المرسلين. ٣٩ وَ ما تُجْزَوْنَ جزاء إِلَّا جزاء ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) فى الدنيا من الشرك. ٤٠ إِلَّا عِبادَ اللّه الْمُخْلَصِينَ (٤٠) الموحدين استثناء منقطع الا ان يكون الضمير فى تجزون لجميع المكلفين فيكون استثناؤهم عما سبق باعتبار المماثلة فان ثوابهم يضاعف الى سبع مائة ضعف الى ما شاء اللّه و المنقطع ايضا بهذا الاعتبار. ٤١ أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) خصائصه من الدوام و تمحض اللذة و لذلك فسره بقوله. ٤٢ فَواكِهُ جمع فاكهة بدل او بيان للرزق و هى ما يقصد به التلذذ دون التغذي و القوت ما يقصد به التغذي دون التلذذ و الرزق يعمهما و اهل الجنة لمّا كان خلقهم محفوظة عن التحلل كان أرزاقهم فواكه خالصة وَ هُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فى نيله يصل إليهم من غير تعب و سوال بخلاف أرزاق الدنيا الجملة عطف على الجملة او حال او خبر بعد خبر. ٤٣ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) متعلق بالظرف المستقر يعنى لهم رزق معلوم فى جنت ليس فيها الا النعيم او متعلق بمكرمون او حال من المستكن فيه او خبر اخر لاولئك. ٤٤ عَلى سُرُرٍ يحتمل الحال و الخبر فيكون مُتَقابِلِينَ (٤٤) حالا من المستكن فيه او فى مكرمون و يحتمل ان يتعلق على سرر بمتقابلين فيكون متقابلين حالا من ضمير مكرمون. ٤٥ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ اى باناء فيه خمر او خمر كقول الشاعر و كأس شربت على لذة. و عن الأخفش كل كأس فى القرآن فهى الخمر و الجملة حال او خبر مِنْ مَعِينٍ (٤٥) اى خمر جارية فى الأنهار ظاهرة تراها العيون او خارج من العيون و هو صفة الماء من عان الماء إذا نبع وصف به خمر الجنة لانها تجرى كالماء او للاشعار بان ما يكون لهم بمنزلة الشراب جامع لما يطلب من انواع الاشربة لكمال اللذة. ٤٦ بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) بخلاف خمر الدنيا فانها كريهة عند الشرب و بيضاء و لذّة صفتان لكأس قال الحسن خمر الجنة أشد بياضا من اللبن و وصفها بلذة للمبالغة او لانها تأنيث لذ بمعنى لذيذ كطب و وزنه فعل-. ٤٧ لا فِيها غَوْلٌ اى غائلة من غاله يغوله إذا أفسده و منه الغول يعنى ليس فيها شى ء من انواع الفساد كما فى خمر الدنيا من المفاسد من ذهاب العقل و وجع البطن و الصداع و القي ء و البول وَ لا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) قرا حمزة و الكسائي «و خلف- ابو محمد» بكسر الزاء من الانزاف و وافقها حفص فى الواقعة و الباقون بفتح الزاء فيهما و لا خلاف فى ضم الياء يقال نزف الشارب على البناء للمفعول فهو نزيف و منزوف إذا ذهب عقله و انزف الشارب إذا نفد عقله او شرابه و أصله النفاد و نزف لازم و متعد كذا فى القاموس و انزفت و الشي ء ابلغ من نزفته و أفرد النزف بالنفي و عطف على ما يعمه لانه من أعظم فساده ذهاب عقله و أشد على الشارب نفاد شرابه. ٤٨ وَ عِنْدَهُمْ عطف او حال قاصِراتُ الطَّرْفِ اى ازواج قصرن عيونهن على أزواجهن لا ينظرن الى غيرهم لحسنهم عندهن عِينٌ (٤٠) خبر مبتدا محذوف اى هن عين اى حسان الأعين يقال رجل أعين و امراة عيناء و رجال و نساء عين. ٤٩ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ للنعام اخرج ابن جرير عن أم سلمة عنه صلى اللّه عليه و سلم العين الضخام العيون شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر و عنه صلى اللّه عليه و سلم فى قوله تعالى كانّهنّ بيض مكنون قال رقتهن كرقة الجلدة فى داخل البيضة التي على القشر مَكْنُونٌ (٤٩) بريشه لا يصل اليه غبار و البيض جمع بيضة لعوده على لفظه قال الحسن شبههن ببيض النعامة لانها تكفها بريشها من الريح و الغبار فلونها ابيض فى صفرة و يقال هذا احسن ألوان النساء ان يكون بيضاء بصفرة و العرب تشبهها ببيض النعامة-. ٥٠ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ اى بعض اهل الجنة عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) عما مضى عليه فى الدنيا حال و الجملة معطوفة على يطاف عليهم اى يشربون فيتحادثون على الشراب قال الشاعر و ما بقيت من اللذات الا أحاديث الكرام على المدام. فانه ألذ تلك اللذات الى العقل و التعبير بالماضي للتأكيد. ٥١ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ اى من اهل الجنة بيان للتساؤل إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) فى الدنيا ينكر البعث قال مجاهد كان شيطانا و قال الآخرون كان من الانس و قال مقاتل كانا أخوين و قال الباقون كانا شريكين أحدهما كافر اسمه مطروس و الاخر مؤمن اسمه يهودا و هما الذان قص اللّه خبرهما فى سورة الكهف و اضرب لهم مثل الرجلين. ٥٢ يَقُولُ أَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) البعث استفهام للتوبيخ. ٥٣ أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) مجزيون بعد البعث كرر الاستفهام لغاية الاستبعاد و الإنكار. ٥٤ قالَ ذلك القائل هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُون َ (٥٤) اى اهل النار لاراكم ذلك القرين و قيل القائل هو اللّه او بعض الملائكة يقول لهم هل تحبون ان تطلعوا على اهل النار لاراكم ذلك القرين و لتعلموا اين منزلتكم من منزلتهم قال ابن عباس ان فى الجنة كوى ينظر أهلها منها الى النار. ٥٥ فَاطَّلَعَ هذا المؤمن على اهل النار فَرَآهُ اى قرينه فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) اى وسطه يسمى وسط الشي ء سواء لاستواء الجوانب منه اخرج هنا و عن ابن مسعود فى الاية قال فاطّلع ثم التفت الى أصحابه فقال رايت جماجم القوم تغلى «الجمجمة كاسه سر- منه ره». ٥٦ قالَ تَاللّه إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) قرا يعقوب بإثبات الياء فى الحالين و ورش وصلا فقط و الباقون بحذفها فى الحالين يعنى كدتّ لتهلكنى بالإغواء ان مخففة من الثقيلة و اللام فارقة. ٥٧ وَ لَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي بالهداية و العصمة لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) معك فى النار. ٥٨ أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) ٥٩ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى يعنى لسنا ممن شأنه الموت الا التي كانت فى الدنيا فالمستثنى مفرغ منصوب على المصدرية من اسم الفاعل او المعنى فما نحن نموت ابدا الا التي كانت فى الدنيا فالاستثناء منقطع و الفاء للعطف على محذوف تقديره أ نحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين و الاستفهام للتقرير اى حمل المخاطب على اقرار ما كان ينكره فى الدنيا بقوله ا إنّا لمدينون وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) و ذلك تمام كلامه لقرينه تقريعا له و جاز ان يكون هذا معاودة الى كلامه مع جلسائه تحدثا بنعمة اللّه و تعجبا منها و تعريضا للقرين بالتوبيخ و قال بعضهم يقول اهل الجنة للملائكة حين تذبح الموت استبشارا و تبجحا أ فما نحن بميّتين فيقول الملائكة لا فيقولون. ٦٠ إِنَّ هذا الخلود فى النعيم لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) و يحتمل ان يكون هذا من كلام اللّه كقوله تعالى. ٦١ لِمِثْلِ هذا المنزل او لمثل هذا النعيم لا للحظوظ الدنيوية المشوبة بالآلام سريعة الزوال فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١). ٦٢ أَ ذلِكَ الذي ذكر لاهل الجنة خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) التي هى نزل اهل النار و هى شجرة مرة خبيثة كريهة الطعم يكره اهل النار على تناولها يزقّمونه على أشد كراهية و منه قولهم تزقّم الطعام إذا تناوله على كره و مشقة و انتصاب نزلا على التميز و الحال و فى ذكره دلالة على ان ما ذكر من النعيم لاهل الجنة بمنزلة ما يقدم للنازل و لهم ما وراء ذلك ما يقصر عنه الافهام و كذلك الزقوم لاهل النار اخرج الترمذي و صححه و النسائي و ابن ماجة و ابن ابى حاتم و ابن حبان و الحاكم و البيهقي عن ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لو ان قطرة من الزقوم قطرت فى بحار الدنيا لافسدت على اهل الأرض معاشهم فكيف من يكون طعامه- و اخرج عبد اللّه بن احمد فى زوائد الزهد و ابو نعيم عن ابى عمران الخولاني فى شجرة الزقوم قال بلغنا ان ابن آدم لا ينهش منها نهشة الا نهشت منه مثلها. ٦٣ إِنَّا جَعَلْناها اى شجرة الزقوم فِتْنَةً اى محنة و عذابا فى الاخرة او ابتلاء فى الدنيا لِلظَّالِمِينَ (٦٣) اى الكافرين كانوا يقولون كيف يكون فى النار شجرة و النار تحرق الشجر و قال ابن الزبعرى لصناديد قريش ان محمدا يخوفنا بالزقوم و الزقوم بلسان بربر الزبد و التمر فادخله ابو جهل فى بيته و قال يا جارية زقّمينا فاتتهم بالزبد و التمر فقال تزقموا هذا ما يوعدكم به محمد و اخرج ابن جرير عن قتادة قال قال ابو جهل زعم صاحبكم هذا ان فى النار شجرة و النار تأكل الشجر و انّا و اللّه ما نعلم الزقوم الا التمر و الزبد فانزل اللّه حين عجبوا ان يكون فى النار شجرة. ٦٤ إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) اى قعر النار و اخرج نحوه عن السدى قال الحسن أصلها فى قعر جهنم و أغصانها ترفع الى دركاتها. ٦٥ طَلْعُها اى ثمرها سمى طلعا لطلوعه كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) قال ابن عباس هم الشياطين بأعيانهم شبّه بها لقبحه فان الناس إذا وضعوا شيئا بغاية القبح قالوا كانه شيطان و ان كانت الشياطين لا ترى لان قبح صورتها يتصور فى النفس و قال بعضهم الشياطين حيات هائلة قبيحة المنظر لها اعراف و لعلها سميت بها لذلك و قيل هى شجرة قبيحة مرة منتنة تكون فى البوادي تسميها العرب رؤس الشياطين. ٦٦ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها اى من الشجرة او من طلعها الفاء للسببية تعليل لكونه فتنة فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) لغلبة الجوع او الإكراه على أكلها و الملأ حشو الإناء بما لا يحتمل المزيد عليه. ٦٧ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها اى على أكلها بعد ما ملئوا بطونهم و غلبهم العطش و طال استسقاؤهم و يجوز ان يكون ثم لما فى شرابهم من مزيد الكراهة لَشَوْباً خلطا و مزجا مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) متعلق بشوبا و حميم ماء حار شديدة الحرارة يعنى يشربون الحميم فيصير فى بطونهم شوبا له. ٦٨ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) قال البغوي و ذلك انهم يوردون الحميم لشربه و هو خارج من الجحيم كما يورد الإبل الى الماء ثم يردّون الى الجحيم يدل عليه قوله تعالى يطوفون بينها و بين حميم ان و قرا ابن مسعود انّ مقيلهم لالى الجحيم-. ٦٩ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا اى وجدوا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) ٧٠ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) اى يسرعون الجملة فى مقام التعليل اى استحقوا تلك الشدائد تقليدا للاباء فى الضلال مسرعين من غير نظر و بحث. ٧١ وَ لَقَدْ ضَلَّ عطف على انّهم الفوا قَبْلَهُمْ اى قبل مشركى مكة أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) من الأمم الخالية. ٧٢ وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) اى أنبياء انذروهم من العواقب. ٧٣ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) الاستفهام