١٤٨

وقوله : لِكُلٍّ وِجْهَةٌ يعنى قبلةوَ مُوَلِّيها : مستقبلها ، الفعل لكلّ ، يريد : مولّ وجهه إليها.

والتولية فى هذا الموضع إقبال ، وفى «يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ» «١» ، «ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ» «٢» انصراف. وهو كقولك فى الكلام : انصرف إلىّ ، أي أقبل إلىّ ، وانصرف إلى أهلك أي اذهب إلى أهلك. وقد قرأ ابن عباس وغيره «هو مولّاها» ، وكذلك قرأ أبو «٣» جعفر محمد بن علىّ ، فجعل الفعل واقعا عليه. والمعنى واحد. واللّه أعلم.

(١) آية ١١١ سورة آل عمران.

(٢) آية ٢٥ سورة التوبة.

(٣) هو الإمام الباقر ، لقب بذلك لأنه بقر العلم ، أي شقه وعرف ظاهره وخفيه. وانظر طبقات القراء لابن الجزرىّ الترجمة رقم ٣٢٥٤

وقوله : ايْنَ ما تَكُونُوا ...

إذا رأيت حروف الاستفهام قد وصلت ب (ما) ، مثل قوله : أينما ، ومتى ما ، وأىّ ما ، وحيث «٤» ما ، وكيف ما ، و«أَيًّا ما تَدْعُوا» «٥» كانت جزاء ولم تكن استفهاما.

فإذا لم توصل ب (ما) كان الأغلب عليها الاستفهام ، وجاز فيها الجزاء.

 (٤) كذا فى الأصول ، ولا تعرف هذه الأداة فى أدوات الاستفهام. [.....]

(٥) آية ١١٠ سورة الإسراء.

فإذا كانت جزاء جزمت الفعلين : الفعل الذي مع أينما وأخواتها ، وجوابه كقوله يْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ»

«١» فإن أدخلت الفاء فى الجواب رفعت الجواب فقلت فى مثله من الكلام : أينما تكن فآتيك. كذلك قول اللّه - تبارك وتعالى - «وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ».

فإذا كانت استفهاما رفعت الفعل الذي يلى أين وكيف ، ثم تجزم الفعل الثاني ليكون جوابا للاستفهام ، بمعنى الجزاء كما قال اللّه تبارك وتعالى : «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» «٢» ثم أجاب الاستفهام بالجزم فقال - تبارك وتعالى - «يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» «٣».

فإذا أدخلت فى جواب الاستفهام فاء نصبت كما قال اللّه - تبارك وتعالى - «لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ» «٤» فنصب.

فإذا جئت إلى العطوف التي تكون فى الجزاء وقد أجبته بالفاء كان لك فى العطف ثلاثة أوجه إن شئت رفعت العطف مثل قولك : إن تأتنى فإنى أهل ذاك ، وتؤجر وتحمد ، وهو وجه الكلام. وإن شئت جزمت ، وتجعله كالمردود على موضع الفاء. والرفع على ما بعد الفاء. وقد قرأت القرّاء «مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ» «٥». رفع وجزم. وكذلك «إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ

(١) آية ١٤٨ سورة البقرة.

(٢) آية ١٠ سورة الصف.

(٣) آية ١٢ سورة الصف.

(٤) آية ١٠ سورة المنافقين. وقد عدّ لو لا فى أدوات الاستفهام ، وهذا المعنى ذكره الهروي ، كما فى المغني ، ومثل له بالآية. وقال الأمير فى كتابته على المغني : «الاستفهام هنا بعيد جدّا» أي والقريب فى الآية معنى العرض أو التحضيض.

(٥) آية ١٨٦ سورة الأعراف.

فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ» «١» جزم ورفع. ولو نصبت على ما تنصب عليه عطوف الجزاء إذا استغنى لأصبت كما قال الشاعر «٢» :

فإن يهلك النعمان تعر مطيّة وتخبأ فى جوف العياب قطوعها «٣»

و إن جزمت عطفا بعد ما نصبت تردّه على الأوّل ، كان صوابا كما قال بعد هذا البيت :

و تنحط حصان آخر اللّيل نحطة تقصّم منها - أو تكاد - ضلوعها «٤»

و هو كثير فى الشعر والكلام. وأكثر ما يكون النصب فى العطوف إذا لم تكن فى جواب الجزاء الفاء ، فإذا كانت الفاء فهو الرفع والجزم.

وإذا أجبت الاستفهام بالفاء فنصبت فانصب العطوف ، وإن جزمتها فصواب. من ذلك قوله فى المنافقين «لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ» «٥» رددت «وَ أَكُنْ» على موضع الفاء لأنها فى محلّ جزم إذ كان الفعل إذا «٦» وقع موقعها بغير الفاء جزم. والنصب على أن تردّه على ما بعدها ، فتقول :

«و أكون» وهى فى قراءة عبد اللّه بن مسعود «و أكون» بالواو ، وقد قرأ بها بعض «٧» القرّاء. قال : وأرى ذلك صوابا «٨» لأن الواو ربما حذفت من الكتاب

(١) آية ٢٧١ سورة البقرة.

