سُورَةُ الذَّارِيَاتِ مَكِّيَّةٌ

وَهِيَ سِتُّونَ آيَةً

بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

 ربّ يسّر و تمّم بالخير.

_________________________________

١

وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً مصدر يعنى الرياح تذر و التراب و غيره او النساء و المولود فانهن يذرين أولاد او الأسباب التي تذرى الخلائق من الملائكة و غيرها قرا ابو عمرو بإدغام التاء فى الذال.

٢

فَالْحامِلاتِ وِقْراً اى ثقلا مفعول به يعنى الرياح الحاملات للسحاب او النساء الحاملات النطف و الاجنة او السحب الحاملة للمطرا و اسباب ذلك.

٣

فَالْجارِياتِ يُسْراً صفة مصدر محذوف يعنى جريا سهلا و هى الرياح الجارية فى مهابها و النساء الجاريات فى خدمته الأزواج يسرا لكونهن حاملات او السفن الجارية فى البحر سهلا او الكواكب التي تجرى فى منازلها.

٤

فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً مفعول به يعنى الرياح التي تقسم الأمطار بتصرف السحاب او الملائكة التي تقسم الأمور من الأمطار و الأرزاق و غيرها او ما يعمها من اسباب القسمة فان حملت على ذوات مختلفة فالفاء لترتيب الاقسام بها باعتبار ما بينها من التفاوت فى الدلالة على كمال القدرة و الا فالفاء للترتيب افعال و جواب القسم.

٥

إِنَّما تُوعَدُونَ من البعث ما موصولة و العائد محذوف او مصدرية- لَصادِقٌ يعنى وعد صادق كعيشة راضية اى ذات رضاء.

٦

وَ إِنَّ الدِّينَ اى الجزاء من الثواب و العقاب لَواقِعٌ لكائن لا محالة من اللّه سبحانه كانه استدلال بما اقسم به من الأشياء العجيبة الدالة على كمال قدرة الصانع المختار على الاقتدار على البعث الذي أوقعه جوابا للقسم ثم عطف على الجملة القسمية الاخرى فقال.

٧

وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ جمع حبيكة كطريقة و طرق او حباك كمثال و مثل فى القاموس الحبك الشداد الاحكام و تحسين اثر الصنعة فى الثواب و حبك الرمل بضمتين حروفه الواحدة حباك ككتاب و من الماء و الشعير الجعد المنكسر منها و من السماء طريق النجوم

قال البغوي قال ابن عباس و قتادة و عكرمة ذات الخلق الحسن المستوي يقال للنساج إذا نسج الثوب فاجاد ما احسن حبكه و قال سعيد ابن جبير ذات الزينة قال الحسن حبكت بالنجوم قال مجاهد هى المتقن البنيان و قال مقاتل و الكلبي و الضحاك ذات الطريق كحبك الماء إذا ضربته الريح و حبك الرمل و الشعر الجعد و لكنها لا يرى لبعدها من الناس

قال البيضاوي معناه ذات الطرائق و المراد اما الطرائق المحسوسة التي هى مسير الكواكب او المعقولة التي يسلكها النظار و يتوسل بها الى المعارف او النجوم فان لها طرايق او انها تزينها كما يزين المواشي طرايق الوشي و جواب القسم.

٨

إِنَّكُمْ يا كفار مكة لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ فى الرسول يعنى قولهم تارة انه شاعر و تارة انه ساحر و تارة انه مجنون او فى القران انه سحرا و كهانة او أساطير الأولين او شعر قاله من تلقاء نفسه او فى القيامة فبعضهم شك فيه و بعضهم استحالة و أنكره

قال البيضاوي لعل النكتة فى هذا القسم تشبيه أقوالهم فى اختلافها و تنافى أغراضها بالطريق للسموات فى تباعدها و اختلاف غاياتها و جاز ان يكون خطابا لاهل مكة يعم المؤمنين و الكفار يعنى منكم مصدق و منكم مكذب.

٩

يُؤْفَكُ عَنْهُ اى يصرف عن الرسول و القران مَنْ أُفِكَ اى صرف فى علم اللّه تعالى يعنى من حرمه اللّه تعالى عن الايمان بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و القران و جاز ان يكون ضمير عنه راجعا الى القول المختلف و يكون عن بمعنى من يعنى يصدر افك من افك عن القول المختلف سببه ذلك ان كفار مكة إذا أراد رجل الايمان يتلقونه و يقولون انه ساحر كاذب كاهن مجنون فيصرفونه عن الايمان و هذا معنى قول مجاهد و هذه الجملة معترضة لبيان خيبة من لم يؤمن.

١٠

قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ اى الكذابون و هم اصحاب القول المختلف من الكفار و الخرص الظن و التخمين من غير دليل موجب لليقين و كلمان مبنيا على دليل صحيح لا يتصور فيه الاختلاف و ذكرهم بعنوان الخراصين و الجملة فى الأصل دعاء بالقتل اجرى مجرى اللعن.

١١

الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ اى جهل و غفلة يغمرهم ساهُونَ غافلون عما أمروا به.

١٢

يَسْئَلُونَ محمدا صلى اللّه تعالى عليه و اله و سلم استعجالا إنكارا او استهزاء أَيَّانَ اى متى يَوْمُ الدِّينِ يوم الجزاء جملة يسالون فى محل النصب على الحالية من الخراصين و جاز ان يكون لبيان علة لعنهم.

