سُورَةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ

مَكِّيَّةٌ وَهِيَ ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ آيَةً

مكّيّة و هى ثمان و عشرون اية

 بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

_________________________________

١

إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ جئ بان فى ابتداء الكلام لاظهار الاهتمام و تقييد إرساله الى قومه يدل على انه لم يكن مبعوثا الى الناس كافة كما يدل عليه حديث جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلى نصرت بالرعب مسيرة شهر و جعلت لى الأرض مسجدا و طهورا فاينما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل و أحلت لى الغنائم و لم يحل لاحد قبلى و أعطيت الشفاعة و كان النبي يبعث الى قومه خاصة و بعثت الى الناس عامة متفق عليه و حديث ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال فضلت على الأنبياء بست فذكر نحوه غير انه لم يذكر و أعطيت الشفاعة و ذكر فيه و أرسلت الى الخلق كافة و ختم بي النبوة رواه مسلم أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ ان مفسره لتضمن الإرسال معنى القول و يحتمل ان يكون مصدرية بمعنى بان

قلنا له انذر لا بمعنى بان انذر قومك فانه يختبط ح الكلام بضمير الغيبة و الخطاب مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فى الاخرة و الطوفان ان لم يؤمنوا.

٢

قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أنذركم و أبين لكم.

٣

أَنِ اعْبُدُوا اللّه وَ اتَّقُوهُ فلا تشركوا به شيئا وَ أَطِيعُونِ فيما أمركم به من التوحيد و الطاعة للّه.

٤

يَغْفِرْ لَكُمْ مجزوم على جواب الأمر فان الايمان و الطاعة سبب للمغفرة عن عمرو بن العاص قال أتيت النبي صلى اللّه عليه و سلم فقلت ابسط يمينك فلا بايعك فبسط يمينه فقبضت يديه فقال مالك يا عمرو قلت أردت ان اشترط قال تشترط ماذا قلت ان يغفر لى قال اما علمت يا عمرو ان الإسلام يهدم ما كان قبله و ان الهجرة تهدم ما كان قبلها و ان الحج يهدم ما كان قبله رواه مسلم و عن معاذ قال كنت ردف رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على حمار ليس بينى و بينه الا مؤخرة الرحل فقال يا معاذ هل تدرى ما حق اللّه على عباده و ما حق العباد على اللّه قلت اللّه و رسوله اعلم قال فان حق اللّه على العباد ان يعبدوه و لا يشركوا به شيئا و حق العباد على اللّه ان لا يعذب من لا يشرك به شيئا فقلت يا رسول اللّه أ فلا ابشر به الناس قال لا تبشرهم فيتكلوا متفق عليه و عن انس هذه القصة نحوه و فيه فاخبر بها معاذ عند موته تأثما متفق عليه مِنْ ذُنُوبِكُمْ من زائدة او للتبعيض اى بعض ذنوبكم يعنى ما هو حق اللّه تعالى وَ يُؤَخِّرْكُمْ اى يعافيكم فلا يعاقبكم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ط هو أقصى ما قدر لكم بشرط الايمان و الطاعة مسئله اعلم ان القضاء على نوعين قضاء مبرم و معلق فالمعلق ما كتب فى اللوح المحفوظ ان فلانا ان أطاع اللّه تعالى عوفى الى مدة كذا مثلا و ان عصى اللّه يرسل عليه الطوفان مثلا او غير ذلك و هذا النوع من القضاء يجوز تبديله بفقدان الشرط و هو معنى قوله تعالى يمحو اللّه ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب و عن سلمان الفارسي قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يرد القضاء الا الدعاء و لا يزيد فى العمر الا البر رواه الترمذي و المبرم و هو المراد بقوله تعالى لا تبديل لكلمات اللّه إِنَّ أَجَلَ اللّه اى الاجل الذي قدره اللّه تعالى إِذا جاءَ على الوجه المقدر به لا يُؤَخَّرُ فاما المبرم فلا يوخر قط اما المعلق فلا يوخران جاء على ما علق به فبادروا بالطاعات فى اوقات الامهال و التأخير قبل الاجل المبرم و لا ترتكبوا المعاصي الموجبة للتعذيب المفضية الى الاجل المعلق

