سُورَةُ الْإِنْسَانِ مَكِّيَّةٌ

وَهِيَ إِحْدَى وَثَلاَثُونَ آيَةً

مكيّة و هى احدى و ثلثون اية قال قتادة و مجاهد مدنية

 بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

_________________________________

١

هَلْ أَتى استفهام تقرير و معناه قد اتى و مضى عَلَى الْإِنْسانِ المراد به الجنس او آدم عليه السلام حِينٌ

قال البيضاوي اى طائفة محدودة من الزمان و فى القاموس الجنس وقت مبهم يصلح لجميع الا زمان طال او قصر و قيل يختص بأربعين سنة او ستين سنة او شهر او شهرين مِنَ الدَّهْرِ اى من الممتد الغير المحدود و فى القاموس الدهر الزمان الطويل او الف سنة قلت هو مدة عمر آدم عليه السلام و فى الصحاح الدهر فى الأصل اسم لمدة العالم من مبدأ وجوده الى انقضائه و على ذلك قوله هل اتى على الإنسان حين من الدهر الاية ثم يعبر به عن كل مدة كثيرة دهر فلان مدة حيوته لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً حال من الإنسان اى حال كونه لا يذكر و لا يعرف و لا يدرى ما اسمه و لا ما يراد او صفة لحين و العائد محذوف اى لم يكن فيه شيئا مذكورا و هذا الكلام يقتضى كونه شيئا و الا لم يوصف بانه قد اتى عليه و يقتضى كونه غير مذكور بل منسيا فقال المفسرون و ذلك ان أريد به آدم عليه السلام فذلك الحين حين صورة اللّه تعالى من الطين فكان ملقى بين مكة و الطائف أربعين سنة قبل ان ينفخ فيه الروح و قال ابن عباس ثم خلقه اللّه تعالى بعد عشرين و مائة سنة و ان أريد به الجنس فذلك الحين اربعة أشهر حين كان نطفة او علقة او مضغة الى نفخ الروح و ستة أشهر اقل مدة الحمل و سنتين أكثرها و قيل اكثر مدة الحمل سبع سنين و على التقديرين لا يخلو الكلام عن التسامح لان ذلك الحين لم يأت على الإنسان بل على الطين المصور النطفة و نحوها و الظاهر ان الكلام يقتضى كونه إنسانا لان عقد الوضع قبل عقد الحمل فالاولى ان يحتمل ذلك الكون على كونه فى مرتبة الأعيان الثابتة التي اهتدى إليها الصوفية و يدل على هذا التأويل تنكير حين فانه للتكثير روى عن ابن عمر انه سمع رجلا يقرأ هذه الاية لم يكن شيئا مذكورا فقال ليتها تمت يريد ليته بقي على ما كان غير مذكور ابدا و هذا القول اولى بالتأويل الأخير دون ما سبق و للصوفية هاهنا تاويل اخر هل اتى على الإنسان اى على الصوفي حين من الدهر لم يكن لا شيئا مذكورا بعد ما كان مذكورا بالانسانية و غيرها من الصفات و ذلك حين الاستهلاك و الفناء الأتم بحيث لا يبقى فى علمه شيئا مذكورا قال المجدد رض نعم رب قد اتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا لا عينا و لا اثرا و لا شهودا و لا وجودا ثم يصير بعد ذلك ان شئت حيا بحياتك و باقيا ببقائك و متخلقا باخلاقك بل صار باقيا بك و بفضلك فى عين الفناء و ما ينافيك فى عين البقاء قلت و قول المجدد رض ثم يصير بعد ذلك إلخ كانه تفسير لقوله تعالى فمن ابتدائية و الدهر يعد من اسماء اللّه تعالى الحسنى كذا فى القاموس و فى الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال اللّه تعالى يوذينى ابن آدم يسب الدهر و انا الدهر بيدي الأمر اقلب الليل و النهار.

٢

إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ اى ذريته ان كان المراد بالإنسان الاول آدم عليه السلام و الا فالمراد فيهما الجنس مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ ق جمع شئيج او شيج من الشجب الشي ء إذا خلطته وصف النطفة بالجمع لان المراد به مجموع منى الرجل و المرأة و كل منها مختلفة الاجزاء و الأوصاف فى الرقة و القوام و الخواص و قيل أمشاج مفرد بمعنى مختلطة يختلط فيه منى الرجل و المرأة فهو حينئذ على وزن أعشار يقال برمة أعشار بمعنى يحمله عشرة يقال يمان كل يومين اختلطا فهو أمشاج و قال قتادة معناه أطوار أي ذات أطوار فان النطفة تصير علقة ثم مضغة اى تمام الخلق نَبْتَلِيهِ حال من الإنسان ذكر الابتلاء و أراد به نقله من حال الى حال مجازا او حال مقدرة اى مقدرين ابتلائه فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ج لتمكن من استماع الدلائل و مشاهدة الآيات فهو كالمسبب للابتلاء و لذا عطف على ما قيد به.

٣

إِنَّا هَدَيْناهُ اى بيناه اى الإنسان السَّبِيلَ الى اللّه و الى مرضياته و جنته بنصب الدلائل و بعث الرسل و إنزال الكتب و المراد بالهداية هاهنا اراءة الطريق دون إيصال بخلاف قوله تعالى اهدنا الصراط المستقيم إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً حالان من الهاء اى هديناه السبيل مقدرين منه أحد الامرين امر الشكر على الهداية و قبولها او الكفر و الإنكار و قيل حال من السبيل يعنى هديناه السبيل حال كون السبيل سبيل الشكر او الكفر ان وصف السبيل بالشكر و الكفر مجازا و الترديد انما هو فى حالتى السبيل من الشكر و الكفران دون الاراءة تعلقت يقسمى السبيل و حاليته معافلا يجوز يقال ان هذا التأويل غير مستحسن فان اراءة طريق الحق حقا و طريق الباطل باطلا مستلزم أحدهما الاخر فلا يتصور هناك الترديد فالترديد يقتضى ان يكون معناه أريناه أحد الطريقين دون الاخر أريناه الحق او الباطل حقا فسلك تلك الطريق و حينئذ يلزم كون الإنسان مقدورا على سلوك طريق الباطل و قيل معنى الكلام الشرط و الجزاء فاما مركبا ان الشرطية و ما الزائدة فمعناه ان كان شاكرا او كفورا فقد هديناه السبيل و لم نترك عذرا و قال كفورا و لم يقل كافرا حتى طابقت قسميه لرعاية الفواصل و لان الشاكر فلما يخلو عن نوع من الكفران فقسمه هو المبالغ فى الكفران و جملة انا هديناه السبيل مستأنفة فكانه فى جواب من قال فما فعل بالإنسان و ما فعل هو بعد ما خلق و جعل له السمع و البصر.

٤

إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ فى جهنم سَلاسِلَ قرأ نافع و الكسائي و ابو بكر و هشام سلاسلا بالتنوين للمناسبة وصلا وقفوا بالألف عوضا منه

و قرا الباقون بغير تنوين وصلا وقف حمزه و قنبل و حفص بغير الف و كذا روى عن البزي و ابن ذكوان وقف الباقون بالألف صلة للفتحة وَ أَغْلالًا فى أيديهم نقل الى عنقهم وَ سَعِيراً وقودا شديدا و هذه الجملة و التي بعدها مستانفين كانهما فى جواب ما نصيب الشاكرين و ما نصيب الكافرين و قدم وعيد الكافرين مع تأخر ذكرهم لان إنذارهم انفع و تصدير الكلام و ختمه بذكر المؤمنين احسن.

٥

إِنَّ الْأَبْرارَ جمع بر بفتح الباء كارباب او بار كالشهادة يعنى المؤمنين الصادقين فى ايمانهم و المطيعين لربهم و مصدره البر كسر الباء بمعنى الصلة و الخير و الاتساع فى الإحسان و الصدق و الطاعة كذا فى القاموس و كل ذلك صفات المؤمنين يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ قال فى الصحاح الكأس الا نائما فيه من الشراب و يسمى كل واحد منهما بانفراده كاسا يقال كأس خال و يقال شربت كأسا و كاسا طيبة و فى القاموس الكأس الإناء يشرب فيه او ما دام الشراب فيه و لا تخصيص فى الشراب بخمر او لبن او عسل او ماء و هاهنا يحتمل ان يكون الإناء او من للابتداء و المعنى يشربون مشروبا خمرا و لبنا و ماء و عسلا من كاس اى من ظرفه و يحتمل ان يكون بمعنى المشروب اما حقيقة او مجازا تسمية الحال باسم المحل نحو جرى النهر و من حينئذ اما زايدة او للتبعيض او للبيان و يحتمل ان يكون الإناء بما فيه و يكون من للابتداء كانَ مِزاجُها ما تمزج الضمير عايد الى كاس حقيقة ان كان بمعنى الشرب و مجازا على طريقة إذا نزل السماء بأرض قوم و عينا ان كان بمعنى الإناء يعنى كان مزاج ما فيها كافُوراً ج قال قتادة يمزج بهم بالكافور و يختم بالمسك و قال عكرمة مزاجها طعمها كافورا اى ككافور فى طيب الطعم و الريح كما فى قوله تعالى حتى إذا جعله نارا اى كنار و قال عطاء و الكلبي الكافور اسم لعين الماء فى الجنة و نظيره قوله تعالى و مزاجه من تسنيم.

٦

عَيْناً بدل من كافور ان جعل اسم ماء او بدل من محل من كاس على تقدير مضاف اى ماء عين او منصوب على الاختصاص او المدح او بفعل يفسره ما بعده يَشْرَبُ بِها الباء زائدة اى يشربها او صلة على تضمين يعنى ملتذا بها او ممزوجا بها او بمعنى من الابتداء عِبادُ اللّه الذين عبدوا اللّه وحده مخلصين له الدين يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً اى يقودون تلك العين و يجرونها اجراء سهلا حيث شاؤا من منازلهم و قصورهم اخرج عبد اللّه بن احمد فى رواية الزهد عن ابن شوذب قال فهم قضيان من ذهب يفجرونها بها بتبع قضائهم.

