سورة المائدة

سورة المائدة مدنية ، نهارية كلها ، عشرون ومائة آية كوفية إلا قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم الآية ، فإنها نزلت بعرفة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

المائدة : ١ يا أيها الذين . . . . .

قال مقاتل : قوله سبحانه : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ، يعني بالعهود التي

بينكم وبين المشركين أحلت لكم بهيمة الأنعام ، يعني أحل لكم أكل لحوم الأنعام ، الإبل ، والبقر ، والغنم ، والصيد كله إلا ما يتلى عليكم ، يعني غير ما نهى اللّه عز وجل عن أكله مما حرم اللّه عز وجل ، من الميتة والدم ، ولحم الخنزير ، والمنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، ثم قال : غير محلي الصيد ، يقول : من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم حرم ، يقول : إذا كنت محرما بحج أو عمرة ، فالصيد عليك حرام كله ، غير صيد البحر ، فإنه حلال لك إن اللّه يحكم ما يريد [ آية : ١ ] ، فحكم أن يجعل ما شاء من الحلال حرما ، وجعل ما شاء مما حرم في الإحرام من الصيد حلالا .

٢

المائدة : ٢ يا أيها الذين . . . . .

قال تعالى ذكره : يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر اللّه ، يعني مناسك الحج

والعمرة ، وذلك أن الحمس ، قريشا ، وخزاعة ، وكنانة ، وعامر بن صعصعة ، كانوا

يستحلون أن يغير بعضهم على بعض في الأشهر الحرم وغيرها ، وكانوا لا يسعون بين

الصفا والمروة ، وكانوا لا يرون الوقوف بعرفات من شعائر اللّه ، فلما أسلموا أخبرهم اللّه

عز وجل بأنها من شعائر اللّه ، فقال عز وجل : الصفا والمروة من شعائر اللّه [ البقرة : ١٥٨ ] .

وأمر سبحانه أن يسعى بينهما ، فأنزل اللّه عز وجل : يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر اللّه  ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ، يقول : لا تستحلوا القتل في

الشهر الحرام ، وذلك أن أبا ثمامة جنادة بن عوف بن أمية من بني كنانة كان يقوم كل

سنة في سوق عكاظ ، فيقول : ألا إني قد أحللت المحرم ، وحرمت صفرا ، وأحللت كذا ،

وحرمت كذا ، ما شاء ، وكانت العرب تأخذ به ، فأنزل اللّه تعالى : إنما النسئ زيادة

في الكفر يضل به الذين كفروا ، يعني جنادة بن عوف يحلونه عاما ويحرمونه

عاما ليواطؤوا عدة ما حرم اللّه ، يعني خلافا على اللّه جل اسمه وعلى ما حرم ،

 فيحلوا ما حرم اللّه [ التوبة : ٣٧ ] من الأشهر الحرم .

ثم رجع إلى الآية الأولى في التقديم ، فقال تعالى : ولا القلائد ، كفعل أهل الجاهلية ، وذلك أنهم كانوا يصيبون من الطريق ، قال : وكان في الجاهلية من أراد الحج من غير أهل الحرم ، يقلد نفسه من الشعر والوبر ، فيأمن به إلى مكة ، وإن كان من أهل الحرم ، قلد نفسه وبعيره من لحيا شجر الحرم ، فيأمن به حيث يذهب ، فهذا في غير أشهر الحرم ، فإذا كان أشهر الحرم ، لم يقلدوا أنفسهم ولا أباعرهم وهم يأمنون حيث ما ذهبوا .

قال عز وجل : ولا آمين البيت الحرام ، يعني متوجهين نحو البيت ، نزلت في الخطيم ، يقول : لا تتعرضوا الحجاج بيت اللّه يبتغون فضلا من ربهم ، يعني الرزق في التجارة في مواسم الحج ورضوانا ، يعني رضوان اللّه بحجهم ، فلا يرضى اللّه عنهم حتى يسلموا ، فنسخت آية السيف هذه الآية كلها .

قوله سبحانه : وإذا حللتم من الإحرام فاصطادوا ، يقول : إذا حللتم من إحرامكم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنئان قوم ، يقول : ولا يحملنكم عداوة المشركين من أهل مكة أن صدوكم عن المسجد الحرام ، يعني منعوكم من دخول البيت الحرام أن تطوفوا به عام الحديبية أن تعتدوا ، يعني أن ترتكبوا

معاصيه ، فتستحلوا أخذ الهدى والقلائد والقتل في الشهر الحرام من حجاج بكر بن

وائل من أهل اليمامة ، نزلت في الخطيم ، واسمه شريح بن ضبيعة بن شرحبيل بن عمر بن

جرثوم البكري ، ومن بني قيس بن ثعلبة ، وفي حجاج المشركين ، وذلك أن شريح بن

ضبيعة جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، اعرض علي دينك ، فعرض عليه وأخبره بما له

وبما عليه ، فقال له شريح : إن في دينك هذا غلظا ، فأرجع إلى قومي فأعرض عليهم ما

قلت ، فإن قبلوه كنت معهم ، وإن لم يقبلوه كنت معهم .

فخرج من عند النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : لقد دخل بقلب كافر ، وخرج بوجه

غادر ، وما أرى الرجل بمسلم ، ثم مر على مسرح المدينة فاستاقها ، فطلبوه فسبقهم إلى المدينة ، وأنشأ يقول :

قد لفها الليل بسواق حطم

ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزار على ظهر وضم

خدلج الساق ولا رعش القدم

قال أبو محمد عبد اللّه بن ثابت : سمعت أبي يقول : قال أبو صالح : قتله رجل من قومه

على الكفر ، وقدم الرجل الذي قتله مسلما ، فلما سار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معتمرا عام

الحديبية في العام الذي صده المشركون ، جاء شريح إلى مكة معتمرا ، معه تجارة عظيمة

في حجاج بكر بن وائل ، فلما سمع أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقدوم شريح وأصحابه ،

وعرفوا بنبئهم ، فأراد أهل السرح أن يغيروا عليه كما أغار عليهم من قبل شريح

وأصحابه ، ف  نستأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فاستأمروه ، فنزلت الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر اللّه ، يعني أمر المناسك .

ولا تستحلوا في الشهر الحرام أخذ الهدى ولا القلائد ، يقول : ولا تخيفوا من قلد

بعيره ، ولا تستحلوا القتل آمين البيت الحرام ، يعني متوجهين قبل البيت الحرام من

حجاج المشركين ، يعني شريح بن ضبيعة وأصحابه يبتغون بتجاراتهم فصلا من اللّه ،

يعني الرزق والتجارة ورضوانه بحجهم ، فنهى اللّه عز وجل نبيه صلى اللّه عليه وسلم عن قتالهم ، ثم لم

يرض منهم حتى يسلموا ، فنسخت هذه الآية آية السيف ، فقال عز وجل : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [ التوبة : ٥ ] ، ثم قال تعالى : وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا اللّه إن اللّه شديد العقاب [ آية : ٢ ] .

٣

المائدة : ٣ حرمت عليكم الميتة . . . . .

قوله سبحانه : حرمت عليكم الميتة ، يعني أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير اللّه به ، يعني الذي ذبح لأصنام المشركين ولغيرهم ، هذا حرام البتة إن أدركت ذكاته أو لم تدرك ذكاته ، فإنه حرام البتة ؛ لأنهم جعلوه لغير اللّه عز وجل ، ثم

قال عز وجل : والمنخنقة ، يعني وحرم المنخنقة ، الشاة ، والإبل ، والبقر التي تنخنق

أو غيره حتى تموت والموقوذة ، يعني التي تضرب بالخشب حتى تموت ،

 والمتردية ، يعني التي تردى من الجبل ، فتقع منه أو تقع في بئر فتموت ،

 والنطيحة ، يعني الشاة تنطح صاحبتها فتموت وما أكل السبع من الأنعام والصيد ، يعني فريسة السبع .

ثم استثنى ، فقال سبحانه : إلا ما ذكيتم ، يعني إلا ما أدركتم ذكاته من المنخنقة ،

والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع ، فما أدركتم ذكاته من المنخنقة ،

والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع مما أدركتم ذكاته ، يعني بطرف ، أو

بعرق يضرب ، أو بذنب بتحرك ، ويذكي فهو حلال وما ذبح على النصب ، يعني

وحرم ما ذبح على النصب ، وهي الحجارة التي كانوا ينصبونها في الجاهلية فيعبدونها ،

فهو حرام البتة ، وكان خزان الكعبة يذبحون لها ، وإن شاءوا بدلوا تلك الحجارة بحجارة أخرى ، وألقوا الأولى .

ثم قال تعالى ذكره : وأن تستقسموا بالأزلام ، يعني وأن تستقسموا الأمور

بالأزلام ، والأزلام قدحان في بيت أصنامهم ، فإذا أرادوا أن يركبوا أمرا أتوا بيت

أصنامهم ، فضربوا بالقدحين ، فما خرج من شيء عملوا به ، وكان كتب على

أحدهما :

أمرني ربي ، وعلى الآخر : نهاني ربي ، فإذا أرادوا سفرا أتوا ذلك البيت ، فغطوا عليه

ثوبا ، ثم يضربون بالقدحين ، فإن خرج السهم الذي فيه : أمرني ربي ، خرج في سفره ،

وإن خرج السهم الذي فيه : نهاني ربي ، لم يسافر ، فهذه الأزلام .

 ذلكم فسق ، يعني معصية حراما اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم ، يعني لا تخشوا الكفار واخشون في ترك أمرى ، قال سبحانه :

 اليوم أكملت لكم دينكم ، يعني يوم عرفة ، لم ينزل بعدها حلال ولا حرام ، ولا

حكم ، ولا حد ، ولا فريضة ، غير آيتين من آخر سورة النساء : يستفتونك [ النساء : ١٧٦ ] اليوم أكملت لكم دينكم ، يعني شرائع دينكم أمر الحلال والحرام ،

وذلك أن اللّه جل ذكره كان فرض على المؤمنين شهادة أن لا إله إلا اللّه ، وأن محمدا

رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، والإيمان بالبعث ، والجنة ، والنار ، والصلاة ركعتين غدوة وركعتين

بالعشى شيئا غير مؤقت ، والكف عن القتال قبل أن يهاجر النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وفرضت

الصلوات الخمس ليلة المعراج ، وهو بعد بمكة ، والزاكة المفروضة بالمدينة ، ورمضان ، والغسل من الجنابة ، وحج البيت ، وكل فريضة .

فلما حج حجة الوداع ، نزلت هذه الآية يوم عرفة ، فبركت ناقة النبي صلى اللّه عليه وسلم لنزول الوحي بجمع ، وعاش النبي صلى اللّه عليه وسلم بعدها إحدى وثمانين ليلة ، ثم مات يوم الاثنين لليلتين

خلتا من شهر ربيع الأول ، وهي آخر آية نزلت في الحلال والحرام اليوم أكملت لكم دينكم ، يعني شرائع دينكم أمر حلالكم وحرامكم وأتممت عليكم نعمتي ، يعني

الإسلام إذ حججتم وليس معكم مشرك ورضيت لكم الإسلام دينا ، يعني واخترت

لكم الإسلام دينا ، فليس دين أرضى عند اللّه عز وجل من الإسلام .

قال سبحانه : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [ آل عمران : ٨٥ ] ، ثم قال عز وجل : فمن اضطر في مخمصة ، يعني

مجاعة وجهد شديد أصابه من الجوع غير متجانف لإثم غير متعمد لمعصية ،

 فإن اللّه غفور رحيم [ آية : ٣ ] ، إذا رخص له في أكل الميتة ، ولحم الخنزير ، حين

أصابه الجوع الشديد والجهد ، وهو على غير المضطر حرام .

٤

المائدة : ٤ يسألونك ماذا أحل . . . . .

 يسئلونك ماذا أحل لهم من الصيد ، وذلك أن زيد الخير ، وهو من بني المهلهل ،

وعدي بن حاتم الطائيان ، سألا النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقالا : يا رسول اللّه ، كلاب آل درع وآل

حورية يصدن الظباء والبقر والحمر ، فمنها ما تدرك ذكاته فيموت ، وقد حرم اللّه عز

وجل الميتة ، فماذا يحل لنا ؟ فنزلت : يسئلونك ماذا أحل لهم من الصيد قل أحل لكم الطيبات ، يعني الحلال ، وذبح ما أحل اللّه لهم من الصيد مما أدركت ذكاته .

ثم قال : وما علمتم من الجوارح مكلبين ، يعني الكلاب معلمين للصيد ، تعلمونهن مما علمكم اللّه ، يقول : تؤدبوهن كما أدبكم اللّه ، فيعرفون الخير والشر ، وكذا

الكاتم أيضا ، فأدبوا كلابكم في أمر الصيد فكلوا مما أمسكن عليكم ، يقول : فكلوا مما أمسكن ، يعني حبسن عليكم الكلاب المعلمة واذكروا اسم اللّه عليه إذا أرسلتم بعد أن أمسك عليكم واتقوا اللّه ، فلا تستحلوا أكل الصيد من الميتة ، إلا ما ذكى من صيد الكلب المعلم ، ثم خوفهم ، فقال : إن اللّه سريع الحساب [ آية : ٤ ] لمن يستحل أكل الميتة من الصيد إلا من اضطر .

٥

المائدة : ٥ اليوم أحل لكم . . . . .

قوله : اليوم أحل لكم الطيبات ، يعني الحلال ، أي الذبائح من الصيد وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ، يعني بالطعام ذبائح الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى ، ذبائحهم ونساؤهم حلال للمسلمين وطعامكم حل لهم يعني ذبائح المسلمين وذبائح نسائهم حلال لليهود والنصارى ، ثم قال عز وجل : والمحصنات من المؤمنات ، يعني وأحل لكم تزويج العفائف من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا

الكتاب من قبلكم ، يعني وأحل تزويج العفائف من حرائر نساء اليهود والنصارى ،

نكاحهن حلال للمسلمين إذا آتيتموهن أجورهن ، يعني إذا أعطيتموهن مهورهن ،

 محصنين لفروجهن من الزنا غير مسافحين ، يعني غير معلنات بالزنا علانية ،

 ولا متخذي أخذان ، يعني لا تتخذ الخليل في السر فيأيتها ، فلما أحل اللّه عز وجل

نساء أهل الكتاب ، قال المسلمون : كيف تتزوجوهن وهن على غير ديننا ، وقالت نساء

أهل الكتاب : ما أحل اللّه تزويجنا للمسلمين إلا وقد رضى أعمالنا ، فأنزل اللّه عز وجل :

 ومن يكفر بالإيمان ، يعني من نساء أهل الكتاب بتوحيد اللّه فقد حبط عمله

وهو في الآخرة من الخاسرين [ آية : ٥ ] ، يعني من الكافرين .

٦

المائدة : ٦ يا أيها الذين . . . . .

 يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق

وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا ، يعني إن أصابتكم

جنابة فاطهروا ، يعني فاغتسلوا وإن كنتم مرضى ، نزلت في عبد الرحمن بن

عوف ، رضي اللّه عنه ، أو أصابكم جراحة ، أو جدري ، أو كان بكم قروح وأنتم

مقيمون في الأهل ، فخشيتم الضرر والهلاك ، فتيمموا الصعيد ضربة للوجه وضربة

للكفين أو  إن كنتم على سفر ، نزلت في عائشة ، رضى اللّه عنها ، حين

أسقطت قلادتها وهو مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في غزاة بني أنمار ، وهم حي من قيس عيلان .

 أو جاء أحد منكم من الغائط في السفر أو لامستم النساء ، يعني جامعتم

النساء في السفر فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم

منه ، يعني من الصعيد ضربتين ، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الكرسوع ، ولم

يؤمروا بمسح الرأس في التيمم ما يريد اللّه ليجعل عليكم من حرج ، يعني

ضيق في أمر دينكم ، إذ رخص لكم في التيمم ولكن يريد ليطهركم في أمر

دينكم من الأحداث والجنابة وليتم نعمته عليكم ، يعني إذ رخص لكم في

التيمم في السفر ، والجراح في الحضر لعلكم تشكرون [ آية : ٦ ] رب هذه

النعم فتوحدونه ، فلما نزلت الرخصة ، قال أبو بكر الصديق ، رضى اللّه عنه ، لعائشة ،

رضوان اللّه عليها : واللّه ما علمتك إلا مباركة .

٧

المائدة : ٧ واذكروا نعمة اللّه . . . . .

قوله سبحانه : واذكروا نعمة اللّه عليكم وميثاقه الذي واثقكم به ، يعني

بالإسلام يوم أخذ ميثاقكم على المعرفة باللّه عز وجل والربوبية إذ قلتم سمعنا وأطعنا ، ذلك أن اللّه عز وجل أخذ الميثاق الأول على العباد حين خلقهم من صلب

آدم ، عليه السلام ، فذلك قوله عز وجل : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا [ الأعراف : ١٧٢ ]

على أنفسنا ، فمن بلغ منهم العمل ، وأقر للّه عز وجل بالإيمان به ، وبآياته ، وكتبه ،

ورسله ، والكتاب ، والملائكة ، والجنة ، والنار ، والحلال ، والحرام ، والأمر ، والنهى أن

يعمل بما أمر ، وينتهي عما نهى ، فإذا أوفى للّه تعالى بهذا ، أوفى اللّه له بالجنة . .

فهذان ميثاقان ، ميثاق بالإيمان باللّه ، وميثاق بالعمل ، فذلك قوله سبحانه في البقرة :

 سمعنا وأطعنا [ البقرة : ٢٨٥ ] ، سمعنا بالقرآن الذي جاء من عند اللّه ، وأطعنا اللّه

عز وجل فيه ، وذلك قوله سبحانه في التغابن : فاتقوا اللّه ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا [ التغابن : ١٦ ] ، يقول : اسمعوا القرآن الذي جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم من عند اللّه عز

وجل ، وأطيعوا اللّه فيما أمركم ، فمن بلغ الحلم والعمل ولم يؤمن باللّه عز وجل ولا

بالرسول والكتاب ، فقد نقض الميثاق الأول بالإيمان باللّه عز وجل ، وبما أخذ اللّه تعالى

عليه حين خلقه وصار من الكافرين ، ومن أخذ اللّه عز وجل عليه الميثاق الأول ، ولم يبلغ

الحلم ، فإن اللّه عز وجل أعلم به .

قال : وسئل عبد اللّه بن عباس عن أطفال المشركين ، فقال : لقد أخذ اللّه عز وجل

الميثاق الأول عليهم ، فلم يدركوا أجلا ، ولم يأخذوا رزقا ، ولم يعملوا سيئة ولا تزر وازرة وزر أخرى [ الإسراء : ١٥ ] ، وماتوا على الميثاق الأول ، فاللّه أعلم بهم .

 واتقوا اللّه ، ولا تنقضوا ذلك الميثاق إن اللّه عليم بذات الصدور [ آية : ٧ ] ،

يعني بما في قلوبهم من الإيمان والشك .

٨

المائدة : ٨ يا أيها الذين . . . . .