١٣

يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ اى يحرقون بالنار كما يفتن الذهب بالنار و على بمعنى الباء و الظرف اما بدل من يوم الدين و المعنى يسالون متى يوم تعذبنا بالتاء يا محمد فحينئذ محله الرفع على الابتداء و فتح للاضافة الى غير متمكن و جاز ان يكون جوابا من اللّه تعالى لسوالهم يوم حينئذ خبر لمبتداء محذوف اى هو يوم هم على النار يفتنون او منصوب على الظرفية بفعل محذوف يعنى يقع الدين يوم هم يفتنون فعلى تقدير كونه داخلا فى السؤال قوله تعالى ذوقوا فتنتكم مرتبط بقوله تعالى قتل الخراصون يعنى يقال لهم.

١٤

ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ط اى عذابكم او جزاء كفركم و على التأويل الثاني حال من الضمير المرفوع فى يفتنون بتقدير مقولا لهم هذا القول هذَا بدل من فتنتكم موصوف لقوله الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ فى الدنيا تكذيبا و جاز ان يكون هذا مبتداء و الموصول خبر يعنى هذا هو الذي كنتم تستعجلون و الجملة تعليل لقوله ذوقوا ثم ذكر اللّه سبحانه حال المؤمنين المصدقين النبي صلى اللّه عليه و سلم و القران.

١٥

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ اى انهار جارية.

١٦

آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ من الخير و الكرامة حال من الضمير فى الظرف يعنى قابلين لما أعطاهم ربهم راضين به يعنى كل ما يأتيهم يكون حسنا مرضيا مقبولا- إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ اى قبل دخول الجنة فى الدنيا مُحْسِنِينَ عابدين للّه تعالى بالحضور و الإخلاص طالبين رضاه خالصة سبحانه يطلب رضاهم فهذه الجملة تعليل لما سبق ثم فسر إحسانهم و عللّها بقوله.

١٧

كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ما زائده و يهجعون خبر لكان و الهجوع النوم ليلا و قليلا منصوب على الظرفية و من الليل صفة له مبينة او على المصدرية و من للتبعيض و معناه كانوا ينامون زمانا قليلا كائنا من الليل او هجوعا قليلا فى بعض الليل و جاز ان يكون ما موصولة و العائد محذوف او مصدرية و على التقديرين قليلا اما منصوب على انه خبر كان و ما يهجعون بدل اشتمال من الضمير المرفوع فى كانوا و اما منصوب ظرف مستقر فى محل النصب على الخبر و ما يهجعون فاعل للظرف و المعنى كان ما يهجعون فيه او هجوعهم قليلا كائنا من الليل او كانوا قليلا من الليل هجوعهم او ما يهجعون فيه و يصلون اكثر الليل و قال سعيد بن جبير عن ابن عباس معناه كانوا اقل ليلة تمر بهم الا صلوا فيها شيئا اما من أولها اما من أوسطها او من آخرها يعنى كان الليل الذي ينامون فيه كله قليلا كذا قال مطرف بن عبد اللّه و قال الضحاك و مقاتل كانوا من الناس قليلا من الليل تهجعون يعنى لا ينامون فعلى هذا قليلا خبر كان و جملة من الليل ما يهجعون مستانفة و ما نافية

قال البيضاوي و غيره هذا لا يجوز لان ما بعد ما لا تعمل فيما قبلها.

١٨

وَ بِالْأَسْحارِ يعنى فى الاسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ السحر السدس الاخر من الليل و فى القاموس قبيل الصبح و طرف كل شى ء يعنى انهم مع قلة هجوعهم و كثرة صلوتهم بالليل إذا سحروا أخذوا فى الاستغفار هضما لانفسهم و استقصارا لعملهم كانهم اسلفوا فى ليلتهم الجرائم و وقع عنهم التقصير فى الطاعات و فى بناء الفعل على الضمير اشعار بانهم أحقاء بذلك لوفور علمهم باللّه العظيم و خشيتهم من اللّه تعالى اللّهم انى أسئلك خشية العالمين و علم الخائفين منك و يقين المتوكلين عليك قال الحسن معناه لا ينامون من الليل إلا قلة و ربما نشطوا فمدوا الى السحر ثم أخذوا فى الاستغفار عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ينزل اللّه الى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل فيقول انا الملك من الذي يدعونى فاستجيب له من الذي يسالنى فاعطيه من الذي يستغفرنى فاغفر له متفق عليه و فى رواية المسلم ثم يبسط يديه و يقول من يعترض غير عدوم و لا ظلوم حتى ينفجر الفجر و قد صح عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه كان إذا قام من الليل يتهجد يستغفر يقول اللّهم لك الحمد أنت قيم السموات و الأرض و من فيهن و لك الحمد أنت ملك السموات و الأرض و من فيهن و لك الحمد أنت الحق وعدك الحق بقاؤك حق و قولك حق و النار حق و النبيون حق و محمد حق و الساعة حق اللّهم لك أسلمت و بك امنت و عليك توكلت و إليك أنبت و بك خاصمت و إليك حاكمت أنت ربنا و إليك المصير فاغفر لى ما قدمت و ما أخرت و ما أسررت و ما اعلنت و ما أنت اعلم به منى أنت المقدم و أنت المؤخر لا اله الا أنت و لا اله غيرك متفق عليه من حديث ابن عباس و عن عبادة بن صامت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من تعار من الليل فقال لا اله الا اللّه وحده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو على كل شى ء قدير و سبحان اللّه و الحمد للّه و لا اله الا اللّه و اللّه اكبر و لا حول و لا قوة الا باللّه العلى العظيم ثم قال رب اغفر لى او قال ثم دعا استجيب له فان توضأ و صلى قبلت صلوته رواه البخاري و عن عائشة قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا استيقظ من الليل قال لا اله الا أنت سبحانك اللّهم و بحمدك استغفرك لذنبى و اسألك رحم تك اللّهم زدنى علما و لا تزغ قلبى بعد إذ هديتنى وهب لى من لدنك رحمة انك أنت الوهاب رواه ابو داود.