للتعجب و الاستعظام و الجملة الاستفهامية بتأويل المفرد مفعول لانظر و الغرض منه التحقيق اى كان عاقبتهم العذاب فى الدنيا و الاخرة. ٧٤ إِلَّا عِبادَ اللّه الْمُخْلَصِينَ (٧٤) استثناء من مضمون الجملة السابقة اى الا الذين تنبهوا بانذارهم فاخلصوا دينهم للّه فانهم نجوا من العذاب و قرئ بالفتح اى الذين أخلصهم لدينه- و الخطاب مع الرسول صلى اللّه عليه و سلم و المقصود خطاب قومه فانهم ايضا سمعوا اخبارهم و راوا اثارهم- ثم شرع فى تفصيل القصص بعد اجمالها فقال. ٧٥ وَ لَقَدْ نادانا نُوحٌ عطف على قوله و لقد أرسلنا فيهم منذرين من قبيل ذكر الخاص بعد العام يعنى و لقد ضلّ قبلهم قوم نوح فارسلنا فيهم نوحا منذرا فدعاهم الى الإسلام فلم يؤمنوا حتى ايئس من إسلامهم و اوحى اليه انّه لن يؤمن من قومك الّا من قدا من فنادانا اى دعانا باهلاك قومه فاجبناه احسن الاجابة فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) اى فو اللّه لنعم المجيبون نحن فحذف ما حذف لقيام ما يدل عليه. ٧٦ وَ نَجَّيْناهُ عطف على فاجبناه المقدر وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) اى من أذى قومه. ٧٧ وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) يعنى لم يبق لاحد من قومه ذرية الا لنوح اخرج الترمذي و غيره عن سمرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم فى قوله و جعلنا ذرّيّته هم الباقين قال حام و سام و يافث. و اخرج من وجه اخر قال سام ابو العرب و حام ابو الحبش و يافث ابو الروم- روى الضحاك عن ابن عباس انّه لمّا خرج نوح من السفينة مات كل من كان معه من الرجال و النساء الا ولده «١» و نساؤهم- الظاهر من قصة نوح فى القران انه غرق فى الطوفان كل من كان فى الأرض الا من أمن بنوح و ركب السفينة ثم لم يبق لاحد ذرية الا لنوح متناسلين الى يوم القيامة قال سعيد بن المسيب كان ولد نوح ثلاثة سام و حام و يافث فسام ابو العرب و الروم و الفارس و حام ابو السودان و يافث ابو الترك و الخوز و يأجوج و ماجوج و ما هنالك يعنى و ما فى بلاد الشرق من الهند و غير ذلك. قلت و عندى ان نوحا لم يكن مبعوثا الى كافة الناس فان الإرسال الى الناس كافة كان من خصائصه صلى اللّه عليه و سلم بل كان مبعوثا الى قومه خاصة فلم يؤمنوا فدعا عليهم فاهلكوا بالطوفان و المراد بالأرض فى قوله تعالى ربّ لا تذر على الأرض من الكفرين ديّارا ارضه المعهود فعلى هذا الحصر فى هذه الاية إضافي يعنى جعلنا ذرّيته هم الباقين من قومه. (١) قلت الظاهر عندى ان كل من كان فى السفينة كانوا من ذرية نوح عليه السلام عن أولاد سام او حام او يافث فان لبثه فى قومه الف سنة الّا خمسين عامّا يقتضى ان يكون أولاده فى هذه المدة الطويلة كثيرة جدّا فلم يؤمن حام الأشر ذمة قليلة و هم ركبوا السفينة- منه نور اللّه مرقده. ٧٨ وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) من الأمم هذا الكلام. ٧٩ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) جي ء به على الحكاية و المعنى يسلمون عليه تسليما و يقولون هذا القول و قيل هو سلام من اللّه و مفعول تركنا محذوف تقديره تركنا عليه الثناء و الذكر الجميل و فى العالمين متعلق بالظرف المستقر اى عليه. ٨٠ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) يعنى انا نجزى كل محسن جزاء كذلك الجزاء او الذي جزينا نوحا بإبقاء الذكر الجميل و السلام قولا من ربّ العلمين. ٨١ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) يعنى انما جزيناه ذلك الجزاء بايمانه و إحسانه و فيه بشارة للمحسنين من امة محمد صلى عليه و سلم. ٨٢ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) يعنى غير المحسنين من قومه عطف على نجّينا- ٨٣ وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ عطف على قوله انّه من عبادنا المؤمنين يعنى ممن شايعة فى الايمان و اصول الدين او فى الفروع ايضا جميعها او أكثرها لَإِبْراهِيمَ (٨٣) و كان بين نوح و ابراهيم الفان و ست مائة و أربعون سنة و كان بينهما هود و صالح عليهم السلام. ٨٤ إِذْ جاءَ رَبَّهُ يعنى توجه اليه و الظرف متعلق بما فى الشيعة من معنى المشائعة يعنى تابعه وقت مجيئه او بمحذوف و هو اذكر بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٣) من الاشتغال بغير اللّه تعالى خاليا عن الغير و حبه كما يدل عليه قصة ذبح ابنه لامتثال امر ربه. ٨٥ إِذْ قالَ بدل من إذ السابقة او ظرف لجاء او لسليم لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) استفهام توبيخ على عبادة الحجارة. ٨٦ أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللّه تُرِيدُونَ (٨٦) هذا الاستفهام ايضا توبيخ بعد توبيخ الهة مفعول به لتريدون و دون اللّه صفة لالهة و إفكا مفعول له قدم المفعول على الفعل للعناية و قدم عليه المفعول له لان الأهم ان يقرر ان مبنى أمرهم على الافك و الباطل و جاز ان يكون إفكا مفعولا به و الهة بدل منه على انها افك فى أنفسها مبالغة و ان يكون إفكا حالا بمعنى افكين. ٨٧ فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) اى بمن هو حقيق لكونه ربّا للعالمين حتى تركتم عبادته او أشركتم به غيره ءامنتم من عذابه و المعنى انكار ما يوجب الظن فضلا عن موجب القطع الذي يصد عن عبادته او يجوّز الإشراك به او يقضى الامن من عقابه على طريقة الإكرام و هو كالحجة على ما قبله .. ٨٨ فَنَظَرَ عطف على قال نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) اى فى مواقعها و اتصالاتها او فى علمها او فى كتابها و هذا يدل على ان النظر فى علم النجوم و تعليمه و تعلمه كان جائزا فى شريعته لكن صار منسوخا فى شريعتنا حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد- رواه احمد و ابو داود و ابن ماجة من حديث ابن عباس و رواه رزين و زاد المنجم كاهن و الكاهن ساحر و الساحر كافر و المعنى ان ثلاثتهم فى الكفر بمنزلة واحدة و يمكن ان يقال انما يحرم النظر فى علم النجوم إذا أسند الحوادث الى الكواكب و اما إذا أسندها الى اللّه سبحانه و جعل اتصالات النجوم علامات حسب جرى عادة اللّه على خلق بعض الأشياء عند تلك الاتصالات كما ان اللّه تعالى يخلق الشفاء غالبا عند شرب الدواء و يخلق الموت عند شرب السم و يخلق افعال العباد عند القصد المصمم منهم فلا بأس به- و لعل النبي صلى اللّه عليه و سلم انما نهى عن اقتباس علم النجوم لئلّا يسند الناس الحوادث الى الكواكب عن زيد بن خالد الجهني قال صلى لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الصبح بالحديبية على اثر سماء كانت من الليل فلمّا انصرف اقبل على الناس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا اللّه و رسوله اعلم قال قال أصبح من عبادى مؤمن بي و كافر بي فامّا من قال مطرنا بفضل اللّه و رحمته فذلك مؤمن بي و كافر بالكواكب و اما من قال مطرنا بنؤ كذا و كذا فذلك كافر بي و مؤمن بالكواكب- متفق عليه و عن ابى هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ما انزل اللّه من السماء من بركة الا أصبح فريق من الناس بها كافرين ينزّل الغيث فيقولون بكوكب كذا و كذا- رواه مسلم و قد ذكر الامام محمد الغزالي رحمه اللّه فى كتابه المنقذ من الضلال ان علم الطب و النجوم انزلهما اللّه تعالى على بعض الأنبياء ثم بقي العلمان بايد الكفرة- و يدل على إفادة علم النجوم علما ظنيا (مثل الطب) اخبار المنجمين فرعون بولادة موسى و زوال ملكه على يديه- و روى البخاري فى الصحيح بسنده عن الزهري انه كان ابن الناطور (صاحب ايليا و هرقل) اسقفا على نصارى الشام «اسقف رئيس دين النصارى و عالمهم- منه ره» يحدث ان هرقل لما قدم ايليا أصبح يوما خبيث النفس فقال بعض بطارقته «هم خواص دولة الروم- منه ره» قد استنكرنا هيئتك (قال ابن الناطور و كان هرقل حزّاء «اى كاهنا- منه» ينظر «١» فى النجوم) فقال لهم حين سالوه انى رايت الليلة حين نظرت فى النجوم ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الامة قالوا ليس يختتن الا اليهود فلا يهمنك شأنهم و اكتب الى مدائن ملكك فليقتل من فيهم من اليهود فبينما هم على أمرهم اتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان بخبر عن خبر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فلمّا استخبره هرقل قال اذهبوا فانظروا ا مختتن هو أم لا فنظروا اليه فحدثوه انه مختتن و ساله عن العرب فقال هم يختتنون فقال هرقل ملك هذه الامة قد ظهر ثم كتب هرقل الى صاحب له برويته (١) ينظر فى النجوم ان جعل خبرا ثانيا فلا بعد لانه كان ينظر فى الامرين. و ان جعل تفسيرا للاول فالكهانة تارة يستند الى إلقاء الشياطين و تارة يستفاد من احكام النجوم ١٢ فتح الباري منه رحمه اللّه- [.....]. و كان نظيره فى العلم و سار هرقل الى حمص فلم يرم بحمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأى هرقل على خروج النبي صلى اللّه عليه و سلم و انه نبى. قال الشيخ ابن حجر رواية الزهري موصولة لابن الناطور لا معلقة قد بين ابو نعيم فى دلائل النبوة ان الزهري قال لقيت ابن الناطور بدمشق فى زمن عبد الملك بن مروان و أظنه لم يتحمل عنه ذلك الا بعد ان اسلم فان هذا الحديث و أمثاله يدل على إفادة علم النجوم نوعا من العلم لكن لما كان الاشتغال به موجبا لما ذكرنا من المفسدة و هو اسناد الحوادث الى الكواكب و كان اشتغاله اضاعة للاوقات لكونها غير نافعة فى الدين نهى النبي صلى اللّه عليه و سلم عن الاشتغال به و الظاهران الاشتغال بعلم النجوم كان جائزا فى دين عيسى عليه السلام و الا لم يشتغل به علماء النصارى و اللّه اعلم. و من زعم ان علم النجوم باطل لا اصل له قال ان هذا القول من ابراهيم كان إيهاما منه قال ابن عباس كان قومه يتعاطون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا لئلا ينكروها عليه. و ذلك انه أراد ان يكايدهم فى أصنامهم ليلزم الحجة عليهم فى انها غير مستحقة للعبادة و كان لهم من الغد عيد و مجمع فكانوا يدخلون على أصنامهم و يفرشون لهم الفراش و يضعون بين أيديهم الطعام قبل خروجهم الى عيدهم زعموا التبرك عليه فاذا انصرفوا من عيدهم أكلوه و قالوا لابراهيم تخرج غدا هنا الى عيدنا فنظر نظرة فى النّجوم. ٨٩ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) قال ابن عباس اى مطعون و كانوا يفرون من الطاعون و قال الحسن اى مريض و قال مقاتل وجع فى الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لم يكذب ابراهيم الا ثلاث كذبات ثنتين منه فى ذات اللّه قوله انّى سقيم و قوله بل فعله كبيرهم هذا الحديث. و ذكر الثالث قوله لسارة أختي و قد مر الحديث فى سورة الأنبياء و المراد بالكذبات التعريضات و التّورية قال الضحاك معناه ساسقم و قيل تأويله ان من فى عنقه الموت سقيم و منه ما قيل ان رجلا مات فجاءة فقالوا مات و هو صحيح فقال أعرابي ا صحيح من الموت فى عنقه و قيل أراد إنى سقيم النفس لكفركم و قد ذكرنا تأويلات قوله بل فعله كبيرهم فى سورة الأنبياء. ٩٠ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) الى عيدهم فدخل ابراهيم على الأصنام فكسرها كما قال اللّه تعالى. ٩١ فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ اى دخل عليها خفية من روغه الثعلب و أصله الميل بحيلة قال البغوي لا يقال راغ حتى يكون صاحبه مخفيا لذهابه و مجيئه فَقالَ ابراهيم استهزاء أَ لا