سُورَةُ صۤ مَكِّيَّةٌ وَهِيَ ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ آيَةً نحمدك يا من لا اله الّا أنت و نسبحك و نستعينك و نستغفرك و نشهد انّك مالك الملك تؤتى الملك من تشاء و تنزع الملك ممّن تشاء و تعزّ من تشاء و تذلّ من تشاء بيدك الخير انّك على كلّ شى ء قدير أنت ربّنا و ربّ السّموات و الأرض و من فيهن و نصلّى و نسلّم على رسولك و حبيبك سيّدنا و مولانا محمّد و على جميع النّبيين و المرسلين و على عبادك الصّالحين سورة ص مكيّة و هى ثمان و ثمانون اية ربّ يسّر و تمّم بالخير بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اخرج احمد و الترمذي و النسائي و الحاكم عن ابن عباس قال مرض ابو طالب فجاءته قريش و جاءه النبي صلى اللّه عليه و سلم فشكوه الى ابى طالب فقال ابن أخي ما تريد من قومك فقال أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب و تؤدى إليهم العجم جزية قال كلمة واحدة قال ما هى قال لا اله الا اللّه فقالوا اجعل الالهة الها واحدا انّ هذا الشي ء عجاب فنزل. _________________________________ ١ ص الى قوله بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ- قيل هو قسم و قيل هو اسم السورة كما ذكرنا فى سائر حروف التهجي قال محمد بن كعب مفتاح اسمه الصمد و صادق الوعد- و قال الضحاك معناه صدق اللّه و روى عن ابن عباس صدق محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و قيل هو امر من المصاداة و لذا قرئ بالكسر على وزن ناد و معناه عارض من الصدى فانه تعارض الصوت الاول يعنى عارض القران بعملك و الحق انه من المتشابهات و قد ذكرنا تحقيقها فى أوائل سورة البقرة وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) قال ابن عباس اى ذى البيان لما يحتاج اليه فى الدين من العقائد و الشرائع و المواعيد او ذى عظة و قال الضحاك اى ذى الشرف كما فى قوله تعالى وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ و الواو للقسم ان جعل ص اسم حرف مذكور للتحدى او الرمز لكلام صدق محمد صلى اللّه عليه و سلم او غيره او لفظ الأمر و للعطف ان جعل مقسما به قال الأخفش جواب القسم ان كلّ الّا كذّب الرّسل فحقّ عقاب و هذا بعيد جدّا و الظاهر ان الجواب محذوف دل عليه ما فى ص من الدلالة على التحدي او الأمر بالمعادلة اى انه لمعجز او الواجب العمل به او ان محمد الصادق او ان الأمر ليس كما يقول الكفار و يدل عليه قوله. ٢ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ اى استكبار عن الحق و حمية جاهلية وَ شِقاقٍ (٢) خلاف و عداوة لمحمد صلى اللّه عليه و سلم و لاجل ذلك لا يؤمنون به او خلاف لما يقتضيه العقل و النقل و التنكير فيهما الدلالة على شدتهما فهو إضراب عن الجواب المقدر و قال قتادة هذا جواب القسم كما فى قوله تعالى ق و القرءان المجيد بل عجبوا و بل ابتدائية- و قال القتيبي بل لتدارك كلام و نفى اخر مجاز الاية ان اللّه اقسم بص و القرءان ذى الذّكر ان الذين كفروا من اهل مكة فى عزّة و شقاق .. ٣ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ وعيد لهم على كفرهم استكبار او شقاقا فَنادَوْا عند نزول العذاب استغاثة او توبة و استغفارا وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) اى ليس الحين حين مناص جملة كم أهلكنا معترضة لبيان ما لهم بعد بيان حالهم يعنى انهم يهلكون كما هلك من قبلهم و لا هى المشبهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث للتأكيد كما زيدت على رب و ثم و تغير حكمه فخصت بلزوم الأحيان و حذف أحد المعمولين اما الاسم و اما الخبر و المحذوف هاهنا الاسم هذا مذهب الخليل و سيبويه و قال الأخفش هى النافية للجنس و الخبر محذوف اى لا حين مناص كائن لكم و قيل هى نافية للفعل و النصب بإضماره تقدير ه لا ارى حين مناص حاصلا لهم و الوقف على لات بالتاء عند الزجاج «و عند جميع القراء غير الكسائي- ابو محمد» و عند الكسائي لاه- بالهاء. و ذهب جماعة الى ان التاء زيدت فى حين و الوقف على لا ثم يبتدى تحين و هو اختيار ابى عبيد و قال كذلك وجدت فى مصحف عثمان رضى اللّه عنه و هذا كقول الشاعر و العاطفون تحين ما من عاطف و المطعمون زمان ما من مطعم- و المناص مصدر ميمى من ناصه ينوصه إذا فاته و فى القاموس النوص التأخر و المناص الملجأ قال ابن عباس كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا فى الحرب قال بعضهم لبعض مناص اى اهربوا و خذوا حذركم فلما انزل اللّه بهم العذاب ببدر قالوا مناص فانزل اللّه عز و جل و لات حين مناص اى ليس الحسين حين هذا القول و الجملة حال من فاعل نادوا اى استغاثوا و الحال ان لا ملجاء و لا مهرب و لا اعتبر بهم كفار مكة-. ٤ وَ عَجِبُوا عطف على الظرف المستقر اعنى فى عزّة و شقاق او حال من الضمير المستكن فيه بتقديرته تقديره بل الّذين كفروا كائنون فى عزّة و شقاق و قد عجبوا من أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ اى بشر من أنفسهم رسولا إليهم لينذرهم وَ قالَ الْكافِرُونَ وضع الظاهر موضع الضمير غضبا عليهم و ذمّا لهم و اشعارا بان كفرهم جسرهم على ان قالوا هذا ساحِرٌ فيما يظهر من المعجزات كَذَّابٌ (٤) فيما يقول. ٥ أَ جَعَلَ محمول على حذف قالوا استئناف فى جواب ما قالوا حينئذ يعنى قالوا أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً الاستفهام للتعجب يعنى كيف جعل الالوهية التي كانت لجماعة لواحد إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ (٥) بليغ فى العجب فانه خلاف ما أطبق عليه آباؤنا ما نشاهد و نعاهد ان الواحد لا يفئ علمه و قدرته بالأشياء الكثيرة- قال البغوي و ذلك ان عمر بن الخطاب لما اسلم شق ذلك على قريش و فرح بها المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش و هم الصناديد و الاشراف و كانوا خمسة و عشرين رجلا أكبرهم سنّا الوليد بن المغيرة قال امشوا الى ابى طالب فاتوا أبا طالب و قالوا أنت كبيرنا و شيخنا و قد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء و انا اتيناك لتقضى بيننا و بين ابن أخيك فارسل ابو طالب الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فدعاه فقال يا ابن أخي هؤلاء قومك يسئلونك فلا تمل كل الميل على قومك فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما ذا تسئلون قالوا ارفض ذكر متناوندعك و إلهك فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم أ تعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب و تدين لكم بها العجم فقال ابو جهل للّه أبوك لنعطيكها و عشر أمثالها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قولوا لا اله الا اللّه فتفرقوا من ذلك و قاموا و قالوا اجعل الالهة الها واحدا كيف يسع الخلق كلهم اله واحد انّ هذا الشي ء عجاب قيل التعجيب ما له مثل و العجاب مالا مثل له. ٦ وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ اى الاشراف من مجلس ابى طالب الذين كانوا فيه مِنْهُمْ اى من قريش و جملة انطلق عطف على قالوا ا جعل الالهة الها واحدا أَنِ امْشُوا اى قائلين ان امشوا من مجلسكم هذه وَ اصْبِرُوا اى اثبتوا عَلى عبادة آلِهَتِكُمْ حيث لا ينفعكم المكالمة و ان هى المفسرة لان الانطلاق عن مجلس التناول يشعر بالقول و قيل المراد بالانطلاق الاندفاع فى القول و امشوا من مشيت المرأة إذا كثرت ولادتها و منه الماشية اى اجتمعوا إِنَّ هذا المذكور من التوحيد لَشَيْ ءٌ يُرادُ (٦) منا هذه الجملة فى مقام التعليل على قوله امشوا قال البغوي و ذلك ان عمر رضى اللّه عنه لما اسلم و حصل للمسلمين به قوة بمكانه قالت الكفار انّ هذا الشي ء يراد قيل معناه هذا الذي نرى من زيادة اصحاب محمد صلى اللّه عليه و سلم لشئ من اللّه يراد بنا فلا مرد له و قيل يراد باهل الأرض و قيل بمحمد صلى اللّه عليه و سلم ان يملك علينا او يقال ان هذا الذي يدعيه محمد من التوحيد او الذي يقصد من الرياسة و الترفع على العرب و العجم لشئ يتمنى او يريده كل أحد او ان دينكم يطلب ليؤخذ منكم. ٧ ما سَمِعْنا بِهذا الذي يقوله محمد من التوحيد و كلمة هذا للتحقير فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ قال ابن عباس و الكلبي و مقاتل يعنون بها النصرانية لانها اخر الملل و هم لا يوحدون بل يقولون ثالث ثلاثة و قال مجاهد يعنون ملة قريش و دينهم الذي هم عليه اى ما سمعنا بهذا فى الملّة التي أدركنا عليه آباءنا و يجوز ان يكون ظرفا مستقرا فى محل الحال اى ما سمعنا من اهل الكتاب و لا الكهان هذا اى التوحيد كائنا فى الملة المترقبة التي هى اخر الملل إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ (٧) اى كذب اختلقه .. ٨ أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ اى القران الاستفهام للانكار فهو بمعنى النفي فهو تأكيد لمضمون قولهم ان هذا الّا اختلاق مِنْ بَيْنِنا و ليس بأكبرنا و لا اكثر منا فى المال و الجاه و فيه دليل على ان منشأ تكذيبهم لم يكن الا الحسد و قصور النظر على الحطام الدنيوي قال اللّه تعالى بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي اى القران حيث كذبوا الجائى به إضراب للانكار و اثبات للشك لميلهم الى التقليد و اعراضهم عن الدليل يعنى ليس عندهم حجة يوجب علما يقينيا بما يقولون انه ساحر كذاب بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) و لو ذاقوا ما قالوا ذلك و سيذقونها و حينئذ يزول عنهم الشك و لا ينفعهم و بل للاضراب عن الشك و اثبات يقينهم و اعتقادهم بانتفاء حقيقة القران فاثبات الشك انما هو بالنظر الى انتفاء الحجة عندهم و اثبات اليقين نظرا الى جهلهم المركب و زعمهم الفاسد تعنتا و عنادا- و قيل بل في الموضعين ابتدائية ليست للاضراب فالجملة الاولى جواب لكلام الكفار و الثانية تأكيد للاولى. ٩ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ اى نعمة ربك يعنى مفاتيح النبوة يعطوها من يشاءوا يعنى ليس الأمر كذلك فان النبوة عطية من اللّه يتفضل بها على من يشاء من عباده لا مانع لما أعطاه فانه الْعَزِيزِ الغالب الذي لا يغلبه شى ء الْوَهَّابِ (٩) الذي يهب ما يشاء لمن يشاء أم منقطعة بمعنى بل و الهمزة قيل للاضراب من دعوى الى دعوى اخر او الهمزة لانكار ذلك الدعوى و كذلك أم فى قوله. ١٠ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما لمّا أنكر عليهم التصرف فى النبوة بان ليس عندهم خزائن رحمته التي لا نهاية لها اردف ذلك بانه ليس لهم مدخل فى امر هذا العالم الجسماني الذي هو جزء يسير من خزائنه فمن اين لهم ان يتصرفوا فيها فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جواب شرط محذوف اى ان كان لهم ذلك فليصعدوا فى المعراج التي يتوصلون بها الى العرش حتى يستروا عليه و يدبروا امر العالم فينزلوا الوحى الى من يتصفون و هو غاية التهكم بهم و الأمر للتوبيخ و التعجيز قال قتادة و مجاهد أراد بالأسباب أبواب السماء و طرقها من سماء الى سماء و كل ما يوصلك الى شى ء من باب او طريق فهو سببه. ١١ جُنْدٌ ما هُنالِكَ ما هذه للتقليل و جند خبر مبتدا محذوف اى هؤلاء الذين يقولون هذا القول جند قليل مَهْزُومٌ عن قريب صفة لجند و كذا قوله مِنَ الْأَحْزابِ (١١) اى من احزاب الكفار المتحزبين على الرسل فى القرون الماضية فقهروا و اهلكوا فمن اين لهم التدابير الالهية و التصرف فى الأمور الربانية او فلا تهتم بما يقولون قال قتادة اخبر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه و سلم انه سيهزم جند المشركين و قال سيهزم الجمع و يولّون الدّبر فجاء تأويلها يوم بدر و هنالك اشارة الى بدر و مصارعهم و الظاهر انه اشارة الى حيث وضعوا أنفسهم و أتوا بمثل هذا القول العظم و تكذيبهم إياك-. ١٢ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ اى قبل اهل مكة قَوْمُ نُوحٍ تأنيث قوم من حيث المعنى وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) قال ابن عبّاس و محمد بن كعب ذو البناء المحكم و قيل أراد الملك السديد الثابت قال القتيبي تقول هم فى العز الثابت الأوتاد يريدون انه الدائم الشديد و قال الضحاك