١٩

وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ يعنى يعطون من أموالهم السائلين الذين يسألون الناس و المحرومين يعنى المتعففين عن السؤال الذين يحسبهم الجاهل بحالهم اغنياء من التعفف فالمحسنين يعطونهم إذا يعرفونهم بسيماهم بفقد أحوالهم كذا قال قتادة و الزهري و غيرهما و قال ابن عباس و سعيد بن المسيب المحروم الذي ليس له سهم من الغنيمة و لا يجرى عليه من الفي ء شى ء اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم عن الحسن بن محمد بن الحنيفة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعث سرية فاصابوا غنما فجاء قوم بعد ما فرغوا يعنى من القسمة فاعطاهم الغانمون منها فنزلت هذه الاية و قال زيد بن اسلم المحروم هو المصاب ثمره او زرعه او نسل ماشيته كذا قال محمد بن كعب القرظي

و قرا انا لمغرمون بل نحن محرومون.

٢٠

وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ قال اكثر المفسرين هذه الجملة و ما عطف عليه متصل بقوله تعالى انكم لفى قول مختلف و ما بينهما معترضات و عندى هى معطوفة على ما سبق فى تفسير المحسنين و الثناء عليهم لكن فيه وضع المظهر موضع المضمر الراجع الى المحسنين إيذانا لتحصيل الإيقان بالاستدلال و التفكر فى الآيات تقديره و فى الأرض ايت لهم فانهم إذا ذكروا بايات ربهم لم يحبروا عليها صما و عميانا بل ينظرون بأبصارهم و يتفكرون فى خلق الأرض و دحوها كالبساط و ارتفاع بعضها على الماء ليسكن عليها عباد الرحمن و اختلاف اجزائها فى الكيفيات و المنافع و ما خلق اللّه فيها من المعادن و النباتات و الحيوانات و العيون و الأنهار و يستدلون بها على وجود الصانع الواجب و علمه و قدرته و إرادته و وحدته و فرط رحمته و حكمته ثم ينظرون ببصائرهم ما يترشح عليها و على ما فيها من اللّه تعالى و بركات وجودها و بقائها و رحمته و يسال من فيها ما يحتاج اليه كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ ....

٢١

وَ فِي أَنْفُسِكُمْ عطف على فى الأرض يعنى و فى أنفسكم ايها الناس آيات لهم فان فى العلم الصغير اعنى نفس الإنسان كاين من الآيات كما فى العالم الكبير من بدو خلقه الى مماته حيث كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم كسيت لحما فم نفخ فيه الروح ثم يسر اللّه سبيله الى الخروج ثم هدى الى سبيل معاشه رضيعا و فطاما و اكتساب أقواته و التغذي بالأكل و الشرب و دفع الفضول بالبول و الغائط و سبيل ابقاء نوعه بالنكاح و الى سبيل معاده بإرسال و إنزال الكتب و اظهر فيه بدائع صنعه من اختلاف الالسنة و الصور و الألوان و الطبائع و العقول و الافهام و اختلاف استعداداتهم فى قبول الحق و سلوك سبيل الرشاد و صعود مدارج القرب و معارج العرفان فينظر العارف بعض هذه الأمور بالأبصار و يقول تبارك اللّه احسن الخالقين و بعضها بالبصائر و ينظر بالبصائر ما يتجلى على السرائر من التجليات الذاتية و الصفاتية و الظلالية و لا يتطرق اليه مجال المقال و عبر عنه بالحديث القدسي لا يزال عبدى يتقرب الى بالنوافل حتى أحببته فاذا أحببت كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به الحديث فيقول العارف الحمد للّه الذي هدانا لهذا و ما كنا نهتدي لو لا ان هدانا اللّه لقد جاءت رسل ربنا بالحق أَ فَلا تُبْصِرُونَ ايها الخراصون ما يبصره المحسنون الموقنون و الفاء للعطف على محذوف تقديره أ تنكرون قدرة اللّه على البعث فلا تبصرون و هذه الجملة معترضة.

٢٢

وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ قال ابن عباس و مقاتل يعنى المطر الذي سبب رزق و هذا مبنى على ما ورد فى الشرع ان المطر ينزل من السماء و