قوله سبحانه : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين للّه شهداء بالقسط ، يعني

قوالين بالعدل ، شهداء للّه ولا يجرمنكم شنئان قوم ، يقول : لا تحملنكم

عداوة المشركين ، يعني كفار مكة على ألا تعدلوا على حجاج ربيعة ، وتستحلوا

منهم محرما اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا اللّه فاعدلوا ، فإن العدل أقرب

للتقوى ، يعني لخوف اللّه عز وجل إن اللّه خبير بما تعملون [ آية : ٨ ] ،

يعظهم ويحذرهم .

٩

المائدة : ٩ وعد اللّه الذين . . . . .

قال سبحانه : وعد اللّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، يعني وأدوا

الفرائض لهم مغفرة لذنوبهم وأجر عظيم [ آية : ٩ ] ، يعني جزاء حسنا ،

وهو الجنة ،

المائدة : ١٠ والذين كفروا وكذبوا . . . . .

 والذين كفروا من أهل مكة وكذبوا بآياتنا ، يعني القرآن ،

 أولئك أصحاب الجحيم [ آية : ١٠ ] ، يعني ما عظم من النار .

١١

المائدة : ١١ يا أيها الذين . . . . .

قوله سبحانه : يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت اللّه عليكم إذ هم قوم أن

يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم . . . الآية ، نزلت هذه الآية ؛ لأن

رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان قد بعث المنذر بن عمرو الأنصاري في أناس من أصحابه إلى بئر

معوتة ، وهو ماء بني عامر ، فساروا حتى أشرفوا على الأرض ، فأدركهم الماء فنزلوا ،

فلما كان المساء ، أضل أربعة منهم بعيرا لهم ، فاستأذنوا أن يقيموا ، فأذن لهم المنذر ، ثم

سار المنذر بمن معه ، وأصبح القوم وقد جمعوا لهم على الماء ، وكانت بنو سليم هم الذين

آذنوا بني عامر بهم ، فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا ، فقتل المنذر بن عمرو ومن معه ،

وأصاب الأربعة بعيرهم من الغد ، فأقبلوا في طلب أصحابهم ، فلقيتهم وليدة لبني عامر

في غنيمة ترعاها ، فقالت لهم : أمن أصحاب محمد أنتم ؟   نعم ، رجاء أن تسلم ،

فقالت : النجاء ، فإن إخوانكم قد قتلوا حول الماء ، قتلهم عامر بن الطفيل بن مالك بن

جعفر .

فقال أحد الأربعة : ما ترون ؟   نرى أن نرحل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فنخبره بالذي

كان ، قال : لكني واللّه لا أرجع حتى انتقم من أعداء أصحابي اليوم ، فامضوا راشدين

واقرأوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مني السلام كثيرا ، فأشرف على الخيل ، فنظر إلى أصحابه

مقتلين عند الماء ، فأخذ سيفه ، فضرب به حتى قتل ، رحمه اللّه ، ورجع الثلاثة إلى المدينة ،

فأتوها حين أمسوا ، فلقوا رجلين من بني سليم وهما خارجان من المدينة ، فقالوا لهما :

من أنتما ؟ قالا : نحن من بني عامر ، ف  أنتما ممن قتل إخواننا ، فأقبلوا عليهما

فقتلوهما .

ثم دخلوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فأخبروه الخبر ، فوجدوا الخبر قد سبق إليه ، ف  يا رسول

اللّه ، غشينا المدينة ممسين ، فوجدنا رجلين من بني عامر ، فقتلناهما وهذا سلبهما ، فقال

رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : بئس ما صنعتما ، فإنهما كانا من بني سليم ، قال : وكان بين بني

سليم وبين النبي صلى اللّه عليه وسلم موادعة وعهد ، فنزلت : يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي اللّه ورسوله ، يقول : لا تعجلوا بأمر ولا بفعل حتى يأمركم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

 واتقوا اللّه ولا تخالفوا على نبيكم إن اللّه سميع لما تقولون عليم

[ الحجرات : ١ ] بما تفعلون .

وجاء أهل السليميين ، ف  يا محمد ، إن صاحبينا أتياك فقتلا عندك ، فقال رسول

اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن صاحبيكما اعتزيا إلى عدونا حتى قتلا ، ولكنا سنعقل صاحبيكم ، فانطلق

رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أهل عهده ، فبدأ ببني النضير ، فقال : أنتم جيرننا وحلفاؤنا ، والأيام ،

دول ، وقد رأيتم الذي أصابنا ، فاتخذوا عندنا يدا نجزكم بها غدا إن شاء اللّه ، ف

مرحبا بك وأهلا ، إخواننا بنو قريظة لا نحب أن نسبقهم بأمر ، ولكن ائتنا يوم كذا

وكذا ، وقد جمعنا لك الذي تريد أن نعطيك .

فرجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من عندهم ، فأرسلوا إلى بني قريظة : أن محمدا مغرور ، يأتينا في

الرجل والرجلين ، فاجتمعوا له فاقتلوه ، فأتاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لميعادهم ، ومعه ثلاثة نفر :

أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، رضي اللّه عنهم ، وهو صلى اللّه عليه وسلم رابعهم ، فأجلسوه في صفة لهم ، ثم

خرجوا يجمعون السلاح له ، وكان كعب بن الأشرف عند ذلك بالمدينة ، فهم ينتظرونه

حتى يأتيهم ، فأوحى اللّه عز وجل إلى نبيه ، فأتاه جبريل ، عليه السلام ، فأخبره بما يراد به

وبأصحابه ، فقام نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ولم يؤذن أصحابه مخافة أن يثوروا بهم ، فأتى باب الدار ،

فقام به .

فلما أبطأ على أصحابه ، خرج على لينظر ما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فإذا هو على

الباب ، فقال : يا رسول اللّه ، احتبست علينا ، حتى خفنا عليك أن يكون قد اغتالك

أحد ، قال : فإن أعداء اللّه قد أرادوا ذلك ، فقم مكانك بالباب حتى يخرج إليه بعض

أصحابك ، فأقمه مكانك وأخبره بالذي أخبرتك ، ثم الحقني ، ومضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :

وقام الآخر بالباب ، حتى خرج إليه صاحبه ، فقال : احتبست أنت ورسول اللّه ، حتى

خفنا عليكما ، فأخبره الخبر ، فمكث مكانه ولحق الآخر برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فلما أبطأوا

على صاحبهم خرج ، فاتبعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فذلك قوله سبحانه : يا أيها الذين

آمنوا اذكروا نعمت اللّه عليكم إذ هم قوم ، وهم اليهود أن يبسطوا إليكم أيديهم بالسوء فكف أيديهم عنكم  واتقوا اللّه وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون [ آية : ١١ ] .

١٢

المائدة : ١٢ ولقد أخذ اللّه . . . . .

قوله سبحانه : ولقد أخذ اللّه ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ، يعني شاهدا على قومهم ، من كل سبط رجلا ليأخذ هذا الرجل على سبطه

الميثاق ، وشهداء على قومهم ، وكانوا اثنى عشر سبطا ، على كل سبط منهم رجلا ،

فأطاع اللّه عز وجل منهم خمسة ، فكان منهم طالوت ، ممن أطاع اللّه عز وجل ، وعصى

منهم سبعة ، فنقبوا على أن يعبدوا اللّه ولا يشركوا به شيئا وقال اللّه عز وجل

للنقباء الاثنى عشر إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي ، يعني الذين بعثتهم إليكم ، وفيهم عيسى ، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم ، فكفروا بعيسى ومحمد ،

صلى اللّه عليهما وسلم .

قال اللّه تعالى : ولقد أخذ اللّه ميثاقكم على أن تعملوا بما في التوراة ، فكان الإيمان

بالنبيين من عمل التوراة ، قال سبحانه : وعزرتموهم ، يعني وأعنتموهم حتى

يبلغوا الرسالة وأقرضتم اللّه قرضا حسنا ، يعني طيبة بها أنفسكم ، وهو التطوع ،

 لأكفرن عنكم سيئاتكم ، يقول : أغفر لكم خطاياكم الذي كان منكم فيما

بينكم وبيني ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار ، يعني الساتين فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل [ آية : ١٢ ] ، يعني فقد أخطأ

قصد الطريق ، طريق الهدى ، فنقضوا العهد والميثاق .

فذلك قوله سبحانه :

١٣

المائدة : ١٣ فبما نقضهم ميثاقهم . . . . .

 فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم ، فبنقضهم ميثاقهم لعناهم

بالمسخ وجعلنا قلوبهم قاسية ، يعني قست قلوبهم عن الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ،

 يحرفون الكلم عن مواضعه ، والكلم صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم ونسوا حظا مما ذكروا به ، وذلك أن اللّه عز وجل أخذ ميثاق بني إسرائيل في التوراة أن يؤمنوا

بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، ويصدقوا به ، وهو مكتوب عندهم في التوراة ، فلما بعثه اللّه عز وجل

كفروا به وحسدوه ، و  إن هذا ليس من ولد إسحاق ، وهو ولد من إسماعيل ، فقال

اللّه عز وجل : ولا تزال تطلع على خائنة منهم ، وهو الغش للنبي صلى اللّه عليه وسلم إلا قليلا منهم ، والقليل مؤمنيهم عبد اللّه بن سلام وأصحابه .

يقول اللّه عز وجل : فاعف عنهم واصفح ، حتى يأتي اللّه بأمره في أمر بني قريظة

والنضير ، فكان أمر اللّه فيهم القتل والسبي والجلاء ، يقول : فاعف عنهم حتى يأتي ، يعني

يجيء ذلك الأمر ، فبلغوه فسبوا وأجلوا ، فصارت آية العفو والصفح منسوخة ، نسختها

آية السيف في براءة ، فلما جاء ذلك الأمر قتلهم اللّه تعالى وسباهم وأجلاهم إن اللّه يحب المحسنين [ آية : ١٣ ] .

١٤

المائدة : ١٤ ومن الذين قالوا . . . . .

ثم ذكر أهل الإنجيل ، فقال سبحانه : ومن الذين قالوا إنا نصارى ، إنما

سموا نصارى ؛ لأنهم كانوا من قرية يقال لها : ناصرة ، كان نزلها عيسى ابن مريم صلى اللّه عليه وسلم ،

 أخذنا ميثاقهم ، وذلك أن اللّه كان أخذ عليهم الميثاق في الإنجيل بالإيمان بمحمد

 صلى اللّه عليه وسلم ، كما أخذ على أهل التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، ويتبعوه ويصدقوه ، وهو مكتوب

عندهم في الإنجيل ، يقول اللّه تعالى : فنسوا حظا مما ذكروا به ، يعني فتركوا

حظا مما أمروا به من إيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، والتصديق به ، ولو آمنوا لكان خيرا لهم ، وكان

لهم حظا .

يقول اللّه عز وجل : فأغرينا بينهم ، يعني بين النصارى العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة النسطورية والماريعقوبية ، وعبادة الملك ، فهم أعداء بعضهم لبعض إلى

يوم القيامة وسوف ينبئهم اللّه في الآخرة بما كانوا يصنعون

[ آية : ١٤ ] ، يعني بما يقولون من الجحود والتكذيب ، وذلك أن النسطورية ،   إن

عيسى ابن اللّه ، وقالت الماريعقوبية : إن اللّه هو المسيح ابن مريم ، وقالت عبادة الملك : إن

اللّه عز وجل ثالث ثلاثة ، هو إله ، وعيسى إله ، ومريم إله ، افتراء على اللّه تبارك وتعالى ،

وإنما اللّه إله واحد ، وعيسى عبد اللّه ونبيه صلى اللّه عليه وسلم ، كما وصف اللّه سبحانه نفسه : أحد ،

صمد ، لم يلد ، ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد .

١٥

المائدة : ١٥ يا أهل الكتاب . . . . .

 يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا محمد صلى اللّه عليه وسلم يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ، يعني التوراة ، أخفوا أمر الرجم ، وأمر محمد

 صلى اللّه عليه وسلم ويعفوا عن كثير ، يعني ويتجاوز عن كثير مما كتمتم ، فلا يخبركم

بكتمانه وقد جاءكم من اللّه نور ، يعني ضياء من الظلمة وكتاب مبين [ آية : ١٥ ] ، يعني بين .

١٦

المائدة : ١٦ يهدي به اللّه . . . . .

 يهدي به اللّه ، يعني بكتاب محمد صلى اللّه عليه وسلم من اتبع رضوانه سبل السلام ، يعني من اتبع دين محمد صلى اللّه عليه وسلم ودين الإسلام ، يهديه اللّه إلى طريق الجنة ،

 ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، يعني من الشرك إلى الإيمان ،

 بإذنه ، يعني بعلمه ويهديهم إلى صراط مستقيم [ آية : ١٦ ] .

١٧

المائدة : ١٧ لقد كفر الذين . . . . .

قوله سبحانه : لقد كفر الذين قالوا إن اللّه هو المسيح ابن مريم ، نزلت

في نصارى نجران الماريعقوبيين ، منهم السيد والعاقب وغيرهما قل لهم يا محمد ،

 فمن يملك ، فمن يقدر أن يمتنع من اللّه شيئا من شيء من عذابه ،

 إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا بعذاب

أو بموت ، فمن الذي يحول بينه وبين ذلك ؟ ثم عظم الرب جل جلاله نفسه عن قولهم

حين   إن اللّه هو المسيح ابن مريم ، فقال سبحانه : وللّه ملك السماوات والأرض ، يقول : إليه سلطان السموات والأرض وما بينهما من الخلق ،

 يخلق ما يشاء ، يعني عيسى ، شاء أن يخلقه من غير بشر واللّه على كل شيء

قدير [ آية : ١٧ ] من خلق عيسى من غير بشر وغيره من الخلق قدير ، مثلها في آخر

السورة .

١٨

المائدة : ١٨ وقالت اليهود والنصارى . . . . .

 وقالت اليهود يهود المدينة ، منهم : كعب بن الأشرف ، ومالك بن الضيف ،

وكعب بن أسيد ، وبحرى بن عمرو ، وشماس بن عمرو ، وغيرهم والنصارى من

نصارى نجران السيد والعاقب ومن معهما ، قالوا جميعا : نحن أبناء اللّه وأحباؤه ،

وافتخروا على المسلمين ، و  ما أحد من الناس أعظم عند اللّه منزلة منا ، فقال اللّه عز

وجل لمحمد صلى اللّه عليه وسلم قل للمسلمين يردوا عليهم فلم يعذبكم بذنوبكم ، حين

زعمتم وقلتم : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ، يعني عدة ما عبدوا فيها العجل ، إن كنتم

أبناء اللّه وأحباؤه ، أفتطيب نفس رجل أن يعذب ولده بالنار ؟ واللّه أرحم من جميع خلقه .

فقال اللّه عز وجل لنبيه صلى اللّه عليه وسلم قل لهم : بل أنتم بشر ممن خلق من العباد ، ولستم

بأبناء اللّه وأحبائه يغفر لمن يشاء ، يعني يتجاوز عمن يشاء فيهديه لدينه ،

 ويعذب من يشاء فيميته على الكفر ، ثم عظم الرب نفسه عز وجل عن قولهم : نحن

أبناء اللّه واحباؤه ، فقال سبحانه : وللّه ملك السماوات والأرض وما بينهما من الخلق

يحكم فيهما ما يشاءهم عبيده وفي ملكه وإليه المصير [ آية : ١٨ ] في الآخرة

فيجزيكم بأعمالكم .

١٩

المائدة : ١٩ يا أهل الكتاب . . . . .

 يا أهل الكتاب ، يعني اليهود ، منهم : رافع بن أبي حريملة ، ووهب بن يهوذا ،

 قد جاءكم رسولنا محمد صلى اللّه عليه وسلم يبين لكم الدين على فترة من الرسل فيها

تقديم ، وكان بين محمد وعيسى ، صلى اللّه عليهما وسلم ، ستمائة سنة أن تقولوا ،

يعني لئلا تقولوا : ما جاءنا من بشير بالجنة ولا نذير من النار ، يقول : فقد جاءكم بشير ونذير ، يعني النبي صلى اللّه عليه وسلم واللّه على كل شيء قدير [ آية : ١٩ ] ، إذ

بعث محمدا رسولا .

٢٠

المائدة : ٢٠ وإذ قال موسى . . . . .

 وإذ قال موسى لقومه ، وهم بنو إسرائيل يا قوم اذكروا نعمة اللّه عليكم

يعني بالنعمة إذ جعل فيكم السبعين الذي جعلهم اللّه أنبياء بعد موسى

وهارون ، وبعدما أتاهم اللّه بالصاعقة وجعلكم ملوكا ، يعني أغنياء ، بعضكم عن

بعض ، فلا يدخل عليه أحد إلا بإذنه بمنزلة الملوك في الدنيا ، ثم قال : وآتاكم ،

يعني وأعطاكم ما لم يؤت ، يعني ما لم يعط أحدا من العالمين [ آية : ٢٠ ] ،

يعني الخير والتوراة ، وما أعطاكم اللّه عز وجل في التيه من المن والسلوى ، وما ظلل

عليهم من الغمام وأشباه ذلك مما فضلوا به على غيرهم .

فقال موسى :

٢١

المائدة : ٢١ يا قوم ادخلوا . . . . .

 يا قوم بني إسرائيل ادخلوا الأرض المقدسة ، يعني المطهرة

 التي كتب اللّه لكم ، يعني التي أمركم اللّه عز وجل أن تدخلوها وهي أريحا أرض

الأردن وفلسطين ، وهما من الأرض المقدسة ولا ترتدوا على أدباركم ، يعني ولا

ترجعوا ورائكم بترككم الدخول فتنقلبوا خاسرين [ آية : ٢١ ] ، يعني فترجعوا

خاسرين .

وذلك أن اللّه عز وجل قال لإبراهيم ، عليه السلام ، وهو بالأرض المقدسة : إن هذه

الأرض التي أنت بها اليوم هي ميراث لولدك من بعدك ، فلما أخرج اللّه عز وجل

موسى ، عليه السلام ، من مصر مع بني إسرائيل ، وقطعوا البحر ، وأعطوا التوراة ، أمرهم

موسى أن يدخلوا الأرض المقدسة ، فساروا حتى نزلوا على نهر الأردن في جبل أريحا ،

وكان في أريحا ألف قرية ، في كل قرية ألف بستان ، وجبنوا أن يدخلوها ، فبعث موسى ،

عليه السلام ، اثنى عشر رجلا ، من كل سبط رجلا ، يأتونه بخبر الجبارين ، وأمرهم أن

يأتوه منها بالثمرة .

فلما أتوها خرج إليهم عوج بن عناق بنت آدم ، فاحتملهم ومتاعهم بيده حتى

وضعهم بين يدي الملك بن بانوس سشرون ، فنظر إليهم ، فأمر بقتلهم ، فقالت إمرأته :

أيها الملك ، أنعم على هؤلاء المساكين ، فدعهم فليرجعوا وليأخذوا طريقاً غير الذي

جاءوا فبه ، فأرسلهم لها ، فأخوا عنقودا من كرومهم ، وحملوه على عمودين بين رجلين ،

وعجزوا عن حمله ، وحملوا رمانتين على بعض دوابهم ، فعجزت الدابة عن حملهما حتى

أتوا به أصحابهم وهم بواد يقال له : جبلان ، فسموا ذلك المنزل وادى العنقود ؟

٢٢

المائدة : ٢٢ قالوا يا موسى . . . . .

