٢٨٢

وقوله : إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ... (٢٨٢)

هذا الأمر ليس بفريضة ، إنما هو أدب ورحمة من اللّه تبارك وتعالى. فإن كتب فحسن ، وإن لم يكتب فلا بأس. وهو مثل قوله وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «٣» أي فقد أبيح لكم الصيد. وكذلك قوله فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ «٤» ليس الانتشار والابتغاء بفريضة بعد الجمعة ، إنما هو إذن.

وقوله وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ أمر الكاتب ألّا يأبى لقلّة الكتّاب كانوا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم.

وقوله فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ فأمر الذي عليه الدين بأن يملّ لأنه المشهود عليه.

ثم قال فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً يعنى جاهلا أَوْ ضَعِيفاً صغيرا أو امرأة أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ يكون عييّا بالإملاء فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ يعنى صاحب الدين. فإن شئت جعلت الهاء للذى ولى الدين ، وإن شئت جعلتها للمطلوب.

كلّ ذلك جائز.

 (٣) آية ٢ سورة المائدة.

(٤) آية ١٠ سورة الجمعة.

ثم قال تبارك وتعالى فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ أي فليكن رجل وامرأتان فرفع بالردّ على الكون. وإن شئت قلت : فهو رجل وامرأتان.

ولو كانا نصبا أي فإن لم يكونا رجلين فاستشهدوا رجلا وامرأتين «١». وأكثر ما أتى فى القرآن من هذا بالرفع ، فجرى هذا معه.

وقوله مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إحداهما بفتح أن ، وتكسر. فمن كسرها «٢» نوى بها الابتداء فجعلها منقطعة مما قبلها. ومن فتحها فهو أيضا على سبيل الجزاء إلا أنه نوى أن يكون «٣» فيه تقديم وتأخير. فصار الجزاء وجوابه كالكلمة الواحدة. ومعناه - واللّه أعلم - استشهدوا امرأتين مكان الرجل كيما تذكّر الذاكرة الناسية إن نسيت فلمّا تقدّم الجزاء اتّصل بما قبله ، وصار جوابه مردودا عليه.

ومثله فى الكلام قولك : (إنه ليعجبنى أن يسأل السائل فيعطى) فالذى يعجبك الإعطاء إن يسأل ، ولا يعجبك المسألة ولا الافتقار. ومثله : استظهرت بخمسة أجمال أن يسقط مسلم فأحمله ، إنما استظهرت بها لتحمل الساقط ، لا لأن يسقط مسلم. فهذا دليل على التقديم والتأخير.

ومثله فى كتاب اللّه وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا «٤» ألا ترى أن المعنى : لو لا أن يقولوا إن أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم : هلّا أرسلت إلينا رسولا. فهذا مذهب بيّن.

(١) الجواب محذوف ، أي لجاز ، مثلا.

(٢) وهو حمزة. وفى هذه القراءة «فتذكر» بالرفع على الاستئناف.

(٣) وذلك أن الفتح على تقدير (لأن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) والأصل فى هذا :

لأن تذكر إحداهما الأخرى إن تضل.

(٤) آية ٤٧ سورة القصص.

و قوله : وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا إلى الحاكم.

إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً ترفع وتنصب «١». فإن شئت جعلت تُدِيرُونَها فى موضع «٢» نصب فيكون لكان مرفوع ومنصوب. وإن شئت جعلت «تُدِيرُونَها» فى موضع رفع «٣». وذلك أنه «٤» جائز فى النكرات أن تكون أفعالها تابعة لأسمائها لأنك تقول : إن كان أحد صالح ففلان ، ثم تلقى (أحدا) فتقول : إن كان صالح ففلان ، وهو غير موقّت «٥» فصلح نعته مكان اسمه إذ كانا جميعا غير معلومين ، ولم يصلح ذلك فى المعرفة لأن المعرفة موقّتة معلومة ، وفعلها «٦» غير موافق للفظها ولا لمعناها.

فإن قلت : فهل يجوز أن تقول : كان أخوك القاتل ، فترفع لأن الفعل معرفة والاسم معرفة فترفعا «٧» للاتفاق إذا كانا معرفة كما ارتفعا للاتفاق فى النكرة؟

قلت : لا يجوز ذلك من قبل أن نعت المعرفة دليل عليها إذا حصّلت «٨» ، ونعت النكرة متّصل بها كصلة الذي. وقد أنشدنى المفضّل الضّبىّ :

أفاطم إنى هالك فتبيّنى ولا تجزعى كلّ النساء يئيم

و لا أنبأن بأنّ وجهك شانه خموش وإن كان الحميم الحميم «٩»

(١) النصب قراءة عاصم ، وقرأ عامة القراء بالرفع.

(٢) أي على قراءة النصب إذ تكون الجملة صفة لتجارة المنصوبة خبرا ، واسمها مستتر أي المعاملة والتجارة.

(٣) أي على أن الجملة صفة لتجارة المرفوعة فاعلا لكان التامة. [.....]

(٤) سقط فى ج.

(٥) يريد بالموقت المعرفة.

