٣١

وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (٣١)

أي : فيخافون أن يعجَّل لَهُم في الدنيا مثلُ الذي عُجِّل لغيرهم

مِمن أُهْلِكَ ، وأنهم مع ذلك لا يعودون إلى الدنيا أبداً.

وموضع " كَمْ "

نصبُ بـ (أَهْلَكْنَا) لأن " كَمْ " لا يعمل فيها ما قبلها ، خبراً كانت

استفهاماً . تقول في الخبر : كم سِرْتُ ، تريد سرت فراسخ كثيرةً ، ولا

يجوز سرت كم فرسخاً ، وذلك أن كم في بابها بمنزلة رُبَّ ، وأن أصلها

الاستفهام والإبهام ، فكما أنك إذا استفهمت فقلت للمخاطب : كم

فرسخاً سرت لم يجز سرتَ كم فرسخاً ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما

قبله ، فكذلك إذا جُعِلَتْ كم خَبَراً فالإبهامُ قائم فيها.

و (أَنَّهُمْ) بدل من معنى (ألم يروا كم أهلكنا).

والمعنى ألم يروا أن القرون التي أهلكنا أنهم لا يرجعون.

ويجوز (إِنهم لا يَرْجِعُونَ) بكسر " إنَّ " ومعنى ذلك الاستئناف.

 هم إليهم لا يَرْجِعُون (٢).

__________

(١) قال السَّمين :

  ياحسرة  : العامَّةُ على نصبِها . وفيه وجهان ، أحدهما : أنها منصوبةٌ على المصدرِ ، والمنادى محذوفٌ تقديره : يا هؤلاء تَحَسَّروا حسرةً . و

الثاني : أنها منونةٌ لأنها منادى منكورٌ فنُصِبت على أصلها ك

٣٧٨٢ أيا راكباً إمَّا عَرَضْتَ فبَلِّغَنْ . . . نداماي مِنْ نَجْرانَ أنْ لا تَلاقِيا

ومعنى النداءِ هنا على المجازِ ، كأنه قيل : هذا أوانُكِ فاحْضُرِي . وقرأ قتادةُ وأُبَيٌّ في أحدِ وجهَيْه « يا حَسْرَةٌ » بالضم ، جعلها مُقْبِلاً عليها ، وأُبَيٌّ أيضاً وابن عباس وعلي بن الحسين  ياحسرة العباد  بالإِضافة . فيجوزُ أَنْ تكونَ الحَسْرةُ مصدراً مضافاً لفاعلِه أي : يتحسَّرون على غيرهم لِما يَرَوْنَ مِنْ عذابهم ، وأَنْ يكونَ مضافاً لمفعوله أي : يَتَحَسَّر عليهم غيرُهم . وقرأ أبو الزِّناد وابن هرمز . وابن جندب « يا حَسْرَهْ » بالهاءِ المبدلةِ مِنْ تاءِ التأنيث وَصْلاً ، وكأنَّهم أَجْرَوْا الوصلَ مُجْرى الوقفِ وله نظائرُ مَرَّتْ . وقال صاحب « اللوامح » : « وقفوا بالهاء مبالغةً في التحسُّر ، لِما في الهاءِ من التَّأَهُّه بمعنى التأوُّه ، ثم وصلوا على تلك الحال » . وقرأ ابن عباس أيضاً « يا حَسْرَةَ » بفتح التاء من غير تنوين . ووجْهُها أنَّ الأصل : يا حَسْرتا فاجْتُزِئ بالفتحة عن الألف كما اجتُزِئ بالكسرةِ عن الياء . ومنه :

٣٧٨٣ ولَسْتُ براجعٍ ما فاتَ مِنِّي . . . بَلَهْفَ ولا بلَيْتَ ولا لو اني

أي : بلهفا بمعنى لَهْفي.

وقُرئ « يا حَسْرتا » بالألف كالتي في الزمر ، وهي شاهدةٌ لقراءةِ ابنِ عباس ، وتكون التاءُ للّه تعالى ، وذلك على سبيل المجاز دلالةً على فَرْطِ هذه الحَسْرةِ . وإلاَّ فاللّه تعالى لا يُوْصَفُ بذلك.

 « ما يَأْتِيْهم » هذه الجملةُ لا مَحَلَّ لها؛ لأنَّها مُفَسِّرةٌ لسبب الحسرةِ عليهم.