قال البيضاوي قيل المراد بالسماء السحاب و بالرزق المطر و هذا مبنى على مذهب الفلاسفة و قال ايضا اسباب رزقكم او تقديره عندى ان رزقكم خطاب للمحسنين الموقنين على سبيل الالتفات من الغيبة الى الخطاب و فى السماء عطف على فى الأرض و فى أنفسكم عطف مفرد على مفرد و رزقكم بدل من الآيات و جاز ان يكون عطف جملة على جملة و المراد بالرزق اما الحظ و النصيب كما فى قوله تعالى وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ المراد بالرزق هاهنا اما الآيات الدالة على اللّه سبحانه من الشمس و القمر و الكواكب و حركاتها و ما يترتب عليها من اختلاف الفصول و المنافع و المضار بدليل ذكر الآيات فى الأرض و الا نفس فان الاستدلال بها و التفكر فيها حظ المحسنين الموقنين لا غير و كذا ما يترتب على الاستدلال بها و التفكر فيها من الرحمة و البركات و ما ينزل على العارف من التجليات فان كل ذلك رزق المحسنين و حظ للموقنين دون من ختم اللّه على قلوبهم و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة و هم يعمهون قال العارف الرومي قدس سره گر نخواهد بى بدن جان تو زيست فى السماء رزقكم روزى كيست و اما الرزق المأكول و حينئذ يراد بالآية التنبه و الاشعار بان رزقكم بيد اللّه مكتوب فى السماء فينبغى ان لا تطلبوا الرزق من غير اللّه تعالى و اعبدوا اللّه مخلصين له الدين من غير رياء و سمعة قائلين لا نسألكم عليه اجرا ان اجرى الا على اللّه لا تريد منكم جزاء و لا شكورا فعلى هذا التقدير ايضا فى الاية اشارة الى تفسير المحسنين و الثناء عليهم يعنى هم يتفكرون فى خلق السموات و الأرض و يخلصون اللّه الأعمال موقنين بان رزقهم فى السماء متوكلين على اللّه وَ ما تُوعَدُونَ عطف على رزقكم

قال البغوي قال عطاء و ما توعدون من الثواب و العقاب

و قال مجاهد من الخير و الشر و قال الضحاك من الجنة و النار قلت تفاسير هؤلاء الكرام مبنى على ان الخطاب عام للمؤمنين و الكافرين و لا يصح هذا التأويل الإبان يقال مكتوب فى السماء و ما توعدون لان يقال كاين فى السماء و ما توعدون قان الجنة فوق سبع سموات دون النار فانها تحت الأرضين السبع كما نطقت به الأحاديث و على ما قلت من التأويل ان الخطاب مختص بالمحسنين يصح القول بان ما توعدون من الثواب و الجنة كاين فى السماء و قيل و ما توعدون كلام مستانف و ما موصولة او مصدرية مبتداء خبره.

٢٣

فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ و على هذا فالضمير المنصوب لما و على الاول يحتمل له و لما ذكر سابقا من البعث و الجزاء و الرزق و الوعد و الوعيد مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ قرأ ابو بكر و حمزة و الكسائي مثل بالرفع على انه صفة لحق و الباقون بالنصب على انه حال من المستكن فى لحق او وصف لمصدر محذوف يعنى انه لحق حقا مثل نطقكم و قيل انه مبنى على الفتح لاضافة الى غير متمكن و هو ما ان كانت بمعنى شى ء و ان مع جملتها ان كانت ما زائدة و محله الرفع شبه اللّه سبحانه الرزق و غيره مما وعد و اخبر به ينطق الإنسان

قال البغوي ما انكم تنطقون فتقولون لا اله الا اللّه يعنى المراد بالنطق المنطوق و الخطاب ان كان للمحسنين فمنطوقه غالبا لا اله الا اللّه و ان كان الخطاب عاما فشبه تحقق ما اخبر عنه يتحقق نطق الآدمي كما يقال انه لحق كما أنت هاهنا و انه لحق كما أنت تتكلم و المعنى انه فى صدقه و وجوده كالذى تعرفه ضرورة و قال بعض الحكماء يعنى ان كل انسان ينطق بلسان نفسه و لا يمكنه ان يأكل رزق غيره حكى فى المدارك عن الأصمعي انه قال أقبلت من جامع البصرة فطلع علىّ أعرابي فقال ممن الرجل قلت من بنى اصمع قال من اين أقبلت أقلت من موضع يتلى فيه كلام اللّه الرحمن قال اتل علىّ فتلوت و الذّاريات فلما بلغت قوله فى السماء رزقكم قال حسبك فقام الى ناقة فنحرها و وزعها على من اقبل و أدبر و عمد الى قوسه و سيفه فكسرهما و ولى فلما حججت مع امر الرشيد طفقت أطوف فاذا انا بمن يستهنف بصوت رفيق فالتفت فاذا انا بالأعرابي فسلّم علىّ و استقرأ السورة فلما بلغت الاية صاح قال قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ثم قال و هل غير هذا فقرأت فورب السماء و الأرض انه لحق فصاح فقال سبحان اللّه من ذا الذي اغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى إلجاؤه الى اليمين قالها ثلثا و خرجت معها نفسه يعنى مقتضى البلاغة ان يؤكد الكلام على حسب انكار المخاطب فاللّه سبحانه أورد الكلام بكمال المبالغة فى التأكيد حيث اقسم عليه و أكد بكلمة ان و لام التأكيد و الاخبار بانه حق و التشبيه بما هو اجلى البديهيات و ليس هذه الاشارة الى ان الناس كانهم فى غاية الإنكار فى تقدير الرزق الموعود كاد حين فى اكتساب ما التزم اللّه سبحانه على نفسه بقوله وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللّه رِزْقُها غافلين عما كلفهم اللّه به و علق به الثواب و العقاب الأيدي لا حول و لا قوة الا باللّه.