ذو القوة و البطش الشديد و قال عطية ذو الجنود و الجموع الكثيرة يعنى انهم كانوا يقوّون امره و يشدون ملكه كما يقوى الوتد الشي ء و ايضا سميت الأجناد أوتادا لكثرة المضارب التي كانوا يضربونها و يوتدونها فى أسفارهم و هى رواية عطية عن ابن عباس و قال الكلبي و مقاتل الأوتاد جمع الوتد و كانت له أوتاد يعذب الناس عليها و كان إذا غضب على أحد مدّه مستلقيا بين اربعة أوتاد و شد كل يد و كل رجل الى سارية و تركه كذلك فى الهواء بين السماء و الأرض حتى يموت و قال مجاهد و مقاتل بن حبان كان يمد الرجل مستلقيا على الأرض ثم يشد يديه و رجليه على الأرض بالأوتاد و قال السدى كان يمد الرجل و يشده بالأوتاد و يرسل عليه العقارب و الحيات و قال قتادة كانت له أوتاد و أرسان و ملاعب يلعب عليها بين يديه. ١٣ وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ اى اصحاب الغيظة و هم قوم شعيب أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) اللام للعهد اى أولئك الأحزاب الذين مر ذكرهم فى قوله جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب الذين تحزبوا على الرسل و مشركوا مكة حزب منها. ١٤ إِنْ كُلٌّ اى ما كل حزب منهم فعل شيئا إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ بيان لما أسند إليهم من التكذيب على الإبهام مشتملا على انواع من التأكيد ليكون تسجيلا على استحقاقهم أشد العذاب و لذلك رتب عليه فَحَقَّ عِقابِ (١٤) اى وجب عليهم و انزل بهم عذابى الذي يستحق ان يعقب الكفر قرا يعقوب عقابى بالياء وصلا و وقفا و الباقون بحذفها و الاكتفاء على الكسرة و فى قوله كلّ كذّب الرّسل اما مقابلة الجمع بالجمع او جعل تكذيب واحد منهم تكذيبا لكلهم لاتحاد كلمتهم .. ١٥ وَ ما يَنْظُرُ اى ما ينتظر عطف على قوله و قال الكافرون او حال هؤُلاءِ اى كفار قريش إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً اى نفخة الصور يعنى لا يؤمنون حتى يرووا العذاب الأليم حين لا ينفعهم ايمانهم ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) صفة بعد صفة لصحيحة قرا حمزة و الكسائي «و خلف ابو محمد» بضم الفاء و الباقون بفتحها و هما لغتان بالفتح لغة قريش و بالضم لغة تميم قال ابن عباس و قتادة معناه من رجوع و قال مجاهد نظرة و قال الضحاك مثنوية اى صرف و قال الفراء و ابو عبيدة بالفتح بمعنى الراحة و الافاقة كالجواب بمعنى الاجابة و ذهب بها الى افاقة المريض من غلبة المرض و بالضم ما بين الحلبتين و هى تحلب ناقة و تترك ساعة حتى يجتمع اللبن فى الضرع بين الحلبتين يعنى مالها مهلة مقدار ما بين الحلبتين قيل هما مستعاران من الرجوع لان اللبن يعود الى الضرع بين الحلبتين و افاقة المريض رجوعه الى الصحة يعنى لا رجوع الى الدنيا بعد الصيحة او إذا جاءت الصيحة لم ترد و لم تصرف او لا نظرة قدر ما بين الحلبتين او لا افاقة و لا راحة حينئذ قال الكلبي لمّا نزلت فى الحاقة فامّا من اوتى كتابه بيمينه و امّا من اوتى كتابه بشماله قالت كفار مكة استهزاء ربّنا عجّل لّنا قطنا فنزلت. ١٦ وَ قالُوا عطف على قال الكافرون رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا و القطّ هى الصحيفة التي احصت كل شى ء كذا قال سعيد بن جبير عن ابن عباس يعنى عجل لنا كتابنا فى الدنيا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) و روى عن سعيد بن جبير انه قال يعنون عجّل لّنا حظنا و نصيبنا من الجنة التي يقول محمد و قال الحسن و قتادة و مجاهد و السدىّ يعنون عقوبتنا و نصيبنا من العذاب و قال عطاء هذا ما قاله النضر بن الحارث اللّهمّ ان كان هذا هو الحقّ من عندك فامطر علينا حجارة من السّماء و عن مجاهد قال قطّنا حسابنا. ١٧ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ استهزاء و تكذيبا جملة مستأنفة و عطف عليه قوله وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ فان ذكر الأنبياء يقتضى الصبر على ما يكرهه الطبع و حبس النفس على الطاعة و عن المعصية ذَا الْأَيْدِ اى ذا القوة و البطش الشديد على الطاعة إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) اى رجّاع الى اللّه عما سواه و الى الطاعة عن المعصية قال ابن عباس اى مطيع و قال سعيد بن جبير المسبّح بلغة الحبش و هو تعليل للايد دليل على ان المراد به القوة فى الدين روى الشيخان فى الصحيحين و احمد و النسائي و ابن ماجة عن ابن عمر رضى اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال أحب الصيام الى اللّه صيام داود كان يصوم يوما و يفطر يوما و أحب الصلاة الى اللّه صلوة داود كان ينام نصف الليل و يقوم ثلثه و ينام السدس الأخير من الليل .. ١٨ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ جملة سخّرنا الى قوله فصل الخطاب بيان لكرامة داود عليه السلام عند اللّه فكانّه بدل اشتمال لداود اى اذكر كرامة داود عند اللّه حيث سخرنا له الجبال الى آخره يُسَبِّحْنَ حال وضع موضع مسبّحات لاستحضار الحال الماضية و الدلالة على تجدد التسبيح منه حالا بعد حال بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ (١٨) قال الكلبي غدوة و عشيّا و الاشراق هو ان تشرق و يتناهى ضؤها و فسره ابن عباس بصلوة الضحى روى البغوي بسنده عن ابن عباس فى تفسير هذه الاية قال كنت أمن بهذه الاية لا أدرى ما هى حتى حدثتنى أم هانى بنت ابى طالب ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم دخل علينا فدعا بوضوء فتوضا ثم صلى الضحى فقال يا أم هانى هذا صلوة الاشراق- و أخرجه الطبراني فى الأوسط و ابن مردوية و اخرج ابن جرير و الحاكم عن عبد اللّه بن الحرث عن ابن عباس انه قال ما عرفت صلوة الضحى الا بهذه الاية و أخرجه سعيد بن منصور. ١٩ وَ الطَّيْرَ عطف على الجبال يعنى سخّرنا مَحْشُورَةً اى مجتمعة اليه من كل جانب تسبح معه كُلٌّ اى كل واحد من الجبال و الطير لَهُ أَوَّابٌ (١٩) اى رجّاع الى التسبيح بتسبيحه و الفرق بينه و بين ما قبله انه يدل على الموافقة فى التسبيح و هذا على المداومة عليها او المعنى كل واحد من داود و الجبال و الطير له اى للّه تعالى اوّاب-. ٢٠ وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ اى قوّيناه بالهيبة و النصرة و كثرة الجنود قال البغوي قال ابن عباس كان داود أشد ملوك الأرض سلطانا يحرس محرابه كل ليلة ست و ثلاثون الف رجل روى البغوي عن عكرمة عن ابن عباس ان رجلا من بنى إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم عند داود ان هذا أغصبنى بقرا فسأله داود فجحد و سأل الاخر البينة و لم تكن له بينة فقال لهما داود قوما حتى أنظر فى أمركما فاوحى اللّه الى داود فى منامه ان يقتل الذي استعدى عليه فقال هذه رؤيا و لست اعجل حتى اثبت فأوحى اليه مرة اخرى فلم يفعل فاوحى اليه الثالثة ان يقتله او يأتيه العقوبة فارسل داود اليه فقال ان اللّه اوحى الىّ ان أقتلك قال تقتلنى بغير بينة قال نعم و اللّه لانفذن امر اللّه فيك فلمّا عرف الرجل انه قاتله قال لا تعجل حتى أخبرك انى و اللّه ما أخذت بهذا الذنب و لكنى كنت اغتلت والد هذا فقتلته فلذلك أخذت فامر به داود فقتله فاشتدت هيبة فى بنى إسرائيل عند ذلك لداود و اشتد به ملكه- و كذا روى عبد بن حميد و ابن جرير و ابن ابى حاتم عن ابن عباس وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ اى النبوة و كمال العلم و إتقان العمل وَ فَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) قال البغوي قال على بن ابى طالب رضى اللّه عنه هو ان البينة على المدعى و اليمين على من أنكر لان كلام الخصوم ينقطع و ينفصل به- قال و يروى ذلك عن أبيّ بن كعب قال فصل الخطاب الشهود و الايمان و هو قول مجاهد و عطاء بن ابى رباح و قال قال ابن مسعود و الحسن و الكلبي و مقاتل هو البصيرة فى القضاء و قال قال ابن عباس هو بيان الكلام يعنى الكلام الذي يظهر به المقصود على المخاطب من غير التباس يراعى فيه الفصل و الوصل و العطف و الاستئناف و الإضمار و الإظهار و الحذف و التكرار و نحوها على ما بين فى علم البلاغة و لا يكون فيه اختصار مخل و إشباع ممل كما جاء فى حديث أم معبد الذي ذكرناه فى سورة التوبة فى قصة الهجرة فى تفسير قوله تعالى فانزل اللّه سكينته عليه و ايّده بجنود لّم نزوها فى وصف كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فصل لا نزر و لا هذر اى لا قليل مخلّ و لا كثير مملّ و روى عن الشعبي ان فصل الخطاب هو قول الإنسان بعد حمد اللّه و الثناء عليه اما بعد إذا أراد الشروع فى كلام قال البيضاوي انما سمى به اما بعد لانه يفصل المقصود عمّا سبق مقدمة له من الحمد و الصلاة .. ٢١ وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ استفهام و معناه التعجب و التشويق الى استماع القصة و الجملة معطوفة على اذكر و الخصم فى الأصل مصدر و لذلك يصلح للاطلاق على المثنى و المجموع و المراد هاهنا متخاصمان و انما أورد صيغة الجمع فى قوله تعالى إِذْ تَسَوَّرُوا مجازا كما فى قوله تعالى فقد صنعت قلوبكما و هو تفعّل من السور كتسنم من السنام و معناه إذ تصعدوا الْمِحْرابَ (٢١) اى القلعة سمى محرابا لانه يحرب عليه او المراد به المسجد لما انه يحرب فيه من الشيطان و جاز ان يكونوا جماعة كما يدل عليه الصيغة و ضمائر الجمع و إذ متعلق بمحذوف اى نبأ تحاكم الخصم إذ تسوروا او بالنبا على ان المراد به الواقع فى عهد داود و ان اسناد اتى اليه على حذف المضاف اى قصة نبا الخصم او بالخصم لما فيه من معنى الفعل لا بأتى لان إتيانه الرسول صلى اللّه عليه و سلم لم يكن حينئذ- و هذه امتحان داود عليه السلام قال البغوي اختلف العلماء فى سببه فقال قوم سبب ذلك انه عليه السلام تمنى يوما من الأيام منزلة ابائه ابراهيم و إسحاق و يعقوب و سال ربه ان يمتحنه كما امتحنهم و يعطيه من الفضل ما أعطاهم فروى السدىّ و الكلبي و مقاتل عن أشياعهم دخل حديث بعضهم فى بعض قالوا كان داود قسّم الدهر ثلاثة اقسام يوم يقضى بين الناس و يوم يخلو فيه لعبادة ربه و يوم لنسائه و أشغاله ق لت و اخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن الحسن انه جزّ الدهر اربعة اجزاء فزاد و يوم للوعظ قالوا و كان داود يجد فيما يقرأ من الكتب فضل ابراهيم و إسحاق و يعقوب فقال يا رب ارى الخير كله قد ذهب به ابائى الذين كانوا من قبلى فاوحى اللّه اليه انهم ابتلوا ببلايا لم تبتل بها فصبروا عليها ابتلى ابراهيم بنمرود و بذبح ابنه و ابتلى إسحاق بالذبح و بذهاب بصره و ابتلى يعقوب بالحزن على يوسف فقال يا رب لو ابتليتني بمثل ما ابتليتهم لصبرت ايضا فاوحى اللّه اليه انك مبتلى فى شهر كذا فى يوم كذا فاحترس- فلمّا كان ذلك اليوم الذي وعده اللّه دخل داود محرابه و جعل يصلى و يقرأ الزبور فبينا هو كذلك إذ جاءه الشيطان قد تمثل فى صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن و قيل جناحاه من الدر و الزبرجد فوقفت بين رجليه فاعجبه حسنها فمديده ليأخذها فيريها بنى إسرائيل فينظروا الى قدرة اللّه تعالى فلمّا قصد أخذها طارت غير بعيد من غير ان تؤيسه من نفسها فامتد إليها ليأخذها فتنحت فتبعها فطارت حتى وقعت فى كوة فذهب لياخذها فطارت من الكوة فنظر داود اين تقع فيبعث من يصيدها فابصر امراة فى بستان على شط بركة لها تغتسل هذا قول الكلبي و قال السدى راها تغتسل على سطح لها فراى امرأة من أجمل النساء خلقا فعجب داود من حسنها و حانت منها التفاته فابصرت ظلة فنقضت شعرها فغطت بدنها فزاده ذلك عجبا فسال عنها فقيل هى تشائع بنت شائع امراة أوريا بن حنانا و زوجها فى غزاة بالبلقاء مع أيوب بن صوريا ابن اخت داود عليه السلام فذكر بعضهم انه أحب ان يقتل أوريا و يتزوج امرأته فكان ذنبه هذا القدر- و ذكر بعضهم انه كتب داود الى ابن أخته أيوب ان ابعث أوريا الى موضع كذا و قدّمه قبل التابوت و كان من قدّم التابوت لا يحل له ان يرجع وراءه حتى يفتح اللّه على يديه او يستشهد و قدّمه ففتح له فكتب الى داود بذلك فكتب اليه ايضا ان ابعثه الى عدوّ كذا و كذا فبعثه ففتح له فكتب الى داود بذلك فكتب اليه ايضا ان ابعثه الى عدو كذا و كذا أشد منه بأسا فبعثه فقتل