فان قيل مذهب اهل السنة ان الاجل واحد لا يزيد و لا ينقص حتى قالوا المقتول ميت بأجله و ما ورد فى الحديث لا يزيد فى العمر الا البر تأويله عندهم ان البر يزيد بركات العمر بكثرة الثواب و ما ذكرت يشبه مذهب المعتزلة

قلنا ليس كذلك بل المعتزلة ينكرون القدر و يجعلون القاتلون خالقا لموت المقتول ما ذكرت هو مذهب اهل السنة فان معنى قولهم الاجل واحد لا يزيد و لا ينقص هو الاجل الثابت بالقضاء المبرم لا تبديل فيه لا يستقدمون ساعة و لا يستاخرون و المقتول ميت بأجله المبرم و ان كان التعليق فى اللوح المحفوظ انه ان قتله فلان مات و الا لم يمت لكنه المبرم فى القضاء انه يقتله فلان البتة و انه يموت فى ذلك الوقت بقتله البتة و لا يوجد شرط بقاءه بعد ذلك الوقت البتة فح لا حاجة الى تاويل الحديث عن ابى حزامة عن أبيه قال قلت يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ارايت رقى نسترقيها و دواء نتداوى بها و تقاة نتقيها هل ترد من قدر اللّه شيئا قال هى من قدر اللّه رواه احمد و الترمذي و ابن ماجة يعنى ان اللّه تعالى قدر انه يتداوى فيحصل له الشفاء بالدواء لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعنى لو كنتم من اهل العلم و النظر لمصلحتهم و فيه انهم لانهماكهم فى الشهوات كانهم كانوا شاكين فى الموت قال ابن عباس بعث نوح و هو ابن أربعين و عاش بعد الطوفان ستين سنة و قال مقاتل بعث و هو ابن مائة سنة و قيل ابن خمسين سنة و قيل مائتين و خمسين سنة و كان عمره الفا و اربعمائة و خمسين سنة و لا شك فى انه لبث يدعوا قومه الف سنة الا خمسين عاما و روى الضحاك عن ابن عباس ان قوم نوح كانوا يضربون نوحا حتى يسقط فيلقونه فى لبد و يلقونه فى بيت انه قد مات فيخرج فى اليوم الثاني و يدعوهم الى اللّه سبحانه و تعالى و حكى محمد بن اسحق عن عبيد بن عمر الليثي انه بلغه انهم كانوا يبطشون بنوح عليه السلام فيخنقونه حتى تغشى عليه فاذا أفاق قال رب اغفر لقومى فانهم لا يعلمون حتى إذا عادوا فى المعصية و اشتد عليه منهم البلاء انتظر النجل فلا يأتي قرن الا كان أخبث من الذين قبلهم حتى كان الآخرون منهم ليقولن قد كان هذا مع ابائنا و أجدادنا هكذا مجنونا لا يقبلون منه شيئا فح شكى الى اللّه عز و جل و.

٥

قالَ و فى الكلام حذف اختصارا تقديره قال نوح كذا فكذبوه فلم يزل نوح على دعوتهم و القوم على إنكاره حتى قال نوح رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً اى دائما.

٦

فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي قرأ الكوفيون دعائى بإسكان الياء و الباقون بالفتح إِلَّا فِراراً عن الايمان و الطاعة و اسناد الزيادة الى الدعاء على السببية كقوله تعالى فزادتهم ايمانا زادتهم رجسا.

٧

وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ الى الايمان لِتَغْفِرَ لَهُمْ بسبب الايمان جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة- وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ يغطوا بها لئلا يروه وَ أَصَرُّوا على الكفر و المعاصي وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً عظيما.