 قالوا يا موسى وجدناها أرضا مباركة تفيض لبنا وعسلا كما عهد اللّه عز وجل

إليك ، ولكن إن فيها قوما جبارين ، يعني قتالين أشداء يقتل الرجل منهم العصابة منا ،

فإن كان اللّه عز وجل أراد أن يجعلها لنا منزلا وسكنا ، فليسلطك عليهم فتقتلهم وإلا

فليس لنا بهم قوة ، وحصنهم منيع ، فتتابع على ذلك منهم عشرة ، فقالوا لموسى : إن فيها قوما جبارين ، طول كل رجل منهم سبعة أذرع ونصف من بقايا قوم عاد ، وكان

عوج بن عناق بنت آدم فيهم وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها ، وهي أريحا ،

 فإن يخرجوا منها فإنا داخلون [ آية : ٢٢ ] .

قال يوشع بن نون ، وهو من سبط بنيامين ، وكالب بن يوقنا ، وهو من سبط يهوذا ،

٢٣

المائدة : ٢٣ قال رجلان من . . . . .

 قال رجلان ، وهما الرجلان من القوم من الذين يخافون من العدو وقد

 أنعم اللّه عليهما بالإسلام ، قالا : ليس كما يقول العشرة ، سيروا حتى تحيطوا بالمدينة

وبأبوابها ، فإن القوم إذا رأوا كثرتكم بالباب وكبرتم رعبوا منكم ، فانكسرت قلوبهم

وانقطعت ظهورهم ، وذهبت قوتهم ، ف ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى اللّه فتوكلوا ، يقول : وباللّه فلتتقوا إن كنتم مؤمنين [ آية : ٢٣ ]

بقتلهم بأيديكم ، وينفيهم من أرض هي ميراثهم .

٢٤

المائدة : ٢٤ قالوا يا موسى . . . . .

 قالوا يا موسى أتصدق رجلين وتكذب عشرة يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك ينصرك عليهم فقاتلا إنا هاهنا قاعدون [ آية :

٢٤ ] ، يعني مكاننا ، فإننا لا نستطيع قتال الجبابرة ، فغضب موسى عليهم ،

٢٥

المائدة : ٢٥ قال رب إني . . . . .

و قال رب إني لا أملك من الطاعة إلا نفسي وأخي هارون فافرق بيننا ، يعني فاقض

بيننا وبين القوم الفاسقين [ آية : ٢٥ ] ، يعني العاصين الذين عصوا أن يقاتلوا

عدوهم ، وهم كلهم مؤمنون .

٢٦

المائدة : ٢٦ قال فإنها محرمة . . . . .

فأوحى اللّه عز وجل إلى موسى ، عليه السلام : أما إذا سميتهم فاسقين ، فالحق أقول :

لا يدخلونها أبداً ، وذلك قوله عز وجل : قال فإنها محرمة عليهم دخولها البتة أبدا ،

 أربعين سنة فيها تقديم يتيهون في الأرض في البرية ، فأعمى اللّه عز

وجل عليهم السبيل ، فحبسهم بالنهار ، وسيرهم بالليل ، يسهرون ليلهم ، فيصبحون حيث أمسوا ، فإذا بلغ أجلهم ، وهو أربعون سنة ، أرسلت عليهم الموت ، فلا يدخلها إلا

خلوفهم ، إلا يوشع بن نون ، وكالب بن يوقنا ، فهما يسوقان بني إسرائيل إلى تلك

الأرض ، فتاة القوم في تسع فراسخ عرض وثلاثين فرسخا طول ، وقالوا أيضا : ستة

فراسخ عرض في اثنى عشر فرسخا طول ، فقال القوم لموسى ، عليه السلام ، ما صنعت

بنا ، دعوت علينا حتى بقينا في التيه ؟ وندم موسى ، عليه السلام ، على ما دعا عليهم ،

وشق عليه حين تاهوا ، فأوحى اللّه عز وجل إليه : فلا تأس على القوم الفاسقين

[ آية : ٢٦ ] ، يعني لا تحزن على قوم أنت سميتهم فاسقين أن تاهوا .

ثم مات هارون ، عليه السلام ، في التيه ، ومات موسى من بعده بستة أشهر ، فماتا

جميعا في التيه ، ثم إن اللّه عز وجل أخرج ذرياتهم بعد أربعين سنة وقد هلكت الأمة

العصاة كلها ، وخرجوا مع يوشع بن نون ابن أخت موسى ، وكالب بن يوقنا بعد وفاة

موسى ، عليه السلام ، بشهرين ، فأتوا أريحا ، فقاتلوا أهلها ففتحوها ، وقتلوا مقاتلهم ،

وسبوا ذراريهم ، وقتلوا ثلاثة من الجبارين ، وكان قاتلهم يوشع بن نون ، فغابت الشمس ،

فدعا يوشع بن نون ، فرد اللّه عز وجل عليه الشمس ، فأطلعت ثانية ، وغابت الشمس

الثانية ، ودار الفلك فاختلط على الحساب حسابهم منذ يومئذ فيما بلغنا ، ومات في التيه ،

كل ابن عشرين سنة فصاعدا ، وموضع التيه بين فلسطين وإيلة ومصر ، فتاه القوم

بعصيانهم ربهم عز وجل ، وخلافهم على نبيهم ، مع دعاء بلعام بن باعور بن ماث

عليهم فيما بين ستة فراسخ إلى اثنى عشر فرسخا ، لا يستطيعون الخروج منها أربعين

سنة ، ومات هارون حين أتم ثمانية وثمانين سنة ، وتوفي موسى بعده بستة أشهر ،

واستخلف عليهم يوشع بن نون ، وحين ماتوا كلهم أخرج ذراريهم يوشع بن نون ،

وكالب بن يوقنا .

٢٧

المائدة : ٢٧ واتل عليهم نبأ . . . . .

 واتل عليهم نبأ ابني آدم ، يقول : اتل يا محمد على أهل مكة نبأ ابنى آدم ،

 بالحق ليعرفوا نبوتك ، يقول : اتل عليهم حديث ابنى آدم هابيل وقابيل ، وذلك أن

حواء ولدت في بطن واحد غلاما وجارية ، قابيل وإقليما ، ثم ولدت في البطن الآخر

غلاما وجارية ، هابيل وليوذا ، وكانت أخت قابيل أحسن من أخت هابيل ، فلما أدركا ،

قال آدم ، عليه السلام ، ليتزوج كل واحد منهما أخت الآخر ، قال قابيل : لكن يتزوج

كل واحد منهما أخته التي ولدت معه ، قال آدم ، عليه السلام : قربا قربانا ، فأيما تقبل

قربانه كان أحق بهذه الجارية .

وخرج آدم ، عليه السلام ، إلى مكة ، فعمد قابيل ، وكان صاحب زرع ، فقرب أخبث

زرعه البر المأكول فيه الزوان ، وكان هابيل صاحب ماشية ، فعمد فقرب خير غنمه مع

زبد ولبن ، ثم وضعا القربان على الجبل ، وقاما يدعوان اللّه عز وجل ، فنزلت نار من

السماء ، فأكلت قربان هابيل ، وتركت قربان قابيل ، فحسده قابيل ، فقال لهابيل :

لأقتلنك ، قال هابيل : يا أخي ، لا تلطخ يدك بدم برئ ، فترتكب أمرا عظيما ، إنما طلبت

رضا والدي ورضاك ، فلا تفعل ، فإنك إن فعلت أخزاك اللّه بقتلك إياي بغير ذنب ولا

جرم ، فتعيش في الدنيا أيام حياتك في شقوة ومخافة في الأرض ، حتى تكون من الخوف

والحزن أدق من شعر رأسك ، ويجعلك إلهي ملعونا .

فلم يزل يحاوره حتى انتصف النهار ، وكان في آخر مقالة هابيل لقابيل : إن أنت

قتلتني كنت أول من كتب عليه الشقاء ، وأول من يساق إلى النار من ذرية والدي ،

وكنت أنا أول شهيد يدخل الجنة ، فغضب قابيل : فقال لا عشت في الدنيا ، ويقال : قد

تقبل قربانه ولم يتقبل قرباني ، فقال له هابيل : فتشفى آخر الأبد ، فغضب عند ذلك

قابيل ، فقتله بحجر دق رأسه ، وذلك بأرض الهند عشية ، وآدم ، عليه السلام ، بمكة ،

فذلك قوله عز وجل : إذ قربا قربانا فتقبل من

أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل اللّه من المتقين [ آية : ٢٧ ] .

٢٨

المائدة : ٢٨ لئن بسطت إلي . . . . .

 لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف اللّه رب العالمين [ آية : ٢٨ ] ،

٢٩

المائدة : ٢٩ إني أريد أن . . . . .

 إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك

جزاء الظالمين [ آية : ٢٩ ] ،

٣٠

المائدة : ٣٠ فطوعت له نفسه . . . . .

 فطوعت له نفسه قتل أخيه ، يقول : قزينت له

نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين [ آية : ٣٠ ] .

قال : وكان هابيل قال لأخيه قابيل : لئن بسطت إلي يدك لتقتلني إلى

قوله :

 بإثمي وإثمك ، يعني أن ترجع بإثمي بقتلك إياي ، وإثمك الذي عملته قبل قتلي ،

 فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ، يعني جزاء من قتل نفسا بغير جرم ،

فلما قتله عشية من آخر النهار ، لم يدر ما يصنع ، وندم ولم يكن يومئذ على الأرض بناء

ولا قبر ، فحمله على عاتقه ، فإذا أعيى وضعه بين يديه ، ثم ينظر إليه ويبكي ساعة ، ثم

يحمله ، ففعل ذلك ثلاثة أيام .

٣١

المائدة : ٣١ فبعث اللّه غرابا . . . . .

فلما كان في الليلة الثالثة ، بعث اللّه غرابين يقتتلان ، فقتل

أحدهما صاحبه وهو ينظر ،

ثم حفر بمنقاره في الأرض ، فلما فرغ منه ، أخذ بمنقاره رجل الغراب الميت ، حتى قذفه

في الحفيرة ، ثم سوى الحفيرة بالأرض ، وقابيل ينظر ، فذلك قوله تعالى : فبعث اللّه

غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال قابيل : يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب ، يقول : أعجزت أن أعلم من العلم مثل ما علم هذا

الغراب فأواري سوءة أخي ، يقول : فأغطى عورة أخي كما وارى الغراب صاحبه ،

 فأصبح من النادمين [ آية : ٣١ ] بقتله أخاه .

فعمد عند ذلك قابيل ، فحفر في الأرض بيده ، ثم قذف أخاه في الحفيرة ، فسوى

عليه تراب الحفيرة كما فعل الغراب بصاحبه ، فلما دفنه ألقى اللّه عز وجل عليه الخوف ،

يعني على قابيل ؛ لأنه أول من أخاف ، فانطلق هاربا ، فنودى من السماء : يا قابيل ، أين

أخوك هابيل ؟ قال : أو رقيبا كنت عليه ؟ ليذهب حيث شاء ، قال المنادي : أما تدري أين

هو ؟ قال : لا ، قال المنادي : إن لسانك وقلبك ويديك ورجليك وجميع جسدك يشهدون

عليك أنك قتلته ظلما ، فلما أنكر شهدت عليه جوارحه ، فقال المنادي : أين تنجو من

ربك ؟ إن إلهي يقول : إنك ملعون بكل أرض ، وخائف ممن يستقبلك ، ولا خير فيك ،

ولا في ذريتك .

فانطلق جائعا ، حتى أتى ساحل البحر ، فجعل يأخذ الطير ، فيضرب بها الجبل ،

فيقتلها ويأكلها ، فمن أجل ذلك حرم اللّه الموقوذة ، وكانت الدواب ، والطير ، والسباع ،

لا يخاف بعضها من بعض ، حتى قتل قابيل هابيل ، فلحقت الطير بالسماء ، والوحش

بالبرية والجبال ، ولحقت السباع بالغياض ، وكانت قبل ذلك تستأنس إلى آدم ، عليه

السلام ، وتأتيه ، وغضبت الأرض على الكفار من يومئذ ، فمن ثم يضغط الكافر في

الأرض حتى تختلف أضلاعه ، ويتسع على المؤمن قبره حتى ما يرى طرفاه ، وتزوج شيت

بن آدم ليوذا التي ولدت مع هابيل ، وبعث اللّه عز وجل ملكا إلى قابيل فعلق رجله ،

وجعل عليه ثلاث سرادقات من نار ، كلما دار دارت السرادقات معه ، فمكث بذلك

حينا ، ثم حل عنه .

٣٢

المائدة : ٣٢ من أجل ذلك . . . . .

 من أجل ذلك ، يعني من أجل بني آدم ، تعظيما للدم كتبنا على بني إسرائيل في التوراة أنه من قتل نفسا بغير نفس عمدا أو فساد في الأرض ، أو عمل فيها بالشرك ، وجبت له النار ، ولا يعفى عنه حتى يقتل ،

 فكأنما قتل الناس جميعا ، أي كما يجزي النار لقتله الناس جميعا لو قتلهم ، ثم

قال سبحانه : ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ، وذلك أنه مكتوب في

التوراة أنه من قتل رجلا خطأ ، فإنه يقاد به ، إلا أن يشاء ولى المقتول أن يعفو عنه ، فإن

عفا عنه ، وجبت له الجنة ، كما تجب له الجنة لو عفا عن الناس جميعا ، فشدد اللّه عز

وجل عليهم القتل ؛ ليحجز بذلك بعضهم عن بعض ، قال سبحانه : ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ، يعني بالبيان في أمره ونهيه ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك

البيان في الأرض لمسرفون [ آية : ٣٢ ] ، يعني إسرافا في سفك الدماء واستحلال

المعاصي .

٣٣

المائدة : ٣٣ إنما جزاء الذين . . . . .

قوله سبحانه : إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله ، يعني بالمحاربة الشرك ،

نظيرها في براءة ، وإرصادا لمن حارب اللّه ورسوله ، وذلك أن تسعة نفر من عرينة وهم

من بجيلة ، أتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة فأسلموا ، فأصابهم وجع شديد ، ووقع الماء الأصفر في

بطونهم ، فأمرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة ليشربوا من ألبانها وأبوالها ، ففعلوا

ذلك ، فلما صحوا عمدوا إلى الراعي ، فقتلوه وأغاروا على الإبل ، فاستاقوها وارتدوا عن

الإسلام ، فبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم على بن أبي طالب ، رضى اللّه عنه ، في نفر فأخذهم .

فلما أتوا بهم النبي صلى اللّه عليه وسلم ، أمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم ، وسملت أعينهم ، فأنزل

اللّه عز وجل فيهم : إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله ، يعني الكفر بعد

الإسلام ويسعون في الأرض فسادا القتل وأخذ الأموال أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، يعني اليد اليمنى والرجل اليسرى ، فالإمام

في ذلك بالخيار في القتل والصلب ، وقطع الأبدى والأرجل أو ينفوا من الأرض ، يقول : يخرجوا من الأرض ، أرض المسلمين ، فينفوا بالطرد ذلك

جزاءهم الخزى لهم خزي في الدنيا قطع اليد والرجل والقتل والصلب في الدنيا ،

 ولهم في الآخرة عذاب عظيم [ آية : ٣٣ ] ، يعني كثيرا وافرا لا انقطاع له .

٣٤

المائدة : ٣٤ إلا الذين تابوا . . . . .

ثم استثنى ، فقال عز وجل : إلا الذين تابوا من الشرك من قبل أن تقدروا عليهم ، فتقيموا عليهم الحد ، فلا سبيل لكم عليهم ، يقول : من جاء منهم مسلما قبل

أن يؤخذ ، فإن الإسلام يهدم ما أصاب في كفره من قتل أو أخذ مال ، فذلك قوله

سبحانه : فاعلموا أن اللّه غفور لما كان منه في كفره رحيم [ آية : ٣٤ ] به

حين تاب ورجع إلى الإسلام ، فأما من قتل وهو مسلم ، فارتد عن الإسلام ، ثم رجع

مسلما ، فإنه يؤخذ بالقصاص .

٣٥

المائدة : ٣٥ يا أيها الذين . . . . .

وقوله سبحانه : يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وابتغوا إليه الوسيلة ، يعني

في طاعته بالعمل الصالح وجاهدوا العدو في سبيله ، يعني في طاعته ،

 لعلكم ، يعني لكي تفلحون [ آية : ٣٥ ] ، يعني تسعدون ، ويقال :

تفوزون .

٣٦

المائدة : ٣٦ إن الذين كفروا . . . . .

وقوله سبحانه : إن الذين كفروا من أهل مكة لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به ، أي فقدروا أن يفتدوا به من عذاب جهنم

 يوم القيامة ، يقول : لو كان ذلك لهم وفعلوه ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم

[ آية : ٣٦ ] ،

٣٧

المائدة : ٣٧ يريدون أن يخرجوا . . . . .

 يريدون أن يخرجوا من النار بالفداء وما هم بخارجين منها

أبدا ولهم عذاب مقيم [ آية : ٣٧ ] ، يعنى دائم .

٣٨

المائدة : ٣٨ والسارق والسارقة فاقطعوا . . . . .

وقوله سبحانه : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ، يعني أيمانهما من

الكرسوع ، يقول : القطع جزاء بما كسبا ، يعني سرقا نكالا من اللّه ، يعني

عقوبة من اللّه قطع اليد واللّه عزيز حكيم [ آية : ٣٨ ] ،

٣٩

المائدة : ٣٩ فمن تاب من . . . . .

 فمن تاب من بعد ظلمه ، يقول : من تاب من بعد سرقته وأصلح العمل فيما بقى فإن اللّه يتوب عليه إن اللّه غفور لذنبه رحيم [ آية : ٣٩ ] به ، وأما المال ، فلا بد أن يرده

إلى صاحبه .

٤٠

المائدة : ٤٠ ألم تعلم أن . . . . .

وقوله سبحانه : ألم تعلم يا محمد أن اللّه له ملك السماوات والأرض

يحكم فيهما بما يشاء يعذب من يشاء من أهل معصيته ويغفر لمن يشاء ،

يعني به المؤمنين واللّه على كل شيء من العذاب والمغفرة قدير [ آية :

٤٠ ] .

٤١

المائدة : ٤١ يا أيها الرسول . . . . .