(٦) يريد بالفعل هنا الصفة.

(٧) أي المعرفتان : وفى ح : «فترتفعا».

(٨) أي قومت. وفى ش ، ح : «جعلت» ويبدو أنه تحريف عما أثبتنا.

(٩) يقال خمشت المرأة وجهها إذا خدشته ، ويكون ذلك عند الحزن ، والحميم : القريب.

ينهاها عن الحزن ومظاهره على ميت ، وإن كان حميما لها قريبا.

فرفعهما. وإنما رفع الحميم الثاني لأنه تشديد «١» للأول. ولو لم يكن فى الكلام الحميم لرفع الأول. ومثله فى الكلام : ما كنا بشىء حين كنت ، تريد حين صرت وجئت ، فتكتفى (كان) بالاسم «٢».

ومما يرفع من النكرات قوله وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ وفى قراءة عبد اللّه وأبىّ «و إن كان ذا عسرة» فهما جائزان إذا نصبت أضمرت فى كان اسما كقول الشاعر «٣» :

للّه قومى أىّ قوم لحرّة إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا!

و قال آخر :

أ عينىّ هلّا تبكيان عفاقا «٤» إذا كان «٥» طعنا بينهم وعناقا

و إنما احتاجوا إلى ضمير الاسم فى (كان) مع المنصوب لأن بنية (كان) على أن يكون لها مرفوع ومنصوب ، فوجدوا (كان) يحتمل صاحبا مرفوعا فأضمروه مجهولا.

وقوله فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ» «٦» فقد أظهرت الأسماء «٧». فلو قال : فإن كان نساء جاز الرفع «٨» والنصب. ومثله «إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ» «٩» ومثله

(١) أى توكيد له.

(٢) يريد بالاسم هنا فاعل كان التامة.

(٣) فى سيبويه ١/ ٢٢ عز ومثل هذا البيت إلى عمرو بن شأس. والبيت فيه :

بنى أسد هل تعلمون بلاءنا إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا

و قوله : «إذا كان يوما» أى إذا كان هو أى يوم الواقعة أو يوم القتال ، مثلا.

(٤) عفاق اسم رجل. وقد يكون هذا عفاق بن مرى الذى يقول فيه صاحب القاموس : «أخذه الأحدب بن عمرو الباهلى فى قحط وشواه وأكله».

(٥) أى إذا كان (هو) أى القتال والجلاد.

(٦) آية ١١ سورة النساء.

(٧) يريد نون النسوة اسم كان. أى فإن كانت المتروكات أو الوارثات.

(٨) فالرفع على أن كان تامة ، والنصب على أنها ناقصة. [.....]

(٩) الآية ٢٩ سورة النساء.

«إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً» «١» ومن قال (تكون ميتة) جاز فيه الرفع والنصب. وقلت (تكون) لتأنيث الميتة ، وقوله «إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ» «٢»

فإن قلت : إن المثقال ذكر فكيف قال (تكن) «٣» قلت : لأن المثقال أضيف إلى الحبّة وفيها المعنى كأنه قال : إنها إن تك حبّة وقال الشاعر :

على قبضة مرجوّة ظهر كفّه فلا المرء مستحى ولا هو طاعم

لأنه ذهب إلى الكفّ ومثله قول الآخر «٤» :

و تشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم

و قوله :

أبا عرو لا تبعد فكلّ ابن حرّة ستدعوه داعى موتة فيجيب «٥»

فأنّث فعل الداعي وهو ذكر لأنه ذهب إلى الموتة. وقال الآخر «٦» :

قد صرّح السير عن كتمان وابتذلت وقع المجاجن بالمهريّة الذّقن «٧»

فأنث فعل الوقع وهو ذكر لأنه ذهب إلى المحاجن.

وقوله وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ أي لا يدع كاتب وهو مشغول ، ولا شهيد.

(١) آية ١٤٥ سورة الأنعام.

(٢) آية ١٦ سورة لقمان. قرئ مثقال حبة بالرفع والنصب.

(٣) أي التي هى أصل تك ، فحذفت منها النون.

(٤) هو الأعشى ميمون يقوله فى عمير - وهو جهام - وكان بينهما عداوة. وانظر الصبح المنير ٩٤ ، والكتاب ١/ ٢٥. وفى الشنتمرى فى حاشيته أن الأعشى يخاطب يزيد بن مسهر الشيباني ، وهو خلاف ما ذكرناه.

(٥) ذكره فى الخزانة ١/ ٣٧٧ ولم يعزه.

(٦) هو تميم بن أبى بن مقبل.

(٧) كتمان : اسم موضع ، وقيل : اسم جبل. والذقن جمع الذقون ، وهى من الإبل : التي تميل ذقنها إلى الأرض ، تستعين بذلك على السير ، وقيل هى السريعة. أي ابتذلت المهرية - وهى المنسوبة إلى مهرة - الذقن بوقع المحاجن فيها تستحث على السير ، فقلبه وأنث ، وقوله ، «صرح السير عن كتمان» أي كشف السير عن هذا المكان.

﴿ ٢٨٢