٢٤

هَلْ أَتاكَ استفهام للتقرير يعنى قد أتاك و الغرض منه تفخيم شان الحديث و التنبيه على انه اوحى اليه قبل ذلك حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ضيف فى الأصل مصدر و لذا يطلق على الواحد و المتعدد

قال البغوي اختلفوا فى عددهم فقال ابن عباس و عطاء كانوا ثلثة جبرئيل و ميكائيل و اسرافيل و قال محمد بن كعب كان جبرئيل و معه سبعة و قال الضحاك كانوا تسعة و قال مقاتل كانوا اثنى عشر ملكا و قال السدى كانوا أحد عشر ملكا على سورة الغلمان الوضاء وجوههم الْمُكْرَمِينَ فيه اشارة الى ان ابراهيم عليه السلام أكرمهم قبل ان يعرفهم حيث خدمهم بنفسه و اهله و عجل إليهم قرا هم و ذلك سنة المرسلين و داب المهتدين قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من كان يؤمن باللّه و اليوم الاخر فليحسن الى جاره و فى رواية فلا يوذ جاره و من كان يومن باللّه و اليوم الاخر فليكرم ضيفه و من كان يؤمن باللّه و اليوم الاخر فليقل خيرا او ليسكت رواه احمد و الشيخان فى الصحيحين و الترمذي و ابن ماجة من حديث ابى هريرة و فى الصحيحين من حديث ابى شريح الكعبي بلفظ من كان يؤمن باللّه و اليوم الاخر فليكرم ضيفه جايزته يوم و ليلة و الضيافة ثلثة ايام فما بعد ذلك فهو صدقة و لا يحل له ان يثوى عنده حتى يحرجه و فى الصحيحين عن عبد اللّه بن عمرو ان رجلا سال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اى الإسلام خير قال تطعم الطعام و تقرأ السلام على من عرفت و من لم تعرف و قيل سماهم مكرمين لانهم كانوا ملائكة كراما على اللّه تعالى قال اللّه تعالى بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ....

٢٥

إِذْ دَخَلُوا الظرف متعلق بالحديث او الضيف او المكرمين و الضمير راجع الى الضيف من حيث المعنى عَلَيْهِ اى على ابراهيم عليه السلام فَقالُوا سَلاماً اى نسلم عليك قالَ ابراهيم سَلامٌ ج اى عليكم سلام عدل الى الرفع بالابتداء لقصد الثبات حتى تكون تحية احسن من تحيتهم قال اللّه تعالى وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللّه كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً و جملة قال سلام استيناف كانه فى جواب ماذا قال ابراهيم حين سلموا عليه قرا حمزة و الكسائي سلم بكسر السين و سكون اللام بغير الف و الباقون بفتح السين و اللام و الف بعدها المعنى واحد قَوْمٌ مُنْكَرُونَ اى أنتم قوم منكرون لا نعرفكم قال ابن عباس قال فى نفسه هؤلاء قوم منكرون لا نعرفهم قال ابو العالية أنكر سلامهم فى ذلك الزمان فى تلك الأرض لان السلام علم الإسلام.

٢٦

فَراغَ اى ذهب و مال عطف على قال إِلى أَهْلِهِ مبادرة فى القرى فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ مشوى لانه كان عامة ماله البقر.

٢٧

فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ بان وضع بين أيديهم لياكلوا فلم يأكلوا قالَ ابراهيم أَ لا تَأْكُلُونَ الهمزة للانكار ان كان بعد ما راى انهم لا يأكلون و ان كان فى أول الأمر فالهمزة للعرض و الحث على الاكل على طريقة الأدب.

٢٨

فَأَوْجَسَ يعنى أضمر مِنْهُمْ خِيفَةً ط اى خوفا لما راى اعراضهم عن طعامه عن ابن عباس انه وقع فى نفسه انهم ملائكة أرسلوا للعذاب قالُوا لا تَخَفْ ط انا رسل اللّه وَ بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ يعنى اسحق عليه السلام عَلِيمٍ يكمل علمه إذا بلغ.

٢٩

فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ سارة فِي صَرَّةٍ اى صيحة قيل لم يكن ذلك إقبالا من مكان الى مكان و انما هو كقول القائل اقبل يشتمنى اى أخذت تصيح و على هذا التأويل قوله فى صرة فى محل النصب على المفعولية و ان كان المراد الإقبال من مكان الى مكان فهى فى محل النصب على الحال فَصَكَّتْ وَجْهَها قال ابن عباس لطمت وجهها يعنى جمعت أصابعها فضربت وجهها كما هو عادة النساء عند التعجب إذا انكرن شيئا و قيل وجدت حرارة دم الحيض فلطمت وجهها من الحياء وَ قالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ يعنى أ تلد عجوز عقيم و كانت سارة لم تلد قبل ذلك و كانت بنت تسعين سنة.

٣٠

قالُوا اى الملائكة كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ ط يعنى قال ربك قولا مثل ذلك الذي

قلنا و انما نخبرك من اللّه إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ فى صنعه الْعَلِيمُ بما كان و ما يكون فيكون قوله حقا و فعله محكما و لما علم ابراهيم انهم ملائكة و انهم لا ينزلون مجتمعين الا لامر عظيم.

٣١

قالَ فَما خَطْبُكُمْ اى ما شانكم و فيم أرسلتم أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ

٣٢

قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعنى قوم لوط كانوا يعملون الخبائث التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء و يقطعون السبيل و يأتون فى ناديهم المنكر فارسل اللّه إليهم أخاهم لوطا فكفروا به و قالوا اتنا بعذاب اللّه ان كنت من الصادقين قال رب نجنى من القوم الظالمين و انصرني على القوم المفسدين فارسل اللّه إليهم الملائكة.

٣٣

لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ متحجر و هو السجيل-.

٣٤

مُسَوَّمَةً معلمة على كل واحد منها اسم من يهلك به عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ المجاوزين الحد فى الفجور قال ابن عباس يعنى للمشركين فان الشرك أسرف الذنوب و أعظمها.

