٤

(قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (٢) نِصْفَهُ  انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (٣)  زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (٤)

فالمعنى - واللّه أعلم - أن (نصفه) بدل من (الليل) كما تقول : ضربت زيداً

رَأْسَهُ فإنما ذكرت زيداً لتؤكد الكلام ، وهو أوكد من قولك ضربت رأس زيداً فالمعنى قم نصف الليل إلا قليلاً  انقص من النصف  زد على النصف ، وذكَر ( انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا) بمعنى إلا قليلاً ولكنه ذُكِرَ مَع الزِيادة ، فالمعنى قم نصف الليل  انقص من نصف الليل  زد على نصف.

وهذا - واللّه أعلم - قبل أن يقع فرض الصلوات الخمس (١).

ومعنى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (٤)

__________

(١) قال السَّمين :

  إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ  : للناس في هذا كلامٌ كثيرٌ ، واستدلالٌ على جوازِ استثناءِ الأكثرِ والنصفِ ، واعتراضاتٌ وأجوبةٌ عنها . وها أنا أذكرُ ذلك مُحَرِّراً له بعون اللّه تعالى.

اعلم أنَّ في هذه الآيةِ ثمانيةَ أوجهٍ أحدُها : أنَّ « نصفَه » بدلٌ من « الليلَ » بدلُ بعضٍ من كلٍ . و « إلاَّ قليلاً » استثناءٌ من النصفِ كأنه قيل : قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ . والضميرُ في « مِنْه » و « عليه » عائدٌ على النصفِ.

والمعنى : التخييرُ بين أمرَيْنِ : بينَ أَنْ يقومَ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ على البَتِّ ، وبين أَنْ يَخْتارَ أحدَ الأمرَيْن ، وهما : النُّقْصانُ من النصفِ والزيادةُ عليه ، قاله الزمخشريُّ : وقد ناقَشَه الشيخ : بأنه يَلْزَمُه تكرارٌ في اللفظِ؛ إذ يَصير التقديرُ : قُم نِصفَ الليلِ إلاَّ قليلاً مِنْ نِصْفِ الليل ،  انقُصْ مِنْ نصفِ الليل . قال : « وهذا تركيبٌ يُنَزَّهُ القرآنُ عنه » . قلت : الوجهُ فيه إشكالٌ ، لا من هذه الحيثية فإنَّ الأمرَ فيها سهلٌ ، بل لمعنىً آخرَ [ سأَذْكرهُ قريباً إنْ شاء اللّه ].

وقد جعل أبو البقاءِ هذا الوجهَ مرجوحاً فإنه قال : « والثاني هو بدلٌ مِنْ قليلاً يعني النصف قال : » وهو أَشبهُ بظاهرِ الآية لأنه قال : «  انقُصْ منه  زِدْ عليه » ، والهاءُ فيهما للنِّصْفِ . فلو كان الاستثناءُ من النصف لصار التقديرُ : قُم نصفَ الليل إلاَّ قليلاً  انقُصْ منه قليلاً ، والقليلُ المستثنى غيرُ مقدَّر ، فالنقصانُ منه لا يُعْقَلُ « . قلت : الجوابُ عنه : أنَّ بعضَهم قد عَيَّنَ هذا القليلَ : فعن الكلبيِّ ومقاتلٍ : هو الثلثُ ، فلم يكن القليلُ غيرَ مقدَّرٍ . ثم إنَّ في قولِه تناقضاً لأنه قال : » والقليلُ المستثنى غيرُ مقدَّرٍ ، فالنقصانُ منه [ لا يُعْقَل « ] فأعاد الضميرَ على القليل ، وفي الأولِ أعادَه على النصفِ.

