سورة التوبة٣قوله عز وجل: { إن اللّه بريء من المشركين ورسوله } الآية: ٣ قال ابن عطاء: كل من أشرك مع اللّه فيما للّه غير اللّه، فهو بريء منه. قوله تعالى: { فإن تبتم فهو خير لكم }. قال أبو عثمان: مفتاح كل خير قال اللّه تعالى: { فإن تبتم فهو خير لكم }. قال الجنيد رحمة اللّه عليه: لا يبلغ التائب منزلة التحقيق في التوبة، ما لم تجتمع فيه خصال أربع: أولها: حل الإصرار من القلب بالندم. والثاني: شدة المجاهدة فيما بقي. والثالث: صحة العزم في ترك العود. والرابع: رد المظالم والخروج عن التبعات. ١٠قوله تعالى: { لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة } الآية: ١٠ قال محمد بن الفضل: حرمة المؤمن أفضل الحرمات وتعظيمه أجل الطاعات، قال اللّه تعالى: { لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة }. ١٣قوله تعالى: { أتخشونهم فاللّه أحق أن تخشوه } الآية: ١٣ قال بعضهم: الخشية للذات والخوف للصفات. قال اللّه: { أتخشونهم فاللّه أحق أن تخشوه }، وقال: { يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب }. قال أبو علي الجوزجاني: الخشية: التمسك بالالتجاء على الدوام. ١٨قوله تعالى: { إنما يعمر مساجد اللّه من آمن باللّه } الآية: ١٨ قال بعضهم: عمارة المسجد بعمارة القلب عند دخوله، بصدق النية وحسن الطوية وطهارة الباطن للّه، كما طهرت ظاهرك بأمر اللّه ودخول المسجد بالخروج عن جميع الأشغال والموانع، فذلك من عمارة المساجد. قال بعضهم: المساجد مواضع السجود منك، فاعمرها بحسن الأدب من غض طرف وإمساك لسان والإعراض عن اللغو، وإمساك اليد عن الشهوات. ٢١قوله تعالى: { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات } الآية: ٢١ قال أبو عثمان: هو الذي تستجلب رضوانه. ورضوانه يوجب مجاورته، ومجاورته يوجب النعيم الدائم قال اللّه { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان }. ٢٥قوله: { لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلن تغن عنكم شيئا } الآية: ٢٥ قال جعفر: استجلاب النصر في شيء واحد، وهو الذلة والافتقار والعجز لقوله: { لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرة } لم تقوموا فيها بأنفسكم، ولم تشهدوا قوتكم وكثرتكم، وعلمتم أن النصر لا يؤخذ بالقوة، وأن اللّه هو الناصر والمعين ومتى علم العبد حقيقة ضعفه نصره اللّه، وحلول الخذلان بشيء واحد وهو العجب، قال اللّه: { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا } فلما عاينوا القوة من أنفسهم دون اللّه؛ رماهم اللّه بالهزيمة وضيق الأرض عليهم. قال اللّه: { ثم وليتم مدبرين } موكلين إلى أحوالكم وقوتكم وكثرتكم. ٢٦قوله تعالى: { ثم أنزل اللّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } الآية: ٣٦ قال بعضهم: السكينة التي أنزلها اللّه على رسوله وعلى المؤمنين. قال بعضهم: السكينة التي أنزلها اللّه على رسوله هي التي أظهرها عليه المسري عند سدرة المنتهى { ما زاغ البصر وما طغى } بل السكينة أقامته في مقام الدنو بحسن الأدب، ناظرا إلى الحق مستمعا منه مثنيا به عليه بقوله ' التحيات للّه ' والسكينة التي أنزلت على المؤمنين هو سكون قلوبهم إلى ما يأتيهم به المصطفى صلى اللّه عليه وسلم من وعد ووعيد وبشارة وحكم. وقيل: السكينة: سكون القلب مع اللّه بلا علاقة. وقيل: السكينة: هي الطمأنينة عند ورود القضاء. قال الجوزجاني: السكينة هي التأدب بآداب الشريعة والتمسك بحبل السنة. وقيل السكينة: المقام مع اللّه بفناء الحظوظ. ٢٨قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس } الآية: ٢٨ قال أبو صالح: المشرك في عمله من يحسن ظاهره لملاقاة الناس ومجاورتهم، ويظهر للخلق أحسن ما عنده، وينظر إلى نفسه بعين الرضا عنها، إنما أظهر عليها من زينة العبادات وينجس باطنه مخالفة ما أظهره وهو الرياء واتباع الشهوات وسائر المخالفات فلذلك المشرك في عبادته النجس باطنه ولا يصلح لبساط القدس إلا المقدس ظاهرا وباطنا سرا وعلانية، لأن اللّه تعالى يقول: { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس } ومن كان نجسا، فإن الأمكنة لا تطهره، وسنن الظاهر عليه لا ينظفه. ٣١قوله تعالى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه } الآية: ٣١ قال بعضهم: سكنوا أمثالهم وطلبوا الحق من غير مظانه، وطرق الحق واضحة لمن كحل بنور التوفيق وبصر سبيل التحقيق، ومن أعمى عن ذلك كان مردودا من طريق الحق إلى طريق الجناس من الخلق. ٣٣قوله تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } الآية: ٣٣ قيل: جعل اللّه الوسائط طريقا للعباد بعثهم أعلاما للّهدى على الطرق، ونورا يهتدي بهم، وعمر بهم سبل الحق وحقيقة الدين، قال اللّه عز وجل: { أرسل رسوله بالهدى ودين الحق }. ٣٤قوله تعالى: { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللّه } الآية: ٣٤ قال بعضهم: من بخل بالقليل من ملكه فقد سد على نفسه باب نجاته، وفتح على نفسه طريق هلاكه. وقيل: ليس من أخلاق الأنبياء والصديقين البخل، لأنه روى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: ' ما جبل ولي اللّه إلا على السخاء '. ٣٦قوله تعالى: { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } الآية: ٣٦ قيل: باتباع الشهوات. قال بعضهم: ظلم نفسه من أطلق عنانها في طرق الأماني من اتباع الشهوات وارتكاب السيئات والتخطي إلى المحارم. ٣٧قوله تعالى: { زين لهم سوء أعمالهم } الآية: ٣٧ قال الواسطي: جبرهم على ما فيه هلاكهم ولم يعذرهم بقوله: { زين لهم سوء أعمالهم) سئل جعفر الصادق عليه السلام عن قوله { زين لهم سوء أعمالهم } قال: هو الرياء. ٣٨قوله تعالى: { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة } الآية: ٣٨ قال يحيى بن معاذ: الناس من مخافة الفضيحة في الدنيا وقعوا في فضيحة الآخرة. قال اللّه عز وجل: { اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } الآية: ٣٨ قال النهرجوري: الدنيا بحر والآخرة ساحل والمركب واحد وهو التقوى والناس سفن. وقال بعضهم: ما تعطاه عارية ينتزع منك أو تنتزع منها، وهو قليل فيما تملكه من نعيم الآخرة على الأبد. قال النهرجوري: الدنيا أولها بكاء وأوسطها عناء وآخرها فناء. ٤٠قوله تعالى: { إلا تنصروه فقد نصره اللّه إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار } الآية: ٤٠ قوله: { فقد نصره اللّه } حيث أغناه عن نصرتكم بقوله: { واللّه يعصمك من الناس }. فمن كان في ميدان العصمة، كان مستغنيا عن نصرة المخلوقين، ألا ترى أنه لما اشتد الأمر كيف قال: ' بك أصول فإنك النصار والمعين }. وقال ابن عطاء في قوله: { ثاني اثنين إذ هما في الغار } قال: في محل القرب في كهف الأنوار في الأزل. قال في قوله: { لا تحزن إن اللّه معنا } قال: ليس من حكم من كان اللّه معه أن يحزن. وقال الشبلي: { ثاني اثنين } بشخصه مع صاحبه، وواحد الواحد بقلبه مع سيده وقيل في قوله: { إذ أخرجه الذين كفروا }: قال: الذين جحدوا نعمة اللّه عليهم به وبمكانه. قال ابن عطاء في قوله: { إن اللّه معنا }. قال: معناه في الأزل، حيث وصل بيننا وصلة الصحبة ولم ينفصل. وقال بعضهم في قوله: { لا تحزن } قال: كان حزن أبي بكر إشفاقا على النبي صلى اللّه عليه وسلم وقيل: شفقة على الإسلام أن يقع فيه وهن. وقال فارس: إنما نهى عن الحزن لأن الحزن علة وإنما هو تعريف أن الحزن لا يحل بمثله، لأنه في محل القربة وقيل في قوله: { إذ هما في الغار } قال: أخرجهما غيرة مما كانوا يرونه من مخالفات الحق، فأخرجتهما الغيرة إلى الغار، فغار عليهم الحق فسترهما عن أعين الخلق لأنهم كانوا في مشاهدته يشهدهم ويشهدونه، ألا تراه صلى اللّه عليه وسلم كيف يقول لأبي بكر رضي اللّه عنه: ' ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما ' مشاهدا لهما وعونا وناصرا. قوله تعالى: { فأنزل اللّه سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها } الآية: ٤٠ قال بعضهم: السكينة نزلت على أبي بكر فثبت، وزال عن قلبه ما كان يجده من الوجل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قال بعضهم: السكينة لأبي بكر ما ظهر له على لسان المصطفى صلى اللّه عليه وسلم من قوله: ' ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما '. قال بعضهم: السكينة: سكون القلب إلى ما يبدو من مجاري الأقدار. قال جعفر: في قوله: { وأيده بجنود لم تروها }. قال: تلك الجنود اليقين والثقة باللّه عز وجل والتوكل. قال بعضهم: السكينة هي التثبت، ولا يتم التثبت إلا بالقطع عما سواه. ٤١قوله تعالى: { انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم } الآية: ٤١ قال ابن عطاء: خفافا بقلوبكم، وثقالا بأبدانكم. قال أبو عثمان في قوله: { انفروا خفافا وثقالا } في وقت النشاط والكراهية، فإن البيعة على هذا وقعت، كما روى عن جرير بن عبد اللّه أنه قال: { بايعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره '. وقال بعضهم: انفروا خفافا إلى الطاعات، وثقالا إلى المخالفات. { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم } الفقر ألا تمنعوهم حقوقهم، وجاهدوا بأنفسكم الشياطين كي لا يستولي عليكم. قال بعضهم: { انفروا خفافا وثقالا } قال: هو نزع القلب عن الأماني الباطلة، وإخراج العادات القبيحة عن النفس. ٤٣قوله تعالى: { عفا اللّه عنك لم أذنت لهم } الآية: ٤٣ قيل: إن اللّه عز وجل إذا عاتب أنبياءه وأولياءه عاتبهم ببر قبلها أو بعدها، ألا تراه يقول: { عفا اللّه عنك لم أذنت لهم }. وقال الحسين بن منصور: الأنبياء مبسطون على مقاديرهم واختلاف مقاماتهم، وكل ربط مع حظه باستعماله الأدب بين يدي الحق، وكل