سورة آل عمرانبسم اللّه الرحمن الرحيم ١٢ - قوله عز وجل: { ألم اللّه لا إله إلا هو } الآية: ١ قيل: الألف من الأحدية واللام من اللطف والميم من الملك. وقيل: الواحد اللطيف، الملك هو اللّه الذي لا إله إلا هو. قال جعفر: الحروف المقطوعة في القرآن إشارات إلى الوحدانية والفردانية والديمومية وقيام الحق بنفسه بالاستغناء عما سواه. قوله ' الحي ' هو الذي لا طول لحياته ولا أمد لبقائه. وقال بعضهم: ' الحي ' الكامل في ذاته لا بعلة وبه قيام كل منعوت بالحق. قال بعضهم: ' الحي ' هو الذي به حياة كل حي ومن لم يحى به فهو ميت. قوله تعالى: { القيوم } قيل: هو مزيل العلل عن ذاته بالدرك أو بالعبادة عنه أو بالإشارة، فلا يبلغ أحد شيئا من كنه معرفته لأنه لا يعلم أحد ما هو إلا هو. ٤وله تعالى: { إن الذين كفروا بآيات اللّه } الآية: ٤ قال أبو سعيد الخراز: بإظهار كرامة اللّه تعالى على أوليائه، لهم عذاب شديد بتعجيزهم الحق عن ذلك، واللّه عزيز يعز بولايته وإظهار الكرامة على من يشاء من عباده ذو انتقام ممن يجحد ذلك. وقال الواسطي: عزيز عن أن يخالف إرادته أحد، بل ينتقم بما يجري. نفى أن تكون عقوبته مقابلة للأفعال المحدثة. ٥قوله تعالى: { إن اللّه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء } الآية: ٥ قيل: لا يخفى عليه شيء فطالعوا همومكم أن تكون خالية عن الأهواء والشبهات، فإنه لا يخفى عليه شيء. قال جعفر في قوله تعالى: { إن اللّه لا يخفى عليه شيء } قال: فلا يطلعن فيرى في قلبك سواه فيمقتك. ٦قوله تعالى: { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } الآية: ٦ قيل: يصوركم عالما به وعالما بصفاته وعالما بأوامره وجاحدا له فمن يصحبه حزن ما قدر عليه في وقت تصويره من الشقاوة والسعادة فهو الجاهل به والآمن مكره. قال محمد بن علي: { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } من الأنوار والظلمات. قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ' إن اللّه تعالى خلق الخلق في ظلمة، وألقى عليهم من نوره فمن أصاب ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل '. قال الحسين: خصوصية تصويره إياك قومك وسواك وعدلك وأنزلك منزلة المخاطبين. ٧قوله تعالى: { منه آيات محكمات } الآية: ٧ قال أبو عثمان: هو فاتحة الكتاب التي لا تجزئ الصلاة إلا بها. قال محمد بن الفضل: هو سورة الإخلاص، لأنه ليس فيه إلا التوحيد فقط. قوله تعالى: { الراسخون في العلم }. قال الواسطي: هم الذين رسخوا بأزواجهم في غيب الغيب في سر السر فعرفهم ما عرفهم، وخاضوا في بحر العلم بالفهم لطلب الزيادة، فانكشف لهم من مدخور الخزائن تحت كل حرف منه من الفهم وعجائب الخطاب فنطقوا بالحكم. قال الخراز: هم الذين كملوا في جميع العلوم وعرفوها واطلعوا على همم الخلائق كلهم أجمعين. قال بعضهم: الراسخ من قورب روحه في ذاته، وكوشف بصفاته وخوطب بذاته. قال بعضهم: الراسخ من طولع على محل المراد من الخطاب. ٨قوله تعالى: { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } الآية: ٨ قال جعفر: لا تزغ قلوبنا عنك بعد إذ هديتنا إليك ' وهب لنا من لدنك رحمة ' أي لزوما لخدمتك على شرط السنة ' إنك أنت الوهاب ' المعطي بفضله عباده ما لا يستحقون من نعمة. قال ابن عطاء: الزيغ: الميل إلى شيء سوى الحق. ٩قوله تعالى: { إن اللّه لا يخلف الميعاد } الآية: ٩ الذي وعد من السعادة والشقاوة في أزل علمه، لا يخلف الميعاد لزهد زاهد ولا لفسق فاسق. قال الواسطي في قوله: { إن اللّه لا يخلف الميعاد } قال: في إنزال كل أحد ما كان يطلبه من الأعواض، وإيصال الخصوص إلى محل الخاص من اللقاء والقرب. ١٣قوله تعالى: { واللّه يؤيد بنصره من يشاء } الآية: ١٣ قال القاسم: يوفق من يشاء من عباده للزوم السنة وترك البدعة. ١٤قوله تعالى: { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين } الآية: ١٤ قيل: من اشتغل بهذه الأشياء قطعته عن الحق، ومن استصغرها وأعرض عنها عوض عليها السلامة منها وفتح له الطريق إلى الحقائق. ١٥قوله: { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات } الآية: ١٥ قيل فيه: من عمل رجاء الجنة فإن غاية بلوغه إلى غاية رجائه من دخول الجنة، ومن كانت معاملته على رؤية الرضا فإن له الرضوان. قال اللّه تعالى: { ورضوان من اللّه أكبر) .* ١٧قوله تعالى: { واللّه بصير بالعباد } قال: عالم بهمم العاملين وإراداتهم. قوله تعالى: { الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار } الآية: ١٧ قال أحمد بن عاصم الأنطاكي: الصابر غير المتصبر، لأن الصابر المستسلم في كل أموره ومساكن القلب فيه محفوظا، والمتصبر ما رددت فيه إلى حالك وعجزك يكابد نفسه في الصبر على المكاره. قال أبو حفص: الصبر ما كنت فيه محفوظا، والتصبر ما رددت فيه إلى حالك وعجزك. قال عمرو المكي: ليس الصبر ترك الاختيار على اللّه تعالى، لكن الصبر هو الثبات فيه وتلقى بلاه بالرحب والدعة. قال عمرو: من صبر على رؤية العوض يكون صبره مشوبا بعجز، وما هو بمتحقق في الصبر، ومن صبر على رؤية المنة يكون متلذذا بالبلاء كتلذذه بالنعمة، إذ هما من عين واحدة. قال ابن عطاء: ' الصابرين ' هم الذين صبروا باللّه تعالى في طاعة اللّه تعالى مع اللّه تعالى، و ' الصادقين ' هم الذين صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه عن صدق قويم واعتماد صحيح وسر لا يشوبه شيء و ' القانتين ' هم الذين أطاعوا اللّه تعالى في سرهم وعلانيتهم، و ' المستغفرين بالأسحار ' هم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع. وقال بعضهم: الصابرين مع اللّه تعالى على موارد قضائه، والصادقين في توحيدهم ومحبتهم والقانتين الراجعين إليه في السراء والضراء والمنفقين ما سواه له، والمستغفرين بالأسحار من أفعالهم وأحوالهم وأقوالهم. وقال بعضهم: الصابرين من صدق ما أجاب به من لفظه بلى. ١٨قوله تعالى: { شهد اللّه أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط } الآية: ١٨ . سئل سهل بن عبد اللّه عن هذه الآية فقال: شهد لنفسه بنفسه وهو مشاهد ذاته، واستشهد من استشهد من خلقه قبل خلقه لهم، فكان ذلك تنبيه أنه عالم بما يكون قبل كونه، وإنه لا يتجاوز أحد من خلقه ما تجلى به. وقيل في قوله تعالى: { وأولوا العلم }: إن العلماء ثلاثة: عالما بأمور اللّه تعالى وأحكامه فيهم علماء الشريعة، وعالما بصفاته ونعوته فهم علماء النسبة، وعالما به وبأسمائه فهم العالم الرباني. قال أبو يزيد يوما لأصحابه: بقيت البارحة إلى الصباح أجهد أن أقول: أشهد أن لا إله إلا اللّه ما قدرت عليه قيل: ولم؟ قال: ذكرت كلمة قلتها في صباي جائتني وحشة تلك الكلمة فمنعتني عن ذلك وأعجب من يذكر اللّه تعالى وهو متصف بشيء من صفاته. سمعت محمد بن عبد اللّه يقول: سمعت الشبلي يقول: ما قلت اللّه إلا استغفرت من ذلك، لأن اللّه تعالى يقول: { شهد اللّه أنه لا إله إلا هو } فمن شهد بذلك له من الأكوان إلا عن أمن أو غفلة. وقال ابن عطاء: أول ما نحلوا من حقائق البقاء فنوا عن كل شيء دون اللّه تعالى حتى بقوا مع اللّه تعالى. وقيل: لا يصل إلى الشهادة للّه تعالى بما شهد لنفسه حتى يصل إلى الفاقة الكبرى قيل: وما الفاقة الكبرى؟ قال: حتى يعلم أنه لا يصل إليه إلا به، ولا ينجو منه إلا به. وقال ابن منصور لرجل: أتشهد في الأذان؟ قال: نعم قال: ألحدت من حيث وحدت في تشهدك حين شهدت للّه تعالى وللرسول صلى اللّه عليه وسلم ولم تفرق بينهما حتى تشهد للّه تعالى بالتعظيم وللرسول (بالبلاغ والتسليم، عند ذلك باهت الأسرار فيما وراء الغيرة ولا غير. وقيل للشبلي رحمه اللّه: لم تقول اللّه ولا تقول لا إله إلا اللّه؟ فأنشأ يقول: (شمس يغالب فقدها بثبوتها * فإذا استحال الفقد ماذا يغيب * ثم قال: وهل يبقى إلا ما يستحيل كونه، وهل يثبت إلا ما لا يجوز فقده؟ وقال ابن عطاء في قوله: { شهد اللّه أنه لا إله إلا هو }، فقال: دلنا بنفسه من نفسه على نفسه بأسمائه وفيه بيان ربوبيته وصفاته، فجعل لنا في كلامه وأسمائه شاهدا ودليلا، وإنما فعل ذلك لأن اللّه تعالى وحد نفسه ولم يكن معه غيره، فكان الشاهد عليه توحيده، ولا يستحق أن يشهد عليه من حيث الحقيقة سواه، إذ هو الشاهد فلا شاهد معه، ثم دعا الخلق إلى شهادته، فمن وافقت شهادته فقد أصاب حظه من حقيقة التوحيد، ومن حرم ضل. وقال جعفر في قوله: ' شهد اللّه ' فقال: شهد اللّه بوحدانيته وأبديته وصمديته، وشهد الملائكة وأولوا العلم له بتصديق ما شهد هو لنفسه. سئل جعفر عن حقيقة هذه الشهادة ما هي؟ قال: هي مبنية على أربعة أركان: أولها اتباع الأمر، والثاني اجتناب النهي، والثالث القناعة، والرابع الرضا. قال ابن عطاء: إن اللّه شهد لنفسه بالفردانية والصمدية والأبدية ثم خلق الخلق فشغلهم بعبادة هذه الكلمة فلا يطيقون حقيقة عبادتها، لأن شهادته لنفسه حق، وشهادتهم له بذلك رسم، وأنى يستوي الحق مع الرسم. قال أبو عبد اللّه القرشي في قوله تعالى: { شهد اللّه أنه لا إله إلا هو } فقال: هو تعليم منه ولطف وإرشاد بعباده إلى أن تشهدوا له بذلك، ولو لم يعلمهم ذلك ولم يرشدهم لهلكوا كما هلك إبليس عند المعارضة. قال المزني: دخل أبو منصور مكة فسئل عن شهادة الذر للحق بالوحدانية وعن التوحيد، فقال: هذا يليق به من حيث رضى به نعتا وأمرا، ولا يليق به وصفا ولا حقيقة كما رضي بشكرنا لنعمه، وأنى يليق شكرنا بنعمه. قال: وما دمت تشير فلست بموحد حتى يستولي الحق على إشارتك بإخفائها عنك فلا تبقى مشيرا، وفي إشارة قوله تعالى: { العزيز الحكيم } قال: العزيز: الممتنع عن أن تلحقه توحيد موحد، أو صفة التوحيد من حيث التوحيد ما شهد به الحق لنفسه قبل الأكوان. وقال بعضهم: شهادة اللّه تعالى لنفسه بما شهد به شهادة صدق ولا تقبل الشهادة إلا من الصادقين، فظهر بهذا أنه لا يصح إلا للصادقين دون غيرهم من الخلق. قال الحسين في قوله: { شهد اللّه أنه لا إله إلا هو } شهادته لنفسه أن لا صانع غيره، آمن بنفسه قبل أن يؤمن به مما وصف من نفسه، فهو المؤمن بغيبه الداعي إلى نفسه، والملائكة مؤمنون به وبغيبه داعين إليه، والمؤمنون يؤمنون به وبغيبه، داعون إليه بكتبه ورسله، فمن آمن به فقد آمن بغيبه، وكل ما في القرآن مما يشير إلى غيبه، فإنما يشير بنفسه إلى غيبه ولا يعلم غيبه إلا هو. ١٩قوله تعالى: { إن الدين عند اللّه الإسلام } الآية: ١٩ قال أبو عثمان: إن الدين ما سلم لك من البدع والضلالات، والأهواء، وسلمت فيه من الرياء والشهوة الخفية، ورؤية الخلق وتعظيم الطاعات. وقال محمد بن علي في قوله تعالى: { إن الدين عند اللّه الإسلام } إن المتدين بالإسلام من سلم من رؤية الخلق وسلم قلبه من شهوات نفسه، وسلم روحه من خواطر قلبه، وسلم سره من طيران روحه، فهو في حال الإستقامة مع اللّه تعالى. قال جعفر: إن الدين عند اللّه الإسلام هو ما سلم عليه صاحبه من وساوس الشيطان وهواجس النفس وعذاب الآخرة. ٢٦قوله تعالى: { قل اللّهم مالك الملك } الآية: ٢٦ قال الواسطي: عزى الملوك بذلك فأعلمهم أنهم مجبورون في ملكهم وأن الملك عوارى لديهم بقوله: { تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء }. قال أبو عثمان: الملك: الإيمان وهذا دليل أن الإيمان لا يتحقق على شخص إلا بعد الكشف والسلامة له في الانقلاب إلى ربه، فربما يكون عارية وربما يكون عطاء. قال اللّه تعالى: { تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } فهو مترسم برسم الملوك، وقد نزع منه ملكه. قال محمد بن علي: المعرفة، تعطى معرفتك من تشاء من عبادك وتنزعها ممن تشاء، وتعز من تشاء باصطفائك واجتبائك، وتذل من تشاء بالإعراض عنه، بيدك الخير أي منك الاصطفاء والإجتباء قبل إظهار عبادة العابدين. قال الحسين: تؤتي الملك من تشاء ' فتشغله به، وتنزع الملك ممن تشاء أي ممن اصطفيته لك، فلا يؤثر فيه أسباب الملك، لأنه في أسرار الملك، وتعز من تشاء بإظهار عزتك عليه وتذل من تشاء بإنصافه برسوم الهياكل. قال الواسطي في هذه الآية: طوبى لمن ملكه قلبه وجوارحه كي يسلم من شرورهما. قال الشبلي رحمه اللّه في قوله تعالى: { تؤتي الملك من تشاء } هذه الآية الملك: الاستغناء بالمكون عن الكونين. ٢٨قوله تعالى: { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } الآية: ٢٨ سئل أبو عثمان عن هذه الآية فقال: لا ينبسط سنى إلى مبتدع لفضل عشرة ولا لقرابة نسب ولا يلقاه إلا ووجهه له كاره، فإن فعل شيئا من ذلك فقد أحب من أبغضه اللّه تعالى وليس بولي للّه من لا يوالي أولياء اللّه تعالى ولا يعادي أعداءه. قوله تعالى: { ويحذركم اللّه نفسه } قال ابن عطاء: إنما يحذر نفسه من يعرفه، فأما من لا يعرفه فإن هذا الخطاب زائل عنه قال الواسطي في قوله تعالى { ويحذركم اللّه نفسه } قال: فلا يأمن من أحد أن يفعل به ما فعل بإبليس، زينه بأنوار عبادته وهو عنده في حقائق لعنته، فستر عليه ما سبق منه إليه حتى غافصه بإظهاره عليه. وقال أيضا: لا يحذر نفسه من لا يعرفه وهذا خطاب الأكابر، فأما الأصاغر فخطابهم { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى اللّه }، { واتقوا النار }، { واتقوا اللّه ما استطعتم }. وقال أيضا في قوله: { ويحذركم اللّه نفسه } هل هو إلا الإثبات وليس له من ذلك شيء وإنما هو إيقاع البقية للسرائر، وتيقظ الطبع من الرعونة، وخلوصه من وساوسه. قال جعفر رحمه اللّه: { ويحذركم اللّه نفسه }: أن تشهد لنفسك بالصلاح، لأن من كانت له سابقة ظهرت سابقته في خاتمته. ٣٠قوله تعالى: { واللّه رؤوف بالعباد } الآية: ٣٠ قال ابن عطاء: عم رحمته لعباده، أجمع مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم، وخص رحمة الرسول صلى اللّه عليه وسلم بوقوفه على المؤمنين دون من سواهم، وهذا كقول إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم حين قال: { وارزق أهله من الثمرات من آمن باللّه واليوم الآخر قال ومن كفر } فإنه لا رازق له في السماوات والأرض غيري. ٣١قوله تعالى: { قل إن كنتم تحبون اللّه فاتبعوني يحببكم اللّه } الآية: ٣١ قال عمرو بن عثمان: محبة اللّه تعالى منى معرفته ودوام خشيته ودوام اشتغال القلب به ودوام انتصاب القلب بذكره، ودوام الأنس به. قال محمد بن خفيف: المحبة: الموافقة للّه تعالى في التماس مرضاته. وقيل المحبة: اتباع الرسول صلى اللّه عليه وسلم في أقواله وأفعاله وآدابه إلا ما خص به، لأن اللّه تعالى قرن محبته باتباعه. وقيل المحبة: هي الأثرة للّه تعالى على جميع خلقه. قال بعضهم: المحبة هي موافقة القلوب عند بروز لطائف الجمال. قال أبو يزيد: أحببت اللّه تعالى حتى أبغضت نفسي، وأبغضت الدنيا حتى أحببت طاعة اللّه تعالى، وتركت ما دون اللّه تعالى حتى وصلت إلى اللّه تعالى، واخترت الخالق على المخلوق، فاشتغل بخدمتي كل مخلوق. سئل الأنطاكي ما علامة المحبة؟ فقال: أن يكون قليل العبارة دائم التفكر، كثير الخلوة، ظاهر الصمت، لا يبصر إذا نظر ولا يسمع إذا نودي، ولا يحزن إذا أصيب ولا يفرح إذا أصاب ولا يخشى أحدا ولا يرجوه. سئل يحيى بن معاذ عن حقيقة المحبة فقال: الذي لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفوة. قال سهل بن عبد اللّه: محب اللّه تعالى على الحقيقة من يكون اقتداؤه في أحواله وأفعاله وأقواله بالنبي صلى اللّه عليه وسلم. قال جعفر رحمه اللّه في قوله تعالى: { قل إن كنتم تحبون اللّه فاتبعوني يحببكم اللّه } قيد أسرار الصديقين بمتابعة نبيه صلى اللّه عليه وسلم لكي يعلموا أنهم وإن علت أحوالهم وارتفعت مراتبهم لا يقدرون مجاورته ولا اللحوق به. قال ابن عطاء في هذه الآية: أمر بطلب نور الأدنى من عمى عن نور الأعلى. قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه اللّه: لا وصول إلى النور الأعلى لمن لا يستدل عليه بالنور الأدنى، ومن لم يجعل السبيل إلى النور الأعلى التمسك بآداب صاحب النور الأدنى ومتابعته صلى اللّه عليه وسلم فقد عمي عن النورين جميعا فألبس ثوب الاغترار. قال أبو عثمان في قوله تعالى: { قل إن كنتم تحبون اللّه فاتبعوني } قال: صدقوا محبتكم إياي بمتابعة حبيبي، فإنه لا وصول إلى محبتي إلا بتقديم محبته، واتباعه على طريقته، فإن طريقته هي الطريقة المثلى والوصلة إلى الحبيب الأعلى. قال أبو يعقوب السوسي رحمه اللّه: حقيقة المحبة هي أن ينسى العبد حظه من ربه وينسى حوائجه إليه. قال الواسطي: لا تصح المحبة وللإعراض على سره أثر وللشواهد في قلبه خطر، بل صحة المحبة نسيان الكل في استغراق مشاهدة المحبوب وفناه به عنه. قال ابن منصور: حقيقة المحبة قيامك مع محبوبك وخلع أوصافك والاتصاف بأوصافه. قال محمد بن الفضل في قوله تعالى: { قل إن كنتم تحبون اللّه فاتبعوني يحببكم اللّه }: نفى اسم المحبة عمن يخالف شيئا من سنن الشريعة ظاهرا وباطنا، أو يترك متابعة الرسول صلى اللّه عليه وسلم فيما دق وجل، لأن المتابع له من لا يخالفه في شيء من طريقته صلى اللّه عليه وسلم. سمعت النصرآباذي يقول: محبة توجب حقن الدم، ومحبة توجب سفكه بأسياف الحب وهو الأجل. سمعت السلامي يقول في قول اللّه تعالى: { قل إن كنتم تحبون اللّه } قال: اشتقت المحبة من حبة القلب، وحبة القلب عين القلب، وهو مثل أن تقع الحبة في الأرض فتنبت. ٣٢قوله تعالى: { إن اللّه اصطفى آدم ونوحا } الآية: ٣٢ قال الواسطي: اصطفاهم للولاية، وقال: اصطفاهم في أزليته وصفاهم لقربه وصفاهم لمودته. وقال أيضا: اصطفاه في الأزل قبل كونه، فأعلم بهذا خلقه أن عصيان آدم لا يؤثر في اصطفائه له، لأنه سبق العصيان مع علم الحق له بما يكون منه. وقال أيضا: اصطفى الأنبياء بالمشاهدة والتقريب، واصطفى المؤمنين للمطالعة والتهذيب، واصطفى العام للمخاطبة والترتيب. قال النصرآباذي: إذا نظرت إلى آدم بصفته لقيته بقوله: { وعصى آدم ربه فغوى } وإذا لقيته بصفة الحق لقيته بقوله تعالى: { إن اللّه اصطفى آدم } وماذا يؤثر العصيان في الاصطفاء؟ قال الواسطي: الاصطفاء قائم بالحق، والمعصية إظهار البشرية وتوبته أعجب لأنه من نفسه إلى نفسه رجع. ٣٥قوله تعالى: { إني نذرت لك ما في بطني محررا } الآية: ٣٥ قال جعفر رحمه اللّه: عتيقا من رق الدنيا وأهلها. قال محمد بن علي رحمه اللّه في قوله تعالى: { نذرت لك ما في بطني محررا } أي: يكون لك عبدا مخلصا، ومن كان خالصا لك كان حرا مما سواك. سئل سهل بن عبد اللّه عن المحرر قال: هو المعتق من إرادات نفسه ومتابعة هواه. قال النوري - تغمده اللّه برحمته - في قوله تعالى: { إني نذرت لك ما في بطني محررا} * قال: محررا عن شغلي به وتدبيري له، ويكون مسلما إلى تدابيرك فيه وحسن اختيارك له. قال محمد بن الفضل رحمه اللّه في قوله تعالى: { إني نذرت لك ما في بطني محررا }، قال: عن الاشتغال بالمكاسب. قال جعفر: تقبلها حتى تعجب الأنبياء مع علو أقدارهم في عظم شأنها عند اللّه تعالى، ألا ترى أن زكريا قال: { أنى لك هذا قالت هو من عند اللّه } أي: من عند من تقبلني. قال الواسطي رحمه اللّه: بقبول حسن: محفوظة، وأنبتها نباتا حسنا: أضاف الإحسان إليها في الشريعة، وفي الحقيقة حفظها وأنبتها. ٣٧قوله تعالى: { وأنبتها نباتا حسنا } الآية: ٣٧ قال ابن عطاء: ما فتح اللّه تعالى على عبد من عبيده حالة سنية إلا باتباع الأوامر وإخلاص الطاعات ولزوم المحاريب. قال الواسطي: { وهو قائم يصلي } سره بمحاربه نفسه وهواه. قال أبو عثمان: المحراب باب كل بر وموضع الإجابة واستفتاح الطريق إلى الانبساط، والمناجاة والإعراض عن المحراب سبب إغلاق الباب دونك. ٣٩قوله تعالى: { فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب } الآية: ٣٩ حدثني أحمد بن محمد قال: ما ظهرت على أحد حالة شريفة، إلا وأصلها الصبر تحت الأمر والنهي. وقال: ملازمة الخدمة توريك آداب الخدمة وآداب الخدمة توريك منازل القربة، ومنازل القربة توريك حلاوة الأمن. وقال بعضهم - رحمة اللّه عليه -: العبادات تجر إلى الإعواض والأحوال تجر إلى المعوض. قوله تعالى: { وسيدا وحصورا }. قال ابن عطاء رحمه اللّه تعالى: السيد المتحقق حقيقة الحق والحصور المنزه عن الأكوان وما فيها. قال جعفر رحمة اللّه تعالى عليه: السيد المعاين عن الخلق وصفا وحالا وخلقا. قال الجنيد رحمة اللّه تعالى عليه: السيد الذي حاد بالكونين عوضا عن ربه. قال محمد بن علي رحمة اللّه تعالى عليه: السيد من استوت أحواله عند المنع والعطاء. قال ابن منصور رحمة اللّه تعالى عليه: السيد من خلا من أوصاف البشرية وأظهر نعوت الربوبية. قال أبو الحسين الوراق رحمة اللّه تعالى عليه: السيد من لا تغلبه نفسه وهواه. قال النصرآباذي تغمده اللّه برحمته: من صحح نسبته مع الحق استوجب منه ميراث النسبة. ٤٦قوله تعالى: { ويكلم الناس في المهد وكهلا } الآية: ٤٦ قال: يكلم الناس وكهلا قال: تكليم الناس في المهد معجزة له وكهلا داعيا إلى ربه والمهد معجزة له. وقيل: ويكلم الناس في المهد ويكون كهلا من الصالحين. وقيل ويكلم الناس في المهد صبيا وعند نزوله من السماء كهلا، ليكون على طرفي كلامه معجزة. ٤٩قوله تعالى: { وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن اللّه } الآية: ٤٩ قيل: من اشتملت عليه صفات الربوبية وغاب عن أوصاف لا يجدن حيي بنفسه وأحيي به كل شيء وأبطل بهذه الآية دعاوى من ادعى إظهار معجزة عليه به دون إذن ربه، فاللّه قادر على الإعجاز في جميع الأوقات، يظهرها على من يشاء فالإعجاز للّه والسبب المظهر عليهم، ذلك هو الهياكل والصور. ٥٣قوله تعالى: { ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا } الآية: ٥٣ قال ابن عطاء: آمنا بما نورث به قلوب أصفيائك من علوم غيبك، واتبعنا الرسول فيما أظهرت من سنن أوامرك ونواهيك، رجاء أن يوصلنا ابتغاؤك إلى محبتك، واكتبنا مع الشاهدين مع من يشهدك ولا يشهد معك سواك. ٥٤قوله تعالى: { ومكروا ومكر اللّه واللّه خير الماكرين } الآية: ٥٤ قال محمد بن علي: مكروا أنفسهم فحسن اللّه مكرهم عندهم، وهو كان في الحقيقة الماكر بهم لتزيينه ذلك عندهم، ألا تراه يقول: { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا }. سئل بعض أهل الحقيقة: كيف ينسب المكر إلى اللّه؟ فصاح وقال: لا علة لصنعه وأنشد: (ويقبح من سواك الفعل عندي * وتفعله فيحسن منك ذاكا ٥٥قوله تعالى: { إذ قال اللّه يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي } الآية: ٥٥ قال الواسطي: إني متوفيك عنك ورافعك إلي ومطهرك من إرادتك وهواك، وذلك لإظهار نعوت الأزل عليه. وقال بعضهم: إني متوفيك عن حظوظك ورافع شخصك إلي ومطهر سرك من مطالعات الأعيان والأعواض. ٦٠قوله تعالى: { الحق من ربك فلا تكن من الممترين } الآية: ٦٠ قال بعضهم: الحق من ربك إذ لا يظهر شيء من المكتوبات إلا من تحت ذل كن فلا تكن، فإنه منفرد بأسمائه وصفاته، لا ينازعه في صفاته أحد من عبيده وخلقه. ٦١قوله تعالى: { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم } الآية: ٦١ قال جعفر: هذه إشارة في إظهار المدعين لأهل الحقائق؛ ليفتضحوا في دعاويهم عند آثار أنوار التحقيق وبطلان ظلمات الدعاوى الكاذبة. ٦٤قوله تعالى: { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } الآية: ٦٤ قال الواسطي: هو إظهار العبودية عند ملاحظة الصمدية. قال ابن عطاء: هو تحقيق التوحيد. قوله تعالى: { ألا نعبد إلا اللّه ولا نشرك به شيئا } الآية. قال أبو عثمان: أعلمك طريق التعبد في هذه الآية، وهو أن لا تطالع بسرك عند ٦٨اشتغالك العبادة سوى معبودك، ولا تفرغ في أمر من أمورك إلى غيره فتتخذ ذلك ربا. قوله تعالى: { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي } الآية: ٦٨ قال جعفر: للذين اتبعوه في شرائعهم ومناسكهم وهذا النبي يقرب حال إبراهيم من حال النبي صلى اللّه عليه وسلم وشريعته من شريعته دون سائر الأنبياء وسائر الشرائع، والذين آمنوا لقرب حالهم من حال إبراهيم، واللّه ولي المؤمنين في تشريعهم إلى بلوغ مقام الخليل صلى اللّه عليه وسلم إذ القرب منه في درجة المحبة بقوله: { يحبهم ويحبونه }. ٧٣قوله عز وجل: { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } الآية: ٧٣ قال بعضهم: لا تعاشروا إلا لمن يوافقكم على أحوالكم وطريقتكم، قال المرتعش في هذه الآية: لا تفشوا أسرار الحق إلا إلى أهله. قال أبو بكر بن طاهر: لا تصدقوا ظهور الكرامة على أحد ما لم تتبينوا أوائله ورياضته ومحافظته على ظاهر الشريعة. ٧٤قوله عز وعلا: { يختص برحمته من يشاء } الآية: ٧٤ قال أبو عثمان: أهمل القول ليتقي معه رجاء الراجي وخوف الخائف. وقال بعضهم: أزال العلل في العطايا ومنع النفوس عن ملاحظات المجاهدات ما تطلعهم عن الشواهد والموارد قال: { ولا يشرك في حكمه أحدا }. قال سهل في قوله: { يختص برحمته من يشاء } قال: ارتفعت العلل في العطايا وفيما أظهر من النعوت والخفايا وفتن النفوس عن مطالعات المجاهدات فكيف يتوسل المتوحد بالوسائل من أعمال البر بعد قوله { يختص برحمته من يشاء } فأيقن بأن ليس إليه طريق بالشواهد والموارد والعوايد والفوائد. قال ابن عطاء في قوله { يختص برحمته من يشاء }: أنبأ أن لا طريق إليه بالعوائد والفوائد. قال الواسطي رحمة اللّه عليه في قوله: { يختص برحمته من يشاء } قال: أن تكون حيث كنت بلا أنت، ويكون القائم هو لك بذاته ونعوته. قال الواسطي في قوله: { ويختص برحمته من يشاء } من تجلى له بأحوال ليس كمن تجلى بحال واحدة لذلك يختص برحمته من يشاء، قال: لما أن شاهدوا البرهان وعاينوا الفرقان؛ فزعوا من صفاتهم إلى صفاته، ومن فعلهم إلى فضله فسكنوا إلى سبق حسناته، حيث يقول { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى }. وقال أبو سعيد في هذه الآية: إن الرحمة ها هنا فهم معاني السماع بالسمع الحقيقي، وهو الذي خص به الحق خواص السادة من عباده. ٧٦قوله تعالى: { بلى من أوفى بعهده } الآية: ٧٦ قال جعفر: من أوفى بالعهد الجاري عليه في الميثاق الأول واتقى وطهر ذلك العهد وذلك الميثاق أن يدنسه بباطل، والوفاء بالعهد والكون معه يقطع ما سواه لذلك. قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ' أصدق كلمة تتكلم بها العرب كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل. ومن أوفى بالعهد سمي محبا واللّه يحب المتقين. ٧٩قوله تعالى: { كونوا ربانيين } الآية: ٧٩ قال الواسطي: يملكون الأشياء ولا يملكهم شيء. وقيل: كونوا ربانيين علماء باللّه حكماء بين عباده. وقال ابن عطاء: عاينوا أوقات ترتيبكم لتتخلصوا من هذه الآفات كلها. وقال جعفر في قوله: { كونوا ربانيين } قال: مستمعين بسمع القلوب وناظرين بأعين الغيوب. قال ابن عطاء: أخرجهم بهذا الخطاب عما خاطبهم به من العبودية. قال الواسطي رحمة اللّه عليه: عاينوا أوقات ترتيبكم وتقديركم قبل آدم ومحمد صلى اللّه عليه وسلم والانتساب إلى آدم، والافتخار بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ليس كالإفتخار بمن قدسك في الأزل. وقال أيضا: { كونوا ربانيين } قال: كونوا كأبي بكر رضي اللّه عنه إذ ورد عليه فوادح الأمور لا يؤثر على سره حين قال للنبي صلى اللّه عليه وسلم يوم بدر: ' دع مناشدتك مع ربك فإنه ينجز لك ما وعدك '. وقال أيضا في هذه الآية: أمر إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم بالإستسلام، وأمر محمدا صلى اللّه عليه وسلم بالعلم فقال: { فاعلم }، فالإستسلام إظهار العبودية والعلم به والتوسل إلى الأزلية والأبدية، لذلك قال خاطبهم فقال: { كونوا ربانيين }. وقال في قوله: { كونوا ربانيين }: جذبهم بهذا من الافتخار بالطين إلى الافتخار بالحق. وقال الجنيد رحمة اللّه عليه: أخرجهم من الكون جملة، وجذبهم إلى الحق إشارة، وإذا أردت أن تعرف مقامات الخلق ومواطنهم في الحقيقة، فانظر إلى تصرف أخلاقهم تجد كلا قائما في أشجانه، استقطعه ما وافق سريرته، فانظر بما ربطت القلوب فتشهد سرائرهم، لأنهم أخذوا من المصادر الأول، فمن لم يستقطعه إلا إنسال أنواره والحياء فيما