٣٥

فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها اى فى قرى قوم لوط و اضمارها مع عدم سبق ذكرها لكونها معلوما بالسياق مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بلوط عليه السلام و ذلك قوله تعالى قالوا يعنى الملائكة يا لوط انا رسل ربك لن يصلوا إليك فاسر باهلك بقطع من الليل و لا يلتفت منكم أحد الا امرأتك انه مصيبها ما أصابهم-.

٣٦

فَما وَجَدْنا فِيها اى فى قرى قوم لوط غَيْرَ اهل بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يعنى لوطا و بناته وصفهم اللّه تعالى بالايمان و الإسلام جميعا لانه ما من مؤمن الا و هو مسلم.

٣٧

وَ تَرَكْنا فِيها آيَةً علامة لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ المعتبرين بها و هى تلك الحجارة الواقعة فى تلك القرى او صخر منضود فيها او ماء اسود منتن.

٣٨

وَ فِي مُوسى عطف على قوله و تركنا فيها على معنى و جعلنا فى إرسال موسى اية و هذا كقوله علفتها تبنا و ماء باردا يعنى و سقيتها ماء باردا و هذا اقرب و انسب مما قيل انه معطوف على قوله و فى الأرض لبعده و عدم المناسبة فى القصة إِذْ أَرْسَلْناهُ هذا الظرف متعلق بما تعلق به فى موسى يعنى جعلنا فى موسى وقت ارسالنا إياه إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ حجة ظاهرة يعنى معجزاته كالعصاء و اليد البيضاء و الطوفان و الجراد و القمل و الضفادع و الدم و السنين و فلق البحر.

٣٩

فَتَوَلَّى اى اعرض فرعون عن الايمان بِرُكْنِهِ اى بجمعه و جنوده الذين كان ينضوبهم وَ قالَ فرعون هواى موسى ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ قال ابو عبيدة او بمعنى الواو و الظاهر انها بمعناه فانه لما راى على يديه الخوارق قال ساحر و لما سمعه يقول ما لا يدركه عقله السقيم زعم انه مجنون و بين كلاميه منافاة و

قال البيضاوي كانه جعل ما ظهر منه من الخوارق منسوبا الى الجن و تردونى انه هل حصل ذلك باختياره و سعيه او بغيرهما يعنى ان كان باختياره فهو ساحر و الا فهو مجنون.

٤٠

َخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ فاغرقناهم فى اليم هُوَ مُلِيمٌ اى ات بما يلام عليه من الكفر و العناد و التكبر و الجملة حال من الضمير المنصوب فى أخذناه.

٤١

وَ فِي عادٍ يعنى تركنا فى إهلاك عاد اية إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ و هى التي لا خير فيها و لا بركة و لا تلقح شجرا و لا تحمل مطرا و كانت دبورا لقوله عليه الصلاة و السلام نصرت بالصبا و أهلكت عاد بالدبور.

٤٢

ما تَذَرُ مِنْ شَيْ ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ يعنى جعلت الأشياء كالرماد من الرم و هى البنى؟؟؟ و التفتت.

٤٣

وَ فِي ثَمُودَ يعنى و تركنا فى إهلاك ثمود اية إِذْ قِيلَ لَهُمْ قال لهم صالح لما عقروا لناقة تَمَتَّعُوا فى دياركم حَتَّى حِينٍ يعنى ثلثة ايام.

٤٤

فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ استكبروا عن امتثاله و اتباع صالح و الايمان به- فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاع ِقَةُ قرا الكسائي الصعقة بإسكان العين من غير الف و الباقون بالألف بعد العين و الصاعقة الموت و كل عذاب مهلك و صيحة العذاب و الصعق معركة شدة الصوت كذا فى القاموس اخذتهم بعد مضى الأيام الثلاثة وَ هُمْ يَنْظُرُونَ اى يرون ذلك العذاب عيانا فاصبحوا فى ديارهم جاثمين.

٤٥

فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ للّهرب بعد نزول العذاب قال قتادة لم ينهضوا من تلك الصرعة وَ ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ اى ممتنعين منه او منتقمين منا.

٤٦

وَ قَوْمَ نُوحٍ قرأ ابو عمر و حمزة و الكسائي قوم بالجر عطفا على ثمود يعنى تركنا فى إهلاك قوم نوح اية و الباقون بالنصب على انه مفعول بفعل محذوف دل عليه السياق تقديره و أهلكنا قوم نوح مِنْ قَبْلُ اى من قبل قوم لوط و فرعون و جنوده و عاد و ثمود إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن الاستقامة بالكفر و المعاصي.

٤٧

وَ السَّماءَ منصوب بفعل مضمر يفسره بَنَيْناها بِأَيْدٍ اى بقوة و قدرة وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ قال ابن عباس اى قادرون و مطيقون من الوسع بمعنى الطاقة كما فى قوله تعالى لا يُكَلِّفُ اللّه نَفْساً إِلَّا وُسْعَها و الجملة حال من فاعل بنينا و جملة و السماء عطف على و فى موسى و قال الضحاك معناه به الأغنياء كما فى قوله تعالى عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ و فى رواية عن ابن عباس انا لموسعون الرزق على خلقنا و قيل معناه لموسعون السماء او ما بنينها و بين الأرض.

٤٨

وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها اى مهدناها ليستقروا عليها و التركيب نحو ما سبق فَنِعْمَ الْماهِدُونَ نحن.

