سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ مَكِّيَّةٌ

وَهِيَ عِشْرُونَ آيَةً

مكيّة و هى عشرون اية

 بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

_________________________________

١

يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ التزمل من تزمل تيابه إذا تلفف بها فادغم التاء فى الزاء و مثله المدثر تدثر بثوبه اما القطع كان هذا الخطاب للنبى صلى اللّه عليه و اله و سلم فى أول الوحى قبل تبليغ الرسالة ثم خوطب بعده بالنبي و الرسول و قد تزمل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثيابه فى بدو الوحى خوفا منه لهيبته عن جابر انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يحدث عن فطرة الوحى فبينا انا امشى سمعت صوتا فرفعت السماء بصرى فاذا الملك الذي جاءنى بحراء قاعد على كرسى بين السماء و الأرض فخشيت منه رعبا حتى هويت الى الأرض فجئت أهلي فقلت زملونى فانزل اللّه تعالى يايّها المدثر الى قوله فاهجر ثم حمى الوحى و تتابع متفق عليه و فى حديث عائشة فى الصحيحين فى حديث طويل انه صلى اللّه عليه و سلم دخل على خديجة فقال زملونى زملونى فزملوه حتى ذهب عنه الروع و سنذكر هذا الحديث ان شاء اللّه تعالى فى سورة اقرأ باسم ربك

و اخرج البزار و الطبراني بسند ضعيف عن جابر قال اجتمعت قريش فى دار الندوة فقالت سموا هذا الرجل اسما يصدر الناس عنه قالوا كاهن قالوا ليس بكاهن قالوا مجنون قالوا ليس بمجنون قالوا ساحر قالوا ليس بساحر فبلغ النبي صلى اللّه عليه و سلم فتزمل فى ثيابه و تدثر فيها فاتاه جبرئيل فقال يايها المزمل يايها المدثر.

٢

قُمِ اى صل عبر عنها بالقيام تسمية الشي ء باسم جزئه و ركنه و هذا يقتضى كون القيام ركنا للصلوة و عليه انعقد الإجماع اللَّيْلَ ظرف زمان و حذف حرف الجر يدل على الاستيعاب كما يقال صمت شهرا بخلاف صمت فى الشهر إِلَّا قَلِيلًا بهذا الاستثناء بقي الحكم بقيام بعض الليل و لما كان الاستثناء مبهما طرق الإبهام فى المستثنى منه فصار المحكوم به مجملا لا بد له من بيان فبينه اللّه تعالى بقوله.

٣

نِصْفَهُ فهو بدل من الليل المستثنى منه القليل بدل الكل فان الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا فتقدير الكلام قم بعض الليل اى نصفه و قيل هو بدل من القليل و بيان له و ببيان المستثنى تبين الباقي و يزول الإبهام و حينئذ تقدير الكلام قم الليل الا نصفه و المعنى واحد و اطلاق القليل على النصف بالنسبة الى الكل و لان عدم القيام اى النوم فى نصف الليل قليل من النوم المعتاد فان اللّه تعالى جعل الليل لتسكنوا فيه و لانه إذا قام نصف الليل للتهجد بقي نصف الاخر و فيه صلوة المغرب و العشاء و حوائج البشر من الاكل و الشرب و الخلاء فلم يبق لاجل النوم الا قليل من النصف و قيل نصفه بدل من الليل و الاستثناء منه اى من النصف و تقديره قم نصف الليل الا قليلا فحينئذ يلزم الاستثناء من النصف قبل ذكره مع ان كلمة نصفه حينئذ بدل البعض من الليل و حكم بدل البعض فى القصر حكم الاستثناء فمقتضى الكلام تقديم القصر بالاستثناء على القصر بالبدل و ايضا يلزم حينئذ كون الكلام مجملا بعد البيان أَوِ انْقُصْ عطف على قم الليل مِنْهُ اى من النصف الباقي بعد الاستثناء قَلِيلًا اى زمانا قليلا او نقصانا قليلا و ذلك ان يكون القيام اكثر من نصف النصف اى الربع.

٤

أَوْ زِدْ عَلَيْهِ اى على النصف ما شئت فالمامور به فى هذه الاية القيام اكثر من الربع و لو ساعة و الظاهر ان الأمر بالقيام فى هذه الاية للوجوب كما هو مقتضى الأمر فى الأصل فمقتضى الكلام البغوي و هو المستفاد من قول عائشة و غيرها ان قيام الليل بهذه الاية كان واجبا على النبي صلى اللّه عليه و سلم و على أمته ثم نسخ

قال البغوي كان النبي صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه يقومون على هذه المقادير فكان الرجل لا يدرى متى ثلث الليل و متى النصف و متى الثلثان فكان يقوم حتى يصبح مخافة ان لا يحفظ القدر الواجب و اشتد ذلك عليهم حتى انتفخت أقدامهم فرحمهم اللّه تعالى و خفف عنهم و نسخها بقوله فاقرءوا ما تيسر منه و كان بين أول السورة و آخرها سنة عن سعيد بن هشام قال انطلقت الى عائشة فقلت يا أم المؤمنين انبئينى عن خلق رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قالت الست تقرأ القران قلت بلى قالت فان خلق نبى اللّه كان القران قلت فقيام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يا أم المؤمنين قالت الست تقرأ يايها المزمل قلت بلى قالت فان اللّه افترض القيام فى أول هذه السورة فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم و امسك اللّه تعالى خاتمتها اثنى عشر شهرا فى السماء ثم انزل التخفيف فى اخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة رواه ابو داود و النسائي و البغوي و كذا اخرج الحاكم

و اخرج ابن جرير مثله عن ابن عباس و غيره قال مقاتل و ابن كيسان كان هذا بمكة قبل ان يفرض الصلوات الخمس ثم نسخ ذلك بالصلوة الخمس و الظاهر عندى ان الوجوب كان مختصا بالنبي صلى اللّه عليه و اله و سلم بدليل قوله تعالى ان ربك يعلم انك تقوم ادنى من ثلثى الليل و نصفه و ثلثه و طائفة من الذين معك فان كلمة من للتبعيض صريح فى ان الصحابة بعضهم كانوا يقومون دون بعض

فان قيل لو كان وجوبه مختصا بالنبي صلى اللّه عليه و سلم فكيف يصح تعليل التخفيف لقوله تعالى علم ان سيكون منكم مرضى و آخرون يضربون فى الأرض يبتغون من فضل اللّه و آخرون يقتلون فى سبيل اللّه فان هذه الاية تقتضى رعاية حال الامة و ضعفهم

قلنا خفف اللّه سبحانه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم لرعاية ضعف الامة و اعذارهم لان الناس بما واظب عليه النبي صلى اللّه عليه و سلم مسنون للامة مطلوب الإتيان منهم من غير إيجاب بل بحيث يلام تاركه قال اللّه تعالى و لكم فى رسول اللّه أسوة حسنة لمن كان يؤمن باللّه و اليوم الاخر و ما قيل ان المسنون ما واظب عليه النبي صلى اللّه عليه و سلم على سبيل التطوع احترازا عن صوم الوصال و نحوه فليس بشئ لان الأصل التأسي و الاقتداء مطلقا فلا يترك الا إذا كان ذلك الأمر ممنوعا محرما او مكروها فى حق الامة كصوم الوصال و وصل النكاح فوق الاربعة و غير ذلك و لا وجه لتخصيص التأسي بما واظب النبي صلى اللّه عليه و سلم على سبيل التطوع وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ط عطف على قم الليل و ما قيل الترتيل مندوب اجماعا فعطفه على القيام يقتضى كون الأمر بالقيام ايضا للندب فليس بشئ عن عبد اللّه بن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقال لصاحب القران اقرأ و ارتق و رتل كما كنت ترتل فى الدنيا فان منزلتك عند اخر آية تقرءها رواه احمد و الترمذي و ابو داود و النسائي و الترتيل عبارة عن إرسال الكلمة من الفم بسهولة و استقامة كذا فى الصراح و فى القاموس نحوه و عن ابن عباس معناه بينه بيانا و عن الحسن نحوه