فى المرة الثالثة- فلما انقضت عدة المرأة تزوجها داود فهى أم سليمان عليهما السلام- قال البغوي و عن ابن مسعود انه قال كان فى ذنب داود انه التمس من الرجل ان ينزل عن امرأته قال اهل التفسير كان ذلك مباحا لهم غير ان اللّه لم يرض له ذلك لانه كان رغبة فى الدنيا و ازدياد النساء و قد أغناه اللّه عنها بما أعطاه من غيرها قال البغوي و روى عن الحسن انه كان جزّ الدهر اربعة اجزاء كما ذكر عبد بن حميد و غيره و زاد فلمّا كان يوم وعظ بنى إسرائيل يذاكرهم و يذاكرونه و يبكيهم و يبكونه فقالوا هل يأتى على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا فاضمر داود فى نفسه انه سيطيق ذلك و قيل انهم ذكروا فتنة النساء فاضمر داود فى نفسه انه ان ابتلى اعتصم فلمّا كان يوم عبادته غلق أبوابه و امر ان لا يدخل عليه أحد و أكب على التوراة فبينا هو يقرا إذ دخلت عليه حمامة من ذهب كما ذكرنا قال و كان قد بعث زوجها على بعض جيوشه فكتب اليه ان يسير الى مكان كذا و كذا مكانا إذا سار اليه قتل ففعل فاصيب فتزوج امرأته قال فلمّا دخل داود بامراة أوريا لم يلبس الا يسيرا حتى بعث اللّه اليه ملكين فى صورة رجلين يوم عبادته فطلبا اى يدخلا عليه فمنعهما الحرس فتسورا المحراب عليه فما شعر و هو يصلى الا و هما بين يديه جالسين يقال كانا جبرئيل و ميكائيل عليهما السلام-. ٢٢ إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ بدل من قوله إذ تسوّروا فَفَزِعَ مِنْهُمْ اى خاف داود من الخصم لانهما نزلا عليه من فوق فى يوم الاحتجاب و الحرس على الباب لا يتركون من دخل عليه قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ اى نحن متخاصمان بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ هذا الكلام على الفرض و قصد التعريض كانّهم قالوا ان كنا خصمين يعنى بعضنا على بعض فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ اى لا تجر يقال شط الرجل شططا و أشط أشطاطا إذا جار فى حكمه و المعنى مجاوزة الحد و اصل الكلمة من شطت الدار و اشطت إذا بعدت وَ اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) سواء مصدر بمعنى الفاعل صفة للصراط أضيف اليه على طريقة اخلاق ثياب يعنى اهدنا الى طريق مستوى اى وسطه و هو العدل. ٢٣ إِنَّ هذا أَخِي اى على دينى و طريقى لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً اى امراة العرب تكنى المرأة بالنعجة و قال الحسن بن الفضل هذا تعريض للتنبيه و التفهيم إذ لم يكن هناك نعاج و الجملة الظرفية خبر بعد خبر لان وَ لِيَ قرأ حفص بفتح الياء و الباقون بإسكانها نَعْجَةٌ واحِدَةٌ الجملة الظرفية منصوب على الحال و العامل فيه الظرف السابق فَقالَ عطف على قوله له تسع و تسعون نعجة أَكْفِلْنِيها قال ابن عباس اعطنيها و قال مجاهد انزل لى عنها يعنى طلقها لا تزوجها و حقيقته ضمها الىّ و اجعلنى اكفّلها كما اكفّل ما تحت يدى و قيل معناه اجعلها كفلى و نصيبى وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) عطف على قال معناه غلبنى فى المخاطبة إياي محاجة قال الضحاك يعنى ان تكلم كان افصح منى و ان حارب كان ابطش منى فالغلبة له لضعفى فى يده و ان كان الحق معى و قيل معناه غلبنى فى خطبة المرأة اى خطبت المرأة و خطبها هو على خطبتى فغلبنى حتى تزوجها. ٢٤ قالَ داود بعد اعتراف صاحبه بذلك لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ و قيل معناه ان كان الأمر كما تقول فلقد ظلمك و الجملة جواب قسم محذوف قصد به المبالغة فى انكار فعل خليطه و تهجين طمعه و السؤال مصدر مضاف الى مفعوله و تعديته الى مفعول اخر بالى لتضمنه معنى الاضافة اى ظلمك بسؤال ان يضيف نعجتك الى نعاجه وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ اى الشركاء الذين خلطوا امرا لهم جمع خليط لَيَبْغِي اى ليظلم بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فانهم لا يظلمون أحدا جملة و انّ كثيرا عطف على لقد ظلمك وَ قَلِيلٌ ما هُمْ اى و هم قليل و ما مزيدة للابهام و التعجب من قلتهم. فلمّا قضى بينهما داود نظر أحدهما الى صاحبه فضحك و صعدا فى السماء وَ ظَنَّ داوُدُ اى علم و أيقن عطف على قال لقد ظلمك أَنَّما فَتَنَّاهُ يعنى ان اللّه ابتلاه و امتحنه بتلك الحكومة هل يتنبه بها أم لا. قال السدى بإسناده ان أحدهما لمّا قال انّ هذا أخي الاية قال داود للاخر ما تقول فقال ان لى تسع و تسعون نعجة و لاخى نعجة واحدة و انا أريد ان أخذها منه فاكمّل نعاجى مائة و هو كاره قال إذا لا ندعك فان رمت ذلك ضربت هذا و هذا و هذا يعنى طرف الانف و أصله و الجبهة. فقال يا داود أنت احقّ بذلك حيث لم يكن لاوريا الا امراة واحدة و لك تسع و تسعون امراة فلم تزل تعرضه للقتل حتى قتل و تزوجت امرأته فنظر داود فلم ير أحدا فعرف ما وقع فيه. و قال القائلون بتنزيه الأنبياء فى هذه القصة ان ذنب داود انما كان انه تمنى ان يكون امراة أوريا حلالا له فاتفق غزو أوريا و تقدمه فى الحرب فلمّا بلغ قتله داود لم يجزع عليه كما كان يجزع على غيره من جنده إذا هلك ثم تزوج امرأته فعاتبه اللّه على ذلك لان ذنوب الأنبياء و لو صغرت فهى عظيمة عند اللّه نظرا الى رفعة شأنهم و قيل كان ذنب داود ان أوريا كان خطب تلك المرأة و وطن نفسه عليها فلما غاب فى غزاته خطبها داود فزوجت منه لجلالته فاغتم لذلك أوريا فعاتبه اللّه على ذلك حيث لم يترك هذه الواحدة لخاطبها و عنده تسع و تسعون امراة- و ذكر البغوي حديث انس بن مالك رضى اللّه عنه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ان داود النبي حين نظر الى المرأة فاهم قطع على بنى إسرائيل فاوصى صاحب البعث فقال إذا حضر العدو فقرب فلانا بين يدى التابوت و كان التابوت فى ذلك الزمان يستنصريه و من قدم بين يدى التابوت لم يرجع حتى يقتل او ينهزم عنه الجيش فقتل زوج المرأة فنزل الملكان يقصان عليه القصة ففطن داود فسجد فمكث أربعين ليلة ساجدا حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه و أكلت الأرض من جبهته و هو يقول فى سجوده ربّ ذل داود زلة ابعد ممّا بين المشرق و المغرب رب ان لم ترحم ضعف داود و لم تغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثا فى الخلوف من بعده فجاءه جبرئيل من بعد أربعين ليلة فقال يا داود ان اللّه قد غفر لك الهم الذي هممت به فقال داود ان الرب قادر على ان يغفر لى الهمّ الذي هممت به و قد عرفت انّ اللّه عدل لا يميل فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال رب دمى الذي عند داؤد فقال جبرئيل ما سالت ربّك عن ذلك و ان شئت لا فعلن قال نعم فعرج جبرئيل و سجد داؤد فمكث ما شاء اللّه ثمّ نزل فقال سالت اللّه يا داؤد عن الذي أرسلتني فيه فقال قل لداؤد ان اللّه يجمعكما يوم القيامة فيقول له هب لى دمك الذي عند داؤد و يقول هو لك يا رب فيقول ان لك فى الجنّة ما شئت و ما اشتهيت عوضا عنه و روى عن ابن عباس و عن كعب الأحبار و وهب بن منبه قالوا جميعا ان داؤد لمّا دخل عليه الملكان فقضى على نفسه فتحولا عن صوريتهما فعرجا و هما يقولان قضى الرجل على نفسه و علم داؤد انه انما عنى به فخرسا جدا أربعين يوما لا يرفع راسه الّا لحاجة و لوقت صلوة مكتوبة ثم يعود ساجدا تمام أربعين يوما لا يأكل و لا يشرب و هو يبكى حتى نبت العشب حول رأسه و هو ينادى ربّه عزّ و جلّ و يسئله التوبة و كان من دعائه فى سجوده سبحان الملك الأعظم الذي يبتلى الخلق بما يشاء سبحان خالق النور سبحان الحائل بين القلوب سبحان خالق النّور الهى أنت خليت بينى و بين عدوى إبليس فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي سبحان خالق النور الهى أنت خلقتنى و كان من سابق علمك ما انا اليه صائر سبحان خالق النور الهى الويل لداؤد إذا كشف عنه الغطاء فيقال هذا داؤد الخاطئ سبحان خالق النور الهى باىّ عين انظر إليك يوم القيامة و انّما ينظر الظالمون من طرف خفى سبحان خالق النور الهى باىّ قدم امشى امامك و أقوم بين يديك يوم تزول أقدام الخاطئين سبحان خالق النور الهى من اين يطلب العبد المغفرة الا من عند سيّده سبحان خالق النور الهى انا الذي لا أطيق حرّ شمسك فكيف أطيق حرّ نارك سبحان خالق النور الهى انا الذي لا أطيق صوت رعدك فكيف أطيق صوت جهنم سبحان خالق النور الهى الويل لداؤد من الذنب العظيم الذي أصاب سبحان خالق النور الهى قد تعلم سرّى و علانيتى فاقبل عذرى سبحان خالق النور الهى برحمتك اغفر لى ذنوبى و لا تباعدني من رحمتك لهواى سبحان خالق النّور الهى أعوذ بنور وجهك الكريم من ذنوبى التي أوبقتني سبحان خالق النور الهى فررت إليك بذنوبي و اعترفت بخطيئتي فلا تجعلنى من القانطين و لا تحزنى يوم الدّين سبحان خالق النور- قال مجاهد فمكث داؤد أربعين يوما ساجدا لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموع عينيه حتّى غطى رأسه فنودى يا داؤد اجائع فتطعم او ظمئان فتسقى او عار فتكسى فاجيب فى غير ما طلب قال فنحب نحبة هاج لها العود فاحترق من حرّ جوفه ثمّ انزل اللّه له التوبة و المغفرة- قال وهب ان داؤد أتاه نداء انى قد غفرت لك قال يا ربّ كيف و أنت لا تظلم أحدا قال اذهب الى قبر أوريا فناده فانا أسمعه نداءك فتحلل منه قال فانطلق و قد لبس المسوح حتّى جلس عند قبر أوريا ثم ناداه فقال لبّيك من هذا الّذى قطع عنّى لذّتى و أيقظني قال انا داؤد قال ما جاء بك يا نبى اللّه قال أسئلك ان تجعلنى فى حلّ ممّا كان منّى إليك قال و ما كان منك الىّ قال عرضتك للقتل قال قد عرضتنى للجنة فانت فى حل فاوحى اللّه الى داود يا داود الم تعلم انى حكم عدل لا أقضي بالتعنت الا أعلمته انّك قد تزوّجت امرأته قال فرجع اليه فناداه فاجابه فقال من هذا الذي قطع عنى لذّتى قال انا داود قال يا نبى اللّه أ ليس قد عفوت عنك قال نعم و لكن انما فعلت ذلك بك لمكان امرأتك و قد تزوجتها قال فسكت و لم يجبه و دعاه فلم يجبه عاوده فلم يجبه فقام عن قبره و جعل يحثو التراب على رأسه ثم نادى الويل لداود ثم الويل لداود ثم الويل الطويل لداود سبحان خالق النور و الويل لداود إذا نصب الموازين بالقسط سبحان خالق النور الويل لداود ثم الويل الطويل لداود حين يؤخذ بذقنه فيدفع الى المظلوم سبحان خالق النور الويل لداؤد ثم الويل الطويل لداؤد حين يسحب على وجهه مع الخاطئين الى النار سبحان خالق النّور- فاتاه نداء من السّماء يا داود قد غفرت لك ذنبك و رحمت على بكائك و استجبت دعائك و أقلت عثرتك قال يا رب كيف و صاحبى لم يعف عنّى قال يا داؤد أعطيه من الثواب يوم القيامة ما لم تر عيناه و لم يسمع أذناه فاقول له رضيت عن عبدى داود فيقول يا رب من اين لى هذا و لم يبلغه عملى فاقول هذا عوض عن عبدى داود فاستوهبك منه فيهبك لى قال يا ربّ الان قد عرفت انّك قد غفرت لى فذلك قوله عزّ و جلّ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ لذنبه وَ خَرَّ راكِعاً اى ساجدا على تسمية السجود ركوعا لانه مبدؤه و قيل معناه خرّ اى سجد بعد ما كان راكعا كانه احرم بركعتى الاستغفار فسجد فى الصّلوة وَ أَنابَ (٢٤) اى رجع الى اللّه بالتوبة- و استدلت الحنفية لهذه الاية على انه من قرا اية السجدة و ركع على الفور بنية سجود التلاوة أجزأه لان اللّه سبحانه قال خرّ راكعا اطلق الركوع على السجود فعلم منه ان المقصود هو التعظيم لا خصوصية السجود و معنى التعظم فيهما واحد و الحاجة الى تعظيم اللّه تعالى اما اقتداء بمن عظّم او مخالفة لمن استكبر و هذا هو الظاهر فلهذا سمى قياسا- و قالت الائمة الثلاثة لعدم اجزاء الركوع عن السجود و هو الاستحسان وجه الاستحسان ان الواجب التعظيم بجهة مخصوصة و هى السجود بدليل انه لو لم يركع على الفور حتى طاعت القراءة ثم نوى ان يقع الركوع عن السجدة لا يجوز اجماعا و تسمية السجود بالركوع فى هذه الاية غير مسلم و لو سلم فهو مجاز محض و ذلك لا يقتضى قيام أحدهما مقام الاخر- و اختار ابو حنيفة رحمه اللّه هاهنا القياس على الاستحسان لقوة تأثيره و ذلك باعتضاده بما روى عن ابن مسعود و ابن عمر انهما كانا أجازا ان يركع عن السجود فى الصلاة و لم يرو من غيرهما خلاف ذلك و لا ترجيح للقياس الخفي بخفائه و لا للظاهر