ولقائلٍ أن يقولَ : قد يَنْقَدحُ هذا الوجهُ بإشكالٍ قويٍّ : وهو أنَّه يَلْزَمُ منه تكرارُ  الواحدِ : وذلك أنَّ  » قُمْ نِصْف الليلِ إلاَّ قليلاً « بمعنى : انقُصْ مِنْ الليل؛ لأنَّ ذلك القليل هو بمعنى النقصانِ ، وأنت إذا قلت : قُمْ نصفَ الليلِ إلاَّ القليلَ مِن النصفِ ، وقُمْ نصفَ الليل ،  انقُصْ من النصفِ ، وجدتَهما بمعنىً . وفيه دقةٌ فتأمَّلْه ، ولم يَذْكُرِ الحوفيُّ غيرَ هذا الوجهِ المتقدِّمِ ، فقد عَرَفْتَ ما فيه.

ومِمَّنْ ذَهَبَ إليه أبو إسحاقَ فإنه قال : » نصفَه « بدلٌ من » الليل « و » إلاَّ قليلاً « استثناءٌ من النصفِ . والضميرُ في » منه « و » عليه « عائدٌ للنصف .  : قُمْ نصفَ الليل  انقُصْ من النصفِ قليلاً إلى الثلثِ ،  زِدْ عليه قليلاً إلى الثلثِ ،  زِد عليه قليلاً إلى الثلثَيْن ، فكأنَّه قال : قُمْ ثلثَيْ الليلِ  نصفَه  ثلثَه ».

قلت : والتقديراتُ التي يُبْرزونها ظاهرةٌ حسنةٌ ، إلاَّ أنَّ التركيبَ لا يُساعِدُ عليها ، لِما عَرَفْتَ من الإِشكال الذي ذكَرْتُه لك آنفاً.

الثاني : أَنْ يكونَ « نصفَه » بدلاً مِنْ « قليلاً » ، وإليه ذهب الزمخشريُّ وأبو البقاء وابنُ عطية . قال الزمخشريُّ : « وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَ » نصفَه « بدلاً مِنْ » قليلاً « ، وكان تخييراً بين ثلاثٍ : بين قيامِ النصفِ بتمامِه ، وبين قيامِ الناقصِ منه ، وبين قيامِ الزائدِ عليه ، وإنما وَصَفَ النصفَ بالقِلَّةِ بالنسبة إلى الكلِّ » . قلت : وهذا هو الذي جعله أبو البقاء أَشْبَهَ مِنْ جَعْلِه بدلاً من « الليل » كما تقدَّمَ.

إلاَّ أنَّ الشيخ اعترض هذا فقال : « وإذا كان » نصفَه « بدلاً مِنْ » إلاَّ قليلاً « فالضميرُ في » نصفَه « : إمَّا أَنْ يعودَ على المبدلِ منه  على المستثنى منه ، وهو » الليلَ « ، لا جائِزٌ أَنْ يعودَ على المبدلِ منه؛ لأنه يَصيرُ استثناءَ مجهولٍ مِنْ مجهولٍ؛ إذ التقديرُ : إلاَّ قليلاً نصفَ القليل ، وهذا لا يَصِحُّ له معنىً ألبتَّةََ ، وإن عاد الضميرُ على الليل فلا فائدةَ في الاستثناءِ من » الليل « ، إذ كان يكونُ أَخْصَرَ وأوضحَ وأَبْعَدَ عن الإِلباس : قُمِ الليلَ نصفَه . وقد أَبْطَلْنا قولَ مَنْ قال : » إلاَّ قليلاً « استثناءٌ من البدلِ ، وهو » نصفَه « ، وأنَّ التقديرَ : قُم الليلَ نصفَه إلاَّ قليلاً منه ، أي : من النصفِ . وأيضاً : ففي دَعْوى أنَّ » نصفَه « بدلٌ مِنْ » إلاَّ قليلاً « والضميرُ في » نِصفَه « عائدٌ على » الليل « ، إطلاقُ القليلِ على النصفِ ، ويَلْزَمُ أيضاً أَنْ يصيرَ التقديرُ : إلاَّ نصفَه فلا تَقُمْه/ ،  انقُصْ من النصفِ الذي لا تقومه وهذا معنىً لا يَصِحُّ وليس المرادَ من الآيةِ قطعاً ».