 « إلاَّ كانوا » جملةٌ حاليةٌ مِنْ مفعولٍ « يَأْتيهم » . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(٢) قال السَّمين :

و  أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ  فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه بدلٌ مِنْ « كم » قال ابن عطية : « وكم هنا خبريةٌ ، و » أنهم « بدلٌ منها ، والرؤيةُ بَصَرية » . قال الشيخ : « وهذا لا يَصِحُّ؛ لأنها إذا كانَتْ خبريةً كانَتْ في موضعِ نصبٍ ب » أهلَكْنا « . ولا يَسُوغُ فيها إلاَّ ذلك . وإذا كانت كذلك امتنع أن يكون » أنَّهم « بدلاً منها؛ لأنَّ البدلَ على نيةِ تكرار العاملِ . ولو سُلِّطت أَهْلكنا على » أنهم « لم يَصِحّ؛ ألا ترى أنك لو قلتَ : أهلَكْنا انتفاءَ رجوعِهم ،  أَهلكنا كونَهم لا يَرجعون ، لم يكن كلاماً . لكنَّ ابنَ عطية تَوَهَّمَ أنَّ » يَرَوْا « مفعولُه » كم « فتوَهَّم أنَّ   أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ  بدلٌ منه؛ لأنه يُسَوِّغُ أَنْ يُسَلَّط عليه فتقول : ألم يَرَوْا أنهم إليهم لا يَرْجعون . وهذا وأمثالُه دليلٌ على ضَعْفِه في عِلْم العربية » . قلت : وهذا الإِنحاءُ تحاملٌ عليه؛ لأنه لقائلٍ أَنْ يقول : « كم » قد جعلها خبريةً ، والخبريةُ يجوز أَنْ تكونَ معمولةً ل ما قبلها عند قومٍ ، فيقولون : « ملكتُ كم عبدٍ » فلم يَلْزَمْ الصدرَ ، فيجوزُ أَنْ يكونَ بنى هذا التوجيهَ على هذه اللغةِ وجعل « كم » منصوبةً ب « يَرَوْا » و « أنهم » بدلٌ منها ، نَ التي أهلكناها وليس هو ضعيفاً في العربية حينئذٍ.

الثاني : أنَّ « أنَّهم » بدلٌ من الجملةِ قبلَه . قال الزجاج : « هو بدلٌ من الجملة ، والمعنى : ألم يَرَوْا أن القروأنهم لا يَرْجِعون؛ لأنَّ عَدَمَ الرجوعِ والهلاكَ بمعنى » . قال الشيخ : « وليس بشيءٍ؛ لأنه ليس بدلاً صناعياً ، وإنما فَسَّر  ولم يَلْحَظ صناعةَ النحو » . قلت : بل هو بدلٌ صناعي؛ لأنَّ الجملةَ في قوة المفرد؛ إذ هي سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولِ « يَرَوْا » فإنها معلِّقَةٌ لها كما تقدَّم.

الثالث : قال الزمخشري : « ألم يَرَوْا » ألم يعلموا ، وهو مُعَلَّق/ عن العمل في « كم » لأنَّ « كم » لا يعملُ فيها عاملٌ قبلها - كانَتْ للاستفهام  للخبرِ - لأنَّ أصلَها الاستفهامُ ، إلاَّ أنَّ معناها نافِذٌ في الجملةِ كما نفذ في قولك : « ألم يَرَوْا إنَّ زيداً لمنطلقٌ » وإنْ لم يعملْ في لفظِه ، وأنهم إليهم لا يَرْجِعون : بدلٌ مِنْ « كم أهلَكْنا » على  لا على اللفظِ تقديرُه : ألم يَرَوْا كثرةَ إهلاكِنا القرونَ مِنْ قَبْلهم كونَهم غيرَ راجعين إليهم «.

قال الشيخ : « قولُه لأنَّ » كم « لا يعملُ فيها ما قبلَها كانت للاستفهام  للخبرِ » ليس على إطلاقِه؛ لأنَّ العاملَ إذا كان حرفَ جر  اسماً مضافاً جاز أَنْ يعملَ فيها نحو : « على كم جِذْعٍ بيتُك؟ وابنُ كم رئيسٍ صحبتَ؟ وعلى كم فقير تصدَّقتُ أرجو الثواب؟ وابنُ كم شهيد في سبيل اللّه أحسنت إليه؟ » . و «  للخبر » والخبرية فيها لغتان : الفصيحةُ كما ذكر لا يتقدَّمُها عاملٌ إلاّ ما ذَكَرْنا من الجارِّ ، واللغةُ الأخرى حكاها الأخفش يقولون : « ملكتُ كم غلامٍ » أي : ملكتُ كثيراً من الغِلْمان . فكما يجوزُ تقدُّم العاملِ على كثيراً كذلك يجوزُ على « كم » لأنها بمعناها . و « لأنها أصلها الاستفهامُ ، والخبريةُ ليس أصلُها الاستفهامَ » بل كلُّ واحدةٍ أصلٌ بنفسِها ، ولكنهما لفظان مشتركان بين الاستفهام والخبر . و « لأنَّ معناها نافدٌ في الجملة » يعني معنى « يَرَوا » نافذٌ في الجملة؛ لأنَّه جعلَها مُعَلَّقة وشرحَ « يَرَوْا » ب يعلموا.