أثيب على ترك الاستعمال فمنهم النبي صلى اللّه عليه وسلم فإنه أنس قبل التأنيب، ومنهم من أنس بعد التأنيب على اختلاف إذ لو أنس بعد التأنيب لتفطر لقربه من الحق وذلك أن اللّه عز وجل أمره بقوله: { فأذن لمن شئت منهم } ثم قال مؤنبا له على ذلك: { عفا اللّه عنك لم أذنت لهم } فلو قال لم أذنت لهم عفا اللّه عنك لذاب وهذا غاية القرب، وقال تعالى حاكيا عن نوح أنه قال: { رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق }. مؤنبا له وأنسه بعد التأنيب { إنه ليس من أهلك } إلى قوله { أن تكون من الجاهلين }. ولو ولم يؤنسه بعد التأنيب لتفطر، وهذا مقام نوح وليس المفضول بمقصر إذ كل منهم له رتبة من الحق. قال ابن عطاء: عوتب كل نبي بذنبه، ثم غفر له وغفر لمحمد صلى اللّه عليه وسلم قبل موافقة الذنب فقال: { عفا اللّه عنك لم أذنت لهم } إحلالا له. ٤٤الآية: ٤٤ قال الواسطي رحمة اللّه عليه كيف يستأذن من هو مأذون له الإذن التام، إن قام قام بإذن وإن قعد قعد بإذن، فجريان الحركات منه تظهر سوابق المأذون له فيه. ٤٦قوله تعالى: { ولكن كره اللّه انبعاثهم } الآية: ٤٦ قال جعفر: طالب عباده بالحق ولم يجعلهم لذلك أهلا، ثم لم يعذرهم، ولامهم على ذلك، ألا تراه يقول: وقالوا لا تنفروا في الحر. قال ابن الفرحي: إنما هو نعت واحد كالماء الواحد يسقي به ألوان الشجر فتختلف ثمارها، لو سقى الورد بالبول ما وجد منه إلا ريح الورد، ولو سقى الحنظل بماء الورد، لما خرج إلا الحنظل وريحه إنما يلي اللطيفة التي جرى بها الخذلان والتوفيق. قوله تعالى: { لا يستأذنك الذين يؤمنون باللّه واليوم الآخر أن يجاهدوا } قوله تعالى: { ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة } الآية: ٤٦ قال جعفر: لو عرفوا اللّه لاستحيوا منه، ولخرجوا له عن أنفسهم وأزواجهم وأموالهم، بذلا لأمر واحد من أوامره. قال بعضهم في هذه الآية: لو طلبوا التوكل لسلكوا طريق الثقة باللّه فإنها الطريق إليه. ٤٨قوله تعالى: { لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر اللّه } الآية: ٤٨ قال السوسي: حملوك على طلب الدنيا والركون إليها، حتى ظهر الحق سرك من الركون إلى شيء سواه وظهر أمر اللّه، قال: فتح لك من خزائن الأرض وعرضها عليك، فأبيت أن تسكن إليها أو تقبل منها، وهم كارهون ما أنتم عليه من الإعراض عما أقبلوا عليه. ٥١قوله تعالى: { قل لن يصيبنا إلا ما كتب اللّه لنا } الآية: ٥١ قال بعضهم: العارف باللّه من سكن إلى ما يبدو له في الوقت بعد الوقت من تصاريف القضاء ومجاري القدرة، ولا يسخط لوارد من ذلك عليه. قال بعضهم: التفويض هو الاعتماد على اللّه، والعلم بأن ما سبق من قضائه، قيل: لا بد أنه مصيبك فإن الخلق مجبورون ليس لهم اختيار، قال اللّه تعالى: { لن يصيبنا إلا ما كتب اللّه لنا }. ٥٤قوله تعالى: { ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى } الآية: ٥٤ قال محمد بن الفضل: من لم يعرف الأمر، قام إلى الأمر على جد الكسل، من عرف الأمر قام إليه على جد الاستفتاح والاسترواح. سمعت جدي يقول: التهاون بالأمر من قلة المعرفة بالأمر. قال حمدون: القائمون بالأوامر على ثلاث مقامات، واحد يقوم إليه على العادة وقيامه إليه قيام كسل، وآخر يقوم إليه قيام طلب ثواب، وقيامه إليه قيام طمع، وآخر يقوم إليه قيام مشاهدة، فهو القائم باللّه لأمره، لا قائم بالأمر للّه. قوله تعالى: { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) * الآية: ٥٥ قال بعضهم: فلا تعجبك ما يتزينون به من صنوف الأموال والعبيد والخدم ويستكثرون به من الأولاد، إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الحياة الدنيا، يعذبهم لجمعها ويعذبهم لحفظها ويعذبهم بحبها ويعذبهم بالبخل بها والحزن عليها والخصومة فيها، كل هذا عذاب إلى أن يوردهم عذاب النار. قال الواسطي في قوله: { إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون }. أي بنعمتي أن كانوا من أهل طاعتي، وغيرهم كافرون جاحدون، ومن استقطعته النعمة عن المنعم فهو جاحد. ٥٩قوله تعالى: { ولو أنهم رضوا ما آتاهم اللّه ورسوله } الآية: ٥٩ قال إبراهيم بن أدهم: من رضى بالمقادير لم يغتم. سمعت أبا عمرو بن حمدان يقول: سمعت الهيثم بن خلف يقول: سمعت محمد ابن علي بن شقيق يقول: سمعت إبراهيم بن الأشعث يقول: سمعت الفضيل رحمة اللّه عليه يقول: الراضي لا يتمنى فوق منزلته. قال أبو جعفر: الرضا هو سكون السر مع مجاري المقدورات، وقال: الرضا تلقى البلاء بالقبول على حد الطرف والفرح. ٦٠قوله عز وعلا: { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } الآية: ٦٠ قال سهل بن عبد اللّه وقد سئل عن الفقر والمسكنة فقال: الفقر عز والمسكنة ذل. قال بعضهم: الفقراء ثلاثة: فقير لا يسأل ولا يتعرض وإن أعطي لم يقبل فذاك كالروحانيين. وفقير لا يسأل