قلت : نقولُ بجواز عَوْدِه على كلٍ منهما ، ولا يَلْزَمُ محذورٌ . أمَّا ما ذكره : مِنْ أنه يكونُ استثناءَ مجهولٍ مِنْ مجهولٍ فممنوعٌ ، بل هو استثناءُ معلومٍ من معلومٍ ، لأنَّا قد بَيَّنَّا أنَّ القليل قَدْرٌ معيَّنٌ وهو الثلثُ ، والليل ، فليس بمجهولٍ . وأيضاً فاستثناءُ المُبْهَمِ قد وَرَدَ . قال تعالى :  مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ  [ النساء : ٦٦ ] . وقال تعالى :  فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ  [ البقرة : ٢٤٩ ] وكان حقُّه أَنْ يقولَ : لأنه بدلُ مجهولٍ مِن مجهولٍ . وأمَّا ما ذكره مِنْ أَنَّ أَخْصَرَ منه وأَوْضَحَ كيتَ وكيت : أمَّا الأخْصَرُ فمُسَلَّمٌ . وأمَّا أنه مُلْبِس فممنوعٌ ، وإنما عَدَلَ عن اللفظِ الذي ذكَرَه لأنه أَبْلَغ.

وبهذا الوجهِ اسْتَدَلَّ مَنْ قال بجوازِ استثناءِ النصفِ والأكثرِ . ووجهُ الدلالةِ على

الأولِ : أنَّه جَعَلَ « قليلاً » مستثنى من « الليل » ، ثم فَسَّر ذلك القليلَ بالنصفِ فكأنه قيل : قُمِ الليلَ إلاَّ نصفَه.

ووَجْهُ الدلالةِ على

الثاني : أنَّه عَطَفَ «  زِدْ عليه » على « انقُصْ منه » فيكونُ قد استثنى الزائدَ على النصفِ؛ لأنَّ الضميرَ في « مِنْه » ، وفي « عليه » عائدٌ على النصفِ . وهو استدلالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ الكثرة إنما جاءَتْ بالعطفِ ، وهو نظيرُ أَنْ تقول : « له عندي عشرةٌ إلاَّ خمسةً ودرهماً ودرهماً » فالزيادةُ على النصفِ بطريقِ العطفِ لا بطريقِ أن الاستثناءِ أخرجَ الأكثرَ بنفسِه.

الثالث : أنَّ « نصفَه » بدلٌ من « الليلَ » أيضاً كما تقدَّم في الوجه الأولِ ، إلاَّ أنَّ الضميرَ في « منه » و « عليه » عائدٌ على الأقلِّ من النصف . وإليه ذهب الزمخشري فإنه قال : « وإنْ شِئْتَ قلت : لَمَّا كان معنى  قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ  إذا أَبْدَلْتَ النصفَ من » الليل « : قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليل ، رَجَعَ الضميرُ في » منه « و » عليه « إلى الأقلِّ من النصفِ ، فكأنه قيل : قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ  قُمْ أنقصَ مِنْ ذلك الأقلِّ  أزيدَ مِنْه قليلاً ، فيكون التخييرُ فيما وراءَ النصفِ بينه وبينَ الثُّلُثِ ».

الرابع : أَنْ يكونَ « نصفَه » بدلاً مِنْ « قليلاً » كما تقدَّمَ ، إلاَّ أنَّك تجعلُ القليلَ الثاني رُبْعَ الليلِ . وقد أوضح الزمخشريُّ هذا أيضاً فقال : « ويجوز إذا أَبْدَلْتَ » نصفَه « مِنْ » قليلاً « وفَسَّرْتَه به أَنْ تجعلَ » قليلاً « الثاني بمعنى نصفِ النصفِ ، بمعنى الربع ، كأنه قيل :  انقص منه قليلاً نصفَه ، وتجعلَ المزيدَ على هذا القليل أعني الربعَ نصفَ الربع ، كأنه قيل :  زِدْ عليه قليلاً نصفَه . ويجوزُ أَنْ تجعلَ الزيادةَ لكونِها مُطْلَقَةً تتمَّةَ الثلثِ فيكون تخييراً بين النصفِ والثلثِ والرُّبُع » انتهى . وهذه الأوجهُ التي حَكَيْتُها عن أبي القاسم مِمَّا يَشْهدُ له باتِّساعِ عِلْمِه في كتاب اللّه . ولَمَّا اتسَعَتْ عبارتُه على الشيخ قال : « وما أوسعَ خيالَ هذا الرجلِ!! فإنه يُجَوِّزُ ما يَقْرُبُ وما يَبْعُدُ » . قلت : وما ضَرَّ الشيخَ لو قال : وما أوسعَ عِلْمَ هذا الرجلِ!!.