ورد عليه أتقن كيفية باطنه على الحقيقة ينازعه في ربوبيته ويمن عليه بعبوديته ولا تشعر أنت. وقال بعض العراقيين: أخرجهم من آدم وبرأهم منه كي ينسوا العبودية ويتركوا الافتخار بالماء والطين. قوله تعالى: { بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون }. من آلائي ونعمائي عليكم وبما كنت توليت من أموركم. وقال الشبلي في قوله تعالى: { كونوا ربانيين } قال: أخرجهم عما خاطبهم به من العبودية، فمن استحق العلم به استحق علم الربانية، لأن الرباني النبي لا يأخذ العلوم إلا من الرب ولا يرجع في بيانه إلا إلى الرب جل وعلا. قال الواسطي رحمة اللّه عليه في هذه الآية: { كونوا ربانيين } قال: لأن تكون ابن الأزل والأبد خير لك وأحسن من أن تكون من أبناء الماء والطين والأفعال والإحصاء والعدد. وقال سهل: الرباني هو العالم باللّه والعالم بأمر اللّه والمكاشف له من العلوم اللدني ما غيبه عن غيره. وقال أيضا: الرباني الذي لا يختار على ربه حالا. وقال الجريري: { كونوا ربانيين } أي سامعين من اللّه ناطقين باللّه. سمعت محمد بن عبد اللّه يقول: سمعت الفضل بن العباس يقول: في قوله عز وعلا: { كونوا ربانيين } قال: كونوا كأبي بكر الصديق رضي اللّه عنه فإنه لما مات النبي صلى اللّه عليه وسلم اضطربت الأسرار كلها لموته، ولم يؤثر في سر أبي بكر فقال: ' من كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد اللّه فإن اللّه حي لا يموت '. وقال القاسم: { كونوا ربانيين } متخلقين بأخلاق الحق علماء حلماء. وقال بعضهم: { كونوا ربانيين } أي: عبيدا منقطعين يقتدون بالسيد ويتخلقون بأخلاقه لا يلاحظون الكون بأسره، ولا ما يجري من المحو في وقته. وقال بعضهم: الرباني بحقه من نسي نفسه في نسيانه، ونسي أوقاته بأوقاته، ونسي حاله وصفاته وأرزاقه بصفاته، فصفاته حديثه إلى ذاته وذاته ملكه عن صفاته. ٨٠قوله تعالى: { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا } الآية: ٨٠ قال ابن عطاء: موضعا للملاحظات وليس بأيديهم من الضر والنفع شيء، فكيف بمن دونهم؟! قال الواسطي في هذه الآية: لا يخطرن بأسراركم تعظيمهم ولا الفكر في معانيهم، واعلموا أنما هي ربوبية تولت عبودية. سمعت أبا الحسن الفارسي يقول: سمعت ابن عطاء يقول: إياك أن تلاحظ مخلوقا وأنت تجد إلى ملاحظة الحق سبيلا. قال اللّه: { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا }. قال الواسطي رحمة اللّه عليه في هذه الآية مجال للملاحظات وموضع للمعاملات { أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } أيأمركم بالإحتجاب عن الحق بعد معاينة الحق أو بالانقطاع عن الحق بمواصله غيره. وقيل في قوله: { أيأمركم بالكفر } أيأمركم بالتوسل إلى من لا وسيلة إليه إلا بالحق. ٨٣قوله تعالى: { أفغير دين اللّه يبغون } الآية: ٨٣ قال الواسطي: من تمسك بغير الوجدانية بل بغير الواجد فهو يعبد من عين الحقيقة. قوله تعالى: { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها }. قال الحسين: أخذهم عن شهود شواهدهم بخصائص الاطلاع عليهم، فمن طالع الذات أسلم طوعا وكرها، ومن طالع الهيبة أسلم كرها. ٨٤قوله تعالى: { قل آمنا باللّه } الآية: ٨٤ قال ابن عطاء: صدقنا وأقمنا على طريق الصدق معه، لأنه الذي كتب علينا الإيمان وخصنا به في علمه قبل أن أوجدنا فنحن مؤمنون به لسابق تفضله علينا. ٨٥قوله تعالى: { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } الآية: ٨٥ قال القاسم: من يأخذ غير الانقياد طريقا في التعبد لم يصل إلى شيء من حقيقة العبودية. وقال مجاهد: من لم يعتد أفعاله بالسنة لا يقبل منه عمل. وقال سهل في قوله: { ومن يبتغ غير الإسلام دينا }: إنه التفويض، ومن لم يفوض إلى مولاه جميع أموره لم يقبل منه شيئا من أعماله. ٩٢قوله تعالى: { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } الآية: ٩٢ قال ابن عطاء: لن تصلوا إلى القربة وأنتم متعلقون بحظوظ أنفسكم. وقال جعفر: بإنفاق المهج يصل العبد إلى حبيبه وقرب مولاه. قال اللّه تعالى: { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون }. وقال أبو عثمان في قوله: { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } قال: لن يصل إلى مقامات الخواص من بقي عليه شيء من آداب النفوس ورياضاتها. قال الواسطي رحمه اللّه: عليه الوصول إلى البر بإنفاق بعض المحاب والوصول إلى البار بالتخلي من الكونين وما فيهما. وقال النصرآباذي: أفردك له باستنفاقه المحاب منك، لتكون خالصا في محبته، لا تلتفت إلى شيء سواه. والوصول إلى البار بالتخلي من الكونين وما فيهما. قال بعضهم: البر محاورة الحق وقربه، ولا تنال ذلك المقام وأنت تجد شيئا سواه أو تؤثر عليه غيره. وقال ابن عطاء: لن تنالوا وصلتي وفي أسراركم موافقة ومحبة لسواي. وقال النصر آباذي: قال بعض المفسرين في قوله: { لن تنالوا البر حتى تنفقوا } إنه الجنة. وعندي البر صفة الباري فكأنه قال: لن تنالوا قربي إلا بقطع العلائق. وقال جعفر: لن تنالوا معرفتي وقربي حتى تخرجوا من أنفسكم وهممكم بالكلية. وقال العلوي. في قوله: { لن تنالوا البر } الآية. قال: أحب الأشياء روحك فاجعل حياتك نفقة عليك لك تنل بري بك. وقال أبو بكر الوراق في قوله: { لن تنالوا البر } الآية: قال: ولهم بهذه الآية على الفتوة. وقال: لن تنالوا بري بكم إلا ببركم إخوانكم والإنفاق عليهم من أموالكم وجاهكم بكم وما تحبونه من أملاككم، فإذا فعلتم ذلك نالكم بري وعطفي، وأنا أعلم بنياتكم في إنفاقكم وبركم، فما كان لي خالصا قابلته ببري وهو أعلى، وما كان ذلك من الرياء والسمعة، فإني أغنى الشركاء للشريك كما روى عن المصطفى صلى اللّه عليه وسلم. قال جعفر الصادق عليه السلام: لن تنالوا وصلتي وفي سركم موافقة مع سواي. وقال أيضا: لن تنالوا الحق حتى تنفصلوا عما دونه. وقال الجنيد رحمة اللّه عليه في قوله: { لن تنالوا البر حتى تنفقوا } الآية. قال: لن تنالوا محبة اللّه حتى تسخوا بأنفسكم في اللّه. ٩٦قوله تعالى: { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا } الآية: ٩٦ قال الحسين: إن الحق تعالى أورد تكليفه على ضربين: تكليفا عن وسائط وتكليفا بحقائق، فتكليف الحقائق بدت معارفه منه وعادت إليه، وتكليف الوسائط بدت معارفه عمن دونه ولم يتصل به إلا بعد الترقي منها إلى الفناء عنها، فمن تكليف الوسائط إظهار البيت والكعبة فقال: { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة } فما دمت متصلا به كنت منفصلا عنه، فإذا انفصلت عنه حقيقة وصلت إلى مطهره وواضعه، فكنت مترسما بالبيت متحققا بواصفه. قوله تعالى: { مباركا }. قال: مباركا لمن ينزل عليه بهمة وطالب الطرق به إلى ربه. قوله تعالى: { وهدى للعالمين }. قال: هدى لمن اهتدى به إلى الهادي. ٩٧قوله عز وعلا: { فيه آيات بينات } الآية: ٩٧ قال محمد بن الفضل: علامات ظاهرة يستدل بها العارف على معروفه. قوله عز وعلا: { مقام إبراهيم }. قال الشبلي: مقام إبراهيم هو الخلة، فمن شاهد فيه مقام إبراهيم الخليل فهو شريف، ومن شاهد فيه مقام الحق فهو أشرف. وقال محمد بن علي الترمذي: مقام إبراهيم بذل النفس والمال والولد في رضا خليله، فمن نظر إلى المقام ولم يتخل مما تخلى منه إبراهيم من النفس والمال والولد سفره فقد بطل وخابت رحلته. قوله تعالى: { ومن دخله كان آمنا }. قال النوري: من دخل قلبه سلطان الاطلاع كان آمنا من هواجس نفسه ووساوس الشيطان. قال الواسطي: من دخله على شرط الحقيقة كان آمنا من رعونات نفسه. قال ابن عطاء: من دخله كان آمنا من عقابه وللّه في الدنيا ثواب وعقاب، فثوابه العافية وعقابه البلاء، فالعافية أن يتولى عليك أمرك، والعقوبة أن يكلك إلى نفسك. قال جعفر في قوله: { ومن دخله كان آمنا } قال: من دخل الإيمان قلبه كان آمنا من الكفر. قال الواسطي رحمة اللّه عليه في موضع آخر: من جاور الإيمان قلبه كان آمنا من رعونات نفسه. سمعت منصورا يقول: سمعت أبا القاسم الإسكندراني يقول بإسناده عن جعفر الصادق عليه السلام في قوله: { ومن دخله كان آمنا } فقال: من دخله على الصفة التي دخلها الأنبياء والأولياء والأصفياء كان آمنا من عذابه كما آمنوا. قوله تعالى: { وللّه على الناس حج البيت } الآية. قيل: لم يخاطب اللّه عباده في شيء من العبادات بأن للّه عليهم إلا الحج وفيه فوائد: إحداها: أنه ليس من العبادات عبادة يشترك فيها المال والنفس إلا الحج فأخرجه بهذا الاسم. وقيل: هي عبادة يكثر فيها التعب والنصب على مباشرتها فأخرجه بهذا الاسم ليكون عونا له على ما تباشره لعلمه أنه يؤدي ما للّه عليه في ذلك. وقيل: لما كان فيه الإشارات القيمة من تجريد ووقوف وغيرة قال اللّه تعالى: عليك لتهيئ باطنك للموقف الأكبر كما هيأت ظاهرك لهذا الموقف. وفي الحج إشارات قيل: إن رجلا جاء إلى الشبلي فقال له: إلى أين؟ قال: إلى الحج، قال: هات غرارتين فاملأهما رحمة واكبسهما وجئ بهما لتكون حظنا من الحج نعرضها على من حضر ونحيي بها من زار، قال: فخرجت من عنده فلما رجعت قال لي: أحججت؟ قلت: نعم، قال لي: أي شيء عملت؟ قلت: اغتسلت وأحرمت وصليت ركعتين ولبيت، فقال لي: عقدت به الحج؟ قلت: نعم: قال أفسخت بعقدك كل عقد عقدت منذ خلقت مما يضاد هذا العقد، قلت: لا، قال: فما عقدت، قال: ثم نزعت ثيابك؟ قلت: نعم، قال: تجردت عن كل فعل فعلته؟ قلت: لا، قال: ما نزعت قال: ثم تطهرت؟ قلت: نعم. قال: أزلت عنك كل علة بطهرك؟ قلت: لا. قال: ما تطهرت قال: ثم لبيت؟ قلت: نعم. قال: وجدت جواب التلبية مثلا بمثل؟ قلت: لا. قال: ما لبيت. قال: ثم دخلت الحرم؟ قلت: نعم، قال: عقدت بدخولك ترك كل محرم؟ قلت: لا، قال: ما دخلت الحرم. قال: أشرفت على مكة؟ قلت: نعم، قال: أشرف عليك من اللّه حال بإشرافك؟ قلت: لا، قال: ما أشرفت على مكة. قال: دخلت المسجد الحرام؟ قلت: نعم، قال: دخلت في قربه من حيث علمته؟ قلت: لا، قال: ما دخلت المسجد. قال: رأيت الكعبة؟ قلت: نعم، قال: رأيت ما قصدت له؟ قلت: لا. قال: ما رأيت الكعبة. قال: رملت ثلاثا ومشيت أربعا؟ قلت: نعم. قال: هربت من الدينا هربا علمت أنك به فاصلتها، وانقطعت عنها ووجدت بمشيك الأربع أمنا مما هربت منه فازددت للّه شكرا لذاك؟ قلت: لا. قال: فما انقطعت. قال: أصافحت الحجر؟ قلت: نعم، قال: ويلك قيل من صافح الحجر فقد صافح الحق ومن صافحه فهو في محل الأمن، أظهر عليك أثر الأمن؟ قلت: لا. قال: ما صافحت الحجر. قال: أصليت ركعتين بعدها؟ قلت: نعم، قال: وقفت الوقفة بين يدي اللّه جل وعز، ووقفت على مكانك من ذلك وأديت قصدك؟ قلت: لا. قال: ما صليت. قال خرجت إلى الصفا ووقفت بها؟ قلت: نعم. قال: أي شيء عملت؟ قلت: كبرت عليها. قال: هل صفا سرك بصعودك على الصفا، وصغر في عينيك الأكوان بتكبيرك ربك؟ قلت: لا. قال: ما صعدت ولا كبرت. قال: هرولت في سعيك؟ قلت نعم. قال: هربت منه إليه؟ قلت: لا، قال: ما هرولت ولا سعيت. قال: وقفت على المروة؟ قلت: نعم. قال: رأيت نزول السكينة عليك وأنت على المروة؟ قلت: لا. قال: لم تقف على المروة. قال: خرجت إلى منى؟ قلت: نعم. قال: أعطيت ما تمنيت؟ قلت: لا. قال: ما خرجت إلى منى. قال: دخلت مسجد الخيف؟ قلت: نعم. قال: هل تجدد عليك خوف بدخولك مسجد الخيف؟ قلت: لا قال: ما دخلته. قال مضيت إلى عرفات؟ قلت: نعم. قال: عرفت الحال التي خلقت لها والحال التي تصير إليها؟ وهل عرفت من ربك ما كنت منكرا له؟ وهل تعرف الحق إليك بشيء مما تعرف به إلى خواصه؟ قلت: لا. قال ما مضيت إلى عرفات. قال أنفدت إلى المشعر؟ قلت: نعم. قال: ذكرت اللّه فيه ذكرا أنساك فيه ذكر من سواه؟ وهل شعرت بماذا أجبت وبماذا خوطبت؟ قلت: لا. قال: ما نفدت إلى المشعر. قال: ذبحت؟ قلت: نعم. قال: أفنيت شهواتك وإرادتك في رضا الحق؟ قلت: لا. قال: ما ذبحت. قال: رميت؟ قلت: رميت جهلك منك بزيادة علم طهر علمك. قلت: لا. قال: ما رميت. قال: زرت؟ قلت: نعم. قال: كوشفت شيئا من الحقائق، أو رأيت زيادة الكرامات عليك للزيارة، فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ' الحاج والعمار زوار اللّه حق على المزور أن يكرم زائره '. قلت: لا. قال: ما زرت قال: أحللت؟ قلت: نعم. قال: عزمت على أكل الحلال؟ قلت: لا. قال: ما أحللت. قال: ودعت؟ قلت: نعم. قال: خرجت من نفسك وروحك بالكلية؟ قلت: لا. قال: ما ودعت ولا حججت وعليك العود إن أحببت وإذا حججت فاجتهد أن تكون كما وصفت لك. ولما دخلت على الشيخ الحصري - قدس اللّه روحه - ببغداد قال لي: أحاج أنت؟ قلت: أنا مع القوم. قال لي: أليس فرائض الحج أربعة: الإحرام والدخول فيه بلفظ التلبية؟ قلت: نعم. قال: والتلبية إجابة. قلت: نعم. قال: والإجابة من غير دعوة سوء الأدب. قلت: نعم. قال: فتحققت الدعوة حتى تجيب ثم الوقوف. قلت: نعم. قال: فاجتهد فيه فإنه محل المباهاة وانظر كيف تكون، والطواف وهو محل القربة من الحق، فيكون قربك منه بحسن الأدب ثم السعي وهو محل الفرار إليه من التبري مما سواه، فإياك أن تتعلق بعد سعيك بعلاقة من الدارين وما فيهما. سمعت محمد بن الحسن البغدادي يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سهل يقول: سمعت سعيد بن عثمان يقول: سمعت عبد الباري يقول: سئل ذو النون لم صير الموقف بالمشعر الحرام ولم يصير بالحرم؟ فقال ذو النون: لأن الكعبة بيت اللّه والحرم حجابه والمشعر بابه، فلما أن قصدها الوافدون وقفهم بالباب. الأول: يتضرعون إليه حتى أذن لهم بالدخول ووقفهم بالحجاب. الثاني: وهو المزدلفة فلما أن نظر إلى تضرعهم أمرهم بتقريب قربانهم، فلما قربوا قربانهم وقضوا تفثهم طهروا من الذنوب التي كانت لهم حجابا من دونه، فأذن لهم بالزيادة على الطهارة. قال فارس: الإحرام هو الاعتقاد، والاعتقاد اعتقادان: اعتقاد قصد وإرادة واعتقاد استشعار في الحال. وقال بعضهم: لما أجابوا التلبية أدخلوا الحرم مقامه مقام الدهليز، ثم دخلوا الحرم باعتقاد ترك كل محرم، ثم أشرفوا على الكعبة فأشرفت عليهم حال من الحق بإشرافهم على الحق، ثم دخلوا المسجد الحرام فشهدوا عند ذلك قربة فطافوا ولاذوا وحنوا وهرولوا، وكانوا في ذلك هداهم من الدنيا، والحجر شاهد لهم بوفاء عهودهم، وخرجوا إلى الصفا فصفوا عن كل كدورة من آفاق الدنيا والنفس، ولما وصلوا إلى منى وقع بهم التمني لما يأتلون فأعطوا ما تمنوا. ١٠١قوله تعالى: { ومن يعتصم باللّه فقد هدي إلى صراط مستقيم } الآية: ١٠١ قال ابن عطاء: من افتقر إلى اللّه من جميع ما سوى اللّه فقد فتح له الطريق إلى الحج وهو أقوم الطريق. قال جعفر في هذه الآية: من عرفه استغنى به عن جميع الأنام. قال الواسطي رحمة اللّه عليه: الاعتصام به منه فمن زعم أنه يعتصم باللّه من غيره فهو وهن في الربوية. وقال أيضا: من يعتصم باللّه للأئمة والعامة. ١٠٢قوله تعالى: { اتقوا اللّه حق تقاته } الآية: ١٠٢ تلف النفس في مواجبه. قال القاسم: بذل المجهود واستعمال الطاعة وترك الرجوع إلى الراحة، ولا سبيل إليه لأن أوائل طرق الوصول التلف. قال الواسطي رحمة اللّه عليه: هو إتلاف النفس في مواجبه. قال ابن عطاء: حق تقاته: هو صدق قول لا إله إلا اللّه وليس في قلبك سواه. وقال بعضهم: أراد به أن يعرفنا مواضع فضله فيما رفهنا فيه من استعمال مواجبه، لأن واجب الحق لا يتناهى والعمل به لا يتناهى. سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت ابن عطاء يقول: حقيقة التقوى كل التقوى من إذا قال قال للّه، وإذا عمل عمل للّه، وإذا نوى نوى للّه، ويكون باللّه وللّه، وقيل أيضا إنه التورع عن جميع الشبهات. قال النصرآباذي: حق تقاته أن يتقي كل ما سواه. قال جعفر: التقوى: أن لا ترى في قلبك شيئا سواه. قال الواسطي رحمة اللّه عليه: الأكوان كلها أقدار في ميدان الحق، وميدان الحق لا يطأه إلا من اتقى ما سواه؛ قال اللّه تعالى: { اتقوا اللّه حق تقاته }. قال بعضهم: ما اتقى اللّه حق تقاته من سكن إلى شيء سواه. قوله تعالى: { ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون اللّه }. قال الواسطي رحمه اللّه: صفى النبي أصحابه وخاصهم فاختار منهم سبعين رجلا الذين بايعوا ليلة العقبة ثم صفاهم ثانيا فاختار منهم عشرة، فقال: هؤلاء في الجنة، ومدح كل واحد منهم بمدحة وحلاه بحلية ثم صفاهم فاختار منهم أربعة جعلهم خلفاء من بعده ثم صفى واختار اثنين، وقال: ' اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر - رضي اللّه عنهما - ' ثم صفى فاختار واحدا، فقال: ' لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم '. ثم نقاه من الأصل فقال: ' لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا '. وأصل هذا كله. انقطاع الرؤية عن المكتوبات لقوله: ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون اللّه. قوله عز وعلا: { واعتصموا بحبل اللّه جميعا ولا تفرقوا } الآية: ١٠٢ قال أبو يزيد: ما لم تفقد نفسك ولا تعتصم بخالقك لا يستجاب لك ومتى كنت وسط الأمور والمخلوق لا يهتدي إلى الخالق، فإذا طرحت عنك كنت معتصما به. وقيل: الاعتصام إليه هو ميل القلب بالوفاء وأداء الفرائض بغير تقصير. قال ابن عطاء: حبل اللّه متصل بعبده يتوقع منه المزيد والفوائد في كل وقت، وحبله عهده وكتابه فمن اعتصم به وصل. سئل الجنيد رحمة اللّه عليه عن قوله: { واعتصموا بحبل اللّه } معناه قالت المتصوفة: هو خصوص وعموم أما قوله: { واعتصموا بحبل اللّه } معناه: اعتصموا باللّه عن الاعتصام بحبل اللّه. وقال أبو عثمان: الاعتصام باللّه والامتناع به من الغفلة والكفر والشرك والمعاصي والبدع والضلالات وسائر المخالفات. وقيل: اعتصموا بحبل اللّه: اجتمعوا على موافقة الرسول صلى اللّه عليه وسلم فإنه الحبل الأوثق، ولا تفرقوا عنه ظاهرا وباطنا وسرا وعلانية. قال الواسطي رحمة اللّه عليه: اعتصموا بحبل اللّه ومن يعتصم باللّه فقد هدى خطاب الخاص وخطاب العام: { قل بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا }. قوله عز وجل: { إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم }. قيل: كنتم أعداء بملازمة حظوظ أنفسكم فألف بين قلوبكم فأزال عنكم حظوظ الأنفس وردكم منها إلى حظ الحق فيكم. وقال بعضهم: خص اللّه الأنبياء والأولياء والمؤمنين بخاصيته فأزال { إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم } بعلمه. قال: عطاياه لا تحمل إلا خطاياه فألف بين قلوب المرسلين بالرسالة، وقلوب الأنبياء بالنبوة، وقلوب الصادقين بالولاية، وقلوب الشهداء بالمشاهدة، وقلوب الصالحين بالخدمة، وقلوب عامة الخلق بالهداية، فجعل المرسلين رحمة على الأنبياء، والأنبياء رحمة على الصديقين، والصديقين رحمة على