٢٠وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (٢٠) هذا احتجاج عليهم في قولهم : (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ). فقيل لهم : كذلك كان مَنْ خَلَا من الرسل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، فكيف يكون محمدٌ - صلى اللّه عليه وسلم - بدعاً من الرسُل . فأمَّا دخول " إِنَّهُمْ " بعد " إلا " فهو على تَأوِيلِ ما أَرْسَلْنَا رُسلاً إلا همْ يأكلون الطعام ، وإلا أنهم لَيَأكلون الطعام ، وحذِفَتْ زسًلاً لأن " من " في قوله تعالى (مِنَ الْمُرْسَلِينَ) دليل على ما حذف منه ، فأمَّا مثل اللامِ بعد " إلَّا " فَقَولُ الشَاعِر : ما أَنطياني ولاَ سَاَلْتُهمَا . . . إلا وإني لَحاجز كرمي يريد أعطياني ، وزعم بعض النحويين أن " مَنْ " بعد إلا مَحْذُوفَة ، كان عِنْدَه إلا " مَنْ " ليأكلون الطعام. وهذا خطأ بيَّنَ ، لأنَّ " مَن " صِلَتها " أَنَّهم ليأكون " ، فلا يجوز حذف الموصول وتبقيةُ الصلَةِ (١). * * * و (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً). فيه قولان : قيل كان الرجل الشريف ربمَا أراد الإسلام فعلم أن مَنْ دُونَه فِي الشَرَفِ قد أسْلم قبلَه فيمتنع من الإسلام لئلا يقال أسلم قبله من هو دونَهُ ، وقيل كان الفقير يقول : لِمَ لَمْ أُجْعَلْ بِمَنْزِلَةِ الغَنِيِّ ، ويقول ذو البلاء : لِمَ لَمْ أُجعل بمنزلة المُعَافى ، نحو الأعمى والزَّمِن ومن أشبه هُؤلاءِ. وقوله تعالى : (أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا). __________ (١) قال السَّمين : إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ : في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّها في محلِّ نصبٍ صفةً لمفعولٍ محذوفٍ ، فقدِّره الزمخشريُّ تابعاً للزجَّاج : « وما أَرْسَلْنا قبلَك أحداً من المرسلين إلاَّ آكلين وماشِين » وإنما حُذِف لمكانِ الجارِّ بعدَه . وقَدَّره ابنُ عطية : « رجالاً رُسُلاً » . والضميرُ في « إنهم » وما بعدَه عائدٌ على هذا الموصوفِ المحذوفِ . و الثاني : أنه لا محلَّ لها من الإِعرابِ ، وإنما هي صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ هو المفعولُ لأَرْسَلْنا ، تقديرُه : إلاَّ مَنْ إنهم ، فالضميرُ في « إنهم » وما بعدَه عائدٌ على معنى « مَنْ » المقدرةِ ، وإليه ذهب الفراء . وهو مردودٌ : بأنَّ حَذْفَ الموصولِ لا يجوزُ إلاَّ في مواضعَ تَقَدَّم التنبيهُ عليها في البقرةِ . الثالث : أنَّ الجملةَ محلُّها النصبُ على الحالِ . وإليه ذهب أبو بكر بن الأنباري . قال : التقديرُ : إلاَّ وإنهم ، يعني أنَّها حاليةٌ ، فقدَّر معها الواوَ بياناً للحالية . ورُدَّ : بكونِ ما بعدَ « إلاَّ » صفةً لِما قبلَها . وقدَّره أبو البقاء أيضاً. والعامَّةُ على كسرِ « إنَّ » لوجودِ اللامِ في خبرِها ، ولكونِ الجملةِ حالاً على الراجحِ . قال أبو البقاء : « وقيل : لو لم تكنِ اللامُ لكُسِرَتْ أيضاً؛ لأنَّ الجملةَ حاليةٌ ، إذ : إلاَّ وهم [ يأْكلون » ] . وقُرِىء « أنهم » بالفتح على زيادةِ اللامِ ، و « أَنْ » مصدريةٌ . التقدير : إلاَّ لأنَّهم . أي : ما جَعَلْناهم رسلاً إلى الناسِ إلاَّ لكونِهم مِثْلَهم. وقرأ العامَّةُ « يَمْشُوْن » خفيفةً . وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعبد اللّه « يُمَشَّوْن » مشدَّداً مبنياً للمفعولِ . أي : تُمَشِّيهم حوائجُهم الناسُ . وقرأ [ أبو ] عبد الرحمن « يُمَشُّون » بالتشديدِ مبنياً للفاعل ، وهي بمعنى « يَمْشُون » . قال الشاعر : ٣٤٧٩ ومشى بأعطانِ المَبَأءَةِ وابتغى . . . قلائِصَ مِنْها صَعْبَةٌ ورَكُوْبُ قال الزمخشري : « ولو قُرِىء » يُمَشُّون « لكان أوجهَ ، لولا الروايةُ » يعني بالتشديد. قلت : قد قرأ بها السُّلَمِيُّ وللّه الحمد . اهـ (الدُّرُّ المصُون). أي أتصبرون على البلاء فقد عُرفْتُمْ مَا وُعِدَ الصابرون. * * * |
﴿ ٢٠ ﴾