و قال مجاهد ترتيل فيه ترسلا عن قتادة قال سئل عن انس رض كيف كانت قراءة النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال كانت مدا ثم قرا بسم اللّه الرحمن الرحيم يمد ببسم اللّه و يمد بالرحمن يمد بالرحيم رواه البخاري قلت معنى قوله يمد ببسم اللّه و يمد بالرحمن و يمد بالرحيم انه يظهر فيه الالف من اللّه بعد اللام و من الرحمن بعد الميم بقدر حركة و اما مد الرحيم فيجوز فيه المد بقدر الحركتين و اربع و ست عند الوقف و فى الوصل لا يجوز الا بقدر حركة اجمع عليه القراء و عن أم سلمة انها سئل عن قراءة النبي صلى اللّه عليه و سلم فاذا هى تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا رواه الترمذي و ابو داود و النسائي و عنهما قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقطع قراءته يقول الحمد للّه رب العلمين ثم يقف ثم يقول الرحمن الرحيم ثم يقف رواه الترمذي قلت و يتضمن الترتيل تحسين الصوت بالقرآن عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما اذن اللّه لشئ ما اذن لنبى يتغنى بالقران متفق عليه و فى رواية عنه ما اذن اللّه ما اذن لنبى حسن الصوت بالقران يجهر به متفق عليه و عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليس منا من لم يتغن بالقران رواه البخاري و ليس المراد الا تحسين الصوت كما خرج به فى بعض الروايات دون إخراجه على وجه الغناء فانه حرام ممنوع عن حذيفة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اقرؤا القران بلحون العرب و أصواتها و إياكم و لحون اهل العشق و لحون اهل الكتابين و سيجئ بعدي قوم يرجعون بالقران ترجيع الغناء و النوح لا يتجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم و قلوب الذين يعجبهم شانهم رواه البيهقي فى شعب (فائدة) و الحكمة فى الترتيل التدبر فى معانى القران و الألفاظ بموعظة و الخوف عند اية الوعيد و الرجاء عند اية الوعد و نحو ذلك روى البغوي عن ابن مسعود رض قال لا تنثروه نثر الدقل و لا تهزوه هذا الشعر قفوا عند عجائبه و حركوا به القلوب و لا يكن بهم أحدكم اخر السورة و عن حذيفة رض قال صليت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم صلوة الليل فما مر باية فيها ذكر الجنة الا وقف و سال اللّه الجنة و ما مر باية فيها ذكر النار الا وقف و تعوذ من النار و عن عبيد المليكي و كانت له صحبة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يا اهل القران لا تتوسدوا القران و اتلوه حق تلاوته اناء الليل و النهار و أفشوه و تغنوه و تدبروا ما فيه لعلكم تفلحون و لا تعجلوا هرابه فان له ثوابا رواه البيهقي فى الشعب و عن سهل بن عبد الساعدي قال بينا نحن نقرأ إذ خرج علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال الحمد للّه كتاب اللّه واحد و فيكم الأخيار و فيكم الأحمر و الأسود و الأبيض اقرؤا القران قبل ان يأتي أقوام يقرأونه يقيمون حروفه كما يقام السهم و لا يجاوز تراقيهم يتعجلون اجره و لا يتاجلونه.

٥

إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا قيل المراد بالقول الثقيل الأمر بقيام الليل فانه ثقيل شاق على النفس فهذه الجملة على هذا التأويل تذئيل و تأكيد لما سبق و السين حينئذ للتاكيد دون الاستقبال و قيل المراد به القران قال محمد بن كعب القرآن ثقيل على المنافقين قلت فهو نظير قوله تعالى كبر على المشركين ما تدعوهم و قال الحسن بن الفضل ثقيل فى الميزان قلت نظير قوله صلى اللّه عليه و سلم كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان فى الميزان جيبتان الى الرحمن سبحان اللّه و بحمده سبحان اللّه العظيم متفق عليه عن ابى هريرة و قال مقاتل ثقيل لما فيه من الأمر و النهى و الحدود كذا قال قتادة و قال ابو العالية ثقيل بالوعد و الوعيد و حاصل هذه الأقوال انه لما فيه من التكاليف الشاقة و الوعد و الوعيد و ذكر القيامة ثقيل على المكلفين لا سيما على الرسول صلى اللّه عليه و سلم إذ كان عليه ان يتحملها و يحملها أمته و من ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم شيبتنى سورة هود و أخواتها رواه الطبراني عن عتبة ابن عامر و عن ابى جحيفة يعنى لما فيه من قوله تعالى فاستقم كما أمرت و من تاب معك او لما فيه من ذكر القيامة و عذاب الأمم الماضية يدل عليه ما رواه الحاكم عن ابى بكر بلفظ شيبتنى سورة هود و الواقعة و المرسلات و عم يتساءلون و إذا الشمس كورت رواه الترمذي عن ابن عباس و الحاكم عن ابى بكر و ابن مردويه عن سعد و نحوه عن انس رض رواه عبد اللّه بن احمد بلفظ شيبتنى هود و أخواتها لما فيها ذكر يوم القيمة و قصص الأمم و قيل ثقيل على أتأمل فيه لافتقاره الى مزيد تصفيته للسر و تجريد للنظر لزرانته و متانته معناه و هذا أوفق لما سبق و ما لحق فان الترتيل لاجل التدبر و التفهم و ناشئة الليل أشد لمواطاة القلب اللسان و قيل ثقيل على باطن الصوفي و عظيمة فان الخالق العظيم المتعالي يتجلى على قلب المخلوق يحقر السافل كذا قال الفراء حيث قال ثقيل ليس بالخفيف و لا بالسفساف لانه كلام ربنا قال الشيخ الاجل الأكرم الهادي سبيل اليقين محبوب رب العالمين سيف الملة و الدين ابد الآبدين ان علامة انكشاف حقيقة القران ورود ثقل عظيم على باطن السالك و من ثم قال اللّه تعالى سنلقى عليك قولا ثقيلا قلت و يؤيده هذا المعرفة قوله تعالى لو أنزلنا هذا القران على جبل لرايته خاشعا متصدعا من خشية اللّه و هذا معنى ما قيل ثقيل تلقيه رواه مسلم عن عبادة بن الصامت قال كان النبي صلى اللّه عليه و سلم إذا نزل عليه الوحى كرب لذلك و تربد وجهه و فى رواية نكس راسه و نكس أصحابه رؤسهم فلما اتلى عنه رفع رأسه و فى الصحيحين عن عائشة ان الحارث بن هشام سال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال يا رسول اللّه كيف يأتيك الوحى فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أحيانا تأتيني مثل صلصلة الجرس و هو أشد على فيفصم عنى و قد وعيت عنه ما قال و أحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلمنى فاعى ما يقول قالت عائشة و لقد رايته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه و ان جبينه ليتفصد عرقا متفق عليه و يحتمل ان يقال انه ثقيل لما فيه من الأمر بالتوجه الى الخلق لاجل الدعوة و التبليغ و الإرشاد و التكميل بقوله تعالى قم فانذر و قوله و انذر عشيرتك الأقربين بعد ما كان متوجها الى اللّه تعالى مشتغلا به تعالى حيث كان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه و هو تعبد الليالى ذوات العدد و قيل ان ينزع الى اهله و يتزود لذلك ثم يرجع الى خديجة فيتزود لمثلها كذا فى الصحيحين فى حديث عائشة و درجة الإرشاد و التكميل و ان كان أفضل من درجة الاستكمال و الخلوة لكنه قد يكون عند الصوفي على خلاف الطبع فيثقل عليه و يزعمه الصوفي فى بادى الرأي ان هذا أحط مرتبة من التوجه الى اللّه تعالى و الخلوة به و لهذا قيل الولاية به أفضل من النبوة يعنى ولاية النبي أفضل من نبوة ذلك النبي زعما من القائل ان فى الولاية التوجه الى اللّه سبحانه و فى النبوة التوجه الى الخلق و قال المجدد الف ثانى رضى اللّه عنه ليس هذا القول مبنيا على التحقيق بل النبوة مطلقا أفضل من الولاية و هى عبارة عند الصوفية عن السير فى الذات و الولاية عن السير فى الصفات و شتان ما بينهما و التوجه الى اللّه سبحانه تعالى يسمى فى الاصطلاح بالعروج و الى الخلق يسمى بالنزول و كلاهما يعترضان للصوفى فى كلا السيرين غير ان النازل فى مقام الولاية و ان كان له توجها الى الخلق لكنه لم يبلغ فى العروج غاية فهو ملتفت الى الأعالي طمعا لغاية الكمال و النازل فى مقام النبوة لا يكون نازلا الا بعد ما يبلغ الكتاب فى الكمال اجله فهو بكلية يتوجهه الى الخلق للتكميل على مراد اللّه سبحانه تعالى و ان كانت على خلاف مراده و طبعه فهو أفضل و أكمل و هذا الجهاد باق ما دامت هذه النشأة الثانية الباقية و بعد فراغ منها يتادى باملهم الى الرفيق الأعلى فحينئذ يتوجه بكليته الى الدرجات العلى بأجره و اجر من اهتدى به على سبيل الأكمل و الا و فى و اللّه تعالى اعلم و جملة انا سنلقى اما تذئيل و تأكيد لما سبق كما ذكرنا او معترضة لبيان الحكمة فى الأمر بقيام الليل فان فى القيام تمرين النفس على المشفة و مشق مخالفات الطبع او لان الصلاة كانت قرة للنبى صلى اللّه عليه و سلم حيث قال جعلت قرة عينى فى الصلاة رواه احمد و النسائي و البيهقي عن انس و قال أقم الصلاة يا بلال أرحنا به رواه ابو داود عن رجل صحابى عن خزاعة فحينئذ يكون فى التهجد تحصيل ما يعالج به ثقل التوجه الى الخلق او لان لقيام الليل تأثير التأثر نفسه لشريعة فى نفوس الامة كى يجيبوا دعوته حين يستمعوا قوله كما أجاب الجن دعوته حين يستمعوا القران او لان لقيام الليل مدخل فى قيامه مقام الشفاعة لانه حيث قال اللّه تعالى و من الليل فتهجد به نافلة لك عسى ان يبعثك ربك مقاما محمودا.