٧

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ جملة مستانفة فى جواب ما بالهم يثأبون كذلك او فى جواب الأبرار ما هم فهو تعريف للابرار بانهم يودون الواجبات و يخافون اللّه فيجتنبون المكروهات و يرحمون العباد و يفعلون الحسنات خالصا للّه تعالى ابتغاء مرضاته هذا شأن الأبرار و يحصل ذلك المراتب بعد فناء النفس و زوال رزائله و اما المقربون فشأنهم ارفع من ذلك او تعليل لما سبق يعنى ان الأبرار يشربون إلخ لانهم يوفون النذر فى الدنيا و النذر فى اللغة ان توجب على نفسك ما ليس بواجب كذا فى الصحاح و ايفائهم ما يوجبوا على أنفسهم ما ليس بواجب عليه يدل بالطريق الاولى على ايفائهم ما فرض اللّه عليهم من الصلاة و الزكوة و الصوم و الحج و العمرة و الجهاد و غيرها فلعله هو المراد بما قال قتادة يوفون بما فرض اللّه عليهم من الصلاة و الزكوة و الحج و العمرة و غيرها من الواجبات- (فصل) للايجاب و لما كان النذر عبارة عن إيجابه على نفس ما ليس بواجب ظهر انه لا بد لانعقاده من شرطين أحدهما ان يكون طاعة فان ما ليس بطاعة لا يصلح للايجاب قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انما النذر ما ابتغى به وجه اللّه رواه احمد من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص و الثاني ان لا يكون واجبا بايجاب اللّه تعالى و قال ابو حنيفة و لا بد ايضا ان يكون العبادة مقصودة بنفسها و ان يكون من جنسها واجب بايجاب اللّه و عند الجمهور لا يشترط ذينك الشرطين و الإجماع على وجوب الاعتكاف بالنذر يقتضى انتفاء هذين الشرطين فانه عبادة لاجل انتظار الصلاة لا بنفسه و ليس منه عينه واجب و من ثم قال الشافعي يجب بالنذر كل قربة لا تجب ابتداء كعيادة المريض و تشييع الجنازة و السلام و يدل على التعميم حديث عائشة من نذر ان يطيع اللّه فليطعه و من نذران يعصى اللّه فلا يعصه رواه البخاري و زاد الطحاوي و فى هذه الوجه و ليكفر عنه عن يمينه قال ابن العطاء عند الشك فى رفع هذه الزيادة (مسئلة:) من نذر بطاعة و قيده بقيود للطاعة فيها يلغو تلك القيود و ينعقد النذر بالطاعة كمن نذر بالصلوة فى مكان معين و بالصوم قايما و نحو ذلك فيجب الصلاة و الصوم و يتادى بكل مكان و على كل حال اجماعا الا ان أبا يوسف و الشافعي و غيرهما قالوا لو نذران يصلى فى المسجد الحرام لم يجزه فى غيره و لو نذر فى المسجد الأقصى او مسجد النبي صلى اللّه عليه و سلم يجوز له الأداء فى المسجد الحرام و لم يجزه فيما هو اقل منه فضلا و قال ابو حنيفة رض فى جميع الصور يجوز الأداء فى كل مكان و فى حديث جابر ان رجلا قال يوم الفتح يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انى نذرت ان افتح اللّه عليك مكة ان أصلي فى البيت المقدس فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صل هاهنا فاعادها على النبي صلى اللّه عليه و سلم مرتين او ثلثا فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم شانك إذا رواه ابو داود و الدارمي فبهذا الحديث الغى ابو حنيفة تقييده بالمسجد الأقصى قال ابو يوسف و الشافعي تقييده الصلاة بمسجد من هذا المساجد الثلاثة كثرة الثواب و المعنى الطاعة فلا يلغى عن ابى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صلوة فى مسجدى هذا خير من الف صلوة فيما سواه الا المسجد الحرام متفق عليه و عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صلوة الرجل فى بيته بصلوة و صلوته فى مسجد القبائل بخمس و عشرين صلوة و صلوته فى المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلوة و صلوته فى المسجد الأقصى بألف صلوة و صلوته فى مسجدى بخمسين الف صلوة و صلوته فى المسجد الحرام مائة الف صلوة رواه ابن ماجه و قال انما ذلك على الصلاة المكتوبات لا على النوافل عن زيد بن ثابت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صلوة المرأ فى بيته أفضل من صلوته فى مسجدى هذا الا المكتوبة رواه ابو داود و الترمذي و ما يدل على الغاء قيود لا طاعة و فيها حديث ابن عباس قال بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يخطب إذا هو برجل قائم فى الشمس فسال عنه فقال ابو إسرائيل نذران يكون و لا يقعد و لا يستظل و لا يتكلم و لا يصوم فقال مروه فليتكلم و ليستظل و ليقعد وليتم صومه رواه ابو داود و ابن ماجة و ابن حبان و رواه البخاري و ليس فيه فى الشمس و رواه مالك فى المؤطأ مرسلا و فيه تأمره بإتمام ما كان للّه طاعة و تترك ما كان معصية قال مالك و لم يبلغنى انه امر بكفارة و أخرجه الشافعي و فى آخره و لم يأمره بكفارة و رواه البيهقي من حديث محمد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس و فيه الأمر بالكفارة و محمد بن كريب ضعيف (مسئلة:) من فاته ما وجب عليه بالنذر يجب قضاءه بمثله حقيقة او حكما فيقتضى الصلاة بالصلوة و الصوم بالصو م و الشيخ الفاني يطعم بكل صوم مسكينا و من نذر الحج ماشيا فركب بعذر يهدى هديا و به قال الجمهور و هو الصحيح من مذهب ابى حنيفة و فى رواية الأصل عن ابى حنيفة لا يجب عليه المشي فى الحج بالنذر فلا يجب عليه الهدى لحديث عقبة بن عامر الجهني قال نذرت أختي ان تمشى الى الكعبة حافية حاسرة فاتى عليها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال ما بال هذه قالوا نذرت ان تمشى الى الكعبة حافية حاسرة قال مروها فلتركب و لتخمر متفق عليه و حديث انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم راى شيخا يهادى بين ابنين له فسأل عنه فقال نذران يمشى فقال ان اللّه لغنى عن تعذيب هذا و يأمره بان يركب متفق عليه

قلنا اما حديث عقبة بن عامر فقد رواه ابو داود بسند جيد نذرت أختي ان تمشى الى البيت فامر النبي صلى اللّه عليه و سلم ان تركب و تهدى هديا و روى داود من حديث زيد بن عباس بلفظ ان اخت عقبة بن عامر نذرت ان تحج ماشية و ان لا تطيق ذلك فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه غنى عن مشى أختك فلتركب و لتهد بدنة و روى الطحاوي من حديث عقبة بن عامر نحوه بسند حسن فظهران ما فى الصحيحين فيه اختصار على ذكر بعض المروي و ما ذكرنا من الروايات يقتضى تخصيص البدنة بالهدى و روى عبد الرزاق عن على بسند صحيح فيمن نذران يمشى الى البيت قال يمشى فان عيى ركبوا هدى جذورا