ولا يتعرض وإن أعطي قبل مقدار حاجته فذاك لا حساب عليه. وفقير يسأل مقدار قوته فإن استغنى كف فذاك في حظيرة القدس. قال إبراهيم الخواص: نعت الفقير السكون عند العدم، والإيثار والبذل عند الوجود، والمسكين من يرى عليه أثر العدم. قال بعضهم: صدق الفقير أخذه بالصدقة ممن يعطيه لا ممن يصل إليه على يده والحق هو المعطي على الحقيقة، لأنه جعلها لهم فمن قبله من الحق، فهو الصادق في فقره بعلو همته، ومن قبله من الوسائط فهو من الترسم مع دناءة همته. ٦٧قوله تعالى: { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } الآية: ٦٧ قال أبو بكر الوراق: المنافق ستر المنافق يستر عليه عوراته، والمؤمن مرآة المؤمن يبصر به عيوبه وبذله على سبيل نجاته. قوله تعالى ذكره: { ويقبضون أيديهم نسوا اللّه فنسيهم }. قال بعضهم: يقبضون أيديهم عن رفعها إلى مولاها في الدعوات والحوائج كما روى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه رأى في الموقف ويده على صدره، كاستطعام المسكين وهو ينشد. (ها إن صددت يدي إليك فردها * بالوصل لا بشماتة الحساد * وقيل: يقبضون أيديهم عن الصدقة. وقيل: يقبضون أيديهم عن معونة المسلمين. قوله تعالى: { نسوا اللّه فنسيهم } قال سهل: نسوا نعم اللّه عندهم فأنساهم اللّه شكر النعم. ٧١قوله عز وجل: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } الآية: ٧١ قال أبو عثمان: المؤمنون أيضا يتعاونون على العبادة، ويتبادرون إليها، كل واحد منهم يشد ظهر صاحبه ويعينه على سبيل نجاته، ألا ترى النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول: ' المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا '. وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ' المؤمنون كالجسد الواحد '. وقال اللّه تعالى: { والمؤمنون والمؤمنات } قال أبو بكر الوراق: المؤمن يوالي المؤمن طبعا وسجية. ٧٣قوله تعالى: { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } الآية: ٧٣ قال محمد بن علي: جاهد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان. قال سهل: النفس كافرة فجاهدها بسيف المخالفة، وحملها حمولات الندم وسيرها في مفاوز الخوف، لعلك تردها إلى طريق التوبة والإنابة، ولا تصح التوبة إلا لمتجبر في أمره مبهوت في شأنه، واله القلب مما جرى عليه، قال اللّه جل وعز: { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت } التوبة: ٢٥ ٧٥قوله تعالى: { ومنهم من عاهد اللّه لئن آتانا من فضله لنصدقن } الآية: ٧٥ قال: سمعت النصرآباذي يقول في هذه الآية: الفضل رؤية الإحسان راء من أنفسهم إحسانا لم يعلموه بعد، وصدقة لم يتصدقوا بها وصححوا لأنفسهم أفعالا بقوله: لنصدقن، فنقضوا العهد لما أظفرهم بما سألوه، فتولدهم من ذلك البخل الذي قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ' أي داء أدوى من البخل ' والتواني عن سبيل الرشد، والإعراض عن مناهج الحق. وقال: البخل يتولد منه أنواع الأدواء فبخل تستعمله في نفسك مع نفسك وبخل تستعمله مع بني جنسك. وبخل تستعمله في التحية، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: البخيل من ذكرت عنده ولم يصل علي ' صلى اللّه عليه وسلم. وقال: ' أبخل الناس من بخل بالسلام '. ٧٦قوله تعالى: { فلما آتاهم من فضله بخلوا به } الآية: ٧٦ سئل أبو حفص: ما البخل؟ قال: نزل الإيثار عند الحاجة إليه. قال حمدون القصار: من رأى لنفسه ملكا، فقد بخل لأنه قصر عنه الأيدي الأخرى. ٧٧قوله تعالى: { فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه } الآية: ٧٧ وهو ميراث البخل وهو الكذب والخلف والخيانة، لذلك قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ' علامة المنافق ثلاثة: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان '. وظهرت هذه الثلاثة في تقلبه. ٧٨قوله تعالى: { ألم يعلموا أن اللّه يعلم سرهم ونجواهم } الآية: ٧٨ قال: السر ما لا يطلع عليه إلا عالم الأسرار والنجوى ما يطلع عليه الحفظة. ٨٨قوله تعالى: { لكن الرسول والذين ءامنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم } الآية: ٨٨ قال بعضهم: اجتهد الرسول صلى اللّه عليه وسلم في أداء الرسالة، أبلغ الغاية وجاهد المسلمون بأنفسهم في قبول ما جاء به من الشرع، ما كان منه حظ النفس بالنفس وما كان منه حظ المال بالمال. ٩١قوله تعالى: { ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج } الآية: ٩١ قال بعضهم: من لم نمكن من القدرة فقد رفع عنه الحرج. وقال بعضهم: أفضل العصمة أن لا تقدر. قال أبو طاهر: لو لم يكن في الفقر والقلة إلا إسقاط الحرج عن صاحبه، لكان ذلك عظيما قال اللّه تعالى: { ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج } وقيل: ليس على من سلب القيام بالخدمة بظاهر الجوارح من