٢٨

وفي قوله تعالى : (اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (٢٨)

(أَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) - خمسةُ أوْجه :

فاَلْقِهِي إليْهِم بإثبات الياء - وهو أكثر القراءة ، ويجوز فألْقِهِ -

إلَيْهِمْ بحذف الياء وإثبات الكسرة ، لأن أصله فألقيه إلَيْهِم.

فحذفت الياء للجزم ، أعني ياء ألقيه ، ويجوز فَاَلْقِهُو إليهم بإثبات الواو.

ويجوز فألقِهُ إليهم بالضمِّ ، وحُذِفَتِ الواو ، وقد قُرئ فألقِهْ إليهم

بإسكان الهاء ، فأمَّا إثبات الياء فهو أَجْوَدُها فألقهي ، فإن الياء التي

تسقط للجزم قَدْ سقطت قبل الهاء ، لأن الأصل فألقيه إليهم ، ومن

حذف الياء وترك الكسرة بعد الهاء فلأنَّهُ كان إذا أثبت الياء في قولك

أنا ألقيه إليهم كان الاختيار حذف الياء التي بعد الهاء.

وقد شرحنا ذلك في قوله (يُؤدِّه إِليك) شرحاً كافياً.

ومن قرأ (فألقِهو إليهم) ردَّه إلى أصله ، والأصل إثبات الواو مع هاء

الإِضمار . تقول ألقيتهو إليك.

ومعنى قولنا إِثبات الواو والياء أعني في اللفظ ووصل الكلام ، فإذا وقفت وقفت بهاء ، وإذا كتبت كَتَبْتَ

__________

(١) قال السَّمين :

  أَلاَّ يَسْجُدُواْ  : قرأ الكسائيُّ بتخفيف « ألا » ، والباقون بتشديدها . فأمَّا قراءةُ الكسائيِّ ف « ألا » فيها تنبيهٌ واستفتحاحٌ ، و « يا » بعدها حرفُ نداءٍ  تنبيهٍ أيضاً على ما سيأتي و « اسْجُدوا » فعلُ أمرٍ . وكان حَقٌّ الخَطِّ على هذه القراءةِ أن يكونَ « يا اسْجُدوا » ، لكنَّ الصحابةَ أسقطُوا ألفَ « يا » وهمزةَ الوصلِ من « اسْجُدوا » خَطَّاً لَمَّا سَقَطا لفظاً ، ووَصَلُوا الياءَ بسين « اسْجُدوا » ، فصارَتْ صورتُه « يَسْجُدوا » كما ترى ، فاتَّحدت القراءتان لفظاً وخَطَّاً واختلفتا تقديراً.

واختلف النحويون في « يا » هذه : هل هي حرفُ تنبيهٍ  للنداءِ ، والمنادى محذوفٌ تقديرُه : يا هؤلاءِ اسْجُدوا؟ وقد تقدَّم ذلك عند   ياليتني  [ الآية : ٧٣ ] في سورة النساء . والمرجَّحُ أَنْ تكونَ للتنبيهِ؛ لئلا يُؤَدِّيَ إلى حَذْفٍ كثيرٍ مِنْ غيرِ بقاءِ ما يَدُلُّ على المحذوفِ . ألا ترى أنَّ جملةَ النداءِ حُذِفَتْ ، فلو ادَّعَيْتَ حَذْفَ المنادى كَثُرَ الحذفُ ولم يَبْقَ معمولٌ يَدُلُّ على عامِلِهِ ، بخلافِ ما إذا جَعَْلتَها للتنبيهِ . ولكنْ عارَضَنَا هنا أنَّ قبلَها حرفَ تنبيهٍ آخرَ وهو « ألا » . وقد اعْتُذِرَ عن ذلك : بأنه جُمِع بينهما تأكيداً . وإذا كانوا قد جَمَعُوا بين حرفين عامِلَيْنِ للتأكيدِ ك

