١٧٧وقوله : لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ... (١٧٧) إن شئت رفعت «الْبِرَّ» وجعلت «أَنْ تُوَلُّوا» فى موضع نصب. وإن شئت نصبته وجعلت «أَنْ تُوَلُّوا» فى موضع رفع كما قال : «فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ» «٤» (٤) آية ١٧ سورة الحشر. فى كثير من القرآن. وفى إحدى القراءتين «لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ» ، فلذلك اخترنا الرفع فى «الْبِرُّ» ، والمعنى فى قوله «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» أي ليس البرّ كله فى توجّهكم إلى الصلاة واختلاف القبلتين وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ثم وصف ما وصف إلى آخر الآية. وهى «١» من صفات الأنبياء لا لغيرهم. وأما قوله : وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ فإنه من كلام العرب أن يقولوا : إنما البرّ الصادق الذي يصل رحمه ، ويخفى صدقته ، فيجعل الاسم خبرا للفعل والفعل خبرا للاسم لأنه أمر معروف المعنى. فأما الفعل الذي جعل خبرا للاسم فقوله : «وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ»» ف (هو) كناية عن البخل. فهذا لمن جعل «الَّذِينَ» فى موضع نصب وقرأها «تحسبن» بالتاء. ومن قرأ بالياء جعل «الَّذِينَ» فى موضع رفع ، وجعل (هو) عمادا للبخل المضمر ، فاكتفى بما ظهر فى «يَبْخَلُونَ» من ذكر البخل ومثله فى الكلام : هم الملوك وأبناء الملوك لهم والآخذون به والساسة الأوّل «٣» قوله : به يريد : بالملك ، وقال آخر : إذا نهى السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف «٤» يريد إلى السفه. (١) كأنه يريد أن هذه الصفات جميعها لا تكمل إلا للأنبياء. والحق أن اجتماعها كاملة جدّ عسير. (٢) آية ١٨٠ سورة آل عمران. (٣) آخر قصيدة القطامىّ التي أوّلها : إنا محيوك فاسلم أيها الطلل وإن بليت وإن طالت بك الطيل و هذا فى مدح قريش وبنى أمية وعبد الواحد الأموى ، وانظر الديوان. (٤) «إليه» فى أ«عليه». وانظر الخزانة ٢/ ٣٨٢ و أما الأفعال التي جعلت أخبارا للناس فقول الشاعر : لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى ولكنما الفتيان كلّ فتى ندى فجعل «أن» خبرا للفتيان. وقوله : مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ (من) فى موضع رفع ، وما بعدها صلة لها ، حتى ينتهى إلى قوله وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ فتردّ «الْمُوفُونَ» على «مَنْ» و«الْمُوفُونَ» من صفة «مَنْ» كأنه : من آمن ومن فعل وأوفى. ونصبت «الصَّابِرِينَ» لأنها من صفة «مَنْ» وإنما نصبت لأنها من صفة اسم واحد ، فكأنه ذهب به إلى المدح والعرب تعترض من صفات الواحد إذا تطاولت بالمدح أو الذمّ ، فيرفعون إذا كان الاسم رفعا ، وينصبون بعض المدح ، فكأنهم ينوون إخراج المنصوب بمدح مجدّد غير متبع لأوّل الكلام من ذلك قول الشاعر «١» : لا يبعدن قومى الذين هم سمّ العداة وآفة الجزر النازلين بكلّ معترك والطيّبين معاقد الأزر و ربما رفعوا (النازلون) و(الطيبون) ، وربما نصبوهما على المدح ، والرفع على أن يتبع آخر الكلام أوّله. وقال بعض الشعراء : إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة فى المزدحم و ذا الرأى حين تغمّ الأمور بذات الصليل وذات اللّجم «٢» (١) أي الشخص الشاعر ، وهى الخرنق ترثى زوجها ومن قتل معه. وانظر الخزانة ٢/ ٣٠١ ، وأمالى ابن الشجري ١/ ٣٤٤ (٢) ورد هذا الشعر فى الخزانة ١/ ٢١٦ ، والإنصاف ١٩٥ غير منسوب. و(تغم الأمور) : تلتبس وتبهم ولا يهتدى فيها لوجه الصواب ، وذات الصليل : الكتيبة يسمع فيها صليل السيوف ، وذات اللجم : الكتيبة أيضا فيها الخيل بلجمها ، والقرم : السيد المعظم. فنصب (ليث الكتيبة) و(ذا الرأى) على المدح والاسم قبلهما مخفوض لأنه من صفة واحد ، فلو كان الليث غير الملك لم يكن إلا تابعا كما تقول مررت بالرجل والمرأة ، وأشباهه. قال : وأنشدنى بعضهم : فليت التي فيها النجوم تواضعت على كل غثّ منهم وسمين غيوث الحيا فى كل محل ولزبة أسود الشّرى يحمين كلّ عرين «١» فنصب. ونرى أنّ قوله : «لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ» «٢» أنّ نصب «الْمُقِيمِينَ» على أنه نعت للراسخين ، فطال نعته ونصب على ما فسّرت لك. وفى قراءة عبد اللّه «و المقيمون والمؤتون» وفى قراءة أبىّ «وَ الْمُقِيمِينَ» ولم يجتمع فى قراءتنا وفى قراءة أبىّ إلا على صواب. واللّه أعلم. حدّثنا الفرّاء : قال : وقد حدّثنى أبو معاوية «٣» الصرير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها سئلت عن قوله : «إِنْ هذانِ لَساحِرانِ» «٤» وعن قوله : «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ» «٥» وعن قوله : «وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ» فقالت : يا بن أخى «٦» هذا كان خطأ من الكاتب. (١) تواضعت : هبطت ، واللزبة الشدّة ، المحل القحط ، الحيا بالقصر المطر. والذي فى الطبري : غيوث الورى فى كل محل وأزمة (٢) آية ١٦٢ سورة النساء. (٣) هو محمد بن خازم الكوفىّ ، من كبار المحدّثين. قال أبو داود : قلت لأحمد : كيف حديث أبى معاوية عن هشام بن عروة؟ قال : فيها أحاديث مضطربة. وبهذا تعرف ضعف هذه الرواية ، فلا يعوّل عليها ، وكيف يقرّ الكاتب على الخطأ بإن كان ثم خطأ ، وقد قام على كتاب القرآن الثقات الأثبات. وانظر الطبري فى تفسير آية «لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» فى النساء والإتقان فى النوع الحادي والأربعين. وانظر ترجمة أبى معاوية فى تهذيب التهذيب. (٤) آية ٦٣ سورة طه. [.....] (٥) آية ٦٩ سورة المائدة. (٦) كذا فى الأصول : تريد أخاها فى الإسلام وفى القرابة ، لأنه زوج أختها أسماء. وفى الطبري ٦/ ١٨ : «أختى» وقد يكون ما هنا محرّفا عن «أختى». و قال فيه الكسائىّ «وَ الْمُقِيمِينَ» موضعه خفض يردّ على قوله : «بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» : ويؤمنون بالمقيمين الصلاة هم والمؤتون الزكاة. قال : وهو بمنزلة قوله : «يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ» «١» وكان النحويّون يقولون «الْمُقِيمِينَ» مردودة على «بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ - إلى الْمُقِيمِينَ» وبعضهم «لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ» ومن «الْمُقِيمِينَ» وبعضهم «مِنْ قَبْلِكَ» ومن قبل «الْمُقِيمِينَ». وإنما امتنع من مذهب المدح - يعنى الكسائىّ - الذي فسّرت لك ، لأنه قال : لا ينصب الممدوح إلا عند تمام الكلام ، ولم «٢» يتمم الكلام فى سورة النساء. ألا ترى أنك حين قلت «لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ - إلى قوله «وَ الْمُقِيمِينَ - والْمُؤْتُونَ» كأنك منتظر لخبره «٣» ، وخبرهفى قوله «أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً» والكلام أكثره على ما وصف الكسائىّ. ولكن العرب إذا تطاولت الصفة جعلوا الكلام فى الناقص وفى التامّ كالواحد ألا ترى أنهم قالوا فى الشعر : حتى إذا قملت «٤» بطونكم ورأيتم أبناءكم شبّوا و قلبتم ظهر المجنّ لنا إنّ اللئيم العاجز الخبّ فجعل جواب (حتى إذا) بالواو ، وكان ينبغى ألا يكون فيه واو ، فاجتزئ بالإتباع ولا خبر بعد ذلك. وهذا أشدّ مما وصفت لك. (١) آية ٦١ سورة التوبة. (٢) فى الطبري : «لما». (٣) فى ج وش : لخبرهم وخبرهم إلخ. (٤) قلت بطونكم : كثرت قبائلكم. وقلب ظهر المجن - والمجن الترس - : المنابذة بالعداء والخب : اللئيم الماكر. والبيتان فى الإنصاف ١٨٩ ، والخزانة ٤/ ٤١٤ ، واللسان (قمل) من غير عزو. و مثله فى قوله «حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها» «١» ومثله فى قوله «فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ» «٢» جعل بالواو. وفى قراءة عبد اللّه «فلمّا جهّزهم بجهازهم وجعل السّقاية» «٣» وفى قراءتنا بغير واو. وكلّ عربىّ حسن. وقد قال بعضهم : «وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى - وَالصَّابِرِينَ» فنصب الصابرين على إيقاع الفعل عليهم. والوجه أن يكون نصبا على نيّة المدح لأنه من صفة شىء واحد. والعرب تقول فى النكرات كما يقولونه فى المعرفة ، فيقولون : مررت برجل جميل وشابّا بعد ، ومررت برجل عاقل وشرمحا «٤» طوالا وينشدون قوله : و يأوى إلى نسوة بائسات «٥» وشعثا مراضيع مثل السّعالى (وشعث) فيجعلونها خفضا بإتباعها أوّل الكلام ، ونصبا على نية ذمّ فى هذا الموضع. (١) آية ٧٣ سورة الزمر. (٢) آية ١٠٤ سورة الصافات ، وتله للجبين : صرعه عليه وأسقطه على شقه. (٣) آية ٧٠ سورة يوسف. (٤) الشرمح من الرجال القوى الطويل. (٥) لأمية بن أبى عائذ الهذلىّ. وهو فى وصف صائد وإعساره. البؤس : شدّة الحاجة والفقر. ويروى : عطل : جمع عاطل وهن اللواتى لا حلى عليهن ، وشعث جمع شعثاء ، وشعثها من قلة التعهد بالدهن والنظافة ، والسعالى ضرب من الغيلان ، الواحد سعلاة. وانظر الخزانة ١/ ٤١٧ ، وأشعار الهذليين طبع الدار ١/ ١٧٢. والبيت فى المرجع الأخير فيه بعض تغيير. |
﴿ ١٧٧ ﴾