بظهوره بل يرجع فى الترجيح الى ما اقترن بهما من المعاني و قوة القياس الظاهر المتبادر بالنسبة الى الخفي المعارض له فى غاية العلة فلذا حصروا مواضع تقديم القياس على الاستحسان فى بضع عشر موضعا يعرف فى الأصول هذا أحدها و لا حصر لمقابله- (مسئلة) و لو ركع على فور تلاوة اية السجدة و لم ينو للتلاوة ثم سجد سقط سجدة التلاوة بالسجدة الصلاتية نوى او لم ينو و كذا لو قرا بعد اية السجدة اية او ايتين عند ابى حنيفة رحمه اللّه خلافا للجمهور و فى ثلاث آيات اختلفت الرواية عن ابى حنيفة و فيما زاد على الثلاث لا ينوبه ركوع و لا سجدة صلاتية سواء نوى او لم ينو- (مسئلة) و يجب عليه قضاء سجدة التلاوة ما دام فى الصلاة عند ابى حنيفة رحمه اللّه كذا قال جمهور الحنفية و ظن محمد بن سلمة ان قيام السجدة الصلبية مقام سجدة التلاوة قياس و فى الاستحسان لا يجوز لان السجدة الصلاتية قائم مقام نفسها بأ فلا يقوم مقام غيرها كصوم يوم من رمضان لا يجوز ان يقوم عن نفسه و عن قضاء يوم اخر فالقياس فيه مقدم على الاستحسان و اما قيام الركوع مقام سجدة التلاوة فالقياس يأبى عنه و هو الظاهر و فى الاستحسان يجوز و هو الخفي فهو من باب تقديم الاستحسان على القياس- (مسئلة) يجب السجود على من تلا هذه الاية من ص عند ابى حنيفة رحمه اللّه و عند مالك سنة كقوله فى مطلق سجود التلاوة و كذا عند احمد فى احدى الروايتين و قال الشافعي و احمد فى الرواية المشهور عنه انها سجدة شكر يستحب فى غير الصلاة و لا يجوز فى الصلاة احتج ابن الجوزي على انها ليست من عزائم السجود بحديث ابن عباس قال رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يسجد فى ص قال ابن عباس و ليست من عزائم السجود- رواه ابن الجوزي من طريق الترمذي و قال قال الترمذي هذا حديث صحيح قلت و رواه البخاري فى الصحيح عن ابن عباس قال سجدة ص ليس من عزائم السجود و قد رايت النبي صلى اللّه عليه و سلم يسجد فيها و فى رواية قال مجاهد قلت لابن عباس أ اسجد فى ص فقرأ و من ذرّيّته داود و سليمان حتى اتى على قوله فبهديهم اقتده فقال نبيكم ممن امر ان يقتدى بهم و هذا يقتضى الوجوب فهو حجة لنا لا علينا و قول ابن عباس ليست من عزائم السجود موقوف يعارضه قوله نبيكم صلى اللّه عليه و سلم أمران يقتدى بهم و المرفوع فعله صلى اللّه عليه و سلم و احتج ابن الجوزي ايضا بحديث ابى سعيد الخدري قال خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوما قرا ص فلمّا مرّ بالسجود نزل فسجد و سجدنا معه و ق رأها اخرى فلما بلغ السجدة نشرنا للسجود فلما رأنا قال انما هى سجدة توبة نبى و لكنى أراكم قد استعددتم للسجود فنزل فسجد و سجدنا- رواه ابن الجوزي من طريق الدار قطنى و هذا ايضا ممّا لا حجة علينا فيه غاية ما فى الباب ان يكون فيه دلالة على عدم وجوب سجود التلاوة مطلقا كما قال به الجمهور و هو المختار عندى للفتوى و به قال الطحاوي من الحنفية خلافا لابى حنيفة رحمه اللّه و لنا ايضا حديث ابى هريرة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم سجد فى ص- رواه ابن الجوزي من طريق الدار قطنى و حديث ابى سعيد ان رسول اللّه سجد فى ص- رواه الطحاوي و ابو داود و الحاكم و ذكر البيهقي عن جماعة من الصحابة انهم سجدوا فى ص عن السائب بن يزيد قال صليت خلف عمر الفجر فقرأ بنا سورة ص فسجد فيها فلمّا قضى الصلاة قال له رجل يا امير المؤمنين من عزائم السجود هذه فقال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يسجد فيها- و عن ابى مريم قال لمّا قدم عمر الشام اتى محراب داود فصلى فيه فقرأ سورة ص فلمّا انتهى الى السجدة سجد و حديث ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه و سلم سجد فى ص و قال سجدها داود توبة و نسجدها شكرا- رواه النسائي من حديث حجاج بن محمد عن عمر بن ذر موصولا و رواه الدار قطنى و رواه الشافعي فى الام عن ابن عيينة عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم و روى من وجه اخر من حديث عبد اللّه بن بزيع عن عمر بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم و أعله بابن بزيع قال قال ابن عدى ليس ممن يحتج به و صححه ابن السكن كذا قال ابن حجر قال ابن همام غاية ما فيه انه صلى اللّه عليه و سلم بين السبب فى حق داود و السبب فى حقنا كون الشكر سببا لا ينافى الوجوب فان الفرائض و الواجبات انما وجبت شكرا لتوالى النعم و فى مسند ابى حنيفة روى ابو حنيفة عن سماك بن حرب عن عياض الأشعري عن ابى موسى ان النبي صلى اللّه عليه و سلم سجد فى ص- و اخرج احمد عن بكر بن عبد اللّه المزني عن ابى سعيد رضى اللّه عنه قال رايت رويا و انا اكتب سورة ص فلمّا بلغت السجدة رايت الدوات و القلم و كل شى ء يحضرنى انقلب ساجدا قال فقصصتها على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فلم يسجدها قال ابن همام فافادان الأمر صار الى المواظبة عليها كغيرها من غير ترك و استقر عليه بعد ان كان قد لا يعزم عليها فظهر ان ما رواه ان تمت دلالته كان قبل هذه القصة- (فصل) عن ابن عباس قال جاء رجل الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال يا رسول اللّه رايتنى الليلة و انا نائم كانى أصلي خلف شجرة فسجدتّ فسجدت الشجرة بسجودى فسمعتها تقول اللّهم اكتب لى بها عندك اجرا وضع عنى بها وزرا و اجعلها لى عندك زخرا و تقبلها منى كما تقبلتها من عبدك داود قال ابن عباس فسمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قرأ سجدة ثم سجد فقال مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة- رواه الترمذي (و قال هذا حديث غريب) و ابن حبان و الحاكم و كذا روى ابن ماجة الا انه لم يذكر و تقبلها منى كما تقبلت من عبدك داود. ٢٥ فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ اى ما استغفر عنه وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا بعد المغفرة لَزُلْفى اى قربا غير متكيف و مكانة حصلت بكمال الندم و الاستغفار بحيث لولا تلك الزلة لما حصلت و قيل معناه و انّ له زلفى اى زيادة خير فى الدنيا و مكانة وَ حُسْنَ مَآبٍ (٢٥) حسن مرجع و منقلب فى الاخرة- قلت و الظاهر ان من روى ان داود عليه السلام بعث مرة بعد مرة أوريا الى المغازي و أراد منه ان يقتل ليتزوج بعده زوجته فهو كذب مفترى حاشاه عن ذلك و عامة ما يدل عليه لفظ القران انه عليه السلام ودّ ان يكون له ما لغيره و كان له تسعا و تسعين من أمثاله فنبهه اللّه بهذه القضية فاستغفروا ناب عنه قال صاحب المدارك روى ان اهل زمان داود عليه السلام كان يسئل بعضهم بعضا ان ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته و كان لهم عادة فى المواساة بذلك كما كان الأنصار يواسون المهاجرين بمثل ذلك فاتفق ان عين داود عليه السلام وقعت على امراة أوريا فاحبها فساله النزول له عنها و استحيى أوريا ان يرد قوله ففعل فتزوجها- قلت و لم يفعل داود عليه السلام مثل ما فعل نبينا صلى اللّه عليه و سلم حين أعجبته زينب حيث قال لزيد امسك عليك زوجك و اتّق اللّه فزوجها اللّه إياه و لاجل ذلك عاتب اللّه داود عليه السلام فاستغفر ربّه و أناب و لفظ القران يؤيد هذه الرواية حيث ادعى المدعى بقوله قال أكفلنيها و عزّنى فى الخطاب و لم يقل أراد قتلى و حكم داود بانه قد ظلمك بسؤال لعجتك الى نعاجه و اللّه اعلم- قال البغوي قال وهب بن منبه ان داود لما تاب اللّه عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة و لا يرتى ادمعه ليلا و لا نهارا و كان أصاب الخطيئة و هو ابن سبعين سنة فقسم الدهر بعد الخطيئة على اربعة ايام يوم للقضاء بين بنى إسرائيل و يوم لنسائه و يوم يسبح فى الفيافي و الجبال و يوم يخلو فى داره فيها اربعة آلاف محراب فيجتمع اليه الرهبان فينوح معهم على نفسه فيساعدونه على ذلك فاذا كان يوم سياحتهم يخرج فى الفيافي و يرفع صوته بالمزامير فيبكى و يبكى معه الجبال و الحجارة و الدواب و الطير حتى يسيل اودية من بكائهم ثم يجئ الى الساحل فيرفع صوته بالمزامير فيبكى او يبكى معه الحيتان و دواب البحر و طير الماء و السباع فاذا امسى رجع فاذا كان يوم نوحه على نفسه نادى مناديه ان اليوم نوح داود على نفسه فليحضر من يساعده فيدخل الدار التي فيها المحاريب فبسط ثلاث فرش من مسوح حشوها ليف فيجلس عليها و يجئ اربعة آلاف راهب عليهم البرانس و فى أيديهم العصا فيجلسون فى تلك المحاريب ثم يرفع داود صوته بالبكاء و النوح على نفسه و يرفع الرهبان معه أصواتهم فلا يزال يبكى حتى يغرق الفرش من دموعه و يقع داود فيها مثل الفرخ و يضطرب فيجئ ابنه سليمان عليهما السلام فيحمله فيأخذ داود من تلك الدموع بكفيه ثم يمسح وجهه و يقول يا رب اغفر لى ما ترى فلو عدل بكاء داود ببكاء اهل الدنيا لعدله قال وهب ما رفع داود رأسه حتى قال له ملك أول أمرك ذنب و آخره مغفرة ارفع رأسك فرفع رأسه فمكث حياته لا يشرب ماء الا مزجه بدموعه و لا يأكل الطعام إلا بله بدموعه و ذكر الأوزاعي مرفوعا الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان مثل عينى داود كالقربتين تنفطان ماء و لقد خدت الدموع فى وجهه كخديد الماء فى الأرض- قال وهب لمّا تاب اللّه على داود قال يا رب غفرت لى فكيف لى ان لا انسى خطيئتى فاستغفر منها و للخاطئين الى يوم القيامة قال فرسم اللّه خطيئته فى يده اليمنى فما رفع فيها طعاما و لا شرابا الا بكى إذا راها و ما كان خطيبا للناس الا بسط راحته فاستقبل الناس ليروا رسم خطيئته و كان يبدئ إذا دعا فاستغفر للخاطئين قبل نفسه- و قال قتادة عن الحسن كان داود بعد الخطيئته لا يجالس الا الخاطئين يقول تعالوا الى داود الخاطئ و لا يشرب شرابا الا مزجه بدموع عينيه و كان يجعل خبز الشعير اليابس فى قطعة فلا يزال يبكى حتى يبل بدموع عينيه و كان يذر عليه الملح و الرماد فياكل و يقول هذا أكل الخاطئين- قال و كان داود قبل الخطيئة يقوم نصف الليل و يصوم نصف الدهر فلمّا كان من خطيئته ما كان صام الدهر كله و قام الليل كله و قال ثابت كان داود إذا ذكر عقاب اللّه تخلعت أوصاله فلا يشدها الا الاسر و إذا ذكر رحمة اللّه تراجعت- و فى القصة ان الوحوش و الطير كانت تستمع الى قراءته فلمّا فعل ما فعل كانت لا تصغى الى قراءته فروى انها قالت يا داود ذهبت خطيئتك بحلاوة صوتك-. ٢٦ يا داوُدُ تقديره و قلنا يا داود معطوف على قوله فغفرنا له ذلك إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ استخلفناك على الملك او جعلناك خليفة «١» ممن قبلك من الأنبياء العالمين بالحق فَاحْكُمْ الفاء للسببية بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ اى بحكم اللّه وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى عطف على فاحكم اى لا تتبع ما يهويه نفسك فَيُضِلَّكَ منصوب فى جواب النهى عَنْ سَبِيلِ اللّه اى عن دلائله التي نصبها اللّه على الحق فيه دليل على انه من اتبع هواه اختل رايه و ضل فى اجتهاده كما ترى فى اثنين و سبعين فرقة ممن يدعى الإسلام إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّه لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) اى بسبب نسيانهم يوم الحساب فان تذكر ذلك اليوم يقتضى ملازمته و مخالفة الهوى و الجملة مستأنفة-. (١) عن عمر بن الخطاب انه سال طلحة و الزبير و كعبا و سلمان ما الخليفة من الملك فقال طلحة و الزبير ما ندرى فقال سلمان الخليفة الذي يعدل فى الرعية و يقسم بينهم بالسوية و يشفق عليهم شفقة الرجل على اهله و يقضى بكتاب اللّه فقال كعب ما كنت احسب ان فى المجلس أحدا يعرف الخليفة من الملك غيرى. و عن سلمان ان عمر قال له انا ملك او خليفة فقال سلمان ان أنت جئت من ارض المسلمين درهما او أقلّ او اكثر ثم وضعته فى غير حقه فانت ملك غير خليفة فاستعبر عمر- و عن سليمان بن ابى العوجاء قال قال عمر بن الخطاب ما أدرى ا خليفة انا أم ملك قال قائل يا امير المؤمنين ان بينهما فرقا قال ما هو قال الخليفة لا يأخذ الا حقا و لا يضعه الا فى حق و أنت بحمد اللّه كذلك و الملك يعسف الناس فيأخذ من هذا و يعطى هذا فسكت عمر- و عن معاوية انه كان يقول إذا جلس المنبر يا ايها الناس ان الخلافة ليست بجمع المال