٨

ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً منصوب على المصدرية لانه أحد نوعى الدعاء او صفة مصدر محذوف اى دعاء جهارا اى مجاهرا به او عن الحال بمعنى مجاهرا

٩

ثُمَّ إِنِّي قرأ الكوفيون و ابن عامر بإسكان الياء و الباقون بالفتح.

أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً و كلمة ثم لتفاوت الوجوه فان الجهار اغلظ من الاسرار و الجمع بينهما اغلظ من الافراد و التراخي بعضها عن بعض.

١٠

فَقُلْتُ بيان لقوله دعوتهم و

قال البغوي ان قوم نوح لما كذبوه زمانا طويلا حبس اللّه عنهم المطر و أعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فهلكت أولادهم و أموالهم و مواشيهم فحينئذ قال لهم نوح - اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ط بالتوبة عن الكفر و الندم عن المعاصي و تركها فيما يستقبل إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً للتائبين تعليل لقوله استغفروا.

١١

يُرْسِلِ السَّماءَ اى المطر تسمية الحال باسم المحل عَلَيْكُمْ مِدْراراً حال من السماء اى كثير دره و يستوى فى هذا البيان المذكر و المؤنث و يرسل مع ما عطف عليه مجزوم فى جواب الأمر بالاستغفار فدل على ان الاستغفار سبب للمطر و غير ذلك من النعم الدنيوية و دفع البلاء اما عموما او فى مادة مخصوصة حيث كان نزول البلاء نقمة الشوم المعاصي كما كان فى قوم نوح عليه السلام و كما يدل عليه قوله تعالى ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ اما إذا كان ذلك نعمة لرفع الدرجات فلا كما كان بايوب عليه السلام و غيره من الأنبياء و عن سعيد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالامثل يبتلى الرجل على حسب دينه فان كان فى دينه صلبا اشتده بلائه و ان كان فى دينه رقة ابتلى حسب دينه فما يبرح البلاء بالعهد حتى يتركه يمشى على الأرض و ما عليه خطيئة رواه احمد و البخاري و الترمذي و ابن ماجه و رواه البخاري فى التاريخ عن بعض ازواج النبي صلى اللّه عليه و سلم بلفظ أشد الناس بلاء فى الدنيا نبى او صفى- روى الحاكم فى المستدرك و ابن ماجه و عبد الرزاق عن ابى سعيد نحوه و فيه و لاحدهم كان أشد فرحا بالبلاء من أحدكم بالعطاء و يمكن ان يقال قحط المطر بلاء عام لا يتصور الا بشوم المعاصي من العوام فالاستغفار سبب للمطر عموما و من ثم شرع الاستغفار فى الاستسقاء روى مطرف عن الشعبي ان عمر خرج يستسقى بالناس فلم يزد على الاستغفار حتى رجع فقيل له سمعناك استسقيت فقال طلبت الغيث بمجارى السماء الذي يستنزل بها القطر ثم قرا استغفروا ربكم انه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا.

١٢

وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ قال عطاء يكثر أموالكم و أولادكم وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ بساتين وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً ط يعنى كما كانت قبل تكذيب نوح -.

١٣

ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ للّه وَقاراً ج ما استفهامية مبتداء و لكم خبره و جملة لا ترجون حال من ضمير المخاطب و العامل معنى الفعل اى ما تصنعون لا ترجون و للّه حال من وقارا قدم على ذى الحال لنكارته و الوقار بمعنى العظمة اسم من التوقير بمعنى التعظيم قال ابن عباس و مجاهد رض لا ترون للّه عظمة فى الرجاء بمعنى الاعتقاد عير عن الاعتقاد بالرجاء الذي يتبع ادنى الظن مبالغة و قال الكلبي معناه لا تخافون للّه عظمة فالرجاء على هذا بمعنى الخوف و قال الحسن لا تعرفون للّه حقا و لا تشكرون له نعمة و قال ابن كيسان ما لكم لا ترجون فى عبادة ان يثيبكم على توقيركم إياه جزاء و يحتمل ان يكون المعنى ما لكم لا ترجون فى عبادة اللّه تعظيمه إياكم و للّه بيان للموقر.

