٢١٢وقوله : زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا ... (٢١٢) و لم يقل «زينت» وذلك جائز ، وإنّما ذكّر الفعل والاسم مؤنث لأنه مشتقّ من فعل فى مذهب مصدر. فمن أنّث أخرج الكلام على اللفظ ، ومن ذكّر ذهب إلى تذكير المصدر. ومثله «فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى » «٧» و«قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ» «٨» ، «وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ» «٩» على ما فسّرت لك. فأما فى الأسماء الموضوعة فلا تكاد العرب تذكّر فعل مؤنّث إلا فى الشعر لضرورته. (٧) آية ٢٧٥ سورة البقرة. (٨) آية ١٠٤ سورة الأنعام. (٩) آية ٦٧ سورة هود. و قد يكون الاسم غير مخلوق من فعل ، ويكون فيه معنى تأنيث وهو مذكّر فيجوز فيه تأنيث الفعل وتذكيره على اللفظ مرّة وعلى المعنى مرّة من ذلك قوله عزّ وجلّ «وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ» «١» ولم يقل «كذبت» ولو قيلت لكان صوابا كما قال «كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ» «٢» و«كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ» «٣» ذهب إلى تأنيث الأمّة ، ومثله من الكلام فى الشعر كثير منه قول الشاعر : فإن كلابا هذه عشر أبطن وأنت برىء من قبائلها العشر «٤» و كان ينبغى أن يقول : عشرة أبطن لأن البطن ذكر ، ولكنه فى هذا الموضع فى معنى قبيلة ، فأنّث لتأنيث القبيلة فى المعنى. وكذلك قول الآخر : وقائع فى مضر تسعة وفى وائل كانت العاشرة فقال : تسعة ، وكان ينبغى له أن يقول : تسع لأن الوقعة أنثى ، ولكنه ذهب إلى الأيام لأن العرب تقول فى معنى الوقائع : الأيام فيقال هو عالم بأيّام العرب ، يريد وقائعها. فأما قول اللّه تبارك وتعالى : «وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» «٥» فإنه أريد به - واللّه أعلم - : جمع الضياءان. وليس قولهم : إنما ذكّر فعل الشمس لأن الوقوف لا يحسن فى الشمس حتى يكون معها القمر بشىء «٦» ، ولو كان هذا على ما قيل لقالوا : الشمس جمع والقمر. ومثل هذا غير جائز ، وإن شئت ذكّرته (١) آية ٦٦ سورة الأنعام. (٢) آية ١٠٥ سورة الشعراء. (٣) آية ١٦٠ سورة الشعراء. (٤) فى العيني : «قائله رجل من بنى كلاب يسمى النوّاح» وورد فى اللسان (بطن) من غير عزو. (٥) آية ٩ سورة القيامة. (٦) خبر قوله : «ليس قولهم ..». لأن الشمس اسم مؤنث ليس فيها هاء تدلّ على التأنيث ، والعرب ربما ذكّرت فعل المؤنث إذا سقطت منه علامات التأنيث. قال الفرّاء : أنشدنى بعضهم : فهى أحوى من الربعىّ خاذلة والعين بالإثمد الحارىّ مكحول «١» و لم يقل : مكحولة والعين أنثى للعلة التي أنبأتك بها. قال : وأنشدنى بعضهم : فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها «٢» قال : وأنشدنى يونس - يعنى النحوىّ البصرىّ - عن العرب قول الأعشى : إلى رجل منهم أسيف كأنما يضمّ إلى كشحيه كفّا مخضبا «٣» و أمّا قوله : «السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ» «٤» فإن شئت جعلت السماء مؤنثة بمنزلة العين فلمّا لم يكن فيها هاء مما يدلّ على التأنيث ذكّر فعلها كما فعل بالعين والأرض فى البيتين. (١) فى سيبويه ١/ ٢٤٠ ، وهو فيه لطفيل الغنوي. والشطر الأوّل فيه هكذا : إذ هى أحوى من الربعىّ حاجبه وكذلك هو فى ديوان طفيل ٢٩ ، وقبله - وهو أوّل القصيدة - : هل حبل شماء قبل البين موصول أم ليس للصرم عن شماء معدول أم ما تسائل عن شماء ما فعلت وما تحاذر من شماء مفعول و تراه يشبه شماء بأحوى من الظباء ، وهو الذي فى ظهره وجنبتى أنفه سواد ، وذكر أن حاجب عينه وعينه مكحولان ، واقتصر فى الخبر على أحدهما ، ورواية الفرّاء : «خاذلة» فى مكان «حاجبه» والخاذلة : الظبية تنفرد عن صواحباتها ، وتقوم على ولدها ، وذلك أجمل لها. شبهها أولا بالظبى ، ثم راعى أنها أنثى فجعلها ظبية. فقوله : «خاذلة» ليس من وصف «أحوى» وإنما هو خبر ثان. (٢) هذا فى سيبويه ١/ ٢٤٠ ، وقد نسب لعامر بن جوين الطائي. وقال الأعلم : «وصف أرضا مخصبة لكثرة ما نزل بها من الغيث. والودق : المطر. والمزنة : السحاب». وانظر الخزانة ١/ ٢١. (٣) البيت فى ديوان الأعشى طبع أوربا : أرى رجلا منكم أسيفا ... والأسيف من الأسف وهو الحزن. وقوله : «كأنما يضم ...» أي كأنه قطعت يده فخضبت كفه بالدم ، فهو لذلك أسيف حزين. (٤) آية ١٨ سورة المزمّل. و من العرب من يذكّر السماء لأنه جمع كأن واحدته سماوة أو سماءة. قال : و أنشدنى بعضهم : فلو رفع السماء إليه قوما لحقنا بالسماء مع السحاب «١» فإن قال قائل : أرأيت الفعل إذا جاء بعد المصادر المؤنثة أيجوز تذكيره بعد الأسماء كما جاز قبلها قلت : ذلك قبيح وهو جائز. وإنما قبح لأن الفعل إذا أتى بعد الاسم كان فيه مكنىّ من الاسم فاستقبحوا أن يضمروا مذكّرا قبله مؤنث ، والذين استجازوا ذلك قالوا : يذهب به إلى المعنى ، وهو فى التقديم والتأخير سواء قال الشاعر : فإن تعهدى لامرئ لمّة فإن الحوادث أزرى بها «٢» و لم يقل : أزرين بها ولا أزرت بها. والحوادث جمع ولكنه ذهب بها إلى معنى الحدثان. وكذلك قال الآخر : هنيئا لسعد ما اقتضى بعد وقعتى بناقة سعد والعشية بارد كأن العشية فى معنى العشىّ ألا ترى قول اللّه «أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا» «٣» وقال الآخر : إن السماحة والشجاعة ضمّنا قبرا بمرو على الطريق الواضح» (١) ورد فى اللسان (سما) من غير عزو. [.....] (٢) فى سيبويه ١/ ٢٣٩ ، وفيه بدل الشطر الأول : فأما ترى لمتى بدّلت وهو من قصيدة للأعشى فى الصبح المنير ١٢٠ يمدح فيها رهط قيس بن معديكرب ويزيد بن عبد المدان. واللمة : الشعر يلم بالمنكب. وإزراء الحوادث بها : تغييرها من السواد إلى البياض. وقوله : «فإن تعهدى» أي إن كنت تعهدين ذلك فيما مضى من الزمن. (٣) آية ١١ سورة مريم. (٤) لزياد الأعجم فى رثاء المغيرة بن المهلب. وبعده : فإذا مررت بقبره فاعقر به كوم الهجان وكل طرف سابح و انظر الأغانى ١٤/ ١٠٢ ، وذيل الأمالى ٨. و لم يقل : ضمنتا ، والسماحة والشجاعة مؤنثتان للهاء التي فيهما. قال : فهل يجوز أن تذهب بالحدثان إلى الحوادث فتؤنّث فعله قبله فتقول أهلكتنا الحدثان؟ قلت نعم أنشدنى الكسائي : ألا هلك الشهاب المستنير ومدرهنا الكمىّ إذا نغير «١» و حمّال المئين إذا ألمّت بنا الحدثان والأنف النصور فهذا كاف مما يحتاج إليه من هذا النوع. وأما قوله : «وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ» «٢» ولم يقل «بطونها» والأنعام هى مؤنثة لأنه ذهب به إلى النعم والنعم ذكر. وإنما جاز أن تذهب به إلى وأحدها لأن الواحد يأتى فى المعنى على معنى الجمع كما قال الشاعر : إذا رأيت أنجما من الأسد جبهته أو الخرات والكتد «٣» بال سهيل فى الفضيخ ففسد وطاب ألبان اللقاح فبرد ألا ترى أن اللبن جمع يكفى من الألبان. وقد كان الكسائىّ يذهب بتذكير الأنعام إلى مثل قول الشاعر : و لا تذهبن عيناك فى كل شرمح طوال فإن الأقصرين أمازره «٤» (١) ورد البيتان فى اللسان (حدث) من غير عزو. وفيه «وهاب» بدل «حمال» فى البيت الثاني. (٢) آية ٦٦ سورة النحل. (٣) الأسد أحد البروج الاثني عشر. والخرات أحد نجمين من كواكب الأسد يقال لهما الخراتان. والتاء فى الخرات أصلية على أحد وجهين ، ومن ثم كتبت التاء مفتوحة ، كما فى اللسان (جبه). قال ابن سيده : لا يعرف الخراتان إلا مثنى. والكتد - بفتحتين - نجم أيضا من الأسد. والفضيخ البسر المشدوخ. يقول : لما طلع سهيل ذهب زمن البسر وأرطب فكأنه بال فيه. واللقاح : النوق إلى أن يفصل عنها ولدها. وذلك عند طلوع سهيل. فيرد : صار هنيئا. رجع بقوله فبرد إلى معنى اللبن ، والألبان تكون فى معنى واحد. (٤) الشرمح من الرجال القوى الطويل. والأمازر جمع أمزر وهو اسم تفضيل للمزير وهو الشديد القلب القوى النافذ. وقبل البيت : إليك ابنة الأعيار خافى بسالة ال رجال وأصلال الرجال أقاصره و نقل عن الفراء أن المزير الظريف وأنشد البيت كما فى اللسان. و لم يقل : أمازرهم ، فذكّر وهو يريد أمازر ما ذكرنا. ولو كان كذلك لجاز أن تقول هو أحسنكم وأجمله ، ولكنه ذهب إلى أن هذا الجنس يظهر مع نكرة غير مؤقّتة يضمر فيها مثل معنى النكرة فلذلك قالت العرب : هو أحسن الرجلين وأجمله لأن ضمير الواحد يصلح فى معنى الكلام أن تقول هو أحسن رجل فى الاثنين ، وكذلك قولك هى أحسن النساء وأجمله. من قال وأجمله قال : أجمل شىء فى النساء ، ومن قال : وأجملهن أخرجه على اللفظ واحتجّ بقول الشاعر : مثل الفراخ نتقت حواصله «١» ولم يقل حواصلها. وإنما ذكّر لأن الفراخ جمع لم يبن على واحده ، فجاز أن يذهب بالجمع إلى الواحد. قال الفرّاء : أنشدنى المفضّل : ألا إن جيرانى العشية رائح دعتهم دواع من هوى ومنازح فقال : رائح ولم يقل رائحون لأن الجيران قد خرج مخرج الواحد من الجمع إذ لم يبن جمعه على واحده. فلو قلت : الصالحون فإن ذلك لم يجز لأن الجمع منه قد بنى على صورة واحده. وكذلك الصالحات نقول ، ذاك غير جائز لأن صورة الواحدة فى الجمع قد ذهب عنه توهّم الواحدة. ألا ترى أن العرب تقول : عندى عشرون صالحون فيرفعون ويقولون عندى عشرون جيادا فينصبون الجياد لأنها لم تبن على وأحدها ، فذهب بها إلى الواحد ولم يفعل ذلك بالصالحين قال عنترة : فيها اثنتان وأربعون حلوبة سودا كخافية الغراب الأسحم «٢» (١) «نتقت» أي سمنت. وانظر رسالة الغفران ٤١٦. (٢) من معلقته. والضمير فى «فيها» يرجع إلى «حمولة أهلها» فى قوله : ما راعنى إلا حمولة أهلها وسط الديار تسف حب الخمخم و الحمولة : الإبل عليها الأثقال ، يريد تهيؤ أهلها للسفر. والحلوبة الناقة ذات اللبن ، والسود من الإبل عزيزة. وانظر الحزانة ٣/ ٣١٠ فقال : سودا ولم يقل : سود «١» وهى من نعت الاثنتين والأربعين للعلة التي أخبرتك بها. وقد قرأ بعض القرّاء «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا» ويقال إنه مجاهد فقط. (١) وقد روى هذا فى البيت أي رفع سود. |
﴿ ٢١٢ ﴾