و لا بتفريقه و لكن الخلافة العمل بالحق و الحكم بالعدل و أخذ الناس بامر اللّه منه رحمه اللّه. ٢٧ وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا لا حكمة فيه او ذوى باطل يعنى مبطلين عابثين او للباطل الذي هو متابعة الهوى بل للحق الذي هو الاستدلال على وجود الصانع و شكر نعمته بامتثال أوامره و انتهاء مناهيه جملة معترضة و كذلك قوله ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا حيث ينكرون البعث و ينكرون ثواب المطيع لمن خلق و عذاب العاصي و ذلك يقتضى كون خلقها عبثا لا حكمة فيه فَوَيْلٌ التنكير للتعظيم و الفاء للسببية لِلَّذِينَ كَفَرُوا وضع المظهر موضع الضمير للذم و التقبيح مِنَ النَّارِ (٢٧) من السببية. ٢٨ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أم منقطعة بمعنى بل و الهمزة لانكار التسوية بين الفريقين التي هى من لوازم خلقها باطلا ليدل على نفيه و بل للاضراب عما سبق من ظن بطلان خلق السماوات و الأرض و كذا التي فى قوله أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) أنكر اولا التسوية بين المؤمنين و الكافرين ثم بين المتقين من المؤمنين و المجرمين منهم و يجوز ان يكون تكريرا للانكار الاول باعتبار الوصفين الأخيرين المانعين التسوية من الحكيم و هذه الاية برهان عقلى تدل على وجوب القول بالحشر إذ لا تفاضل بينهما فى الدنيا غالبا بل الغالب فيها عكس ما يقتضيه الحكمة فلا بد ان يكون لهم محل اخر يجازون فيها و قال مقاتل قال كفار قريش انا نعطى فى الاخرة من الخير ما تعطون فنزلت هذه الاية. ٢٩ كِتابٌ اى هذا القران كتاب من اللّه أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ كثير خير و نفعة لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ اى ليتفكروا فيها يعنى تتفكر أنت و علماء أمتك فيعرفوا ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة و المعاني المستنبطة او يتفكر كل من له عقل فيعلم انه من اللّه و لا يتصور إتيانه من البشر قال الحسن تدبر آياته اتباعها وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩) اى ليتعظ به ذوى العقول السليمة او يستحضروا ما هو المركوز فى عقولهم من فرط تمكنهم من معرفته بما نصب عليه من الدلائل فان الكتب الالهية بيان لما لا يعرف الا من الشرع و ارشاد الى ما لا يستقل به العقل و لعل التدبر للمعلوم الاول و التذكر للثانى .. ٣٠ وَ وَهَبْنا عطف على قوله فغفرنا له و ما بينهما معترضات لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ سليمان إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) تعليل للمدح لانه رجاع الى اللّه تعالى بالتوبة او الى التسبيح مرجع له. ٣١ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ ظرف لاوّاب او لنعم و الضمير لسليمان بِالْعَشِيِّ اى فى العشى يعنى بعد الظهر الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) الصافن من الخيل الذي يقوم على ثلاثة قوائم و طرف حافر الرابع و هى من الصفات المحمودة فى الخيل و الجياد جمع جواد او جود و هو الذي يسرع فى جريه و قيل جمع جيد قال ابن عباس يريد الخيل السوابق قيل وصفها بالصفون و الجودة ليجمع لها بين الوصفين المحمودين واقفة و جارية اعنى إذا وقف كانت ساكنة مطمئنة فى مواقفها و إذا سارت كانت خفافا سراعا قال الكلبي غزا سليمان اهل دمشق و نصيبين و أصاب منهم الف فرس و قال مقاتل ورث سليمان من أبيه داود الف فرس و يرد هذا القول ما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة- اخرج عبد بن حميد و الفريابي و ابن جرير و ابن ابى حاتم عن ابراهيم التيمي قال كانت عشرين الف فرس ذات اجنحة فعقرها و اخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن عوف عن الحسن قال بلغني ان الخيل التي عقر سليمان كانت خيلا ذوات اجنحة أخرجت له من البحر لم يكن لاحد قبله و لا بعده- و ذكر البغوي عن عكرمة قال كانت عشرين الف فرس لها اجنحة و قالوا فصلى سليمان صلوة الظهر و قعد على كرسيه و هى تعرض عليه فعرضت عليه تسع مائة فتنبه لصلوة العصر فاذا الشمس قد غربت و فاتت الصلاة و لم يعلم بذلك هيبة له فاغتم لذلك .. ٣٢ فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ عطف على جمل محذوفة تقديره إذ عرض عليه بالعشيّ الصّافنات الجياد فاشتغل بها حتى فاته العصر فقال انّى أحببت حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي اى اثرت حب الخير اى المال الكثير و المراد به الخيل التي شغله او اطلق الخير على الخيل لان العرب تعاقب بين اللام و الراء فيقول ختلت الرجل و خترته اى خدعته و قيل سميت الخيل خيرا لانه معقود فى نواصيها الخير قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الخيل معقود فى نواصيها الخير الى يوم القيامة الاجر و المغنم- روى هذا الحديث فى الصحيحين و غيرهما عن عدة من الصحابة و كان الأصل ان يعدى أحببت بمعنى اثرت بعلى لكن لمّا أنيب مناب أنبت عدى بعن و قيل أحببت بمعنى تقاعدت و حبّ الخير منصوب على العلية و المعنى تقاعدت لحب الخير فى القاموس أحب البقر برك فلم يثر حَتَّى تَوارَتْ اى الشمس أضمرت من غير ذكرها لدلالة العشىّ عليها بِالْحِجابِ (٣٢) اى غربت و استترت بما يحجبها عن الابصار قال البغوي يقال الحجاب جبل دون قاف بمسيرة سنة و الشمس تغرب من ورائه. ٣٣ رُدُّوها عَلَيَّ بتقدير القول عطف على قال انّى أحببت و قال ردّوها اى الصافنات علىّ فردوها عليه فَطَفِقَ اى أخذ عطف على قال ردّوها علىّ مَسْحاً اى يمسح السيف مسحا بِالسُّوقِ وَ الْأَعْناقِ (٣٣) اى بسوقها و أعناقها يعنى قطعها من قولهم مسح علاوته إذا ضرب عنقه هذا قول ابن عباس و الحسن و قتادة و مقاتل و اكثر المفسرين اخرج ابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال عقرها بالسيف و اخرج الطبراني فى الأوسط و الإسماعيلي فى معجمه و ابن مردوية بسند حسن عن ابى بن كعب عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال قطع سوقها و أعناقها بالسيف و كان ذلك بإذن اللّه تعالى توبة عما غفل من ذكره و تقربا اليه و طلبا لمرضاته. قال الحسن فلمّا عقر الخيل أبدله اللّه خيرا منها و اسرع و هى الريح تجرى بامره و قال بعض المفسرين انه ذبحها و تصدق بلحومها و كان لحوم الخيل حلالا كما هو فى شريعتنا عند الجمهور خلافا لابى حنيفة فانه قال يكره- و قال قوم معناه انه حبسها فى سبيل اللّه و كوى سوقها و أعناقها بكى الصدقة و قال البغوي حكى عن على كرم اللّه وجهه فى قوله ردّوها علىّ يقول سليمان بامر اللّه تعالى للملائكة المؤكلين بالشمس ردّوها اى الشمس علىّ فردوها عليه حتى صل العصر فى وقتها و ذلك انه كان يعرض عليه الخيل للجهاد فى سبيل اللّه حتّى توارت بالحجاب و قال الزهري و ابن كيسان يمسح سوقها و أعناقها بيده يكشف الغبار عنها حبّا لها و شفقة عليها قال البغوي هذا قول ضعيف و المشهور هو الاول قلت و يأبى عن هذا القول ما قال سليمان تأسفا انّى أحببت حبّ الخير عن ذكر ربّى حتّى توارت بالحجاب .. ٣٤ وَ لَقَدْ فَتَنَّا اى اختبرنا و ابتلينا سُلَيْمانَ جواب قسم محذوف عطف على وهبنا وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انه قال لاطرفن الليلة على تسع و تسعين امراة و فى رواية بمائة امراة كلهن يأتى بفارس يجاهد فى سبيل اللّه فقال له الملك قل ان شاء اللّه فلم يقل و نسى فطاف عليهن فلم تحمل منهن الا امراة واحدة جا ءت يشق رجل و ايم الذي نفس محمد بيده لو قال ان شاء اللّه لجاهدوا فى سبيل اللّه فرسانا أجمعون. متفق عليه قيل فجاءت القابلة بذلك الشق فالقت على كرسيه فذلك قوله تعالى و لقد فتنّا سليمان و ألقينا على كرسيّه جسدا ثُمَّ أَنابَ (٣٤) اى رجع عن ترك الاستثناء فى المستقبل كذا قال طاؤس و هذا التأويل اولى الأقاويل لقوة حديث الصحيحين و القول بتنزيه الأنبياء عن السوء و لان الجسد جسم لا روح فيه فيصدق على هذا التأويل بلا تمحل- و اخرج الطبراني فى الأوسط و ابن مردوية بسند ضعيف عن ابى هريرة انه قال ولد لسليمان ابن فقالت الشياطين ان عاش لم ننفك من السخرة فسبيلنا ان نقتله او نخبله فعلم ذلك سليمان فكان يقدوه فى السحاب خوفا من غرة الشياطين فما شعر به الا ان القى على كرسيه ميتا فتنة على زلته فى ان لم يتوكل فيه على ربه. و قال البغوي ذكر محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه قال سمع سليمان عليه السلام بمدينة فى جزيرة البحر يقال لها صيدون بها ملك عظيم الشأن لم يكن للناس اليه سبيل لمكانه فى البحر و كان اللّه قد اتى سليمان فى ملكه سلطانا لا يمتنع عليه شى ء فى بر و لا بحر انما يركب اليه الريح فخرج الى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده من الجن و الانس فقتل ملكها و استفاء ما فيها و أصاب فيما أصاب بنتا لذلك الملك يقال لها جرادة لم يروا مثلها حسنا و جمالا و اصطفاها لنفسه و دعاها الى الإسلام فاسلمت على جفاء منها و أحبها حبّا شديدا لم يحب شيئا من نسائه و كانت على منزلتها عنده و لا تذهب حزنها و لا يرقى دمعها فشق ذلك على سليمان فقال لها ويحك ما هذا الحزن الذي لا تذهب و الدمع الذي لا يرقى قالت ان ابى اذكره و اذكر ملكه و ما كان فيه و ما أصاب به فيحزننى ذلك قال سليمان فقد أبدلك اللّه به ملكا هو أعظم من ملكه و سلطانا هو أعظم من سلطانه و هداك الإسلام و هو خير من ذلك كله قالت ذلك كذلك و لكنى إذا ذكرته أصابني ما ترى من الحزن فلو أنك أمرت الشياطين فصوروا صورته فى دار التي انا فيها و أراها بكرة و عشية لرجوت ان يذهب ذلك حزنى و ان يسلّى عنى بعض ما أجد فى نفسى فامر سليمان الشياطين فقال مثلو لها صورة أبيها فى دارها حتى لا ينكر منها شيئا فماثلوه لها حتى نظرت الى أبيها بعينه الا انه لا روح فيه فعمدت اليه حين صنعوه فاردّته و قمّصته و عمّمته بمثل ثيابه التي كان يلبسها- ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو عليه فى ولائدها حتى تسجد له و يسجدن له كما كانت تصنع فى ملكه و تروح عشية بمثل ذلك- و سليمان لا يعلم بشئ من ذلك أربعين صباحا فبلغ ذلك اصف بن برخياء و كان صديقا و كان لا يرد عن أبواب سليمان اى ساعة أراد دخول شى ء من بيوته دخل حاضرا كان سليمان او غائبا فاتاه فقال يا نبى اللّه كبر سنى ورق عظمى و نفد عمرى و قد حان منى الذهاب فقد أحببت ان أقوم مقاما قبل الموت اذكر فيه من مضى من أنبياء اللّه و اثنى عليهم بعلمي فيهم و اعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم فقال افعل. فجمع له سليمان الناس فقام فيهم خطيبا فذكر من مضى من أنبياء اللّه تعالى و اثنى على كل نبى بما فيه فذكر ما فضله اللّه حتى انتهى الى سليمان فقال ما أحلمك فى صغرك و اورعك فى صغرك و أفضلك فى صغرك و احكم أمرك فى صغرك و أبعدك عن كل ما تكره فى صغرك ثم انصرف فوجد سليمان فى نفسه من ذلك شيئا حتى ملاه غضبا فلما دخل سليمان داره أرسل اليه فقال يا اصف ذكرت من مضى من أنبياء اللّه فاثنيت عليهم خيرا فى كل زمانهم و على كل حال من أمرهم فلما ذكرتنى جعلت تثنى علىّ الخير فى صغرى و سكتّ عما سوى ذلك من امرى فى كبرى فما الذي أحدثت فى اخر امرى فقال ان غير اللّه ليعبد فى دارك منذ أربعين صباحا فى هوى امراة فقال فى دارى فقال فى دارك فقال انّا للّه و انّا اليه راجعون لقد عرفت انك ما قلت الذي قلت الا عن شى ء بلغك ثم رجع سليمان الى داره و كسر ذلك الصنم و عاقب تلك المرأة و لايدها ثم امر شاب الطهارة فأتى بثياب لا يغزلها الا الابكار و لا ينسجها الا الابكار و لا تغسلها الا الابكار و لم تمسها امرأة قد رأت الدم ثم لبسها ثم خرج الى فلاة من الأرض وحده فامر برماد ففرش له ثم اقبل تائبا الى اللّه حتى جلس على ذلك الرماد و تمعك فيه بثيابه تذلّلا للّه و تضرعا اليه يبكى و يدعو و يستغفر مما كان هو فى داره فلم يزل كذلك حتى امسى ثم رجع الى داره- و كانت له أم ولد يقال لها الامينة كان إذا دخل مذهبه او أراد إصابة امراة من نسائه و منع خاتمه عندها حتى يتطهر و كان لا يمس خاتمه الا و هو طاهر و كان ملكه فى خاتمه فوضعه يوما عندها ثم دخل مذهبه- فاتاها