٤٩

وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ صنفين قلت ليس المراد تعين تعدد التثنية بل المراد تعدد اصناف المخلوقات يعنى خلقنا من كل شى ء اصناف ذات عدد فوق الواحد أدناه المثنى بل كل فرد منه ذو جهتين خير من وجه و شر من وجه معدوم بالذات واجب بالغير عاجز بالذات قادر بالغير لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ لكى تذكروا و تعلموا ان التعدد من خواص الممكنات و الواجب بالذات لا يقبل التعدد و الانقسام واجب وجوده لا يصادم وجوده العدم قادر لا عجز له.

٥٠

فَفِرُّوا من كل شى ء إِلَى اللّه ط بالتوجه و المحبة و الاستغراق و امتثال الأوامر و كسب السعادات حتى تخلصوا من النقائص و الشرور و تفوزوا بالخيرات و تصعدوا مصاعد القرب و الكمال و الفاء للسببية فان التذكر و التدبر فى شان الممكنات و الواجب تعالى يوجب الفرار منها اليه تعالى و هذه الجملة بتقدير القول من كلام الرسول صلى اللّه عليه و سلم ليرتبط بما بعده يعنى قل يا محمد ففروا الى اللّه إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ اى من عذابه المترتب على غضبه و هجرانه و بعده و عصيانه نَذِيرٌ مُبِينٌ بين كونه نذيرا من اللّه تعالى بالمعجزات او مبين ما يجب ان يحذر عنه.

٥١

وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللّه إِلهاً آخَرَ شريكا له فى وجوب الوجود او فى استحقاق العبودية او فى كونه مقصودا لكم و مجبوبا مستغلا به إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ للتاكيدا و الاول لتحذير الخواص عن مطلق التوجه و المحبة بغيره تعالى و الثاني لتحذير العوام عن الشرك و المعاصي كما يدل عليه السياق يعنى ان لم تقدروا على الفرار من كل شى ء حتى من أنفسكم الى اللّه تعالى فلا تجعلوا مع اللّه الها اخر فى العبادة و امتثال الأوامر.

٥٢

كَذلِكَ خبر مبتدا محذوف اى شانك مع قولك كذلك الشان للرسل من قبلك مع أقوامهم و لما كان فى التشبيه إبهاما فسره بقوله ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الضمير عايد الى كفار مكة و المراد بالموصول كفار الأمم السابقة مفعول لاتى و فاعله مِنْ رَسُولٍ من زائدة فى النفي للاستغراق إِلَّا قالُوا استثناء مفرغ و المستثنى فى محل النصب على الحالية من فاعل اتى او مفعوله او كليهما يعنى ما أتاهم رسول فى حال الا حال قولهم ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ خبر مبتدا محذوف و الجملة مقولة- قالوا يعنى قالوا هذا ساحرا و مجنون كما يقول لك قومك و جاز ان يكون مشار اليه بذلك تكذيبهم الرسول و تسميتهم إياه ساحرا او مجنونا و جملة ما اتى علة للتشبيه.

٥٣

أَ تَواصَوْا اى الأولون و الآخرون من الكفار بِهِ بهذا القول يعنى اوصى بعضهم بعضا بهذا القول حتى قالوا جميعا و الاستفهام للانكار و التوبيخ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ إضراب عن التواصي من جميعهم بهذا القول لتباعد ايامهم الى ان الجامع لهم على هذا القول مشاركتهم فى الطغيان الحامل عليه و قوله كذلك الى قوله طاغون معترضات لتسلية النبي صلى اللّه عليه و سلم و قوله فتول عنهم اى عن الكفار عطف على قل المقدرة يعنى قل ففروا إلخ.

٥٤

فَتَوَلَّ عَنْهُمْ اى اعرض عن مجادلتهم بعد ما كررت عليهم الدعوة فابوا للاصرار و العناد فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ على الاعراض بعد ما بذلت جهدك فى البلاغ

و اخرج ابن جرير و ابن ابى حاتم و ابن منيع و ابن راهويه و الهثيم بن كليب فى مسانيدهم من طريق مجاهد عن على رض عنه قال لما نزلت فتول عنهم فما أنت بملوم لم يبق منا أحد الا أيقن بالهلاكة إذا مر النبي صلى اللّه عليه و سلم ان يتولى عنا فنزلت.

٥٥

وَ ذَكِّرْ الاية فطابت أنفسنا

و اخرج ابن جرير عن قتادة قال ذكر لنا انه لما نزلت فتول عنهم الاية اشتد على اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و راوا ان الوحى قد انقطع و ان العذاب قد حضر فانزل اللّه تعالى و ذكر الاية كذا ذكر البغوي قول المفسرين و قوله تعالى ذكّر عطف على قوله تولّ يعنى لا تدع التذكير و الموعظة فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ تعليل لقوله تعالى ذكر يعنى ان الذكر ينفع المؤمنين و يزداد لهم البصيرة و ان لم ينتفع الكفار او المعنى تنفع من قدر اللّه إيمانه.