٣٥٥٩ فَأَصْبَحْنَ لا يَسْألْنَنِي عَنْ بما به . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فغيرُ العامِلَيْن أولى . وأيضاً فقد جَمَعُوا بين حَرْفَيْنِ عامِلَيْنِ مُتَّحِدَّيْ اللفظِ والمعنى ، ك

٣٥٦٠ فلا واللّه لا يلفى لِما بي . . . ولا لِلِما بهم أبداً دَواءُ

فهذا أَوْلَى . وقد كَثُرَ مباشرةُ « يا » لفعلِ الأمرِ وقبلَها « ألا » التي للاستفتاح ك

٣٥٦١ ألا يا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلمي ثُمَّتَ اسْلَمي . . . ثلاثَ تحيَّاتٍ وإنْ لَمْ تَكَلَّمي

وقوله:

٣٥٦٢ ألا يا اسْلَمِي يا دارَ مَيَّ على البِلى . . . ولا زالَ مُنْهَلاًّ بجَرْعائِكِ القَطْرُ

وقوله:

٣٥٦٣ ألا يا اسلمي ذاتَ الدَّماليجِ والعِقْدِ . . . وذَاتَ اللِّثاثِ الجُمِّ والفاحِمِ الجَعْدِ

وقوله:

٣٦٤ ألا يا اسْلمي يا هندُ هندَ بني بدرٍ . . . وإن كان حَيَّانا عِداً آخرَ الدهرِ

وقوله:

٣٥٦٥ ألا يا اسْقِياني قبلَ حَبْلِ أبي بكرِ . . . لعل منايانا قَرُبْنَ ولا نَدْري

وقوله:

٣٥٦٦ ألا يا اسْقِياني قبلَ غارةِ سِنْجالِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقوله:

٣٥٦٧ فقالَتْ ألا يا اسْمَعْ أَعِظْكَ لخُطْبةٍ . . . فقلتُ : سَمِعْنا فانْطِقي وأَصِيْبي

وقد جاءَ ذلك ، وإنْ لم يكنْ قبلَها « ألا » ك

٣٥٦٨ يا دارَ هندٍ يا اسْلَمي ثُمَّ اسْلَمي . . . بِسَمْسَِمٍ  عَنْ يمين سَمْسَِمِ

فقد عَرَفْتَ أنَّ قراءةَ الكسائيِّ قويةٌ لكثرةِ دَوْرِها في لغتهم.

وقد سُمع ذلك في النثر ، سُمِع بعضُهم يقول : ألا يا ارحموني ، ألا يا تَصَدَّقوا علينا . وأمَّا قولُ الأخرِ :

٣٥٦٩ يا لعنةَ اللّه والأقوامِ كلِّهمُ . . . والصالحينَ على سَمْعانَ مِنْ جارِ

فيُحتمل أَنْ تكونَ يا للنداء ، والمنادى محذوف ، وأَنْ تكونَ للتنبيهِ وهو الأرجحُ لِما مَرَّ.

واعلمْ أن الكسائيَّ الوقفُ عنده على « يَهْتَدون » تامٌّ.

وله أن يَقِفَ على « ألا يا » معاً ويَبْتَدىءَ « اسْجُدوا » بهمزة مضمومةٍ ، وله أَنْ يقفَ على « ألا » وحدَها ، وعلى « يا » وحدَها؛ لأنهما حرفان منفصِلان . وهذان الوقفان وقفا اختبارٍ لا اختيارٍ؛ لأنهما حرفان لا يَتِمُّ معناهما ، إلاَّ بما يتصلان به ، وإنما فعله القراءُ امتحاناً وبياناً . فهذا توجيهُ قراءةِ الكسائيِّ ، والخطبُ فيها سَهْلٌ.

وأما قراءةُ الباقين فتحتاج إلى إمعانِ نَظَرٍ . وفيه أوجهٌ كثيرةٌ ، أحدها : أنَّ « ألاَّ » أصلُها : أَنْ لا ، ف « أنْ » ناصبةٌ للفعلِ بعدَها؛ ولذلك سَقَطَتْ نونُ الرفعِ ، و « لا » بعدها حَرفُ نفيٍ . و « أنْ » وما بعدها في موضع مفعولِ « يَهْتَدون » على إسقاطِ الخافضِ ، أي : إلى أن/ لا يَسْجُدوا . و « لا » مزيدةٌ كزيادتِها في  لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب  [ الحديد : ٢٩ ] .