الخامس : أَنْ يكونَ « إلاَّ قليلاً » استثناءً مِنْ القيامِ ، فتجعلَ الليلَ اسم جنسٍ ثم قال : « إلاَّ قليلاً » أي : إلاَّ اللياليَ التي تترُكُ قيامَها عند العُذْرِ البيِّن ونحوِه : وهذا النَّظر يَحْسُنُ مع القولِ بالنَّدْبِ ، قاله ابنُ عطية ، احتمالاً مِنْ عندِه . وفي عبارته : « التي تُخِلُّ بقيامِها » فأَبْدَلْتُها : « التي تَتْرُكُ قيامَها » . وفي الجملة فهذا خلافُ الظاهرِ ، وتأويلٌ بعيدٌ.

السادس : قال الأخفش : « إنَّ الأصل : قُم الليلَ إلاَّ قليلاً  نصفَه ، قال : » كقولك : أَعْطِه درهماً درهَمْين ثلاثةً «.

أيدرهمَيْن  ثلاثةً « . وهذا ضعيفٌ جداً؛ لأن فيه حَذْفَ حرفِ العطفِ ، وهو ممنوعٌ لم يَرِدْ منه إلاَّ شَيْءٌ شاذٌّ يمكن تأويلُه كقولِهم : » أكلْتُ لحماً سَمَكاً تَمْراً « . وقول الآخر :

٤٣٦٤ كيف أَصْبَحْتَ كيف أَمْسَيْتَ مِمَّا . . . يَزْرَعُ الوُدَّ في فؤادِ الكريم

أي : لحماً وسمكاً وتمراً ، وكذا كيف أصبَحْتَ وكيف أمسَيْتَ . وقد خَرَّجَ الناس هذا على بَدَلِ البَداء.

السابع : قال التبريزيُّ : » الأمرُ بالقيام والتخييرُ في الزيادةِ والنقصان ، وقعَ على الثلثَيْن مِنْ آخرِ الليلِ؛ لأنَّ الثلثَ الأولَ وقتُ العَتَمَةِ ، والاستثناءُ واردٌ على المأمورِ به ، فكأنه قال : قُمْ ثُلُثي الليلِ إلاَّ قليلاً ، أي : ما دونَ نصفِه ،  زِدْ عليه ، أي : على الثلثَيْنِ ، فكان التخيير في الزيادةِ والنقصانِ واقعاً على الثلثَيْن « وهو كلامٌ غريبٌ لا يَظْهَرُ من هذا التركيبِ.

الثامن : أنَّ » نصفَه « منصوبٌ على إضمارِ فِعْلٍ/ ، أي : قُمْ نصفَه ، حكاه مكيٌّ عن غيرِه ، فإنَّه قال : » نصفَه بدلٌ من « الليل » وقيل : انتصبَ على إضمارِ : قُمْ نصفَه « . قلت : وهذا في التحقيقِ هو وجهُ البدلِ الذي ذكرَه أولاً؛ لأنَّ البدلَ على نيةِ تَكْرارِ العاملِ.

اهـ (الدُّرُّ المصُون).

بينْه تبييناً ، والتبيين لا يتم بأن يعجل في القرآن ، إنما يتم بأن تبين

جميع الحروف وتوفي حَقَها في الإشباع.

* * *

﴿ ٤