٥٦

وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ اى الا لامرهم بعبادتي و ادعوهم اليه يعنى للتكليف يؤيده قوله تعالى وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً كذا ذكر البغوي قول على رض قال مجاهد الا ليعرفوا و الكفار ايضا يعرفون وجوده تعالى حيث قال اللّه تعالى و لئن سالتهم من خلقهم ليقولن اللّه و قيل معناه الا ليكونوا عباد الى او ليخضعوا لى و يتذللوا و معنى العبادة فى اللغة التذلل و الانقياد و كل مخلوق من الجن و الانس خاضع لقضاء اللّه تعالى متذلل لمشيته لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق له و قيل الا ليوحدون اما المؤمنون فيوحدون فى الشدة و الرخاء اما الكافرون فيوحدونه فى الشدة و البلاء دون النعمة و الرخاء قال اللّه تعالى و إذا ركبوا فى الفلك دعوا اللّه مخلصين له الدين قال صاحب المدارك الكفار كلهم يوحدون اللّه فى الاخرة قال اللّه تعالى ثم لم تكن فتنتهم الا ان قالوا و اللّه ربنا ما كنا مشركين و اشراكهم فى الدنيا و هى بعض أحيان وجودهم لا ينافى كونهم مخلوقين للتوحيد قلت و القول ما قال على رض ما سواه اقوال ضعيفة واهية و الذي حملهم على ما قالوا ان ظاهر الاية يقتضى انهم خلقوا مرادا منهم الطاعة و تخلف مراد اللّه تعالى محال و قد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كل ميسّر لما خلق له و قال اللّه تعالى و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الانس و قال الكلبي و الضحاك و السفيان هذا خاص لاهل الطاعة من الفريقين يدل عليه قراءة ابن عباس ما خلقت الجن و الانس من المؤمنين الا ليعبدون و عندى تاويل الاية ما خلقت الجن و الانس الا مستعدين العبادة صالحين لها نظيره قوله صلى اللّه عليه و سلم ما من مولود الا يولد على الفطرة فابواه يهود انه و ينصرانه و يمجسانه كما تنتهج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول فطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه متفق عليه من حديث ابى هريرة و هذا التأويل يناسب تاويل على رض و مقتضى هذه الاية ذم الكفار لاجل اضاعتهم الفطرة السليمة هى اصل الخلقة.

٥٧

ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ المراد ان شانه تعالى مع عباده ليس شان السادة مع عبيدهم فانهم انما يملكونهم ليستعينوا بهم فى تحصيل رزقهم و كسب طعامهم و اللّه تعالى منزه عن ذلك و قيل معناه ما أريد منهم ان يرزقوا أحدا من خلقى و لا ان يرزقوا أنفسهم و ان يطعموا أحدا من خلقى و ينافى هذا التأويل اسناد الطعام الى نفسه و أجيب بان الخلق عيال اللّه و من اطعم عيال أحد فقد أطعمه كما جاء فى الحديث يقول اللّه يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمنى قال يا رب كيف أطعمك و أنت رب العالمين قال اما علمت انه استطعمك عبدى فلان فلم تطعمه انك لو أطعمته لوجدت ذلك عندى رواه مسلم من حديث ابى هريرة فى حديث ذكر فيه مرضت فلم تعدنى و استسقيتك فلم تسقنى قلت هذا قول بالتجوز و مع ذلك يرد عليه ان اللّه تعالى أراد من المؤمنين و امر الناس أجمعين بأداء زكوة أموالهم رزقا للفقراء و ان يطعموا أنفسهم و أهليهم و من وجب عليهم نفقاتهم فكيف يقال ما أريد منهم ان يرزقوا اللّهم الا ان يقال المقص من إيجاب الزكوة امتثال الأمر و فعل الأداء دون الترزيق و من هاهنا قال ابو حنيفة لا يجب الزكوة على الصبى و المجنون و لكن هذا الجواب لا يستقيم فى العشر و الخراج و نفقة الآباء و الأولاد و الزوجات فان المقصود إيصال الرزق الى العباد و لذا تجرى فيها النيابة و يتادى بأداء ولى الصبى.

٥٨

إِنَّ اللّه هُوَ الرَّزَّاقُ لجميع خلقه مستغن عنه ذُو الْقُوَّةِ على الترزيق و على كل ما أراد الْمَتِينُ شديدة المبالغ فى القدرة قيل فى تاويل الاية ان قوله تعالى ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ إلخ من كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مقدر بقل يعنى قل يا محمد ما أريد منهم اى من الناس من رزق نظيره لا أسألكم عليه اجرا قال بعض المحققين قوله تعالى وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ بتقدير قل عطف على ذَكِّرْ و الى قوله تعالى ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ داخل فى مقولة قل لا يقال كيف يصح ما خَلَقْتُ الْجِنَّ إلخ كلاما للرسول لانا نقول هو على طريقة قول الملك للسفير قل ان أمركم بكذا فيقول السفير بقول الملك انى أمركم بكذا و ان الأمير يأمركم بكذا و مثل هذا متعارف.

٥٩

فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالشرك و المعاصي و اضاعة الفطرة السليمة و وضع الكفران موضع العبادة التي كلفوا بها و خلقوا مستعدين لها ذَنُوباً اى نصيبا من العذاب و هو فى الأصل الدلو العظيم الذي له ذنب و استعير للنصيب أخذ من مقاسمة السقاة الماء بالدلاء و قال الزجاج الذنوب فى اللغة النصيب مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ اى مثل نصيب نظرائهم من الأمم السابقة كعاد و ثمود و فرعون و قوم نوح و قوم لوط و الفاء للسببية تعليل لقوله فتول عنهم- فَلا يَسْتَعْجِلُونِ الفاء ايضا للسببية يعنى إذا سمعت وعيدي لكفار فهو يكفيك للتسلية فلا تستعجلون فى تعذيبهم و جاز ان يكون هذا خطابا بالكفار جوابا لقولهم متى هذا الوعد ان كنتم صادقين.

٦٠

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يعنى يوم القيامه و قيل يوم بدر الفاء للسببية مسبب لتحقق الوعيد و اللّه تعالى اعلم.

﴿ ٠