الثاني : أنه بدلٌ مِنْ « أعمالَهم » وما بينهما اعتراضٌ تقديرُه : وزَيَّن لهم الشيطانُ عدمَ السجودِ للّه . الثالث : أنه بدلٌ من « السبيل » على زيادةِ « لا » أيضاً . والتقديرُ : فصَدَّهم عن السجودِ للّه تعالى . الرابع : أنَّ  أَلاَّ يَسْجُدُواْ  مفعول له . وفي متعلَّقه وجهان ، أحدهما : أنه زَيَّن أي : زَيَّن لهم لأجلِ أَنْ لا يَسْجدُوا . و

الثاني : أنَّه متعلِّقٌ ب « صَدَّهم » أي : صَدَّهم لأجلِ أَنْ لا يَسْجُدوا . وفي « لا » حينئذٍ وجهان ، أحدهما : أنه ليسَتْ مزيدةً ، بل نافيةٌ على معناها من النفي . و

الثاني : أنها مزيدةٌ والمعنى : وزَيَّن لهم لأجلِ توقُّعِه سُجودَهم ،  لأجْلِ خَوْفِه مِنْ سُجودِهم . وعدمُ الزيادةِ أظهرُ.

الخامس : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ . وهذا المبتدأُ : إمَّا أَنْ يُقَدَّرَ ضميراً عائداً على « أعمالَهم » التقديرُ : هي أن لا يَسْجدوا ، فتكون « لا » على بابِها من النفي ، وإمَّا أن يُقَدَّرَ ضميراً عائداً على « السبيل » . التقديرُ : هو أَنْ لا يَسْجُدوا فتكون « لا » مزيدةً على ما تقدَّم ليَصِحَّ .

وعلى الأوجهِ الأربعةِ المتقدمةِ لا يجوزُ الوقفُ على « يَهْتدون » لأنَّ ما بعدَه : إمَّا معمولٌ له  لِما قبلَه مِنْ « زَيَّن » و « صَدَّ » ،  بدلٌ مِمَّا قبله أيضاً مِنْ « أعمالَهم »  من « السبيل » على ما قُرِّر وحُرِّرَ ، بخلافِ الوجهِ الخامسِ فإنه مبنيٌّ على مبتدأ مضمرٍ ، وإن كان ذلك الضمير مُفَسَّراً بما سَبَقَ قبلَه.

وقد كُتِبَتْ « ألاَّ » موصولةً غيرَ مفصولةٍ ، فلم تُكْتَبْ « أنْ » منفصِلةً مِنْ « لا » فمِنْ ثَمَّ امتنعَ أَنْ يُوْقَفَ لهؤلاء في الابتلاء والامتحان على « أنْ » وحدَها لاتِّصالِها ب « لا » في الكتابةِ ، بل يُوْقَفُ لهم على « ألاَّ » بجملتِها ، كذا قال القُراء.

والنحويون متى سُئِلوا عن مثلِ ذلك وَقَفُوا لأجلِ البيانِ على كلِّ كلمةٍ على حِدَتِها لضرورة البيانِ ، وكونُها كُتِبَتْ متصلةً ب « لا » غيرُ مانعٍ من ذلك . ثم قولُ القُرَّاءِ كُتِبَتْ متصلةً فيه تجوُّزٌ وتَسامُحٌ؛ لأنَّ حقيقةَ هذا أَنْ يُثْبِتُوا صورةَ نونٍ ويَصِلُونها ب « لا » ، فيكتبونها : أَنْلا ، ولكن لَمَّا أُدْغِمَتْ فيما بعدَها لفظاً وذَهَبَ لفظُها إلى لفظِ ما بعدَها ، قالوا ذلك تسامحاً.

