سُورَةُ الْبَيِّنَةِ مَدَنِيَّةٌ

وَهِيَ ثَمَانِي آياَتٍ

مدنيّة و هى ثمان آيات

 بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

_________________________________

١

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا فى زمان الماضي قبل مبعث النبي صلى اللّه عليه و سلم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ من لبيان الموصول و كفرهم بالإلحاد فى صفات اللّه تعالى و قولهم عزير ابن اللّه و المسيح ابن اللّه وَ الْمُشْرِكِينَ يعنى عبدة الأوثان عطف على اهل الكتاب مُنْفَكِّينَ زائلين متعضلين عن كفرهم الذي كانوا عليه حذف صلة منفكين لدلالة صلة الذين عليه حَتَّى تَأْتِيَهُمُ لفظه مستقبل أريد به الماضي اى حتى أتتهم الْبَيِّنَةُ يعنى ما يبين الحق من الباطل و هو.

٢

رَسُولٌ مِنَ اللّه يعنى محمدا صلى اللّه عليه و سلم بدل من البينة يَتْلُوا صُحُفاً الجملة صفة لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و انه صلى اللّه عليه و سلم و ان كان اميا لكنه لما كان متلوه مما يكتب فى الصحف كان كمن يتلو صحفا اى مصاحف مُطَهَّرَةً من الباطل و تصرف الشياطين او ممنوعة من مس المحدث و الجنب و الحائض قال اللّه تعالى لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه و قال لا يمسه الا المطهرون.

٣

فِيها اى فى تلك الصحف كُتُبٌ مكتوب قَيِّمَةٌ ط عادلة مستقيمة لا عوج فيها فاذا أتاهم الرسول بين لهم ضلالتهم و أزال عنهم جهلهم و دعاهم الى الايمان فانفك عن كفره من وفقه اللّه للايمان و قدر له السعادة.

٤

وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ فى الايمان بالنبي صلى اللّه عليه و سلم و كفرهم به إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ما مصدرية و الاستثناء مفرغ منصوب المحل على الظرفية متعلق بتفرق اى ما تفرقوا فى امر النبي صلى اللّه عليه و سلم فى وقت من الأوقات الا بعد مجيئه و كانوا قبل ذلك مجتمعين على تصديقه منتظرين لمجيئه يَسْتَفْتِحُونَ به عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ حسدا و عنادا و جملة ما تفرق عطف على لم يكن و الحاصل ان اهل الكتاب و ان كان بعضهم ملحدا فى صفات اللّه و نسبة الولد اليه لكنهم كانوا مجتمعين فى امر النبي صلى اللّه عليه و سلم لوضوح بيان امره فى كتبهم و لما كان صفة اجتماعهم على تصديق النبي صلى اللّه عليه و سلم مختصا باهل الكتاب دون المشركين أفرد فى هذه الاية ذكرهم لاظهار زيادة شتاعة من بقي منهم على الكفر و الاية الاولى لبيان حال المؤمنين من اهل الكتاب و من المشركين و الاية الثانية لبيان من بقي على الكفر من اهل الكتاب

قال البغوي و قال بعض ائمة اللغة معنى قوله منفكين هالكين من قولهم انفك صدر المرأة عند الولادة و هو ان ينفصل فلا يلتئم حتى تهلك و معنى الاية لم يكونوا هالكين معذبين الا بعد قيام الحجة عليهم من إرسال الرسول و إنزال الكتاب نظيره قوله تعالى و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا.

٥

وَ ما أُمِرُوا يعنى هؤلاء الكفار كلهم إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللّه قيل اللام زايدة و الفعل منصوب بان مقدرة حذفت ان و زيدت اللام و الجملة فى محل النصب على انه مفعول به لامروا اى ما أمروا الا بان يعبدوا اللّه و قيل المفعول به محذوف و اللام لام كى و الجملة فى محل النصب على العلية و المعنى ما أمروا بما أمروا به بشئ الا ليعبدوا و الحاصل انهم ما أمروا على لسان محمد صلى اللّه عليه و سلم الا بشئ حسن ذاته تدل الادلة العقلية على حسنه و قد أمروا بذلك فيما سبق من الكتب المنزلة فعجبا من المنكرين كيف أنكروا و كيف يفرقوا فيه مُخْلِصِينَ حال من فاعل يعبدوا لَهُ اى للّه الدِّينَ اى الاعتقاد عن الشرك بغيره حُنَفاءَ حال مرادف او متداخل لمخلصين اى مائلين عن الأديان الباطلة كلها قال ابن عباس معناه و ما أمروا فى التورية و الإنجيل الا بإخلاص العبادة للّه موحدين وَ يُقِيمُوا عطف على يعبدوا الصَّلاةَ المكتوبة فى أوقاتها وَ يُؤْتُوا الزَّكاةَ عند محلها وَ ذلِكَ الذي أمروا به على لسان محمد صلى اللّه عليه و سلم دِينُ الْقَيِّمَةِ ط اى الامة القائمة الراسخة على الحق من الأنبياء و الماضيين و اتباعهم الصالحين

قال البغوي قال النضر بن شميل سالت الخليل بن احمد عن قوله تعالى ذلك دين القيمة فقال القيمة و القيم و القائم واحد مجازا الاية و ذلك دين القيمة للّه بالتوحيد او المعنى و ذلك دين الكتب القيمة التي لا عوج فيها التي جرى ذكرها فى ضمن الذين أوتوا الكتاب و قيل معناه ذلك طريق الملة و الشريعة القيمة المستقيمة

قال البغوي أضاف الدين الى القيمة و هى لغة لاختلاف اللفظين و أنت القيمة بتأويلها الى الملة و لما ورد ذكر المؤمنين و الكافرين استأنف اللّه سبحانه بالوعد و الوعيد للفريقين فقال.