٦

إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ اى قيام الليل مصدر جاء على فاعلة كعافية بمعنى العفو كذا قال الأزهري و قالت عائشة الناشية قيام الليل بعد النوم فهو بمعنى التهجد و قال ابن كيسان هى القيام من اخر الليل و قال سعيد بن جبير و ابن زيد اى ساعة قام من الليل فقد نشأ و هو بلسان الحبش نشأ فلان اى قام و قال عكرمة هى القيام من أول الليل

قال البغوي روى عن على بن الحسين رضى اللّه تعالى عنهما انه كان يصلى بين المغرب و العشاء الاخرة يقول هذا ناشية الليل و الظاهر ان هذين القولين لا يلائمان هذا المقام فانه صلى اللّه عليه و سلم كان مامور القيام اخر الليل و قال الحسن كل الصلاة بعد العشاء الاخرة فهى ناشية و قيل صفة الفاعل بمعناه و المراد النفس التي تنشأ من مضجعها الى العبادة من نشأ من مكانه إذا نهض ساعات الليل كلها و كل ساعة منه ناشية لانها منشئ اى مبتداء و منه نشأت السخابة و أبدت فكل ما حدث بالليل و بدأ فقد نشأ و هو ناشئ و الجمع ناشية و قال ابن ابى مليكة سالت عن ابن عباس رض و ابن الزبير عنها فقالا الليل كلها ناشية فالاضافة حينئذ بيانية هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً قرأ ابن عامر و ابو عمرو بكسر الواو و فتح الطاء و المد بمعنى الموافقة اى هى أشد موافقة للقلب مع اللسان فان ذلك يكون بالليل اكثر منه بالنهار

و قرا الجمهور بفتح الواو و سكون الطاء اى أشد ثقلا من صلوة النهار لان الليل للنوم و الراحة و منه قوله عليه الصلاة و السلام اللّهم اشدد وطأتك على مضر و إذا اعتاد المرء باشد العبادات ثقلا هان عليه مشقة سائر التكاليف و كلما هو أشد و أثقل على النفس مع مراعات السنة كان اكثر ثوابا و أثقل فى الميزان و أشد تأثيرا ف ى النفوس و قال ابن عباس رض كانت صلوتهم أول الليل هى أشد وطأ بمعنى أجدر ان يحصوا ما فرض اللّه عليكم من القيام لان الإنسان إذا نام لم يدر متى يستيقظ و قال قتادة اثبت فى الخير و احفظ للقرأة و قال الفراء اثبت وطأ للقيام و أسهل للمصلى من ساعات النهار لان النهار خلق لتصرف العباد و الليل للخلوة و العبادة و قيل أشد نشاطا فان من كان أشد على النفس ثقلا كان ألذّ للصوفى و قال ابن زيد افرغ له قلبا من النهار لانه لا تعرض له بالليل حوائج و موانع و قال الحسن أشد وطأ فى الخير و امنع من الشيطان وَ أَقْوَمُ قِيلًا ط اثبت قراءة واضح قولا لهداة و سكون الأصوات.

٧

إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا ط و السبح سرعة الذهاب و منه السباحة فى الماء يعنى ان لك بالنهار ذهابا فى مهامك و لدعوة الخلق و تبليغ الاحكام و اشتغالا بها فعليك بالتهجد فان الليل افرغ لها فهذا بمنزلة التعليل لما سبق- (فصل فى فضائل صلوة الليل) عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ينزل ربنا كل ليلة الى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الاخر يقول من يدعونى فاستجيب من يسألنى فأعطيه من يستغفر لى فاغفر له متفق عليه و فى رواية لمسلم ثم يبسط يديه و يقول من يقرض غير عدوم و لا ظلوم و عن جابر قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول ان فى الليل ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل اللّه فيها خيرا من امر الدنيا و الاخرة الا أعطاه إياه و ذلك رواه مسلم و عن عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أحب الصلاة الى اللّه صلوة داود و أحب الصيام الى اللّه صيام داود كان ينام نصف الليل و يقوم ثلثه و ينام سدسه و يصوم يوما و يفطر يوما متفق عليه و عن ابى امامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عليكم بقيام الليل فانه داب الصالحين قبلكم و هو قربة لكم الى ربكم و مكفر للسيات و منهيات للاثم رواه الترمذي و عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثلثة يضحك اللّه عليهم الرجل إذا قام بالليل يصلى و القوم إذا صفوا فى الصلاة و إذا صفوا فى قتال العدو رواه البغوي فى شرح السنة و عن عمرو بن عيينة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اقرب ما يكون الرب الى العبد فى جوف الليل الاخر فان استطعت ان تكون ممن يذكر اللّه فى تلك الساعة فكن رواه الترمذي و قال الحسن صحيح و عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اشرف أمتي حملة القران و اصحاب الليل رواه البغوي فى الشعب.

٨

وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ عطف على قم الليل و المراد به دوام الذكر ليلا و نهارا بحيث لا يطرق اليه النتور و لا يلحقه الذهول و ذا لا يتصور باللسان فان كل ما كان باللسان و الجوارح من التسبيح و التحميد و الصلاة و القراءة و نحو ذلك يتطرق اليه فتور النية فليس هو الا ذكر القلب و هو حقيقة الذكر فان الذكر عبارة عن طرد الغفلة كما يقتضيه المقابلة فى قوله صلى اللّه عليه و سلم ذكر اللّه فى الغافلين بمنزلة الصابر فى الغارمين فكل صلوة و تسبيح و قراءة كان عن قلب لاه فلا يعتد به ويل للمصلين الذين هم عن صلوتهم ساهون و انما

قلنا ان المراد دوام الذكر لان العطف يقتضى المغايرة و مطلق الذكر يتضمنه قيام الليل و ترتيل القران و حمل الكلام عليه اولى منه على التأكيد و قيل معناه ان قل بسم اللّه الرحمن الرحيم عند ابتداء تلاوة القران