وقوله سبحانه : يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من

الذين قالوا ءامنا بأفواههم ، يعني صدقنا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم في

السر ، نزلت في أبي لبابة ، إسمه : مروان بن عبد المنذر الأنصاري ، من بني عمرو بن

عوزف ، وذلك أنه أشار إلى أهل قريظة إلى حلقه أن محمدا جاء يحكم فيكم بالموت ، فلا

تنزلوا على حكم سعد بن معاذ ، وكان حليفا لهم ، قال سبحانه : ومن الذين هادوا ، أي ولا يحزنك الذين هادوا ، يعني يهود المدينة سماعون للكذب ، يعني قوالون للكذب ، منهم : كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسيد ، وأبو

لبابة ، وسعيد بن مالك ، وإبن صوريا ، وكنانة بن أبي الحقيق ، وشاس بن قيس ، وأبو رافع

بن حريملة ، ويوسف بن عازر بن أبي عازب ، وسلول بن أبي سلول ، والبخام بن عمرو ،

وهم سماعون لقوم ءاخرين ، يعني يهود خيبر لم يأتوك يا محمد

 يحرفون الكلم ، يعني أمر الرجم من بعد مواضعه عن بيانه في التوراة .

وذلك أن رجلا من اليهود يسمى يهوذا ، وإمرأة تسمى بسرة من أهل خيبر من

أشراف اليهود ، زنيا وكانا قد أحصنا ، فكرهت اليهود رجمهما من أجل شرفهما

وموضعهما ، فقالت يهود خيبر : نبعث بهذين إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فإن في دينه الضرب ،

وليس في دينه الرجم ، ونوليه الحكم فيهما ، فإن أمركم فيهما بالضرب فخذوه ، وإن

أمركم فيهما بالرجم فاحذروه ، فكتب يهود خيبر إلى يهود المدينة ، إلى كعب بن

الأشرف ، وكعب بن أسيد ، ومالك بن الضيف ، وأبي لبابة ، وبعثوا نفرا منهم ، ف

سلوا لنا محمدا ، عليه السلام ، عن الزانيين إذا أحصنا ما عليهما ؟ فإن أمركم بالجلد

فخذوا به ، والجلد الضرب بحبل من ليف مطلي بالقار ، وتسود وجوههما ويحملان على

حمار ، وتجعل وجوههما مما يلي ذنب الحمار ، فذلك التجبية , .

 يقولون ، أي اليهود إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ، أي إن

أمركم بالرجم فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه ، قال : فجاء كعب بن

الأشرف ، ومالك بن الضيف ، وكعب بن أسيد ، وأبو لبابة ، إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ف  أخبرنا

عن الزانيين إذا أحصنا ما عليهما ، فأتاه جبريل ، عليه السلام ، فأخبره بالرجم ، ثم قال

جبريل ، عليه السلام : إجعل بينك وبينهم إبن صوريا ، وسلهم عنه ، فمشى رسول اللّه

 صلى اللّه عليه وسلم حتى أتى أحبارهم في بيت المدارس ، فقال : يا معشر اليهود ، أخرجوا إلى

علماءكم ، فأخرجوا إليه عبد اللّه بن صوريا ، وأبا ياسر بن أخطب ، ووهب بن يهوذا ،

ف  هؤلاء علماؤنا ، ثم حصر أمرهم ، إلى أن قالوا لعبد اللّه بن صوريا : هذا أعلم من

بقى بالتوراة ، فجاء به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .

وكان ابن صوريا غلاما شابا ، ومع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عبد اللّه بن سلام ، فقال رسول

اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أنشدك باللّه الذي لا إله إلا هو هو إله بني إسرائيل ، الذي إخرجكم من مصر ،

وفلق لكم البحر ، وأنجاكم وأغرق آل فرعون ، وأنزل عليكم كتابه يبين لكم حلاله

وحرامه ، وظلل عليكم المن والسلوى ، هل وجدتم في كتابكم أن الرجم على من

أحصن ؟ ، قال ابن صوريا : اللّهم نعم ، ولولا أني خفت أن أحترق بالنار ، أو أهلك

بالعذاب ، لكتمتك حين سألتني ، ولم أعترف لك ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : اللّه أكبر ، فأنا

أول من أحيا سنة من سنن اللّه عز وجل ، ثم أمر بهما فرجما عند باب مسجده في بنى

غنم بن مالك بن النجار .

فقال عبد اللّه بن صوريا : واللّه يا محمد ، أن اليهود لتعلم أنك نبي حق ، ولكنهم

يحسدونك ، ثم كفر أبن صوريا بعد ذلك ، فأنزل اللّه عزوجل : يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ، يعني مما في التوراة

من أمر الرجم ، ونعت محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ثم قال : ويعفو عن كثير ، فلا يخبر به ، فقال

النبي صلى اللّه عليه وسلم لليهود : إن شئتم أخبرتكم بالكثير ، قال ابن صوريا : أنشدك باللّه أن تخبرنا

بالكثير مما أمرت أن تعفو عنه .

ثم قال ابن صوريا للنبي صلى اللّه عليه وسلم : أخبرني عن ثلاث خصال لا يعلمهن إلا نبي ، فقال

رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : هات ، سل عما شئت ، قال : أخبرني عن نومك ؟ قال : تنام عيني

وقلبي يقظان ، قال ابن صوريا : صدقت ، قال : فأخبرني عن شبه الولد ، من أين يشبه

الأب أو الأم ؟ قال : أيهما سبقت الشهوة له كان الشبه له ، قال : صدقت ، قال :

أخبرني ما للرجل وما للمرأة من الولد ، ومن أيهما يكون ؟ قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : اللحم

والدم والظفر والشعر للمرأة ، والعظم والعصب والعروق للرجل ، قال : صدقت ، قال :

فمن وزيرك من الملائكة ، ومن يجيئك بالوحي ؟ قال : جبريل ، عليه السلام ، قال :

صدقت يا محمد ، وأسلم عند ذلك .

قوله سبحانه : إن أوتيتم هذا فخذوه ، يقول ذلك يهود خيبر ليهود المدينة ،

كعب بن الأشرف ، ومالك بن الضيف ، وكعب بن أسيد ، وأبي لبابة : إن أمركم محمد

بالجلد فاقبلوه ، وإن لم تؤتوه ، يعني الجلد ، وإن أمركم بالرجم فاحذروا ، فإنه نبي ، قال

اللّه عزوجل : ومن يرد اللّه فتنته فلن تملك له من اللّه شيئا أولئك الذين ، يعني اليهود لم يرد اللّه أن يطهر قلوبهم من الكفر حين كتموا أمر

الرجم ونعت محمد صلى اللّه عليه وسلم لهم في الدنيا خزي ، يعني به اليهود ، وهم أهل قريظة ، أما

الخزي الذي نزل بهم ، فهو القتل والسبى ، وأما خزي أهل النضير ، فهو الخروج من

ديارهم وأموالهم وجناتهم ، فأجلوا إلى الشام ، إلى أذرعات وأريحا ولهم في الآخرة عذاب عظيم [ آية : ٤١ ] ، يعني ما عظم من النار .

٤٢

المائدة : ٤٢ سماعون للكذب أكالون . . . . .

ثم قال : سماعون ، يعني قوالون للكذب للزور ، منهم : كعب بن

الأشرف ، وكعب بن أسيد ، ومالك بن الضيف ، ووهب بن يهوذا أكالون للسحت ، يعني الرشوة في الحكم ، كانت اليهود قد جعلت لهم جعلا في كل سنة ،

على أن يقضوا لهم بالجور ، يقول اللّه عزوجل : فإن جاءوك يا محمد في الرجم ،

 فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ، يعني بالعدل إن اللّه يحب المقسطين [ آية : ٤٢ ] ، يعني الذين

يعدلون في الحكم ، ثم نسختها الآية التي حاءت بعد ، وهي

قوله : وأن احكم بينهم بما أنزل اللّه إليك في الكتاب أن الرجم على المحصن والمحصنة ، ولا ترد الحكم ،

 ولا تتبع أهواءهم ، يعني كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسيد ، ومالك بن

الضيف .

٤٣

المائدة : ٤٣ وكيف يحكمونك وعندهم . . . . .

قال تعالى : وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم اللّه ، يعني الرجم على

المحصن والمحصنة ، والقصاص في الدماء سواء ثم يتولون من بعد ذلك ، يعني

يعرضون من بعد البيان في التوراة وما أولئك بالمؤمنين [ آية : ٤٣ ] ، يعني وما

أولئك بمصدقين حين حرفوا ما في التوراة .

[ آية ٤٥ - ٤٧ ]

المائدة : ٤٤ إنا أنزلنا التوراة . . . . .

ثم أخبر اللّه عن التوراة ، فقال سبحانه : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور وضياء

من الظلمة يحكم بها النبيون من لدن موسى ، عليه السلام ، إلى عيسى ابن مريم

 صلى اللّه عليه وسلم ، ألف نبي الذين أسلموا ، يعني أنهم مسلمون ، أو أسلموا وجوههم للّه ،

 للذين هادوا ، يعني اليهود يحكمون بما لهم وما عليهم و يحكم بها

 والربانيون ، وهم المتعبدون من أهل التوراة من ولد هارون ، يحكمون بالتوراة ،

 والأحبار ، يعني القراء والعلماء منهم بما استحفظوا من كتاب اللّه عز وجل

من الرجم ، وبعث محمد صلى اللّه عليه وسلم في كتابهم ، ثم قال يهود المدينة ، كعب بن الأشرف ،

وكعب بن أسيد ، ومالك بن الضيف ، وأصحابهم وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس ، يقول : لا تخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرجم ، ونعت محمد صلى اللّه عليه وسلم ،

 واخشون إن كتمتموه ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا عرضا يسيرا مما كانوا

يصيبون من سفلة اليهود من الطعام والثمار ومن لم يحكم بما أنزل اللّه في

التوراة بالرجم ونعت محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ويشهد به فأولئك هم الكافرون [ آية : ٤٤ ] .

ولما أرادوا القيام ، قالت بنو قريظة ، أبو لبابة ، وشعبة بن عمرو ، ورافع بن حريملة ،

وشاس بن عمرو ، للنبي صلى اللّه عليه وسلم : إخواننا بني النضير ، كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسيد ،

ومالك بن الضيف ، وغيرهم ، أبونا واحد ، وديننا واحد ، إذا قتل أهل النضير منا قتيلا ،

أعطونا سبعين وسقا من تمر ، وإن قتلنا منهم قتيلا ، أخذوا منا مائة وأربعين وسقا من

تمر ، وجراحاتنا على أنصاف جراحاتهم ، فاقض بيننا وبينهم يا محمد ، فقال رسول اللّه

 صلى اللّه عليه وسلم : إن دم القرظى وفاء من دم النضيري ، وليس للنضيري على القرظي فضل في الدم

ولا في العقل ، قال كعب بن الأشرف ، ومالك بن الضيف ، وكعب بن أسيد ،

وأصحابهم : لا نرضى بقضائك ، ولا نطيع أمرك ، ولنأخذن بالأمر الأول ، فإنك عدونا ،

وما تأول أن تضعنا وتضرنا .

وفي ذلك يقول اللّه تعالى : أفحكم الجاهلية يبغون ، يعني حكمهم الأول ،

 ومن أحسن من اللّه حكما ، يقول : فلا أحد أحسن من اللّه حكما لقوم يوقنون . وعد اللّه عز وجل ووعيده ،

٤٥

المائدة : ٤٥ وكتبنا عليهم فيها . . . . .

ثم أخبر عن التوراة ، فقال سبحانه : وكتبنا عليهم فيها ، يعني وفرضنا عليهم في التوراة ، نظيرها في المجادلة : كتب اللّه

[ المجادلة : ٢١ ] ، يعني قضى أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ، يقول : فمن تصدق بالقتل والجراحات ، فهو كفارة لذنبه ، يقول : إن عفى المجروح

عن الجارح ، فهو كفارة للجارح من الجرح ، ليس عليه قود ولا دية ومن لم يحكم بما أنزل اللّه في التوراة من أمر الرجم والقتل والجراحات فأولئك هم الظالمون [ آية : ٤٥ ] .

٤٦

المائدة : ٤٦ وقفينا على آثارهم . . . . .

ثم أخبر عن أهل الإنجيل ، فقال : وقفينا على آثارهم ، يعني وبعثنا من بعدهم ، يعني

من بعد أهل التوراة بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة ، يقول : عيسى

يصدق بالتوراة وآتيناه الإنجيل ، يعني أعطينا عيسى الإنجيل فيه هدى من

الضلالة ونور من الظلمة ومصدقا لما بين يديه من التوراة ، يقول : الإنجيل

يصدق التوراة و الإنجيل وهدى من الضلالة وموعظة من الجهل ،

 للمتقين [ آية : ٤٦ ] الشرك .

٤٧

المائدة : ٤٧ وليحكم أهل الإنجيل . . . . .

ثم قال عز وجل : وليحكم أهل الإنجيل من الأحبار والرهبان بما أنزل اللّه فيه ، يعني في الإنجيل من العفو عن القاتل أو الجارح والضارب ومن لم يحكم بما أنزل اللّه في الإنجيل من العفو واقتص من القاتل والجارح والضارب فأولئك هم الفاسقون [ آية : ٤٧ ] ، يعني العاصين للّه عز وجل .

٤٨

المائدة : ٤٨ وأنزلنا إليك الكتاب . . . . .

قوله سبحانه : وأنزلنا إليك الكتاب يا محمد صلى اللّه عليه وسلم بالحق ، يعني القرآن

بالحق ، لم ننزله عبثا ولا باطلا لغير شيء مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ، يقول : وشاهدا عليه ، وذلك أن قرآن محمد صلى اللّه عليه وسلم شاهد بأن الكتب التي أنزلت

قبله أنها من اللّه عز وجل فاحكم بينهم بما أنزل اللّه إليك في القرآن ولا تتبع أهواءهم ، يعني أهواء اليهود عما جاءك من الحق ، وهو القرآن لكل جعلنا منكم شرعة ، يعني من المسلمين وأهل الكتاب شرعة ، يعني سنة ،

 ومنهاجا ، يعني طريقا وسبيلا ، فشريعة أهل التوراة في قتل العمد القصاص ليس لهم

عقل ولا دية ، والرجم على المحصن والمحصنة إذا زنيا .

وشريعة الإنجيل في القتل العمد العفو ، ليس لهم قصاص ولا دية ، وشريعتهم في الزنا ،

الجلد بلا رجم ، وشريعة أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم في قتل العمد القصاص والدية والعفو ، وشريعتهم

في الزنا إذا لم يحصن الجلد ، فإذا أحصن فالرجم ولو شاء اللّه لجعلكم يا أمة

محمد صلى اللّه عليه وسلم وأهل الكتاب أمة واحدة على دين الإسلام وحدها ولكن ليبلوكم ، يعني يبتليكم في ما آتاكم ، يعني فيما أعطاكم من الكتاب والسنة من

يطع اللّه عز وجل فيما أمر ونهى ، ومن يعصه فاستبقوا الخيرات ، يقول : سارعوا

في الأعمال الصالحة يا أمة محمد ، فيما ذكر من السبيل والسنة إلى اللّه مرجعكم جميعا في الآخرة أنتم وأهل الكتاب فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون [ آية : ٤٨ ]

في الدين .

٤٩

المائدة : ٤٩ وأن احكم بينهم . . . . .

قوله سبحانه : وأن احكم بينهم بما أنزل اللّه إليك في الكتاب ، يعني بين اليهود ،

وذلك أن قوما من رءوس اليهود من أهل النصير اختلفوا ، فقال : بعضهم لبعض : انطلقوا

بنا إلى محمد لعلنا نفتنه ونرده عما هو عليه ، فإنما هو بشر إذن فيستمع ، فأتوه فقالوا له :

هل لك أن تحكم لنا على أصحابنا أهل قريظة في أمر الدماء كما كنا عليه من قبل ، فإن

فعلت ، فإنا نبايعك ونطيعك ، وإنا إذا بايعناك تابعك أهل الكتاب كلهم ؛ لأنا سادتهم

وأحبارهم ، فنحن نفتنهم ونزلهم عما هم عليه حتى يدخلوا في دينك .

فأنزل اللّه عز وجل يحذر نبيه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال : ولا تتبع أهواءهم في أمر الدماء ،

 واحذرهم أن يفتنوك ، يعني أن يصدوك عن بعض ما أنزل اللّه إليك من أمر

الدماء بالسوية فإن تولوا ، يقول : فإن أبوا حكمك فاعلم أنما يريد اللّه أن يصيبهم ، يعني أن يعذبهم في الدنيا بالقتل والجلاء من المدينة إلى الشام ببعض ذنوبهم ، يعني ببعض الدماء التي كانت بينهم من قبل أن يبعث محمد صلى اللّه عليه وسلم وإن كثيرا من الناس ، يعني رءوس اليهود لفاسقون [ آية : ٤٩ ] ، يعني لعاصون حين كرهوا

حكم النبي صلى اللّه عليه وسلم في أمر الدماء بالحق .

٥٠

المائدة : ٥٠ أفحكم الجاهلية يبغون . . . . .

فقال كعب بن الأشرف ، ومالك بن الضيف ، وكعب بن أسيد ، للنبي صلى اللّه عليه وسلم : لا نرضى

بحكمك ، فأنزل اللّه عز وجل : أفحكم الجاهلية يبغون ، الذي كانوا عليه من الجور

من قبل أن يبعث محمد صلى اللّه عليه وسلم ومن أحسن من اللّه حكما ، يقول : فلا أحد أحسن من

اللّه حكما لقوم يوقنون [ آية : ٥٠ ] باللّه عز وجل .

٥١

المائدة : ٥١ يا أيها الذين . . . . .

 يا أيها الذين آمنوا ، نزلت في رجلين من المسلمين لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ، قال : لما كانت وقعة أحد ، خاف ناس من المسلمين أن يدال

الكفار عليهم ، فقال رجل منهم : أنا آتي فلانا اليهودي فأتهود ، فإني أخشى أن يدال

الكفار علينا ، قال الآخر : أما أنا ، فإني آتى الشام فأنتصر ، فنزلت : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض  ومن يتولهم منكم ، يعني من المؤمنين ،

 فإنه منهم ، يعني يلحق بهم ويكون معهم ؛ لأن المؤمنين لا يتولون الكفار إن اللّه لا يهدي القوم الظالمين [ آية : ٥١ ] .

٥٢

المائدة : ٥٢ فترى الذين في . . . . .

ثم ذكر أنه إنما يتولاهم المنافقون ؛ لأنهم وافقوهم على ما يقولون ، قال سبحانه :

 فترى الذين في قلوبهم مرض ، وهو الشك ، فهم المنافقون يسارعون فيهم ،

يعني في ولاية اليهود بالمدينة يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ، يعني دولة اليهود على

المسلمين ، وذلك أن نفرا من المنافقين ، أربعة وثمانين رجلا ، منهم : عبد اللّه بن أبي ، وأبو

نافع ، وأبو لبابة ،   نتخذ عند اليهود عهدا ونواليهم فيما بيننا وبينهم ، فإنا لا ندري

ما يكون في غد ، ونخشى ألا ينصر محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فينقطع الذي بيننا وبينهم ، ولا نصيب

منهم قرضا ولا ميرة ، فأنزل اللّه عز وجل : فعسى اللّه أن يأتي بالفتح ، يعني بنصر

محمد صلى اللّه عليه وسلم الذي يئسوا منه أو يأتي أمر من عنده ، قتل قريظة ، وجلاء النضير

إلى أذرعات ، فلما رأى المنافقون ما لقى أهل قريظة والنضير ، ندموا على قولهم ، قال :

 فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين [ آية : ٥٢ ]

٥٣

المائدة : ٥٣ ويقول الذين آمنوا . . . . .