١٤

وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً اى تارات حالا بعد حال حلقكم عناصر ثم مركبات اغذية للانسان ثم اخلاطا ثم نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما و لحوما ثم انشأكم خلقا اخر اى خلقا إنسانا بنفخ الروح فتبارك اللّه احسن الخالقين- ثم يميتكم و يقبركم ثم يعيدكم احياء تارة اخرى فيعظم المطيع منكم بالثواب و يعاقب العاصي و الجملة حال من فاعل ترجون او من اللّه ثم اتبع ذكر آيات فى الأنفس بايات فى الآفاق فقال.

١٥

أَ لَمْ تَرَوْا مجاز عن التعجيب كَيْفَ استفهام للاستعظام حال عن الفاعل او المفعول من الجملة التالية قدم لاقتضاء صدر الكلام خَلَقَ اللّه سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً بعضهن فوق بعض و بين كل من السافل و و العالي مسيرة خمسمائة سنة كما دل عليه الأحاديث و ذكر فيما قبل.

١٦

وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً اى فى بعضهن و هى السماء الدنيا كما يقال نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى دور بنى النجار

قال البغوي قال عبد اللّه بن عمرو ان الشمس و القمر وجوههما الى السموات وضوء الشمس و القمر فيهن يعنى كليهن و اشعتهما الى الأرض و يروى هذا عن ابن عباس وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً مثلها به لانها تزيل الظلمة عما تقابله كما يريلها السراج عما حوله و انما مثل الشمس بالسراج مع كون السراج ادنى منها ضياء لظهور امر السراج فى أذهان السامعين و فقد ما يمثل به غيره و لعله فى قوله تعالى جعل القمر فيهن نورا و جعل الشمس سراجا اشعار بان نور القمر مستفاد من الشمس فان النور انما يستفاد من السراج.

١٧

وَ اللّه أَنْبَتَكُمْ كرر اسم اللّه تعالى و لم يكتف بالضمير التذاذا باسم المحبوب و اظهار المقصودة اى انشأكم فاستعير الإنبات للانشاء لانه ادل على الحدوث مِنَ الْأَرْضِ بان خلق أباكم آدم منها او بانه خلقكم من النطف و النطف من الغذاء المنبت من الأرض نَباتاً مصدر من غير ما به نحو تبتل اليه و قيل اسم جعل موضع المصدر او هو مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره و اللّه أنبتكم فنبتم نباتا فاقتصر اكتفاء بالدلالة الالتزامية.

١٨

ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها مقبورين بعد الموت وَ يُخْرِجُكُمْ بالحشر إِخْراجاً أكده بالمصدر كما أكد به الاول للدلالة على تحقيق البعث كالبدأ.

١٩

وَ اللّه جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً تنقلبون عليها.

٢٠

لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً ع واسعة جمع فج و من لتضمن الفعل معنى الاتخاذ.

٢١

قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي فيما امرتهم و هذه الجملة بمنزلة التأكيد لما سبق من قوله تعالى قال رب انى دعوت قومى ليلا و نهارا فلم يزدهم دعائى الا فرارا إلخ قال مال الجملتين واح د إذ الفرار عن الدعاء و سد المسامع و تغطية الابصار هو عين العصيان او من موجباته و لذا لم يذكر العاطف بين قال و قال و انما كرر القول بالعصيان مع ذكره فيما سبق لان سوق الكلام الاول لبيان ادائه فريضة التبليغ على ابلغ الوجوه و سوق هذا الكلام ليكون تمهيدا للدعاء عليهم وَ اتَّبَعُوا اى السفلة منهم مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلَّا خَساراً اى رؤسائهم البطرين باموالهم المغترين باولادهم بحيث صار ذلك سببا لزيادة خسارهم فى الاخرة قرا نافع و عاصم و ابن عامر ولده بفتح الواو و اللام و الباقون بضم الواو و سكون اللام على انه لغة كالحزن او جمع كالاسد.