(مسئلة) اجمعوا على قراءة البسملة فى أول الفاتحة و أول كل سورة ابتدأ القاري القراءة بها و لم يصلها بما قبلها سنة و اختلفوا فى التسمية بين السورتين فكان ابن كثير و قالون و عاصم يبسملون بين كل سورتين فى جميع القران ما خلا الأنفال و براءة فانه لا خلاف فى ترك البسملة هناك و الباقون لا يبسملون بين السور فاصحاب حمزة يصلون اخر كل سورة باول الاخرى و المختار من مذهب ورش و عن ابى عمرو و ابن عامر السكتة من غير قطع و اما عند الابتداء بما بين السورة فالقارى فيه مخير بين التسمية و تركها فى مذهب الجميع هذا فى القراءة خارج الصلاة و اما إذا قرأه فى الصلاة فقال الشافعي هى اية من الفاتحة و من كل سورة فيجب قراءتها مع الفاتحة و يسن قرأتها مع غيرها و يبسمل جهرا و قال الائمة الثلاثة ليست هى جزأ من شى ء من السور قال ابو حنيفة رض هى اية من القران نزلت للفصل فلا يقرأ البسملة و عند مالك رض فى الصلاة أصلا و لا مع الفاتحة و لا مع غيرها و عند ابى حنيفة رض و احمد رض يسن قرأتها مع الفاتحة سرا و لا يقرأ مع غيرها من السور و فى رواية عن محمد رض يستحب ان يقرأ سرا مع كل سورة و قد ذكرنا فى تفسير سورة الفاتحة الحجة على انها ليست من الفاتحة و لا من شى ء من السور و ان النبي صلى اللّه عليه و سلم و الخلفاء الراشدين لم يجهروا بها فى الصلاة و قد ذكر الشافعية فى الجهر بالتسمية تسعة أحاديث رواه دار قطنى و الخطيب أورد كلها ابن الجوزي و قال ابن الجوزي قال الدار قطنى كلما روى عن النبي صلى اللّه عليه و سلم فى الجهر بالتسمية فليس بصحيح فاما عن الصحابة فمنه صحيح و منه ضعيف و قد روى ابو داود ان النبي صلى اللّه عليه و سلم كان يجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم و كان مسيلمة يدعى رحمن اليمامة فقال اهل مكة انما يدعوا محمد اللّه يمامة فامر اللّه رسوله فاخفاها حتى مات و هذا يدل على ان يجهر بها و عدم الجهر بالبسملة مروى عن ابى بكر و عمر و عثمن و على و ابن مسعود و عمار بن ياسر و عبد اللّه بن مغفل و ابن الزبير و ابن عباس و من كبار التابعين منهم الحسن و الشعبي و سعيد بن جبير و ابراهيم و قتادة و عمرو بن عبد العزيز و الأعمش و الثوري و انما يرون خلاف هذا عن معاوية و عطاء و طاؤس و مجاهد كذا قال ابن الجوزي وَ تَبَتَّلْ اى انقطع عما سواه إِلَيْهِ تعالى تَبْتِيلًا مصدر من غير بابه وضع موضع تبتلا لرعاية الفواصل و الاشارة الى ان التبتل فى الغالب امر كسبى يحتاج الى تعمق و اجتهاد فالتبتيل مقدم على التبتل و من ثم قال الحسن فى تفسيرها اجتهد و قال ابن زيد التبتل رخص الدنيا و ما فيها و التماس ما عند اللّه فكانه قال تبتل قلبك عما سوى ربك تبتيلا فتبتل للّه تعالى و ليس المراد بالتبتل ترك الملاقاة بالناس او التقصير فى أداء حقوق العباد او قطع نحو ذلك مما امر اللّه به ان يوصل إذ لا رهبانية فى الدين و ان لنفسك عليك حقا و لاهلك عليك حقا و لضيفك عليك حقا بل المراد به قطع العلاقة الحسية و العلمية عن القلب و هو معنى القلب قالت الصوفية العلية الطريق الذي نحن بصدده قطعه خطوتان الخطوة الاولى الانقطاع عن الخلق و الثانية الوصول الى الحق و أحدهما لازم للاخر و من ثم ذكر اللّه سبحانه كلا الخطوتين بالعطف بالواو الذي هى للجمع و قدم قوله و اذكر اسم ربك الذي هو عبارة عن الوصول الى الحق على التبتل لانه هو المقصود بالتبتل و انما

قلنا انه عبارة عن الوصول لان الذكر الذي لا يتطرق اليه الفتور و لا يستعقبه الذهول هو العلم الحضوري إذ لا يتصور ذلك فى العلم الحصولى بداهة و العلم الحضوري عبارة عن حضور نفس المعلوم عند العالم و ذلك يعبر بدوام الحضور و الوصول و الاتصال و الاتحاد و البقاء و نحو ذلك بألفاظ شتى و كانت الأوائل يعبرون عنها بالإخلاص قال ابن عباس و غيره فى تفسير هذه الاية أخلص اللّه إخلاصا و انما قال و اذكر اسم ربك و لم يقل و اذكر ربك لان الملازم للتبتل الذي هو المعبر بالفناء و انما هو علم الأسماء و الصفات دون العلم المتعلق بالذات فانه بعد وراء الوراء و يحتمل ان يكون المراد بالذكر الذكر باللسان بموافقة القلب و بدوام الذكر الدوام العرفي بمعنى الإكثار بقدر الطاقة البشرية و ذلك يفضى الى التبتل و وسيلة اليه بشرط الاجتباء عن اللّه تعالى كما يكون للانبياء و الافراد من الأولياء او جذب من الشيخ و على هذا وجه التقديم على التبتل بأظهر تقدم طبعا و اعلم ان على هذا التأويل فى قوله تعالى و اذكر اسم ربك اشارة الى تكرير اسم الذات و فى قوله تعالى.

٩

رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ على قرأة الجر اشارة الى التصور احاطته تعالى بالممكنات ذكر النفي و الإثبات و كلا التكريرين اساسان بطريقة ارباب كمالات الولايات و على هذا التأويل يثبت المغايرة بين المعطوف و المعطوف عليه اعنى قم الليل و رتل القران و اذكر اسم ربك و يظهران كلا من الأمور الاربعة الصلاة و تلاوة القران و ذكر اسم الذات و النفي و الإثبات مدار لحصول مراتب القرب و الدرجات غير ان الأولين لاهل الانتهاء و الآخرين لاهل الابتداء و انما قدم الأولين على الآخرين لان المخاطب اولا هو النبي صلى اللّه عليه و سلم و هو أكمل اهل الانتهاء و اللّه تعالى اعلم رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ قرأ نافع و ابن كثير و ابو عمرو و حفص بالرفع على انه خبر مبتداء محذوف اى هو رب المشرق و المغرب او مبتداء خبره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ

و قرا الباقون بالجر على البدل من ربك و قيل بإضمار حرف القسم و جوابه لا اله الا هو فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا الفاء للسببية فان كونه ربا لجميع المخلوقات و توحده بالالوهية يقتضى ان يوكل اليه الأمور كلها و فى هذه الاية دفع توهم ان التبتل عن الخلق يوشك ان يخل فى أموره المعايشة فان الإنسان مدنى الطبع لا يستغنى بعضهم عن بعض فابطل هذا الوهم بانه تعالى رب المشرق و المغرب و ما بينهما من العباد و البلاد و أفعالهم و منافعهم و القلوب كلها بيده يصرفها كيف يشاء لا اله الا هو لا يتصور النفع و لا الضرر من أحد الا باذنه و إرادته فاتخذه وكيلا حسبك عن غيره و نعم الوكيل عن عمر بن الخطاب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو انكم تتوكلون على اللّه حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير فغدو خماصا و تروح بطانا رواه الترمذي و ابن ماجة و قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان روح القدس نفث فى روعى ان نفسا لم تمت حتى تستكمل رزقها الا فاتقوا اللّه و اجملوا فى الطلب رواه البغوي فى شرح السنة و البيهقي فى الشعب و عن ابى ذر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال الزهادة فى الدنيا ليس بتحريم الحلال و اضاعة المال و لكن الزهادة فى الدنيا ان لا يكون بما فى يديك أوثق مما فى يد اللّه و ان تكون فى ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها ارغب فيها لو انها أبقيت لك رواه الترمذي قال الشيخ الاجل امامنا و قبلتنا يعقوب الكرخي رض ان من أول السورة الى هذه الاية اشارة الى مقامات السلوك من الخلوة بالليل و الاشتغال بالقران و ذكر الرحمن و نفى ما سواه و التوكل به ثم أشار الى أعلى مقامات السلوك و هو ابصر على جفاء الأعداء فقال.

١٠

وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ اى الكفار من الخرافات فانهم كانوا يقولون كاهن شاعر مجنون وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا بان تجانبهم و لا تكافئهم و تكل أمرهم الى اللّه هذه الاية نسختها اية القتال.

١١

وَ ذَرْنِي اى دعنى وَ الْمُكَذِّبِينَ اى مع المكذبين فان الواو بمعنى مع و لا يجوز ان يكون للعطف و المعنى كل أمرهم الى فان لى غنية عنك فى مجازاتهم و لا يحزنك أقوالهم أُولِي النَّعْمَةِ ارباب النعمة يريد صناديد قريش وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلًا زمانا قليلا او امهالا قليلا الى ان يموتوا او يأتي امر اللّه بالقتال فيعذبهم اللّه بايديكم و يشف صدور قوم مومنين و يذهب غيظ قلوبهم قال مقاتل بن حسان نزلت فيمن هلكوا ببدر فلم يلبثوا الا يسيرا حتى قتلوا ببدر.

