٣٨

وقوله : هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ... (٣٨)

الذرّية جمع ، وقد تكون فى معنى واحد. فهذا من ذلك لأنه قد قال :

فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا «٣» ولم يقل أولياء. وإنما قيل «طيبة» ولم يقل طيبا لأن الطيبة أخرجت على لفظ الذرّية فأنث لتأنيثها ، ولو قيل ذرّية طيبا كان صوابا.

ومثله من كلام العرب قول الشاعر :

أبوك خليفة ولدته أخرى وأنت خليفة ذاك الكمال

فقال (أخرى) لتأنيث اسم الخليفة ، والوجه أن تقول : ولده آخر. وقال آخر.

فما تزدرى من حيّة جبليّة سكات إذا ما عضّ ليس بأدردا «٤»

 (٣) آية ٥ سورة مريم.

(٤) «جبلية» يقال للحية ابنة الجبل ، فلذلك قال : جبلية. و«سكات» : لا يشعر به الملسوع حتى يلسعه. وأدرد : صفة من الدرد ، وهو ذهاب الأسنان ، ومؤنثه درداء. وانظر اللسان فى (سكت).

فقال : جبليّة ، فأنّث لتأنيث اسم الحيّة ، ثم ذكّر إذ قال : إذا ما عضّ ولم يقل :

عضّت. فذهب إلى تذكير المعنى. وقال الآخر «١» :

تجوب بنا الفلاة إلى سعيد إذا ما الشّاة فى الأرطاة قالا

و لا يجوز هذا النحو إلا فى الاسم الذي لا يقع عليه فلان مثل «٢» الدابّة والذرّية والخليفة فإذا سميت رجلا بشىء من ذلك فلتأنيث الاسم ، وأن الجماعة من الرجال والنساء وغيرهم يقع عليه «٤» التأنيث. والملائكة فى هذا الموضع جبريل صلى اللّه عليه وسلّم وحده. وذلك جائز فى العربيّة : أن يخبر عن الواحد بمذهب الجمع كما تقول فى الكلام : خرج فلان فى السفن ، وإنما خرج فى سفينة واحدة ، وخرج على البغال ، وإنما ركب بغلا واحدا. وتقول : ممّن سمعت هذا الخبر؟

فيقول : من الناس ، وإنما سمعه من رجل واحد. وقد قال اللّه تبارك وتعالى :

وَ إِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ «٥» ، وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ «٦» ومعناهما واللّه أعلم واحد :

و ذلك جائز فيما لم يقصد فيه قصد واحد بعينه.

وقوله وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ تقرأ بالكسر. والنصب فيها أجود فى العربيّة. فمن فتح (أنّ) أوقع النداء عليها كأنه قال : نادوه بذلك أن اللّه يبشرك. ومن كسر قال : النداء «٧» فى مذهب القول ، والقول حكاية. فاكسر إنّ بمعنى الحكاية. وفى قراءة عبد اللّه فناداه الملائكة وهو قائم يصلّى فى المحراب يا زكريا إن اللّه يبشرك فإذا أوقع النداء على منادى ظاهر مثل (يا زَكَرِيَّا) وأشباهه كسرت (إن) لأن الحكاية تخلص ، إذا كان ما فيه (يا) ينادى بها ، لا يخلص إليها رفع ولا نصب ألا ترى أنك تقول : يا زيد إنك قائم ، ولا يجوز يا زيد أنك قائم. وإذا قلت :

(١) قرأ العامة : «فنادته الملائكة» ، بالتأنيث ، وقرأ حمزة والكسائي : «فناداه الملائكة».

(٢) آية ٤ سورة المعارج.

(٣) آية ٢٨ سورة النحل.

(٤) الضمير يعود على الجماعة ، بتأويلها بالجمع. وهذا إن لم يكن الأصل : «عليها». [.....]

(٥) آية ٣٣ سورة الروم.

(٦) آية ٨ سورة الزمر.

(٧) فى ج ، ش : «فى النداء» والوجه ما أثبت.

ناديت زيدا أنه قائم فنصبت (زيدا) بالنداء جاز أن توقع النداء على (أنّ) كما أوقعته على زيد. ولم يجز أن تجعل إنّ مفتوحة إذا قلت يا زيد لأن زيدا لم يقع عليه نصب معروف. وقال فى طه : «فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ» «١» فكسرت (إنى). ولو فتحت كان صوابا من الوجهين

أحدهما أن تجعل النداء واقعا على (إنّ) خاصّة لا إضمار «٢» فيها ، فتكون (أنّ) فى موضع رفع. وإن شئت جعلت فى (نودى) اسم موسى مضمرا ، وكانت (أنّ) فى موضع نصب تريد : بأنى أنا ربك. فإذا خلعت الباء نصبته. فلو قيل فى الكلام : نودى أن يا زيد فجعلت (أن يا زيد) [هو المرفوع بالنداء] «٣» كان صوابا كما قال اللّه تبارك وتعالى : «وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا» «٤».