٢٢

وَ مَكَرُوا عطف على من لم يزده و الضمير لمن و جمعه للمعنى او على اتبعوا مَكْراً كُبَّاراً ج هو أشد مبالغة فى الكبر من الكبار بلا تشديد و هو من الكبير يعنى مكروا مكرا كبيرا فى غاية الكبر و ذلك احتيالهم فى الدين و المكر من الرؤساء تحريش الناس على أذى نوح و الكفر باللّه و من السفلة القيام على انواع إيذائه.

٢٣

وَ قالُوا اى قال بعضهم لبعض عطف على مكروا على الوجهين لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ اى عبادتها وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا قرأ نافع ودا بضم الواو و الباقون بفتحها وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً ج تخصيص بعد التعميم لزيادة الاهتمام

قال البغوي قال محمد بن كعب هذه اسماء قوم صالحين كانوا بين آدم و نوح فلما ماتوا كان لهم اتباع يقتدون بهم و يأخذون بعدهم ماخذهم فى العبادة فجاءهم إبليس و قال لهم لو صورتم صورهم كان انشط لكم و أشوق الى العبادة ففعلوه ثم نشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس ان الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم فعبدوهم فابتدأ عبادة الأوثان كان من ذلك و سميت تلك الصور بهذه الأسماء و قال عطاء عن ابن عباس رض صارت الأوثان التي كانت تعبد فى قوم نوح فى العرب بعده اما ودّ فكانت لكلب بدومة الجندل و اما سواع فكانت لهذيل و اما يغوث فكانت لمرو ثم لبنى غطيف بالجرف عند سبأ و اما يعوق فكانت لهمدان و اما نسر فكانت لحمير لال ذى الكلاع فهذه اسماء رجال صالحين من اسلام قوم نوح فلما هلكوا اوحى الشيطان الى قومهم ان انصبوا الى مجالسهم التي كانوا يجلسون انصابا و سموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك عبدت و روى عن ابن عباس رض ان تلك الأوثان رفنها الطوفان و طمها التراب فلم تزل مدمونة حتى أخرجها الشيطان لمشركى مكة.

٢٤

وَ قَدْ أَضَلُّوا اى الأوثان او رؤساء قوم نوح كَثِيراً ج من الناس و الاسناد الى الأوثان مجاز كما فى قوله تعالى رب انهن اضللن كثيرا من الناس حيث أضلهم الشيطان بسببها و الجملة اما حال من فاعل قالوا او من مفعول لا تذرن و اما معترضة وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ اى الكافرين إِلَّا ضَلالًا اى هلاكا و ضياعا كقوله تعالى إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ او المراد بالضلال عدم اهتدائهم الى ما أرادوا بمكرهم او الى مصالح دنياهم و الجملة معطوفة على مقولة قال رب انهم عصونى يعنى قال نوح هذا القول فهو فى المعنى من قبيل عطف المفرد على المفرد لا عطف الإنشاء على الخبر.

٢٥

مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ على قراءة الجمهور

و قرا ابو عمر و خطاياهم ما مزيده للتاكيد و التفخيم و من للسببية متعلق باغرقوا اى من أجل خطاياهم أُغْرِقُوا بالطوفان فَأُدْخِلُوا ناراً فى عالم البرزخ المسمى بالقبر فانه روضة من رياض الجنة او حفرة من حفرات النيران فهذه الاية دليل على اثبات عذاب القبر لان الفاء للتعقيب و صيغة ادخلوا للمضى خلافا للمعتزلة و غيرهم من اهل الهواء قالوا فى تاويل هذه الاية انه أورد بفاء التعقيب لعدم اعتداد لما بين الإغراق و الإدخال او لان المسبب كالمتعقب للسبب و صيغة الماضي لان المتيقن كالواقع