١٢

إِنَّ لَدَيْنا تعليل للامر أَنْكالًا النكل القيد الثقيل اخرج البيهقي عن الحسن قال الأنكال قيود من النار وَ جَحِيماً

١٣

وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ غير مبالغة تأخذ بالحلق لا تنزل و لا تخرج اخرج ابن جرير و ابن ابى الدنيا فى صفة النار و الحاكم و البيهقي عن ابن عباس فى قوله تعالى و طعاما ذا غصة قال شجرة الزقوم

و اخرج عبد اللّه بن احمد عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الضريع شى ء يكون فى النار شبه الشوك امر من الصبر و أنتن من الجيفة و أشد حرا من النار إذا اطعم صاحبه لا يدخل البطن و لا يرفع الى الفم فيبقى بين ذلك لا يسمن و لا يغنى من جوع وَ عَذاباً أَلِيماً اخرج ابن ابى الدنيا عن حذيفة مرفوعا انها لتسقط عليهم اى على اهل النار حيات من النار و عقارب من نار و لو ان حية منها نفخت بالمشرق احرق من فى المغرب و لو ان عقربا منها ضربت اهل الدنيا احرقوا من آخرهم و انها لتسقط عليهم فيكون بين لحومهم و جلودهم

و اخرج مسلم عن ابى سعيد الخدري ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ان أهون اهل النار عذابا ابو طالب و هو منعل بنعلين يغلى منهما دماغه

و اخرج مسلم عن النعمان بن بشير ان أهون اهل النار عذابا من له نعلان و شراكان من نار يغلى منهما دماغه كغلى المرجل ما يرى ان أحدا أشد منه عذابا و انه لاهونهم عذابا

و اخرج الحاكم عن ابى هريرة نحوه.

١٤

يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ ظرف لما فى لدنيا أنكالا من معنى الفعل و الظاهر ان رجفة الأرض و الجبال يكون قبل النفخة الاولى و عذاب الكفار بالانكال و الجحيم بعد البعث فوجه الظرفية ان يوم القيامة زمان ممتد مما قبل النفخة الاولى ان يدخل اهل الجنة الجنة و اهل النار النار وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا عطف على ترجف اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس رض اى رملا سائلا قال الكلبي هو الرمل الذي إذا أخذت منه شيئا تبعك ما بعده.

١٥

إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ يا اهل مكة رَسُولًا فى الكلام التفات فان فيما سبق من الكلام كان الخطاب مع النبي صلى اللّه عليه و سلم و ذكر الكفار فى قوله و اصبر على ما يقولون إلخ الى الغيبة و هذا خطاب مع الكفار و ذكر النبي صلى اللّه عليه و سلم على الغيبة و فى هذا الكلام تأكيد لما سبق قال اللّه تعالى انا سنلقى عليك قولا ثقيلا و مضمون هذه الاية انا أرسلناك فمضمون الآيتين واحد- شاهِداً عَلَيْكُمْ بالاجابة او الامتناع كَما أَرْسَلْنا صفة لمصدر محذوف اى رسالا كارسالنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا يعنى موسى .

١٦

فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ موسى عليه السلام فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا شديدا ثقيلا بعد طعام وبيل اى ثقيل لا يستمرئ و منه الوابل للمطر العظيم أغرقه اللّه تعالى فى البحر ثم ادخله فى النار فكذا يفعل بكم ان تعصوا رسولكم.

١٧

فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يا اهل مكة برسولكم يَوْماً اى عذاب يوم حذف المضاف و أقيم المضاف اليه مقامه و أعرب باعرابه و ظرف متعلق بتتقون اى كيف تتقون العذاب فى يوم و يحتمل ان يكون مفعولا لكفرتم اى كيف تتقون العذاب ان كفرتم يوما اى بيوم يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً من شدة هوله و طول زمانه فانه هذا على الفرض او التمثيل و أصله ان بالهموم يضعف القوى يسرع الشيب و شيبا جمع أشيب كما ان بيضا جمع ابيض عن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال يقول اللّه تعالى يا آدم فيقول لبيك و سعديك و الخير فى يديك قال اخرج بعث النار قال و ما بعث النار قال من كل الف تسعمائة و تسعة و تسعين فعنده يشيب الصغير و تضع كل ذات حمل حملها و ترى الناس سكرى و ما هم بسكارى و لكن عذاب اللّه شديد قالوا يا رسول اللّه و أينا ذلك الواحد قال ابشروا فان منكم رجلا و من يأجوج و ماجوج الف ثم قال و الذي نفسى بيده أرجو ان تكونوا ربع اهل الجنة فكبرنا فقال أرجو ان تكونوا ثلث اهل الجنة فكبرنا فقال أرجو ان تكونوا نصف اهل الجنة فكبرنا فقال ما أنتم فى الناس الا كالشعرة السوداء فى جلد ثور ابيض او كشعرة بيضاء فى جلد ثور اسود متفق عليه و هذه الجملة صفة ليوم و العائد ضمير الفاعل على المجاز كما فى قولهم صام نهاره و العائد محذوف لقديره يوما يجعل اللّه فيه الولدان شيبا.

١٨

السَّماءُ مع عظمتها و أحكامها مُنْفَطِرٌ منشق و التذكير على تاويل الشقف او إضمار كلمة شى ء اى شى ء منفطر بِهِ اى بذلك اليوم اى بشدته فكيف غير السماء الجملة صفة ثانية ليوما كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا هذه الجملة صفة ثالثة ليوما و الوعد مصدر مضاف الى ضمير المفعول العائد الى اليوم او العائد محذوف و المصدر مضاف الى الفاعل اى كان وعد اللّه بالعذاب فيه مفعولا أورد الجملتين معطوفتين بغير العطف على طريقة الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان.

١٩

إِنَّ هذِهِ الآيات نلقيه عليك تَذْكِرَةٌ تذكر العباد المبدأ و المعاد و توضيح السبيل الموصل الى اللّه تعالى ال ى جوده و الى انعامه و رضوانه و الرشاد فَمَنْ شاءَ التذكر و سلوك السبيل الى ربه اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا الفاء للسببية اى ليس السبيل الى اللّه تعالى الا التذكرة فانه سبحانه اقرب إلينا من أنفسنا و ليس الحجاب بيننا إلا حجاب الغفلة و حجاب العظمة و الكبرياء منه تعالى و الى تلك الحجب أشار النبي صلى اللّه عليه و سلم ان للّه تعالى سبعون الف حجابا من نور و ظلمة فحجب العظمة و الكبرياء حجب نورانية قال اللّه تعالى الكبرياء ردائى و العظمة إزاري و حجب الغفلة العباد حجب ظلمانية لو كشف لاحرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره من خلقه و كشف تلك الحجب يتيسر بالتذكير فان التذكير يذيل الغفلة و يستوجب المحبة للمعية كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المرء مع من أحبه فالمحبة يفضى المحب الى المحبوب بحيث لا تمنعه سرادقات العظمة و الكبرياء و إحراق سبحات الوجه كناية عن الفناء و البقاء و ان كان ذلك فى مرتبة العلم قيل الجملة مضمونها التحير و هو مجاز عن التهديد.