الشيطان صاحب البحر و اسمه صخر على صورة سليمان لا تنكر منه شيئا فقال خاتمى يا امينة فناولته إياه فجعله فى يده ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان و عكفت عليه الطير و الجن و الانس- و خرج سليمان فاتى الامينة و قد غيرت حاله و هيئته عند كل من راه فقال يا امينة خاتمى فقالت من أنت فقال أنا سليمان بن داود قالت كذبت قد جاء سليمان و أخذ خاتمه و هو جالس على سرير ملكه فعرف سليمان ان خطيئته قد أدركته فجعل يقف على الدور من دور بنى إسرائيل فيقول انا سليمان بن داود فيحثون عليه التراب و يسبونه و يقولون انظروا الى هذا المجنون اىّ شى ء يقول يزعم انه سليمان فلمّا راى سليمان ذلك عمد الى البحر فكان ينقل الحيتان لاصحاب البحر الى السوق فيعطونه كل يوم سمكتين فاذا امسى باع سمكة بارغفة و شوى الاخرى فمكث على ذلك أربعين صباحا عدة ما كان عبد الوثن فى داره- فانكر اصف و علماء بنى إسرائيل حكم عدو اللّه الشيطان فى تلك الأربعين فقال اصف يا معشر بنى إسرائيل هل رايتم من اختلاف حكم ابن داود ما رايت قالوا نعم قال أمهلوني حتى ادخل على نسائه فاسئلهن هل انكرتن منه فى خاصة امره ما أنكرنا فى عامة امر الناس و علانيته فدخل على نسائه فقال ويحكن هل انكرتن من ابن داود ما أنكرنا فقلن أشده ما يدع منا امراة فى دمها و لا يغتسل من الجنابة فقال انّا للّه و انّا اليه راجعون انّ هذا لهو البلاء المبين ثم خرج على بنى إسرائيل فقال ما فى الخاصة أعظم ممّا فى العامة- فلمّا مضى أربعون صباحا طار الشيطان من مجلسه ثم مر بالبحر فقذف الخاتم فيه فبلعته سمكة فاخذها بعض الصيادين و قد عمل له سليمان صدر يومه ذلك حتى إذا كان العشى أعطاه سمكتيه و أعطاه السمكة التي أخذت الخاتم و خرج سليمان بسمكتيه فباع التي ليس فى بطنها الخاتم بالارغفة ثم عمد الى السمكة الاخرى فبقرها ليشويها فاستقبله خاتمه فى جوفها فاخذه فجعله فى يده و وقع ساجدا و عكفت عليه الطير و الجنّ و اقبل عليه الانس و عرف ان الذي كان قد دخل عليه لما كان أحدث فى داره فرجع ملكه و اظهر التوبة من ذنبه و امر الشياطين فقال أتوني بصخر فطلبته الشياطين حتى أخذته فاتى به فحاب له صخرة «اى قطع و كل شى ء قطع وسطه فهو محوب نهاية منه ره» فادخله فيها ثم شد عليه اخرى ثم أوثقها بالحديد و الرصاص ثم امر به فقذف فى البحر هذا حديث وهب- و قال السدى كان سبب قصة سليمان انه كان له مائة امراة و كانت امراة منهن يقال لها جرادة هى اثر نسائه و امنهن عنده و كان يأتمنها على خاتمه إذا اتى حاجته فقالت له يوما ان أخي بينه و بين فلان خصومة و انا أحب ان تقضى له إذا جاءك فقال نعم و لم يفعل فابتلى بقوله فاعطاها خاتمه و دخل المخرج فجاء الشيطان فى صورته فاخذه و جلس على مجلس سليمان و خرج سليمان فسالها خاتمه فقالت الم تأخذه قال لا و خرج مكانه و مكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما فانكر الناس حكمه فاجتمع قراء بنى إسرائيل و علماؤهم حتى دخلوا على نسائه فقالوا انا أنكرنا هذا فان كان سليمان فقد ذهب عقله فبكى النساء عند ذلك فاقبلوا حتى أحد قوابه و نشروا التورية فقرؤها فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة و الخاتم معه ثم طار حتى ذهب الى البحر فوقع الخاتم منه فى البحر فابتعله حوت و اقبل سليمان حتى انتهى الى صياد من صياد البحر و هو جائع قد اشتد جوعه فاستطعمه من صيده و قال انى انا سليمان فقام اليه بعضهم فضربه بعصا فشجه فجعل يغسل دمه على شاطئ البحر فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه فاعطوه سمكتين مما قد مذر عندهم فشق بطنهما و جعل يغسلهما فوجد خاتمه فى بطن إحداهما فلبسه فرد اللّه عليه ملكه و بهاءه و حامت عليه الطير فعرف القوم انه سليمان فقاموا يعتذرون مما صنعوا فقال ما أؤاخذكم على عذركم و لا ألومكم على ما كان منكم هذا امر كان لا بد منه ثم جاء حتى اتى ملكه و امر حتى اتى بالشيطان الذي أخذ خاتمه، و جعله فى صندوق من حديد ثم أطبق عليه و اقفل عليه بقفل و ختم عليه بخاتمه و امر به فالقى فى البحر و هو حيى كذلك حتى الساعة- و روى عن سعيد بن المسيب قال احتجب سليمان عن الناس ثلاثة ايام فاوحى اللّه اليه احتجبت عن الناس ثلاثة ايام فلم تنظر فى امور عبادى فابتلاه اللّه عزّ و جلّ و ذكر حديث الخاتم و أخذ الشيطان إياه كما ذكرنا- و قال الحسن ما كان اللّه ليسلط الشيطان على نسائه انتهى كلام البغوي. و اخرج عبد بن حميد عن ابن عباس و ابن جرير عن السدى و النسائي و ابن مردوية عن ابن عباس فذكروا القصة نحو حديث وهب بن منبه لكن فى بعض الطرق ان صخر الجنى لما جلس على سرير سليمان نفذ حكمه فى كل شى ء الا فيه و فى نسائه و كذا قال الحسن فيما ذكر البغوي انه ما كان اللّه ليسلط الشيطان على نسائه- و قال بعض المفسرين حديث الخاتم و الشيطان و الوثن فى بيت سليمان من أباطيل اليهود لعنهم اللّه و قال البغوي ان فى بعض الروايات ان سليمان لمّا افتتن سقط الخاتم من يده و كان فيه لملكه فاعاده سليمان الى يده فسقط فايقن سليمان بالفتنة فاتى اصف و قال لسليمان انك لمفتون بذنبك و الخاتم لا يتماسك فى يدك اربعة عشر يوما ففر سليمان الى سربه و أخذ اصف الخاتم فوضعه فى إصبعه فثبت فهو الجسد الذي قال اللّه تعالى و ألقينا على كرسيّه جسدا فاقام اصف فى ملكه على سيرته اربعة عشر يوما الى ان رد اللّه على سليمان ملكه فجلس على كرسيه فاعاد الخاتم فى يده فثبت قلت و الدليل على بطلان رواية وهب ان فى تلك الرواية انه غزا جزيرة يقال لها صيدون بها ملك عظيم الشأن لم يكن للناس اليه سبيل لمكانه فى البحر فخرج سليمان الى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده- و القران ينطق ان تسخير الريح لسليمان انما كان بعد تلك الفتنة و الانابة حيث قال اللّه تعالى فسخّرنا له الرّيح يعنى بعد الفتنة و الانابة و قوله ربّ هب لى ملكا الى آخره- قلت و على تقدير صحة تلك القصة لا يلزم سليمان صدور معصية فان اتخاذ التماثيل كان جائزا و سجود الصورة بغير علمه لا يضره-. ٣٥ قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي بيان للانابة قدم الاستغفار على استيهاب الملك جريا على عادة الأنبياء و الصالحين بتقديم الاستغفار على السؤال قرا نافع و ابو عمر «و ابو جعفر- ابو محمد» من بعدي بفتح الياء و الباقون بإسكانها- فى سياق هذا الكلام دلالة على ان فتنة سليمان انما كان ابتلاء من اللّه تعالى إياه لرفع درجاته فى الدنيا و الاخرة كفتنة أيوب عليه السلام و لم يكن فيها زلّة و معصية من سليمان عليه السلام و الا لبالغ فى الندم و الاستغفار و لم يسئل غير المغفرة و التوبة و لقال اللّه سبحانه فغفرنا له ذلك كما قال فى قصة داود عليه السلام قال مقاتل و ابن كيسان اى لا يكون من بعدي لاحد و قيل معنى من بعدي من سوائى كما فى قوله تعالى فمن يهديه من بعد اللّه و قال عطاء بن ابى رباح يريد هب لى ملكا لا تسلبنه فى اخر عمرى و تعطيه غيرى كما سلبته آنفا قيل سال سليمان ذلك ليكون اية لنبوته و معجزة له قال مقاتل كان سليمان ملكا و لكنه أراد بقوله لا ينبغى لاحد من بعدي تسخير الرياح و الطير و الشياطين بدليل ما بعده عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان عفريتا من الجن تفلت البارحة ليقطع علىّ صلاتى فامكننى اللّه منه فاخذته فاردت ان اربطه على سارية من سوارى المسجد حتى ينظر له كلكم فذكرت دعوة أخي. سليمان ربّ هب لى ملكا لا ينبغى لاحد من بعدي فرددته خاسئا. متفق عليه قلت و يمكن انه أراد به لا ينبغى لاحد من بعدي فى المرتبة قال ذلك شفقة على الناس يعنى من كان مثلى فى انقطاع التعلقات عن الخلق و اشتغال قلبه بحب اللّه و معرفته لا يضره و لا يشغله عن اللّه شى ء فكان له الدنيا وسيلة لكسب الحسنات و من لم يكن كذلك كانت الدنيا له شاغلا عن اللّه فكانت له سمّا قاتلا- فان قيل الحديث يأبى عمّا قلت فان النبي صلى اللّه عليه و سلم كان أعلى مرتبة من سليمان و لم يكن يعط ملكا مثله و لذلك لم يربط العفريت بالسارية قلنا نعم انه صلى اللّه عليه و سلم كان أعلى مرتبة من سليمان و لكن لا نسلم انه لم يعط ملكا مثله لاجل دعائه بل اللّه سبحانه خيّره بين ان يكون نبيّا ملكا او يكون نبيا عبدا فاختار كونه نبيّا عبدا لكون الفقر أفضل عنده و دلّ هذا الحديث ايضا على ان اللّه تعالى مكنه على العفريت ان يربطه بالسارية لكنه صلى اللّه عليه و سلم لم يربط باختياره حياء من سليمان عليه السلام و كان النبي صلى اللّه عليه و سلم نافذا حكمه على الجن و الانس تأتى بدعوته الأشجار ساجدة تمشى اليه على ساق بلا قدم لكن كان عيش الفقراء و زيّهم مرعوبا عنده- و كذا الخلفاء الراشدون جمعوا بين الخلافة و الفقر و حازوا فضائل الفريقين صلى اللّه تعالى عليه و على خلفائه و اله و أصحابه أجمعين إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) المعطى ما تشاء لمن تشاء لا مانع لما أعطيت و لا معطى لما منعت .. ٣٦ فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ قرأ أبو جعفر الرّياح على الجمع و الباقون على الافراد بارادة الجنس و الجملة معطوفة على جملة محذوفة تقديره فاستجبنا دعاءه فسخرنا له اى ذلّلنا لطاعته الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ الجملة صفة للريح على طريقة و لقد امر على اللئيم يسبنى او حال منه كقوله رُخاءً لينة لا تزعزع او لا تخالف إرادته حَيْثُ أَصابَ (٣٦) ظرف لتجرى يعنى حيث أراد يقول العرب أصاب الصواب فاخطا الجواب اى أراد الصواب. ٣٧ وَ الشَّياطِينَ اى و سخرنا له الشياطين كُلَّ بَنَّاءٍ يبنون الحصون و القصور وَ غَوَّاصٍ (٣٧) يستخرجون له اللآلي من البحر و هو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر كلّ بدل من الشياطين. ٣٨ وَ آخَرِينَ عطف على كلّ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) مشددين فى القيود فصّل الشياطين الى عملة استعملهم فى الأعمال الشاقة كالبناء و الغواص و مردة فرق بعضهم مع بعض فى السلاسل ليكفوا عن الشر قلت لعله لم يسلط على إبليس لما سبق له من الوعد بانّك من المنتظرين الى يوم الوقت المعلوم. ٣٩ هذا عَطاؤُنا اى قلنا له هذا الذي أعطيناك من الملك و البسط و التسلط على ما لم يسلط عليه غيرك عطاؤنا فَامْنُنْ اى فاعط من شئت أَوْ أَمْسِكْ عمن شئت بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) حال من المستكن فى الأمر اى غير محاسب على منّه و إمساكه لتفويض التصرف فيه إليك قال الحسن ما أنعم اللّه على أحد نعمة الا عليه تبعة الا سليمان فانه ان اعطى اجر و ان لم يعط لم يكن عليه تبعه و جاز ان يكون حالا من العطاء او صلة له و ما بينهما اعتراض يعنى عطاء كثيرا لا يمكن احصاؤه و قال مقاتل هذا يعنى تسخير الشياطين عطاؤنا أعطيناكه فامنن يعنى خل منهم من شئت و امسك منهم فى وثاقك من شئت لا تبعة عليك فى إطلاقها و لا فى وثاقها. ٤٠ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى فى الاخرة مع ما له من الملك العظيم فى الدنيا وَ حُسْنَ مَآبٍ (٤٠) و هو الجنة-. ٤١ وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ عطف بيان لعبدنا و الجملة عطف على و اذكر عبدنا داود إِذْ نادى رَبَّهُ بدل اشتمال من عبدنا أَنِّي مَسَّنِيَ قرأ حمزة بإسكان الياء و الباقون بفتحها و انّ مع جملته حكاية لكلامه الذي نادى به الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ قرأ ابو جعفر بضم النون و الصاد و يعقوب بفتحهما و الباقون بضم النون و سكون الصاد و معنى الكل واحد اى بمشقة و ضرّ وَ عَذابٍ (٤١) اى و الم قال مقاتل و قتادة بنصب فى الجسم و عذاب فى المال و قد ذكرنا قصة أيوب و مدة بلائه فى سورة الأنبياء عليهم السلام فلما انقضت مدة بلائه امره اللّه تعالى ان. ٤٢ ارْكُضْ جملة مستأنفة بتقدير قلنا له اركض بِرِجْلِكَ اى اضرب برجلك الأرض هذا مُغْتَسَلٌ هذه الجملة مبنية على جملة محذوفة تقديره فركض فخرجت عين فقلنا له هذا مغتسل بارِدٌ اغتسل منه فذهب كل داء كان بظاهره وَ شَرابٌ (٤٢) اشرب منه فذهب كل داء كان بباطنه و قيل نبعت عينان بركضتين حارة و باردة فاغتسل من إحداهما