فلما أخبر اللّه عز وجل نبيه صلى اللّه عليه وسلم عن المنافقين ، أنزل هذه الآية : ويقول الذين آمنوا

بعضهم لبعض : أهؤلاء الذين أقسموا باللّه ، يعني المنافقين جهد أيمانهم ، إذ

حلفوا باللّه عز وجل ، فهو جهد اليمين إنهم لمعكم على دينكم ، يعني المنافقين ،

 حبطت أعمالهم ، يعني بطلت أعمالهم ؛ لأنها كانت في غير اللّه عز وجل ،

 فأصبحوا خاسرين [ آية : ٥٣ ] في الدنيا .

٥٤

المائدة : ٥٤ يا أيها الذين . . . . .

قوله سبحانه : يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه ، وذلك حين هزموا يوم

أحد ، شك أناس من المسلمين ، فقالوا ما قالوا فسوف يأتي اللّه بقوم يحبهم ويحبونه ،

فارتد بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنو تميم ، وبنو حنيفة ، وبنو أسد ، وغطفان ، وأناس من

كندة ، منهم الأشعث بن قيس ، فجاء اللّه عز وجل بخير من الذين ارتدوا ، بوهب بطن

من كندة ، وبأحمس بجيلة ، وحضرموت ، وطائفة من حمير وهمذان ، أبدلهم مكان

الكافرين .

فقال سبحانه : أذلة على المؤمنين بالرحمة واللين أعزة على

الكافرين ، يعني عليهم بالغلظة والشدة ، فسدد اللّه عز وجل بهم الدين يجاهدون في

سبيل اللّه العدو ، يعني في طاعة اللّه ولا يخافون لومة لائم ، يقول : ولا يبالون

غضب من غضب عليهم ذلك فضل اللّه ، يعني دين الإسلام يؤتيه من يشاء واللّه

واسع لذلك الفضل عليم [ آية : ٥٤ ] لمن يؤتى الإسلام ، وفيهم نزلت وفي

الإبدال : وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم [ محمد : ٣٨ ] .

٥٥

المائدة : ٥٥ إنما وليكم اللّه . . . . .

وقوله سبحانه : إنما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة والزكاة وهم

راكعون [ آية : ٥٥ ] ، وذلك أن عبد اللّه بن سلام وأصحابه قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم عند صلاة

الأولى : إن اليهود أظهروا لنا العداوة من أجل الإسلام ، ولا يكلموننا ، ولا يخالطوننا في

شيء ، ومنازلنا فيهم ، ولا نجد متحدثا دون هذا المسجد ، فنزلت هذه الآية ، فقرأها النبي

 صلى اللّه عليه وسلم ، ف  قد رضينا باللّه ورسوله وبالمؤمنين اولياء ، وجعل الناس يصلون تطوعا بعد

المكتوبة ، وذلك في صلاة الأولى .

وخرج النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى باب المسجد ، فإذا هو بمسكين قد خرج من المسجد ، وهو

يحمد اللّه عز وجل ، فدعاه النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال : هل أعطاك أحد شيئا ؟ ، قال : نعم يا نبي

اللّه ، قال : من أعطاك ؟ ، قال : الرجل القائم أعطاني خاتمه ، يعني علي بن أبي طالب ،

رضوان اللّه عليه ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : على أي حال أعطاكه ؟ ، قال : أعطاني وهو راكع ،

فكبر النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وقال : الحمد للّه الذي خص عليا بهذه الكرامة ، فأنزل اللّه عز وجل :

 والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون

٥٦

المائدة : ٥٦ ومن يتول اللّه . . . . .

 ومن يتول اللّه

ورسوله والذين آمنوا ، يعني علي بن أبي طالب ، رضي اللّه عنه فإن حزب اللّه هم

الغالبون [ آية : ٥٦ ] ، يعني شيعة اللّه ورسوله والذين آمنوا هم الغالبون ، فبدأ بعلى بن

أبي طالب ، رضى اللّه عنه ، قبل المسلمين ، ثم جعل المسلمين وأهل الكتاب المؤمنين ،

فيهم عبد اللّه بن سلام وغيره هم الغالبون لليهود ، حين قتلوهم وأجلوهم من المدينة إلى

الشام وأذرعات وأريحا .

٥٧

المائدة : ٥٧ يا أيها الذين . . . . .

قوله سبحانه : يا أيها الذين آمنوا ، يعني المنافقين الذين أقروا باللسان وليس الإيمان

في قلوبهم لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم  الإسلام هزوا ولعبا ، يعني استهزاء

وباطلا ، وذلك أن المنافقين كانوا يوالون اليهود فيتخذونهم أولياء ، قال : من الذين

أوتوا الكتاب ، يعني اليهود من قبلكم ؛ لأنهم أعطوا التوراة قبل أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ،

يقول : لا تتخذوهم اولياء و لا تتخذوا والكفار أولياء ، يعني كفار اليهود

ومشركي العرب ، ثم حذرهم ، فقال : واتقوا اللّه إن كنتم مؤمنين [ آية : ٥٧ ] ، يعني إن

كنتم مصدقين ، فلا تتخذوهم أولياء ، يعني كفار العرب ، حين قال عبد اللّه بن أبي ،

وعبد اللّه بن نتيل ، وأبو لبابة ، وغيرهم من اليهود : لئن أخرجتم لنخرجن معكم ، حين

كتبوا إليهم .

٥٨

المائدة : ٥٨ وإذا ناديتم إلى . . . . .

ثم أخبر عن اليهود ، فقال سبحانه : وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ، يعني

استهزاء وباطلا ، وذلك أن اليهود كانوا إذا سمعوا الأذان ، ورأوا المسلمين قاموا إلى

صلاتهم ، يقولون : قد قاموا لا قاموا ، وإذا رأوهم ركعوا ،   لا ركعوا ، وإذا رأوهم

سجدوا ضحكوا ، و  لا سجدوا ، واستهزءوا ، يقول اللّه تعالى : ذلك بأنهم قوم لا يعقلون [ آية : ٥٨ ] ، يقول : لو عقلوا ما قالوا هذه المقالة .

٥٩

المائدة : ٥٩ قل يا أهل . . . . .

 قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا باللّه وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون [ آية : ٥٩ ] ، قال أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم أبو ياسر ، وحيي بن أخطب ، ونافع بن

أبي نافع ، وعازر بن أبي عازر ، وخالد وزيد ابنا عمرو ، وأزر بن أبي أزر ، وأشيع ،

فسألوه عن من يؤمن به من الرسل ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : نؤمن باللّه وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون

[ البقرة : ١٣٦ ] ، فلما ذكر عيسى ابن مريم جحدوا نبوته صلى اللّه عليه وسلم ، و  لا نؤمن بعيسى

ولا بمن آمن به ، فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية : قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا

إلا أن آمنا باللّه ، يعني صدقنا باللّه بأنه واحد لا شريك له و صدقنا ب ما

أنزل إلينا ، يعني قرآن محمد صلى اللّه عليه وسلم و صدقنا ب وما أنزل من قبل قرآن

محمد صلى اللّه عليه وسلم ، الكتب التي أنزلها اللّه عز وجل على الأنبياء ، عليهم السلام وأن أكثركم

فاسقون ، يعني عصاة .

٦٠

المائدة : ٦٠ قل هل أنبئكم . . . . .

قالت اليهود للمؤمنين ، ما نعلم أحدا من أهل هذه الأديان أقل حظا في الدنيا

 

والآخرة منكم ، فأنزل اللّه عز وجل : قل هل أنبئكم بشر من ذلك ، يعني المؤمنين ،

 مثوبة عند اللّه ، يعني ثوابا من عند اللّه ، قالت : اليهود : من هم يا محمد ؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم

وغضب عليه من لعنه اللّه ، وهم اليهود وغضب عليه ، فإن لم يقتل أقر بالخراج وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير ، القردة في شأن الحيتان ، والخنازير في

شأن المائدة وعبد الطاغوت ، فيها تقديم وعبد الطاغوت ، يعني ومن عبد

الطاغوت ، وهو الشيطان أولئك شر مكانا في الدنيا ، يعني شر منزلة وأضل عن

سواء السبيل [ آية : ٦٠ ] ، يعني وأخطأ عن قصد الطريق من المؤمنين .

٦١

المائدة : ٦١ وإذا جاؤوكم قالوا . . . . .

فلما نزلت هذه الآية ، عيرت اليهود ، فقالوا لهم : يا إخوان القردة والخنازير ، فنكسوا

رءوسهم وفضحهم اللّه تعالى ، وجاء أبو ياسر بن أخطب ، وكعب بن الأشرف ، ، وعزر

بن أبي عازر ، ونافع بن أبي نافع ، ورافع بن أبي حريملة ، وهم رؤساء اليهود ، حتى

دخلوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ف  قد صدقنا بك يا محمد ؛ لأنا نعرفك ونصدقك

ونؤمن بك .

ثم خرجوا من عنده بالكفر ، غير أنهم أظهروا الإيمان ، فأنزل اللّه عز وجل فيهم :

 وإذا جاءوكم  اليهود قالوا آمنا ، يعني صدقنا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ؛ لأنهم دخلوا عليه

وهم يسرون الكفر ، وخرجوا من عنده بالكفر ، فذلك قوله سبحانه : وقد دخلوا بالكفر

وهم قد خرجوا به يعني بالكفر مقيمين عليه واللّه أعلم بما كانوا يكتمون [ آية :

٦١ ] ، يعني بما يسرون في قلوبهم من الكفر بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، نظيرها في آل عمران .

٦٢

المائدة : ٦٢ وترى كثيرا منهم . . . . .

ثم أخبر عنهم ، فقال سبحانه : وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم ، يعني المعصية ،

 والعدوان ، يعني الظلم ، وهو الشرك وأكلهم السحت ، يعني كعب بن

الأشرف ؛ لأنه كان يرشى في الحكم ويقضي بالجور لبئس ما كانوا يعملون [ آية :

٦٢ ] ،

المائدة : ٦٢ وترى كثيرا منهم . . . . .

ثم عاتب اللّه عز وجل الربانيين والأحبار ، فقال : لولا ، يعني فهلا ينهاهم الربانيون والأحبار ، يعني بالربانيين المتعبدين والأحبار ، يعني القراء الفقهاء أصحاب

القربان من ولد هارون ، عليه السلام ، وكانوا رءوس اليهود عن قولهم الإثم ، يعني

الشرك وأكلهم السحت ، يعني الرشوة في الحكم لبئس ما كانوا يصنعون

[ آية : ٦٣ ] ، حين لم ينهوهم ، فعاب من أكل السحت : الرشوة في الحكم ، وعاب

الربانيين الذين لم ينهوهم عن أكله .

٦٤

المائدة : ٦٤ وقالت اليهود يد . . . . .

 وقالت اليهود ، يعني ابن صوريا ، وفنحاص اليهوديين ، وعازر بن أبي عازر يد اللّه مغلولة ، يعني ممسكة ، أمسك اللّه يده عنا ، فلا تبسطها علينا بخير ، وليس بجواد ،

وذلك أن اللّه عز وجل بسط عليهم في الرزق ، فلما عصوا واستحلوا ما حرم عليهم ،

أمسك عنهم الرزق ، فقالوا عند ذلك : يد اللّه محبوسة عن البسط ، يقول اللّه عز وجل :

 غلت أيديهم ، يعني أمسكت أيديهم عن الخير ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان

بالخير ينفق كيف يشاء ، إن شاء وسع في الرزق ، وإن شاء قتر ، هم خلقه وعبيده

في قبضته .

ثم قال : وليزيدن كثيرا منهم ، يعني اليهود من بني النضير ما أنزل إليك من ربك ، يعني أمر الرجم والدماء ، ونعت محمد صلى اللّه عليه وسلم طغيانا وكفرا بالقرآن ، يعني

جحودا به وألقينا بينهم ، يعني اليهود والنصارى ، شر ألقاه عز وجل بينهم ،

 العداوة والبغضاء ، يعني يبغض بعضهم بعضا ، ويشتم بعضا إلى يوم القيامة ،

فلا يحب اليهودي النصراني ولا النصراني اليهودي كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها اللّه ، يعني كلما أجمعوا أمرهم على مكر بمحمد صلى اللّه عليه وسلم في أمر الحرب ، فرقه اللّه عز

وجل ، وأطفأ نار مكرهم ، فلا يظفرون بشيء أبدا ويسعون في الأرض فسادا ،

يعني يعملون فيها بالمعاصي واللّه لا يحب المفسدين [ آية : ٦٤ ] ، يعني العاملين

بالمعاصي .

٦٥

المائدة : ٦٥ ولو أن أهل . . . . .

وقوله سبحانه ولو أن أهل الكتاب ، يعني اليهود والنصارى آمنوا ،

يعني صدقوا بتوحيد اللّه واتقوا الشرك لكفرنا عنهم سيئاتهم ، يعني لمحونا

عنهم ذنوبهم ولأدخلنهم جنات النعيم [ آية : ٦٥ ] ،

٦٦

المائدة : ٦٦ ولو أنهم أقاموا . . . . .

 ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ، فعملوا بما فيهما من أمر الرجم والزنا وغيره ، ولم يحرفوه عن مواضعه في

التوراة التي أنزلها اللّه عز وجل ، فأما في الإنجيل ، فنعت محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وأما في التوراة ،

فنعت محمد صلى اللّه عليه وسلم ، والرجم والدماء وغيرها ، ولم يحرفوها عن مواضعها و أقاموا

ب وما أنزل إليهم من ربهم في التوراة والإنجيل من نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ومن إيمان

بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، ولم يحرفوا نعته لأكلوا من فوقهم ، يعني المطر ومن تحت أرجلهم ، يعني من الأرض : النبات ، ثم قال عز وجل : منهم أمة مقتصدة ، يعني

عصبة عادلة في قولها من مؤمني أهل التوراة والإنجيل ، فأما أهل التوراة ، فعبد اللّه بن

سلام وأصحابه ، وأما أهل الإنجيل ، فالذين كانوا على دين عيسى ابن مريم صلى اللّه عليه وسلم ، وهم

اثنان وثلاثون رجلا ، قال سبحانه : وكثير منهم ، يعني من أهل الكتاب ، يعني

كفارهم ساء ما يعملون [ آية : ٦٦ ] ، يعني بئس ما كانوا يعملون .

٦٧

المائدة : ٦٧ يا أيها الرسول . . . . .

قوله سبحانه : يا أيها الرسول بلغ ، يعني محمدا صلى اللّه عليه وسلم ما أنزل إليك من ربك ، وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم دعا اليهود إلى الإسلام ، فأكثر الدعاء ، فجعلوا يستهزئون

ويقولون : أتريد يا محمد أن تتخذك حنانا كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم حنانا ؟

فلما رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك ، سكت عنهم ، فحرض اللّه ، يعني فحضض اللّه عز وجل النبي

 صلى اللّه عليه وسلم على الدعاء إلى اللّه عز وجل ، وألا يمنعه ذلك تكذيبهم إياه واستهزاؤهم ، فقال :

 يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك  وإن لم تفعل فما بلغت رسالته واللّه يعصمك من الناس ، يعني من اليهود ، فلا تقتل إن اللّه لا يهدي القوم الكافرين

[ آية : ٦٧ ] ، يعني اليهود ، فلما نزلت هذه الآية ، أمن النبي صلى اللّه عليه وسلم من القتل والخوف ،

فقال : لا أبالي من خذلني ومن نصرني ، وذلك أنه كان يخشى أن تغتاله اليهود فتقتله .

٦٨

المائدة : ٦٨ قل يا أهل . . . . .

ثم أخبره ماذا يبلغ ، فقال تعالى : قل يا أهل الكتاب ، يعني اليهود والنصارى ،

 لستم على شيء من أمر الدين حتى تقيموا التوراة والإنجيل ، يقول : حتى

تتلوهما حق تلاوتهما كما أنزلهما اللّه عز وجل و تقيموا وما أنزل إليكم من ربكم من أمر محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ولا تحرفوه عن مواضعه ، فهذا الذي أمر اللّه عز وجل أن

يبلغ أهل الكتاب وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك ، يعني ما في القرآن

من أمر الرجم والدماء طغيانا وكفرا ، يعني وجحودا بالقرآن فلا تأس على القوم ، يعني فلا تحزن يا محمد صلى اللّه عليه وسلم على القوم الكافرين [ آية : ٦٨ ] ، يعني أهل

الكتاب إذ كذبوك بما تقول .

٦٩

المائدة : ٦٩ إن الذين آمنوا . . . . .

قوله سبحانه : إن الذين آمنوا ، يعني الذين صدقوا والذين هادوا ، يعني

اليهود والصابئون ، هم قوم من النصارى صبأوا إلى دين نوح وفارقوا هذه الفرق

الثلاث ، وزعموا أنهم على دين نوح ، عليه السلام ، وأخطأوا ؛ لأن دين نوح ، عليه

السلام ، كان على دين الإسلام والنصارى ، إنما سموا نصارى ؛ لأنهم ابتدعوا هذا

الدين بقرية تسمى ناصرة ، قال اللّه عز وجل : من آمن من هؤلاء باللّه واليوم الآخر وعمل صالحا ، وأدى الفرائض من قبل أن يبعث محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فله الجنة ، ومن بقي

منهم إلى أن يبعث محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فلا إيمان له ، إلا أن يصدق بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، فمن صدق باللّه

عز وجل أنه واحد لا شريك له ، وبما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وبالبعث الذي فيه جزاء

الأعمال فلا خوف عليهم من العذاب ولا هم يحزنون [ آية : ٦٩ ] من

الموت .

٧٠

المائدة : ٧٠ لقد أخذنا ميثاق . . . . .

قوله سبحانه : لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل في التوراة على أن يعملوا بما

فيها وأرسلنا إليهم رسلا ، يعني وأرسل اللّه تعالى إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم ، يعني اليهود فريقا كذبوا ، يعني اليهود ، فريقا

كذبوا عيسى صلى اللّه عليه وسلم ومحمدا صلى اللّه عليه وسلم وفريقا يقتلون [ آية : ٧٠ ] ، يعني اليهود ، كذبوا

بطائفة من الرسل ، وقتلوا طائفة من الرسل ، يعني زكريا ، ويحيى في بني إسرائيل .

٧١

المائدة : ٧١ وحسبوا ألا تكون . . . . .

قوله عز وجل : وحسبوا ألا تكون فتنة ، يعني اليهود ، حسبوا ألا يكون شرك

ولا يبتلوا ولا يعاقبوا بتكذيبهم الرسل وبقتلهم الأنبياء ، أن لا يبتلوا بالبلاء والشدة من

قحط المطر فعموا عن الحق ، فلم يبصره وصموا عن الحق ، فلم يسمعوه ،

 ثم تاب اللّه عليهم ، يقول : تجاوز عنهم ، فرفع عنهم البلاء ، فلم يتوبوا بعد رفع

البلاء ثم عموا وصموا كثير منهم واللّه بصير بما يعملون [ آية : ٧١ ] من

قتلهم الأنبياء وتكذيبهم الرسل .