٢٠

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى اى اقرب مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ قرأ هشام بسكون اللام و الباقون بضمها وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ قرأ ابن كثير و الكوفيون بنصبهما عطفا على ادنى يعنى تقوم اقرب من الثلثين و تقوم النصف و تقوم الثلث و الباقون بجرهما يعنى اقرب من النصف و من الثلث و هذه القراءة يدل على القيام اقل من الثلث فوق الربع و انما

قلنا فوق الربع لما ذكرنا فيما قبل ان قوله تعالى او انقص منه قليلا يقتضى ان يكون القيام فوق الربع وَ طائِفَةٌ عطف على فاعل تقوم مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ط اى جماعة أصحابك يقومون على ذلك المقدار اقتداء لسنتك كذا

قال البيضاوي و

قال البغوي فى تفسيره يعنى المؤمنين كانوا يقومون معه و هذا التأويل بعيد جدا فان الذين معه هم المؤمنون دون الكفار كما فى قوله نظر محمد رسول اللّه و الذين معه فكلمة من للتبعيض يدل على ان القائمين كانوا بعض الصحابة دون كلهم وَ اللّه يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ عطف على ان ربك و فيه وضع المظهر موضع المضمر تقديره و هو يقدر الليل و النهار اى يعلم مقاديرهما كما هى و أنتم لا تعلمون كما هى

قال البيضاوي تقديم اسم اللّه مبتداء مبنيا عليه يقدر يشعر بالاختصاص و هى مذهب عبد القاهر و الزمخشري دون السكاكي عَلِمَ أَنْ مخففة و اسمها ضمير الشان محذوف لَنْ تُحْصُوهُ اى تقدير الأوقات و لن تستطيعوا ضبط الساعات و من ثم ربط وجوب الصلاة الخمس بامور ظاهرة كطلوع الصبح و الشمس و زوالها و غروبها و قدر الظل و غروب الشفق فَتابَ عَلَيْكُمْ اى رجع عليكم من التشديد الى التخفيف فاسقط عنك ذلك القدر كيلا يشق على أمتك التأسي به فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ط الفاء للسببية و معناه صلوا ما تيسر من الصلاة بالليل عبر عن الصلاة بالقراءة هاهنا كما عبر بالقيام فيما سبق تسمية الكل باسم الجزء فهذه الاية يقتضى كون القراءة ركنا للصلوة كما تقتضى تلك الاية بركنية القيام و على هذا العقد الإجماع ايضا فهذه الآية نسخ قيام الليل ذلك المقدار و بقي مطلق القيام بالليل واجبا ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس فصار تطوعا بعد فريضة يدل على ذلك ما ذكر من قول عائشة رض و ابن عباس رض و مقاتل و ابن كيسان قلت على تقدير كون القيام بالليل واجبا فى الابتداء على النبي صلى اللّه عليه و سلم و على أمته فكون ذلك منسوخا فى حق أمته امر مجمع عليه و اما كونه منسوخا فى حق النبي صلى اللّه عليه و سلم سواء كان فى الابتداء واجبا عليه خاصة او عليه و على أمته عامة فقد اختلف فيه فقيل لم ينسخ فى حق النبي صلى اللّه عليه و سلم بل كان قيام الليل واجبا عليه صلى اللّه عليه و سلم خاصة الى اخر عمره و قيل بل نسخ عنه صلى اللّه عليه و سلم ايضا و كان عليه الصلاة نافلة و هو الصحيح المختار عندى و يدل عليه قوله تعالى و من الليل فتهجد به نافلة لك فانه صريح فى كونه نافلة

فان قيل معنى النافلة الزائدة يعنى زائدة فى الوجوب عليك لا على أمتك قلت لو كان كذلك يقال عليك فان صلة الوجوب تكون على دون اللامم

فان قيل فى وجه تخصيصه به عليه الصلاة و السلام فانها نافلة لجميع الناس غير ممنوعة عن أحد

قلنا وجه التخصيص على ما روى عن مجاهد و الحسن و ابى امامة ان تسميتها نافلة فى حقه صلى اللّه عليه و سلم خاصة باعتبار كونها عامة فى رفع الدرجات بخلاف غيره فانها فى حق غيره نافلة فى تكفير السيئات غالبا و يدل ايضا على كون قيام الليل تطوعا فى حق النبي صلى اللّه عليه و سلم حديث المغيرة قال قام النبي صلى اللّه عليه و سلم حتى تورمت قدماه فقيل له لم تصنع هذا و قد غفر اللّه ما تقدم من ذنبك و ما تأخر قال أ فلا أكون عبدا شكورا و لم يقل انها فريضة على خاصة و حديث ابن عمر رض قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يصلى فى السفر على راحلته حيث توجهت به يومى ايماء صلوة الليل الا الفرائض و يوتر على راحلته متفق عليه (مسئلة:) اختلفوا فى ان صلوة الليل فى حق الامة من سنن الهدى المؤكدات او من المستحبات فقيل هى مندوب فى حقنا و هذا قول من قال هى كانت فريضة على النبي صلى اللّه عليه و سلم حتى مات قالوا الادلة القولية يفيد الندب و المواظبة الفعلية لم يكن على سبيل التطوع و السنة ما واظب عليه النبي صلى اللّه عليه و سلم من التطوع و المختار عندى انها من سنن الهدى كما ذكرنا ان مواظبته صلى اللّه عليه و سلم كان على وجه التطوع و على تقدير تسليم كون المواظبة على سبيل الوجوب فمواظبته صلى اللّه عليه و سلم اى وجه كان يقتضى كون الفعل مسنونا ما لم يكن ممنوعا فى حق غيره كصوم الوصال مثلا و ممّا يدل على كونه سنة مؤكدة حديث ابن مسعود قال ذكر عند النبي صلى اللّه عليه و سلم رجل فقيل له ما زال نائما حتى أصبح ما قام الى الصلاة قال ذلك رجل بال الشيطان فى اذنه او قال فى اذنيه متفق عليه فان ترك المندوب لا يستحق عليه اللوم و العتاب و اللّه تعالى اعلم- و قيل المراد بقوله تعالى فاقرؤا ما تيسر من القران القران فى الصلاة الخمس و قال الحسن يعنى فى صلوة المغرب و العشاء

قال البغوي قال قيس بن حازم صليت خلف ابن عباس رض بالبصرة فقرأ فى أول ركعته بالحمد و أول اية من البقرة ثم قام فى الثانية فقرأ بالحمد و الاية الثانية من البقرة ثم ركع فلما انصرف اقبل علينا بوجهه فقال ان اللّه عز و جل يقول فاقرؤا ما تيسر منه و يحتمل ان يكون المراد منه فاقرؤا القران بعينه كيف ما تيسر لكم (مسئلة:) اختلفوا فى مقدار القراءة التي لا يجوز الصلاة الا بها و مقدار الواجب منها فى الصلاة فقال ابو حنيفة رض فى احدى الروايات عنه ان ما هو ركن للصلوة و لا يصح الصلاة الا به هو ادنى ما يطلق عليه اسم القران و لم يشبه قصد الخطاب واحد او نحوه و يقتضى هذه الروايات الجواز بدون الاية و به جزم القدورى و فى رواية عنه و عن احمد هو اية تامة لا يجوز الصلاة بما دون ذلك و اختاره صاحب الهداية و فى رواية عنه و به قال ابو يوسف رض و محمد رض انه ثلث آيات قصار مثل سورة الكوثر او اية طويلة تساوى الثلث لكن يجب عند ابى حنيفة رض و صاحبيه قراءة الفاتحة و قدر سورة معه فان ترك شيئا منها يجب سجدة السهو ان كان ترك سهوا فان لم يسجد و ترك عمدا يأثم و يجب عليه الاعادة من غير افتراض و قال مالك رض و الشافعي رض و احمد رض لا يصح الصلاة الا بفاتحة الكتاب و سن عندهم ضم السورة و لا يجب احتجوا بقوله صلى اللّه عليه و سلم لا صلوة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب متفق عليه من حديث عبادة بن الصامت و رواه الدار قطنى بلفظ لا يجوز صلوة من لم يقرأ بفاتحة الكتاب و قال اسناده صحيح رواه ابن خزيمة و ابن حبان بهذه اللفظ من حديث ابى هريرة رض و فيه قال الراوي قلت ان كنت خلف الامام قال فاخذ بيدي و قال اقرأ بها فى نفسك و روى مسلم و احمد عن ابى هريرة رض بلفظ من صلى صلوة لم يقرأ فيها بام القران فهى خداج هى خداج غير تمام فقلت يا أبا هريرة أحيانا أكون وراء الامام فقال اقرأ بها فى نفسك يا فارسى و روى الحاكم من طريق اشهب عن ابى عتبة عن ابى هريرة عن محمد بن الربيع عن عبادة مرفوعا أم القرآن عوض عن غيرها و ليس غيرها عوضا عنها و بما ذكرنا من اختلاف ألفاظ الحديث ظهر لك اندفاع ما قيل ان معنى قوله لا صلوة الا بفاتحة الكتاب صلوة كاملة كما فى قوله عليه الصلاة و السلام لا صلوة لجار المسجد الا فى المسجد لان هذا التأويل لا يجرى فى اكثر ما ذكرنا من الألفاظ على ان متعلق الجار و المجرور الواقع خبر الا يقدر الا عاما اى لا صلوة كائنة و عدم الوجود شرعا هو عدم الصحة غير ان فى حديث لا صلوة الا فى المسجد لما قام الدليل عليه و هو الإجماع