و شرب من الاخرى اخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن مجاهد قال ركض برجله اليمنى فنبعت عين و ضرب بيده اليمنى خلف ظهره فنبعت عين فشرب من إحداهما و اغتسل من الاخرى. ٤٣ وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ عطف على مفهوم كلام سابق اى فشفيناه و وهبنا له اهله وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) ٤٤ وَ خُذْ عطف على اركض و على هذا وهبنا له الى آخره جملة معترضة او هى معطوفة على وهبنا بتقدير و قلنا له خذ بِيَدِكَ ضِغْثاً و هو ملأ الكف من الشجر و الحشيش فَاضْرِبْ بِهِ امرأتك وَ لا تَحْنَثْ فى يمينك و كان قد حلف ان يضربها مائة سوط فاخذ مائة عود من إذ خر او غيرها و ضربها ضربة واحدة إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً فيما أصابه فى النفس و الأهل و المال تعليل لما وهب و لا يخل شكواه الى اللّه تعالى من الشيطان فى كونه صابرا فانه لا يسمى جزعا كتمنى العافية و طلب الشفاء كما ذكرنا هناك و لشيخنا الشهيد رضى اللّه عنه هاهنا كلام رفيع و هو انه عليه السلام صبر على البلاء سنين على ما ذكر فى القصة ثم لمّا أراد اللّه سبحانه ان يكشف عنه الضرّ القى فى روعه ان اللّه سبحانه يريد منك التضرع و الدعاء فى كشف البلاء و اظهار عجزك و افتقارك الى جناب الكبرياء فاختار عليه السلام التضرع و الدعاء على ما اقتضى طبعه من الصبر على البلاء ابتغاء لمرضاة اللّه فارتقى من مقام الصبر الى معارج الرضاء فشكر اللّه سبحانه على صبره بقوله انّا وجدناه صابرا و على ارتقائه الى مقام الرضاء بقوله نعم العبد انّه اوّاب نِعْمَ الْعَبْدُ أيوب إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤) اى مقبل بشراشره على اللّه تعالى-. ٤٥ وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ الثلاثة عطف بيان لعبادنا و قرا ابن كثير عبدنا بناء على وضع الجنس موضع الجمع او هو على معنى التوحيد و ابراهيم عطف بيان له و إسحاق و يعقوب معطوفان عليه أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ (٤٥) اولى القوة فى الطاعة و البصيرة فى الدين و المعرفة باللّه كذا قال ابن عباس و قتادة و مجاهد عبّر بالأيدي عن الأعمال فى الطاعة لان أكثرها بمباشرتها و بالأبصار عن المعارف لانها أقوى مباديها و فيه تعريض لبطلة الجهال فانهم كالزمنا و العماة. ٤٦ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ اى جعلناهم خالصين لنا بخصلة خالصة فيهم هى ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) فهو مرفوع او هو منصوب بتقدير اعنى او مجرور على البدل من خالصة اى تذكرهم للدار الاخرة دائما و تذكيرهم الناس كما هو داب الأنبياء و ذلك التذكر سبب لخلوصهم فى الطاعة و ذلك لان مطمح انظارهم فيما يأتون و يذرون جوار اللّه و الفوز بلقائه و ذلك فى الاخرة و جاز ان يكون المضاف محذوفا اى ذكرى صاحب الدّار و هو اللّه سبحانه و اطلاق الدار على الاخرة للاشعار بانها هى الدار على الحقيقة و الدنيا معبر لاقرار فيها و ما لا قرار فيها لا يسمى دارا قرا نافع، و هشام «و ابو جعفر- ابو محمد» باضافة خالصة الى ذكرى للبيان او لانه مصدر بمعنى الخلوص فاضيف الى فاعله- قال مالك بن دينار و نزعنا من قلوبهم حب الدنيا و ذكرها و أخلصناهم بحب الاخرة و ذكرها و قال مقاتل كانوا يدعون الى الاخرة و الى اللّه عزّ و جلّ و قال السدىّ أخلصوا بخوف الاخرة و قال ابن زيد معناه على الاضافة أخلصناهم بأفضل ما فى الاخرة و جملة انا أخلصناهم مع ما عطف عليه تعليل لما سبق. ٤٧ وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) لمن المختارين من أمثالهم المصطفين عليهم فى الخير و الأخيار جمع خير كشر و اشرار و قيل جمع خيّر على تخفيفه كاموات جمع ميت او ميّت. ٤٨ وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ هو ابن أخطوب استخلفه الناس على بنى إسرائيل ثم استنبئ قرا حمزة و الكسائي و الَّيسع بلام مشددة و اسكان الياء تشبيها بالمنقول من ليسع و الباقون بلام واحدة ساكنة و فتح الياء وَ ذَا الْكِفْلِ ابن عم اليسع او بشر بن أيوب اختلف فى نبوته و لقبه فقيل فرّ اليه مائة نبى من بنى إسرائيل فاواهم و كفلهم و قيل كفل لعمل رجل صالح كان يصلى كل يوم مائة صلوة وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) حال من مفعول اذكر-. ٤٩ هذا اشارة الى ما تقدم من أمورهم ذِكْرٌ اى شرف لهم او هذا الذي تلى عليكم من القران ذكر جميل لهم- ثم شرع لما اعدّ لهم و لامثالهم فقال وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) مرجع. ٥٠ جَنَّاتِ عَدْنٍ عطف بيان لحسن ماب او بدل منه و هى من الاعلام الغالبة لقوله تعالى جنّات عدن الّتى وعد الرّحمن عباده و انتصب عنها مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) على الحال و العامل فيها ما فى المتقين من معنى الفعل اى الكون و الحصول و قوله لهم الأبواب مرفوع على انه أسند اليه مفتّحة و العائد الى ذى الحال محذوف اى مفتّحة لّهم منها الأبواب او اللام عوض عن المضاف اليه اى مفتّحة لّهم ابوابها او على انه بدل اشتمال من الضمير المستتر العائد الى الجنات. ٥١ مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرابٍ (٥١) اى و شراب كثير فحذف اكتفاء بالأول و قوله متّكئين و يدعون حالان مترادفان او متداخلان من الضمير فى لهم لا من المتقين للفصل و الأظهر أن يدعون استئناف لبيان حالهم فيها و متّكئين حال من ضميره و الاقتصار على الفاكهة للاستعار بان مطاعمهم لمحض التلذّذ فان التغذي للتحلّل و لا تحلل ثمه. ٥٢ وَ عِنْدَهُمْ نساء قاصِراتُ الطَّرْفِ اى قاصرات أطرافهن على أزواجهن لا ينظرن الى غيرهم أَتْرابٌ (٥٢) مستويات الأسنان بنات ثلاث و ثلاثين سنة جمع ترب و عن مجاهد متواخيات لا يتباغضن كما تتباغض الضرات فى الدنيا و لا يتغايرن الجملة الظرفية حال او خبر لضميرهم. ٥٣ هذا ما تُوعَدُونَ قرأ ابن كثير هاهنا و فى ق بالياء التحتانية على الغيبة و الضمير للمتقين و وافقه ابو عمرو هاهنا و الباقون بالتاء الفوقانية فيهما على الخطاب للمؤمنين لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) اى لاجله فان الحساب علة الوصول الى الجزاء او المعنى فى يوم الحساب. ٥٤ إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤) اى انقطاع الجملة حال من رزقنا او خبر بعد خبر لانّ. ٥٥ هذا اى الأمر هذا او هذا كما ذكرا و خذ هذا. وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ اى الكافرين لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) مرجع. ٥٦ جَهَنَّمَ بدل او عطف بيان لشرّ ماب يَصْلَوْنَها حال من جهنم فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) المهد و المفترش مستعار من فراش النائم و المخصوص بالذم محذوف اى جهنم او مهادهم جملة و انّ للطّاغين عطف او حال. ٥٧ هذا العذاب منصوب بفعل مضمر يفسره فَلْيَذُوقُوهُ اى ليذوقوا هذا فليذوقوه او مبتداء خبره محذوف اى هذا نزلهم فليذوقوه او خبر مبتدا محذوف اى العذاب هذا فليذوقوه او مبتدا خبره حَمِيمٌ كذا قال الفراء و على هذا جملة فليذوقوه معترضة و على التأويلات السابقة حميم خبر مبتدا محذوف اى هو حميم و الحميم هو الماء الحار الذي انتهى حره وَ غَسَّاقٌ (٥٧) عطف على حميم قرا حمزة و الكسائي و حفص «و خلف- ابو محمد» بالتشديد على وزن فعّال كالخبّاز و الطبّاخ و خفّفها الباقون على وزن فعال كالعذاب و اختلفوا فى معناه قال ابن عباس هو الزمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار بحرّها و قال مجاهد و مقاتل هو الذي انتهى برده و قيل هو المنتن بلغة الترك و قال قتادة هو ما يغسق اى يسيل من القيح و الصديد من جلود اهل النار و لحومهم و فروج الزناة من قولهم غسقت اى انصبت و الغساق انصباب اخرج البيهقي عن عطية قال الغساق الذي يسيل من صديدهم و اخرج مثله عن ابراهيم و ابى رزين و اخرج ابن ابى حاتم و ابن ابى الدنيا و الضياء عن كعب قال الغساق عين فى جهنم تسيل إليها حمة كل ذى حمة من حية و عقرب و غير ذلك فيستنقع يؤتى بالآدمي فيغمس غمسة واحدة فيخرج و قد سقط جلده عن العظام و تعلق جلده و لحمه فى كعبيه فيجرّ لحمه كما يجرّ الرجل ثوبه. ٥٨ وَ آخَرُ قرأ ابو عمرو ابو جعفر بضم الهمزة على انه جمع اخرى «و يعقوب- ابو محمد لا هو بالفتح كنافع ابو محمد» مثل الكبرى و كبر و اختاره ابو عبيد لانه نعته بالجمع فقال ازواج و الباقون بفتح الهمزة و الف بعدها على التوحيد اى عذاب اخر او مذوق اخر مِنْ شَكْلِهِ صفة لاخر او خبر له اى مثل الحميم و الغسّاق و توحيد الضمير على انه لما ذكر او للشراب الشامل للحميم و الغساق او للعذاب أَزْواجٌ (٥٨) أجناس خبر لاخر او صفة له او للثلاثة او مرتفع بالجار و المجرور و الخبر محذوف اى لهم-. ٥٩ هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ قال ابن عباس هو كلام خزنة الناس للقادة من اهل النار و ذلك ان القادة إذا دخلوا النار ثم دخل عليهم الاتباع قالت لهم الخزنة و قيل هو كلام القادة بعضهم لبعض اى هذا يعنى الاتباع فوج اى جماعة مقتحم معكم النار و الاقتحام الدخول فى الشي ء رميا بنفسه فيه قال الكلبي انهم يضربون بالمقامع حتى يوقعوا أنفسهم فى النار خوفا من تلك المقامع قلت و جاز ان يكون معناه ان النبي صلى اللّه عليه و سلم و خلفاءه كانوا يحجزونهم عن النار و يمنعونهم عن ارتكاب موجبات دخولها و هم اقتحموا فيها حيث فعلوا موجبات دخولها عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مثلى كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفرش و هذه الدواب التي تقع فى النار يقعن فيها و جعل يحجزهن و يغلبنّه فيقتحمنّ فيها قال فذلك مثلى و مثلكم انا أخذ يحجزكم عن النار هلمّ عن النار هلمّ عن النار فتغلبونى تقحمون فيها- متفق عليه و جملة هذا فوج مقتحم إلخ بتقدير القول استئناف تقديره يقول بعض الطاغين بعضا فى شأن بعض هذا فوج مقتحم معلم او يقال للرؤساء فى شأن الاتباع هذا فوج الى آخره فقالت القادة لا مَرْحَباً بِهِمْ اى بالاتباع دعاء من المتبوعين على اتباعهم فهذه الجملة بتقدير القول متصل بما سبق إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) تعليل بقوله لا مرحبا بهم اى داخلوها بأعمالهم مثلنا و جاز ان يكون لا مرحبا بهم صفة لفوج او حال اى مقولا فيهم لا مرحبا بهم يقال لمن يدعى له مرحبا اى أتيت رحبا من البلاد لا ضيقا و الرحب السعة و فيه تعظيم للجائى و يقال لمن يدعى عليه لا مرحبا تحقيرا له و بهم بيان للمدعو عليهم. ٦٠ قالُوا استئناف اخر اى قال الاتباع للقادة بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ يعنى بل أنتم احقّ بما قلتم او بما قيل فينا لضلالكم و اضلالكم إيانا و عللوا ذلك بقولهم أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ اى العذاب او الصلى لَنا بدعائكم إيانا الى الكفر فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) اى بئس المقر لنا و لكم جهنم. ٦١ قالُوا استئناف اخر اى قالت الاتباع رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) اى مضاعفا على ما بهم من العذاب .. ٦٢ وَ قالُوا عطف على قالوا ربّنا من قدّم لنا يعنى قالت كفار قريش و هم فى النار ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ فى الدنيا مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) جملة لا نرى حال من ضمير المتكلم فى لنا و العامل معنى الفعل و الأشرار جمع شرير و الشر ضد الخير و الخير ما يرغب فيه الكل و الشر ما يكرهه يعنى كنا نكرههم و نحقرهم فى الدنيا يعنون فقراء المؤمنين نحو عمّار و خبيب و صهيب و بلال و ابن مسعود رضى اللّه عنهم أجمعين يسترذلونهم و يسخرون منهم. ٦٣ أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا قرأ اهل البصرة و حمزة «و خلف و ابو محمد» و الكسائي بهمزة الوصل على انه صفة اخرى لرجالا او حال بتقدير قد او خبر اخر لكنّا و قرا الحجازيون و ابن عامر و عاصم بالقطع على الاستفهام على انه انكار على أنفسهم فى الاستسخار منهم و