و اخرج نحوه عن ابن عمر و ابن عباس و قتادة و الحسن

(مسئلة) و من نذر بمعصية او بامر مباح لا يصلح للطاعة لا يجب و لا ينعقد النذر اجماعا فيلغو عند ابى حنيفة و عند الجمهور يتعقد يمينا للتحرز عن الغاء كلام العاقل و صيغته أكيد يصلح لكونه يمينا لفظا لاشتماله على ذكر اسم اللّه تعالى و معنى لان فيه تحريم ضد المنذور فضدهم يجب ان يحنث و يكفر فى المعصية و فى المباح يخير بين ان يفعل او يكفر و الحجة لهم أحاديث حديث عقبة بن عامر كفارة النذر كفارة اليمين رواه مسلم و حديث عمران بن حصين مرفوعا لا نذر فى معصية اللّه و كفارته اليمين رواه النسائي و الحاكم و البيهقي و مداره على محمد بن زبير الحنظلي و هو ليس بالقوى و قال الحافظ بن الحجر له طرق اخر إسنادها صحيح الا انه معلول و رواه احمد و اصحاب السنن و البيهقي من رواية الزهري عن ابى سلمة عن ابى هريرة و هو منقطع لم يسمع ابو سلمة عن ابى هريرة و رواه اصحاب السنن عن عائشة و فيه سليمان بن أرقم متروك و رواه الدار قطنى عن عائشة مرفوعا من جعل عليه نذرا فى معصية اللّه فكفارته كفارة اليمين و فيه غالب بن عبد اللّه متروك و روى ابو داود من حديث كريب عن ابن عباس و اسناده حسن قال النووي حديث لا نذر فى معصية اللّه فكفارته كفارة يمين ضعيف باتفاق المحدثين و قال الحافظ قد صححه الطحاوي و ابو على ابن السكن و حديث ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين و من نذر نذرا فى معصية فكفارته كفارة يمين و من نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين و من نذر نذرا اطاقته فليف به رواه ابو داود و ابن ماجة و حديث ثابت بن الضحاك ان رجلا نذر ان ينحرا بلا فى موضع و فى رواية ببوانة فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هل كان فيه وثن من الأوثان الجاهلية تعبد قالوا لا قال هل كان فيها عيد من أعيادهم قالوا لا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أوف بنذرك رواه ابو داود و سنده صحيح و روى من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده و نحوه روى ابن ماجة عن ابن عباس و هذا الحديث يدل على جواز وفاء النذر بما ليس بطاعة و لا معصية و كذا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان امرأة قالت يا رسول اللّه انى نذرت ان اضرب على راسك بالدف تعنى عند قدومك قال او فى بنذرك رواه ابو داود و لعل ذلك قبل تحريم الضرب بالدف و النذر المعلق عند وجود الشرط حكمه حكم المنجز مطلقا عند ابى حنيفة فى ظاهر الرواية و عند ابى يوسف و هى رواية عن الشافعي و به قال مالك غير انه قال فى صدقة جميع المال يلزمه التصدق بالثلث و فيما سوى ذلك فعنده يجب عليه الوفاء بما أوجب لا غير و روى عن ابى حنيفة انه رجع عن هذا القول و قال أجزأه عن المعلق كفارة يمين و يخرج عن العهدة بفعله و به قال محمد و اختار صاحب الهداية و المحققون عن علماء الحنفية ان المراد بالشرط الذي يجزء عنه الكفارة عند ابى حنيفة الشرط الذي لا يريد وجوده نحو ان دخلت الدار و كلمت فلانا او فعلت كذا فعلىّ حج او صوم سنة و يسمى هذا النذر نذر الحاج و اما الشرط الذي يريد وجوده نحو ان شعبت او قدم غايبى او مات عدوى او ولدت امرأتى ابنا فعلىّ كذا قالوا وجب عليه الوفاء لا غير و يسمى هذا النذر نذر تبرد و لهذا التفصيل قال احمد و هى الأظهر من الروايات عن الشافعي و الرواية الثالث عن الشافعي ان الواجب فى النذر الحاج الكفارة لا غير و هى رواية عن احمد عن سعيد بن المسيب ان أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسال أحدهما صاحب القسمة فقال ان عدت بشانهما القسمة فكل مالى فى رباح الكعبة فقال له عمران الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك و كلم أخاك فانى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول لا يمين عليك و لا نذر فى معصية الرب و لا فى قطعة الرحم و لا فى فيما لا يملك رواه ابو داود- (مسئلة:) و من نذر بعبادة لا يطيقها جاز له ان يكفر عنه و قال ابو حنيفة يستغفر اللّه و لا كفارة عليه لنا ما مر من حديث ابن عباس من نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين و حديث فى قصة اخت عقبة قال النبي صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه لا يصنع بشقاء أختك مشيا فلتركب و لتحج راكبة و تكفر يمينها رواه ابو داود و عن عبد اللّه بن مالك عن عقبة بن عامر قال نذرت أختي ان أحج للّه ماشية غير مختمرة فذكرت ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال قل لاختك فلتخمر و لتركب و لتصم ثلثة رواه ابو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و الدارمي و روى الطحاوي نحوه و وجه الجمع ان النبي صلى اللّه عليه و سلم لعله امر بالكفارة بعد ما علم عجزها عن هذا و اللّه تعالى اعلم وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ اى مكروهة و فى الصحاح الشر الذي يرغب عنه مُسْتَطِيراً منتشر غاية الانتشار من استطار الحريق و الفجر قال مقاتل كان شره فاشيا فى السموات فانشقت و تناثر كواكبها و كورت الشمس و القمر و فزعت الملائكة و فى الأرض فنسفت الجبال و غارت المياه فكسر كل شى ء على الأرض من جبال و بناء فيه اشعار الى حسن عقيدتهم و اجتنابهم عن المعاصي كما ان فى يوفون بالنذر دلالة على إتيانهم الواجبات و قوله تعالى.

٨

وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ الى آخره اشارة الى ترحمهم على عباد اللّه و إتيانهم الحسنات النافلات خالصا للّه تعالى ابتغاء مرضاته عَلى حُبِّهِ اى على حب اللّه تعالى او على حبهم الإطعام و حاجتهم اليه مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً اخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال لم يكن النبي صلى اللّه عليه و سلم ياسر اهل الإسلام و لكنها نزلت فى اهل الشرك كانوا يأسرونهم فى اللّه فنزلت فيهم فكان النبي صلى اللّه عليه و سلم يأمر بالإحسان إليهم كذا قال قتادة

و قال مجاهد و سعيد بن جبير هو المسبحون من اهل القبلة و الاول اظهر و قيل الأسير المملوك و قيل المرأة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اتقوا اللّه سبحانه فى الضعيفين المملوك و المرأة رواه ابن عساكر عن ابى عمرو عن أم سلمة اتقوا اللّه فى الصلاة و ما ملكت رواه الخطيب و روى البخاري فى الأدب عن على مرفوعا اتقوا اللّه فى ما ملكت ايمانكم و روى البغوي اتقوا اللّه فى النساء فانهن عندكم عوان

قال البغوي اختلفوا فى سبب نزول هذه الاية قال مقاتل نزلت فى رجل من الأنصار اطعم فى يوم واحد مسكينا و يتيما و أسيرا و روى مجاهد و عطاء عن ابن عباس انها نزلت فى على بن ابى طالب و ذلك انه عمل لليهودى بشئ من شعير فقبض الشعير فطحن منه ثلثه، فاصلحوا منه شيئا لياكلوه فلما تم إنضاجه اتى مسكين فساله فاخرجوا اليه الطعام ثم عمل الثلث الثاني فلما ثم إنضاجه اتى يتيم فسال فاطعموه ثم عمل الثلث الباقي فلما تم إنضاجه اتى أسير من المشركين فسال فاطعموه و طووا ليومهم ذلك و روى الثعلبي عن ابن عباس ان الحسن و الحسين مرضا فعادهما رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك فنذر على و فاطمة و قضة جاريته لهما ان يصوموا ثلثة ايام ان برأ فشفيا و ما معهم طعام فاستقرض علىّ من سمعون الخيبري ثلث أصوع من الشعير فطحنت فاطمة رضى اللّه عنها صاعا و أخبزت خمسة أقراص فوضعوا بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم مسكين فاثروه و باتوا و لم يذوقوا الا الماء و أصبحوا صياما فلما امسوا و وضعوا الطعام بين أيديهم فوقف عليهم فى الثالثة أسير فافعلوا مثل ذلك فنزل جبرئيل بهذه السورة و قال خذها يا محمد هناك اللّه فى اهل بيتك قال الحكيم الترمذي هذا حديث مفصل لا يروح الا على أحمق و جاهل و أورده ابن الجوزي فى الموضوعات و قال هذا لا يشك فى وضعه قال السيوطي لان السورة مكية و دخول على على فاطمة بعد الهجرة بسنتين قلت و هذا الاعتراض ملحق بما قال مقاتل و ما قال مجاهد و عطاء ايضا فان نزول الاية فى رجل من الأنصار يقتضى كون الاية مدنية و كذا عمل على لليهودى بشئ من الشعير ايضا لا يتصور الا فى المدينة لان اليهود لم يكونوا بمكة بل نفس الاية يقتضى كونها مدنية لان الأسارى لم تكن الا بالمدينة لم يكن بمكة جهاد اولا اسرا فالظاهر ان بعض هذه الصورة مدنية و ان كانت بعضها مكية و على كون كلها مكية ففى الاية اخبار بالغيب عن حال المسلمين بعد الهجرة.