قلنا المراد هناك كون خاص اى كاملة فهو من باب حذف الخبر لا من باب وقوع الجار و المجرور خبرا و ما مر فى تفسير سورة الفاتحة حديث قسمت الصلاة بينى و بين عبدى نصفين الحديث يدل على ان الصلاة لا يكون الا بفاتحة الكتاب و ابو حنيفة رض أخذ بهذا الحديث قال بوجوب الفاتحة فى الصلاة و وجوب ضم السورة ايضا لما روى فى بعض الروايات لا صلوة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدا رواه مسلم و ابو داود و ابن حبان و روى ابن ماجة عن ابى سعيد بلفظ لا صلوة لمن لم يقرأ فى كل ركعة بالحمد و سورة فى فريضة او غيرها و اسناده ضعيف و لابى داود من طريق همام عن قتادة عن ابى بصر عن ابى سعيد قال أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم ان نقرأ بفاتحة الكتاب و ما تيسر و اسناده صحيح و لم يقل ابو حنيفة رض بكون الفاتحة ركنا للصلوة بحيث لا يجوز الصلاة الا بها عملا بهذه الاية فاقرؤا ما تيسر من القرآن قال صاحب الهداية الزيادة على الكتاب القطعي غير الواحد لا يجوز لكنه يوجب العمل فقلنا بوجوبهما و الصحيح عندى ان الفاتحة و كذا ضم السورة ركن للصلوة لا يجوز الصلاة الا بهما و الاستدلال بهذه الاية على نفى الركنية لا يصح لان الظاهر فى تاويل الاية كما ذكرنا ان المراد بالقراءة نفس الصلاة بالليل و معنى قوله تعالى فتاب عليكم فاقرؤا ما تيسر انه خفف عنكم فى قيام الليل فصلوا ما تيسر لكم الصلاة فلا دلالة بهذه الاية على قدر القراءة و ما لا بد منه و ما قيل فى تأويله انه ما تيسر من القران فى الصلاة الخمس فتاويل بعيد و احتمال ضعيف و الاحتمال لا يتصور كونه حجة للوجوب فكيف يحكم عليه بكونه قطعيا لا يجوز الزيادة عليه بخبر الواحد كيف و الحديث تلقته الامة بالقبول و انعقد الإجماع على العمل به و توارث النقل و تواتر المعنى ان النبي صلى اللّه عليه و سلم واحد من السلف و الخلف لم يصل بغير الفاتحة و بمثل هذا الخبر و النقل التوارث يزاد على الكتاب اجماعا على ان الصلاة مجمل و أحاديث الآحاد يحتمل ان يكون بيانا للجمل و يبين أركانا لها و لقد قالت الحنفية القعدة الاخرة و استدلوا عليه بحديث ابن مسعود رض فى التشهد إذا قلت هذا او فعلت هذا فقد نمت صلوتك ان شئت ان تقوم فقم و ان شئت ان تقعد فاقعد قالوا علق التمام بأحد الامرين فهو فرض مع ان الحديث من الآحاد ايضا و اللّه تعالى اعلم و قد يستدل الحنفية على عدم ركنية الفاتحة بحديث ابى هريرة فى قصة المسيئ صلوته انه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا قمت الى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسرك من القران الحديث متفق عليه و الجواب ان هذا الحديث وجوب القراءة مطلقا و ما مر من قوله صلى اللّه عليه و سلم الا بفاتحة الكتاب يدل التعيين فالعمل بالحديثين بحمل المطلق على المقيد

قلنا بركنية الفاتحة و قد ورد فى بعض طرق حديث المسيئ صلوته بلفظ فكبر ثم اقرأ بام القران ثم اقرأ بما شئت به الحديث رواه احمد من حديث رفاعة بن رافع و رواه الدار قطنى من حديثه بلفظ ثم يكبر اللّه و يثنى عليه ثم يقرأ بام القران و ما اذن له فيه و ما تيسر الحديث (مسئلة:) هل يجب القراءة على المقتدى أم لا فقال الشافعي رض يجب عليه قرأة الفاتحة كالامام و المنفرد

قال البغوي كذا روى عن عمر رض و عثمان رض و على رض و ابن عباس رض و معاذ رض و قال ابو حنيفة رض و مالك رض و احمد رض لا يجب ثم اختلفوا فقال ابو حنيفة رض يكره مطلقا و قال مالك رض و احمد رض يكره فى الجهرية فقط و قال احمد رض يستحب فى السرية و كذا فى الجهرية عند سكتات الامام ان سكت لا مع قرأته و به قال الزهري رض و مالك رض و ابن المبارك رض و يروى ذلك عن ابن عمرو عروة بن الزبير و ابو القاسم بن محمد وجه القول بسقوط القراءة عن المقتدى حديث جابر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال من كان له امام فقرأة الامام قرأة له رواه احمد و الدار قطنى من طريق جابر الجعفي و ضعفه الدار قطنى و قال ابن الجوزي وثقه الثوري و شعبة و رواه الدار قطنى من طريق اخر و فيه لبث و قال ضعفه ابن علية و قال احمد حدث عن الناس و من طريق اخر فيه يحى بن سلام بلفظة كل صلوة لا يقرأ فيها بام الكتاب فهى خداج الا ان يكون وراء الامام قال الدار قطنى يحى بن سلام ضعيف و قال ابن الجوزي لم نر أحدا ضعفه قال الدار قطنى و البيهقي و ابن عدى الصحيح انه مرسل فان الحفاظ كسفيانين و ابى الأحوص و شعبة و إسرائيل و شريك و ابن خلد الدالاني و جرير و عبد الحميد و زائدة و زهير رووه عن موسى بن عائشة عن عبد اللّه بن شداد عن النبي صلى اللّه عليه و سلم مرسلا

قلنا المرسل عندنا حجة و ما ذكر فى الطرف المتصلة قد سمعت ان ابن الجوزي أنكر تضعيفه على انه قد رواه ابو حنيفة بسند صحيح على شرط الشيخين روى محمد فى مؤطاه انا ابو حنيفة ثنا ابو الحسن موسى بن ابى عائشة عن عبد اللّه بن شداد عن جابر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم و رواه احمد ابن منيع فى مسنده بسند صحيح على شرط مسلم قال انا اسحق الأرزق ثنا سقيان و شريك عن موسى ابن ابى عائشة عن عبد اللّه بن شداد عن جابر و فى الباب أحاديث اخر ضعيفة لم نذكرها كراهة الاطناب

فان قيل قوله تعالى فاقرؤا ما تيسر من القران عام فى المصلين فلا يجوز تخصيصه بخبر الآحاد و على اصل ابى حنيفة

قلنا هى عام خص منه البعض و هو المدرك فى الركوع اجماعا فجاز تخصيصها بعده فى المقتدى و وجه القول بالاستحباب فى السرية حديث عبادة بن الصامت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يقرأن أحد منكم شيئا من القران إذا جهرت بالقراءة إلا بأم القران رواه الدارقطني و قال رجاله كلهم ثقات فتخصيص المنع بالجهرية يقتضى الاستحباب فى السرية و استثناء أم القران يقتضى قرأتها عند السكتات جمعا بين الأحاديث و عملا بقوله تعالى و إذا قرئ القران فاستمعوا له و انصتوا و اللّه تعالى اعلم و روى عن جماعة من الصحابة ترك القراءة خلف الامام رواه مالك فى المؤطا عن نافع عن ابن عمر انه كان لا يقرأ خلف الامام و روى الطحاوي عن زيد بن ثابت و جابر قالوا لا تقرأ خلف الامام فى شى ء من الصلاة و روى محمد فى المؤطا انه سئل ابن مسعود رض عن القراءة خلف الامام قال انصت فان فى الصلاة شغلا و يكفيك الامام و روى محمد بن سعد قال وددت الذي يقرأ خلف الامام فى فيه جمرة و روى نحوه عبد الرزاق الا انه قال فى فيه حجر و روى محمد عن داود بن قيس عن عجلان ان عمر بن الخطاب قال ليت فى فم الذي يقرأ خلف الامام حجرا و روى ابن ابى شيبة فى مصنفه عن جابر قال لا يقرأ خلف الامام ان جهر و لا ان خافت و هذه الأقوال وجه الكراهة فى الجهرية بل فى السرية ايضا بإطلاقها و ايضا ترك القراءة فى الجهرية مقتضى فى قوله تعالى و إذا قرئ القران فاستمعوا له و انصتوا و قوله صلى اللّه عليه و سلم إذا قرئ فانصتوا رواه ابو داود و النسائي و ابن ماجة من حديث ابى هريرة و سنذكر تفسير تلك الاية ان شاء اللّه تعالى (مسئلة:) هل يجب القراءة فى كل ركعة من فرض و نفل فقال الشافعي رض و احمد رض و مالك رض يجب فى كل ركعة مطلقا لان الأمر بالقراءة كالامر بالركوع و السجود و غير انه فى رواية عن مالك ان ترك القراءة فى ركعة واحدة من الفرض الثلاثي و الرباعي ينجر بسجود السهو و قال ابو حنيفة فى الوتر و النفل يجب فى كل ركعة و لا ينجر بالسجود فان كل شفعة منه صلوة و اما فى الفرض فلا يجب الا فى الركعتين و كان القياس وجوبها فى ركعة واحدة لان الأمر لا يقتضى التكرار و لكن