قلنا الأصل فى الكلام الحقيقة و هذه التأويلات حمل على المجاز فلا يجوز بلا دليل كيف و قد دلت من الأحاديث ما لا يحصى على عذاب القبر و انعقد عليه اجماع السلف عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان العبد إذا وضع فى قبره و تولى عنه أصحابه انه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقول ما كنت تقول فى هذا الرجل لمحمد صلى اللّه عليه و سلم فاما المؤمن فيقول اشهد انه عبد اللّه و رسوله فيقال له انظر الى مقعدك من النار قد أبدلك اللّه به مقعدا من الجنة فيريهما جميعا و اما المنافق و الكافر فيقال له ما كنت تقول فى هذا الرجل فيقول لا أدرى كنت أقول ما يقول الناس فيقال لا دريت و لا تليت و يضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين متفق عليه و عن عائشة قالت ما رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صلى صلوة الا تعوذ باللّه من عذاب القبر متفق عليه و عن عثمان انه كان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته فقيل له تذكر الجنة فلا تبكى و تبكى من هذا فقال ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ان القبر أول منزلة من منازل الاخرة فان نجا منه فما بعده أيسر منه و ان لم ينج منه فما بعده أشد منه قال و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما رايت نظرا قط الا و القبر اقطع منه رواه الترمذي ابن ماجة و عن ابى سعيد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يسلط على الكافر فى قبره تسعة و تسعين تنينا تنهسه و تلدغه حتى تقوم الساعة و لو ان تنينا منها نفخ فى الأرض ما أنبتت خضراء رواه الدارمي و روى الترمذي نحوه و قال سبعون بدل تسعة و تسعون و تنكير نارا للتعظيم او لان المراد نوع من النيران غير نار جهنم و جملة اغرقوا مع ما عطف عليه استيناف كانه فى جواب ما فعل لهم إذا شتكى نوح الى اللّه عصيانهم فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّه أَنْصاراً اى لا يجد أحد منهم أحدا ينصرهم فان مقابلة الجمع بالجمع يقتضى انقسام الآحاد على الآحاد و أحد نكرة فى حيز النفي يعم و الجملة تعريض لهم باتخاذ الهة من دون اللّه لا يقدر على نصرهم.

٢٦

وَ قالَ نُوحٌ عطف على قال نوح رب انهم عصونى رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ اى ارض قومه و اللام للعهد مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً أحدا يسكن دارا و هو نكرة فى حيز النفي فيعم فيقال أصله ديوار ادغم الياء بالواو بعد قلبه ياء على طريقة سيد لافعال و الا فكان دوارا.

٢٧

إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ تعليل للدعاء عليهم يُضِلُّوا اى يريدوا إضلال عِبادَكَ المؤمنين وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً قال محمد بن كعب و مقاتل و الربيع انما قال نوح هذا الدعاء على قومه حين اخرج كل مؤمن من أصلابهم و أرحام نسائهم و يئس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة و قيل تسعين سنة فاخبر اللّه نوحا ان هم لا يومنون و لا يلدون مؤمنا و لم يكن فيهم صبى وقت العذاب لان اللّه تعالى قال و قوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم و لا يوجد التكذيب من الأطفال و بهذا يستدل على ان الطوفان لم يستغرق الأرض كلها بل قومه فقط كيلا يلزم التعذيب من غير تكذيب.

٢٨

رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ كان اسم أبيه ملك بن منو شلخ و اسم امه سمجار بنت أنوش و كانا مؤمنين وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ قرأ بفتح الياء حفص و هشام و الباقون بالإسكان اى منزلى و قال الضحاك مسجدى و قيل سفينتى مُؤْمِناً قيل خرج بهذا إبليس فانه كان دخل فى سفينة وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ط الى يوم القيامة وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ اى الكافرين إِلَّا تَباراً ع اى هلاكا و استجاب اللّه تعالى دعاءه.

﴿ ٠