٩

إِنَّما نُطْعِمُكُمْ حال من يطعمون بتقدير القول اى قائلين نطعم لهم هذا القول اما تحقيقا او تقدير القول بلسان الحال قال المجاهد و سعيد بن جبير انهم لم يتكلموا به و لكن علم اللّه ذلك من قلوبهم فاثنى عليهم لِوَجْهِ اللّه لفظ الوجه مقحم اى للّه و طلب مرضاته ثوابه لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً عوضا بدنيا و لا ماليا وَ لا شُكُوراً مصدر كالدخول و الجروح و القبول روى عن عائشة انها كانت تبعث بالصدقة الى اهل بيت ثم تسال المبعوث ما قالوا فان ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى صواب الصدقة لها خالصا عند اللّه.

١٠

إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا تعليل للاطعام بعد تعليل كانه معطوف على لوجه اللّه بحذف العاطفة و حذف حرف الجر يعنى نطعمكم طمعا و خوفا من اللّه المطلوب مرضاته و ثوابه للخوف من غضبه و عذابه عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان الصدقة لتطفى غضب الرب و يدفع منه السوء رواه الترمذي يَوْماً ظرف لمقدر اى نخاف من عذاب ربنا عَبُوساً العبوس الذي يجمع ما بين عينيه حزنا وصف اليوم به مجازا على طريقة نهارك صايم قَمْطَرِيراً شديد العبوس كذا قال الكلبي و قال اخفش قمطرير أشد ما يكون من الأيام و أطوله فى بلاء و فى القاموس القمطرير الشديد و اقمطر اشتد نفسه ترقى من الأدنى الى الأعلى.

١١

فَوَقاهُمُ اللّه ذكر المستقبل بلفظ الماضي اشعار القطع وقوعه الفاء للسببية اى لاجل خوفهم و اجتنابا بموجب العذاب فى ذلك اليوم وقاهم اللّه شَرَّ اى مكاره ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ أعطاهم بدل العبوسة نَضْرَةً حسنا فى الوجه وَ سُرُوراً فى القلب.

١٢

وَ جَزاهُمْ اللّه حيث لم يطلب الجزاء عن غيره بِما صَبَرُوا على طاعات اللّه عن معاصية و على الجوع عند اطعام المسكين و على القتل فى الجهاد و على المعصية عند الصدقة جَنَّةً دخلوها وَ حَرِيراً ألبسوه.

١٣

مُتَّكِئِينَ حال من الضمير المنصوب فى جزاء او من المرفوع فى ادخلوا المقدر فِيها فى الجنة عَلَى الْأَرائِكِ ج اى السرر فى الحجال اخرج البيهقي عن ابن عباس قال لا يكون الأرائك حتى يكون السرير فى الحجلة فان كان سرير بغير حجلة لا يكون أرائكه و ان كان حجلته بغير سرير لا يكون أرائكه فاذا اجتمعا كان أرائكه لا يَرَوْنَ حال من فاعل متكئين او من ذى حاله فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً قال فى القاموس الزمهرير شدة البرد القمر و ازمهرت الكواكب اى لمعت فالمراد بالزمهرير اما شدة البرد و بالشمس لازمه اى الحر فالمعنى لا حر فيها و لا برد ليدوم فيها هواء معتدل اخرج ابن المبارك و عبد اللّه بن احمد فى زوايدة و ابن مسعود قال الجنة سجيح لاحر فيها و لا قرا و المراد بالزمهرير القمر اولا مع من الكواكب فالمعنى ان الجنة مضية بنفسها و مشرقة بنور ربها لا يحتاج الى شمس و لا الى قمر اخرج البيهقي عن شعيب بن الجيحان قال خرجت انا و ابو عالية الرباحي قبل طلوع الشمس فقال ينسب ان الجنة هكذا ثم تلا و ظلّ مّمدود و قلت ليس معنى قول ابى العالية الجنة هكذا تشبيه بنور الصبح فانه نور ضعيف مختلط بالظلمة كما لا يخفى بل تشبيه فى انبساط نوره بل انقطاع.

١٤

وَ دانِيَةً اى قريبة عطف على متكئين او على محل لا يرون و يرون دانية او على جنة بتقدير الموصوف اى و جنة اخرى دانية عليهم ظلالها فيكون نظير القوله تعالى و لمن خاف مقام ربه جنتان لكن لهذا التأويل ضعف لاقتضائه ان لا يكون الجنة الاولى دانيه الظلال إذا القسمة تنافى الشركة عَلَيْهِمْ اى منهم ظِلالُها فاعل دانية وَ ذُلِّلَتْ حال من ظلالها بتقدير قد او عطف على دانية على طريقة فالق الإصباح و جعل الليل سكنا او حال من ذى حال دانية و العائد محذوف اى ذللت لهم قُطُوفُها اى ثمارا تَذْلِيلًا اى جعلت سهل التناول لا يمتنع على قطوفها كيف شاؤا اخرج سعيد بن منصور و البيهقي عن البراء بن عازب ان اهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قياما و قعودا و مضطجعين على اى حال شاؤا.

