٢٤٩

وقوله : فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ... (٢٩٤)

و فى إحدى «٢» القراءتين : إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ.

والوجه فى (إلّا) أن ينصب ما بعدها إذا كان ما قبلها لا جحد فيه ، فإذا كان ما قبل إلّا فيه جحد جعلت ما بعدها تابعا لما قبلها معرفة كان أو نكرة. فأما المعرفة فقولك : ما ذهب الناس إلا زيد. وأما النكرة فقولك :

ما فيها أحد إلّا غلامك ، لم يأت هذا عن العرب إلا بإتباع ما بعد إلا ما قبلها. وقال اللّه تبارك وتعالى : «ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ» «٣» لأن فى (فعلوه) اسما معرفة ، فكان الرفع الوجه فى الجحد الذي ينفى الفعل عنهم ، ويثبته لما بعد إلّا. وهى فى قراءة أبىّ «٤» «ما فعلوه إلا قليلا» كأنه نفى الفعل وجعل ما بعد إلّا كالمنقطع عن أوّل الكلام كقولك : ما قام القوم ، اللهم إلّا رجلا أو رجلين.

 (٢) هى قراءة ابن مسعود وأبىّ والأعمش كما فى البحر ٢/ ٢٦٦

(٣) آية ٦٦ سورة النساء.

(٤) وهى أيضا قراءة ابن عامر.

فإذا نويت الانقطاع نصبت ، وإذا نويت الاتّصال رفعت. ومثله قوله :

«فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ» «١» فهذا على هذا «٢» المعنى ، ومثله : «فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ» «٣» ثم قال : «إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ» فأوّل الكلام - وإن كان استفهاما - جحد لأن لو لا بمنزلة هلّا ألا ترى أنك إذا قلت للرجل : (هلّا قمت) أنّ معناه :

لم تقم. ولو كان ما بعد (إلّا) فى هاتين الآيتين رفعا على نيّة الوصل لكان صوابا مثل قوله : «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» «٤» فهذا نيّة وصل لأنه غير جائز أن يوقف على ما قبل (إلا).

وإذا لم تر قبل (إلا) اسما فأعمل ما قبلها فيما بعدها. فتقول : (ما قام إلا زيد) رفعت (زيدا) لإعمالك (قام) إذ لم تجد (قام) اسما بعدها. وكذلك : ما ضربت إلا أخاك ، وما مررت إلا بأخيك.

وإذا كان الذي قبل (إلا) نكرة مع جحد فإنك تتبع ما بعد إلا ما قبلها كقولك : ما عندى أحد إلّا أخوك. فإن قدّمت إلّا نصبت الذي كنت ترفعه فقلت : ما أتانى إلا أخاك أحد. وذلك أن (إلّا) كانت مسوقة على ما قبلها فاتّبعه ، فلما قدّمت فمنع أن يتبع شيئا هو بعدها فاختاروا الاستثناء. ومثله قول الشاعر :

لميّة موحشا طلل يلوح كأنه خلل «٥»

(١) آية ٩٨ سورة يونس. [.....]

(٢) يريد أن (لو لا) فيه للتحضيض والتوبيخ. وفيهما معنى النفي لما يطلب بها.

(٣) آية ١١٦ سورة هود.

(٤) آية ٢٢ سورة الأنبياء.

(٥) ينسب إلى كثير عزة. والخلل وأحدها الخلة - بكسر الخاء وشدّ اللام - وهى بطانة كانت تغشى بها أجفان السيوف منقوشة بالذهب. وانظر العيني على هامش الخزانة ٣/ ١٦٣ ، ويروى بدل البيت فى بعض الكتب.

لمية موحشا طلل قديم عفاه كل أسحم مستديم

و هو بهذه الصورة ينسب إلى ذى الرمة. وانظر الخزانة ١/ ٥٣١.

المعنى : لمية طلل موحش ، فصلح رفعه لأنه أتبع الطلل ، فلمّا قدّم لم يجز أن يتبع الطلل وهو قبله. وقد يجوز رفعه على أن تجعله كالاسم يكون الطلل ترجمة عنه كما تقول : عندى خراسانيّة جارية ، والوجه النصب فى خراسانية. ومن العرب من يرفع ما تقدّم فى إلّا على هذا التفسير. قال : وأنشدونا :

بالثنى أسفل من جمّاء ليس له إلّا بنيه وإلا عرسه شيع «١»

و ينشد : إلا بنوه وإلّا عرسه. وأنشد أبو ثروان :

ما كان منذ تركنا أهل أسنمة إلا الوجيف لها رعى ولا علف «٢»

و رفع غيره. وقال ذو الرّمة :

مقزّع أطلس الأطمار ليس له إلا الضراء وإلا صيدها نشب «٣»

و رفعه على أنه بنى كلامه على : ليس له إلا الضراء وإلا صيدها ، ثم ذكر فى آخر الكلام (نشب) ويبيّنه أن تجعل موضعه فى أوّل الكلام.

كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً وفى قراءة أبىّ كأيّن من فئة قليلة غلبت وهما لغتان. وكذلك وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ «٤» هى لغات كلّها معناهنّ معنى كم. فإذا ألقيت (من) كان فى الاسم النكرة النصب والخفض. من ذلك قول العرب : كم رجل كريم قد رأيت ، وكم جيشا جرّارا قد هزمت. فهذان وجهان ، ينصبان ويخفضان والفعل فى المعنى واقع. فإن كان الفعل ليس بواقع وكان للاسم جاز النصب أيضا

(١) الثنى : منعطف الوادي ومنقطعه. وجماء موضع. والبيت فى وصف أسد من قصيدة طويلة لأبى زبيد الطائىّ مدونة فى الطرائف الأدبية للأستاذ عبد العزيز الميمنى ٩٨.

(٢) من قصيدة لجرير يمدح فيها يزيد بن عبد الملك ويهجو آل المهلب. و(أسنمة) موضع فى بلاد تميم. والرعي : الكلأ يرعى.

(٣) من قصيدة التي أوّلها :

ما بال عينك منها الماء ينسكب كأنه من كلى مفرية سرب

و هو فى وصف صائد. والمقزع : الخفيف الشعر. وأطلس : أغبر. والأطمار وأحدها الطمر ، وهو الثوب الخلق. والضراء وأحدها ضرو ، وهو الكلب الضارى ، يريد كلاب الصيد ، والنشب : المال.

(٤) آية ١٤٦ سورة آل عمران.

و الخفض. وجاز أن تعمل الفعل فترفع به «١» النكرة ، فتقول : كم رجل كريم قد أتانى ، ترفعه بفعله ، وتعمل فيه الفعل إن كان واقعا عليه فتقول : كم جيشا جرّارا قد هزمت ، نصبته بهزمت. وأنشدوا قول الشاعر :

كم عمّة لك يا جرير وخالة فدعاء قد حلبت علىّ عشارى «٢»

رفعا ونصبا وخفضا ، فمن نصب قال : كان أصل كم الاستفهام ، وما بعدها من النكرة مفسّر كتفسير العدد ، فتركناها فى الخبر على جهتها وما كانت عليه فى الاستفهام فنصبنا «٣» ما بعد (كم) من النكرات كما تقول : عندى كذا وكذا درهما ، ومن خفض قال : طالت صحبة من للنكرة فى كم ، فلمّا حذفناها أعملنا إرادتها «٤» ، فخفضنا «٥» كما قالت العرب إذا قيل لأحدهم : كيف أصبحت؟ قال : خير عافاك اللّه ، فخفض ، يريد : بخير. وأما من رفع فأعمل الفعل الآخر ، [و] «٦» نوى تقديم الفعل كأنه قال : كم قد أتانى رجل كريم. وقال امرؤ القيس :

تبوص وكم من دونها من مفازة وكم أرض جدب دونها ولصوص «٧»

فرفع على نيّة تقديم الفعل «٨». وإنما جعلت الفعل مقدّما فى النيّة لأن النكرات لا تسبق أفاعيلها ألا ترى أنك تقول : ما عندى شىء ، ولا تقول ما شىء عندى.

(١) فى اللسان : «فيه».

(٢) هو للفرزدق من قصيدة يهجو فيها جريرا. والفدع : اعوجاج وعيب فى القدم. والعشار جمع العشراء. وهى الناقة التي أتى عليها من يوم أرسل عليها الفحل عشرة أشهر.

(٣) كذا فى اللسان (كمم) وفى الأصول : «فتكتبا» وهو تحريف.

(٤) كذا فى اللسان. وفى الأصول : «أراد بها» وهو تحريف.

(٥) حاصل هذا أن خفض تمييزكم الخبرية بالحرف (من) محذوفا. وهذا مذهب أصحابه الكوفيين.

والبصريون يرون الجر بإضافة كم.

(٦) زيادة من اللسان. [.....]

(٧) قبله مطلع القصيدة :

أ من ذكر سلمى أن نأتك تنوص فنقصر عنها خطوة أو تبوص

(تنوص) أي تتحول. «فتقصر عنها خطوة» أي تتأخر عنها «أو تبوص» البوص السبق والفوت ، أي تسبقها. أي أنك لا توافقها فى السير معها ، وهو يخاطب نفسه.

(٨) يريد بالفعل فى البيت (دونها) فإنها فى معنى استقرّ دونها.

﴿ ٢٤٩