و « كما نفذ في قولك : ألم يَرَوْا إنَّ زيداً لمنطلقٌ » يعني أنه لو كان معمولاً من حيث اللفظُ لامتنع دخولُ اللامِ ولَفُتِحَتْ « إنَّ » فإنَّ « إنَّ » التي في خبرها اللامُ من الأدوات المعلِّقة لأفعال القلوبِ . و « إنهم إليهم » إلى آخره كلامُه لا يَصِحُّ أن يكون بدلاً لا على اللفظِ ولا على  . أمَّا على اللفظِ فإنه زعم أنَّ « يَرَوْا » معلَّقَةٌ فتكون « كم » استفهاميةً فهي معمولةٌ ل « أهلكنا » ، و « أهلكنا » لا يَتَسَلَّط على  أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ  . وقد تقدَّم لنا ذلك . وأمَّا على  فلا يَصِحُّ أيضاً لأنه قال : تقديره : أي على  ألم يَرَوْا كثرةَ إهلاكنا القرونَ مِنْ قَبْلهم كونَهم غيرَ راجعين إليهم ، فكونُهم غيرَ راجعين ليس كثرةَ الإِهلاكِ ، فلا يكون بدلَ بعضٍ من كل ، ولا يكون بدل اشتمالٍ؛ لأنَّ بدلَ الاشتمال يَصِحُّ أن يضافَ إلى ما أُبْدِل منه ، وكذلك بدلُ بعضٍ من كل . وهذا لا يَصِحُّ هنا . لا تقول : ألم يَرَوْا انتفاءَ رجوعِ كثرةِ إهلاكِنا القرونَ مِنْ قبلهم ، وفي بدلِ الاشتمال نحو : « أعْجَبَتْني الجاريةُ مَلاحتُها ، وسُرِقَ زيدٌ ثوبُه » يصحُّ : « أعجبتني ملاحَةُ الجاريةِ ، وسُرِق ثوبُ زيد ».

الرابع : أَنْ يكونَ « أنهم » بدلاً مِنْ موضع « كم أهلَكْنا » ، والتقدير : ألم يَرَوْا أنهم إليهم . قاله أبو البقاء . ورَدَّه الشيخ : بأنَّ « كم أهلَكْنا » ، ليس بمعمولٍ ل « يَرَوْا ».

قلت : قد تقدَّم أنها معمولةٌ لها على معنى أنها مُعَلِّقَةٌ لها.

الخامس : - وهو قولُ الفراء - أن يكون « يَرَوْا » عاملاً في الجملتين من غير إبدالٍ ، ولم يُبَيِّنْ كيفيةَ العملِ . وقوله « الجملتين » تجوُّزٌ؛ لأنَّ « أنهم » ليس بجملةٍ لتأويلِه بالمفرد إلاَّ أنه مشتملٌ على مُسْندٍ ومسند إليه.

السادس : أنَّ « أنهم » معمولٌ لفعل محذوفٍ دَلَّ عليه السياقُ والمعنى ، تقديره : قَضَيْنا وحَكَمْنا أنهم لا يَرْجعون . ويَدُلُّ على صحةِ هذا قراءةُ ابنِ عباس والحسن « إنهم » بكسر الهمزةِ على الاستئناف ، والاستئنافُ قَطْعٌ لهذه الجملةِ مِمَّا قبلها فهو مُقَوٍّ لأَنْ تكونَ معمولةً لفعلٍ محذوفٍ يقتضي انقطاعَها عَمَّا قبلَها . والضميرُ في « أنهم » عائدٌ على معنى « كم » وفي « إليهم » عائدٌ على ما عاد عليه واو « يَرَوْا » . وقيل : بل الأولُ عائدٌ على ما عاد عليه واو « يَرَوْا » . والثاني عائدٌ على المُهْلَكين.

اهـ (الدُّرُّ المصُون).

﴿ ٣١