١٥

وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ اى أباريق بلا عرى كذا اخرج هناد عن مجاهد كانَتْ اى الكواكب الجملة صفة بها قَوارِيرَا حال من فاعل كانت على تقدير كونها تامة اى تكونت أكواب حال كونها قوارير اى مثل قوارير و خبرها على تقدير كونها ناقصة اى تكون مثلها فى الصفاء اخرج ابن جرير من طريق العوفى عن ابن عباس قال آنية من فضة صفائها كصفاء القوارير

و اخرج سعيد بن مسعود بن عبد الرزاق و البيهقي عن ابن عباس لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى تجعلها مثل جناح الذباب لم يرى الماء من ورائها لكن من أواني الجنة بياض الفضة فى صفاء القوارير.

١٦

قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ بدل من الاول اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس قال ليس فى الجنة شى ء الا قد أعطيتم فى الدنيا شبه القوارير من فضة قال الكلبي ان اللّه جعل قوارير كل قوم من تراب ارضهم و ان ارض الجنة من فضة فجعل منها قوارير يشربون فيها قرا ابن كثير قوارير الاول بالتنوين لتناسب رؤس الاى و الثاني بلا تنوين بعدم الانصراف

و قرا نافع و الكسائي و ابو بكر كلاهما بالألف تبعا للخط لا حمرة فيغير الالف و من نون الثاني ايضا بالألف عوضا من التنوين و من لم ينون وقف بغير الف على القياس الا هشام فبالالف صلة للفتحة على الرواية قَدَّرُوها تَقْدِيراً صفة ثانية لاكواب او حال بتقدير قد و المعنى قدرها لهم السقاة و الخدم الذين يطوفون عليهم على قدر ريهم لا يزيد و لا ينقص كذا اخرج الفريابي فى نفسه عن ابن عباس قال الشيخ الاجل يعقوب الكرخي رضى اللّه عنه لعل هذا اشارة الى ان مقادير الأكواب يكون على حسب مقادير استعدادات الأرواح فى المعارف الالهية

و اخرج هناه عن مجاهد تقديرها انها ليست بالملأى التي تفيضه و لا ناقصة بقدر او المعنى قدرها اهل الجنة فى أنفسهم فجاءت مقاديرها و أشكالها لما تمنوه او قدروه بأعمالهم الصالحة فجاءت على حسبها.

١٧

وَ يُسْقَوْنَ فِيها معطوف على يطاف عليهم كَأْساً المراد بالكأس هاهنا المشروب اما حقيقة او على طريق جرى النهر كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا صفة لكاس كانت العرب يستلذون الشراب الممزوج بالزنجبيل قواعد اللّه بذلك قال ابن عباس ما ذكر اللّه فى القران بما فى الجنة و سماه ليس له فى الدنيا مثل و قيل عين فى الجنة يوجد منها طعم الزنجبيل و قال قتادة يشربها المقربون صرفا و يمزج لسائر اهل الجنة قلت ذكر اللّه تعالى فى الجنة كاسا كان مزاجها كافورا و كاسا كان مزاجها زنجبيلا ذلك على اختلاف رغبة الشاربين فان محرور الطبيعة يعجبه التبريد فيرغب الى كاس كان مزاجها كافورا و المبرود يعجبه التسخين فيرغب الى كاس كان مزاجها زنجبيلا و لكل يرغب فيه.

١٨

عَيْناً بدل من زنجبيلا ان كان الزنجبيل اسما لعين و الا فهو بدل من كاس على حذف المضاف اى كاس عين فِيها تُسَمَّى تلك العين سَلْسَبِيلًا اخرج سعيد ابن منصور و هناد و البيهقي عن مجاهد قال هى حديدة الحربة انتهى و يقر شراب سهل الانحدار فى الخلق و المساغ سلسل سلسالا و سلسبيلا فقيل الباء فيه زائدة و قال الزجاج سميت بذلك لانها منقادة لهم يصرفونها حيث شاؤا و قال مقاتل و ابو العالية سميت به لانها تسيل عليهم فى الطريق ...... . و فى منازلهم ينبع من اصل العرش من جنة عدن الى اهل الجنان و شراب الجنة على برد الكافور و طعم الزنجبيل و ريح المسك.

١٩

وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ عطف على الجملة السابقة- وِلْدانٌ ينشئهم اللّه لخدمة المؤمنين او ولدان الكفرة يجعلهم اللّه خدما لاهل الجنة مُخَلَّدُونَ اى لا يموتون و لا يهرمون إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً لا يموتون و لا يهرمون إذا رأيتهم لانتثارهم فى الخدمة و لو كانوا صفا شبهوا بالمنظوم و الجملة الشرطية صفة ثانية للولدان اخرج ابن المبارك و هناد و البيهقي عن ابن عمر قال ان ادنى اهل الجنة من يسعى عليه الف خادم على عمل ليس معه صاحبه و تلى هذه الاية

و اخرج ابن ابى الدنيا عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان أسفل اهل الجنة أجمعين درجة من يقوم على راسه عشرة آلاف خادم

و اخرج ابن ابى الدنيا عن ابى هريرة ان ادنى اهل الجنة منزلا من يغدوا و يروح عليه خمسة آلاف خادم ليس منهم خادم الا و معا ظرف ليس مع صاحبه و اللّه تعالى اعلم اخرج ابن المنذر عن عكرمة قال دخل عمر بن الخطاب على النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم و هو راقد على حصير من جريد فاثر فى جنبه فبكى عمر فقال ما يبكيك قال ذكرت كسرى و ملكه و هرمز و ملكه و صاحب الحبشة و ملكه و أنت رسول اللّه على حصير من جريد فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اما ترضى ان لهم الدنيا و لنا الاخرة فأنزل اللّه تعالى.

٢٠

وَ إِذا رَأَيْتَ حذف مفعوله و نزل منزلة اللازم- ثَمَّ ظرف لرايت اى فى الجنة رَأَيْتَ نَعِيماً كثيرا وَ مُلْكاً كَبِيراً الجملة الشرطية معترضة فى الجنة و قد مر فيما سبق عن ابن عمر مرفوعا ادنى اهل الجنة منزلة لمن ينظر الى جناته و أزواجه و خدمه و سرره مسيرة الف سنة و فى رواية مسيرة الفى عام يرى أقصاه كما يرى أدناه و قيل «لك لا يزول و يسلم عليهم الملائكة و يستاذنهم فى الدخول و لهم فيها ما يشاؤن و يرون الرب الجليل.