جرح في تقصير يقع له في نافله، إذا أصبحت له الفرائض وسكن قلبه وصلحت سريرته. قوله تعالى: { ما على المحسنين من سبيل }. قال القاسم: المحسن من يرى الإحسان كله من اللّه، فلا يكون لأحد عليه سبيل. وقال ابن عطاء: المحسن يحسن محاورة نعم اللّه. وقال في موضع آخر: المحسن من يرى إحسان اللّه إليه، ولا يرى من نفسه مستجيبا بحال. قال جعفر: المحسن الذي يحسن آداب خدمة سيده. وقال حمدون القصار: المحسن المطالب نفسه بعد حقوق اللّه بحقوق المسلمين عليه، والتارك حقه لهم، بل من لا يرى لنفسه على أحد حقا. ٩٢قوله تعالى: { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم } الآية: ٩٢ قال النصرآباذي: تحملهم على الإقبال علينا والثقة بنا والرجوع إلينا. وقال أيضا: تحملهم أي: تحمل عنهم أثقال المخالفات. ٩٣قوله تعالى: { إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء } الآية: ٩٣ قال النصرآباذي: ألزم اللّه الذم الأغنياء، لأنهم اعتمدوا على أملاكهم وأموالهم واستغنوا بها، ولو اعتمدوا على اللّه واستغنوا به؛ لما ألزموا الخدمة. وقيل في قوله: { أغنياء } أي مظهرين الاستغناء عن الخروج مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم والقتال معه. ٩٨قوله تعالى: { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما } الآية: ٩٨ قيل: من يرى الملك لنفسه كان ما ينفقه غرامة عنده، ومن يرى الأشياء عارية للّه في يده، يرى أن ما ينفقه غنما لا غرما. ٩٩قوله تعالى: { ويتخذ ما ينفق قربات عند اللّه } الآية: ٩٩ قال بعضهم: من طلب القربة إلى اللّه، هان عليه ما بذله في جنب ذلك، وكيف ينال القربة إلى اللّه من لا يزال يتقرب إلى ما يبعده من اللّه وهو الدنيا. ١٠٠قوله تعالى: { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار } الآية: ١٠٠ قال ابن عطاء: السابق من سبق له في الأزل من الحق حسن عناية، فتظهر عليه في وقت إيجاده أنوار تلك السابقة فإنه ما وصل إليه أحد إلا بعد أن سبق له منه في الأزل لطف وعناية. سمعت عبد اللّه الرازي يقول: سمعت أبا عثمان يقول: هم الذين سبقوا إلى اللّه بقلوبهم وحسن قصدهم إليه بطاعتهم له، فأفردوا هممهم بذكر اللّه. واللّه وفقهم لذلك حتى صارت قلوبهم فارغة من ذكر كل شيء إلا من ذكره. وقال أيضا: السابقون إلى اللّه بصدق القصد إليه. قال الواسطي رحمة اللّه عليه: السباق السباق قولا وفعلا حذر النفس حسرة المسبوق. قوله تعالى: { رضي اللّه عنهم ورضوا عنه }. قال جعفر رضي اللّه عنه: ما كان سبق لهم من اللّه من عناية وتوفيق، ورضوا عنه بما من عليهم بمتابعتهم لرسوله صلى اللّه عليه وسلم وقبول ما جاء به، وإنفاقهم الأموال وبذل المهج. وقال الجنيد رحمة اللّه عليه: الرضا سرور القلب بمر القضاء، وقال: الرضا باب اللّه الأعظم. وقال ابن يزدانيار: رضاء الخلق عن اللّه بما يتجدد لديهم من ظهور قدرته، ورضاه عنهم أن يوفقهم للرضا عنه. وقال النصرآباذي: ما رضوا عنه حتى رضى عنهم، فبفضل رضاه عنهم رضوا عنه. ١٠٢قوله تعالى: { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } الآية: ١٠٢ قال بعضهم: صفة النادمين والمعرضين عن الذنوب والناوين للتوبة، وهو الاعتراف بما سبق منهم، وكثرة الندم على ذلك والاستغفار منه ونسيان الطاعات وذكر المعاصي على الدوام والابتهال إلى اللّه بصحة الافتقار، لعل اللّه يفتح له باب التوبة ويجعله من أهلها. قال اللّه تعالى: { وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا }. ١٠٣قوله تعالى: { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } الآية: ١٠٣ قال بعضهم: خذ منهم الصدقة فإن أخذك يطهرهم لإعطاء الزكاة، وتطهرهم عن دنس الأكوان، وصلواتك تسكنهم إلى الآخرة وتقطعهم عن الدنيا. قال رويم: تطهر سرائرهم وتزكي نفوسهم. وقيل في قوله عز وجل: { وصل عليهم }: أي: ادع لهم فإن دعاءك لهم سكون إلى الآخرة وانقطاع عن الدنيا. ١٠٤قوله تعالى: { ألم يعلموا أن اللّه هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات } الآية: ١٠٤ قال النصرآباذي: فرق بين الأخذ والقبول، لأنه قد يقبل ولا يأخذ، ولا يأخذ إلا عن قبول فالأخذ أثم وأدم. وقال أيضا: أخذ الصدقة أحل من قبول التوبة، لذلك يقع فيه التربية. قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: إن اللّه يأخذها فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله. قوله تعالى: { وقل اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون } الآية: ١٠٥ قال أبو حفص وأبو عثمان: اعمل وأصلح العمل وأخلص النية فإن اللّه عز وجل يرى سرك وضميرك، والرسول يراه رؤية مشاهدة، والمؤمنون يرونه رؤية فراسة وتوسم. قال اللّه تعالى: { إن في ذلك لآيات للمتوسمين }. ١٠٨قوله تعالى: { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه } الآية: ١٠٨ قال أبو بكر الوراق: من صحح إرادته بدا ولم يعارضه شك أو ريبة، فإن أحواله تجري على الاستقامة، فتصحيح الإرادة هو الخلع عن مراده أجمع، والرجوع إلى مراد اللّه فيه، قال اللّه عز وجل: { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه }. وقال عبد اللّه بن مبارك: المقام في عرضات الشر وأماكنه من أوائل الخذلان، وقد أمر اللّه بالفرار منها. قال اللّه تعالى: { ألم تكن أرض اللّه واسعة فتهاجروا فيها }. قال أبو عثمان: أرض الفتنة لا ينبت فيها إلا الفتنة، وأرض الرحمة يصيب الإنسان رحمتها ولو بعد حين. قوله تعالى: { فيه رجال يحبون أن يتطهروا واللّه يحب المطهرين }. قال سهل: الطهارة على ثلاثة أوجه: طهارة العلم من الجهل وطهارة الذكر من النسيان وطهارة الطاعة من المعصية. قال بعضهم: { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } أي يطهروا أسرارهم من دنس الأكوان. قال سهل: هذه الطهارة التي ذكر اللّه هي الطاعة للّه عز وجل وإدامة الذكر له سرا وعلنا. قال بعضهم: طهارتهم من الأوهام القبيحة والأماني الفاسدة دون ارتكابها. ١٠٩قوله تعالى: { أفمن أسس بنيانه على تقوى من اللّه ورضوان خير } الآية: ١٠٩ قال أبو تراب النخشي: من كان ابتداء إرادته على الصحة والسلامة من هواجس نفسه بلغ إلى الرضوان الأكبر والمقام الأرفع، قال اللّه: { أفمن أسس بنيانه على تقوى م اللّه ورضوان }. قال الواسطي رحمة اللّه عليه: على تقوى من اللّه لا من نفسه يكون اللّه أصل ذلك التقوى. ١١١قوله تعالى: { إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } الآية: ١١١ سمعت منصور بن عبد اللّه يقول: سمعت أبا القاسم البزار يقول: سمعت ابن عطاء يقول: في قوله: { إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } قال: نفسك موضع كل شهوة وبلية ومالك محل كل إثم ومعصية، فأراد أن يزيل ملكك عما يضرك، ويعوضك عليه ما ينفعك عاجلا وآجلا. قال سهل: لا نفس للمؤمن إنها دخلت في البيع من اللّه، فمن لم يبع من اللّه حياته الفانية كيف يعيش مع اللّه ويحيا حياة طيبة قال اللّه عز وجل: { إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم }. قال جعفر في قوله: { إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم } قال: مكر بهم على لسان الحقيقة وعلى لسان المعاملة اشترى منهم الأجساد لمواضع وقوع المحبة من قلوبهم وأحياهم بالوصلة. وقال بعضهم: من سمع الخطاب فانتبه له، كان كأبي بكر رضي اللّه عنه لما قيل له: ماذا أبقيت لنفسك؟ قال: اللّه ورسوله ' أي أبقيت لنفسي من لا يفنى ولا يزال باقيا. فأبقى ببقائهما دون الأعراض التي هي عواري. وقال بعضهم: اشترى منك ما هو محل الآفات والبليات وهو النفس والمال، وجعل ثمنهما الجنة، فإن آنس قلبك كان الثواب عليه المشاهدة والقربة. قال الحسين: نفوس المؤمنين نفوس أبية استرقها الحق فلا يملكها سواه. قال النصرآباذي: سئل الجنيد رحمة اللّه عليه: متى أشتري؟ قال: حين لأمني أزال عنهم العلل يزول ملكهم عن أنفسهم وأموالهم ليصلحوا المجاورة للحق ومخاطبته. قال ابن عطاء: مكر بهم وهم لا يشعرون، لكن الكلام فيه من جهة المعاملة مليح اشترى منهم الأجساد لمواضع وقوع المحبة من قلوبهم، فاجتباهم بالوصلة. قال النصرآباذي: اشترى منك ما هو صفتك، والقلب تحت صفته فلم تقع عليه المبايعة. قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ' قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن } قال: مباينه منك في الابتداء أوجبت المشاراة، ومن لم يباين الحق لم يقع عليه اسم الشراء ألا ترى أن اللّه الكريم خاطب الكليم بقوله: { واصطفيتك لنفسي } فلا شراء ولا بيع ولا مباينة بحال. قال أبو عثمان: اشترى من المؤمنين أنفسهم، كي لا يخاصموا عنها، فإنها ليست لهم، والإنسان لا يخاصم عما ليس له. قال أبو بكر الوراق: اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ولا شيء يتقرب به العبد إلى اللّه في أداء الأوامر والفرائض، إلا النفس والمال فاشترى منهم النفس والمال لئلا ينظروا إلى ما يبدو منهم من أنواع القرب، لأنهم باعوا قبل فلا يعجبوا بشيء من أفعالهم، ولا يفتخروا بشيء من طاعاتهم، لأن مواضعها النفس والمال، وليس لهم عليها ملك، ومن لا يملك الأصل كيف يفتخر بالفرع. قوله تعالى: { ومن أوفى بعهده من اللّه }. قال الحسين: عهد الحق في الأزل إلى خواصه باختصاص خاصيته، خصهم بها من بين تكوينه فأظهر آثار أنوار ذلك عليهم عند استخراج الذر، فرأى آدم الأنوار تتلألأ فقال: من هؤلاء؟ ثم أظهر سمات ذلك حين أوجدهم، وهي آثار ذلك العهد الذي عهد إليهم، فوفى لهم بعهودهم { ومن أوفى بعهده من اللّه } قال: { فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به }. قال النصرآباذي: البشرى في هذا البيع أنه يوفي بما وعد، بأن لهم الجنة ويزيد لمن يشاء، فضلا منه وكرما بالرؤية والمشاهدة ولو لم يكن فيه إلا مساواة المساومة لكان عظيما، فكيف المبايعة والمشاراة. ١١٢قوله تعالى: { التائبون العابدون الحامدون السائحون } الآية: ١١٢ قال سهل: ليس في الدنيا شيء من الحقوق أوجب على الخلق من التوبة، ولا عقوبة أشد عليهم من فقد علم التوبة. قال ابن عطاء: لا تصح العبادة إلا بالتوبة له إلا بالمداومة والسياحة والرياضة ولا هذه المقامات وهذه المقدمات إلا بمداومة الركوع والسجود، ولا يصح هذا كله إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يصح شيء مما تقدم إلا بحفظ الحدود ظاهرا وباطنا، والمؤمن من تكون هذه صفته، لأن اللّه يقول: { وبشر المؤمنين } الذين هم بهذه الصفة. وقيل في قوله: { التائبون } الراجعون إلى اللّه بالكلية عن جميع ما لهم من صفاتهم وأحوالهم. { العابدون } القائمون معه على حقيقة شرائط الخدمة. { الحامدون } العارفون نعم اللّه عليهم في كل خطوة وطرفة عين. { السائحون } الذين حبسوا أنفسهم عن مرادها طلبا لرضاه. { الراكعون } الخاضعون له على الدوام الساجدون الطالبون قربه. { الآمرون بالمعروف } الآمرون بسنة النبي صلى اللّه عليه وسلم. { والناهون عن المنكر } عن ارتكاب مخالفات السنن. { والحافظون لحدود اللّه } المراعون أوامر اللّه عليهم في جوارحهم وقلوبهم وأسرارهم وأرواحهم { وبشر المؤمنين } القائمون بحفظ هذه الحرمات. قال أبو يزيد رحمة اللّه عليه: السياحة راحة من ساح راح. قال أبو سعيد الخراز في قوله: { الحافظون لحدود اللّه } قال: هم الذين أصغوا إلى اللّه بآذان أفهامهم الواعية وقلوبهم الطاهرة، ولم يتخلفوا عن بداية بحال. قال بعضهم: الناس أربعة: تائب وعابد ومحب وعارف، فالتائب يعمل للنجاة، والعابد يعمل للدرجات، والمحب يعمل للقربات، والعارف يعمل لرضا ربه من غير حظ لنفسه فيه. قال بعضهم: التائب: الراجع إليه من كل ما سواه، والعابد المداوم على الخدمة مع رؤية التقصير، والحامد الذي يحمد على الضراء حمده على السراء. والسائح هو الذي يسيح في طلب الأولياء والأوتاد. والراكع الساجد هو الخاضع للّه عز وجل في جميع الأحوال. { الآمرون بالمعروف } هم المتحابون في اللّه { والناهون عن المنكر } هم المتباغضون في اللّه { والحافظون لحدود اللّه } القائمون معه على آداب السنن والشريعة. ١١٥قوله تعالى: { وما كان اللّه ليضل قوما بعد إذ هداهم } الآية: ١١٥ قال بعضهم: من جرى له في الأزل من السعادة والعناية نصيب، فإن الجنايات لا تؤثر عليه، قال اللّه: { وما كان اللّه ليضل قوما } في الأبد { بعد إذ هداهم } في الأزل. وقيل: لا يضلهم عنه بعد إذ هداهم إليه. ١١٦قوله تعالى: { إن اللّه له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت } الآية: ١١٦ قال ابن عطاء: له ملك السماوات والأرض فمن طلب الملك من غير مالك الملك فقد أخطأ الطريق. قال النصرآباذي: من اشتغل بالملك فإنه الملك، ومن طلب مالك الملك أتاه الملك راغما. قال جعفر: الأكوان كلها له فلا تشغلنك ما له عنه. ١١٧قوله تعالى: { لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار } الآية: ١١٧ قال بعضهم: توبة النبي هي مقدمة توبة الأمة، ليصح بالمقدمة التوابع من توبة التائبين. قال بعضهم: توبة الأنبياء لمشاهدة الحق في وقت الإبلاغ، لا يغيبون عن الحضرة، بل لا يحضرون مواضع الغيبة، لأنهم في عين الجمع أبدا. قوله تعالى: { ثم تاب عليهم ليتوبوا }. قال ابن عطاء: قطعهم بميتة عن أوصافهم. قال الواسطي رحمة اللّه عليه: التوبة المقبولة مقبولة قبل الخطيئة وقبل قصد التوبة، قال اللّه { ثم تاب عليهم ليتوبوا }. قال النصرآباذي: متى تاب عليهم حين لا متى قبل التوبة عنهم بإياه لإياه، حين لم يكن آدم، ولا كون أزال عنهم بذلك كل علة أبدا. شعر: (إذا مرضتم أتيناكم نعودكم * وتذنبون فنأتيكم فنعتذر * سئل أبو حفص عن التوبة فقال ليس للعبد من التوبة شيء، لأن التوبة إليه لا منه. ١١٨قوله تعالى: { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت } الآية: ١١٨ قال أبو عثمان: من رجع إلى اللّه وإلى سبيله، فلتكن صفة هذه الآية تضيق عليه الأرض، حتى لا يجد لقدمه فيها موضع قرار إلا وهو خائف، إن اللّه ينتقم منه فيه وتضيق عليه أحوال نفسه فينتظر الهلاك مع كل نفس هذه أوائل دلائل التوبة النصوح، ولا يكون له ملجأ ولا معاد ولا رجوع إلا إلى ربه، بانقطاع قلبه عن كل سبب قال اللّه تعالى: { وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت }. قوله تعالى: { وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه }. قال بعضهم: لم يعتمدوا حبيبا ولا خليلا بل قلوبهم منقطعة عن الخلق أجمع وعن الأكوان كلها، لذلك قيل: المعارف أن لا تلاحظ حبيبا ولا خليلا ولا كليما وأنت تجد إلى ملاحظة الحق سبيلا. قال الجنيد رحمة اللّه عليه: ما نجا من نجا إلا بصدق اللجأ. قوله تعالى: { ثم تاب عليهم ليتوبوا }. قال أحمد بن خضرويه لأبي يزيد رحمة اللّه عليه: بماذا أصل التوبة النصوح قال: باللّه وبتوفيقه، ثم تاب عليهم ليتوبوا. قال بعضهم: عطف عليهم ببوادي عطفه ونعمه وفضله فألفوا إحسانه ورجعوا إليه فكان هو الذي أخذهم إلى نفسه، لا هم بأنفسهم رجعوا إليه. قال ابن عطاء: تعطف الرب على خلقه ولم يتعطف العبد إلى اللّه الطاعة. ١١٩قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين } الآية: ١١٩ قال بعضهم: { مع الصادقين } مع المقيمين على منهاج الحق. قال بعضهم: مع من ترضى حاله سرا وعلنا وظاهرا وباطنا. قال بعضهم: { كونوا مع الصادقين } قال: هم الذين لم يخالفوا الميثاق الأول، فإنها صدق كلمة. وقال أبو سليمان: الصحبة على الصدق والصفاء تنفي كل علة عن المصطحبين، إذا قاما وثبتا على منهاج الصدق لأن اللّه يقول: { اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين }. ١٢٢قوله تعالى: { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } الآية: ١٢٢ قال سهل: أفضل الرحل رحلة من الهوى إلى العقل، ومن الجهل إلى العلم، ومن الدنيا إلى الآخرة، ومن الاستطاعة إلى التبري، ومن الحول والقوة والنفس إلى التقوى ومن الأرض إلى السماء، ومن الخلق إلى اللّه عز وجل. وقال المرتعش: السياحة والأسفار على ضربين: سياحة لتعليم أحكام الدين وأساس الشريعة وسياحة لآداب العبودية ورياضة الأنفس، فمن رجع عن سياحة الأحكام قام بلسانه يدعو الخلق إلى ربه، ومن رجع من سياحه الأدب والرياضة، قام في الخلق يؤدبهم بأخلاقه وشمائله وسياحة هي سياحة الحق وهي رؤية أهل الحق والتأدب بآدابهم، فهذا بركاته تعم العباد والبلاد، قال عز وجل: { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } الآية. ١٢٣قوله تعالى: { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة } الآية: ١٢٣ قال سهل: النفس كافرة فقاتلها بالمخالفة لهواها، واحملها على طاعة اللّه والمجاهدة في سبيله وأكل الحلال وقول الصدق وما قد أمرت به من مخالفة الطبيعة. ١٢٤قوله تعالى: { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا } الآية: ١٢٤ قال ابن عطاء: الذين صدقوا حكم الربوبية وتمسكوا بعهد العبودية، زادتهم معرفة في قلوبهم ونظرا أسقط عنهم النظر إلى ما سواه. قال أبو بكر الوراق: زيادة الإيمان يصيرونه بمعاتبة القلب. ١٢٦قوله تعالى: { أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين } الآية: ١٢٦ سمعت أبا عثمان المغربي يقول: ليس الرجوع في أيام الفتنة إلا إلى اللجأ والاستغاثة وطلب الأمان وقصد التوبة فمن رجع إلى غير هذه الأسباب لم يسلم من فتنة نفسه، وإن سلم من فتنة العوام، قال اللّه تعالى: { ثم لا يتوبون } الآية: أي: لا يرجعون إلى اللّه بقلوبهم والراجع إلى اللّه سالم من الفتن والآفات، { ولا هم يذكرون } أي: لا يشكرون نعمتي السالفة عندهم. ويعلمون رفقي بهم بالفتنة إذ لم أجعلهم من المفتونين في الفتنة. ١٢٨قوله تعالى: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم } الآية: ١٢٨ أخبرنا علي بن الحسن البلخي قال: حدثنا عبد اللّه بن عجلان الزنجاني قال: حدثنا أبو عثمان أحمد بن غالب قال: حدثنا أبو عاصم عن بهز بن حكيم عن الحسن عن أنس قال: قال رسول اللّه: ' لقد جاءكم رسول من أنفسكم قال: علي بن أبي طالب عليه السلام: ما معنى من أنفسكم قال: من أنفسكم نفسا ونسبا وحسبا وصهرا، ليس في آبائك من لدن آدم سفاح كلنا نكاح '. قال الخراز: أثبت لنفسك خطرا حين قال عن رسول للّه صلى اللّه عليه وسلم: من أنفسكم. قال الحسين: من أجلاكم نفسا وأعلاكم همة، جاء بالكونين عوضا عن الحق، وما طغى قلبه عن موافقته. قال ابن عطاء: نفسه موافقة لا نفس الخلق، خلقه ومباينة لها حقيقة فإنها نفس مقدسة بأنوار النبوة، مؤيدة بمشاهدة الحقائق ثابتة في المحل الأدنى والمقام الأعلى { ما زاغ البصر وما طغى }. قوله تعالى: { عزيز عليه ما عنتم }. قال بعضهم قوله عزيز عليه قال: يشق عليه ركوبكم مراكب الخلاف. قوله تعالى: { حريص عليكم بالمؤمنين } الآية. قال ابن عباس: حريص على هدايتكم، لو كانت الهداية إليه مشفق على من اتبعه أن تأتيه نزغة من نزغات الشيطان الرجيم عليه، يستجلب برحمته له رحمة اللّه إياه. وقال: حريص عليكم أن تبلغوا محل أهل المعرفة. قال جعفر الصادق عليه السلام: علم اللّه عجز خلقه عن طاعته فعرفهم ذلك، لكي يعلموا أنهم لا ينالون الصفو من خدمته وأقام بينه وبينهم مخلوقا من جنسهم في الصورة، فقال: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه } الآية. وألبسه من نعته الرأفة والرحمة وأخرجه إلى الخلق سفيرا صادقا، وجعل طاعته طاعته وموافقته موافقته فقال: { من يطع الرسول فقد أطاع اللّه }. ذكر ما قيل في سورة يونس |
﴿ ٠ ﴾