قرا نافع و حمزة و الكسائي بضم السين كما مرّ فى المؤمنين و الباقون بكسرها أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) فلا نراهم قال الفراء هذا من الاستفهام الذي معناه التوبيخ و التعجب و أم معادلة لهمزة فى جملة مقدرة مفهومة من قوله ما لنا لا نرى و التقدير ما لنا لا نرى هؤلاء الذين اتّخذناهم سخريا ا ليسوا هاهنا أم زاغت عنهم أبصارنا فلم نرهم و هم هاهنا- او الهمزة اتّخذناهم على القراءة الثانية بمعنى اىّ الأمر ما فعلنا بهم من الاستسخار منهم أم تحقيرهم فان زيغ البصر كناية عنه و المعنى إنكارهما على أنفسهم او منقطعة و المراد الدلالة على ان استرذالهم و الاستخسار منهم كان لزيغ البصر منّا و قصور انظارنا على رثاثة حالهم و قال ابن كيسان يعنى أم كانوا خيرا منا و لم نعرفهم و كانت أبصارنا تزيغ عنهم. ٦٤ إِنَّ ذلِكَ الذي حكينا عنهم لَحَقٌّ لا بد ان يتكلموا به ثم بين ما هو فقال تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) بدل من حق او خبر محذوف و لمّا شبه تقاولهم و ما جرى بينهم من السؤال و الجواب بما يجرى بين المتخاصمين سماه تخاصما و لان قول القادة لا مرحبا بهم و قول الاتباع بل أنتم لا مرحبا بكم تخاصم فسمى التقاول كله تخاصما لاشتماله على ذلك-. ٦٥ قُلْ يا محمد لمشركى مكة إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ جملة قل مع المقولة مستأنفة و انّما لقصر القلب متصل بقوله تعالى قال الكافرون هذا ساحر كذّاب يعنى لست بساحر كذاب انّما انا منذر أنذركم بعذاب اللّه وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللّه عطف على انّما متصل بقوله اجعل الالهة الها واحدا الْواحِدُ الذي لا يقبل الشركة فى ذاته و لا فى صفة من صفاته الْقَهَّارُ (٦٥) على كل شى ء فيه وعيد للكفار. ٦٦ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الذي لا يغلب إذا عاقب الْغَفَّارُ (٦٦) الذي يغفر ما يشاء من الذنوب صغائرها و كبائرها لمن يشاء و فى هذه الأوصاف تتميم و تقرير للتوحيد و وعد للموحدين و وعيد للمشركين و دفع لتوهم انحصار وصفه بالقهر. ٦٧ قُلْ يا محمد هُوَ قال ابن عباس و مجاهد و قتادة يعنى القران نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) و قيل يعنى القيامة لقوله تعالى عمّ يتساءلون عن النّبإ العظيم و قيل يعنى ما انبأ تكم به من انى نذير من عقوبة من هذا صفته و انه واحد فى الألوهية لا شريك له فهو متصل بقوله انّما انا منذر و ما من اله إلّا اللّه الواحد. ٦٨ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) صفة اخرى لنبأ اى أنتم لتمادى غفلتكم معرضون عنه مع ان العاقل لا ينبغى ان يعرض عن مثله و قد قامت عليه الحجج الواضحة اما على التوحيد فما مرّوا ما على النبوة فقوله. ٦٩ ما كانَ لِي قرأ حفص بفتح الياء و الباقون بإسكانها مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى اى الملائكة إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) فان الا خبار عن تقاول الملائكة و ما جرى بينهم مطابقا لما ورد فى الكتب المتقدمة من غير سماع و مطالعة كتاب لا يتصور الا بالوحى- و قيل المراد باختصامهم اختصامهم فى شأن آدم عليه السلام حين قال اللّه تعالى انّى جاعل فى الأرض خليفة قالوا أ تجعل فيها من يّفسد فيها و يسفك الدّماء و فى الحديث عن عبد الرحمان بن عائش الحضرمي يقول قال النبي صلى اللّه عليه و سلم رايت ربى فى احسن صورة قال فيم يختصم الملا الأعلى يا محمد قلت أنت اعلم اى ربّ مرتين فقال وضع كفه بين كتفى فوجدتّ برده بين ثديى فعلمت ما فى السماء و الأرض ثم تلا هذه الاية و كذلك نرى ابراهيم ملكوت السّموات و الأرض و ليكون من الموقنين ثم قال فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد قلت فى الكفارات قال و ما هن قلت المشي بالاقدام الى الجماعات و الجلوس فى المساجد خلف الصلوات و إسباغ الوضوء؟؟؟ أماكنه فى المكاره قال من يفعل ذلك يعش بخير و يمت بخير و يكون خطيئته كيوم ولدته امه و من الدرجات اطعام الطعام و بذل السلام و ان تقوم بالليل و الناس نيام قال قل اللّهم انى أسئلك الطيبات و ترك المنكرات وحب المساكين و ان تغفر لى و ترحمنى و تتوب علىّ و إذا أردت فتنة فى قوم فتوفنى غير مفتون فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فو الذي نفس محمد بيده انهن لحق- رواه البغوي فى شرح السنة و التفسير و رواه الدارمي الى قوله و ليكون من الموقنين و للترمذى عنه نحو ما روى البغوي و للترمذى عن ابن عباس و معاذ بن جبل بمعناه مع تغير فى العبارة و لعل المراد باختصام الملا الا على فى الكفارات ان جمعا منهم يبتدرون ان يكتتبوها يريد كل منهم ان يهيا بها وجه الرحمان اوّلا كما فى حديث رفاعة بن رافع كنا نصلى وراء النبي صلى اللّه عليه و سلم فلما رفع رأسه من الركعة قال سمع اللّه لمن حمده فقال رجل وراءه ربنا و لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه فلما انصرف قال من المتكلم آنفا قال انا قال رايت بضعة و ثلاثين ملكا يبتدرونها ايّهم يكتبها أول- رواه البخاري إذ متعلق بعلم او بمحذوف و التقدير من علم بكلام الملا الأعلى إذ يختصمون ٧٠ ان. يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) انما مع جملته أما فى محل الرفع على انه أسند اليه يوحى و أما فى محل النصب على العلّية و يوحى حينئذ مسند الى المصدر المفهوم من الفعل يعنى ما اوحى الى الّا الانذار المبين او ما اوحى الىّ وحيي الا لإجل الانذار فانه هو المقصود من الإرسال. و قيل المراد بالنبا العظيم قصة آدم و إبليس و الانباء به من غير سماع و المراد بالملا الأعلى اصحاب القصة الملائكة و آدم و إبليس لانهم كانوا فى السماء و كان التقاول بينهم. ٧١ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) بدل من إذ يختصمون مبين له فان القصة التي دخلت إذ عليها مشتملة على تقاول الملائكة و إبليس فى خلق آدم و استحقاقه- للخلافة و السجود على ما مرّ فى البقرة غير انها اختصرت اقتصارا على ما هو المقصود هاهنا و هو إنذار المشركين على استكبارهم على النبي صلى اللّه عليه و سلم بمثل ما حاق بإبليس على استكباره على آدم هذا و من الجائز ان يكون مقاولته إياهم بواسطة ملك او ان يفسر الملا على بما يعم اللّه و الملائكة و جاز ان يكون إذ منصوبا باذكر. ٧٢ فَإِذا سَوَّيْتُهُ اى أتممت خلقه وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أضاف الروح الى نفسه تشريفا لادم او تشريفا للروح فَقَعُوا فخروا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) و قد مر الكلام فيه فى البقرة. ٧٣ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ عطف على قال ربّك كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣). ٧٤ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ اى تعظم تعليل للاستثناء وَ كانَ اى صار مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) باستكباره عن امر اللّه تعالى او استكباره عن المطاوعة او كان منهم فى علم اللّه تعالى. ٧٥ قالَ ربك يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ كلمة بيدىّ من المتشابهات فالسلف لا يأولونه و يؤمنون به و يكلون مراده الى اللّه تعالى و الخلف يأولونه و يقولون خلقته من غير توسط كاب و أم و التثنية لما فى خلقه من مزيد القدرة و ترتب الإنكار عليه للاشعار بانه المستدعى للتعظيم او بانه الذي تشبثت به فى تركه و هو لا يصلح لكونه مانعا إذ للسيد ان يستخدم بعض عبيده لبعض سيما و له مزيد اختصاص أَسْتَكْبَرْتَ همزة الاستفهام للتوبيخ و الإنكار دخلت على همزة الوصل يعنى ا تكبرت من غير استحقاق أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) اى من الذين استحقوا التفوق توبيخ على الشق الاول و انكار للشق الثاني. ٧٦ قالَ إبليس أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ابدا المانع و استدل عليه بقوله خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قد سبق الكلام عليه .. ٧٧ قالَ فَاخْرُجْ مِنْها اى من الجنة و قيل من السماوات و قال الحسن و ابو العالية من الخلقة التي أنت فيها قال الحسن بن الفضل هذا تأويل صحيح لان إبليس تجبّر و افتخر بالخلقة فغيّر اللّه خلقه فاسود و قبح بعد حسنه فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) مطرود لست بخير تعليل للامر بالخروج. ٧٨ وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي قرأ نافع «و ابو جعفر ابو محمد» بفتح الباء و الباقون بإسكانها إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) لا يظن بان اللعنة منتهية بيوم الدين بل معناه ان عليه اللعنة وحدها الى يوم الدين ثم ينضم إليها العذاب. ٧٩ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) الفاء للسببية فان طرده لعداوة آدم سبب لطلبه الانظار لاغواء بنى آدم. ٨٠ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) الفاء للسببية فان سواله سبب لهذا المقال و الجملة الاسمية تدل على ان انظاره كان محكوما عليه فى علم اللّه القديم قبل سواله لا اجابة لدعائه. ٨١ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) و هى النفخة الاولى و قد مرّ بيانه فى الحجر. ٨٢ قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) هذه الفاء ايضا للسببية فان انظاره تعالى إياه سبب لعزمه على اغوائهم و لو لم يكن من اللّه انظارا لم يقدر على اغوائهم أجمعين اقسم اللعين بعزته اى بسلطانه تعالى و قهرمانه حتى يكون وسيلة لتسلطه على ما يريد. ٨٣ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) الذين أخلصهم اللّه تعالى لطاعته و عصمهم عن الضلالة او أخلصوا قلوبهم للّه على اختلاف القرائتين فان ابن كثير و ابو عمرو و ابن عامر «و يعقوب و ابو محمد» قرأوا بكسر اللام و الباقون بفتحها. ٨٤ قالَ فَالْحَقُّ قرأ عاصم و حمزة و يعقوب «و خلف ابو محمد» بالرفع «لا هو بالنصب كابى عمرو- ابو محمد» على انه خبر مبتدا محذوف اى انا الحق او مبتدا خبره محذوف و الحق اسم من اسماء اللّه تقديره الحق يمينى او قسمى و الباقون بالنصب بنزع الخافض اى حرف القسم كقوله تعالى لافعلن و جاز ان يكون تقديره فاحق الحق وَ الْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) جملة معترضة و قيل تكرار للقسم اقسم اللّه بنفسه و جواب القسم قوله. ٨٥ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ اى من جنسك ليتناول الشياطين وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ اى من بنى آدم أَجْمَعِينَ (٨٥) اى لا اترك منكم و منهم أحدا و المراد بمن تبعك الكفار و ان كان التقدير انا الحق او أحق الحق فهذه الجملة جواب قسم محذوف و أجمعين تأكيد للضميرين .. ٨٦ قُلْ يا محمد ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ اى على الانذار او على القران مِنْ أَجْرٍ جعل وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) اى من المتقولين القران من تلقاء نفسه او المدعين لنفسه ما ليس له تكلفا على ما عرفتم من حالى يعنى لا ادعى النبوة بلا حقيقة و جملة قل ما اسئلكم الى آخره مقرى لمضامين الجمل السابقة اخرج البخاري عن عمر قال نهينا عن التكلف. و روى البغوي عن مسروق قال دخلنا على ابن مسعود فقال يا ايها الناس من علم شيئا فليقل به و من لم يعلم فليقل اللّه اعلم فان من العلم ان يقول لما لا يعلم اللّه اعلم قال اللّه تعالى لنبيه قل ما لسئلكم عليه من اجر و ما انا من المتكلّفين قلت قوله ما انا من المتكلّفين تأكيد لمضمون قوله ما اسئلكم عليه من اجر فان من لا يسئل شيئا من الاجر لا ضرورة له فى ان يتكلف فى المقال. ٨٧ إِنْ هُوَ اى القران إِلَّا ذِكْرٌ اى عظة لِلْعالَمِينَ (٨٧) للثقلين اوحى الىّ و انا ابلّغه. ٨٨ وَ لَتَعْلَمُنَّ يا كفار مكة جواب قسم محذوف نَبَأَهُ و هو ما فيه من الوعد و الوعيد او صدقه بإتيان ذلك بَعْدَ حِينٍ (٨٨) قال ابن عباس و قتادة اى بعد الموت و قال عكرمة يوم القيامة قال الحسن ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين |
﴿ ٠ ﴾