٢١

عالِيَهُمْ قرأ نافع و حمزة بإسكان الياء على انه مبتداء و ما بعده خبره من جملته حال من ضمير عليهم فى يطوف عليهم او من المنصوب فى حسبتهم او من ملكا كبيرا بحذف المضاف اى اهل ملك كبير و الباقون بالنصب على انه ظرف مستقر بمعنى فوقهم خبر لما بعده او حال مما ذكرنا و ما بعده فاعل الظرف ثِيابُ سُندُسٍ بالاضافة مبتداء او خبر او فاعل لما قبله و السندس معرب ضرب من رقيق الديباج كذا فى القاموس خُضْرٌ اخضر قرا نافع و حفص و ابو عمرو ابن عامر بالرفع على انه صفة ثياب و الباقون بالجر على انه صفة سندس وَ إِسْتَبْرَقٌ زاى الديباج الغلظ معرب استبره او ديباج يعمل بالذهب او ثياب حرير صفاق نحو الديباج كذا فى القاموس قرا نافع و ابن كثير و عاصم بالرفع عطفا على ثياب و الباقون بالجر عطفا على سندس عن ابن عمر قال قال رجل يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أخبرنا عن ثياب اهل الجنة اخلق يخلق أم نسج ينسج فقال بلى ينشق عنها ثمر الجنة رواه النسائي و البزار و البيهقي بسند جيد و عن جابر قال فى الجنة شجرة ينبت السندس يكون ثياب اهل الجنة رواه البزار و الطبراني و ابو يعلى بسند صحيح و عن عمر بن الخطاب ان النبي صلى اللّه عليه و سلم قال من لبس الحرير فى الدنيا لم يلبسه فى الاخرة متفق عليه و روى النسائي و الحاكم و عن ابى هريرة نحوه و زاد و من شرب الخمر فى الدنيا لم يشربه فى الاخرة و من شرب من آنية الذهب و الفضة فى الدنيا لم يشرب بهما فى الاخرة و فى الصحيحين عن انس و الزبير نحو حديث عمر و عن ابى سعيد الخدري ايضا نحو حديث عمر و زاد و ان دخل الجنة لم يلبسه رواه الطيالسي بسند صحيح و النسائي و ابن حبان و الحاكم وَ حُلُّوا عطف على و يطوف عليهم او حال من الضمير فى عاليهم بإضمار قد أَساوِرَ منصوب بنزع الخافض مِنْ فِضَّةٍ ج من بيانية و هذا لا يخالف قوله تعالى أساور من ذهب لا مكان الجمع و العاقبة و التبعيض و على تقدير كون الجملة حالا من ضمير للخدم فيجوز ان يكون أساور من فضة للخدم و من ذهب و سوار من فضة و سوار من لؤلؤ

و اخرج ابو الشيخ فى العظمة عن كعب الأحبار قال ان للّه تعالى ملكا يصوغ على اهل الجنة من أول خلقه الى ان تقوم الساعة و لو ان حليا يخرج من حلى اهل الجنة لذهب بضوء الشمس و فى الصحيحين عن ابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال يبلغ الحلي من المؤمن حيث يبلغ الضوء

و اخرج النسائي و الحاكم عن عقبة بن عامر قوله صلى اللّه عليه و اله و سلم ان كنتم تحبون حلية الجنة و حريرها فلا تلبسوها فى الدنيا وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ معطوف على الجمل السابقة شَراباً طَهُوراً من الاقذار لم تمسه الأيدي كخمر الدنيا قال ابو قلابة و ابراهيم انه لا يصير لو لا نجسا و لكن يصير رشحا فى أبدانهم كريح المسك و ذلك انهم يوتون بالطعام و إذا كان اخر ذلك أتوا بالشراب الطهور فيشربون فيطهر بذلك بطونهم و يصير ما أكلوا رشحا يخرج من جلودهم أطيب من المسك الأذفر تعود شهوتهم و قال مقاتل هو عين ماء على باب الجنة من شرب منها نزع اللّه ما كان فى قلبه من غل او حسد

قال البيضاوي و لنعم ما قال هو ان اللّه سبحانه يريد نوعا اخر من الشراب يفوق على النوعين المتقدمين و لذلك أسند الى نفسه و وصفه بالطهورية فانه يطهر شاربه عن الميل الى الذات الحسنة و الركون الى ما سوى الحق فتجرد لمعاينة جماله ملتذا بلقائه و هى منتهى درجة الصديقين ذلك ختم به ثواب الأبرار و تختم ثوابهم و مبدأ ثواب الصادقين و ادنى درجتهم قال فى المدارك قيل ان الملائكة تعرضون عليهم الشراب فيأبون قبوله منهم و يقولون لقد طال أخذنا من الوسائط فاذا هم بكأسات تلاقى أفواههم بغير اكف من غيب الى عبد و يؤيد هذا القول ما اخرج ابن ابى الدنيا بسند جيد عن ابى امامة قال ان الرجل من اهل الجنة يشتهى الشراب من شراب الجنة فيقع فى يده فيشرب ثم يعود الى مكانه قال الشيخ الاجل يعقوب الكرخي رض ان السابقين المقربين يعطون الكاسات من تحت العرش بلا واسطة و المقتصدين يعنى الأبرار يعطيهم الملائكة و غيرهم من اهل الجنة يعنى الذين دخلوها بعد المغفرة او العذاب يعطيهم الولدان انتهى قلت و هذه الآيات اخبار عن شان الأبرار فلعلهم يعطون الكاسات تارة بتوسط الولدان و تارة بتوسط الملائكة و تارة بلا توسط و اما المقربون فلعلهم يعطون بلا توسط غالبا.

٢٢

إِنَّ هذا النعيم كانَ لَكُمْ جَزاءً لاعمالكم وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ع محمودا مقبولا مرضيا عندنا مجازا فقال فهذا قول لهم من اللّه تعالى كأنهم شكر لهم من اللّه تعالى حيث لم يريدوا مشكورا من غيره تعالى من المسكين و اليتيم قلت جعل اللّه سبحانه نعيم الجنة جزاء لاعمالهم تفضلا لهم و الا فأى عمل يتصور ان يكون جزاءه كذلك.

٢٣

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا ج قال ابن عباس يعنى متفرقا اية بعد اية و لم ينزل جملة واحدة و تأكيد الجملة بتقديم المسند اليه على الجزاء الفعلى و تصديرها بان و تكرير الضمير لاشعار بأن الحكمة و الصواب منحصر فى هذا النوع من التنزيل كانه كرر الاسناد الى نفسه و جعله مختصا به و الحكيم لا يفعل الا ما هو حكمته.