٦

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ اسم و خبره ما بعده فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها ط حال مقدرة من فاعل الظرف أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ اى شر الخلائق أجمعين حتى الكلاب و الخنازير و الجملة اما تذئيل او خبر لان بع د خبروهم ضمير الفصل قرا نافع و ابن ذكوان البرية فى الموضعين بالهمزة و الباقون بتشديد الياء بغير همزة.

٧

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ أجمعين حتى الْبَرِيَّةِ ط الملائكة المعصومين و من هاهنا قالوا ان خواص البشر أفضل من خواص الملائكة و عوام البشر اعنى المؤمنين الصالحين ارباب القلوب الصافية النفوس الزاكية أفضل من عوام الملائكة و اما غير الصالحين من المؤمنين فيلتحقون بالصالحين بعد ما يتمحضون من الذنوب اما بالمغفرة او بالعقاب و يدخلون الجنة.

٨

جَزاؤُهُمْ مبتداء عِنْدَ رَبِّهِمْ ظرف لجزاءهم جَنَّاتُ عَدْنٍ اى اقامة خبر لجزائهم تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اى من تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ فاعل تجرى على المجاز و الجملة صفة لجنات خالِدِينَ فِيها فى جنات حال منهم فى جزاءهم أَبَداً ط ظرف لخالدين

قال البيضاوي فيه مبالغات تقديم المدح و ذكر الجزاء المؤذن بان ما منحوا فى مقابلة ما وصفوا به و الحكم عليه بأنه من عند ربهم و جمع جنات و تقيدها اضافة و وصفها بما يزداد بها نعيما و تأكيد الخلود بالتابيد رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ هذا نعمة زاد من الجنات و ما فيها فضل اللّه عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان اللّه يقول لاهل الجنة يا اهل الجنة فيقولون لبيك ربنا و سعديك و الخير كله فى يديك فيقول هل رضيتم فيقولون و ما لنا لا نرضى يا رب و قد أعطيتنا ما لم يعط أحد من خلقك فيقول الا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون يا رب اى شى ء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده ابدا متفق عليه قلت لعل المراد من قوله ما لم يعط أحد من خلقك ما لم يعط الملائكة و الا فليس غير اهل الجنة الا اهل النار و لا يجوز القول بالتفضيل عليهم وَ رَضُوا عَنْهُ ط

قال البغوي قيل الرضاء ينقسم قسمين رضى اللّه به و رضى عنه رضى به ربا و مدبرا و رضى عنه فيها يقضى و يقدر قلت و الرضى عنه على اقسام قسم منه معناه ترك الاعتراض عليه و الاعتقاد بان كل ما فعل هو الحسن فى نفس الأمر و ان خفى علينا وجه حسنه و هذا القسم من الرضا واجب على العباد فى كل ما قضى اللّه عليه من مرغوب و مكروه عنده غير انه ان صدر عنه المعصية او عن غيره لا يرضى عن الكفر و المعصية من حيث صدوره عن العبد و كسبه فان صدور الكفر و المعصية عن العبد و كسبه به غير مرضى اللّه و ان كان صادرا بارادة اللّه و خلقه و مناط التكليف فى وجوب هذا القسم من الرضاء العقل و الاستدلال فان العاقل إذ لاحظ ان اللّه تعالى مالك للاشياء كلها و المالك يتصرف فى ملكه كيف يشاء و الاعتراض انما يتوجه على من يتصرف فى ملك غيره بغير اذنه و لاحظ انه تعالى حكيم لا يفعل الأعلى ما اقتضاه الحكمة رضى اللّه به و ان اختلج شى ء فى صدره فذلك لاجل نقصان فى عقله و دينه و بقية كفر فى نفسه الامارة بالسوء و الى هذا القسم من الرضاء أشار السرى السقطي رضى اللّه عنه إذا كنت لا ترضى عن اللّه فكيف تساله الرضى عنك و قسم منه معناه كون مقتضيات اللّه محبوبا له مرغوبا عنده و ان كان على خلاف هواه و منشأه العشق و المحبة باللّه سبحانه فان فعل المحبوب و مراده أحب عند المحب من مراد نفسه و من هاهنا قال الشاعر فان فرحت بهجرى رضيت بالضروري و قسم منه معناه بلوغ المراد أقصى ما يتمناه و يشتهيه و هو المراد هاهنا و من قوله تعالى وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اذن لا ارضى و واحد من أمتي فى النار و قد مر فى سورة و الضحى ذلك المذكور من الجزاء و الرضوان لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ع فان الخشية ملاك الأمر و الباعث على كل خير و الناهي عن كل معصية و شر و جملة ذلك لمن خشى ربه فى مقام التعليل بقوله تعالى جزاءهم عن انس بن مالك قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم لابى ان اللّه أمرني ان اقرأ عليك القران و فى رواية ان اقرء عليك لم يكن الذين كفروا قال أ اللّه سمانى لك قال نعم قال و قد ذكرت عند رب العالمين قال نعم قذرفت عينه متفق عليه قلت و ما ذكر فى الحديث من حال ابى هواية عشاق- و اللّه تعالى اعلم.

﴿ ٠