تَأْكُلُونَ (٩١ ) الطعام الذي بين ايديكم. ٩٢ ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) بجوابى حال و العامل فيه معنى الفعل فى ما لكم اى ما تصنعون حال كونكم غير ناطقين. ٩٣ فَراغَ عَلَيْهِمْ اى مال عليهم مستخفيّا و التعدية بعلى للاستعلاء و لان المراد الميل المكروه ضَرْباً منصوب على المصدرية لان فى راغ معنى ضرب او بفعل محذوف اى فضرب ضربا بِالْيَمِينِ (٩٣) اى بيد اليمنى لانه أقوى من اليسار و قيل أراد به القسم الذي سبق منه و هو قوله تاللّه لاكيدنّ أصنامكم بعد ان تولّوا مدبرين-. ٩٤ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يعنى اقبل قوم ابراهيم اليه بعد ما رجعوا و راوا أصنامهم مكسورة و سالوا عن كاسرها بقولهم من فعل هذا بآلهتنا انّه لمن الظّالمين و ظنوا انه هو حيث قالوا سمعنا فتى يّذكرهم يقال له ابراهيم يَزِفُّونَ (٩٤) قرا الأعمش و حمزة بضم الياء و الباقون بفتحها قيل هما لغتان و المعنى يسرعون و قيل معنى يزفّون بالضم يحملون على الزفيف يعنى كان يحمل بعضهم بعضا على الاسراع. ٩٥ قالَ ابراهيم أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) اى ما تنحتونه عن الأصنام استفهام للانكار و التوبيخ. ٩٦ وَ اللّه خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ (٩٦) الجملة حال من فاعل تعبدون و التقيد بالحال انكار بعد الإنكار و الظاهر ان ما مصدرية يعنى و الحال ان اللّه خلقكم و خلق أعمالكم فما لكم تتركون عبادة الخالق و تؤثرون عبادة المحتاج إليكم فهذه الاية حجة لنا على ان افعال العباد مخلوقة للّه تعالى- و قالت المعتزلة ما موصولة و المعنى خلقكم و ما تعملونه يعنى الأصنام فان جوهرها بخلقه تعالى و شكلها و ان كان بفعلهم (و لذلك جعل من أعمالهم) فباقداره إياهم عليه و خلقه ما يتوقف عليه من الدواعي و العدد او مصدرية و المعنى عملكم بمعنى معمولكم ليطابق ما تنحتون- قلنا الوجه هو الاول لان الأخيرين يقتضى الحذف و المجاز و لا شك ان معمولهم ليس الا الشكل دون جوهر الأصنام و على التأويلين الأخيرين ايضا يثبت ان الشكل مخلوق للّه تعالى و معمول اى مكسوب للعباد و هو المقصود. ٩٧ قالُوا فيما بينهم لما عجزوا عن المحاجة ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) اى فى النار الشديدة التأجج كذا فى القاموس و اللام بدل الاضافة و الجملة معطوفة على جمل محذوفة معطوفة بعضها على بعض تقديره فاملئوه حطبا و اضربوه بالنار فاذا التهب القوه فى الجحيم قال مقاتل بنوا له حائطا من الحجر طوله فى السماء ثلاثون ذراعا و عرضه عشرون ذراعا و ملئوه من الحطب و اوقدوا فيها. ٩٨ فَأَرادُوا بِهِ اى بإبراهيم عليه السلام كَيْداً اى شرّا و هو ان يحرّقوه كيلا يظهر عجزهم للعامة فطرحوه فيها موثقا يداه و رجلاه فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) اى الأذلين بابطال كيدهم و جعله برهانا واضحا على علو شانه حيث جعل النار عليه بردا و سلاما و لم يحرق منه الا وثاقه و كان ذلك بأرض بابل في زمن نمرود الجبار .. ٩٩ وَ قالَ ابراهيم حين خرج من النار سالما و لم يؤمنوا به إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي يعنى اهجر دار الكفر و اذهب الى حيث اتجرد فيه بعبادة ربى سَيَهْدِينِ (٩٩) عطف على ما يفهم من قوله فجعلناهم الأسفلين يعنى خرج من النار سالما و قال انّى ذاهب الى ربّى سيهدين الى ما فيه صلاح دينى او الى مقصد قصدته حيث أمرني ربى و هو الشام و حينئذ فرّ ابراهيم هاربا مع سارة من ارض بابل من خوف نمرود و كانت سارة من أجمل نساء عصرها و مرّ بحدود مصر و فرعونها يومئذ صادف بن صادف و فى شرح البخاري لابن الملقن اسمه سنان بن علوان أخو الضحاك و قيل اسمه عمرو بن امرأ القيس فغصب سارة من ابراهيم فحمل صادف الجبار سارة الى قصره و جعل اللّه الجدر و الستور لابراهيم كقشر البيضة ينظر إليها كيلا يقيد قلبه إليها و كان رجلا غيورا- فلمّا همّ بها زلزل القصر فلم يدران ذلك من أجلها فتحول الى القصر الثاني فزلزل به فتحول الى القصر الثالث فزلزل به فقالت سارة هذا من الى ابراهيم رد اليه امرأته. و فى رواية فلمّا مدّيده إليها شلت يده فاستغاث صادف بسارة و طلب الدعاء فدعت سارة فعادت اليد كما كانت فمديده إليها ثانية فصارت مشلولة فطلب الدعاء منها ثانيا و عهد ان لا يفعل لهذا الفعل فدعت السارة فمد يده إليها ثالثة فشلت يده ثالثا و حلف ان عوفى ان لا يفعل ابدا فدعت سارة فصحت يده- و روى احمد فى مسنده و البخاري و مسلم عن ابى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم بينا هو ذات يوم و سارة إذ اتى على جبار من الجبابرة فقيل له ان هاهنا رجل معه امراة من احسن الناس فارسل اليه فساله عنها فقال من هذه قال أختي فاتى سارة فقال يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيرى و غيرك و ان هذا سالنى فاخبرته انك أختي فلا تكذبنى فارسل إليها فلمّا دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فاخذ فقال ادعى اللّه لى و لا اضرك فدعت اللّه فاطلق ثم تناولها ثانيا فاخذ مثلها او أشد فقال ادعى اللّه لى و لا اضرك فدعت اللّه فاطلق فدعا بعض حجبته فقال انك لم تأتينى بانسان انما أتيتني بشيطان فاخدمها هاجر فاتته و هو قائم يصلى فاومى بيده مهيم قالت رد اللّه كيد الفاجر فى نحره و أخدمني هاجر- و فى المواهب اللّدنية ان فى رواية صارت يد صادف مغلولة حين مدها الى سارة فاستغاث صادف بإبراهيم عليه السلام فدعا ابراهيم فاطلق اللّه يده فاعطاه هاجر أم إسماعيل عليه السلام و قال لا سبيل لى الى سارة بعد و كانت هاجر امينة و خازنة و جليسة و قال حين وهبها ما أجرك الخطاب لابراهيم ان وهبها له او لسارة ان وهبها لها فسميت هاجر من ذلك ثم وهبها ابراهيم لسارة طلبا لرضاها فلم يلد سارة قبل ولادة إسماعيل و ظنت بها العقم و قالت لابراهيم ان هاجر امراة مرغوبة فقد وهبتها لك لعله يكون لك منها ولد فوطيها فولدت إسماعيل . قلت و ذلك حين دعا ابراهيم ربه و قال. ١٠٠ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) اى هب لى ولدا كائنا من الصالحين قال مقاتل لما قدم الأرض المقدسة سال ربه الولد .. ١٠١ فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) يعنى ذا إناءة و عقل كذا فى القاموس يعنى إسماعيل عليه السلام و هو الصحيح و اليه ذهب ابن عمر و هو قول سعيد بن المسيب و الشعبي و الحسن البصري و مجاهد و الربيع بن انس و محمد بن كعب القرظي و الكلبي و هو رواية عن عطاء بن ابى رباح و يوسف بن مامك عن ابن عباس قال المفدى إسماعيل- و اخرج الواقدي و ابن عساكر من طريق عامر بن سعيد عن أبيه انه كانت سارة تحت ابراهيم فمكثت عنده دهرا لا يرزق ولدا فلمّا رات ذلك وهبت له هاجر امة قبطية فولدت له إسماعيل فغارت من ذلك سارة و قد ذكرنا القصة فى سورة ابراهيم ثم جاء ابراهيم بها و بإسماعيل بمكة و هى ترضعه حتى وضعهما عند البيت كذا فى البخاري و ذكرنا حديث البخاري ايضا فى سورة ابراهيم- و قالت اليهود و النصارى الغلام الذي امر ابراهيم بذبحه هو إسحاق و هذا كذب منهم قال البغوي قال محمد بن كعب القرظي سال عمر بن عبد العزيز رجلا من علماء اليهود (و حسن إسلامه) اىّ ابني ابراهيم امر بذبحه فقال إسماعيل ثم قال يا امير المؤمنين ان اليهود يعلم ذلك و لكنهم يحسدون كم يا معشر العرب على ان يكون أباكم الذي كان من امر اللّه بذبحه و يزعمون انه إسحاق بن ابراهيم و من الدليل عليه ان قرنى الكبش كانا منوطين فى الكعبة فى يدى بنى إسماعيل الى ان احترقت البيت و احترق القرنان فى ايام ابن الزبير و الحجاج- اخرج سعيد بن منصور و البيهقي فى سننه عن امراة من بنى سليم عن عثمان بن طلحة انه كان قرنا الكبش معلقين بالكعبة و قال البغوي قال الشعبي رايت قرنى الكبش منوطين بالكعبة و قال ابن عباس و الذي نفسى بيده لقد كان أول الإسلام و ان رأس الكبش تعلق بقرنيه و ميزاب الكعبة قد وحش يعنى يبس- قال الأصمعي سالت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح إسماعيل او إسحاق قال يا اصمع اين ذهب عقلك متى كان إسحاق بمكة انما كان إسماعيل و هو الذي بنى البيت مع أبيه قال البغوي و كلا القولين يروى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قلت و قول البغوي هذا كناية عن انه لم يثبت عن النبي صلى اللّه عليه و سلم فى الباب شى ء إذ لو صح أحدهما لم يعتد بقول اخر- و ما ذكر البغوي انه ذهب من الصحابة عمر و على و ابن مسعود و ابن عباس و من التابعين و اتباعهم كعب الأحبار و سعيد بن جبير و قتادة و مسروق و عكرمة و عطاء و مقاتل و الزهري و السدى و هو رواية عكرمة و سعيد بن جبير عن ابن عباس الى انه إسحاق- و قال سعيد بن جبير ارى ابراهيم ذبح إسحاق بالشام فساربه مسيرة شهر فى غدوة واحدة حتى اتى به المنحر بمنى فلمّا امره اللّه بذبح الكبش و ذبحه ساربه مسيرة شهر فى روحة واحدة فطويت له الاودية و الجبال- فلعل من قال منهم هذا القول اعتمد على اخبار اليهود و اللّه اعلم- و الدليل على كون إسماعيل مامورا بذبحه انه هو المولود اولا بعد الهجرة الى الشام اجماعا و قد عطف اللّه قوله فبشّرناه بغلام حليم على قوله و قال انّى ذاهب الى ربّى سيهدين بالفاء لموضوع للتعقيب بلا تراخ و اما إسحاق فقد ولد بعد ذلك بتراخ و المأمور بذبحه انما هو ذلك المبشر به لمّا بلغ معه السعى و لان البشارة بإسحاق بعد ذلك معطوفة على البشارة بهذا الغلام فهو غير ذلك دليل واضح على انه غيره لا يقال ان البشارة التي بعد ذلك المعطوفة انما هى بشارة بنبوة إسحاق لا بولادته كما قيل بشر ابراهيم بإسحاق مرتين مرة بولادته و مرة بنبوته لانه خلاف ظاهر الاية فان اللّه تعالى قال و بشّرناه بإسحاق نبيّا من الصّالحين يعنى بشرناه بنفس إسحاق حال كونه مقضيا بالنبوة و الصلاح و لم يقل بشرناه بنبوة إسحاق و صلاحه و الصرف عن الظاهر لا يجوز بلا ضرورة. و لان سارة لمّا بشرت بإسحاق بشرت معه بيعقوب ولدا منه حبث قال اللّه تعالى فبشّرناها بإسحاق و من وراء اسحق يعقوب فلا يتصور الأمر بذبحه مراهقا قبل ولادة يعقوب .. ١٠٢ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ عطف على جملة محذوفة تقديره فولد له الغلام فلمّا بلغ معه السّعى اى بلغ ان يسعى معه فى اعماله و يعينه و قال الكلبي يعنى العمل للّه و هو قول الحسن و مقاتل بن حبان و ابن زيد قالوا هو العبادة و قال ابن عباس و قتادة لما بلغ ان يسعى الى الجبل معه و قال مجاهد عن ابن عباس يعنى انه شبّ حتى بلغ سعيه سعى ابراهيم قيل كان سنه ثلاث عشرة سنة و قيل سبع سنين- و الظرف اعنى معه متعلق بمحذوف دل عليه السعى لا به لان صلة المصدر لا يتقدمه و لا ببلغ فان بلوغهما لم يكن معا كانّه قال فلمّا بلغ السعى فقيل مع من فقيل معه كذا قيل و الاولى ان يقال انه ظرف مستقر حال من السعى قالَ يا بُنَيَّ قرأ حفص بفتح الياء إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ يحتمل انه راى ذلك و يحتمل انه راى ما هو تعبيره قال محمد بن إسحاق كان ابراهيم إذا زاد هاجر و إسماعيل حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة و يروح من مكة فيبيت بالشام حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعى و أخذ بنفسه و رجاه لما كان يأمل فيه من عبادة ربه و تعظيم حرماته امر فى المنام ان يذبحه و ذلك انه راى ليلة التروية كانّ قائلا يقول له ان اللّه يأمرك بذبح ابنك هذا فلمّا