٢٤

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ الفاء للسببية يعنى إذا عرفت حال الأبرار و الفجار و تأخير جزاء الفريقين اى دار القرار فاصبر على أذى الكفار و لا تعجل فى عقوبتهم و لا تحزن بتأخير نصرك عليهم و إذا علمت ان تنزيل القران مختص به تعالى فاصبر نفسك على ما امر به و عما نهى عنه وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ اى من الكفار للضجر من تأخير الظفر آثِماً اى مرتكبا لاثم داعيا لك اليه و ان لم يكن ذلك كفرا- أَوْ كَفُوراً ج مرتكبا للكفر داعيا لك الى الكفر فاو لاحد الامرين منكر وقعت فى حيز النفي فافادت العموم اى لا تطع أحدا دعاك الى اثم او دعاك الى كفر او إليهما جميعا فانه داع الى كل واحد منهما و لو وقعت هناك الواو لكان المعنى لا تطع من دعاك الى الكفر و الإثم جميعا و لا يستفاد منه عدم إطاعة الداعي الى الإثم فقط و مقتضى هذه الاية انه لا بأس فى إطاعة كافر فيما ليس بإثم و لا كفر و قيل او هاهنا بمعنى الواو و المراد بالإثم و الكفور ابو جهل لعنه اللّه تعالى و ذلك انه لما فرضت الصلاة نهى ابو جهل النبي صلى اللّه عليه و سلم عنها و قال لان رايت محمدا يصلى لاطان عنقه فانزل اللّه هذه الاية كذا روى عبد الرزاق و ابن المنذر و ابن جرير عن قتادة و قال مقاتل أراد بالإثم عتبة بن ربيعة و بالكفور وليد بن المغيرة قالا للنبى صلى اللّه عليه و سلم ان صنعت ما صنعت لاجل النساء و المال فارجع عن هذه الأمر و قال عتبة فانا أزوجك ابنتي و أسوقها إليك بغير مهر و قال الوليد انا أعطيك من المال ما ترضى فارجع من هذه الأمر فانزل اللّه تعالى هذه الاية.

٢٥

وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ اى صل شبه عن الصلاة بذكر اسم اللّه تعالى تسمية الشي ء باسم جزئه فان التحريمة ركن من اركان الصلاة او يقال افعال الصلاة و أقوالها كلها ذكر قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان هذه الصلاة ليس فيها شى ء من كلام الناس انما هى التسبيح و التكبير و قراءة القران رواه المسلم من حديث معاوية بن حكم بُكْرَةً اى أول النهار عنى به صلوة الفجر منصوب على الظرفية و كذا وَ أَصِيلًا اى اخر النهار عنى به صلوة الظهر و العصر.

٢٦

وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ عبر هاهنا عن الصلاة بالسجود و أراد به صلوة المغرب و العشاء و لما كان فى صلوة الليل زيادة كلفته أكده بتقديم الظرف و زيادة الفاء فى فاسجد على تقدير اما اى و اما من الليل فاسجد وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا عبر هاهنا عن الصلاة بالتسبيح و المراد به قيام الليل طَوِيلًا صفة لمصدر محذوف اى تسبيحا طويلا نصف الليل او اقل او اكثر منه.

٢٧

إِنَّ هؤُلاءِ يعنى الكفار مكة يُحِبُّونَ الدار الْعاجِلَةَ فى الدنيا وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ اى قدامهم او خلف ظهورهم يَوْماً ثَقِيلًا شديدا مستعار من الشغل البالغ فى المشقة على الحال و جملة ان هؤلاء تعليل لقوله تعالى لاتطع منهم اثما او كفورا يعنى انهم آثمون لا يعملون ما يعملون فى الدنيا و لا يصأون بالاخرة فلا تطعهم.

٢٨

نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ ج أحكمنا اسرهم خلقهم و ارحالهم و ربط مفاصلهم وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ فى الخلق و شدة الاسر تَبْدِيلًا مصدر للتاكيد و جملة الشرطية معطوفة على شددنا و جملة نحن خلقناهم مع ما عطف عليه لبيان تشنيع الكفار على كفرهم فى مقابلة النعم و ذكر نعمة إيجادهم و تمكينهم لانها اصل النعمة كلها و فى جملة إذا شئنا تسلية للنبى صلى اللّه عليه و اله و سلم فى احتمال الاذية منهم و وعد لهم باهلاكهم و تبديلهم بقوم مطيع فى الخلق و قد اهلكهم يوم بدر و قيل إذا هاهنا بمعنى ان يعنى ان يشاء اللّه لكن لم يشاء.

٢٩

إِنَّ هذِهِ السورة او الآيات تَذْكِرَةٌ ج و موعظة و تذكرة توضح السبيل الى اللّه سبحانه و الى مرضاته فَمَنْ شاءَ التقرب الى اللّه و سلوك السبيل اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا بالطاعة و دوام الذكر و الإخلاص و تقليد النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم.

٣٠

وَ ما تَشاؤُنَ قرأ نافع و الكوفيون بالتاء على الخطاب و الباقون بالياء على الغيبة إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللّه لا توجد مشيتكم ايها الناس او مشية الكفار باتخاذ السبيل الى اللّه و بشئ من الأشياء فى وقت من الأوقات الا وقت مشية اللّه تلك المشية عن عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان قلوب بنى آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اللّهم مصرف القلوب صرف قلبى على طاعتك رواه مسلم فلما وجد مشية اللّه بهداية المؤمنين شاء اتخذ السبيل الى اللّه و لما لم توجد مشية اللّه بهداية الكفار لم يشأ ذلك إِنَّ اللّه كانَ عَلِيماً بما يستاهل كل أحد فيفعل به ما هو اهل له و ذلك يستدعى سبق استعدادهم الخير و الشر و انما هو يكون المبادي تعينات المؤمنين ماشية من اسم اللّه الهادي و مبادى تعينات الكفار من اسم المضل حَكِيماً لا يشاء الا ما تقضيه الحكمة.

٣١

يُدْخِلُ اللّه سبحانه مَنْ يَشاءُ من عباده و رحمته فِي رَحْمَتِهِ ط اى فى جنته فانها محل الرحمة يقذف الايمان و التصديق فى قلبه و محبة اللّه فى سره و توفيقه للطاعة و حفظه و تنفيره عن الكفر و المعصية وَ الظَّالِمِينَ منصوب بفعل محذوف تفسيره بعده و يعذب الظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ع جملة و الظالمين معطوف على يدخل و الجملتين يقرر ان مضمون ما يشاؤن الا ان يشاء اللّه- و اللّه تعالى اعلم-

﴿ ٠