الشهداء، والشهداء رحمة على الصالحين، والصالحين رحمة على عباده المؤمنين، والمؤمنين رحمة على الكافرين. قوله تعالى: { فأصبحتم بنعمته إخوانا }. قال ابن عطاء في هذه الآية: فأثر فيكم عنايته وحسن نظره، فألف بين قلوبكم وأرواحكم، وجعل الحظين فيها حظا واحدا. قوله عز وعلا: { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها }. قيل: برؤية النجاة بأعمالكم فأنقذكم منها برؤية الفضل. ١٠٣{ واعتصموا بحبل اللّه } الآية: ١٠٣ وقال أيضا في قوله: { ومن يعتصم باللّه } قال: هل شاهدت من شواهدك شيئا يفزع منك إليه وهل فزعت إلا إلى نفسك. والاعتصام: أن ترى نفسك في ظله وكنفه وحسن قيام نظره لك في أبده، فإن التحقيق فصحة الاعتصام والتصديق يوجب الاعتصام. وقيل: الاعتصام هو اللجأ بترك الحول والقوة والسكون والأمر والهدوء تحت مراد اللّه. وقيل: الاعتصام للمحجوبين ولأهل الحقائق رفع الاعتصام لأنهم في القبضة. وقال أبو بكر الوراق: علامات الاعتصام ثلاثة: قطع القلب عن معونة المخلوقين، وصرفه بالكلية إلى رب العالمين، وانتظار الفرج من اللّه. ١٠٦قوله تعالى: { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } الآية: ١٠٦ قال محمد بن علي: تبيض وجوه بنظرهم إلى مولاهم وتسود وجوه باحتجابه عنهم. وقال الحسين بن الفضل: يوم تبيض وجوه بالشهادة وتسود وجوه بالفرار من الزحف. وقال محمد بن الفضل: تبيض وجوه بالقناعة وتسود وجوه بالطمع. ١٢٣قوله تعالى: { ولقد نصركم اللّه ببدر } الآية: ١٢٣ لضعفكم وصحة توكلكم على ربكم وانقطاعكم عن حولكم وقوتكم وردكم الأمر إليه بالكلية، وأنتم أذلة عند أنفسكم لقلتكم وما كان يد وعز قط إلا بتذليل النفس ومنعها من الشهوات، فأنزل اللّه عليكم نصره وأيدكم { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا }. ١٢٨قوله عز وعلا: { ليس لك من الأمر شيء } الآية: ١٢٨ قال النوري: ليس لك من الأمر شيء ولكن الأمر كله إليك. قال: لك من الأمر، فالأمر كله إليك وليس لك منه شيء جل قدرك أن يلاحظ غير الحق فيما يبدئ ويعيد. ١٣١قوله عز وجل: { واتقوا النار التي أعدت للكافرين } الآية: ١٣١ قال ابن عطاء: أمر العوام باتقاء النار لخوفهم منها وتركهم المعاصي من أجلها، وأمر الخواص بأن يتقوه وينظروا إليه دون غيره فقال: { واتقون يا أولي الألباب } أي: يا أهل الخصوص. ١٣٣قوله تعالى: { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } الآية: ١٣٣ فالطلب للمغفرة والغفران هو حظ النفس وكذلك طلب الجنان، وما دام العبد بهذه الصفة فهو عبد نفسه وطالب حظه إلى أن يستوي في ميادين لطائف الخطاب ورود الرضوان ودخول النيران، حينئذ فنى عن حظوظه وبقي بلا حظ، واستولت عليه في ذلك جلابيب القدرة، فحينئذ يأنف أن ينظر إلى حظوظه فيبقى أثر الأثر لغير الحق عليه. قوله تعالى: { كنتم خير أمة أخرجت للناس }. قال يحيى بن معاذ: هذه مدحة لهم ولم يكن اللّه تعالى ليمدح قوما ثم يعذبهم. وقال جعفر الصادق رحمة اللّه تعالى عليه: يأمرون بالمعروف والمعروف هو موافقته الكتاب والسنة. ١٣٤قوله تعالى: { الذين ينفقون في السراء والضراء } الآية: ١٣٤ الذين يتبرءون من الأملاك والأنفس والقلوب، وينفقونها في رضا اللّه لا يبخلون بشيء عليه. وقيل: هذا خطاب خاطب به العام المتفرقين من أهل الذنوب ليردهم به إلى طريق التوبة وخاطب الأوساط بقوله { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى اللّه } اتقوه في تصحيح طاعاتكم وإخلاصها وإخراج الشرك الخفي منها، وخاطب الخاص بقوله: { اتقوا اللّه حق تقاته } وهو القيام معه في جميع الأحوال بحسن الموافقة. ١٣٥قوله تعالى: { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه } الآية: ١٣٥ قال الواسطي: الطاعات فواحش، لا بل النظر إليها عجبا واستكبارا هي الفواحش لا الطاعات. سئل أبو عبد اللّه بن الجلاء عن الظلم فقال: متابعة النفس على ما تشتهيه. سئل محمد بن علي عن قوله: { والذين إذا فعلوا فاحشة } قال: النظر إلى الأفعال أو ظلموا أنفسهم برؤية النجاة بأعمالهم، ذكروا اللّه، لحقهم التوفيق من اللّه تعالى وأدركتهم العصمة منه فاستغفروا لذنوبهم من أفعالهم وأقوالهم، ومن يغفر الذنوب إلا اللّه، علموا أن لا وصول إلى اللّه تعالى إلا به. قال أبو بكر الوراق: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم بمتابعة الهوى ومخالفة السنة. قال جعفر المراوحي في هذه الآية: إنها على وجهين: العامة: ذكروه بأنهم أحشموه فاستغفروه لترضوه. والخواص: ذكروه بأنه تولاها منهم على ما سبق لهم فاستغفروه أدبا وذكروه توحيدا. ١٣٨قوله تعالى: { هذا بيان للناس } الآية: ١٣٨ قال جعفر: أظهر البيان للناس، ولكن لا ينتبه إلا من أيد منه بنور اليقين وطهارة السر ألا تراه يقول: { وهدى وموعظة للمتقين } أي: أن الاهتداء بهذا البيان والإتعاظ به للمتقين الذين اتقوا كل شيء سواه. ١٣٩قوله تعالى: { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون } الآية: ١٣٩ سئل محمد بن موسى ما بال الإنسان يحزن مرة ويفرح أخرى؟ فقال: إن الأرواح غذاؤها وتهذيبها في الاستتار والتجلي، يطرب عند التجلي ويحزن عند الاستتار، فمن حجبه حزن ومن طالعه بعين البر واللطف فرح، ومن طالعه بعين السخط خاف وقلق. ١٤٤قوله تعالى: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } الآية: ١٤٤ قال الحسين: ليس للرسول إلا ما أمر به أو كوشف به، ألا تراه لما سئل فيم يختصم الملأ الأعلى بقي حيث لم يسمع حسا ولا نطقا فقال: لا أدري، فلما غيب عنه شاهده بوقع الصفة عليه، شاهدهم بشهود الحق وذهب عنه صفة آدميته، أي: لما عاين ما أطلعه اللّه عليه من مشاهدته غاب عن صفته لأنه صار غير آدمي فتكلم بالعلوم كلها. قال الواسطي: سقمت البصائر عند موت محمد صلى اللّه عليه وسلم إلا من رجل واحد فضل عليهم وهو الداعي إلى اللّه على البصيرة، وهو أبو بكر رضي اللّه عنه فكأن هذه الآية خص هو بها، وعجزت الأمة عن ذلك لضعف تحايزها ووهن بصائرها وبأن فضيلة أبي بكر رضي اللّه عنه بذلك وهو قوله: ' من كان يعبد محمدا فإن محمدا صلى اللّه عليه وسلم قد مات '. قوله تعالى: { من كان يريد ثواب الدنيا نؤته منها }. قيل: ثواب الدنيا: العافية والإكثار منها. وقيل: إلهام شكر النعمة. { ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها }: ثواب الآخرة: الجنة ونعيمها. ١٥٠قوله تعالى: { بلى واللّه مولاكم } الآية: ١٥٠ قال ابن عطاء: معينكم على ما حملكم من أوامره ونواهيه. قال جعفر: متولى أموركم بدءا وعاقبة وهو خير الناصرين. قال ابن عطاء: خير الناصرين لكم على أنفسكم وهواكم ومرادكم. قال بعضهم: ' نعم المولى ' حيث لم يطالبهم بحقيقة ما تحملوا من الأمانات حين أشفق من حملها السماوات والأرض ' ونعم النصير ' حين نصرهم إلى بلوغ رشدهم. ١٥٢قوله تعالى: { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } الآية: ١٥٢ قيل: قرئت هذه الآية بين يدي الشبلي فقال: أواه قطع طريق الخلق إليه ورد الأشباح إلى قيمها. قال محمد بن علي: منكم من يريد الدنيا للآخرة ومنكم يريد الآخرة للّه تعالى. قال أبو سعيد الخراز في هذه الآية: ما دمتم بكم وبأوصافكم كانت هممكم الحوادث والدارين، فإذا توليتكم وأجليتكم من صفاتكم وأكوانكم، علوتم بهممكم إلي فأنفتم من النظر إلى الأكوان وإرادتها وقمتم بالحق مع الحق. وقال: متى ما طالعهم بأسرارهم محقهم عن إثارتهم ودهشتهم في مناديهم، أي: ينظرون إلى ما صنع إليهم بدءا في منع أحوالهم لا إلى حركاتهم. قال النوري: العامة في قميص العبودية والخاص في قميص الربوبية، فلا يلاحظون العبودية وأهل الصفوة حد بهم الحق ومحاهم عن نفوسهم. قال الشبلي - تغمده اللّه برحمته -: منكم من يريد الدنيا للطاعة، ومنكم من يريد الآخرة للجنة فأين مريد اللّه تعالى؟ ومريد اللّه تعالى من إذا قال قال للّه، وإذا سكت فليس لسوى اللّه تعالى. قال سهل بن عبد اللّه: دنياك نفسك فإذا قتلتها فلا نفس لك. قال بعضهم في قوله تعالى: { ثم صرفكم عنهم } قال: صرف المريدين له عما دونه وسواه. قال الشبلي - رحمة اللّه عليه - في هذه الآية: أسقط العطفتين وقد وصلت، قيل: وما العطفتان؟ قال: الكونين بما فيهما. ١٥٤قوله تعالى: { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة } الآية: ١٥٤ قال ابن عطاء: من صدق إرادته واجتهاده ورياضته، رد إلى محل الأمن أي: عصم من كل مخوف. قوله تعالى: { ربيون كثير }. قال الجريري: منقطعين إلى الرب جل وعز فانية عنهم أوصافهم وإراداتهم متطلعون لإرادة اللّه تعالى فيهم. قال بعضهم: { ربيون كثير }: وزراء الأنبياء فما وهنوا لما أصابهم اعتمادا على اللّه تعالى، وما ضعفوا لما أصابهم في ذات اللّه تعالى، و ' ما استكانوا ' لم يتضرعوا لنزول البلاء بهم. قوله تعالى: { فما وهنوا لما أصابهم في سبيل اللّه }. قال الواسطي: كونوا كأبي بكر الصديق رضي اللّه عنه لما كانت نسبته إلى الحق لم يؤثر عليه فقدان السبب، ولما ضعفت نسبتهم أثر عليهم الخطاب، فعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يقول: ' من قال مات محمد صلى اللّه عليه وسلم ضربت عنقه وأبو بكر رضي اللّه عنه نظر إلى ما دله عليه المصطفى صلى اللّه عليه وسلم فقرأ: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل }. ١٥٩قوله تعالى: { فبما رحمة من اللّه لنت لهم } الآية: ١٥٩ قال الواسطي: جميع أوصافك وما يخرج من أنفاسك رحمة مني عليك وعلى من اتبعك، ثم أمره بإقامة العبودية في حسن المعاشرة مع أوليائه وتقريب منزلتهم والمشورة معهم بقوله { وشاورهم في الأمر } ثم قال: { فإذا عزمت فتوكل على اللّه } أي فاقطع عنهم جملة، وانقطع إلى سيرك وتوكل عليه، عاشرهم ظاهرا وطالع ربك سرا. قال بعضهم: ' فاعف عنهم ': تقصيرهم في تعظيمك واستغفر لهم قعودهم عن أمرك، وشاورهم في الأمر: لا تبعدهم بالعصيان عنك واشملهم بفضلك فإنك بنا تعفو وبنا تغفر وإيانا تطالع. ويقال: لا تعتمد عليهم وعلى كثرتهم في شيء من أمورك، إذا عزمت فأخلص عزمك لنا، فإنك الحبيب ولا يحسن بالحبيب أن يلاحظ غير حبيبه. قال ابن عطاء: لما علا خلقه جميع الأخلاق عظمت المؤنة عليه، فأمر بالغض والعفو والاستغفار لهم. قال جعفر: أمر باستقامة الظاهر مع الخلق وبتجريد باطنه للحق، ألا تراه يقول: { فإذا عزمت فتوكل على اللّه }. قوله تعالى: { وسنجزي الشاكرين }. سمعت محمد بن عبد اللّه يقول: سمعت محمد بن سعيد يقول: الشاكر من يشكر على الرخاء، والشكور من يشكر على البلاء. وقد قيل: الشاكر من يشكر على النعماء والشكور من يتلذذ بالبلاء. ١٦٠قوله تعالى: { إن ينصركم اللّه فلا غالب لكم } الآية: ١٦٠ قال بعضهم: إنما يدرك نصر اللّه تعالى من تبرأ من حوله وقوته، واعتصم بربه في جميع أسبابه لا من اعتمد على حوله وقوته ورأى الأشياء منه فإنه مردود إلى حوله وقوته وعمله. ١٦١قوله تعالى: { وما كان لنبي أن يغل } الآية: ١٦١ قال بعضهم: ما كان لنبي أن يستأثر بالوحي والشريعة بعض متبعيه على بعض. قال يحيى العلوي في هذه الآية: ما كان لنبي أن يضع أسراره إلا عند الأمناء من أمته. ١٦٤قوله تعالى: { لقد من اللّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } الآية: ١٦٤ قال بعضهم: أكبر منن اللّه تعالى على الخلق وسائط الأنبياء إليهم، ليصلوا بهم إليه لأنه لو أظهر عليهم من صفاته ذرة لأحرقتهم جميعا وأضلوا فيه عن الطريق إلا المعصومين. ١٦٧قوله تعالى: { قاتلوا في سبيل اللّه أو ادفعوا } الآية: ١٦٧ قال الجوزجاني: جاهدوا أنفسكم وهواكم وجاهدوا معهم إلى أن تبلغوا منازل الصديقين ودرجاتهم، فإن لم تستطيعوا ذلك فادفعوها عن ارتكاب المحارم والتوثب على المناهي. وقيل: قاتلوا أنفسكم على ملازمة الأوامر والنواهي، أو ادفعوها عن طريق الشرك ظاهرا وباطنا. ١٦٩قوله تعالى: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتا بل أحياء عند ربهم } الآية: ١٦٩ قال ابن عطاء: المقتول على المشاهدة باق برؤية شاهده، والميت من عاش على رؤية نفسه ومتابعة هواه. قال أبو سعيد القرشي في هذه الآية: لا تظنن أن الهالكين في طريق الإرادة طلبا للوصلة مردودين إلى مقاماتهم، بل قد بلغ بهم غاية ما قصدوا من القرب والوصلة، أحياء بقرب الحي عند ربهم في مجلس المشاهدة، يرزقون زيادة الفوائد من أنوار الاطلاع، فرحين بالغين أقصى الرضا. ١٧١قوله تعالى: { يستبشرون بنعمة من اللّه وفضل } الآية: ١٧١ قال ابن عطاء: لو نظروا إلى المنعم لتبغض عليهم الإستبشار بنعمه وفضله ولكان استبشارهم بالمنعم المتفضل. قال بعضهم: الإستبشار بالنعمة منه هو الإستبشار بالمنعم. قال بعضهم: يستبشرون بما أنعم عليهم من فضله القديم، حيث جعلهم أهلا لنعمه وفضله. ١٧٢قوله تعالى: { الذين استجابوا للّه والرسول } الآية: ١٧٢ قال الواسطي: استجابوا للّه تعالى بالوحدانية وأجابوا الرسول في اتباع أوامره واجتناب نواهيه، وقبول الشريعة منه على الرأس والعين. وقيل في قوله تعالى: { الذين استجابوا للّه }: باستجابة الرسول صلى اللّه عليه وسلم فبلغتهم استجابتهم المصطفى صلى اللّه عليه وسلم إلى حقيقة استجابة الحق تعالى. وقيل: استجابوا للّه بالفردانية وللرسول صلى اللّه عليه وسلم بالبلاغ. قوله تعالى: { للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم }. قيل للذين أحسنوا في أداء الشرائع واتقوا في التوحيد، أن يخالطوه بشرك خفي ' أجر عظيم ' هو حفظ أسرارهم وأوقاتهم عليهم من كل شاغل يشغلهم عن الحق. وقيل للذين أحسنوا منهم في إجابة المصطفى صلى اللّه عليه وسلم واتقوا مخالفته سرا وعلنا. { أجر عظيم } وهو البلاغ إلى المحل العظيم من محاورة الحق ومشاهدته. ١٧٥قوله تعالى: { فلا تخافوهم وخافوني } الآية: ١٧٥ قال الجنيد رحمة اللّه تعالى عليه: الخوف توقع العذاب مع كل نفس. قال بعضهم: خوف أهل المعرفة ثلاثة: خوف من تقلب القلب، وإفراط القول، وتخليط العمل. قال الواسطي: الخوف من شرط الإيمان والحسبة من شرط العلم. قال ابن عطاء في قوله تعالى: { فلا تخافوهم وخافوني } قال: ما دمتم متمسكين بالطريقة فخافوني فمن ترك الخوف فقد ترك الطريقة المستقيمة. وقال أيضا في هذه الآية: الخوف رقيب العمل والرجاء شفيع المحن. وقال أحمد بن عاصم: أنفع الخوف ما حجزك عن المعاصي، وأطال منك الحزن على ما قد فات وألزمك الفكر في بقية عمرك وخاتمة أمرك. قال الواسطي: ليس الخوف من وقعت به العبرة كخوف من لم تقع به، بل ليس قلق من شاهد ما غاب كقلق من حذر ما غاب، بل ليست رهبة من هو غائب عن حضوره كرهبة من حضر في غيبته، بل ليس خوف من هو في وقاية الحق كمن هو في رعاية الحق. قال سهل بن عبد اللّه في قوله: { فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين }: إن كنتم مصدقين أنه لا دافع ولا نافع غيري. ١٧٦قوله تعالى: { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } الآية: ١٧٦ قال الواسطي: الحزن في الأحوال كلها، وفي الحقيقة تعريف لهم وتنبيه، وهذه الآية من حياد الحقائق التي جرت أنهم لن يضروا اللّه شيئا. قال: لأنهم جحدوا ما يليق بطبائعهم. قوله تعالى: { إنهم لن يضروا اللّه شيئا } الآية: ١٧٦ لأنه الذي تولاهم وفي البلية ألقاهم. قوله تعالى: { يريد اللّه ألا يجعل لهم حظا في الآخرة }. شغلهم فيما فيه هلاكهم من تكبير أنفسهم وطلب معاشهم، وقد سبق القضاء فيهما ولا تغيير ولا تبديل. ١٧٩قوله تعالى: { وما كان اللّه ليطلعكم على الغيب } الآية: ١٧٩ قيل في هذه الآية: ما كان اللّه ليطلعكم على الغيب وأنتم تلاحظون أشباحكم وأفعالكم وأحوالكم، فإنما يطلع على الغيب من كان أمين السر والعلانية موثوق الظاهر والباطن، فيفتح له من طريق الغيب بقدر أمانته ووثاقته ألا تراه يقول: { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول }. وهو الفاني عن أوصافه المتصف بأوصاف الحق. قوله تعالى: { ولكن اللّه يجتبي من رسله من يشاء }. أي: فيطلعه على الغيب، ألا ترى النبي صلى اللّه عليه وسلم كيف حكم على الغيب بقوله: ' عشرة من قريش في الجنة '. ١٨٠قوله تعالى: { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله } الآية: ١٨٠ قال ابن عطاء: السلوك في طريق الحض على السخاء واجتناب البخل، وهو بذل المال والنفس والسر والروح والكل، فمن بخل بشيء في طريق الحق حجب به وبقى معه، ومن نظر في طريق الحق إلى الغير حرم فوائد الحق وسواطع أنوار القرب كما روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: ' ما جبل ولي اللّه إلا على السخاء '. ١٨٦قوله تعالى: { لتبلون في أموالكم وأنفسكم } الآية: ١٨٦ قال ابن يزدانيار: لتبلون في أموالكم بجمعها ومنعها، والتقصير في حقوق اللّه تعالى فيها، وأنفسكم باتباع شهواتها وترك رياضاتها وملازمتها أسباب الدنيا وخلوها عن النظر في أمور المعاد. وقيل: { لتبلون في أموالكم } بحبها ومنع حقوقها، وأنفسكم برؤية أعمالها والاعتماد عليها. وقيل: لتبلون في أموالكم بالاشتغال بها أخذا وعطاء. ١٨٧قوله تعالى: { وإذ أخذ اللّه ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس } الآية: ١٨٧ قيل: أخذ اللّه تعالى المواثيق على الأولياء أن لا يخفوا لألباب اللّه تعالى عندهم من لا يفتتن بذلك ولا يتخذه دعوى، وأن يعلموا من قصدهم من المريدين الطريق إلى الحق. قوله تعالى: { واشتروا به ثمنا قليلا }. قيل: ادعوا ذلك لأنفسهم ليفتنوا به الخلق. ١٩٠قوله تعالى: { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } الآية: ١٩٠ قال الواسطي: في هذه الآية أثبت للعامة المخلوق فأثبتوا به الخالق فقال: { لآيات لأولي الألباب }. قال لأهل الحقائق، وقال للخواص ' ألم تر إلى ربك '. قال الجنيد رحمه اللّه: كل من أثبته بعلة فقد أثبت غيره، لأن العلة لا تصحب إلا معلولا لأجل الحق عن ذلك. قال الواسطي في هذه الآية: هو فرق بين معرفة العامة ومعرفة الموحدين، لأن العامة اعتقدته بما يليق به، وكل حال أثبته العموم جحدته الخصوص فهو عند الخاص منزه عن كل ما وصفه به العام لأن العام أثبتوه من حيث العبودية والخاص أثبتوه من حيث الربوبية. قال بعضهم في قوله تعالى: { إن في خلق السماوات والأرض }: إن الخواص لم ينظروا إلى الكون والحوادث إلا بمشاهدة الآيات، وما شاهدوا الآيات إلا بمشاهدة الحق فيها، ومن شاهد الحق لم يمازج سريرته طعم الحدث، وأنى بالحدث لمن الحدث عنده غيرحدث. قال النصرآباذي: من لم يكن من أولي الألباب لم يكن له في النظر إلى السماوات والأرض اعتبار، وأولوا الألباب هم الناظرون إلى الخلق بعين الحق. ١٩١قوله تعالى: { الذين يذكرون اللّه قياما وقعودا وعلى جنوبهم } الآية: ١٩١ قال أبو العباس بن عطاء: يذكرونه قياما بشرط قيامهم لوفاء الذكر، ويذكرونه قعودا بقعودهم عن المخالفات، وعلى جنوبهم على كل جهة يجنبهم عليها أي يحملهم. وسئل بعضهم هل في الجنة ذكر؟ قال: الذكر طرد الغفلة فإذا ارتفعت الغفلة فلا معنى لذكره وأنشد: (كفى حزنا أنى أناديك أبيا * كأني بعيد وكأنك غائب * (وأطلب منك الفضل من غير رغبة * ولم أر مثلي زاهدا فيك راغب * قال جعفر: يذكرون اللّه تعالى قياما في مشاهدات الربوبية، وقعودا في إقامة الخدمة، وعلى جنوبهم في رؤية الزلف. قال الواسطي: كل ذاكر على قدر مطالعة قلبه بذكر، فمن طالع ملك الجلال ذكره بذلك، ومن طالع ملك رحمته ذكره بذلك، ومن طالع ملك معرفته ذكره على ذلك، ومن طالع ملك سخطه وغضبه كان ذكره أهيب، ومن طالع المذكور أغلق عليه باب الذكر. قال النصر آباذي: الذين يذكرون اللّه قياما وقعودا بقيوميته ' أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت '. وقعودا بمجالسة أنا جليس من ذكرني '. وعلى جنوبهم إشارة { يا حسرتا على ما فرطت في جنب اللّه }. قال بعضهم: ' الذين يذكرون اللّه قياما ': يذكرونه قائمين باتباع أمر اللّه، وقعودا أي قعودا عن زواجره ونواهيه، وعلى جنوبهم أي وعلى اجتنابهم مطالعات المخالفات بحال. وقيل: الأصل في الذكر أنه ذكرك إما بالتوحيد أو بالإلحاد، وذكرك للعطية أو للمحبة فما أظهر عليك من نعمته ظهر عليك من ذكره قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ' كل ميسر لما خلق له '. قال سهل: ما ذكره أحد إلا من غفلة. قال فارس: الذكر طرد الغفلة وليس للمذكور من الذكر إلا حظ الذاكر منه، وكل من ذكر فبنفسه بدأ لان ثمرته عائدة عليه والحق وراء ذلك. قال ذو النون: إنما حسن ذكرك له لأنه تبع ذكره لك، ولولا ذاك لكان كسائر أفعالك. قال القناد: الذكر غذاء الأرواح كما أن الطعام غذاء الأشباح. قال الشبلي رحمة اللّه تعالى عليه: ذكر الغفلة يكون جوابه اللغز. وأنشد: (ما إن ذكرتك إلا هم يلعنني سري * وذكري وفكري عند ذكراكا * (حتى كأن رقيبا منك يهتف بي * إياك ويحك والتذكار إياكا * قوله تعالى: { ويتفكرون في خلق السماوات والأرض }. قال بعضهم: قدم الذكر على التفكر، ليتم شكر النعمة على حسب استحقاق المزيد من واجب الشكر لأن الفكر يبرئ الكل منك، ولا ينصرف إلا بحق. قال بعضهم: فكرة العامة في العواقب، وفكرة الخاصة في السوابق، وفكرة الأوساط في الطوارق وهذا يدخل في مثلات تفسير قوله تعالى: { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا }. قال بعضهم: الفكرة بالملاحظة والبصيرة والنجيزة، فخلوص النجايز أورثت مطالعات المعارف وسلامة البصائر أورثت الضياء في الضمائر وملاحظة الكريم أوجبت البر والنعيم. قال بعضهم: التفكر يتولد على قدر اليقين ولا يخلو القلب من فكرتين: فكرة في الآخرة وفكرة في الدنيا، ومن صحة التفكر أن يكون حشوه اليقين والرجوع إلى الحق، ومن فساد التفكر ان يجلب عليك الكدورات والشبهات. قال بعضهم: التفكر أن تتفكر في تنبهك وغفلتك وطاعتك ومعصيتك، فإذا تفكرت فيه خلص لك أفعالك. قال بعضهم: هو رؤية اللّه تعالى قبل التفكر في الأشياء، وواسطة التفكر أن ترى الأشياء قائمة باللّه تعالى، وفساد التفكر أن ترى الأشياء فتستدل بها على اللّه تعالى. قال ذو النون: من وفقه اللّه تعالى للتفكر فتح عليه المنه وغرقه في بحار النعمة وأوصله إلى محبة المولى. سمعت محمد بن عبد اللّه يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول: سمعت ذا النون يقول: خلق اللّه تعالى على الفطرة وأطلق لهم الفكرة، فبالفطرة عرفوه وبالفكرة عبدوه. وقيل: ذلك بالتفكر في صفات الحق لا في المحدثات ولو دلك على المحدثات لقال في حق السماوات والأرض. قال النصرآباذي رحمة اللّه عليه: أوائل التفكر بالتمييز، وانتهاؤه عنده سقوط التمييز بالتمييز وانتهاؤه. قوله تعالى: { ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب } الآية: ١٨٨ قال حاتم الأصم رحمة اللّه تعالى عليه: حذر اللّه تعالى بهذه الآية سلوك طريق المرائين والمتقربين والمتزهدين والمتوسمين بسيما الصالحين وهم من ذلك خوالي، قال اللّه تعالى: { فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب } إن ذلك الظاهر ينجيهم من العذاب كلا بل لهم عذاب أليم، وهو أن يحجبهم عن رؤيته ويمنعهم لذيذ مخاطبته. قوله تعالى: { سبحانك فقنا عذاب النار } الآية: ١٩١ كأنه يقول: نزهني يا من لا ينزهني أبدا غيره وعظمني يا من لا يعظمني أبدا غيره. قال النصرآباذي: سبحانك إني نزهت نفسك بنفسك في نفسك، بمعناك في معناك، بما لاق منك بك لك. ١٩٣قوله تعالى: { ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا } الآية: ١٩٣ قال القاسم: الإيمان أنوار الحق إذا اشتملت على السريرة، وهو أن يغيب العبد تحت أنواره ويبدو له بحر الاختراق، فيغيبه عن وساوس الافتراق فيكون مصحوب الحق في أوقاته لا يشعر بتسخيره ولا يعلم بحجابه، وإنما تحجب الكل بالكل وحجب كلا بكليته وقمع كلا بحده، لئلا يستوي علم أحد مع علمه، وهذا هو صريح الإيمان. قال أبو بكر الوراق: للمؤمن أربع علامات: كلامه ذكر، وصمته تفكر، ونظره عبره، وعمله بر. قال ابن عطاء: المؤمن واقف مع نفسه، ألا تراه يقول: { ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا } كيف أثبت أفعال نفسه ورجوعه إلى الإيمان ولم يعلم أنه مقدور ومدبرها ما هو فيه. قوله عز وجل: { ربنا ما خلقت هذا باطلا }. قال فارس رحمه اللّه: الحكمة في إظهار الكون إظهار حقائق حكمته بالفعل الحكيمي. وقال غيره: الحكمة في إظهار الكون ارتفاع العلة فإذا ارتفعت العلة ظهرت الحكمة. وقال إبراهيم الخواص: أمرهم بالتفكر في خلق السماوات والأرض ثم قطعهم عن ذلك بقوله: { ربنا ما خلقت هذا باطلا } دلهم عليها ثم حثهم على الرجوع إليه؛ لئلا يقفوا معها فينقطعون عن مشاهدته والإقبال عليه. قوله عز وجل: { وتوفنا مع الأبرار }. قال: مع من رضيت ظاهرهم للخلق وباطنهم للحق عز وجل. وقال أبو عثمان رحمه اللّه: الأبرار هم الذين أسقطوا عن أنفسهم أشغال الدنيا واشتغلوا بما يقربهم إلى مولاهم. وقال: الأبرار هم القائمون للّه تعالى على حد التفريد والتوحيد والتجريد. وقال سهل: هم المتمسكون بالسنة. وقال: الأبرار: الناظرون إلى الخلق بعين الحق. ١٩٤قوله عز وجل: { ولا تخزنا يوم القيامة } الآية: ١٩٤ لا تخزنا بأعمالنا علينا بفضلك ورحمتك { إنك لا تخلف الميعاد } بقولك ' سبقت رحمتي غضبى '. ١٩٥قوله عز وجل: { فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم } الآية: ١٩٥ تركوا الشرور وفارقوا قرناء السوء. قوله تعالى: { وأوذوا في سبيلي }. قيل: إن اللّه تعالى خير القوم يصحبة الفقراء ومجالستهم والتزين لربهم لأن الفقراء هم طريق الحق، ألا ترى المصطفى صلى اللّه عليه وسلم لما جلس معهم كيف قال: ' المحيا محياكم والممات مماتكم '. ١٩٦قوله تعالى: { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } الآية: ١٩٦ قال يوسف رحمه اللّه: لا تفتننكم الدنيا بوقوع الجهال عليها والاغترار بما فيها والتكبر بنعيمها، فإنها زادهم إلى النار. ١٩٨قوله تعالى: { وما عند اللّه خير للأبرار } الآية: ١٩٨ ٢٠٠قيل: ما عنده لهم خير مما يطلبونه بأفعالهم قوله عز وجل: { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } الآية: ٢٠٠ قال الجنيد: إن اللّه تعالى ذكر الصبر وشرفه وعظم شأن الصابرين عليه لديه، فقال: { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا } وأمرهم بالصبر على الصبر ثم قال: { ورابطوا } وهو ارتباط السر مع اللّه تعالى سرا، والوقوف مع اللّه تعالى جهرا. قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ' إنما الصبر عند الصدمة الأولى '. قال الحارث رحمه اللّه: في قوله تعالى: { اصبروا } قال: الصبر: التهدف بسهام البلاء. قال الجريري رحمه اللّه: الصبر إسبال البلوى قبل وقوع البلوى، فإذا صادف البلوى تلقاه بالمولى فلم يجزع. قال الجنيد رحمه اللّه: الصبر حبس النفس مع اللّه تعالى بنفي الجزع عما سواه. قال ابن عطاء رحمه اللّه: اليقين سيف النفس، والصبر من سر اللّه تعالى في أرضه، وإن الشيطان ليتعوذ من الصابرين كما يتعوذ المؤمن من الشيطان. قال: وسمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت جعفرا الخلدي رحمه اللّه يقول: خير الدنيا والآخرة في صبر ساعة. قال ذو النون رحمه اللّه: علامة الصبر خمسة: - التباعد عن الخلطاء في الشدة والسكون إليهم. - مع تجرع غصص البلية. - وإظهار الغنى مع كثرة العيال. - وجفاء الخلق مع هجرانهم له. - وقول الحق مع احتمال الضرر في المال والبدن. وقال بعضهم: اصبروا تحت حكمي، وصابروا في الجهاد مع أعدائي، ورابطوا قلوبكم بموافقتي ورضائي. وقيل: اصبروا قال: الصبر يوجب الرضا والرضا يوجب الحياء والحياء يوجب الغنى. قال جعفر الصادق رحمه اللّه: اصبروا عن المعاصي، وصابروا على الطاعات، ورابطوا الأرواح بالمشاهدة، واتقوا اللّه بحسن الانبساط مع الحق عز وجل، لعلكم تفلحون: تبلغون مواقف أهل الصدق فإنه محل الفلاح. وقال بعضهم: اصبروا بجوارحكم على الطاعات وصابروا مع اللّه، ورابطوا أسراركم بالحقائق لعلكم تجردون من همومكم وخطراتكم. قال الجنيد رحمه اللّه: الصبر حبس النفس على المكروه. |
﴿ ٠ ﴾