قلنا القراءة و قدرها فلا يلتحقان بهما و هذا الكلام يتوقف على كون المراد بقوله تعالى فاقرؤا ما تيسر من القران فى القراءة فى الصلاة و ذلك ممنوع و للجمهور حديث ابى هريرة قال دخل رجل المسجد فصلى و النبي صلى اللّه عليه و سلم فى المسجد ثم جاء الى النبي صلى اللّه عليه و سلم فسلم عليه فرد عليه السلام و قال ارجع فصل فانك لم تصل ففعل ذلك ثلث مرات فقال و الذي بعثك بالحق نبيا ما احسن غير هذا فعلمنى فقال إذا قمت الى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القران ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا و فى رواية ثم ارفع حتى تستوى قائما ثم افعل ذلك فى صلوتك كلها متفق عليه و حديث رفاعة الرزقي نحوه رواه احمد و ابو داود و الترمذي و النسائي و حديث ابى قتادة ان النبي صلى اللّه عليه و سلم كان يصلى فيقرأ فى الظهر و العصر فى الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب و سورتين و فى الركعتين الأخريين بام القران و كان يطيل أول ركعة من صلوة الفجر و أول ركعة من صلوة الظهر متفق عليه و هذا الحديث مع قوله صلى اللّه عليه و سلم صلوا كما رأيتمونى أصلي التحق بيانا بجمل الكتاب و حديث ابى الدرداء ان رجلا قال يا رسول اللّه أ في كل صلوة قران قال نعم فقال رجل من الأنصار وجبت هذه

فان قيل هذه الأحاديث من الآحاد و لا يجوز به الزيادة على الكتاب أجيب بانه على تقدير تسليم هذه المسألة الاصولية نقول بان هذا الحكم انما هو إذا كان الكتاب قطعى الدلالة و قوله تعالى فاقرؤا ليس بل يحتمل وجوه التأويل و ان القراءة المأمور بها فى الصلاة مجمل يجوز ان يلتحق أحاديث الآحاد بها بيانا و اللّه تعالى اعلم عَلِمَ اللّه إِنَّ مخففة من المثقلة و ضمير الشان محذوف سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى بدل اشتمال من قوله تعالى علم ان لن تحصوه و تكرار فاقرؤا للتاكيد و قيل استيناف لبيان حكمة اخرى مقتضية للتخفيف و لذلك كرر الحكم مرتبا عليه وَ آخَرُونَ عطف على اسم يكون يَضْرِبُونَ اى يسافرون فِي الْأَرْضِ للتجارة او لتحصيل العلم و للحج يَبْتَغُونَ حال من ضمير يضربون مِنْ فَضْلِ اللّه الربح فى التجارة او العلم و الثواب وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه فلا يطيقون هؤلاء الأصناف سنة قيام الليل ذكر البغوي عن ابراهيم عن ابن مسعود رض قال أيما رجل جلب شيئا الى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند اللّه بمنزلة الشهداء ثم قرا عبد اللّه و آخرون يضربون فى الأرض يبتغون من فضل اللّه و آخرون يقاتلون فى سبيل اللّه فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ اى من القرآن

فان قيل كلمة ما عام شامل يشتمل جميع ما تيسر فيلزم ان يكون المأمور به ذلك

قلنا سوق الكلام يقتضى تخير المكلفين فى جميع افراد ما تيسر فاى فرد منها اتى به فقد اتى بالمأمور به

(مسئلة) و يستحب القصد فى العمل و التوسط دون الافراط و التفريط و يستحب المواظبة على المتوسط دون الافراط تارة و ترك اخرى واد فى المتوسط يقرأ خمسين اية و مائة و أكثره الف اية حتى يكون الختم فى الأسبوع اخرج الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم فاقرءوا ما تيسر منه قال مائة اية قال ابن كثير غريب جدا و روى البغوي بسنده عن انس انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول من قرا خمسين اية فى يوم و ليلة لم يكتب من الغافلين و من قرا مائة اية كتب من القانتين و من قرا مائتى اية لم تحاجه القران يوم القيامة و من قرا خمسمائة اية كتب له قنطار من الاجر و روى الدارمي عن الحسن مرسلا ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال من قرا فى ليلة مائة اية لم يحاجه القرآن تلك الليلة و من قرا فى ليلة مائتى اية كتب له قنوت ليلة و من قرا خمسمائة اية الى الف له صحيح فله قنطار من الاجر قالوا و ما القنطار قال اثنى عشر الف درجة و روى مسلم عن عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اقرء القرآن فى كل شهر قال قلت انّى أجد قوة قال فاقرءه فى عشرين ليلة قال قلت انى أجد قوة قال فاقرأ فى سبع و لا تزد على ذلك و فى الصحيحين عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أحب الأعمال الى اللّه أدومها و ان قل و فيهما عنها قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خذوا من الأعمال ما يطيقون فان اللّه لا يمل حتى تملوا و فيهما عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليصل أحدكم نشاطه و إذ فتر فليقعد و فيهما عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا نعس أحدكم و هو يصلى فليرقد حتى يذهب عنه النوم فان أحدكم إذا صلى و هو ناعس لا يدرى لعله يستغفر فيسب نفسه وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ المكتوبة الجملة مع ما عطف عليه معطوفة على فاقرؤا و كلمة الواو للجمعية فهذا العطف يقتضى ان قيام الليل بما تيسر من القران لم ينسخ بالصلوات الخمس كما قيل فثبت ان الأمر كان للندب دون الوجوب و اللّه تعالى اعلم وَ آتُوا الزَّكاةَ المفروضة وَ أَقْرِضُوا اللّه قال ابن عباس المراد به الانفاق سوى الزكوة من صلة الرحم و قرى الضيف قلت و يحتمل ان يكون المراد به مطلق الطاعات للّه تعالى و ان يكون المراد به الزكوة على احسن الوجه يدل عليه قوله تعالى قَرْضاً مفعول مطلق من قبيل أنبته اللّه نباتا حَسَناً صفة للمصدر و فيه ترغيب لوعد العوض وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ عبادة بدنية او ما فيه شرط جزاءه تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّه هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً ط من الذي توخرونه الى الوصية عند الموت و من متاع الدنيا و خيرا ثانى مفعولى تجدوه و هو الضمير الفصل لا محل له من الاعراب لان افعل من حكمه حكم المعرفة فلذلك يمتنع من حرف التعريف عن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أيكم ماله أحب اليه من مال وارثه قالوا ما منا أحد الا ماله أحب اليه من مال وارثه قال اعلموا ما تقولون قالوا ما نعلم الا ذلك يا رسول اللّه قال ما منكم رجل الا مال وارثه أحب اليه من ماله قالوا كيف يا رسول اللّه قال انما مال أحدكم ما قدم و مال وارثه ما اخر رواه البغوي

وَ اسْتَغْفِرُوا اللّه ط لذنوبكم الجملة معطوفة على اقيموا الصلاة إلخ و فيه اشارة الى ان الإنسان لا يعتبر باعمال البر و لا يتكل عليه بل لا بد مع ذلك من الاستغفار فان ما صدر منه من الطاعات قلما يخلو من التقصيرات ثم كلما صدر من العبد و ان جل فهو بالنسبة الى جناب قدسه و جلالته و عظمته لا يليق به تعالى ما لم ينضم معه الاعتراف بالعجز و القصور و الذل

إِنَّ اللّه غَفُورٌ عن تقصيراتكم رَحِيمٌ بكم يعطى الثواب الجزيل على العمل القليل.

﴿ ٠