أصبح روى فى نفسه اى فكر من الصباح الى الرواح أمن اللّه هذا الحلم أم من الشيطان فمن ثم سمى يوم التروية فلما امسى راى فى المنام ثانيا فلما أصبح عرف ان ذلك من اللّه فمن ثم سمى عرفة كذا اخرج البيهقي فى شعب الايمان من طريق الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس قال ابن إسحاق و غيره فلمّا امر ابراهيم بذبح ابنه قال لابنه خذ الحبل و المدينة ينطلق الى هذا الشعب نحتطب فلمّا خلا ابراهيم بابنه فى شعب ثبير أخبره بما امر به قال مقاتل راى فى المنام ثلاث ليال متتابعات فلما تيقن ذلك اخبر به ابنه انّى ارى فى المنام انّى أذبحك- و قال السدىّ لمّا دعا ابراهيم فقال ربّ هب لى من الصّالحين و بشر به قال هو إذا للّه ذبيح فلمّا ولد و بلغ معه السّعى قيل له يعنى من اللّه أوف بنذرك هذا هو السبب فى امر اللّه بذبح ابنه. و هذا القول ينافى الابتلاء قال البغوي انه قال ابراهيم لاسماعيل انطلق نقرب قربانا للّه عزّ و جلّ فاخذ سكينا و حبلا فانطلق معه حتى ذهب به بين الجبال فقال الغلام يا أبت اين قربانك قال يا بنىّ انّى ارى فى المنام انّى أذبحك قرا نافع و ابن كثير و ابو عمرو «و ابو جعفر- ابو محمد» بفتح ياء المتكلم فى انّى ارى و انّى أذبحك و الباقون بإسكانها فيهما فَانْظُرْ ما ذا تَرى قرأ حمزة و الكسائي «و خلف- ابو محمد» بضم التاء و كسر الراء من الافعال من الرأى لا من الرؤية اى ما ذا تشير و انما استشاره ليعلم صبره على امر اللّه و عزيمته على طاعته و الباقون بفتح التاء و الراء و ابو عمرو «و ورش يقللّه- ابو محمد» يميل فتحة الراء قالَ إسماعيل يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ اى ما تؤمر به فحذفا دفعة او على الترتيب او افعل أمرك اى مأمورك و الاضافة الى المأمور و هذا يدل على ان روياء الأنبياء وحي واجب الامتثال و قد روى عبد بن حميد عن قتادة ان رؤيا الأنبياء وحي و روى البخاري فى الصحيح عن ابى سعيد الخدري و مسلم عن ابن عمرو ابى هريرة و احمد و ابن ماجة عن ابى رزين و الطبراني عن ابن مسعود مرفوعا الرؤيا الصالحة جزء من ستة و أربعين جزءا من النبوة- و لا شك ان رؤيا الأنبياء كلما صالحة لا يحتمل الفساد و اما رؤيا غيرهم فمنها صالحة و منها دون ذلك سَتَجِدُنِي قرأ نافع «و ابو جعفر- ابو محمد» بفتح الياء و الباقون بإسكانها إِنْ شاءَ اللّه مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) على الذبح .. ١٠٣ فَلَمَّا أَسْلَما اى استسلما و انقادا و خضعا لامر اللّه و قال قتادة اى اسلم ابراهيم ابنه و اسلم ابنه نفسه وَ تَلَّهُ اى صرعه على الأرض لِلْجَبِينِ (١٠٣) قال ابن عباس أضجعه على جنبه على الأرض و الجبهة بين الجنبين و كان ذلك عند الصخرة بمنى أخرجه عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و الحاكم عن ابن عباس و اخرج البغوي عن عطاء بن السائب عن رجل من قريش عن أبيه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه بالمنحر الذي ينحر فيه اليوم- قال البغوي قالوا قال له ابنه يا أبت اشدد رباطى حتى لا اضطرب و اكفف عنّى ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمى شى ء فينقص اجرى و تراه أمي فتحزن و استحد شفرتك و اسرع مر السكين على حلقى ليكون أهون علىّ فان الموت شديد و إذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام منى و ان رايت ان ترد قميصى على أمي فافعل فانه عسى ان يكون اسلى لها قال ابراهيم عليهما السلام نعم العون أنت يا نبى على امر اللّه ففعل ابراهيم ما قال له ابنه ثم اقبل عليه و قبله و ربطه و هو يبكى ثم انه وضع السكين على حلقه فلم يحك السكين و روى انه كان يمرّ الشفرة على حلقه و لا يقطع فشحذه مرتين او ثلاثا بالحجر كل ذلك لا يقطع- اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم عن السدىّ انه امرّ السكين بقوّته على حلقه مرارا فلم يقطع و ضرب اللّه على حلقه صفحة من نحاس قالوا فقال الابن عند ذلك يا أبت كبنى بوجهي على جنبى فانك إذا نظرت فى وجهى رحمتنى و أدركتك رقة تحول بينك و بين امر اللّه و انى لا انظر الى الشفرة فاجزع ففعل ذلك ابراهيم ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين- و اخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن ابى حاتم عن ابن عباس و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم عن مجاهد ايضا ان ابراهيم كبّه على وجهه- و روى ابو هريرة عن كعب الأحبار و ابن إسحاق عن رجاله لمّا أراد ابراهيم ذبح ابنه قال الشيطان لان لم افتن عند هذا ال ابراهيم لا افتن منهم أحدا ابدا فتمثل الشيطان رجلا فاتى أم الغلام فقال لها هل تدرين اين ذهب ابراهيم بابنك قالت ذهبا يحتطبان من هذا الشعب قال لا و اللّه ما ذهب به الا ليذبحه قالت لا هو ارحم به و أشد حبا له من ذلك قال انه يزعم ان اللّه امره بذلك قالت فان كان ربه امره بذلك فقد احسن ان يطيع ربه فخرج الشيطان من عندها حتى أدرك الابن و هو يمشى على اثر أبيه فقال يا غلام هل تدرى اين يذهب بك أبوك قال نحتطب لاهلنا من هذا الشعب قال لا و اللّه ما يريد الا ان يذبحك قال و لم قال يزعم ان ربه امره بذلك قال فليفعل ما امر به ربّه سمعا و طاعة فلما امتنع منه الغلام اقبل على ابراهيم فقال له اين تريد ايها الشيخ قال أريد هذا الشعب لحاجة لما فيه قال و اللّه انى لارى ان الشيطان قد جاءك فى منامك فامرك بذبح ابنك هذا فعرفه ابراهيم فقال إليك عنى يا عدو اللّه فو اللّه لامضينّ لامر ربى فرجع إبليس بغيظه و لم يصب من ابراهيم و اله شيئا ممّا أراد و امتنعوا منه بعون اللّه عزّ و جلّ و روى ابو الطفيل عن ابن عباس ان ابراهيم لما امر بذبح ابنه عرض له الشيطان بهذا المشعر سابقة فسبقه ابراهيم ثم ذهب الجمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم أدركه عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم ادكه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم مضى ابراهيم لامر اللّه عزّ و جلّ و ثلّه للجبين-. ١٠٤ وَ نادَيْناهُ قال البغوي الواو زائدة و نادينه جواب لمّا و قال البيضاوي جواب لمّا محذوف تقديره كان ما كان فما ينطق به الحال و لا يحيط به المقال من استبشارهما و شكرهما للّه تعالى على ما أنعم عليهما من دفع البلاء بعد حلوله و التوفيق بما لم يوفق غيرهما لمثله و اظهار فضلهما به على العالمين مع إحراز الثواب الجزيل الى غير ذلك قلت و جاز ان يكون الواو للعطف على جواب لمّا المحذوف تقديره فلمّا أسلما و تلّه للجبين منعنا عنه الذبح و ناديناه أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) ان مفسرة لنا دينا. ١٠٥ قَدْ صَدَّقْتَ ال رُّؤْيا حيث أتيت من الفعل ما كان مقدورا لك و المطلوب من التكليف و الابتلاء هو الإتيان بالمقدور لا غير و قيل كان راى فى المنام معالجة الذبح و لم ير اراقة الدم و قد فعل فى اليقظة ما راى فى النوم و على هذا قد صدّقت الرّؤيا حقيقة فى معناه و على الاول مجاز فان قيل على التقدير الثالث الم يكن ذبح الولد عليه واجبا و انما كان الواجب عليه معالجة اسباب الذبح فما معنى قوله و فديناه فان الفداء لا يتصور الا بعد الوجوب قلنا على التقدير الثاني إذا كان معالجة الذبح واجبا أصالة صار الذبح واجبا دلالة لكونه لازما له عادة فصح اطلاق الفداء عليه و هذا نسخ للحكم قبل القدرة على إتيانه إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) تعليل لفرج تلك الشدة عنهما باحسانهما يعنى انا نجزى المحسنين بإحسانهم جزاء مثل ما جزينا ابراهيم و عفوناه عن ذبح الولد مع ما أعطيناه من الثواب العظيم و فضلناه به على العالمين. ١٠٦ إِنَّ هذا اى الأمر بتذبيح ابنه لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) اى الاختبار الظاهر الذي به يتبين المخلص من غيره او المحنة و الصعوبة البينة فانه لا أصعب منها و قيل المراد بالبلاء هو النعمة و هى ان فدى ابنه بالكبش-. ١٠٧ وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عطف على نادينا روى انه لمّا سمع ابراهيم النداء نظر الى السماء فاذا هو بجبرئيل و معه كبش أملح اقرن و قال هذا فداء لابنك فاذبحه دونه فكبر جبرئيل و كبر الكبش و كبر ابراهيم و كبر ابنه فاخذ ابراهيم الكبش و اتى المنحر من منى فذبحه و الفادي على الحقيقة ابراهيم و انما قال و فديناه لانه المعطى له و الأمر به على التجوز فى الفداء او الاسناد عَظِيمٍ (١٠٧) اى عظيم الجثة سمين او عظيم القدر فى الثواب و قال الحسين بن الفضل لانه كان من عند اللّه قال سعيد بن جبير حق له ان يكون عظيما و قال مجاهد سماه عظيما لانه متقبل- قال البغوي قال اكثر المفسرين كان ذلك فى الجنة أربعين خريفا و أخرجه ابن ابى شيبة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و روى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ان الكبش الذي ذبحه ابراهيم هو الذي كان قربه ابن آدم هابيل- استدل الحنفية بهذه الاية على انه من نذر بذبح ولده لزمه ذبح شاة قال البيضاوي و ليس فيها ما يدل عليه قلت قد ذكرنا المسألة فى سورة الحج فى تفسير قوله تعالى و ليوفوا نذورهم «١» و ذكرنا ان القياس يقتضى ان لا يلزمه شى ء لانه نذر بالمعصية و به قال ابو يوسف لكن استحسن ابو حنيفة انه يلزمه شاة لان الحقيقة إذا كانت مهجورة شرعا تعين المجاز فلما نذر بذبح الولد مملناه على التزامه بدله اعنى الشاة بدليل هذه الاية حيث جعل اللّه تعالى كبشا فداء لابن ابراهيم عليهما السلام و به افتى ابن عباس كما ذكرنا هناك. (١) و فى الأصل نذوركم ١٢. ١٠٨ وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ اى على ابراهيم عطف على صدر القصة يعنى جاء ربّه بقلب سليم و جاز ان يكون عطفا على فديناه فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) من الأمم الثناء و الذكر حذف المفعول لدلالة سياق الكلام و جاز ان يكون قوله. ١٠٩ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) بتقدير هذا القول مفعولا لتركنا. ١١٠ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) تعليل للسلام و لعله طرح عنه انا اكتفاء بذكره مرة فى هذه القصة. ١١١ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) ١١٢ وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ اى بان نهب لك و لذلك سمى إسحاق نَبِيًّا اى مقضيا نبوته مقدرا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) و بهذا الاعتبار وقعا حالين و لا يقدح فيه عدم المبشر به وقت البشارة فان وجود ذى الحال ليس بشرط بل الشرط مقارنة تعلق الفعل به لاعتبار المعنى بالحال فلا حاجة الى تقدير المضاف يجعل عاملا فيهما مثل و بشّرناه بوجود إسحاق اى بان يوجد إسحاق نبيّا من الصالحين و مع ذلك لا يصير نظير قوله تعالى فادخلوها خالدين فان الداخلين مقدرون خلودهم وقت الدخول و إسحاق لم يكن مقدّرا نبوة نفسه و صلاحه حيث ما يوجد- و فى ذكر الصلاح بعد النبوة ثناء عليه و تعظيم لشأنه و ايماء بانه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال و التكميل بالفعل على الإطلاق. ١١٣ وَ بارَكْنا عَلَيْهِ اى أفضنا بركات الدين و الدنيا عليه و قيل باركنا اى على ابراهيم فى أولاده وَ عَلى إِسْحاقَ بكون الف بنى من نسله أولهم يعقوب و آخرهم عيسى وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ فى عمله او على نفسه بالايمان و الطاعة وَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالكفر و المعاصي مُبِينٌ (١١٣) ظاهر ظلمه و فى ذلك تنبيه على ان النسب لا اثر له فى الهدى و الضلال و ان الظلم فى اعقابهما لا يضرهما-. ١١٤ وَ لَقَدْ مَنَنَّا أنعمنا بالنبوة و غيرها من المنافع الدينية و الدنيوية عَلى مُوسى وَ هارُونَ (١١٤) عطف على و لقد نادينا نوح و بينهما معترضات. ١١٥ وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما بنى إسرائيل مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) اى من فرعون يسومهم سوء العذاب و قيل من الغرق. ١١٦ وَ نَصَرْناهُمْ يعنى موسى و قومه فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) على فرعون و قومه. ١١٧ وَ آتَيْناهُمَا الْكِتابَ اى التوراة الْمُسْتَبِينَ (١١٧) البالغ فى بيان احكام اللّه و شرائعه. ١١٨ وَ هَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) الطريق الموصل الى الحق و الصواب لمن يسلكه. ١١٩ وَ تَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) ١٢٠ سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ (١٢٠) ١٢١ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) ١٢٢ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) سبق مثل ذلك-. ١٢٣ وَ إِنَّ إِلْياسَ قرأ ابن ذكوان برواية النقاش عن الأخفش بحذف الهمزة و الباقون بتحقيقها لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) عطف على و لقد مننّا روى عن عبد اللّه ابن مسعود قال الياس هو الادريس و فى مصحفه انّ إدريس لمن المرسلين و هذا قول عكرمة و قال الآخرون هو نبى من أنبياء بنى إسرائيل قال ابن عباس هو ابن عم اليسع و قال محمد بن إسحاق هو الياس بن بشر بن فنحاص بن عيزار بن هارون بن عمران عليه السلام و قال ايضا محمد بن إسحاق و العلماء من اصحاب الاخبار لمّا قبض اللّه عزّ و جلّ قبله نبيّا عظمت الأحداث فى بنى إسرائيل و ظهر الشرك و نصبوا الأوثان و عبدوها من دون اللّه فبعث اللّه إليهم الياس نبيّا و كانت الأنبياء من بنى إسرائيل يبعثون بعد موسى بتجديد ما نسوا من التوراة- و بنوا إسرائيل كانوا متفرقين فى ارض الشام و كان سبب ذلك ان يوشع بن نون لمّا فتح الشام بوأها بنى إسرائيل و قسمها بينهم فاحل سبطا منهم بعلبك و نواحيها و هم الذين كان منهم الياس فبعثه اللّه إليهم نبيّا و عليهم يومئذ ملك يقال له أجب فداخل قومه و اجبرهم على عبادة الأصنام و كان يعبد صنما يقال له بعل و كان طوله عشرون ذراعا و لها اربعة وجوه- فجعل الياس يدعوهم الى عبادة اللّه عزّ و جلّ و هم لا يسمعون منه شيئا الا ما كان من امر الملك فانه صدقه و أمن به فكان الياس يقوّم امره و يسدّده و يرشده- و كانت لاجب امراة يقال لها ازبيل فكان يستخلفها على رعيته إذا كان غائبا فى غزاة و غيرها و كانت تبرز و تقضى للناس و كانت قتّالة للانبياء يقال هى التي قتل يحيى بن زكريا عليهما السلام- و كان لها كاتب رجل مؤمن حكيم يكتم إيمانه و كان قد خلص من يدها ثلاث مائة نبى كانت تريد قتل كل واحد منهم إذا بعث سوى الذين قتلتهم و كانت فى نفسها غير محصنة و كانت قد تزوجت سبعة من ملوك بنى إسرائيل و قتلت كلهم بالاغتيال و كانت معمرة يقال انها ولدت سبعين ولدا و كان لاجب هذا جار رجل صالح يقال له مزدكى و كانت له جنينة يعيش منها و يقبل على عمارتها و مرمتها و كانت الجنينة الى جانب قصر الملك و امرأته و كانا يشرفان على تلك الجنينة يتنزهان فيها و يأكلان و يشربان و يغسلان فيها و كان أجب الملك يحسن جوار صاحبه مزدكى و يحسن اليه و امرأته ازبيل تحسده لاجل تلك الجنينة و تحتال ان تغصبها منه لما تسمع الناس يكثرون ذكرها و يتعجبون من حسنها و تحتال ان تقتله و الملك ينهاها من ذلك فلم تجد اليه سبيلا- ثم انه اتفق خروج الملك الى سفر بعيد فطالت غيبته فاغتنمت امرأته ازبيل و أمرت رجالا يشهدوا على مزدكى انه سبّ زوجها أجب فاجابوها اليه و كان فى حكمهم فى ذلك الزمان القتل على من سب الملك فاقامت عليه البينة و أحضرت مزدكى و قالت بلغني انك شتمت الملك فانكر المزدكى و أحضرت الشهود فشهدوا عليه بالزور فامرت بقتله و أخذت جنينته فغضب اللّه عزّ و جلّ عليهم للعبد الصالح فلمّا قدم الملك من سفره أخبرته الخبر فقال ما أحسنت و لا أرانا نفلح بعده فقد جاورنا منذ زمان و احسنّا جواره و كففنا عنه الأذى لوجوب حقه علينا فختمت امره بأسوإ الجوار قالت انما غضبت لك و حكمت بحكمك فقال لها ما كان يسعه حلمك فتحفظين له حواره قالت قد كانت ما كانت- فبعث اللّه الياس الى أجب الملك و قومه فامره ان يخبرهم ان اللّه قد غضب لوليه حين قتلوه ظلما و الى على نفسه انهما ان لم يتوبا عن صنيعهما و لم يردا الجنينة الى ورثة المزدكى ان يهلكهما يعنى أجب و امرأته فى جوف الجنينة ثم يدعهما جيفتين ملقاتين فيها حتى يتعرى عظامهما من لحومهما و لا يتمتعان بهما الا قليلا قال فجاء الياس فاخبره بما اوحى اللّه اليه فى امره و امر امرأته برد الجنينة فلمّا سمع الملك ذلك اشتد غضبه عليه ثم قال له يا الياس ما ارى ما تدعو اليه الا باطلا و ما ارى فلانا و فلانا (سمى ملوكا منهم) قد عبدوا الأوثان الا على مثل ما نحن عليه يأكلون و يتنعمون مملكين ما ينقص من دنياهم أمرهم الذي تزعم انه باطل و ما نرى لنا عليهم من فضل- قال و همَّ الملك بتعذيب الياس و قتله فلما احسّ الياس الشرّ رفضه و خرج عنه و لحق بشواهق الجبال و عاد الملك الى عبادة البعل و ارتقى الياس الى أصعب جبل و أشمخه «الشامخ العالي- منه ره» فدخل مغارة فيه يقال انه بقي سبع سنين شريدا خائفا يأوى الى الشعاب و الكهوف يأكل من نبات الأرض و ثمار الشجر و هم فى طلبه و قد وضعوا عليه العيون و اللّه يستره- فلمّا تم سبع سنين اذن اللّه فى إظهاره و شفاء غيظه منهم فامرض اللّه عزّ و جلّ ابنا لاجب و كان ذلك أحب ولده اليه و أشبههم به فادنف «يعنى مرض شديدا لازما- منه ره» حتى يئس منه فدعا صنمه بعلا و كانوا قد فتنوا ببعل و عظموه حتى جعلوا له اربع مائة سادن فوكلوهم به و جعلوهم أنبياء و كان الشيطان يدخل فى جوف الصنم فيتكلم و الأربع مائة يصغون بآذانهم الى ما يقول الشيطان و يوسوس إليهم الشيطان بشريعة من الضلال فيبينونها للناس فيعلمون بها و يسمونهم أنبياء- فلما اشتد مرض ابن الملك طلب إليهم الملك ان يتشفعوا الى بعل و يطلبوا لابنه من قبله الشفاء فدعوه فلم يجبهم و منع اللّه الشيطان فلم يمكنه الولوج فى جوفه و هم مجتهدون فى التضرع اليه- فلمّا طال عليهم ذلك قالوا لاجب ان فى ناحية الشام الهة اخرى فابعث إليها أنبياءك فلعلها تشفع لك الى إلهك بعل فانه غضبان عليك و لو لا غضبه عليك لاجابك قال و من أجل ماذا غضب علىّ و انا أطيعه قالوا من أجل انك لم تقتل الياس و فرطتّ فيه حتى نجا سليما و هو كافر بإلهك قال أجب و كيف لى ان اقتل الياس و انا مشغول عن طلبه لوجع ابني و ليس لالياس مطلب و لا يعرف له موضع فيقصد فلو عوفى ابني لفرغت لطلبه حتى أجده فاقتله فارضى الهى- ثم انه بعث أنبياءه الأربع مائة الى الالهة التي بالشام يسئلونها ان تشفع الى صنم الملك يشفى ابنه فانطلقوا حتى إذا كانوا بحيال الجبل الذي فيه اليأس اوحى اللّه اليه ان يهبط من الجبل و يعارضهم و يكلمهم و قال له لا تخف فانى ساصرف عنك شرهم و القى الرعب فى قلوبهم فنزل الياس من الجبل فلما لقيهم استوقفهم فلما وقفوا قال لهم ان اللّه عزّ و جلّ أرسلني إليكم و الى من ورائكم فاستمعوا ايها القوم رسالة ربكم لتبلغوا صاحبكم فارجعوا اليه و قولوا ان اللّه يقول الست تعلم يا أجب انى انا اللّه لا اله الا انا اله بنى إسرائيل الذي خلقهم و رزقهم و أحياهم و أماتهم و قلة عملك حملك على ان تشرك بي و تطلب الشفاء لابنك من غيرى ممن لا يملكون لانفسهم شيئا الا ما شئت انى حلفت باسمي لاغضبنك فى ابنك و لاميتنه فى فوره غدا حتى تعلم ان أحدا لا يملك له شيئا دونى فلمّا قال لهم هذا رجعوا و قد ملئوا منه رعبا- فلما صاروا الى الملك اخبروه بان الياس قد انحط عليهم و هو رجل نحيف طوال قد نحل و تمعط شعره و اقشعر جلده عليه جبة من شعر و عباءة قد خللّها على صدره «نحل جسمه نحولا ذهب من مرض او سفر قاموس منه ره» بخلال فاستوقفنا فلمّا صار معنا قذف له فى قلوبنا الهيبة و الرعب و انقطعت ألسنتنا و نحن فى هذا العدد الكثير فلم نقدر ان نكلمه و نراجعه حتى رجعنا إليك و قصوا عليه كلام الياس- فقال أجب لاننتفع بالحياة ما كان الياس حيّا و لا يطاق الا بالمكر و الخديعة فقيض له خمسين رجلا من قومه ذوى القوة و البأس و عهد إليهم عهده و أمرهم بالاحتيال له و الاغتيال «القتل بالخديعة- منه ره» له و ان يطمعوه فى انهم قد أمنوا به هم و من وراء هم ليستنيم إليهم و «اى يسكن و إليهم يطمئن قاموس منه ره» يغتر بهم فيمكنهم من نفسه فيأتون به ملكهم فانطلقوا حتى ارتفعوا ذلك الجبل الذي يسكن فيه الياس ثم تفرقوا فيه ينادونه بأعلى أصواتهم و يقولون يا نبى اللّه ابرز إلينا و امتن علينا بنفسك فانا قد أمنا بك و صدقناك و ملكنا أجب و جميع الناس و أنت أمن على نفسك و جميع بنى إسرائيل يقرءون عليك السلام و يقولون قد بلغتنا رسالتك و عرفنا ما قلت فامنّا بك و أجبناك الى ما دعوتنا فهلم إلينا فاقم بين أظهرنا و احكم فينا فننقاد لما امرتنا و ننتهى عما نهيتنا و ليس يسعك ان تتخلف عنا مع أيماننا بك و طاعتنا فارجع إلينا- و كل هذا منهم مما كرة و خديعة فلمّا سمع الياس مقالتهم وقع فى قلبه و طمع فى ايمانهم و خاف اللّه ان هو لم يظهر لهم فالهمه اللّه التوقف و الدعاء فقال اللّهم ان كانوا صادقين فيما يقولون فأذن لى فى البروز إليهم و ان كانوا كاذبين فاكفنيهم و ارمهم بنار تحرقهم فما استتم قوله حتى حصبوا بالنار «اى رموا بها- منه ره» من فوقهم فاحترقوا أجمعين قال فبلغ أجب و قومه الخبر فلم يرتدع من همه بالسوء «اى لم يكف و لم يرد- منه ره» و احتال ثانيا فى امر الياس و قيض اليه فئة اخرى مثل عددهم أولئك أقوى منهم و أمكن فى الحيلة و الرأى فاقبلوا حتى توقلوا «اى صعدوا» قلل الجبال متفرقين و جعلوا ينادون يا نبى اللّه انّا نعوذ باللّه بك من غضب اللّه و سطواته «السطوة البطش و القهر قاموس منه ره» انا لسنا كالذين أتوك قبلنا و ان أولئك فرقة نافقوا فصاروا إليك ليكيدوا من غير رأينا و لو علمنا بهم لقتلناهم و لكفيناك مؤنتهم فالان قد كفاك ربك أمرهم و اهلكهم و انتقم لنا و لك منهم- فلمّا سمع الياس مقالتهم دعى اللّه بدعوته الاولى فامطر عليهم النار فاحترقوا عن آخرهم و فى كل ذلك ابن الملك فى البلاء الشديد من وجعه- فلمّا سمع الملك بهلاك أصحابه ثانيا ازداد غضبا الى غضب و أراد ان يخرج الى طلب الياس بنفسه الا انه شغله من ذلك مرض ابنه فلم يمكنه فوجه نحو الياس المؤمن الذي هو كاتب امرأته رجاء ان يأنس به الياس فينزل معه و اظهر للكاتب انه لا يريد بالياس سوء او انما اظهر له لما اطلع عليه من إيمانه و كان الملك مع اطلاعه على إيمانه مثنيا عليه لما هو عليه من الكفاية و الامانة و سداد الرأى- فلمّا وجهه نحوه أرسل معه فئة و اوغر «من التوغير اى الإغراء بالحقد- منه ره» الى الفئة دون الكاتب ان يوثقوا الياس و يأتوه به ان أراد التخلف عنهم و ان جاء مع الكاتب واثقا به لم يروّعوه «الروع الفزع- منه ره» ثم اظهر مع الكاتب الانابة و قد قال له انه قد ان لى و قد أصابتنا بلايا من حريق أصحابنا و البلاء الذي فيه ابني و قد عرفت ان ذلك بدعوة الياس و لست أمنا ان يدعو