١٥٤

وقوله : ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ ... (١٥٤)

تقرأ بالتاء «٢» فتكون للأمنة وبالياء فيكون للنعاس ، مثل قوله يَغْلِي فِي الْبُطُونِ «٣» وتغلى ، إذا كانت (تغلى) فهى الشجرة ، وإذا كانت (يغلى) فهو للمهل.

وقوله : يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ ، وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ترفع الطائفة بقوله (أهمتهم) بما «٤» رجع من ذكرها ، وإن شئت رفعتها «٥» بقوله يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ولو كانت نصبا لكان صوابا مثل قوله فى الأعراف : فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ «٦».

وإذا رأيت «٧» اسما فى أوّله كلام وفى آخره فعل قد وقع على راجع ذكره جاز فى الاسم الرفع والنصب. فمن ذلك قوله : وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ «٨» وقوله :

وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ «٩» يكون نصبا ورفعا. فمن نصب جعل الواو

 (٢) أي تغشى.

(٣) آية ٤٥ سورة الدخان.

(٤) يريد أن «طائفة» مبتدأ خبره جملة «أهمتهم» ورافع المبتدأ عندهم فى مثل هذا ما يعود على المبتدإ من الضمير.

(٥) يريد على هذا الوجه أن تكون جملة «أهمتهم أنفسهم» صفة «طائفة» فأما الخبر فهو جملة : «يظنون».

(٦) آية ٣٠.

(٧) يريد ما يعرف فى النحو بحدّ الاشتغال.

(٨) آية ٤٧ سورة الذاريات.

(٩) آية ٤٨ من السورة السابقة. [.....]

كأنها ظرف للفعل متصلة بالفعل ، ومن رفع جعل الواو للاسم ، ورفعه بعائد ذكره كما قال الشاعر :

إن لم اشف النفوس من حىّ بكر وعدىّ تطاه جرب الجمال «١»

فلا تكاد العرب تنصب مثل (عدىّ) فى معناه لأن الواو لا يصلح نقلها إلى الفعل ألا ترى أنك لا تقول «٢» : وتطأ عديّا جرب الجمال. فإذا رأيت الواو تحسن فى الاسم جعلت الرفع وجه الكلام. وإذا رأيت الواو يحسن فى الفعل جعلت النصب وجه الكلام. وإذا رأيت ما قبل الفعل يحسن للفعل والاسم جعلت الرفع والنصب سواء ، ولم يغلّب واحد على صاحبه مثل قول الشاعر «٣» :

إذا ابن أبى موسى بلالا أتيته فقام بفأس بين وصليك جازر

فالرفع «٤» والنصب فى هذا سواء.

وأما قول اللّه عز وجل : وأما ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ «٥» فوجه الكلام فيه الرفع لأن أمّا تحسن فى الاسم ولا تكون مع الفعل.

(١) قبله :

ثكلتنى عند الثنية أمي وأتاها نعىّ عمىّ وخالى

و يريد بعدىّ المهلهل. والشعر فى الأغانى طبع الدار ٥/ ٥٨.

(٢) وذلك أن هذه جملة حالية ، وإذا كان صدرها مضارعا لا تدخل عليها الواو.

(٣) هو ذو الرمة. وهذا من قصيدة فى مدح بلال بن أبى بردة بن أبى موسى الأشعرىّ أمير البصرة وقاضيها. وقبل البيت الشاهد :

أقول لها إذ شمر السير واستوت بها البيد واستنت عليها الحرائر

و هو يخاطب ناقته. وتشمير السير الارتفاع به والسير فيه ، والحرائر جمع الحرور وهى ريح السموم ، يدعو على ناقته أن تذبح إذا بلغته الممدوح لأنه يغنيه عنها بحبائه. وانظر ديوان ذى الرمة ٢٥٣ والخزانة ١/ ٤٥٠.

(٤) من البين أنه على الرفع يقرأ «بلال». وهو ما فى الديوان. ويقول صاحب الخزانة : «و قد رأيته مرفوعا فى نسختين صحيحتين من إيضاح الشعر لأبى علىّ الفارسىّ إحداهما بخط أبى الفتح عثمان ابن جنىّ».

(٥) آية ١٧ سورة فصلت.

و أمّا قوله : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما «١» فوجه الكلام فيه الرفع لأنه غير موقّت فرفع كما يرفع الجزاء ، كقولك : من سرق فاقطعوا يده. وكذلك قوله وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ «٢» معناه واللّه أعلم من (قال الشعر) «٣» اتبعه الغاوون.

ولو نصبت قوله (والسارق والسارقة) بالفعل كان صوابا.

وقوله وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ «٤» العرب فى (كل) تختار الرفع ، وقع الفعل على راجع الذكر أو لم يقع. وسمعت العرب تقول وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ بالرفع وقد رجع ذكره. وأنشدونى «٥» فيما لم يقع الفعل على راجع ذكره :

فقالوا تعرّفها المنازل من منى وما كلّ من يغشى منى أنا عارف «٦»

ألفنا ديارا لم تكن من ديارنا ومن يتألّف بالكرامة يألف

فلم يقع (عارف) على كلّ وذلك أن فى (كل) تأويل : وما من أحد يغشى منى أنا عارف ، ولو نصبت لكان صوابا ، وما سمعته إلا رفعا. وقال الآخر :

قد علقت أمّ الخيار تدّعى علىّ ذنبا كلّه لم أصنع «٧»

رفعا ، وأنشدنيه بعض بنى أسد نصبا.

(١) آية ٣٨ سورة المائدة.

(٢) آية ٢٢٤ سورة الشعراء.

(٣) كذا فى ج. وفى ش : «قرأ الشعراء» والشعراء محرفة عن الشعر.

(٤) آية ١٣ سورة الإسراء.

(٥) كذا فى ج. وفى ش : «أنشدنى».

(٦) انظر ص ١٣٩ من هذا الجزء.

(٧) انظر ص ١٤٠ من هذا الجزء.

و قوله قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ فمن رفع جعل (كل) اسما فرفعه باللام فى للّه كقوله «١» وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ «٢» ومن نصب (كله) جعله من نعت «٣» الأمر.

(١) يريد أن رفع «كله» فى الآية على أنه مبتدأ خبره ما بعده يشبه ما فى الآية التالية إذ رفع (وجوههم) على أنه مبتدأ خبره (مسودة). ويصح فى العربية نصب (وجوههم) على أنه بدل من الموصول.

(٢) آية ٦٠ سورة الزمر. [.....]

(٣) يجعله البصريون توكيدا ، كما هو معروف.

﴿ ١٥٤