وقد رتَّب أبو إسحاق على القراءتين حُكماً : وهو وجوبُ سجودِ التلاوةِ وعَدَمُه؛ فأوجبه مع قراءةِ الكسائيِّ وكأنه لأجلِ الأمرِ به ، ولم يُوْجِبْه في قراءة الباقين لعدمِ وجودِ الأمرِ فيها . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لم يَرْتَضِه منه فإنه قال : « فإنْ قلتَ : أسَجْدَةُ التلاوةِ واجبةٌ في القراءتين جميعاً  في واحدةٍ فيهما؟ قلت : هي واجبةٌ فيهما ، وإحدى القراءتين أمرٌ بالسجودِ ، والأخرى ذَمٌّ للتارك » . فما ذكره الزجاج مِنْ وجوبِ السجدةِ مع التخفيفِ دونَ التشديدِ فغيرُ مرجوعٍ إليه.

قلت : وكأنَّ الزجاجَ أخذ بظاهرِ الأمرِ ، وظاهرُه الوجوبُ ، وهذا لو خُلِّيْنا والآيةَ لكان السجودُ واجباً ، ولكنْ دَلَّتِ السُّنَّةُ على استحبابِه دونَ وجوبِه ، على أنَّا نقول : هذا مبنيٌّ على نظرٍ آخر : وهو أنَّ هذا الأمرَ من كلامِ اللّه تعالى ،  من كلامِ الهُدْهُدِ محكيًّا عنه . فإنْ كان مِنْ كلامِ اللّه تعالى فيُقال : يَقْتضي الوجوبَ ، إلاَّ أَنْ يجيْءَ دليلٌ يَصْرِفُه عن ظاهرِه ، وإنْ كان من كلامِ الهُدْهد وهو الظاهرُ ففي انتهاضِه دليلاً نظرٌ لا يخفى.

وقرأ الأعمشُ « هَلاَّ » ، و « هَلا » بقلب الهمزة هاءً مع تشديدِ « لا » وتخفيفها وكذا هي في مصحفِ عبد اللّه . وقرأ عبدُ اللّه « تَسْجُدون » بتاء الخطابِ ونونِ الرفع . وقُرِىءَ كذلك بالياءِ مِنْ تحتُ . فمَنْ أَثْبَتَ نونَ الرفعِ فألا بالتشديدِ  التخفيفِ للتحضيضِ ، وقد تكونُ المخففةُ للعَرْضِ أيضاً نحو : « ألا تَنْزِل عندنا نتحدَّث » وفي حرف عبدِ اللّه أيضاً : « ألا هَلْ تَسْجدُون » بالخطاب . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

بهاء . ومن قرأ بحذف الواو وإثبَاتِ الضمةِ فذلك مثل حذف الياء

وإثبات الكسرة ، ومَنْ أَسْكَنَ الهاءَ فغالط ، لأن لهاء ليست بمجزومة

ولها وَجْه من القِياس ، وهو أنه يُجْري الهاء في الوصل على حالها

في الوقف ، وأكثر ما يقع هذا في الشعر أن تحذف هذه الهاء وتبقي

كسرة (١).

قال الشاعر :

فإنْ يَك غثاً أوسميناً فَإنَني . . . سأجعل عينيه لِنَفْسِهْ مَقْنَعاً

وقوله تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ)

فيه قولان :

قال بعضهم : كل هناه التقديم والتأخير ، معناه اذهب

بِكِتَابي هذا فألقه إليهم فانظر مَاذَا يَرْجِعونَ ثم تول عنهم ، وقال هذا

لأنَّ رجوعَه من عندهم والتولي عنهم بعد أن ينظر ما الجواب.

وهذا حسن ، والتقديم والتأخير كثير في الكلام ، وقالوا معنى (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ)

تول عنهم مسْتَتِراً من حَيْث لا يَرَوْنَكَ ، فانظر ماذا يردونَ مِنَ الجواب.

* * *

﴿ ٢٨