على جميع من بقي منا فنهلك بدعوته فانطلق اليه و أخبره انا قد تبنا و أنبنا و انه لا يصلحنا فى توبتنا و ما نريد من رضاء ربنا و خلع أصنامنا الا ان يكون الياس بين أظهرنا يأمرنا و ينهانا و يخبرنا بما يرضى ربنا- و امر قومه فاعتزلوا و قالوا له اخبر الياس انا قد خلعنا الهتنا التي كنا نعبد و ارخينا أمرها حتى ينزل الياس فيكون هو الذي يحرقها و يهلكها و كان ذلك مكرا من الملك- فانطلق الكاتب و الفئة حتى علا الجبل الذي فيه الياس ثم ناداه فعرف الياس صوته فتاقت نفسه اليه «اى اشتاقت منه ره» و كان مشتاقا الى لقائه فاوحى اللّه اليه ان ابرز الى أخيك الصالح فالقه و جدد العهد به فبرز اليه و سلم عليه و صافحه فقال له ما لخبر فقال له المؤمن انه قد بعثني إليك هذا الجبار الطاغي و قومه ثم قص عليه ما قالوا ثم قال له و انى خائف ان رجعت اليه و لست معى ان يقتلنى فمرنى بما شئت افعله ان شئت انقطعت إليك و كنت معك و تركته و ان شئت جاهدته معك و ان شئت ترسلنى اليه بما تحبّ فابلّغه رسالتك و ان شئت دعوت ربّك ان يجعل لنا من أمرنا خرجا و مخرجا- فاوحى اللّه الى الياس ان كل شى ء جاءك منهم مكر و خديعة و كذب ليظفروا بك و انّ أجب الملك ان أخبرته رسله انك لقد لفيت لهذا الرجل و لم يأت بك اتهمه و عرف انه قد واهن فى أمرك فلم يؤمن ان يقتله فانطلق معه و انى ساشغل عنكما أجب فاضاعف على ابنه البلاء حتى لا يكون له هم غيره ثم أميته على شر حال فاذا مات هو فارجع منه قال فانطلق معهم حتى قدموا على أجب فلما قدموا شدّد اللّه الوجع على ابنه و أخذ الموت بكظمه «الكظم محركة الحلق او الضم او مخرج النفس- قاموس منه ره» فشغل اللّه بذلك أجب و أصحابه عن الياس فرجع الياس سالما الى مكانه- فلمّا مات ابن أجب و فرغوا من امره و قلّ جزعه انتبه لالياس و سال عنه الكاتب الذي جاء به فقال ليس لى به شغلنى عنه موت ابنك و الجزع عليه و لم أكن أحسبك الا و قد استوثقت منه فاضرب عنه أجب و تركه لما فيه من الحزن على ابنه. فلمّا طال الأمر على الياس و مد الكون فى الجبال و اشتاق الى الناس نزل من الجبل و انطلق حتى نزل بامراة من بنى إسرائيل و هى أم يونس بن متى ذى النون استخفى عندها ستة أشهر و يونس بن متى يومئذ مولود مرضع فكانت أم يونس تخدمه بنفسها و تواسيه بذات يدها «اى تخدمه بما لها- منه ره»- ثم ان الياس سئم ضيق البيوت بعد تعوده فسحة الجبال فاحب اللحوق بالجبل فخرج و عاد الى مكانه فجزعت أم يونس لفراقه و أوحشها فقده ثم لم تلبث الا يسيرا حتى مات ابنها يونس حين فطمته فعظمت مصيبتها فخرجت فى طلب الياس و لم تزل ترقى الجبال و تطوف فيها حتى عثرت عليه و وجدته و قالت له انى قد فجعت بعدك بموت ابني فعظمت فيه مصيبتى و اشتد لفقده بلائي و ليس لى ولد غيره فارحمنى و ادع اللّه جلّ جلاله ليحيى لى ابني و انى تركته مسبّحى لم ادفنه قد أخفيت مكانه- فقال لها الياس ليس هذا مما أمرت به و انّما انا عبد مأمورا عمل بما يأمرنى ربى فجزعت المرأة و تضرعت و اعطف اللّه قلب الياس إليها فقال لها متى مات ابنك قالت مند سبعة ايام فانطلق الياس معها و سار سبعة ايام اخرى حتى انتهى الى منزلها فوجد ابنها ميتا له اربعة عشر يوما فتوضأ و صلى و دعا فأحيى اللّه يونس بن متى فلمّا عاش و جلس وثب الياس و تركه و عاد الى موضعه- فلمّا طال عصيان قومه ضاق الياس بذلك ذرعا فاوحى اللّه اليه سبع سنين و هو خائف مجهود فنادى اللّه الياس ما هذا الحزن و الجزع الذي أنت فيه الست أمينا على وحيي و حجتى فى ارضى و صفوتى فى خلقى فاسئلنى أعطيك فانى ذو الرحمة الواسعة و الفضل العظيم قال الياس فان تميتنى فتلحقنى بآبائي فقد مللت بنى إسرائيل و ملونى فاوحى اللّه اليه يا الياس ما هذا باليوم الذي اعرى عنك الأرض و أهلها و انما قوامها و صلاحها بك و اشباهك و ان كنتم قليل و لكن سلنى فاعطيك قال الياس فان لم تمتنى فاعطنى ثارى من بنى إسرائيل قال اللّه عزّ و جلّ و اىّ شى ء تريد ان أعطيك قال تمكننى من خزائن السماء سبع سنين فلا تنشر عليهم سحابة الا بدعوتي و لا تمطر عليهم قطرة الا بشفاعتى فانه لا تذلهم الا ذلك قال اللّه عز و جل يا الياس انا ارحم بخلقي من ذلك و ان كانوا ظالمين قال فست سنين قال انا ارحم بخلقي من ذلك قال فخمس سنين قال انا ارحم بخلقي من ذلك و لكنى أعطيك ثارك ثلاث سنين اجعل خزائن المطر بيدك قال الياس باىّ شى ء اعيش قال أسخر لك جيشا من الطير ينقل إليك طعامك و شرابك من الريف «ارض فيها زرع و نخل- منه ره» و الأرض التي لم تقحط قال الياس قد رضيت- قال و امسك اللّه عنهم المطر حتى هلكت الماشية و الدواب و الهوام و الشجر و جهد الناس جهدا شديدا و الياس على حالته مستخف من قومه يوضع الرزق حيث ما كان و قد عرف ذلك قومه و كانوا إذا وجدوا ريح الخبز فى بيت قالوا لقد دخل الياس هذا المكان فطلبوه و لقى منهم اهل ذلك المنزل شرّا قال ابن عباس أصاب بنى إسرائيل ثلاث سنين القحط فمر الياس بعجوز فقال لها هل عندك طعام قالت نعم لشي ء من دقيق و زيت قليل قال فدعا بهما و دعا فيه بالبركة و مسه حتى ملا جرابها دقيقا و ملأ خوابيها زيتا فلمّا راوا ذلك عندها قالوا من اين لك هذا قالت مربى رجل من حاله كذا و كذا فوصفته بصفته فعرفوه قالوا ذلك الياس فطلبوه فوجدوه فهرب منهم ثم انه أوى الى بيت امراة من بنى إسرائيل لها ابن يقال لها اليسع بن أخطوب به ضرّ فاوته و أخفته فدعا له فعوفى من الضر الذي كان به و اتبع اليسع الياس و أمن به و صدقه و لزمه و كان يذهب حيث ما ذهب و كان الياس قد اسنّ و كبر و اليسع غلام شابّ. ثم ان اللّه تعالى اوحى الى الياس انك قد أهلكت كثيرا من الخلق فمن لم يعص من البهائم و الدوابّ و الطير و الهوام لحبس المطر- فيزعمون و اللّه اعلم ان الياس قال يا رب دعنى أكون انا الذي ادعو لهم و آتاهم بالفرج مما هم فيه من البلاء لعلهم ان يرجعوا او ينزعوا عما هم عليه من عبادة غيرك فقيل له نعم- فجاء الياس الى بنى إسرائيل فقال انكم قد هلكتم جوعا و جهدا و هلكت البهائم و الطير و الدوابّ و الهوام و الشجر بخطاياكم و انكم على باطل فان كنتم تحبون ان تعلموا ذلك فاخرجوا باصنامكم علىّ فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون و ان هى لم تفعل علمتم انكم على باطل فنزعتم و دعوت اللّه ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء قالوا أنصفت فخرجوا باوثانهم فدعوها فلم تفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء ثم قالوا لالياس انا قد أهلكنا فادع اللّه لنا فدعا لهم الياس و معه اليسع بالفرج فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر و هم ينظرون فاقبلت نحوهم و طبقت الآفاق ثم أرسل اللّه عليهم المطر فاغاثهم و حييت بلادهم فلمّا كشف اللّه عنهم الضر نقضوا العهد و لم ينزعوا عن كفرهم فاقاموا على أخبث ما كانوا. فلمّا راى ذلك الياس دعا ربه تعالى ان يريحه منهم فقيل له فيما يزعمون انظر يوم كذا و كذا فاخرج فيه الى موضع كذا و كذا فما جاءك من شى ء فاركبه و لا تهبه فخرج الياس و معه اليسع حتى إذا كان بالموضع الذي امر به اقبل فرس من نار و قيل لونه كلون النار حتى وقف بين يديه فوثب عليه الياس فانطلق به الفرس- فناداه اليسع يا الياس ما تأمرنى به فقذف اليه الياس بكسائه من الجوّ الأعلى و كان ذلك علامة استخلافه إياه على بنى إسرائيل فكان ذلك اخر العهد به و رفع اللّه اليأس من بين أظهرهم و قطع عنه لذة المطعم و المشرب و كساه الريش فكان إنسيا ملكيّا سماويّا ارضيّا و سلط اللّه على أجب الملك و قومه عدو الهم فقصدهم من حيث لم يشعروا به حتى رهقهم فقتل أجب و امرأته ازبيل فى بستان مزدكى فلم يزل جيفتاهما ملقاتين فى تلك الجنينة حتى بليت لحومهما و رمّت عظامها- و نبّا اللّه اليسع و بعثه رسولا الى بنى إسرائيل و اوحى اليه فامنت به بنوا إسرائيل و كانوا يعظمونه و حكم فيهم قائم الى ان فارقهم اليسع روى السرى بن يحيى عن عبد العزيز عن ابى الرداد قال الياس و الخضر يصومان شهر رمضان ببيت المقدس و يوافيان الموسم فى كل عام و قيل ان الياس مؤكل فى الفيافي و الخضر مؤكل بالبحار هكذا ذكر البغوي فى تفسير قوله تعالى وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ-. ١٢٤ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ (١٢٤) عذاب اللّه. ١٢٥ أَ تَدْعُونَ تعبدون بَعْلًا اسم صنم كانوا يعبدونها سميت بها مدينتهم بعلبك و قال مجاهد و عكرمة و قتادة البعل الرب بلغة اهل اليمن وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) فلا تعبدونه و جملة ا تدعون الى آخره بيان او بدل لما قبله. ١٢٦ اللّه رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) قرا حمزة و الكسائي و يعقوب و حفص «و خلف- ابو محمد» بالنصب على البدل و الباقون بالرفع على الاستئناف. ١٢٧ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) فى العذاب و انما اطلق اكتفاء بالقرينة او لان الإحضار المطلق مخصوص بالشرّ عرفا. ١٢٨ إِلَّا عِبادَ اللّه الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) مستثنى من فاعل كذّبوه لا من المحضرين لفساد المعنى و قيل استثناء منقطع او متصل من المحضرين ان كان المحضرين من قبيل توصيف الكل بوصف البعض كما فى قوله تعالى ايّتها العير انّكم لسارقون فحينئذ يكون شاملا للمستثنى منه. ١٢٩ وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) ١٣٠ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) لغة فى الياس كسيناء و سينين و إسماعيل و سمعين و ميكائيل و ميكائين و قال الفراء هو جمع أراد الياس و اتباعه من المؤمنين فيكون بمنزلة الأشعريين و الأعجمين بالتخفيف لكن فيه ان العلم إذا جمع يجب تعريفه باللام و قرا نافع و ابن عامر «و يعقوب- و ابو محمد» ال ياسين بفتح الهمزة شبعة و كسر اللام مقطوعة لانها فى المصحف مفصولة فيكون ياسين أبا الياس و جاز ان يكون ياسين اسما لالياس و المراد بال ياسين هو و اتباعه- و ما قيل ان ياسين محمد صلى اللّه عليه و سلم او القران او غيره من الكتب السماوية لا يناسب نظم سائر القصص و ما قبله و ما بعده من قوله. ١٣١ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) ١٣٢ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢) إذ الظاهر ان الضمير لالياس و فى قراءة ابن مسعود سلم على ادريسين يعنى إدريس و اتباعه لانه قرا انّ إدريس لمن المرسلين-. ١٣٣ وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) ١٣٤ إِذْ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) من العذاب الذي نزل على قومه. ١٣٥ إِلَّا عَجُوزاً و هى امرأته كائنة فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) الباقين فى العذاب. ١٣٦ ثُمَّ دَمَّرْنَا أهلكنا الْآخَرِينَ (١٣٦) من قومه. ١٣٧ وَ إِنَّكُمْ يا اهل مكة لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ اى على منازلهم فى اسفاركم الى الشام فان سدوم فى طريقه مُصْبِحِينَ (١٣٧) داخلين فى الصباح. ١٣٨ وَ بِاللَّيْلِ او مساءً و المعنى نهارا او ليلا و لعلها وقعت قريبا من موضع النزول فيمر المرتحل عنه صباحا و القاصد لها مساءً ان كان السير نهارا او بالعكس ان كان السير ليلا أَ فَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨) يعنى أ لستم ذوى العقول فتعتبروا و الجملة معترضة-. ١٣٩ وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) ١٤٠ إِذْ أَبَقَ اى هرب و أصله هرب العبد من السيد لكن لمّا كان هربه من قومه بلا اذن ربه حسن إطلاقه عليه إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) اخرج عبد الرزاق و احمد فى الزهد و عبد بن حميد و ابن المنذر عن طاؤس انه لمّا وعد قومه بالعذاب خرج من بينهم (يعنى لمّا تأخر عنهم العذاب) قبل ان يأمره اللّه به فركب السفينة فوقفت فقال الملاحون هاهنا عبد ابق فاقترعوا فخرجت عليه فقال انا الآبق و رمى بنفسه فى الماء و ذكر البغوي قول ابن عباس و وهب نحوه و ذكر انهم اقترعوا ثلاثا فوقعت القرعة على يونس- قال البغوي و روى انه لمّا وصل الى البحر كانت معه امرأته و ابنان له فجاء مركب و أراد ان يركب معهم فقدم امرأته ليركب بعدها فحال الموج بينه و بين المركب ثم جاءت موجة اخرى و أخذت ابنه الأكبر و جاء ذئب و أخذ ابن الأصغر فبقى فريدا فجاء مركب اخر فركبه فقعد ناحية من القوم فلمّا مرت السفينة فى البحر ركدت فاقترعوا- و قد ذكرنا القصة فى سورة يونس فذلك قوله تعالى. ١٤١ فَساهَمَ فقارع و المساهمة إلقاء السهام على جهة القرعة فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فصار من المغلوبين بالقرعة و أصله المزلق عن مقام الظفر. ١٤٢ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ اى اخذه لقمة وَ هُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) اى داخل فى الملامة او أت بما يلام عليه او مليم نفسه حال من مفعول التقمه-. ١٤٣ فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) قال ابن عباس من المصلين و قال وهب من العابدين قال الحسن ما كانت له صلوة فى بطن الحوت و لكنه قدم عملا صالحا قال الضحاك شكر اللّه له طاعته القديمة- قلت و يمكن ان يكون هو مصليّا فى بطن الحوت بالاشارة لكونه حيّا مفيقا و الاولى ان يقال و لو لا انه كان من المسبحين فى بطن الحوت يعنى ذاكرا له بقوله لا اله الّا أنت سبحانك انّى كنت من الظّالمين كما نطق به القران. ١٤٤ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) يعنى لمات فى بطنه و صار له قبرا فيبقى اجزاؤه مختلطا بأجزاء الحوت حيثما كان فى علم اللّه الى يوم القيامة. ١٤٥ فَنَبَذْناهُ بان حملنا الحوت على لفظه بِالْعَراءِ اى المكان الخالي مما يغطيه من الشجر و نحوه وَ هُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) كالفرخ الممعط و قيل كان قد بلى لحمه ورق عظمه و لم يبق له قوة و اختلفوا فى مدة لبثه فى بطن الحوت قال البغوي قال مقاتل بن حبان ثلاثة ايام و كذا اخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن ابى حاتم عن قتادة و قال البغوي قال عطاء سبعة أيام كذا اخرج ابن المنذر و ابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير و قال البغوي قال الضحاك عشرين يوما و قال السدىّ و الكلبي و مقاتل بن سليمان أربعين يوما كذا اخرج الحاكم عن ابن عباس و ابن ابى شيبة و احمد فى الزهد و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابى حاتم و ابو الشيخ عن ابى مالك و عبد الرزاق و ابن مردوية عن ابن جريج و عبد بن حميد و ابن المنذر عن عكرمة و اخرج عبد بن حميد فى زوائد الزهد انه بعض يوم و اخرج ابن ابى حاتم و الحاكم و البغوي عن الشعبي انه التقمه ضحى و لفظه عشية. ١٤٦ وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ اى فوقه مظلة شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) قال البغوي قال الحسن و مقاتل كل نبت يمتد و ينبسط على وجه الأرض ليس له ساق و لا يبقى على الشتاء نحو القرع و القثاء و البطيخ فهو يقطين و قال كان ذلك اليقطين بساق على خلاف العادة انتهى و هو يفعيل من قطن بالمكان إذا قام به قلت و كان قرعا تغطه من أوراقها عن الذباب فانه لا يقع عليه كذا قال البغوي انه قول جميع المفسرين و كذا اخرج عبد بن حميد و ابن جرير عن قتادة و قال مقاتل بن حبان و كان يونس يستظل بالشجرة و كانت و علة تختلف اليه يشرب لبنها بكرة و عشية حتى اشتد لحمه و نبت شعره و قوى فنام نومة فاستيقظ و قد يبست الشجرة فحزن حزنا شديدا إذ أصابه أذى الشمس فجعل يبكى فبعث اللّه اليه جبرئيل فقال أ تحزن على شجرة و لا تحزن على مائة الف من أمتك و قد اسلموا و تابوا- (مسئلة) لا يجوز ذكر ذلة الأنبياء فان زلاتهم توجب كمال الانابة الى اللّه و رفع درجاتهم و من اعترض على أحد من الأنبياء فقد كفر قال اللّه تعالى لا نفرّق بين أحد من رّسله و عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما ينبغى لعبد ان يقول انى خير من يونس بن متى- متفق عليه و فى رواية للبخارى من قال انا خير من يونس بن متى فقد كذب و عن ابى هريرة قال استب رجل من المسلمين و رجل من اليهود فقال و الذي اصطفى محمدا على العالمين و قال اليهودي و الذي اصطفى موسى على العالمين فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي فذهب اليهودي الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فاخبره بما كان من امره و امر المسلم فدعا النبي صلى اللّه عليه و سلم فساله عن ذلك فاخبره فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم لا تخيرونى على موسى فان الناس يصعقون يوم القيامة فاصعق معهم فاكون أول من يفيق فاذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدرى كان فيمن صعق فافاق قبلى او كان فيمن استثنى اللّه و فى رواية فلا أدرى ا حوسب بصعقة يوم الطور او بعث قبلى و لا أقول ان أحدا أفضل من يونس بن متى- و فى رواية ابى سعيد قال لا تخيروا بين الأنبياء متفق عليه و فى رواية ابى هريرة لا تفضلوا بين أنبياء اللّه- فان قيل ما المعنى و المراد بالنهى عن التفضيل بين الأنبياء مع كونه ثابتا بالنص و الإجماع قال اللّه تعالى تلك الرّسل فضّلنا بعضهم على بعض و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انا سيد ولد آدم يوم القيامة و اوّل شافع و أول مشفع- رواه مسلم و ابو داود عن ابى هريرة و قال انا سيد ولد آدم يوم القيامة و لا فخر و ما من نبى يومئذ آدم فمن سواه الا تحت لوائى و انا أول من تنشق عنه الأرض و لا فخر و انا أول شافع و أول مشفع و لا فخر- رواه احمد و الترمذي و ابن ماجة عن ابى سعيد و قال عليه السلام انا قائد المرسلين و لا فخر و انا خاتم النبيين و لا فخر و انا أول شافع و مشفع و لا فخر- رواه الدارمي عن جابر قلت معناه و اللّه اعلم لا تفضلوا بين أنبياء اللّه بالظن و التخمين ما لم يأتكم علم من اللّه تعالى و اما بعد ما ثبت ذلك بوحي من اللّه تعالى فلا بأس به او يقال لا تخيروا بين الأنبياء فى نفس النبوة بان تؤمنوا ببعض و تعظموه و توقروه و لا تؤمنوا ببعض و اللّه اعلم-. ١٤٧ وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ قال البغوي قال قتادة أرسل الى نينوى من ارض الموصل قبل ان يصيبه ما أصابه و كذا اخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن ابى حاتم عنه و عن الحسن و المعنى و قد أرسلناه الى مائة الف و قيل معناه أرسلناه إليهم ثانيا بعد خروجه من بطن الحوت و قيل الى قوم آخرين أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) قال مقاتل و الكلبي معناه بل يزيدون و قال ابن عباس معناه و يزيدون او بمعنى الواو كقوله تعالى عذرا او نذرا و قال الزجاج او هاهنا على أصله معناه او يزيدون على تقديركم و ظنكم كالرجل يرى قوما فيقول هؤلاء الف او يزيدون فالشك على تقدير المخلوقين و اختلفوا فى مبلغ تلك الزيادة فقال ابن عباس و مقاتل كانوا عشرين الفا رواه الترمذي عن أبيّ بن كعب عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال يزيدون عشرون الفا و قال الحسن بضعا و ثلاثين الفا و قال سعيد بن جبير سبعين الفا. ١٤٨ فَآمَنُوا يعنى الذين أرسل إليهم يونس أمنوا به بعد معائنة العذاب فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨) الى أجلهم المسمى و لعله انما لم يختم قصته و قصة لوط بما ختم به سائر القصص تفرقة بينهما و بين اصحاب الشرائع الكبر و اولى العزم من الرسل او اكتفاء بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكور فى اخر السورة-. ١٤٩ فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) عطف على قوله فاستفتهم أهم أشدّ خلقا أم من خلقنا امر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اولا عن وجه انكارهم البعث بان يسئلهم سوال تقرير اىّ الخلقين أشد أ خلقهم أم خلق غيرهم من السماء و الأرض و الملائكة او من سبقهم من عاد و ثمود فاذا هم أقرّوا بانّ خلق من سبقهم أشد لزمهم الخوف ممن انتقم منهم و اهلكهم بكفرهم و هو قادر على خلق من هو أشد منهم و على كل خلق و قادر على البعث و التعذيب ثم جاء بما يلائمه من القصص لبعضها ببعض- ثم امره بالسؤال عن وجه القسمة حيث جعلوا للّه البنات و لانفسهم البنين فى قولهم الملائكة بنات اللّه و هؤلاء زادوا على الشرك ضلالات اخر التجسيم و تجويز البنات على اللّه فان الولادة مخصوصة بالأجسام القابلة للكون و الفساد سريعا و تفضيل أنفسهم على اللّه حيث جعلوا اخس الصنفين للّه و أشرفهم لانفسهم و استهانتهم الملائكة باتصافهم بالانوثة. و لذلك كرر اللّه تعالى انكار ذلك و ابطاله فى كتابه مرارا و جعله مما تكاد السّماوات يتفطّرن من شوم هذا القول و تنشقّ الأرض و تخرّ الجبال هدّا و الإنكار هاهنا مقصور على الأخيرين لاختصاص هذه الطائفة بهما و ذلك ان جهينة و بنى سلمة بن عبد الدار زعموا ان الملائكة بنات اللّه و لان فسادهما مما يدكه العامة بمقتضى طباعهم حيث جعل المعادل لاستفهام عن أنفسهم. ١٥٠ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) فيه استهزاء و اشعار بانهم لفرط جهلهم يحكمون به كانهم شاهدوا خلقهم. ١٥١ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ اى كذبهم الذي هو ظاهر البطلان و ينفيه البرهان لَيَقُولُونَ (١٥١). ١٥٢ وَلَدَ اللّه وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) عند جميع العقلاء قطعا. ١٥٣ أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) قرا ابو جعفر بهمزة الوصل المكسورة عند الابتداء و إسقاطها فى الدرج و هى رواية عن نافع اما على حذف همزة الاستفهام من اللفظ او على الاخبار بتقدير قالوا يعنى انّهم لكاذبون حيث قالوا اصطفى البنات و قرا العامة بهمزة مفتوحة للاستفهام داخلة على همزة الوصل إنكارا و استبعادا بتقدير يقال لهم اصطفى البنات على البنين. ١٥٤ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) ان للّه البنات و لكم البنين و الاصطفاء أخذ صفوة الشي ء و البنات اخس الصنفين. ١٥٥ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) عطف على محذوف تقديره أ فلا تتفكرون فلا تتذكّرون انه تعالى منزه عن ذلك حذفت احدى التاءين. ١٥٦ أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) حجة واضحة نزلت عليكم من اللّه تعالى بان الملائكة بناته يعنى ان اسباب العلم منحصرة فى ثلاثة العقل و الحس و الخبر الصادق و الخبر لا يفيد العلم ما لم يبتنى على الحس او على الاعلام من اللّه العالم للغيب- فانكر اولا دلالة العقل بقوله أ لربّك البنات و لهم البنون فانه مع قيام البرهان على امتناع الولد للّه سبحانه لا يجوز درك انوثية الملائكة بالعقل الصرف و لا يجوز عاقل ان يثبت اخس الفريقين للخالق و أشرفهما للمخلوقين و أنكر ثانيا دلالة الحس بقوله أم خلقنا الملئكة