(٢) هو النابغة الذبيانىّ. وانظر الديوان له وشرحه فى مجموعة الدواوين الخمسة. وهذا الشعر يقوله فى مدح النعمان بن الحارث الأصغر الغساني.

(٣) القطوع : جمع قطع. وهو كالطنفسة. والعياب : جمع عيبة وهو ما يوضع فيه الثياب. يقول : إن هلك النعمان ترك كل وافد الرحلة ولم يستعمل مطيته وخبأ فى جوف العياب الطنفسة التي توضع على الرحل استعدادا للرحيل.

(٤) تنحط : تزفر من الحزن. والحصان : المرأة العفيفة. يقول : إذا تذكرت الحصان معروفه هاج لها حزن وزفرات تنكسر لها ضلوعها أو تكاد تنكسر. وخص آخر الليل لأنه وقت الهبوب من النوم.

(٥) آية ١٠ سورة المنافقين.

(٦) سقط فى أ.

(٧) يريد أبا عمرو بن العلاء ، وانظر البيضاوي ، والبحر ٨/ ٢٧٥

(٨) يريد دفع ما يرد على قراءة أبى عمرو أنها مخالفة لرسم المصحف إذ ليس فيه : «أَكُونَ» بالواو. فذكر أن الواو قد تحذف فى الرسم وهى ثابتة فى اللفظ. [.....]

و هى تراد لكثرة ما تنقص وتزاد فى الكلام ألا ترى أنهم يكتبون «الرحمن» وسليمن بطرح الألف والقراءة بإثباتها فلهذا جازت. وقد أسقطت الواو من قوله «سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ» «١» ومن قوله «وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ» «٢» الآية ، والقراءة على نيّة إثبات الواو. وأسقطوا من الأيكة ألفين فكتبوها فى موضع ليكة «٣» ، وهى فى موضع آخر الأيكة «٤» ، والقرّاء «٥» على التمام ، فهذا شاهد على جواز «و أكون من الصّالحين».

وقال بعض الشعراء «٦» :

فأبلونى بليّتكم لعلّى أصلكم وأستدرج نويّا

فجزم (وأستدرج) ، فإن شئت رددته إلى موضع الفاء المضمرة فى لعلّى ، وإن شئت جعلته فى موضع رفع فسكّنت الجيم لكثرة توالى الحركات. وقد قرأ بعض القراء «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» بالجزم وهم ينوون الرفع ، وقرءوا «أَ نُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ» والرفع أحبّ إلىّ من الجزم.

(١) آية ١٨ سورة القلم.

(٢) آية ١١ سورة الإسراء.

(٣) كما فى آية ١٧٦ من الشعراء ، وآية ١٣ من ض.

(٤) كما فى آية ٧٨ من الحجز ، وآية ١٤ من ق.

(٥) قرأ الحرميان : ابن كثير ونافع ، وابن عامر : ليكة بفتح اللام وسكون الياء وفتح التاء ، فى الموضعين اللذين سقط فيها الألفان ، وكأن الفرّاء ينكر هذه القراءة كما أنكرها بعض النحويين. وانظر البحر ٧/ ٣٧

(٦) هو أبو داود الإيادىّ ، كما فى الخصائص ١/ ١٧٦ ، يقوله فى قوم جاورهم فأساءوا جواره ، ثم أرادوا مصالحته. وقوله : «فأبلونى» من أبلاه إذا صنع به صنعا جميلا. والبلية اسم منه.

و«نويا» يريد نواى ، والنية : الوجه الذي يقصد. و«أستدرج» : أرجع أدراجى من حيث كنت. يقول : أحسنوا الصنيع بي واجبروا ما فعلتم معى ، فقد يكون هذا حافزا لى أن أصالحكم أو أرجع إلى ما كنت عليه. وانظر التعليق على الخصائص فى الموطن السابق طبعة الدار.

وقوله : لِكُلٍّ وِجْهَةٌ ...

العرب تقول : هذا أمر ليس له وجهة ، وليس له جهة ، وليس له وجه وسمعتهم يقولون : وجّه الحجر ، جهة ماله ، ووجهة ماله ، ووجه ماله. ويقولون :

ضعه غير هذه الوضعة ، والضّعة ، والضعة. ومعناه : وجّه الحجر فله جهة وهو مثل ، أصله فى البناء يقولون : إذا رأيت الحجر فى البناء لم يقع موقعه فأدره فإنك ستقع على جهته «٢». ولو نصبوا على قوله : وجّهه جهته لكان صوابا.

(٢) وهذا المثل أورده الميدانىّ فى حرف الواو ، وقال بعد أن أورد نحو ما ذكر هنا : «يضرب فى حسن التدبير ، أي لكل أمر وجه ، لكن الإنسان ربما عجز ولم يهتد إليه».

﴿ ١٤٨