٣٩

وقوله عزَّ وجلَّ : (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّه يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّه وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩)

(فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ) و (فناداه الملائكةُ).

الوجهان جميعاً جائزان ، لأن الجماعة يلحقها اسم التأنيث ، لأن معناها معنى جماعة ، ويجوز أن يعبر عنها بلفظ التذكير . كما يقال جمع الملائكة.

ويجوز أن تقول نادته الملائكة وِإنما ناداه جبرائيل وحده لأن

أتاه النداءُ من هذا الجنس ، كما نقول ركب فلان في السفن ، وإنما ركب سفينة واحدة ، تريد بذلك جعل ركوبه في هذا الجنس.

ويجوز (أن اللّه يُبَشَرك) (إِن اللّه يُبَشِرُكَ) بفتح إن وكسرها فمن فتح

فالمعنى نادته بأن اللّه يبشرك أي نادته بالبشارة ، ومن كسر أراد قالت الملائكة : إن اللّه يبشرك . و (إنَّ) بعد القول أبداً مكسورة.

وفي (يبشرك) ثلاث لغات : (إِنَّ اللّه يُبَشِّرُكَ) بفتح الباءِ وتشديد الشين

وهي قراءَة كثيرة جدا ، ويبْشُرُكِ - بإسكان الباءِ وضم الشَين ، وقرأ حميد.

وحده " يُبْشِرُكِ " - بضم الياءِ وإسكان الباءِ وكسر الشين ، فمعنى يُبَشرك.

وَيبْشرك : البشارة ، ومعنى يُبشرك يسزك ويفرحك . يقال بشرت الرجل أبشره وأبشُرُه إذا افرَحته ، ويقال بَشُرَ الرجل يَبْشرُ.

وأنشد الأخفش والكسائي وجماعة من النحوين :

وإذا لقيت الباهشين إلى النَدا . . . غبراً أكفُّهُمْ بقاع مُمْحِل

فأعنهم وابْشُر بمَا بَشروا به . . . وإذا هم نزلوا بضنك فانزل

فهذا على بشر يبشُر إذا فرح ، وأصل هذا كله من أنَّ بشرة الإنسان تنبسط

عند السرور ، ومن هذا قولهم فلان يلقاني بِبشْرٍ ، أي بوجه منبسط.

ويحيى اسم سماه اللّه تعالى . تولى هو - عزَّ وجلَّ - ذلك ولم يسم أحد قَبْل

يحيى بيحيى ، ويحيى لا يتصرف عربيا كان  أعجميًّا ، لأنَّه إن كان أعجميا فقد اجتمع فيه العجمة والتعريف ولو كان عربياً لم ينصرف لشبهه بالفعل وأنه معرفة علم.

ونصب (مصدقاً) على الحال.

ومعنى (مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّه) أي يُصَدِّق بأمْر عيسى لأن يحيى فُرِضَ

عليه - وإن كان يحيى أسن من عيسى - اتباعُ عيسى.

ومعنى (سَيِّدًا وَحَصُورًا).

السيِّد الذي يفوق في الخير قومه ، ومعنى (حصوراً) أي لا يأتي النَساءَ ، وإنما

قيل للذي لا يأتي النَساءَ حصور لأنه حُبِسَ عما يكون من الرجال ، كما يقال في الذي لا يتيسر له الكلام قد حُصِرَ في منطقه ، والحصور الذي لا ينفق على

النَّدامى ، وهو ممن يُفْضِلْونَ عليه

قال الشاعر :

وشاربٍ مُربح بالكاس نادمني . . . لا بالحَصُور ولا فيها بسوار

ويروى ولا فيها بسَئار ، أني نادمني وهو كريم منفق على الندامي ، والسؤار

المُعَرْبِد يُساوِر نديمهْ أيَ يَثبُ عليه ، والسار الذي يُفْضِل في إنائه إذا شرب.

والحصور الذي يكتم السر ، أي يحبس السر في نفسه

قال جرير.

ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا . . . حَصِراً بسرك يا أميمَ ضنينا

والحصير هذا المرمُول الذي يُجلس عليه ، إنما سمي حصيراً لأنه

دوخل بعضه في بعض في النسيج أي حبس بعضه على بعض.

ويقال للسجْن الحصير لأنَّ الناس يُحصرون فيه ، ويقال حصرت الرجلَ إذا حبسته ، وأحصره المرض إِذا منعه من السير ، (والحصير الملك)

وقول اللّه - جل وعلا : (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) أي حبسا.

ويقال أصاب فلاناً حَصَرٌ.

إِذا احتبس عليه بطنه ، ويقال في البول أصابه أسر إذا احتبس عليه بوله.

ومعنى (مِنَ الصَّالِحِينَ) الصالح الذي يؤَدي إِلى اللّه ما عليه ويؤَدي إلى

الناس حقوقهم.

* * *

﴿ ٣٩