فهذا ما فى النداء إذا أوقعت (إن) قيل يا زيد ، كأنك قلت : نودى بهذا النداء إذا أوقعته على اسم بالفعل فتحت أن وكسرتها. وإذا ضممت إلى النداء الذي قد أصابه الفعل اسما منادى فلك أن تحدث (أن) معه فتقول ناديت أن يا زيد ، فلك أن تحذفها من (يا زيد) فتجعلها فى الفعل بعده ثم تنصبها.

ويجوز الكسر على الحكاية.

ومما يقوّى مذهب من أجاز «إن اللّه يبشرك» بالكسر على الحكاية قوله :

«وَ نادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» «٥» ولم يقل : أن ليقض علينا ربك. فهذا مذهب الحكاية. وقال فى موضع آخر «وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا» «٦» ولم يقل : أفيضوا ، وهذا أمر وذلك أمر لتعلم أن الوجهين صواب.

(١) آيتا ١١ ، ١٢

(٢) أي أن كلمة «نودى» ليس فيها مضمر مرفوع هو نائب الفاعل ، وإنما المرفوع بها هو أنى ....

(٣) زيادة يقتضيها السياق.

(٤) آيتا ١٠٤ - ١٠٥ سورة والصافات.

(٥) آية ٧٧ سورة الزخرف.

(٦) آية ٥٠ سورة الأعراف.

و «يبشرك» قرأها [بالتخفيف ] «١» أصحاب عبد اللّه فى خمسة مواضع من القرآن : فى آل عمران حرفان «٢» ، وفى بنى «٣» إسرائيل ، وفى الكهف «٤» ، وفى مريم «٥». والتخفيف والتشديد صواب. وكأنّ المشدّد على بشارات البشراء ، وكأن التخفيف من وجهة الإفراح والسرور. وهذا شىء كان المشيخة يقولونه. وأنشدنى بعض العرب :

بشرت عيالى إذ رأيت صحيفة أتتك من الحجّاج يتلى كتابها

و قد قال بعضهم : أبشرت ، ولعلّها لغة حجازيّة. وسمعت سفيان بن عيينة يذكرها يبشر «٦». وبشرت لغة سمعتها من عكل ، ورواها الكسائىّ عن غيرهم. وقال أبو ثروان :

بشرنى بوجه حسن. وأنشدنى الكسائىّ :

و إذا رأيت الباهشين إلى العلى غبرا أكفّهم بقاع ممحل «٧»

فأعنهم وابشر بما بشروا به وإذا هم نزلوا بضنك فانزل

و سائر القرآن يشدّد فى قول أصحاب عبد اللّه وغيرهم.

وقوله : يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً نصبت (مصدّقا) لأنه نكرة ، ويحيى معرفة.

وقوله : بِكَلِمَةٍ يعنى مصدّقا بعيسى.

(١) زيادة يقتضيها السياق. يريد بالتخفيف قراءة الفعل (يبشر) على وزن ينصر.

(٢) هما فى آيتي ٣٩ ، ٤٥.

(٣) فى آية ٩.

(٤) فى آية ٢.

(٥) فى آية ٩٧. [.....]

(٦) فى اللسان : «فليبشر».

(٧) هذا الشعر من قصيدة مفضلية لعبد قيس بن خفاف البرجمىّ ، يوصى فيها ابنه جبيلا. والباهش هو الفرح ، كما قال الضبىّ ، أو هو المتناول. وقوله : «و ابشر بما بشروا به» فى رواية المفضليات :

«و أيسر بما يسروا به» ، أي ادخل معهم فى الميسر ولا تكن بر ما تنكب عنهم فإن الدخول فى الميسر من شيمة الكرماء عندهم إذ كان ما يخرج منه يصرف لذوى الحاجات. وانظر شرح المفضليات لابن الأنبارى ص ٧٥٣.

و قوله : وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مردودات على قوله : مصدّقا.

ويقال : إن الحصور : الذي لا يأتى النساء.

وقوله : أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ إذا أردت الاستقبال المحض نصبت (تكلّم) وجعلت (لا) على غير معنى ليس. وإذا أردت : آيتك أنك على هذه الحال ثلاثة أيام رفعت ، فقلت : أن لا تكلّم الناس ألا ترى أنه يحسن أن تقول : آيتك أنك لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا. والرمز يكون بالشفتين والحاجبين والعينين. وأكثره فى الشفتين. كلّ ذلك رمز.

﴿ ٣٨