٧٢

المائدة : ٧٢ لقد كفر الذين . . . . .

قوله عز وجل : لقد كفر الذين قالوا إن اللّه هو المسيح ابن مريم ، نزلت

في نصارى نجران الماريعقوبيين ، منهم السيد والعاقب وغيرهما ،   إن اللّه هو المسيح

ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا اللّه ربي وربكم ، يعني وحدوا اللّه

ربي وربكم إنه من يشرك باللّه ، فيقول : إن اللّه هو المسيح ابن مريم ، فيموت على

الشرك فقد حرم اللّه عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين ، يعني وما

للمشركين من أنصار [ آية : ٧٢ ] ، يعني من مانع يمنعهم من النار .

٧٣

المائدة : ٧٣ لقد كفر الذين . . . . .

 لقد كفر الذين قالوا إن اللّه ثالث ثلاثة ، يعني الملكانيين ،   اللّه

والمسيح ومريم ، يقول اللّه عز وجل تكذيبا لقولهم : وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون من الشرك ليمسن ، يعني ليصيبن الذين كفروا منهم عذاب أليم [ آية : ٧٣ ] ، يعني وجيع ، والقتل بالسيف ، والجزية على من بقي

منهم عقوبة .

٧٤

المائدة : ٧٤ أفلا يتوبون إلى . . . . .

ثم قال سبحانه يعيبهم : أفلا يتوبون إلى اللّه ، يعني أفهلا يتوبون إلى اللّه ،

 ويستغفرونه من الشرك ، فإن فعلوا غفر لهم واللّه غفور لذنوبهم

 رحيم [ آية : ٧٤ ] بهم .

٧٥

المائدة : ٧٥ ما المسيح ابن . . . . .

ثم أخبر عن عيسى صلى اللّه عليه وسلم ، فقال سبحانه : ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة ، يعني مؤمنة كقوله سبحانه : إنه كان صديقا نبيا [ مريم : ٥٦ ] ، يعني مؤمناً نبياً ، وذلك حين قال لها جبريل عليه السلام :

 إنما أنا رسول ربك [ مريم : ١٩ ] ، وفي بطنك المسيح ، فآمنت بجبريل ، عليه

السلام ، وصدقت بالمسيح ابن مريم ، عليه السلام ، ثم سميت الصديقة ، وهي يومئذ في

محراب بيت المقدس كانا يأكلان الطعام ، فلو كانا إلاهين ما أكلا الطعام ،

 انظر يا محمد كيف نبين لهم الآيات ، يعني العلامات في أمر عيسى

ومريم أنهم كانا يأكلان الطعام والآلهة لا تأكل الطعام ثم انظر أنى يؤفكون [ آية : ٧٥ ] ، يعني من أين يكذبون ، فأعلمهم أني واحد .

٧٦

المائدة : ٧٦ قل أتعبدون من . . . . .

 قل لنصارى نجران أتعبدون من دون اللّه ، يعني عيسى ما لا يملك لكم ضرا في الدنيا ولا نفعا في الآخرة واللّه هو السميع

لقولهم : إن اللّه هو المسيح ابن مريم ، وثالث ثلاثة العليم [ آية : ٧٦ ] بمقالتهم .

٧٧

المائدة : ٧٧ قل يا أهل . . . . .

 قل يا أهل الكتاب ، يعني نصارى نجران لا تغلوا في دينكم عن دين

الإسلام فتقولوا غير الحق في عيسى ابن مريم ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا عن الهدى من قبل وأضلوا ، عن الهدى كثيرا من الناس ،

 وضلوا عن سواء السبيل [ آية : ٧٧ ] ، يعني وأخطأوا عن قصد سبل الهدى نزلت

في برصيصا .

٧٨

المائدة : ٧٨ لعن الذين كفروا . . . . .

 لعن الذين كفروا اليهود من بني إسرائيل ، يعني من سبط بني

إسرائيل على لسان داود ابن أنبشا ، وذلك أنهم صادوا الحيتان يوم السبت ، وكانوا

قد نهوا عن صيد الحيتان يوم السبت ، قال دواد : اللّهم إن عبادك قد خالفوا امرك

وتركوا أمرك ، فاجعلهم آية ومثلا لخلقك ، فمسخهم اللّه عز وجل قردة ، فهذه لعنة

داود ، عليه السلام وعيسى ابن مريم ، وأما لعنة عيسى صلى اللّه عليه وسلم ، فإنهم أكلوا المائدة ،

ثم كفروا ورفعوا من المائدة ، فقال عيسى : اللّهم إنك وعدتني أن من كفر منهم بعدما

يأكل من المائدة أن تعذبه عذابا لا تعذبه أحدا من العالمين ، اللّهم العنهم كما لعنت

أصحاب السبت ، فكانوا خمسة آلاف ، فمسخهم اللّه عز وجل خنازير ، ليس فيهم امرأة

ولا صبي ذلك بما عصوا في ترك أمره وكانوا يعتدون [ آية : ٧٨ ] في

دينهم .

٧٩

المائدة : ٧٩ كانوا لا يتناهون . . . . .

 كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون

[ آية : ٧٩ ] حين لم ينهوهم عن المنكر .

٨٠

المائدة : ٨٠ ترى كثيرا منهم . . . . .

ثم قال عز وجل : ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا ، يعني من

قريش لبئس ما قدمت لهم أنفسهم ؛ لأنهم ليسوا بأصحاب كتاب أن سخط اللّه عليهم وفي العذاب هم خالدون [ آية : ٨٠ ] ،

٨١

المائدة : ٨١ ولو كانوا يؤمنون . . . . .

 ولو كانوا ، يعني اليهود ،

 يؤمنون باللّه ، يعني يصدقون باللّه عز وجل بأنه واحد لا شريك له و

ب والنبي صلى اللّه عليه وسلم  وما أنزل إليه من القرآن ما اتخذوهم أولياء ، يقول :

ماتخذوا مشركي العرب أولياء ولكن كثيرا منهم من اليهود فاسقون

[ آية : ٨١ ] ، يعني عاصين .

٨٢

المائدة : ٨٢ لتجدن أشد الناس . . . . .

 لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ، كان اليهود

يعاونون مشركي العرب على قتال النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ويأمرونهم بالمسير إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ،

 والذين أشركوا ، يعني مشركي العرب أيضا ، كانوا شديدي العداوة للنبي صلى اللّه عليه وسلم

وأصحابه ، رضى اللّه عنهم ولتجدن أقربهم مودة ، وليس يعني في الحب ،

ولكن يعني في سرعة الإجابة للإيمان للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ،

وكانوا في قرية تسمى ناصرة ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا ، يعني

متعبدين أصحاب الصوامع وأنهم لا يستكبرون [ آية : ٨٢ ] ، يعني لا يتكبرون

عن الإيمان .

نزلت في أربعين رجلا من مؤمني أهل الإنجيل ، منهم اثنان وثلاثون رجلا قدموا من

أرض الحبشة مع جعفر بن أبي طالب ، رضى اللّه عنه ، وثمانية نفر قدموا من الشام معهم

بحيري الراهب ، وأبرهة ، والأشرف ، ودريس ، وتمام ، وقسيم ، ودريد ، وأيمن ، والقسيسون

الذين يحلقون أواسط رءوسهم ، وذلك أنهم حين سمعوا القرآن من النبي صلى اللّه عليه وسلم ،   ما

أشبه هذا بالذي كنا نتحدث به عن عيسى ابن مريم صلى اللّه عليه وسلم ، فبكوا وصدقوا باللّه عز وجل

ورسله ، فنزلت فيهم :

٨٣

المائدة : ٨٣ وإذا سمعوا ما . . . . .

 وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول من القرآن ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا ، يعني صدقنا بالقرآن أنه من اللّه

عز وجل فاكتبنا ، يعني فاجعلنا مع الشاهدين [ آية : ٨٣ ] ، يعني مع

المهاجرين ، يعني من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، نظيرها في المجادلة : كتب في قلوبهم الإيمان

[ المجادلة : ٢٢ ] ، يقول : جعل في قلوبهم الإيمان ، وهو التوحيد .

٨٤

المائدة : ٨٤ وما لنا لا . . . . .

و  وما لنا لا نؤمن باللّه ، وذلك أنهم لما أسلموا ورجعوا إلى أرضهم ، لامهم

كفار قومهم ، ف  أتركتم ملة عيسى صلى اللّه عليه وسلم ودين آبائكم ،   نعم وما لنا لا نؤمن باللّه  وما جاءنا من الحق مع محمد صلى اللّه عليه وسلم ونطمع ، يعني ونرجو أن يدخلنا ربنا الجنة مع القوم الصالحين [ آية : ٨٤ ] ، وهم المهاجرين الأول ، رضوان اللّه

عليهم .

٨٥

المائدة : ٨٥ فأثابهم اللّه بما . . . . .

 فأثابهم اللّه بما قالوا من التصديق جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها لا يموتون وذلك الثواب جزاء المحسنين [ آية : ٨٥ ] .

٨٦

المائدة : ٨٦ والذين كفروا وكذبوا . . . . .

ثم قال

سبحانه : والذين كفروا وكذبوا بآياتنا ، يعني بالقرآن بأنه ليس من اللّه عز وجل ،

 أولئك أصحاب الجحيم [ آية : ٨٦ ] ، يعني ما عظم من النار ، يعني كفار النصارى

الذين لاموهم حين أسلموا وتابعوا النبي صلى اللّه عليه وسلم .

٨٧

المائدة : ٨٧ يا أيها الذين . . . . .

قوله سبحانه : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم من اللباس

والنساء ، نزلت في عشر نفر ، منهم : علي بن أبي طالب ، رضى اللّه عنه ، وعمر ، وابن

مسعود ، وعمار بن ياسر ، وعثمان بن نظعون ، والمقداد بن الأسود ، وأبو ذر الغفاري ،

وسلمان الفارسي ، وحذيفة بن اليمان ، وسالم مولى أبي حذيفة ، ورجل آخر ، اجتمعوا

في بيت عثمان بن مظعون ، رضى اللّه عنهم ، ثم   تعالوا حتى نحرم على أنفسنا

الطعام واللباس والنساء ، وأن يقطع بعضهم مذاكيره ، ويلبس المسرح ، ويبنوا الصوامع ،

فيترهبوا فيها ، فتفرقوا وهذا رأيهم .

فجاء جبريل ، عليه السلام ، فأخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم بذلك ، فأتى منزل عثمان بن مظعون ،

رضى اللّه عنه ، فلم يجدهم ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لامرأة عثمان : أحق ما بلغني عن عثمان

وأصحابه ؟ ، قالت : وما هو يا رسول اللّه ؟ فأخبرها النبي صلى اللّه عليه وسلم الذي بلغه ، فكرهت أن

تكذب النبي صلى اللّه عليه وسلم ، أو تفشى سر زوجها ، فقالت : يا رسول اللّه ، إن كان عثمان أخبرك

بشيء ، فقد صدقك ، أو أخبرك اللّه عز وجل بشيء ، فهو كما أخبرك ربك تعالى ذكره ،

فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : قولى لزوجك إذا جاء : إنه ليس مني من لم يستن بسنتي ، ويهتد

بهدينا ، ويأكل من ذبائحنا ، فإن من سنتنا اللباس ، والطعام ، والنساء ، فأعلمي زوجك ،

وقولي له : من رغب عن سنتي فليس منى .

فلما رجع عثمان وأصحابه أخبرته امرأته بقول النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فما أعجبه ، فذروا الذي

ذكره النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فأنزل اللّه عز وجل : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم  ولا تعتدوا ، فتحرموا حلاله إن اللّه لا يحب المعتدين [ آية : ٨٧ ]

من يحرم حلاله ، ويعتدي في أمره عز وجل ،

٨٨

المائدة : ٨٨ وكلوا مما رزقكم . . . . .

 وكلوا مما رزقكم اللّه حلالا طيبا ،

اللباس ، والنساء ، والطعام واتقوا اللّه ، ولا تحرموا ما أحل اللّه لكم ، واتقوا اللّه ،

 الذي أنتم به مؤمنون [ آية : ٨٨ ] ، يقول : الذي أنتم به مصدقون .

٨٩

المائدة : ٨٩ لا يؤاخذكم اللّه . . . . .

قوله سبحانه : لا يؤاخذكم اللّه باللغو في أيمانكم ، وهو الرجل يحلف على أمر

وهو يرى أنه فيه صادق وهو كاذب ، فلا إثم عليه ولا كفارة ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ، يقول : بما عقد عليه قلبك ، فتحلف وتعلم أنك كاذب ،

 فكفارته ، يعني كفارة هذا اليمين الذي عقد عليها قلبه وهو كاذب إطعام عشرة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع حنطة من أوسط ما تطعمون ، يعني

من أعدل ما تطعمون أهليكم من الشبع ، نظيرها في البقرة : جعلناكم أمة وسطا [ البقرة : ١٤٣ ] ، يعني عدلا ، قال سبحانه في ن : قال أوسطهم [ القلم :

٢٨ ] ، يعني اعدلهم ، يقول : ليس بأدنى ما تأكلون ولا بأفضله .

قال سبحانه : أو كسوتهم ، يعني كسوة عشرة مساكين ، لكل مسكين

عباءة أو ثوب أو تحرير رقبة ما ، سواء أكان المحرر يهوديا ، أو نصرانيا ، أو

مجوسيا ، أو صابئيا ، فهو جائز ، وهو بالخيار في الرقبة ، أو الطعام ، أو الكسوة فمن لم يجد من هذه الخصال الثلاث شيئا فصيام ثلاثة أيام ، وهي في قراءة ابن

مسعود متتابعات ذلك الذي ذكر اللّه عز وجل كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم ، فلا تتعمدوا اليمين الكاذبة كذلك يبين اللّه لكم آياته لعلكم تشكرون [ آية : ٨٩ ] ربكم في هذه النعم ، إذ جعل لكم مخرجا في إيمانكم فيما ذكر

في الكفارة .

٩٠

المائدة : ٩٠ يا أيها الذين . . . . .

قوله سبحانه : يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ، نزلت في سعد بن أبي وقاص ،

رضى اللّه عنه ، وفي رجل من الأنصار ، يقال له : عتبان بن مالك الأنصاري ، وذلك أن

الأنصاري صنع طعاما ، وشوى رأس بعير ، ودعا سعد بن أبي وقاص إلى الطعام ، وهذا

قبل التحريم ، فأكلوا وشربوا حتى انتشوا ، وقالوا الشعر ، فقام الأنصاري إلى سعد ، فأخذ

إحدى لحيى البعير ، فضرب به وجهه فشجه ، فانطلق سعد مستعديا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

فنزل تحريم الخمر .

فقال سبحانه : يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ، يعني به القمار كله ،

 والأنصاب ، يعني الحجارة التي كانوا ينصبونها ويذبحون لها والأزلام ، يعني

القدحين الذين كانوا يعملون بهما رجس ، يعني إثم من عمل الشيطان فاجتنبوه ، يعني من تزيين الشيطان ، ومثله في القصص : هذا من عمل الشيطان

[ القصص : ١٥ ] فاجتنبوه ، فهذا النهي للتحريم ، كما قال سبحانه : فاجتنبوا الرجس من الأوثان [ الحج : ٣٠ ] ، فإنه حرام ، كذلك فاجتنبوا الخمر ، فإنها حرام ،

 لعلكم تفلحون [ آية : ٩٠ ] يعني لكى .

٩١

المائدة : ٩١ إنما يريد الشيطان . . . . .

 إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة ، يعني أن يغرى بينكم العداوة ،

 والبغضاء الذي كان بين سعد وبين الأنصاري حتى كسر أنف سعد في الخمر والميسر ، ورث ذلك العداوة والبغضاء و يريد الشيطان أن ويصدكم عن ذكر اللّه ، يقول : إذا سكرتم لم تذكروا اللّه عز وجل وعن الصلاة ، يقول : إذا سكرتم

لم تصلوا فهل أنتم منتهون [ آية : ٩١ ] ، فهذا وعيد بعد النهى والتحريم ،  

انتهينا يا ربنا ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : يا أيها الذين آمنوا ، إن اللّه حرم عليكم الخمر ، فمن

كان عنده منها شيء ، فلا يشربها ، ولا يبيعها ، ولا يسقيها غيره .

قال : وقال أنس بن مالك : لقد نزل تحريم الخمر وما بالمدينة يومئذ خمر ، إنما كانوا

يشربون الفصيح ، وأما الميسر ، فهو القمار ، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يقول : أين

أصحاب الجزور ، فيقوم نفر ، فيشترون بينهم جزورا ، فيجعلون لكل رجل منهم سهم ،

ثم يقرعون ، فمن خرج سهمه برئ من الثمن ، وله نصيب في اللحم ، حتى يبقى

آخرهم ، فيكون عليه الثمن كله ، وليس له نصيب في اللحم ، وتقسم الجزور بين البقية

بالسوية .

وأما الأزلام ، فهي القداح التي كانوا يقتسمون الأمور بها ، قدحين مكتوب على

 

أحدهما : أمرني ربي ، وعلى الآخر : نهاني ربي ، فإذا أرادوا أمرا أتوا بيت الأصنام ،

فغطوا عليه ثوبا ، ثم ضربوا بالقداح ، فإن خرج أمرني ربي ، مضى على وجهه الذي

يريد ، وإن خرج نهاني ربي ، لم يخرج في سفره ، وكذلك كانوا يفعلون إذا شكوا في

نسبة رجل ، وأما الأنصاب ، فهي الحجارة التي كانوا ينصبونها حول الكعبة ، وكانوا

يذبحون لها .

٩٢

المائدة : ٩٢ وأطيعوا اللّه وأطيعوا . . . . .

ثم قال عز وجل : وأطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول في تحريم الخمر والميسر والأنصاب

والأزلام ، إلى آخر الآية واحذروا معاصيهما فإن توليتم ، يعني أعرضتم عن

طاعتهما فاعلموا أنما على رسولنا محمد صلى اللّه عليه وسلم البلاغ المبين [ آية : ٩٢ ] ، في

تحريم ذلك ،

٩٣

المائدة : ٩٣ ليس على الذين . . . . .

فلما نزلت هذه الآية في تحريم الخمر ، قال حيى بن أخطب ، وأبو ياسر ،

وكعب بن الأشرف للمسلمين : فما حال من مات منكم ، وهم يشربون الخمر ؟ فذكروا

ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، و  إن إخواننا ماتوا وقتلوا ، وقد كانوا يشربونها ، فأنزل اللّه عز

وجل : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح ، يعني حرج فيما طعموا ،

يعني شربوا من الخمر قبل التحريم إذا ما اتقوا المعاصي وآمنوا بالتوحيد ،

 وعملوا الصالحات ، يعني أقاموا الفرائض قبل التحريم ثم اتقوا المعاصي ،

 وآمنوا بما يجيء من الناسخ والمنسوخ ثم اتقوا المعاصي بعد تحريمها ،

 وآمنوا ، يعني وصدقوا ثم اتقوا الشرك وأحسنوا العمل بعد تحريمها ، فمن

فعل ذلك ، فهو محسن واللّه يحب المحسنين [ آية : ٩٣ ] ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم للذي سأله :

قيل لي إنك من المحسنين .