إناثا و هم شاهدون يعنى لم يشهدوا ذلك و أنكر ثالثا الخبر الصادق الى الحجة النازلة من اللّه العليم الخبير فانه اعلم إفادة للعلم من غيره و أقوى فقال أم لكم سلطان مبين- و لمّا كان هاهنا مظنة ان يقولوا اللّه علمنا بهذا كما انهم إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا و اللّه أمرنا بها قال. ١٥٧ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ الذي منزل من اللّه مخبر بان الملائكة بناته إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) فى دعواكم-. ١٥٨ وَ جَعَلُوا حال من الضمير المنصوب فى استفتهم بتقدير قد اى استفتهم و قد جعلوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً اخرج جويبر عن ابن عباس انه قال نزلت هذه الاية فى ثلاثة احياء قريش سليم و خزاعة و جهينة قال مجاهد و قتادة أراد بالجنّة الملائكة سموها جنّة لاجتنانهم عن الابصار قلت ذكرهم بهذا الاسم تحقيرا لشأنهم عن مرتبة البنوة للّه سبحانه و قال ابن عباس حيى من الملائكة يقال لهم الجن و منهم إبليس قالوا هم بنات اللّه و قال الكلبي قالوا (لعنهم اللّه) ان اللّه تزوج من الجن فخرج منها الملائكة تعالى اللّه عن ذلك و قال بعض قريش ان الملائكة بنات اللّه فقال ابو بكر الصديق فمن أمهاتهم قالوا سروات الجن كذا اخرج البيهقي فى شعب الايمان عن مجاهد وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ جملة معترضة إِنَّهُمْ اى قائلى هذا القول او الانس مطلقا او الجنة بمعنى يعم الملائكة و غيرهم لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) فى النار. ١٥٩ سُبْحانَ اللّه عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) اى عما يصفونه به من الولد و النسب جملة معترضة اخرى. ١٦٠ إِلَّا عِبادَ اللّه الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) استثناء متصل من ضمير انهم ان أريد به ما يعم المؤمن و الكافر او منقطع ان أراد به القائلون بالولد. ١٦١ فَإِنَّكُمْ يا اهل مكة التفات من الغيبة الى الخطاب و الفاء قيل جزائية و الشرط محذوف تقديره إذا جعلتم بينه و بين الجنة نسبا فانّكم وَ ما تَعْبُدُونَ (١٦١) من الأصنام. ١٦٢ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ اى على اللّه متعلق بقوله بِفاتِنِينَ (١٦٢) اى بمضلين الناس بالإغواء أحدا. ١٦٣ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) فى علم اللّه يعنى من سبق لهم فما علم اللّه القديم الشقاوة-. ١٦٤ وَ ما مِنَّا معشر الملائكة أحد إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) هذه الجملة بتقدير القول معطوف على قوله تعالى و لقد علمت الجنّة تقديره و قالت ما منّا الّا له مقام معلوم فى العبودية او فى السماوات يعبد اللّه فيه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أطت «١» السماء و حق لها ان تاط و الذي نفسى بيده ما فيها موضع اربعة أصابع الا و ملك واضع جبهته ساجدا للّه- رواه البغوي او مقام معلوم فى مراتب القرب لا يتجاوز عنه و كذا قال السدى الّا له مقام معلوم فى القربة و المشاهدة و قال ابو بكر الوراق الّا له مقام معلوم يعبد اللّه عليه كالخوف و الرجاء و المحبة و الرضاء- قلت و اما الانس فلا يزال يرتقى على معارج القرب قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حكاية عن اللّه سبحانه ما يزال عبدى يتقرب الىّ بالنوافل حتى أحببته الحديث. رواه البخاري عن ابى هريرة و اما الملائكة فلا يتجاوزون عن مقاماتهم عن زرارة بن ابى اوفى ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لجبرئيل هل رايت ربّك فانتفض جبرئيل و قال يا محمد ان بينى و بينه سبعين حجابا من نور لو دنوت من بعضها لاحترقت هكذا فى المصابيح و رواه ابو نعيم فى الحلية عن انس الا انه لم يذكر فانتفض جبرئيل عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه خلق اسرافيل منذ يوم خلقه صافا قدميه لا يرفع بصره بينه و بين الرب تبارك و تعالى سبعون نورا ما منها من نور يدنو منه الا احترق- رواه الترمذي و صححه و هذه الاية رد على عابدى الملائكة نظيره قوله تعالى لقد كفر الّذين قالوا انّ اللّه هو المسيح ابن مريم و قال المسيح يا بنى إسرائيل اعبدوا اللّه ربّى و ربّكم انّه من يّشرك باللّه فقد حرّم اللّه عليه الجنّة و مأويه النّار. (١) الأطيط صوت الاقتاب يعنى آواز پالان شتر قال فى النهاية يعنى انّ كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلتها حتى أطت و هذا مثل و إيذان بكثرة الملائكة و ان لم يكن ثمه اطيطه نور اللّه مرقده-. ١٦٥ وَ إِنَّا معشر الملائكة لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) اخرج ابن ابى حاتم عن يزيد بن مالك قال كان الناس يصلون متبدين فانزل اللّه و انّا لنحن الصّافّون فامرهم ان يصفوا- و اخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه قال الكلبي صفوف الملائكة فى السماء للعبادة كصفوف الناس فى الأرض يعنى فى الصلاة روى مسلم عن جابر بن سمرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها فقلنا يا رسول اللّه كيف تصف الملائكة عند ربها يتمون الصفوف الاولى و ينراصون فى الصف- و المعنى و انا لنحن صافون أقدامنا فى أداء الطاعة. ١٦٦ وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) اى المنزهون عما لا يليق به كاتخاذ الولد و نحو ذلك- و ما فى انّ و اللام و توسيط الفصل من التأكيد و الاختصاص انما هو للرد على من زعم انهم بنات اللّه و الحصر إضافي بالنسبة الى الكفار يعنى لسنا كهيئة الكفار مشركين مصنعين فى العبادة و التسبيح. ١٦٧ وَ إِنْ كانُوا و انهم يعنى كفار مكة كانوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) قبل مبعث النبي صلى اللّه عليه و سلم. ١٦٨ لَوْ ثبت أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) اى كتابا من الكتب التي أنزلت عليهم. ١٦٩ لَكُنَّا عِبادَ اللّه الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) يعنى لاخلصنا له العبادة و لم نخالف. ١٧٠ فَكَفَرُوا بِهِ اى بالذكر الذي هو اشرف الاذكار لمّا جاءهم فَسَوْفَ الفاء للسببية فان الكفر سبب للوعيد يَعْلَمُونَ (١٧٠) عاقبة كفرهم و ما يحل بهم من الانتقام ان مخففة للمثقلة و اللام هى فارقة و فى ذلك ايماء بانهم كانوا يقولون مؤكدين للقول جازمين فيه فكم بين أولهم و آخرهم. ١٧١ وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) ١٧٢ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) ١٧٣ وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) بيان للكلمة و لذلك لم يعطف عليه قلت و انما يظهر التخلف لاجل شوم العصيان قال اللّه تعالى انّما استزلّهم الشّيطان ببعض ما كسبوا و قال اللّه تعالى. إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ١٧٤ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ اى اعرض عنهم حَتَّى حِينٍ (١٧٤) قال ابن عباس يعنى الموت و قيل يوم يأتيهم العذاب فى الدنيا و قال مجاهد يوم بدر و كذا اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم عن السدّى و قال البغوي قال السدّى يوم يأمركم بالقتال و هو المراد بقول مقاتل نسختها اية القتال. ١٧٥ وَ أَبْصِرْهُمْ مغلوبا مقتولا معذّبا- فيه دلالة على انه كائن قريب كانّه قدامه فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) ما قضينا لك من التأييد و النصرة فى الدنيا و الثواب فى الاخرة و ما يحل بهم فى الدارين و سوف للوعيد لا للتبعيد- اخرج ابن جرير عن ابن عباس رضى اللّه عنهما انه متى نزل فسوف يبصرون قالوا متى هذا العذاب و اخرج جويبر عنه نحوه فنزل. ١٧٦ أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) استفهام للانكار و التوبيخ و الفاء للعطف على محذوف تقديره أ يجهلون شأننا فبعذابنا يستعجلون. ١٧٧ فَإِذا نَزَلَ العذاب بِساحَتِهِمْ بفنائهم قال الفراء العرب يكتفى بذكر الساحة من القوم- او المعنى إذ نزل الرسول صلى اللّه عليه و سلم مع جيشه بساحة الكفار فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) اى صباحهم مستعار من صباح الجيش المبيت لوقت نزول العذاب و لما كثرت الهجوم و الغارة فى الصباح عادة سموا الغارة صباحا و ان وقعت فى وقت اخر عن انس بن مالك رضى اللّه عنه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حين خرج الى خيبر أتاها ليلا و كان إذا جاء قوما بليل لم يغز حتى يصبح- قال فلمّا أصبح خرجت يهود خيبر بمساحيها «١» و مكاتلها «المكتل الزنبيل الكبير- نهاية منه ره» فلمّا راوه قالوا محمد و اللّه و الخميس فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اللّه اكبر خربت خيبر انا إذا نزلنا بساحتهم فسآء صباح المنذرين رواه البغوي و فى الصحيحين عن انس ان النبي صلى اللّه عليه و سلم كان إذا غزابنا قوما لم يكن يغزو بنا حتى يصبح و ينظر إليهم فان سمع اذانا كفّ عنهم و ان لم يسمع اذانا أغار عليهم فخرجنا الى خيبر فانتهينا إليهم ليلا فلمّا أصبح و لم يسمع اذانا ركب و ركبت خلف ابى طلحة و ان قدمى لتمس قدم نبي اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال فخرجوا إلينا بمكاتلهم و مساحيهم فلمّا راوا النبي صلى اللّه عليه و سلم قالوا محمد و اللّه محمد و الخميس فلجاءوا الى الحصن فلمّا راهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال اللّه اكبر اللّه اكبر خربت خيبر انا إذا نزلنا بساحة قوم فسآء صباح المنذرين ثم كرر اللّه سبحانه تأكيد الوعيد العذاب فقال. (١) المساحي جمع مسحاة و هى المجرفة من الحديد و الميم زائدة لانه من السحو اى الكشف و الازالة ١٢ نهاية منه يرد اللّه. ١٧٨ وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) ١٧٩ وَ أَبْصِرْ العذاب إذا نزل بهم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) فيه اطلاق بعد تقييد للاشعار بانه يبصر و انهم يبصرون ما لا يحيط به الذكر من اصناف المسرّة و انواع المساءة او الاول لعذاب الدنيا و الثاني لعذاب الاخرة-. ١٨٠ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ اى الغلبة و القوة أضاف الرب الى العزة لاختصاص به إذ لا عزة الا له او لمن انتسب اليه رسوله و المؤمنون به- و فيه اشعار بان صفاته تعالى مقتضيات لذاته- واجبات بالغير اى بذاته تعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) اى عما يصفونه به المشركون ممّا حكى فى السورة و قد أدرج فيه جملة صفاته السلبية و الثبوتية مع الاشعار بالتوحيد. ١٨١ وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) الذين وصفوه على ما هو عليه و هذا تعميم للرسل بالتسليم. ١٨٢ وَ الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢) على ما هدى المؤمنين الى معرفة ذاته و صفاته بإرسال الرسل و إنزال الكتب و نصرة الأنبياء و تدمير الأعداء عن على كرم اللّه وجهه انه قال من أحب ان يكتال بالمكيال الاوفى من الاجر يوم القيامة فليكن اخر كلامه من مجلسه سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون و سلام على المرسلين و الحمد للّه ربّ العالمين- رواه البغوي فى تفسيره و عبد بن رنجوية فى ترغيبه و الحمد للّه ربّ العالمين و صلى اللّه تعالى و سلم على خير خلقه محمد و اله و أصحابه أجمعين و على سائر الأنبياء و المرسلين و على اصل طاعته أجمعين |
﴿ ٠ ﴾