٩٤

المائدة : ٩٤ يا أيها الذين . . . . .

وقوله سبحانه : يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم اللّه بشيء من الصيد ، يعني ببعض الصيد ،

فخص صيد البر خاصة ، ولم يعم الصيد كله ؛ لأن للبحر صيدا تناله أيديكم ،

يقول : تأخذون صغار الصيد بأيديكم أخذا بغير سلاح ، قال سبحانه : ورماحكم ،

يعني وسلاحكم النبل والرماح ، بها يصيبون كبار الصيد ، وهو عام حبس النبي صلى اللّه عليه وسلم عن

مكة عام الحديبية ، وأقام بالتنعيم ، فصالحهم على أن يرجع عامة ذلك ، ولا يدخل مكة ،

فإذا كان العام المقبل ، أخلوا له مكة فدخلها في أصحابه ، رضى اللّه عنهم ، وأقام بها

ثلاثا ، ورضى النبي صلى اللّه عليه وسلم بذلك ، فنحر البدن مائة بدنة ، فجاءت السباع والطير تأكل

منها ، فنهى اللّه عز وجل عن قتل الصيد في الحرم ليعلم اللّه ، لكي يرى اللّه من يخافه بالغيب ، يقول : من يخاف اللّه عز وجل ولم يره ، فلم يتناول الصيد ، وهو محرم ،

 فمن اعتدى بعد ذلك ، يقول : فمن أخذ الصيد عمدا بعد النهى ، فقتل الصيد وهو

محرم فله عذاب أليم [ آية : ٩٤ ] ، يعني ضربا وجيعا ، ويسلب ثيابه ، ويغرم الجزاء ،

وحكم ذلك إلى الإمام ، فهذا العذاب الأليم .

٩٥

المائدة : ٩٥ يا أيها الذين . . . . .

قوله سبحانه : يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ، وذلك أن أبا بشر ،

واسمه : عمرو بن مالك الأنصاري ، كان محرما في عام الحديبية بعمرة ، فقتل حمار

وحش ، فنزلت فيه : ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم  ومن قتله منكم متعمدا لقتله ناسيا

لإحرامه فجزاء ، يعني جزاء الصيد مثل ما قتل من النعم ، يعني من الأزواج

الثمانية إن كان قتل عمدا أو خطأ ، أو أشار إلى الصيد فأصيب ، فعليه الجزاء يحكم به ذوا عدل منكم ، يعني يحكم بالكفارة رجلان من المسلمين عدلين فقيهين يحكمان

في قاتل الصيد جزاء مثل ما قتل من النعم ، إن قتل حمار وحش ، أو نعامة ، ففيها بعيرا

بنحره بمكة ، يطعم المساكين ولا يأكل هو ولا أحد من أصحابه ، وإن كان من ذوات

القرون الأيل والوعل ونحوهما ، فجزاؤه أن يذبح بقرة للمساكين ، وفي الطير ونحوها

جزاؤه أن يذبح شاة مسنة ، وفي الحمام شاة ، وفي بيض الحمام إذا كان فيه فرخ درهم ،

وإن لم يكن فيه فرخ ، فنصف درهم ، وفي ولد الحمار الوحش ولد بعير مثله ، وفي ولد

النعامة ولد بعير مثله ، وفي ولد الأيل والوعل ونحو ولد بقرة مثله ، وفي فرخ الحمام

ونحوه ولد شاة مثله ، وفي ولد الظبي ولد شاة مثله .

 هديا بالغ الكعبة ، يعني ينحر بمكة ، كقوله سبحانه في الحج : ثم محلها إلى البيت العتيق [ الحج : ٣٣ ] ، تذبح بأرض الحرم ، فتطعم مساكين مكة أو كفارة طعام مساكين ، لكل مسكين نصف صاع حنطة أو عدل ذلك صياما ، يقول : إن

لم يقدر على الهدى ولا على ثمنه ، ولا على إطعام المساكين ، فليصم مكان كل مسكين

يوما ، ينظر ثمن الهدى فيجعله دراهم ، ثم ينظر كم يبلغ الطعام بتلك الدراهم بسعر مكة ،

فيصوم مكان كل مسكين يوما ، وبكل مسكين نصف صاع حنطة ليذوق وبال أمره ، يعني جزاء ذنبه ، يعني الكفارة عقوبة له بقتله الصيد عفا اللّه عما سلف ،

يقول : عفا اللّه كما كان منه قبل التحريم ، يقول : تجاوز اللّه عما صنع في قتله الصيد

متعمدا قبل نزول هذه الآية ومن عاد بعد النهي إلى قتل الصيد فينتقم اللّه منه بالضرب والفدية وينزع ثيابه واللّه عزيز ، يعني منيع في ملكه ذو انتقام [ آية : ٩٥ ] ، من أهل معصيته فيمن قتل الصيد ، نزلت هذه الآية قبل الآية

الأولى : فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم .

٩٦

المائدة : ٩٦ أحل لكم صيد . . . . .

ثم قال عز وجل : أحل لكم صيد البحر ، يعني السمك الطري ، وشيء يفرخ في

الماء لا يفرخ في غيره ، فهو للمحرم حلال ، ثم قال : وطعامه ، يعني مليح السمك ،

 متاعا لكم ، يعني منافع لكم ، يعني للمقيم وللسيارة ، يعني للمسافر وحرم

عليكم صيد البر ما دمتم حرما ، يعني ما دمتم محرمين واتقوا اللّه ، ولا تستحلوا

الصيد في الإحرام ، ثم حذرهم قتل الصيد ، فقال سبحانه : الذي إليه تحشرون

[ آية : ٩٦ ] في الآخرة ، فيجزيكم بأعمالكم .

٩٧

المائدة : ٩٧ جعل اللّه الكعبة . . . . .

قوله سبحانه : جعل اللّه الكعبة البيت الحرام ، أنها سميت الكعبة ؛ لأنها

منفردة من البنيان ، وكل منفرد من البنيان فهو في كلام العرب الكعبة ، قال أبو محمد :

قال ثعلب : العرب تسمى كل بيت مربع الكعبة قياما للناس ، يعني أرض الحرم

أمنا لهم وحياة لهم في الجاهلية . قال : كان أحدهم إذا أصاب ذنبا أو أحدث حدثا يخاف

على نفسه ، دخل الحرم فأمن فيه والشهر الحرام ، قال : كان الرجل إذا أراد سفرا

في أمره ، فإن كان السفر الذي يريده يعلم أنه يذهب ويرجع قبل أن يمضي الشهر الحرام

توجه آمنا ، ولم يقلد نفسه ولا راحلته ، وإن كان يعلم أنه لا يقدر على الرجوع حتى

يمضي الشهر الحرام ، قلد نفسه وبعيره من لحا شجر الحرم فيأمن به حيث ما توجه من

البلاد ، فمن قال سبحانه : والهدي والقلائد كل ذلك كان قواما لهم وأمنا في

الجاهلية ، نظيرها في أول السورة ذلك ، يقول : هذا لتعلموا أن اللّه يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، قبل أن يكونا ، ويعلم أنه سيكون من أمركم الذي كان ،

 وأن اللّه بكل شيء من أعمال العباد عليم [ آية : ٩٧ ] .

٩٨

المائدة : ٩٨ اعلموا أن اللّه . . . . .

ثم خوفهم ألا يستحلوا الغارة في حجاج اليمامة ، يعني شريحا وأصحابه ، فقال :

 اعلموا أن اللّه شديد العقاب إذا عاقب وأن اللّه غفور رحيم [ آية : ٩٨ ] لمن

أطاعه بعد النهى ،

٩٩

المائدة : ٩٩ ما على الرسول . . . . .

ثم قال عز وجل : ما على الرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم إلا البلاغ في

أمر حجاج اليمامة ، شريح بن ضبيعة وأصحابه واللّه يعلم ما تبدون ، يعني ما تعلنون

بألسنتكم وما تكتمون [ آية : ٩٩ ] من أمر حجاج اليمامة والغارة عليهم .

١٠٠

المائدة : ١٠٠ قل لا يستوي . . . . .

 قل لهم يا محمد صلى اللّه عليه وسلم لا يستوي الخبيث والطيب ، يعني بالخبيث الحرام ،

والطيب الحلال ، نزلت في حجاج اليمامة حين أراد المؤمنون الغارة عليهم ولو أعجبك كثرة الخبيث ، يعني الحرام ، ثم حذرهم ، فقال سبحانه : فاتقوا اللّه ، ولا

تستحلوا منهم محرما يا أولي الألباب ، يعني يا أهل اللب والعقل لعلكم تفلحون [ آية : ١٠٠ ] .

١٠١

المائدة : ١٠١ يا أيها الذين . . . . .

قوله سبحانه : يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسوءكم ، نزلت

في عبد اللّه بن جحش بن رباب الأسدي ، من بنى غنم ابن دودان ، وفي عبد اللّه بن

حذافة القرشي ، ثم السهمي ، وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : يا أيها الناس ، إن اللّه كتب

عليكم الحج ، فقال عبد اللّه بن جحش ، أفي كل عام ؟ فسكت عنه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم أعاد قوله ،

فسكت النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ثم عاد ، فغضب النبي صلى اللّه عليه وسلم ونخسه بقضيب كان معه ، ثم قال :

ويحك ، لو قلت نعم لوجبت ، فاتركوني ما تركتكم ، فإذا أمرتكم بأمر فافعلوه ، وإذا

نهيتكم عن أمر فانتهوا عنه ، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أيها الناس ، إنه قد رفعت لي الدنيا ،

فأنا أنظر إلى ما يكون في أمتي من الأحداث إلى يوم القيامة ، ورفعت لي أنساب العرب ،

فأنا أعرف أنسابهم رجلا رجلا .

فقام رجل ، فقال : يا رسول اللّه ؟ أين أنا ؟ قال : أنت في الجنة ، ثم قام آخر ، فقال :

أين أنا ؟ قال : في الجنة ، ثم قام الثالث ، فقال : أين أنا . فقال : أنت في النار ، فرجع

الرجل حزينا ، وقام عبد اللّه بن حذافة ، وكان يطعن فيه ، فقال : يا رسول اللّه ، من أبى ؟

قال : أبوك حذافة ، وقام رجل من بني عبد الدار ، فقال يا رسول اللّه ، من أبي ؟ قال :

أبوك سعد ، نسبه إلى غير أبيه ، فقام عمر بن الخطاب ، فقال : يا رسول اللّه ، استر علينا

يستر اللّه عليك ، أنا قوم قريبو عهد بالشرك ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : خيرا ، فأنزل اللّه

عز وجل : لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ، يعني إن تبين لكم فلعلكم إن

تسألوا عما لم ينزل به قرآنا فينزل به قرآنا مغلظا لا تطيقوه ، قوله سبحانه : وإن تسئلوا

عنها حين ينزل القرآن ، يعني عن الأشياء حين ينزل بها قرآنا تبد لكم تبين

لكم عفا اللّه عنها ، يقول : عفا اللّه عن تلك الأشياء حين لم يوجبها عليكم ،

 واللّه غفور حليم [ آية : ١٠١ ] ، يعني ذو تجاوز حين لا يعجل بالعقوبة .

١٠٢

المائدة : ١٠٢ قد سألها قوم . . . . .

ثم قال عز وجل : قد سألها قوم ، يقول : قد سأل عن تلك الأشياء من قبلكم ، يعني من بني إسرائيل ، فبينت لهم ثم أصبحوا بها كافرين [ آية :

١٠٢ ] ، وذلك أن بني إسرائيل سألوا المائدة قبل أن تنزل ، فلما نزلت كفروا بها ، ف

ليست المائدة من اللّه ، وكانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء ، فإذا أخبروهم بها تركوا

قولهم ، ولم يصدقوهم ، فأصبحوا بتلك الأشياء كافرين .

١٠٣

المائدة : ١٠٣ ما جعل اللّه . . . . .

قوله سبحانه : ما جعل اللّه حراما من بحيرة لقولهم : إن اللّه أمرنا بها ،

نزلت في مشركي العرب ، منهم : قريش ، وكنانة ، وعامر بن صعصعة ، وبنو مدلج ،

والحارث وعامر ابنى عبد مناة ، وخزاعة ، وثقيف ، أمرهم بذلك في الجاهلية عمرو بن

ربيعة بن لحى بن قمعة بن خندف الخزاعي ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : رأيت عمرو بن ربيعة

الخزاعي رجلا قصيرا ، أشقر ، له وفرة ، يجر قصبة في النار ، يعني أمعاءه ، وهو أول من

سيب السائبة ، واتخذ الوصيلة ، وحمى الحامي ، ونصب الأوثان حول الكعبة ، وغير دين

الحنفية ، فأشبه الناس به أكثم بن لجون الخزاعي ، فقال أكثم : أيضرني شبهه يا رسول

اللّه ؟ قال : لا ، أنت مؤمن وهو كافر .

والبحيرة الناقة إذا ولدت خمسة أبطن ، فإذا كان الخامس سقيا ، وهو الذكر ، ذبحوه

الآلهة ، فكان لحمه للرجال دون النساء ، وإن كان الخامس ربعة ، يعني أنثى ، شقوا

أذنيها ، فهي البحيرة ، وكذلك من البقر ، لا يجز لها وبر ، ولا يذكر اسم اللّه عليها إن

ركبت ، أو حمل عليها ، ولبنها للرجال دون النساء ، وأما السائبة ، فهي الأنثى من الأنعام

كلها ، كان الرجل يسيب للآلهة ما شاء من إبله وبقره وغنمه ، ولا يسيب إلا الأنثى ،

وظهورها ، وأولادها ، وأصوافها ، وأوبارها ، وأشعارها ، وألبانها للآلهة ، ومنافعها للرجال

دون النساء ، وأما الوصيلة ، فهي الشاة من الغنم إذا ولدت سبعة أبطن عمدوا إلى

السابع ، فإن كان جديا ذبحوه للآلهة ، وكان لحمه للرجال دون النساء ، وإن كانت عتاقا

استحيوها ، فكانت من عرض الغنم .

قال عبد اللّه بن ثابت : قال أبي : قال أبو صالح : قال مقاتل : وإن وضعته ميتا ، أشرك

في أكله الرجال والنساء ، فذلك قوله عز وجل : وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء

[ الأنعام : ١٣٩ ] ، بأن ولدت البطن السابع جديا وعتاقا ،   إن الأخت قد وصلت

أخاها ، فرحمته علينا ، فحرما جميعا ، فكانت المنفعة للرجال دون النساء ، وأما الحام ، فهو

الفحل من الإبل إذا ركب أولاد أولاده ، فبلغ ذلك عشرة أو أقل من ذلك ،   قد

حمى هذا ظهره ، فأحرز نفسه ، فيهل للآلهة ولا يحمل عليه ، ولا يركب ، ولا يمنع من

مرعى ، ولا ماء ، ولا حمى ، ولا ينحر أبدا حتى يموت موتا ، فأنزل اللّه عز وجل : ما جعل اللّه حراما من بحيرة  ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا

من قريش وخزاعة من مشركي العرب يفترون على اللّه الكذب ؛ لقولهم : إن اللّه

أمرنا بتحريمه حين قالوا في الأعراف : واللّه أمرنا بها [ الأعراف : ٢٨ ] ، يعني

بتحريمها ، ثم قال : وأكثرهم لا يعقلون [ آية : ١٠٣ ] أن اللّه عز وجل لم يحرمه .

١٠٤

المائدة : ١٠٤ وإذا قيل لهم . . . . .

قوله سبحانه : وإذا قيل لهم ، يعني مشركي العرب تعالوا إلى ما أنزل اللّه

في كتابه من تحليل ما حرم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وإلى الرسول

محمد صلى اللّه عليه وسلم قالوا حسبنا ما وجدنا عليه ءاباءنا من أمر الدين ، فإنا أمرنا أن نعبد ما

عبدوا ، يقول اللّه عز وجل : أولو كان ءاباؤهم ، يعني فإن كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من الدين ولا يهتدون [ آية : ١٠٤ ] له ، أفتتبعونهم ؟ .

١٠٥

المائدة : ١٠٥ يا أيها الذين . . . . .

 يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ، وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان لا قبل الجزية إلا من

أهل الكتاب ، فلما أسلم العرب طوعا وكرها قبل الجزية من مجوس هجر ، فطعن

المنافقون في ذلك ، فنزلت : يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ، يقول : اقبلوا على

أنفسكم ، فانظروا ما ينفعكم في أمر آخرتكم ، فاعملوا به لا يضركم من ضل من

أهل هجر ، نزلت في رجل من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا اهتديتم إلى اللّه عز وجل

 مرجعكم في الآخرة جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون [ آية : ١٠٥ ] .

١٠٦

المائدة : ١٠٦ يا أيها الذين . . . . .

 يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ، نزلت في بديل بن أبي

مارية مولى العاص بن وائل السهمي ، كان خرج مسافرا في البحر إلى أرض النجاشي

ومعه رجلان نصرانيان ،

أحدهما يسمى تميم بن أوس الداري ، وكان من لخم ، وعدى

بن بندا ، فمات بديل وهم في البحر ، فرمى به في البحر ، قال : حين الوصية ،

وذلك أنه كتب وصيته ، ثم جعلها في متاعه ، ثم دفعه إلى تميم وصاحبه ، وقال لهما :

أبلغا هذا المتاع إلى أهلي ، فجاءا ببعض المتاع وحبسا جاما من فضة مموها بالذهب ،

فنزلت : يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية يقول : عند الوصية يشهدون وصيته .

 اثنان ذوا عدل منكم من المسلمين في دينهما أو آخران من غيركم ، يعني

من غير أهل دينكم النصرانيين ، تميم الداري وعدى بن بندا إن أنتم ضربتم في الأرض يا معشر المسلمين للتجارة فأصابتكم مصيبة الموت ، يعني بديل بن أبي

مارية حين انطلق تاجرا في البحر ، وانطلق معه تميم وعدى صاحباه ، فحضره الموت ،

فكتب وصيته ، ثم جعلها في المتاع ، فقال : أبلغا هذا المتاع إلى أهلي ، فلما مات بديل ،

قبضا المتاع ، فأخذا منه ما أعجبهما ، وكان فيما أخذا إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال

منقوش مموه بالذهب ، فلما رجعا من تجارتهما دفعا بقية المال إلى ورثته ، ففقدوا بعض

متاعه ، فنظروا إلى الوصية ، فوجدوا المال فيه تاما لم يبع منه ، ولم يهب ، فكلموا وتميما

وصاحبه ، فسألوهما : هل باع صاحبنا شيئا أو اشترى شيئا فخسر فيه ، أو طال مرضه

فأنفق على نفسه ؟ فقال : لا ،   فإنا قد فقدنا بعض ما أبدى به صاحبنا ، فقالا : ما لنا

بما أبدى ، ولا بما كان في وصيته علم ، ولكنه دفع إلينا هذا المال ، فبلغناكم إياه .

فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فنزلت : يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم

الموت ، يعني بديلب بن أبي مارية اثنان ذوا عدل منكم ، يعني من المسلمين ،

عبد اللّه بن عمرو بن العاص ، والمطلب بن أبي وداعة السهميان أو آخران من

غيركم من غير أهل دينكم ، يعني النصرانيين إن أنتم معشر المسلمين ضربتم في

الأرض تجارا فأصابتكم مصيبة الموت ، يعني بديل بن أبي مارية مولى العاص بن

وائل السهمي تحسبونهما ، يعني النصرانيين تقيمونهما من بعد الصلاة

صلاة العصر فيقسمان باللّه ، فيحلفان باللّه إن ارتبتم ، يعني إن

شككتم ، نظيرها في النساء القصرى ، أن المال كان أكثر من هذا الذي أتيناكم به لا

نشتري به ثمنا ، يقول : لا نشتري بأيماننا عرضا من الدنيا ولو كان ذا قربى ، يقول :

ولو كان الميت ذا قرابة منا ولا نكتم شهادة اللّه إنا إذا إن كتمنا شيئا من المال ،

 لمن الآثمين [ آية : ١٠٦ ] باللّه عز وجل .

١٠٧

المائدة : ١٠٧ فإن عثر على . . . . .

فحلفهما النبي صلى اللّه عليه وسلم عند المنبر بعد صلاة العصر ، فحلفا أنهما لم يخونا شيئا من المال ،

فخلى سبيلهما ، فلما كان بعد ذلك ، وجدوا الإناء الذي فقدوه عند تميم الداري ،  

هذا من آنية صاحبنا الذي كان أبدى بها ، وقد زعمتما أنه لم يبع ولم يشتر ولم ينفق

على نفسه ، فقالا : قد كنا اشتريناه منه ، فنسينا أن نخبركم به ، فرفعوهما إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم

الثانية : ف  يا رسول اللّه ، إنا وجدنا مع هذين إناء من فضة من متاع صاحبنا ، فأنزل

اللّه عز وجل : فإن عثر على أنهما استحقا إثما ، يقول : فإن اطلع على أنهما ، يعني

النصرانيين كتما شيئا من المال أو خانا فآخران من أولياء الميت ، يعني عبد اللّه بن

عمرو بن العاص ، والمطلب بن أبي وداعة السهميان يقومان مقامهما ، يعني مقام

النصرانيين من الذين استحق  الإثم عليهم الأوليان فيقسمان باللّه ، يعني

فيحلفان باللّه في دبر صلاة العصر أن الذي في وصية صاحبنا حق ، وأن المال كان أكثر

مما أتيتمانا به ، وأن هذا الإناء لمن متاع صاحبنا الذي خرج به معه ، وكتبه في وصيته ،

وأنكما خنتما ، فذلك قوله سبحانه : لشهادتنا ، يعني عبد اللّه بن عمرو بن العاص ،

والمطلب أحق من شهادتهما ، يعني النصرانيين وما اعتدينا بشهادة المسلمين

من أولياء الميت إنا إذا لمن الظالمين [ آية : ١٠٧ ] .

١٠٨

المائدة : ١٠٨ ذلك أدنى أن . . . . .

 ذلك أدنى ، يعني أجدر ، نظيرها في النساء أن يأتوا ، يعني النصرانيين ،

 بالشهادة على وجهها ، كما كانت ولا يكتمان شيئا أو يخافوا أن ترد أيمان بعد

أيمانهم ، يقول : أو يخافوا أن يطلع على خيانتهم فيرد شهادتهما بشهادة الرجلين

المسلمين من أولياء الميت ، فحلف عبد اللّه والمطلب كلاهما أن الذي في وصية الميت

حق ، وأن هذا الإناء من متاع صاحبنا ، فأخذوا تميم بن أوس الداري ، وعدى بن بندا

النصرانيين بتمام ما وجدوا في وصية الميت حين اطلع اللّه عز وجل على خيانتهما في

الإناء ، ثم وعظ اللّه عز وجل المؤمنين ألا يفعلوا مثل هذا ، وألا يشهدوا بما لم يعاينوا

ويروا ، فقال سبحانه يحذرهم نقمته : واتقوا اللّه واسمعوا مواعظه واللّه لا يهدي القوم الفاسقين [ آية : ١٠٨ ] ، وأن تميم بن أوس الداري اعترف بالخيانة ، فقال له النبي

 صلى اللّه عليه وسلم : ويحك يا تميم ، أسلم يتجاوز اللّه عنك ما كان في شركك ، فأسلم تميم الداري ،

وحسن إسلامه ، ومات عدى بن بندا نصرانيا .

١٠٩

المائدة : ١٠٩ يوم يجمع اللّه . . . . .

قوله سبحانه : يوم يجمع اللّه الرسول ، يعني الأنبياء ، عليهم السلام فيقول ماذا أجبتم في التوحيد قالوا لا علم لنا ، وذلك أول ما بعثوا عند زفرة جهنم ؛

لأن الناس إذا خرجوا من قبورهم تاهت عقولهم ، فجالوا في الدنيا ثلاثين سنة ، ويقال :

أربعين سنة ، ثم ينادي مناد عند صخرة بيت المقدس : يا أهل الدنيا ، ها هنا موضع

الحساب ، فيسمع النداء جميع الناس ، فيقبلون نحو الصوت ، فإذا اجتمعوا ببيت المقدس ،

زفرت جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا ظن أنه لو جاء بعمل سبعين

نبيا ما نجا ، فعند ذلك تاهت عقولهم ، فيقول لهم عند ذلك ، يعني المرسلين : ماذا أجبتم في التوحيد قالوا لا علم لنا  إنك أنت علام الغيوب [ آية : ١٠٩ ] ،

ثم رجعت عقولهم بعد ذلك إليهم فشهدوا على قومهم أنهم قد بلغوا الرسالة عن

ربهم ، فذلك قوله سبحانه : ويقول الأشهاد ، يعني الأنبياء هؤلاء الذين كذبوا على ربهم [ هود : ] ١٨ ] .

١١٠

المائدة : ١١٠ إذ قال اللّه . . . . .

قوله سبحانه : إذ قال اللّه ياعيسى ابن مريم في الآخرة اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك ، يعني مريم ، عليهما السلام إذ أيدتك بروح القدس ، فالنعمة

على عيسى حين أيده بروح القدس ، يعني جبريل ، عليه السلام تكلم الناس في المهد صبيا و تكلمهم وكهلا وإذ علمتك الكتاب ، يعني خط

الكتاب بيده والحكمة ، يعني الفهم والعلم والتوراة والإنجيل ، يعني علم

التوراة والإنجيل ، وجعله نبيا ورسولا إلى بني إسرائيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير ، يعني الخفاش بإذني فتنفخ فيها ، يعني في الهيئة فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه ، يعني الأعمى الذي يخرج من بطن أمه أعمى و يبرئ

 والأبرص ، يمسحها بيده فيبرئها بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني أحياء وإذ كففت بني إسرائيل عنك ، أي عن قتلك إذ جئتهم بالبينات ، وهي أحياء

سام بن نوح بإذن اللّه .

فيقوم عيسى صلى اللّه عليه وسلم يوم القيامة بهؤلاء الكلمات خطيبا على رءوس الخلائق ، ويخطب

إبليس ، لعنه اللّه ، على اهل النار بهذه الآية : إن اللّه وعدكم إلى

قوله :

 بمصرخكم ، يعني بمانعكم من العذاب وما أنتم بمصرخي ، يعني بمانعي

من العذاب إني كفرت ، يعني تبرأت بما أشركتمون من قبل [ إبراهيم :

٢٢ ] ، أي في الدار الدنيا ، وأما النعمة على مريم ، عليها السلام ، فهي أنه اصطفاها ،

يعني اختارها ، وطهرها من الإثم ، واختارها على نساء العالمين ، وجعلها زوجة محمد صلى اللّه عليه وسلم

في الجنة .

قوله سبحانه : تكلم الناس في المهد ، يعني تكلم بني إسرائيل صبيا في المهد

حين جاءت به أمه تحمله ، ويكلمهم كهلا حين اجتمع واستوت لحيته وإذ علمتك الكتاب ، يعني خط الكتاب بيده والحكمة ، يعني الفهم والعلم ، وإذ علمتك

التوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير ، يعني الخفاش فتنفخ فيها ، يعني في الهيئة فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه الذي يخرج من بطن أمه

أعمى ، فكان عيسى ، عليه السلام ، يرد إليه بصره بإذن اللّه تعالى ، فيمسح بيده عليه ، فإذا

هو صحيح بإذن اللّه ، وأحيا سام بن نوح بإذن اللّه ، حيث كلمه الناس ، ثم مات فعاد

كما كان وإذ كففت بني إسرائيل عنك ، يعني عن قتلك حين رفعه اللّه عز

وجل إليه ، وقتل شبيهه ، وهو الرقيب الذي كان عليه إذ جئتهم بالبينات ، يعني

بالعجائب التي كان يصنعها من إبراء الأكمه والأبرص والموتى والطير ونحوه .

 فقال الذين كفروا منهم ، يعني من اليهود من بني إسرائيل إن هذا إلا سحر مبين [ آية : ١١٠ ] ، يعني ما هذا الذي يصنع عيسى من الأعاجيب إلا سحر مبين ،

يعني بين ، نظيرها في الصف ،

١١١

المائدة : ١١١ وإذ أوحيت إلى . . . . .

 وإذا أوحيت إلى الحواريين ، وهم القصارون مبيضو

الثياب ، وكانوا اثنى عشر رجلا ، والوحى إليهم من اللّه عز وجل هو إلهام قذف في

قلوبهم التصديق باللّه عز وجل ، بأنه واحد لا شريك له ، فذلك قوله عز وجل : أن آمنوا بي أن صدقوا بأني واحد ليس معي شريك وبرسولي ، عيسى ابن مريم

أنه نبى رسول قالوا آمنا ، يعني صدقنا بما جاء به من عند اللّه ، ونشهد أن اللّه عز

وجل واحد لا شريك له ، وأنك رسوله وأشهد يا عيسى بأننا مسلمون [ آية :

١١١ ] ، يعني مخلصون بالتوحيد .

١١٢

المائدة : ١١٢ إذ قال الحواريون . . . . .

 إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك ، يقول : هل يقدر على

أن يعطيك ربك إن سألته أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا اللّه ، فلا تسألوه

البلاء إن كنتم مؤمنين [ آية : ١١٢ ] ، فإنها إن نزلت ثم كذبتم عوقبتم ،

١١٣

المائدة : ١١٣ قالوا نريد أن . . . . .

 قالوا

نريد أن تأكل منها ، فقد جعنا وتطمئن قلوبنا ، يعني وتسكن قلوبنا إلى ما

تدعونا إليه ونعلم أن قد صدقتنا بأنك نبى رسول ونكون عليها من

الشاهدين [ آية : ١١٣ ] ، يعني على المائدة عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم ، وكان

القوم الذين خرجوا وسألوا المائدة خمسة آلاف بطريق ، وهم الذين سألوا المائدة مع

الحواريين .

١١٤

المائدة : ١١٤ قال عيسى ابن . . . . .

 قال عيسى ابن مريم صلى اللّه عليه وسلم عند ذلك اللّهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون

لنا عيدا لأولنا وآخرنا ، يقول : تكون عيدا لمن كان في زماننا عند نزول المائدة ،

وتكون عيدا لمن بعدنا و تكون المائدة وآية منك وارزقنا ، يعني المائدة ،

 وأنت خير الرازقين [ آية : ١١٤ ] ، من غيرك ، يقول : فإنك خير من يرزق .

١١٥

المائدة : ١١٥ قال اللّه إني . . . . .

 قال اللّه عز وجل إني منزلها يعني المائدة عليكم ، فنزلها يوم

الأحد فمن يكفر بعد نزول المائدة منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من

العالمين [ آية : ١١٥ ] ، فنزلت من السماء عليها سمك طرى ، وخبز رقاق ، وتمر ،

وذكروا أن عيسى صلى اللّه عليه وسلم قال لأصحابه وهم جلوس في ورضة : هل مع أحد منكم شيء ؟

فجاء شمعون بسمكتين صغيرتين ، وخمسة أرغفة ، وجاء آخر بشيء من سويق ، فعمد

عيسى صلى اللّه عليه وسلم فقطعهما صغارا وكسر الخبز ، فوضعها فلقا فلقا ، ووضع السويق فتوضأ ، ثم

صلى ركعتين ، ودعا ربه عز وجل ، فألقى اللّه عز وجل على أصحابه شبه السبات ، ففتح

القوم أعينهم ، فزاد الطعام حتى بلغ الركب ، فقال عيسى صلى اللّه عليه وسلم للقوم : كلوا وسموا اللّه عز

وجل ، ولا ترفعوا ، وأمرهم أن يجلسوا حلقا حلقا ، فأكلوا حتى شبعوا ، وهم خمسة

آلاف رجل ، وهذا ليلة الأحد ويوم الأحد .

فنادى عيسى صلى اللّه عليه وسلم ، فقال : أكلتم ؟   نعم ، قال : لا ترفعوا ،   لا نرفع ، فرفعوا ،

فبلغ ما رفعوا من الفضل أربعة وعشرين مكتلا ، فآمنوا عند ذلك بعيسى صلى اللّه عليه وسلم ، وصدقوا

به ، ثم رجعوا إلى قومهم اليهود من بني إسرائيل ، ومعهم فضل المائدة ، فلم يزالوا بهم

حتى ارتدوا عن الإسلام ، فكفروا باللّه ، وجحدوا بنزول المائدة ، فمسخهم اللّه عز وجل

وهم نيام خنازير ، وليس غيهم صبى ولا امرأة .

١١٦

المائدة : ١١٦ وإذ قال اللّه . . . . .

 وإذ قال اللّه يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس ، يعني بني إسرائيل في الدنيا ،

 اتخذوني وأمي  مريم إلهين من دون اللّه قال سبحانك فنزه الرب عز وجل ،

أن يكون امرهم بذلك ، فقال : ما يكون لي ، يعني ما ينبغي لي أن أقول ما ليس لي

بحق ، يعني بعدل أن يعبدوا غيرك إن كنت قلته  لهم فقد علمته تعلم ما في

نفسي ، يعني ما كان مني وما يكون ولا اعلم ما في نفسك ، يقول : ولا أطلع

على غيبك ، وقال أيضا ، ولا أعلم ما في علمك ، ما كان منك وما يكون إنك أنت

علام الغيوب ، [ آية : ١١٦ ] ، يعني غيب ما كان وغيب ما يكون .

١١٧

المائدة : ١١٧ ما قلت لهم . . . . .

 ما قلت لهم وأنت تعلم إلا ما أمرتني به  في الدنيا أن اعبدوا اللّه ،

يعني وحدوا اللّه ربي وربكم ، قال لهم عيسى صلى اللّه عليه وسلم ذلك في هذه السورة ، وفي

كهيعص ، وفي الزخرف وكنت عليهم شهيدا ، يعني على بني إسرائيل بأن قد بلغتهم

الرسالة ما دمت فيهم ، يقول : ما كنت بين أظهرهم فلما توفيتني ، يقول : فلما

بلغ بي أجل الموت فمت كنت أنت الرقيب عليهم ، يعني الحفيظ وأنت على كل

شيء شهيد [ آية : ١١٧ ] ، يعني شاهدا بما أمرتهم من التوحيد ، وشهيد عليهم بما قالوا

من البهتان ، وإنما قال اللّه عز وجل : وإذ قال اللّه يا عيسى ابن مريم ، ولم يقل : وإذ

يقول : يا عيسى ابن مريم ؛ لأنه قال سبحانه قبل ذكر عيسى يوم يجمع اللّه الرسل ،

فيقول : ماذا أجبتم ؟   يومئذ ، وهو يوم القيامة ، حين يفرغ من مخاصمة الرسل ،

فينادى : أين عيسى ابن مريم ، فيقوم عيسى صلى اللّه عليه وسلم شفق ، فرق ، يرعد رعدة حتى يقف بين

يدي اللّه عز وجل ، يا عيسى : ءأنت قلت للناس أتخذوني وأمي إلهين من دون اللّه .

وكما قال سبحانه : ونودوا أن تلكم الجنة اورثتموها بما كنتم تعملون

[ الأعراف : ٤٣ ] ، فلما دخلوا الجنة ، قال : ونادى أصحاب النار [ الأعراف :

٥٠ ] ، فنسق بالماضي على الماضي ، والمعنى مستقبل ، ولو لم يذكر الجنة قبل بدئهم

بالكلام الأول لقال في الكلام الأول : ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار

[ الأعراف : ٤٤ ] ، وكل شيء في القرآن على هذا النحو .

١١٨

المائدة : ١١٨ إن تعذبهم فإنهم . . . . .

ثم قال عيسى صلى اللّه عليه وسلم لربه عز وجل في الآخرة : يا رب ، غبت عنهم وتركتهم على

الحق الذي أمرتني به ، فلم أدر ما أحدثوا بعدى ، ف إن تعذبهم فتميتهم على ما قالوا

من البهتان والكفر فإنهم عبادك ، وأنت خلقتهم وإن تغفر لهم ، فتتوب

عليهم وتهديهم إلى الإيمان والمغفرة بعد الهداية إلى الإيمان فإنك أنت العزيز الحكيم

[ آية : ١١٨ ] في ملكك ، الحكيم في أمرك ، وفي قراءة ابن مسعود : فإنك أنت الغفور

الرحيم ، نظيرها في سورة إبراهيم ، عليه السلام ، في مخاطبة إبراهيم : ومن عصاني

فإنك غفور رحيم [ إبراهيم : ٣٦ ] ، وهي كذلك أيضا في قراءة عبد اللّه بن مسعود .

١١٩

المائدة : ١١٩ قال اللّه هذا . . . . .

 قال اللّه هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ، يعني النبيين بما قالوا في الدنيا ، فكان

عيسى صادقا فيما قال لربه في الآخرة ما قلت لهم إلا ما أمرتني به ، فصدقه اللّه

بقوله في الدنيا ، وصدقه في الآخرة حين خطب على الناس ، ثم قال : لهم ، يعني

للصادقين جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، لا يموتون رضي اللّه عنهم بالطاعة ورضوا عنه بالثواب ذلك الثواب الفوز العظيم [ آية :

١١٩ ] ، يعني النجاء العظيم .

١٢٠

المائدة : ١٢٠ للّه ملك السماوات . . . . .

ثم عظم الرب جل جلاله نفسه عما قالت النصارى من البهتان والزور أنه ليس كما

زعمت ، وأنه واحد لا شريك له ، فقال سبحانه : للّه ملك السماوات والأرض وما فيهن

من الخلق ، عيسى ابن مريم وغيره من الملائكة والخلق عباده وفي ملكه وهو على كل

شيء من خلق عيسى من غير أب وغيره قدير [ آية : ١٢٠ ] .

﴿ ٠